मदीना फ़ादिला
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
शैलियों
مقدمة المترجم
كلمة المؤلف
الجو الفكري في مختلف العصور
قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة
التاريخ الجديد: تعليم الفلسفة
فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
مقدمة المترجم
كلمة المؤلف
الجو الفكري في مختلف العصور
قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة
अज्ञात पृष्ठ
التاريخ الجديد: تعليم الفلسفة
فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
تأليف
كارل بيكر
ترجمة
محمد شفيق غربال
مقدمة المترجم
(1) مؤلف الكتاب
अज्ञात पृष्ठ
1
ولد مؤلف هذا الكتاب، كارل لوتس بيكر، في ريف ولاية آيوا من الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1873، لأبوين ينتسبان لأصول مختلفة، ألمانية وهولندية وإرلندية وإنجليزية، وحدث لأجداده ما حدث لأمثالهم في تاريخ الولايات المتحدة، فتطور الغرباء المستوطنون مواطنين أمريكيين، ونشأ كارل بيكر لا يعرف في حداثته إلا أمريكا والأمريكيين، ويحكي عن نفسه كيف نزل قريته - وهو في الخامسة من عمره - مهاجرون من الألمان لا يعرفون إلا لغتهم، وكيف استغرب هيئتهم ولسانهم، ولم يدر إذ ذاك أن جد أبيه كان أيضا غريبا كهؤلاء، لا يعرف من الإنجليزية كلمة واحدة!
وتلقى بيكر دراسته الجامعية في جامعة ويسكنسين، وتتلمذ فيها على الأستاذ فردريك جاكسون ترنر، وكان للأستاذ ترنر أثر كبير في بيكر، وترنر صاحب النظرية المشهورة في تأويل خصائص التاريخ الأمريكي، بما سماه «أثر الحدود»، ويقصد بذلك أن ذلك التاريخ كان تاريخ شعب في تكوين مستمر بموجب الهجرة، وفي حركة مستمرة بموجب الهجرة الداخلية من أرض عامرة قديمة إلى أرض جديدة تستعمر، فكأن الشعب يقيم أبدا على الهامش، على حافة رقعة من الأرض، في اتساع متواصل على «الحدود»، واكتسب الشعب بذلك خصائص المستعمرين والمغامرين، خيرها وشرها.
2
تأثر التلميذ بأستاذه تأثرا عميقا، فتبعه في سعة أفقه، وتبعه في البساطة، وكره المظاهر، ونزاهة القصد، وصراحة القول، والاعتدال. ولا أجد للتعبير عن رأي بيكر في أثر ترنر فيه خيرا من قوله: «إني لا أطلب من المؤرخ أكثر من أن يكون قد عمل في تكوين شخصية المشتغلين بالدراسات الإنسانية.»
3
وأضاف بيكر إلى دراسة التاريخ دراسة القانون الدستوري في جامعة كولومبيا، ويرجع ذلك إلى أنه اتجه في أول ما اتجه للفصول الأولى من الثورة الأمريكية، فاختار لرسالته للدكتوراه موضوع «الأحزاب السياسية في ولاية نيويورك من 1766 إلى 1775»، ونشر في مستوى هذه الرسالة كتابه القيم في «وثيقة إعلان الاستقلال»، درس فيه المبادئ السياسية التي استند إليها الإعلان، هذا إلى مقالات قصيرة متنوعة حول ذلك العهد من التاريخ، من أبدعها مقالته التي سماها «خصائص سنة 1776»
4
وإلى دراسات أخرى لا داعي لذكرها.
والمؤرخ الذي يتجه نحو مبادئ الثورة الأمريكية لا بد له أن يتعمق في فلسفة القرن الثامن عشر، فما الثورة الأمريكية - مع ما كان لها من الظروف الخاصة بها - إلا جزء من حركة القرن الثامن عشر، أو من حركة الاستنارة، فاتجه بيكر للقرن الثامن عشر، وأخلص للقرن الثامن عشر مدى حياته، ولكن لا ينبغي أن يفهم من هذا ما يفهمه الناس عادة من التخصص الضيق على النحو الذي يؤثر في وقتنا الحاضر، لا عن دراسات العلم الطبيعي فحسب، بل عن الدراسات الإنسانية أيضا، فإن بيكر حينما اتجه لعصر الاستنارة، وأحب أن يعين للعصر مكانا في تاريخ الفكر الإنساني، تعمق درس ما سبقه وما لحقه، وآثار هذا التعمق جلية في الكتاب الذي نقدمه للقراء.
अज्ञात पृष्ठ
وقد ألحق بيكر منذ إتمامه الدراسة بوظائف التعليم في الجامعات، وعانى الكثير في أول الأمر، قال تلميذه جرشوي: إن التدريس في مستهل عمله في الجامعة كان شاقا قاسيا عليه، وبلغ منه التهيب أن مجرد التفكير في مواجهة طلابه كان يشقيه،
5
إلا أنه تغلب شيئا فشيئا على ذلك، إلى أن أصبح الاجتماع بتلاميذه بالنسبة له، وبالنسبة لهم من أسعد أوقاتهم.
درس بيكر في عدة جامعات، وكان أول عهده بكرسي الأستاذية، حينما عين أستاذا للتاريخ في جامعة كنساس، ومن كنساس انتقل لكرسي التاريخ في جامعة كورنل في سنة 1917، وبقي فيها أستاذا، ثم أستاذا فخريا حتى وفاته في سنة 1945.
والمتتبع لمذهب بيكر في التاريخ - كما طبقه في اختيار موضوعاته وفي طريقة تأليفها وتصنيفها - يلاحظ عليه تماسك أجزائه وانسجامها وائتلافها، تماسكا وانسجاما وائتلافا يبلغ أقصى الحدود، والمذهب تام النمو، مكتمل التكوين من مبدأ حياته العملية، والمذهب أيضا مذهب صنعه صاحب أدق صناعة، فلم يطرأ إلهاما أو توفيقا أو عفو الخاطر، بل كان مذهبا عقليا، دقيقا من الطراز الأول، والمذهب يقتضي أن يكون المؤرخ عنصرا فعالا في عملية التفكير التاريخي والتأليف، وليس ذلك على اعتبار أن المؤرخ يفكر ويكتب، أو يؤلف فحسب، بل على اعتبار أنه متضمن هو نفسه فيما يفكر فيه أو يؤلف فيه.
