فلنعد إذن مرة أخرى إلى سؤالنا القديم: ما حقيقة القرب؟
أردنا أن نجيب معا على هذا السؤال، واتفقنا على أن نتناول شيئا نجده قريبا منا، وقبل أن نمد أيدينا إلى هذا الشيء نفسه آثرنا الروية والصبر ورحنا نسأل عن حقيقة الشيء، وكان لزاما علينا - قبل أن نتعجل السير في طريق مجهول - أن نناقش معا مختلف التفسيرات التي حاول الفكر في تاريخه الطويل أن يجيب بها على هذا السؤال، وقد تبين لنا أنها جميعا لم تقربنا من حقيقة الشيء، فلنتناول الآن شيئا قريبا منا، وليكن هذه الجرة .
نحن نقول: إن الجرة شيء، فما الجرة؟ نقول: إنها وعاء، ذلك الذي «يعي » شيئا غيره ويحويه، المحتوى فيها هو الأرضية والجدار، والجرة بما هي وعاء شيء مكتف بذاته، هذا الاكتفاء الذاتي يجعل لها كيانا مستقلا يميزها عن كل شيء أو موضوع سواها، والشيء المستقل بذاته يصبح موضوعا عندما «نضعه» أمامنا، سواء كان ذلك في الإدراك المباشر، أو في ذلك الحضور الذهني الذي يتم عن طريق الذاكرة والتصور، ومع هذا فإن شيئية الشيء لا تكون في تصورنا له كموضوع، ولا «موضوعيته» تحدد لنا كنهه وماهيته.
الجرة تظل وعاء سواء تمثلناها بالتصور الذهني أو لم نتمثلها، والجرة بما هي وعاء، ذات قوام مستقل بذاته، فما معنى قولنا: إنها قائمة بذاتها؟ هل يفسر لنا ذلك ماهية الجرة كشيء من الأشياء؟ الجرة لم تكن وعاء حتى وضعت في صورة الوعاء، وما تم لها ذلك حتى «صنعت» على يد صانع، الخزاف جبل الجرة من طينة أعدها وانتقاها، والطينة من الأرض، ومنها تخلقت الجرة جرة. من هذه الطينة يمكن لها أن ترتكز مباشرة على الأرض، وبطريق غير مباشر على رف أو مائدة، بالصنعة ومن يد الصانع تم لنا ما سميناه بقوام الجرة، إن تناولنا الجرة بما هي وعاء مصنوع جعلها تبدو لنا وكأنها شيء من الأشياء، لا مجرد موضوع أيا كان، أو هل نعود فننظر إلى جرة على أنها «موضوع»؟ لنحاول ذلك، وسيتبين لنا أنها لم تعد مجرد موضوع يتمثله التصور الذهني فحسب، بل هي موضوع سوته يد صانعه «ووضعته» أمامنا. بهذا المعنى الجديد يبدو لنا قوام الجرة ذاتها وكأنه هو الذي جعل منها شيئا. والحقيقة أننا نرى هذا القوام من جهة الصنع، من حيث إن صانعا قصد إليه وفكر فيه، وهنا يتكشف لنا أننا قد رجعنا إلى ما أردنا أن ننفيه، أعني أننا سنفكر في الجرة من حيث هي موضوع، وإن كانت موضوعيتها في هذه الحالة آتية من جهة الصنع لا من جهة التصور المجرد، وسيتبين لنا أننا قد أخطأنا الطريق، وأن وقفتنا عند موضوعية الموضوع لم تؤد بنا إلى شيئية الشيء، فلننظر الآن إلى المسألة من ناحية أخرى.
قلنا: إن شيئية الجرة تكمن في كونها وعاء، ونحن نعرف معنى الوعاء مما يعيه، أعني حين نملأ الجرة، حتى لنوشك أن نقول: إن الأرضية والجدران هي التي «تعي» ما نصبه فيها، ولكن لنحترس مرة أخرى من التورط في السرعة! هل إذا ملأنا الجرة خمرا كان معنى ذلك أننا نصبها بين الجدران والأرضية؟ نحن نصب الخمر حقا بين جدارين وعلى أرضية، والذي يحفظ السائل المصبوب هو الأرضية والجدران، وما يحفظ السائل ليس هو بالضرورة ما يعيه.
