मदीना फ़ादिला
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
शैलियों
قلنا: إن الراضين عن عيشتهم من الناس عدموا التأثر بالحرية والإخاء والمساواة، وأما الساخطون فإنهم نبذوا العقيدة الديمقراطية ليتبعوا المبشرين بدين جديد، «أيها العمال من جميع الشعوب اتحدوا»، كان هذا نداء كارل ماركس وفردريش أنجلز في منشور الدعوة الشيوعية المشهور.
54
وكان هذا آذنا ببدء المعركة في سبيل دين اجتماعي جديد، والعقيدة الشيوعية أسست هي أيضا على قوانين الطبيعة كما دل عليها العلم، مثلها في هذا مثل دين الإنسانية في القرن الثامن عشر، إلا أن العلم منذ ذلك القرن كان قد تقدم خطوات، كانوا في القرن الثامن عشر يعتبرون الطبيعة آلة دقيقة التركيب، آلة ثابتة يقتضي نظامها وجود مهندس يفعل لغاية، وهو العلة الأولى الخيرة أو موجد الكون، وجاء هيجل
55
فاستحال موجد الكون إلى فكرة رقيقة، إلى المثال المتعالي، المثال المطلق الرقيق، ثم جاء داروين فانمحى هذا تماما، ومنذ ذلك الوقت والنظرية العلمية تستغني عن فكرة وجود الله وما يماثلها من الفكرات التي استعيض بها عنها، ويرجع ذلك إلى أن الطبيعة عند أصحاب العلم لا تعتبر آلة تامة الصنع، بل يعتبرونها عملية لا تتم، عملية آلية حقيقة، ولكنها تولد من تلقاء نفسها القوة التي تلزمها، وعلى أساس من جدل هيجل ونظريات داروين في التطور صاغ هيجل في كتاب «رأس المال» عقيدة الدين الشيوعي الذي حل عند الساخطين محل العقيدة الديمقراطية التي دان لها القرن الثامن عشر، والدين الجديد كالدين القديم ينظر نحو الماضي وينظر نحو المستقبل، فالماضي بالنسبة للشيوعية، كما هو بالنسبة للديمقراطية، كان زمان صراع مستديم، والمستقبل بالنسبة لهما جميعا عهد للإنسانية جديد، ولكن الشيوعية أقل تجسيما من الديمقراطية وأقل تشبيها وأقل توكيدا لأثر الفرد من بني الإنسان في الأحداث العامة، فهي لا تحلم بجنة عدن كانت أو بعصر ذهبي كان، وهي لا تقرأ على صفحات التاريخ غدر الأشرار، تعمد دائما بالفضلاء، وهي لا تؤمن بأن بعث خلق إنساني جديد سيتم بانتشار النور وطيب الطوية؛ وما إليها من أنواع العلاج اللين المترفق، بل على الضد من هذا وذاك كان الماضي حربا عمياء لا هوادة فيها ولا رحمة بين قوى مادية لا بين أشخاص، حربا تحركها المصالح الاقتصادية للطبقات وللطوائف، وقد تولد من حرب المصالح نظام الأرستقراطيين أصحاب الأرض في العصور الوسطى، ثم حطمت حرب المصالح هذا النظام، وأحلت محله النظام الرأسمالي البرجوازي الذي بلغ أشده في القرن التاسع عشر، وسوف تحطمه بدوره لصالح البروليتاريين، ولن يتم هذا الانقلاب الاجتماعي من الرأسمالية للبروليتارية بفعل انتشار الاستنارة وطيب الطوية، بل بفعل القوى الاقتصادية التي لا تني ولا تبطل، أما والأمر كذلك فليس للعقل إلا أن يعي هذا، وأن يجهد ليفهم فعل تلك القوى حق الفهم، وليس للناس إلا أن يوطنوا أنفسهم على ما لا يمكنهم أن يلووه عن قصده، وخير لهم أن يوجهوا حياتهم تبعا لتطور محتوم، وماذا تستطيع أن تنشئ إرادة الإنسان الضئيلة بالنسبة إلى ما تستطيعه النجوم في مسالكها؟ فهذه لا تلك هي التي ستحدث الانقلاب الاجتماعي، وليستبشر العامة بعهد موعود ينظرون إليه موقنين آملين.