والمؤرخ - عند بيكر - حينما يدرس حدثا أو أحداثا أو ما إلى ذلك، يدرس في الواقع حالة من حالات الشعور أو العقل، ترتب وجودها واكتسبت شكلها من عوامل طارئة على حالة عقلية أو شعورية سابقة، فأينما يبدأ المؤلف فإن مادته تتركب من قديم متطور تحت تأثير طارئ عليه، وينبغي ألا يفوتنا أن هذا التطور أو التحول ليس عملا آليا أو تلقائيا، بل إنه يحدث في الغالب استجابة لمقتضيات اجتماعية جديدة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فهناك المؤرخ، حينما يختار الموضوع، وحينما يحاول التفكير والتأليف فيه، لا يستطيع بالمرة أن يعتزل عصره أو - بعبارة أدق - جوه الفكري، لينتقل إلى الجو الفكري لما اختاره؛ ولذا تعين على المؤرخ أن يعرف نفسه قبل أن يعرف غيره، وأن يعرف زمانه قبل أن يعرف زمان غيره، فإن نفسه وزمانه جزآن لا يتجزآن من مادة التفكير والتأليف. وعالم التاريخ - عند بيكر - أشبه ما يكون ببهو من المرايا، الخيال فيها يعكس خيالا آخر، بحيث يصعب الاهتداء إلى الأصل، وجو المؤرخ الفكري - عند بيكر - هو المرآة العاكسة التي لا يرى الماضي إلا بواسطتها.
هذا مذهب بيكر إجمالا، فماذا نقول فيه؟ نقول فيه: إنه يمثل الواقع، وإن كان لا يمثل المثل الأعلى. والفرق بين بيكر وزملائه في أمريكا وفي غير أمريكا، أنه سجل هذا الواقع، وأنه رأى أن التسجيل هو الأجدى والأخلق بالمؤرخ، إن أراد أن يعمل عملا خالصا لغاية، بينما هم رفضوا التنكر للعرف الأكاديمي أو - إن جاز لنا أن نقول - «لسر المهنة».
وعلينا أن نتبع بيكر قليلا فيما ذهب إليه من أثر نفس المؤرخ وزمان المؤرخ في عمل المؤرخ؛ لكي نرى ما كان لنفس بيكر وزمان بيكر في عمل بيكر، وقد جاء في «المدينة الفاضلة» قوله:
إن فلاسفة القرن الثامن عشر حين كتبوا عن أثينا وروما، أو الصين والهند، كانوا لم يغادروا فرنسا أو أوروبا، ولا القرن الثامن عشر إطلاقا. وبيكر كذلك حين كتب عن القرن الثامن عشر، لم يغادر القرن العشرين أو أميركا القرن العشرين، فالقرن العشرون وبصفة خاصة الفترة بين الحربين العالميتين، كان المرآة العاكسة التي رأى بها القرن الثامن عشر.
وقد شهد أصدقاء بيكر، وتشهد الكتب، أن الرجل على تلهيه بما يلهو به الناس، وعلى رصانة الأسلوب واتزان العبارة وبراءة الدعابة ولين النقد، كان ذا نفس حيرى، وأكاد ألمس في كلامه عن بسكال كلاما صادرا عن القلب، وخصوصا حين يقول: إن الكون لا يكترث إطلاقا لهذا الإنسان، كما أكاد ألمس ذلك أيضا في مقاله المؤثر «حيرة ديدرو»،
अज्ञात पृष्ठ
6
ألمس فيه النزاع بين نداء العقل ونداء القلب، بين السكون والحركة، والوفاق والتنافر، الظاهر والباطن، في مشاهد التاريخ الإنساني، بين نظر العلم ونظر التاريخ إلى مشاهد الكون، وقد ذكر تلميذه جرشوي أن الرجل تأثر كثيرا بما أصاب الآمال العظيمة التي عقدها الأحرار على عالم ما بعد الحرب الكبرى الأولى في الفترة التي توسطتها سنة 1930، فالعلاقات بين الشعوب تسير إذ ذاك من سيئ إلى أسوأ، وقضية الحرية بائرة في أكثر البلاد، والأزمة الاقتصادية قد عمت العالم بأسره، فكانت سنوات خوف وجوع، هذا إلى ما عاناه هو شخصيا إذا ذاك من علل الجسم والأعصاب.
7
ولكن كان للرجل من قوة اليقين وعمق الفكرة وسعة الاطلاع على غابر الإنسانية، ما مكنه من التغلب على قنوطه، فتمالك على نفسه، وكان من بين آخر ما كتب «السبيل إلى عالم أفضل».
8 «والمدينة الفاضلة» بين كتب بيكر واسطة العقد، فيه مذهبه في التاريخ أكمل ما يكون مذهب تطبيقا، وفيه أسلوبه أكمل ما كان، وفيه الحيرة والتساؤل كما فيه أسس اليقين والرجاء، وفيه القرن الثامن عشر مستقرا أتم ما يكون الاستقرار بين الماضي والمستقبل، فيه - في الواقع - شيء من كل ما كتب فيه بيكر.
وقد خصص بيكر لمذهبه في التاريخ خطبة الرياسة التي ألقاها في الاجتماع السنوي للجمعية التاريخية الأمريكية (يناير سنة 1932)، واتخذ لخطبته العنوان: «كل إنسان مؤرخ»، بين فيها أن ما يفعله المؤرخ هو ما يفعله الإنسان في تصريف شئونه العادية، فالرجل حين يهم بعمل ما، يستحضر شيئا من الماضي يدمجه في حاضره ليسترشد به، وفي نفس الوقت يدمج أيضا شيئا من المستقبل المتوقع في حاضره، فالحاضر - وهو ما سماه الحاضر الكاذب - يتكون دائما من ماض وحاضر ومستقبل، ونفى في خطبته هذه وجود «معايير» مطلقة، وأكد أن الأحكام دائما إضافية إلى زمانها ومكانها، وقد عاد بيكر للموضوع في نقده لكتاب ويلز المشهور في معالم تاريخ الإنسانية.