الخمر حين نفرغها في الجرة تملأ ما فيها من فراغ، الفراغ هو واعية «الوعاء»، الفراغ، هذا العدم في جرتنا هذه، هو الذي يجعلها وعاء، الجرة وحدها تتكون من قاع ومن جدار، ومن هذا الذي تكونت منه يمكنها أن تستقر على رف أو مكتب. ولكن ماذا عسى أن تكون الجرة إذا انكسر قاعها أو جدارها فلم تعد تحوي شيئا؟ إنها ما تزال جرة على كل حال، وإن أصبحت عاجزة عن أداء وظيفتها، فالجرة وحدها هي التي تمسك السائل أو تدعه يفلت منها!
من القاع والجدار تتكون الجرة، وبهما على الأرض تستقر، غير أنهما لا يكونان هذه الصفة الواعية فيها، فإذا سلمنا بما انتهينا إليه من أنها تكمن في الفراغ، كان علينا أن نقول: إن الخزاف لا يسوي من الطين قاعا وجدارا، أو إنه لا يشكل الطين بل يشكل الفراغ، من هذا الفراغ وفيه ومن أجله سوى الطين وأعطاه صورته، تصور الخزاف هذا الفراغ غير الواعي أول ما تصور، ثم شكله في صورة الوعاء، الفراغ في الجرة حدد شكل الإنتاج، ووجه كل ضربة من يد الخزاف، وشيئية الوعاء لا تكمن بحال في المادة التي صنعها منها، ولكن في الفراغ الذي يحتوي السائل المصبوب ويعيه.
ونعود الآن فنسأل: هل كانت الجرة حقا فارغة؟ أم سرح بنا الخيال في تأملات شاعرية حتى نسينا كلمة العلم؟ الفيزياء تؤكد لنا أن الجرة مملوءة بالهواء وما يتركب منه من عناصر كيميائية، ونحن حين نملأ الجرة خمرا إنما نحل نوعا محل نوع آخر، فالسائل المصبوب يزيح الهواء ويحل في مكانه، وهذه الحقيقة الفيزيائية لا شك في صحتها، وهي تطابق التصور العلمي للواقع، ولكن هل هذا الواقع الذي قدمه لنا العلم هو الجرة؟ لا مفر من الإجابة بالنفي؛ فالعلم لا يتعدى ما يسمح به منهجه من موضوعات ممكنة، حقا إن المعرفة العلمية ملزمة، فما وجه الإلزام في حالتنا هذه؟ وجه الإلزام أنه يلغي وجود الجرة كشيء ويتصورها مساحة جوفاء يحل السائل المصبوب فيها محل الهواء، أي إن حالة من حالات المادة تحل محل أخرى، الجرة كشيء لا وجود لها في نظر العلم. إن المعرفة العلمية - كما يقول هيدجر - قد بددت وجود الأشياء من زمن قديم، حتى قبل أن تصل إلى تفجير القنبلة الذرية والهيدروجينية، وما انفجار هذه القنبلة وغيرها من أسلحة الفتك والدمار إلا الحلقة الرهيبة الأخيرة من سلسلة طويلة تم فيها الإجهاز على وحدة الشيء ونفي واقعه ووجوده. ولقد بقيت شيئية الشيء في تاريخ الفكر أمرا منسيا لم يكشف عنه حجاب، وظلت حقيقة مطوية لم تجد التعبير عنها في لغة الإنسان.
لم إذن لم يكشف الشيء عن حقيقته كشيء؟ هل فات الإنسان أن يتصوره كذلك؟ ولكن الإنسان لا يفوته أمر لم يكن موجودا من قبل، إذن ما حقيقة هذا الشيء كشيء، هذه الحقيقة التي لم تستطع أن تكشف عن نفسها للإنسان حتى الآن؟ هل بقيت بعيدة لم تقترب منه ولم تنبهه إلى وجودها؟ وما هو هذا «القرب» وما حقيقته؟
10
अज्ञात पृष्ठ