والآن، وفي أيامنا، وفي روسيا، أقاموا المشهد الأول من مشاهد الانقلاب الاجتماعي القائم على العقيدة الشيوعية، وبين هذه الثورة الروسية والثورة الفرنسية بلا شك فروق عديدة، كما أن بين العقيدتين الديمقراطية والشيوعية فروقا، ولكن الذي ينبغي أن نلتفت إليه ليس الفروق بل الاتفاق، فالفروق في أغلب الظن تتضاءل إذا ما نظر إليها من بعيد، وأما الاتفاق فهو على الأساسيات، والواقع أننا نحن ورثة الثورة الفرنسية حين نعجز عن ملاحظة ما بين تلك الثورة والثورة الروسية من اتفاق، فإنما يرجع ذلك إلى أن الاختلاف بينهما في تسمية الأشياء يخدعنا (فمثلا حيث استخدمت الثورة الفرنسية «الشعب» تستخدم الثورة الروسية «البروليتارية»، وحيث تقول الأولى: «أرستقراطية» تقول الأخرى: «بورجوازية»، وحيث تتحدث الأولى عن الملوك تتحدث الأخرى عن «النظام الرأسمالي وهكذا.) هذا ومما يجعلنا أكثر استعدادا لأن ننخدع أننا ورثة الثورة الفرنسية سنكون «المجني عليهم» إذا ما قدر للثورة الروسية أن تملك العالم الغربي، وما مثلنا في هذا الشأن إلا مثل رامو في قصة ديدرو حين يقول: فليستول الشيطان على أفضل عالم ممكن إن لم يكن لي حظ فيه، فإذا ما ملنا لمشاركته في رأيه هذا كان ذلك لعلة مفهومة، والثابت - على كل حال - أن هذه الثورة الروسية التي تهددنا تعمل لأجل طبقات المحرومين كما عملت الثورة الفرنسية على تحطيم الطبقات المالكة لنرثها نحن، وليست أهدافها بأقل من تثبيت دعائم الحرية والمساواة (الحرية والمساواة الحقيقيتين هذه المرة بطبيعة الحال)، وإحلالهما محل الطغيان والاستغلال، والثورة الروسية اتخذت متعمدة لبلوغ غايتها نظاما يصفونه بأنه مؤقت، ولكنهم يعدونه ضروريا، ألا وهو ديكتاتورية الأمناء على الثورة، وهذا يماثل تماما ما اتخذته الثورة الفرنسية في 1793، والبلاشفة الذين يقودون مجلس الوكلاء، واليعقوبيون الذين قادوا لجنة إنقاذ الوطن، أولئك وهؤلاء يعتبرون أنفسهم الأدوات التي شاءها القدر لإجراء انقلاب ينتهي حتما إن عاجلا أو آجلا بهدم ما بين الشعوب من فواصل مصطنعة، فيتحد المظلومون قاطبة في وجه جميع ظالميهم، وقد أعلن إيزنار
56
في 1792:
إن جمعت الحكومات الملوك ضد الشعب، فإننا سنجمع الشعوب ضد الملوك.
وعلى هذا النحو كانت دعوة الزعماء البلاشفة - محتذين حذو ماركس - عمال العالم للاتحاد ضد جميع الحكومات البروجوازية الرأسمالية، والثورة الروسية أشبه ما تكون بالثورة الفرنسية في أن زعماءها وقد تلقوا ألواح الشريعة الأزلية لا يعدون الثورة مجرد وسيلة للإصلاح السياسي والاجتماعي، بل يعتبرونها شيئا أهم من هذا كثيرا؛ إذ هي في نظرهم محاولة لتحقيق نسق حياة صالح لكل زمان ومكان، بموجب انسجامه مع العلم والتاريخ، وهو بناء على ذلك لا بد غالب؛ وعلى هذا فللثورة الروسية كما كان للثورة الفرنسية عقيدتها وطقوسها وقديسوها، فأما العقيدة فهي نظريات ماركس بتأويل لينين،
अज्ञात पृष्ठ