9
وكانت أشد مؤلفاته سوادا «حريات جديدة بدلا من حريات قديمة»، «وحرية القول»، «ومبادئ الأحرار، أهي مرحلة جاوزتها الإنسانية» (سنة 1932)،
10
تساءل فيها: أحق أن الحرية انتهى زمانها؟ أحق أن ليس أمام الإنسانية إلا الاختيار بين الحرية والمساواة؟ أحق أننا إن آثرنا المساواة فلا مناص من التسليم بما يجري في بعض البلاد من كبت للحرية في سبيل تحقيق المساواة؟ أحق أن الإنسان لا يأبه - في الواقع - للحرية إن ضمن العيش وترك له أن يتصرف في جده ولهوه طبقا لسنن آبائه ومجتمعه وعشيرته؟
अज्ञात पृष्ठ
وكأني ببيكر ينصت دائما إلى صوتين، يدعوه أحدهما إلى وجوب استعمال العقل مهما تضاءل أثره في توجيه أعمال الإنسان، ولكن بشرط ألا يسرف فيما يرجو من وراء استعماله، ويدعوه ألا يقنط، وألا ينبذ الحلم الرائع الذي تصوره كوندرسيه للعصر العاشر من عصور تقدم العقل الإنساني،
11
ولكن بشرط أن «يعدل» ما تصوره كوندرسيه في القرن الثامن عشر ليفي بمطالب القرن العشرين، وأما الصوت الآخر، فكان يدعوه للتأمل في مستقبل الآلة، وإلى أن مصير الإنسانية سائر حتما إلى أيدي «الصفوة» من الفنيين، وأن هؤلاء لا يفهمون إلا التنظيم والقيادة، ولا يعنون بالحرية والهداية.
وتساءل بيكر: هل من سبيل كي يأتلف الصوتان؟ أما هو فكان على استعداد لأن يقبل الائتلاف، وأن يدلي بنصيبه المتواضع لتحقيقه، فمبادئ الحياة الديمقراطية الحقة أقدم من الأنظمة الديمقراطية، ولا تتوقف عليها، بل هي تعتمد على قيم كانت قوام الثقافات والحضارات، ومهما تنوعت الأساليب وتجددت الوسائل طبقا لمقتضيات التغيير والتطور، فإن المحافظة على تلك القيم الكبرى هو الأمر الأساسي، وكان هذا شرط بيكر للأمل في حصول الإنسانية على ثقافة أعمق وديمقراطية اجتماعية حقة في عالم أفضل.
12 (2) عرض الكتاب
المحاضرة الأولى: الجو الفكري في مختلف العصور
لدراسة الفكرة السياسية أو الاجتماعية لعصر من العصور، يجب أن نتذكر دائما أنها لا تفهم على وجهها الحق إلا بفهم الجو الفكري الذي عاشت فيه، وقد تصور الأوروبيون في العصور الوسطى الحياة الإنسانية «دراما» كاملة التأليف، تامة السبك، صدرت عن عقل مهيمن محيط، وتدور حول فكرة رئيسية واحدة، ولا يملك الإنسان أن يتفادى واقعة من وقائعها، ولذا كان واجبه أن يسلم بأحكام القضاء، وأن يقوم بما قسم له أن يقوم به في هذه «الدراما»، ومهمة السلطتين الشرعيتين «الكنيسة والدولة» أن تلقناه ما يلزمه، وأن تلينا قلبه لأداء نصيبه، وقد منح الله الناس العقل، وأوجب عليهم أن يستعملوه، ومهمة العقل أن يبين للناس العلم الذي شاء الله أن يطلعهم عليه بما أوحاه، وأن يوفق بالقدر الذي يستطيع بين الأحداث المعلومة بالخبرة العملية، والنسق العقلي للعالم المصدق بالإيمان.
والتفكير في العصور الوسطى منطبع بطابع عقلي تام، فهي عصور إيمان، كما كانت أيضا عصور عقل، والقرن الثامن عشر كان عصر عقل كما كان أيضا عصر إيمان.
وكان «الجدل» منهج البحث في العصور الوسطى، وشرح تاريخ الإنسان تولاه رجال اللاهوت، والتوفيق بين الطبيعة والتاريخ في نسق عقلي من شأن الفلسفة، وما يلزم اللاهوت والفلسفة من أساليب وطرائق يقدمه المنطق.
هذا بالنسبة للعصور الوسطى، وأما بالنسبة للزمن الحاضر، فالعلم يعتبر الحياة عملية تغير مستديم يحدث لطاقة في انحلال مطرد، ولعل أهم ما ترتب على ذلك النظر الجديد أننا نبتغي فيما حولنا مبدأ مطلقا نثبت به أقدامنا، ولا نجده، وقصارى جهدنا اليوم أن نلاحظ، وأن نقيس، وأن نختبر، وهذا كله لكي نسيطر على الطبيعة لا لكي نفهمها، وبناء على هذا فالشأن الآن للتاريخ والعلم الطبيعي ومناهج الملاحظة والاختبار والحساب، وما تولاه اللاهوت في العصور الوسطى يتولاه الآن التاريخ، لا الفلسفة.
अज्ञात पृष्ठ
ومرت فلسفة التاريخ في أدوار؛ كان التاريخ في العصور الوسطى في أيدي اللاهوتيين صورة لتاريخ العالم والإنسان تتفق مع التأليف الإلهي، فلم يحتج اللاهوتيون كثيرا إلى الاطلاع على تجارب الأمم بالفعل، وهو في القرن الثامن عشر أداة لأغراض الفلاسفة، وهو من أوائل القرن التاسع عشر المثال المتعالي يتحقق، وهو في عهدنا الحاضر ما هو إلا التاريخ، تعيين نظام لتعاقب الأشياء في الزمان.
والتاريخ فضلا عن كونه موضوعا قائما بذاته، هو أيضا منهج من مناهج البحث، فيؤرخون للغات، والآداب، والنظم الاجتماعية، والشرائع، والعلوم، والرياضيات، والاقتصاديات، بل وللحب وللعب.
وبالإضافة إلى التاريخ باعتباره طريقا لاكتساب المعرفة يوجد لدى المحدثين طريق آخر هو العلم الطبيعي، وكان ظهور التاريخ وظهور العلم الطبيعي نتيجتين لاتجاه فكري واحد، هو الإعراض عن إغراق العصور الوسطى في طبع الحقائق بالطابع العقلي، والإقبال على تفحص الحقائق في ذاتها وكما هي.
وقد بدأ التحول حينما أراد جاليليو أن يعرف شيئا عن سقوط الأجسام، فلم يسأل عما قال أرسطاطاليس في ذلك، أو عما إذا كان المعقول أن يكون الأمر كذا أو كذا، بل عمد إلى التجربة، واستخرج منها ما دلت عليه.
وقد أعجب الناس أيما إعجاب بالنتائج الباهرة التي ترتبت على استعمال الملاحظة والتجريب، وتولد الأمل في أنهما سوف يبددان كل ما يحيط بالكون من غموض، ويكشفان عن كل ما هو محجوب، وأن قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة ما هما إلا اسمان لشيء واحد، وأن عقل الإنسان سوف يكشف عن سر الاطراد في نظام الطبيعة، ولكن الغموض لم يتبدد، بل كان الأمل هو الذي تبدد، وفرق العلماء في القرن العشرين بين العلم وقوانين الطبيعة، وشغلهم العمل في الملاحظة والحساب والتجريب والانتفاع بالأشياء عن السعي إلى معرفة كنه العامل الخفي المحدث.
فالجو الفكري في زماننا جو واقعي أكثر منه عقلي، وإننا بحكم الضرورة، ننظر إلى العالم إما بعين التاريخ، وإما بعين العلم، فإذا ما نظرنا بعين التاريخ رأيناه في تكون مستديم، وهو بناء على هذا لا يمكن فهمه إلا على وجه التقريب، وإذا ما نظرنا بعين العلم، رأيناه مما ينبغي أن نسلم به كما هو، على أن نبدل من أنفسنا لتستقيم فيه الحياة بقدر الإمكان، وهذا ما يفسر راحة العقل الحديث في هذا الكون الغامض.
وموضوعي هو الفكر السياسي والاجتماعي في القرن الثامن عشر، ولما كنت من أبناء القرن العشرين، ومن ورثة القرن الثامن عشر، فلا مناص من أن أعالج موضوعي تاريخيا، وكان علي أن أعين للقرن الثامن عشر مكانا، فعلي أن أبين ما كان من آثار لوقوع ذلك العصر بعد عصر دانتي وتوماس الأكويني، وقبل عصر أينشتين وويلز؛ أي يجب أن أصل العصر بما سبقه وبما لحقه.
وأثر العصور الوسطى في القرن الثامن عشر أقوى مما تصور رجاله أو مما نتصور نحن، بل إن القرن الثامن عشر أقرب إلى ما سبقه منه إلينا، والأفكار التي قامت عليها فلسفته هي في جوهرها أفكار القرن الثالث عشر، وإن فلاسفته لم يهدموا «المدينة الفاضلة» التي بناها القديس أوجسطين إلا ليعيدوا بناءها بما كان يحضرهم من مواد.
المحاضرة الثانية: قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة
لم تكن «الاستنارة» حركة فرنسية بالذات، فأنى ذهبت تلق الفلاسفة يتكلمون نفس الكلام، ويعيشون في جو فكري واحد، والفلاسفة لم يتخذوا من الفلسفة صناعة تعليم، حقيقة كان منهم «فلاسفة» بالمعنى الذي نفهمه الآن، ولكنهم كانوا قبل أي شيء آخر أدباء يكتبون الكتب ليقرأها الناس، ولينشروا بينهم آراء جديدة، أو آراء قديمة في ثوب جديد، ولكنهم كانت لهم رسالة نهضوا لإبلاغها وللتبشير بما هو آت، وكانوا قوما لم يعتزلوا الجماعة، تفيض آثارهم براعة حديث وسخرية، ولكن هذا كان وسيلتهم إلى غايتهم، ولم يمسهم التشاؤم إلا مسا خفيفا، وتظاهروا بتجنب الحدة والحمية ، ولكنهم كانوا يسعون سعيا حثيثا متلهفا إلى وضع أمور العالم في نصابها، وذاع استعمال كلمات «الإنسانية» «وفعل الخير»، ولن نستطيع أن نجد رجلا في ذلك الربيع المزهر من تاريخ الإنسان إلا يدير مشروع إصلاح، وهل كانت الثورة الفرنسية إلا مشروعا عظيما للإصلاح، وهل كان القرن المستنير بين العصور إلا عصرا آلى قادة الفكر فيه على أنفسهم أن يجهدوا لكي يوطئوا السبل لينعم بنو الإنسان بالسعادة والحرية والإخاء والمساواة.
अज्ञात पृष्ठ
والفلاسفة أدنى إلى روح الدين مما قدروا، كانوا حملة رسالة الحركات الدينية المسيحية مجردة من صبغتها الدينية، ولقد أسرف كتاب القرن التاسع عشر في تأكيد جانب السلب، من كفاح القرن الثامن عشر في سبيل نصرة العقل، وأسرفنا نحن في القرن العشرين في فهمنا من سالبهم معاني تزيد كثيرا على ما قصدوا، وفي الوقت نفسه قبلنا منهم طبقا لما أرادوا موجبهم وتقريراتهم.
وهذه التقريرات في منتهى البساطة، وهي تدعي صحة كل ما هو محتاج لإقامة الدليل على صحته، فلا عجب أن نتصور في القرن العشرين أن أولئك الشاكين من رجال القرن الثامن عشر كانوا قوما سريعي التصديق، سهلي الاقتناع، وأن عواطفهم ساقتهم دون روية إلى قبول الكثير من الكلام المعاد، وإلى التصديق بوجود الدواء الذي يشفي من كل داء.
وإن شئنا أن نلتمس وسيلة لفهم عقلية عصر من العصور، فخير ما نفعل هو أن نفتش عن الكلمات الدائرة على ألسنة أهله، وهذه كانت في القرن الثالث عشر: الله، الإثم، النعمة، الجنة، النجاة، وهي في القرن التاسع عشر: المادة، الحقيقة، الحقيقي، التطور، التقدم المطرد، وفي القرن العشرين: النسبية، التعاقب، الملاءمة، الوظيفة، المركب، وكانت في القرن الثامن عشر: الطبيعة، القانون الطبيعي، المبدأ الأول، العقل، العاطفة، الإنسانية، القابلية للكمال، الفضيلة.
وفي القرن الثامن عشر أقام الفلاسفة «مدينتهم الفاضلة» على دعائم ترتكز على هذا الثرى، وتصوروا الربوبية على ما يشتهون، ثم استحوذ عليهم ما أنساهم ذكر الله، ومنهم من قسا قلبه فجحده، إلا أن أكثرهم لم يهو إلى هذا؛ فالجحود معناه كون بلا نظام، وهذا لم يطيقوا أن يتصوروه، وبقي أغلبهم على الإيمان برب الكون، وهو المبدأ الأول، أو الكائن الأعظم أو المقتدر الكبير، أو المحرك الأول، وهو العلم، وهو الخير، واعتقدوا أنه أظهر الخلق على مشيئته لا عن طريق الكتب المقدسة والكنيسة، بل عن طريق كتاب الطبيعة الأكبر، وهو كتاب منشور للعالمين، وأنه ما من فكرة أو عادة أو سنة من السنن ببالغة الكمال، إلا إن كانت متفقة مع القوانين التي تطلع الطبيعة الناس عليها في جميع الآباد.
والطبيعة عند رجال العصور الوسطى كانت كونا تصوريا، مفارقا للكون الحقيقي، أو هي تركيب منطقي مثاله في العقل الإلهي، والقانون الطبيعي يتعلق بهذا الكون التصوري، ولا علاقة له بالظواهر الطبيعية، أما في القرن الثامن عشر، فالطبيعة هي الحقيقة المادية القائمة، والقانون الطبيعي ليس تركيبا من تراكيب المنطق القياسي، بل هو الأفعال المشاهدة بالعيان التي تفعلها الأشياء المادية.
ويرجع هذا التطور في فكرة الطبيعة لمكتشفات القرن السابع عشر العلمية، وبخاصة مكتشفات نيوتون. الطبيعة هي ما يراه أي واحد من الناس بعينه ويلمسها بيده فيما حوله، تجرى على سنن لا غموض فيها، تطلع آحاد الناس - جاهلهم وعالمهم على حد سواء - على قوانينها النافذة في كل شيء، وما الفلسفة إلا الإدراك السليم البسيط، وما دامت قد صارت تستخدم أنابيب الاختبار بدلا من فن الجدل، فلأي إنسان بالقدر الذي يسمح به ذكاؤه أن يكون فيلسوفا.
واتخذوا من الفلسفة النيوتونية على ما تصوروها أساسا للدين الطبيعي وللفلسفة الأخلاقية، واعتقدوا أيضا أن العقل لا يحصل على شيء ما من المعرفة بالوراثة، فليست هناك معان غريزية، ولكنه يحصل على المعرفة بوجوده في بيئته، وبالإحساسات التي تتدفق، والنفس عند الميلاد تخلو من أي معنى مغروس فيها، وهي حينئذ كالصحيفة البيضاء من الورقة الخالية من أي نقش، ثم ينقش العالم الطبيعي الخارجي والإنساني على هذه الصحيفة البيضاء جميع المعاني والمبادئ خيرها وشرها، المرقومة في النفس، فإن كان المحيط الخارجي مضطرب النغم، متنافر الألحان، فالنفس تكون كذلك، ولو تحقق ما يجب أن يتحقق - وليس ذلك بعزيز - واستقام النغم وانتظم اللحن، فالنفس تستقيم أيضا، فلا أساس إذن لما توهمه المتدينون من أن الإنسان آثم خسيس بجبلته، بل الصحيح أن الإنسان سوته الطبيعة، والطبيعة خلقها الله، ولبني الإنسان المقدرة على أن ينشئوا بين النظام الطبيعي العام وأفكارهم وأفعالهم ونظمهم توافقا وانسجاما، ولا يلزمهم لبلوغ هذا سوى استعمال ملكاتهم الطبيعية، وهكذا آمنوا بأن في الإمكان العمل لتشكيل كل شأن من شئون الحياة طبقا لقوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة.
ولكنهم ما لبثوا حتى ثارت شبهات، فإن قيل إن الطبيعة خلقها الله، وإن الإنسان خلقه الله، فكيف يتأتى أن تكون للإنسان عادات وأفعال متنافرة مع الطبيعة؟ وهل يستطيع الفلاسفة أن يزعموا أن التنافر في الظاهر فقط، وأن لا شر مطلقا في الطبيعة؟ أيتبعون العقل حتى النهاية، وليكن ما يكون؟ وما النهاية؟ وجهتان لا ثالث لهما: العودة للدين أو التقدم نحو الإلحاد.
ولكن القرن الثامن عشر وجد مخرجا، وجده بتطويع العقل؛ وذلك بأن أضافوا إليه العواطف، فجعلوا الحكم لا له وحده، بل له وللقلب معا؛ وذلك أيضا بأن قيدوه بقيود التجارب، فجعلوا لها القول الفصل، وذلك أخيرا بأن استمهلوه مناشدين إياه أن يرجئ حكمه إلى أجل، فظل الفلاسفة هكذا تحت لواء العقل، وساروا قدما لبناء صرح «المدينة الفاضلة»، وجعلها آية التمام والكمال والبهاء.
المحاضرة الثالثة: التاريخ الجديد أو الفلسفة تعلم الناس بالأمثال
अज्ञात पृष्ठ
لكي نفهم لم انصرف الفلاسفة عن النظر العقلي الخالص إلى التاريخ والأخلاق والسياسة، يجب أن نبدأ بأن نتذكر أن القضية العقلية الكبرى كانت قضية وجود الله، فتساءلوا: هل العالم يحكمه عقل خير أو تتحكم فيه قوى لا تعرف خيرا ولا شرا، وكان سؤالا حير الألباب.
فأما الملحدون فقد كانوا قلة افتتنوا بالعقل أيما افتتان، وجهروا بإلحادهم، وأعلنوا أن العالم لا خير ولا شر، بل هو قابل لأن يكون خيرا، لو عرف الإنسان كيف يدبره، وقابل لأن يكون شرا لو قصر في ذلك.
وقابل الكافة الإلحاد بالاستنكار، أما الفلاسفة فقد تعللوا بعلل شتى، لعدم متابعة الموضوع، فمنهم من قال: إن النظرية الآلية للكون قد تكون صحيحة، ولكن الأخذ بها ليس في المصلحة، ومنهم من اعترف بقصور العقل عن إثبات شيء ما في الموضوع، فآثر الصمت أو الاشتغال بشيء آخر، ومنهم من قال: إن المهم هو أن نصدق بوجود الله، فهذا لازم للعامة على وجه الخصوص، ومنهم من أعرض عن الإلحاد لإدراكه أن التسليم به معناه الاعتراف بإخفاق الفلسفة فيما قصدت إليه، وكأنهم بذلك قد أيدوا ما ذهب إليه خصومها من أنها تؤدي إلى هدم الأخلاق والنظام الاجتماعي، ومنهم من رأى أن الأجدى بهم أن يشتغلوا بشئون الإصلاح على الوجه الخليق بالفلاسفة؛ أي بالجمع بين الجد وتدفق العاطفة بدلا من أن يفضحوا قصور العقل وضعف دعائم المعرفة.
تقهقر الفلاسفة على هذا النحو من موقفهم العقلي الخالص إلى وضع مناهج الإصلاح العملي، وبدءوا بالتمييز بين العادات والسنن الصالحة بالطبع والأخرى الفاسدة بالطبع، ويقتضي هذا إيجاد المثال المشترك للطبيعة الإنسانية، وإيجاد هذا المثال المشترك يكون عن طريق يضيئه نور العقل ونور التجارب معا؛ أي نور التاريخ، ولكن بشرط أن يكون تاريخا من نوع جديد.
وكل عصر يطلب تاريخا «جديدا»؛ فروى القديس أوجسطين قصة الإنسان لعصره، وطلبت العصبية القومية تاريخا يمجد الملوك أو الشعوب، وطلبت البروتستنتية تاريخا يؤيد دعواها، والكاثوليكية كذلك، وفي القرن السابع عشر حينما خفت حدة الصراع بين الفرق شيئا ما، قام عصر التحقيق في وقائع التاريخ، ولكنه لم يرض القرن الثامن عشر؛ «فالتحقيق» أخرج نوعا من التاريخ فاترا كليلا، والكتب التاريخية العامة التي وصلتهم لم ترضهم؛ لأنها إما أن تكون قد قامت على أساس الصورة الواردة في الكتب المقدسة، وإما أنها لا تحتوي إلا على الحروب والوقائع والمعاهدات والأنساب والمصاهرات، فكان الجواب إذن ألا يكتب التاريخ الجديد إلا الفلسفة.
نرى إذن أن لا وجه لما زعموه في القرن التاسع عشر عن عصر الاستنارة من أنه كان «لا تاريخيا».
ويتلخص المنهج المثالي للمؤرخين في القرن الثامن عشر في ملاحظة ما كان للشعوب في جميع الأزمنة والأمكنة من أفكار وعادات ونظم، ثم المقارنة بينها، ثم حذف ما كان يبدو خاصا بمكان أو بزمان معين، والحاصل هو المشترك بين بني الإنسان أجمعين، وهو زبدة التجارب، ومنه تستخرج المبادئ الثابتة للطبيعة الإنسانية، فالمنهج هو الطريقة الموضوعية الاستقرائية العلمية.
هذا هو المنهج المثالي، ولكن الواقع كان شيئا آخر، كان الواقع أنهم بدءوا، وقبل أن يرجعوا للتاريخ، بحصيلة من المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية، ولم يرجعوا للتاريخ إلا ليلتمسوا فيه إثباتا وتأييدا لها؛ أي إن ما أنكروه على الدينيين من تحريفهم التاريخ لينطبق على الكتب المقدسة وقعوا هم فيه أنفسهم، وصح بذلك ما عبر عنه فولتير في قوله: ما التاريخ إلا حاصل احتيال الأحياء على الموتى!
وبعد فما هي المبادئ التي قلنا إنهم بدءوا بها: (1)
إن الإنسان ليس آثما خسيسا بالجبلة، بل هو طيب ميال لاتباع العقل، كريم رءوف سمح، هدايته بالنصح والإغراء أسهل من قيادته بالقسر، مواطن صالح، رجل فضيلة، يقدر تماما أن الحقوق التي يطلبها لنفسه هي حقوقه وحقوق غيره، وهي طبيعية غير قابلة للتقادم، وأن تمتعه بها يقتضي منه أن ينزل طوعا على حكم الحكومة العادلة، فيلتزم بما ترسم من التزامات، ويذعن لما تفرضه من حدود من أجل الصالح العام. (2)
अज्ञात पृष्ठ
إن غاية الحياة هي الحياة نفسها، غايتها الحياة الطيبة في الدنيا لا حياة الغبطة بعد الموت. (3)
إن الإنسان قادر بهدى العقل والتجربة فقط أن يبلغ بالحياة الطيبة حد الكمال. (4)
إن الشرط الأول للحياة الطيبة إطلاق العقول من ضلال الجهل والخرافة، والأجساد من قهر السلطات الاجتماعية وجورها.
وقد اطمأن الفلاسفة إلى أن التاريخ سوف يؤيد تلك المبادئ التي كشف عنها العقل والحجى، ولكن على أن يعينوا التاريخ على أداء هذا، فغمروا بعض جنباته بالنور، وتركوا البعض منها في ظلام دامس، وجعلوا للبعض الآخر نصيبا من النور، فكان أقل عتمة، ففرقوا بين عصور طيبة وأخرى خبيثة، فأما الخبيثة فكانت ما سموه بالعصور «المظلمة»؛ أي العصور التي سادتها الفلسفة المسيحية بلا منازع لها، وأما العصور الطيبة السعيدة فهي عصرا بريكليس في أثينا وأجسطوس في روما، ولا بدع في ذلك فإن ثقافة الفلاسفة بلا استثناء كانت ثقافة يونانية رومانية خالصة، وعصر النهضة الأوروبية أو الحركة الإنسانية وعصر لويس الرابع عشر والقرن الثامن عشر، وهي العصور الأربعة السعيدة في نظر فولتير، وقد أضاف الفلاسفة إلى هذه العصور الأوروبية عصور الحضارات الآسيوية قبل أن تنكب الشعوب غير الأوروبية بفقدان استقلالها، وبما جره الاستعمار الأوروبي عليها من بؤس وشقاء.
وهكذا يؤدي التاريخ الجديد إلى التمييز - الذي عجز العقل الخالص بمفرده عن أدائه - بين ما هو صالح وما هو فاسد بالطبع، وهو يؤيد ما قضى به العقل من كون الفلسفة المسيحية عدوة الإنسانية.
ولنوضح هذا بوصف موجز لأشهر مؤرخي العصر:
مابلي:
قرر أن فرنسا كانت تنعم منذ أيام شارلمان على الأقل بدستور جيد، وكان يمكن أن يبقى لها لولا طغيان القسيسين والفوضى الإقطاعية، والدستور ممكن استخلاصه مما تراكم عليه، وهو بقليل من «الصقل» يصبح صالحا لفرنسا من جديد.
هيوم:
إن تاريخ أي شعب من الشعوب الأوروبية كان يمكن جدا أن يكون كتاريخ إنجلترا لولا ما حدث للشعوب من طغيان الملوك ورجال الحكم ودسائس القسيسين وغلبة حب الدنيا عليهم، وجموح التعصب الديني وأوهام السفلة من الشعب، وهذه - كما ترى - شرور لا يخفى أمرها، ولا يستعصي علاجها.
अज्ञात पृष्ठ
رينال:
درس رينال فضائل الشعوب على الفطرة وما جلبه عليهم الاستعمار الأوروبي من بؤس وفساد، ويشارك رينال بذلك في نوع من الأدب أقبل عليه الناس إذ ذاك، وهو وصف المجتمع الأوروبي كما يراه غير الأوروبيين، من قبيل الرسائل الفارسية لمونتسكييه وما إليها.
فولتير:
يذهب في كتابه المشهور «السنن والآداب والعادات» إلى أن تاريخ الأحداث الكبرى لا يعدو أن يكون تاريخ «جرائم»، وإلى أن العصور المظلمة هي عصور سيادة الكنيسة، وأن العصور السعيدة هي عصور انطلاق العقل، إلخ، وهذا - بلا شك - قليل جدا مما في الكتاب، ولكنه القليل الذي لاءم القرن الثامن عشر.
مونتسكييه:
ينبغي ألا يغفل القارئ أن الرجل كان من «نبلاء» القرن الثامن عشر، وأنه كان مباشرا لشئون العامة، وأنه كان أريبا في تصريفها، وأنه واسع الاطلاع دائم التفكير في مسائل الإنسان والعالم، يدون ملاحظاته ويستحضر من مطالعاته وتجاربه الشواهد التي توضحها، فليس كتابه «روح الشرائع» رسالة علمية، بل هو مجموع أفكار وتأملات منفصلة، ولا يهم مونتسكييه إن كانت الواقعة من الوقائع قد وقعت فعلا أو لم تقع، بل يكفيه منها أنها كانت ممكنة الوقوع أو واجبته، وليس المهم إذن التحقيق بقدر كيفية استخدامها لتوضيح ما قرره من المبادئ العامة.
جيبون:
كان المؤرخ الذي هاجم العدو - السيادة المسيحية - في عقر داره، وكتابه خطبة رثاء للحضارة القديمة، وهي في نظره خير ما أخرج للناس، ووصف موتها على يد «البربرية والديانة».
جملة جيبون هذه «انتصار البربرية والديانة» تكشف تماما عن نوع التاريخ الجديد الذي طلبه القرن الثامن عشر.
ولئن كانت البشرية قد ذهبت ضحيتهما، فقد آن الفرج، فها هي ذي تخرج من ظلمات الماضي لتدخل في نور عصر الاستنارة، وهو عصر يفصل بين ماض ومستقبل، وهو خير قطعا مما سبقه.
अज्ञात पृष्ठ
ألا ينبغي أن يكون المستقبل خيرا من الحاضر؟ فليولوا وجوههم نحوه، نحو أرض الميعاد والبعث الجديد.
المحاضرة الرابعة: فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
يتكون الزمان الحاضر - بالنسبة للفرد وبالنسبة للجيل - من ماض يستذكر، ومحسوس يدرك، ومستقبل يتوقع، فهو قطعة واحدة نسيجها من خيوط الماضي والحاضر والمستقبل.
وقد مرت العلاقة بين الحاضر وحيزي الزمان المعروفين بالماضي والمستقبل في أطوار، فكانت عند اليونان نظرية الكون والفساد المتكررين في أكوار إلى ما لا نهاية، فالزمان عندهم عدو الإنسان، والتاريخ يتكرر فسادا وكونا أكوارا في غير نهاية، والحياة البشرية يتحكم فيها قضاء جبار لا تفلت منه أبدا، وهي ملحمة بلا خاتمة سعيدة، أو بعبارة أصح بلا خاتمة بالمرة، وأما في الصورة المسيحية فالأمر جد مختلف.
للبشرية عصر ذهبي عند بدء الخليقة في جنة عدن (وهو أبهى وأثبت وجودا من الحلم اليوناني المبهم)، وهو من إنشاء الله الواحد الحق العالم المريد للخير (لا من إنشاء الأبطال في الأساطير اليونانية)، ثم كان الهبوط من الجنة وشقاء البشرية، ولكن الصورة المسيحية فتحت باب الرجاء ، ولا بدع فرسالة المسيحية كانت للمعذبين والمحرومين ومن إليهم من عامة الخلق، فمحت عالما يائسا عاجزا، وأقامت محله عالم الأمل والرجاء، وأكسبت وجود الفرد في الدنيا قدرا وقيمة ومعنى، وعلمته أن سوف تكون خاتمة، وأن الله سيقضي بين الخلق، وأن الأشرار سيعاقبون والأخيار سيثابون.
وهكذا خلصت الصورة المسيحية الإنسانية من أغلال القنوط ورق الأكوار التي عقدتها الوثنية حولها.
وقد لاحظ الفلاسفة في القرن الثامن عشر أن هذا التأويل قد ملك على الناس ألبابهم، وأن من العبث أن يقابلوه إلا بتعديله بفكرة أخرى مشتقة من نفس مصدره: فالمعاني - كالرجال - لا يقع بينها قتال إلا إن تقابلت، وتماست، وتصادمت على مسطح واحد، ولذا نجدهم يعملون من جانبهم على أن يعدوا الإنسانية بعالم أفضل، وهذا العالم الأفضل يكون في المستقبل؛ إذ الحاضر بعيد عن الكمال، وهو أيضا لا يتحقق إلا بجهد الإنسان ومجاهدته في سبيل الإصلاح المطرد، وهذا الجهد يقوم على اتصال جهد الأجيال في الحاضر والمستقبل؛ أي إن الخلف له نصيب في بناء الفكر الحاضر.
ومن المفكرين السابقين إلى هذه الفكرة - فكرة اتصال الأجيال - فرنسيس بيكون، كما كان منهم بسكال، وقد عبر عن هذا في قوله: «يجب أن نعد جميع أجيال البشر التي تتعاقب على مر العصور كما لو كانت إنسانا واحدا، لا يموت أبدا، ويزداد تعلما دائما.» وتتصل بهذه الفكرة أيضا «المعركة» الأدبية المشهورة بين أنصار الأقدمين وأنصار الأحدثين، وكان فونتنيل خير من تحدث في الموضوع، انتصر للأحدثين، وبنى حجته على النظرية الديكارتية في اطراد الطبيعة، بيد أنه في المفاضلة بين القديم والحديث فرق بين العلم والفنون، ففي الغالب لن يفوق الأحدثون الأقدمين في الشعر وسائر الفنون؛ إذ إن مبعث الشعر والفنون في الشعور الوجداني، وأما بالنسبة للعلم فهذا شأن آخر، فالعلم ينمو بنمو المعارف وبارتقاء طرق الاستدلال، والأحدث زمنا يفوق الأقدم في العلم.
وعلى هذا فيدل كلام فونتنيل على أنه تصور وجود نوع من التقدم يجري تدريجا، ولكن لم يدر في خلده أو في خلد أكثر معاصريه أن يتوقع تغيرا تاما وصلاحا كاملا في الأخلاق أو في النظم الاجتماعية، وفرق بين أن يلهو الأدباء بفكرة الأوتوبيا كما أخرجها توماس مور أو بيكون لهوا بريئا، وبين إعدادها لتكون سياسة الغد في فرنسا، ولكن هذا هو الذي حدث في فرنسا قرب نهاية القرن الثامن عشر، دفع المفكرين إليه ازدياد السخط على سوء الأحوال الاجتماعية، واستسهال التغيير، فالدلائل تدل على أن التقدم شيء مطرد، وأن الإنسان قابل للكمال المطلق، وكانت تعرو الفلاسفة - وكذلك زعماء الثورة الفرنسية فيما بعد - لذكر الخلف هزة وجدانية بل ودينية، وأحيانا كان الانفعال يبلغ بهم أن كانوا يجعلون من الخلف شخصا ماثلا يتوجهون إليه بعبارات الابتهال.
وقد لاحظ المؤرخ «دي توكفيل» منذ نحو قرن من الزمان، أن الثورة الفرنسية كانت ثورة سياسية، اقتبست من الحركات الدينية خطط العمل والأساليب، فاكتسبت الشيء الكثير من خصائص تلك الحركات، فتدفقت - كما تدفق الإسلام أو الحركة البروتستنتينية - عبر الحدود بين الممالك والشعوب وانتشرت بالتبشير والدعوة، والثورة الفرنسية تراعي (كالأديان) في اعتبار الإنسان كونه إنسانا لا انتسابه إلى أمة معينة، ولم تقرر الثورة الفرنسية حقوقا خاصة بالمواطنين الفرنسيين، بل قررت حقوق الإنسان وواجباته أينما كان، والثورة الفرنسية عملت على أن تجعل من بني الإنسان خلقا جديدا أكثر مما عملت على إصلاح أحوال الأمة الفرنسية، ولهذا كله بعثت الثورة في أنصارها وفي خصومها على السواء من الانفعال والحدة والحمية ما لم يعهد له مثيل من قبل في أشد الثورات السياسية عنفا؛ ولهذا أيضا نشط أنصارها لتنظيم الدعوة إليها، بل وامتشقوا الحسام لحمل الناس على الإذعان لها.
अज्ञात पृष्ठ
وعلى هذا فلنا أن نقول: إن الثورة الفرنسية تحولت فعلا إلى حركة دينية من نوع جديد، وقد يقال إنها ثورة دينية من نوع ناقص، فلم يكن لها إله، ولم تكن لها عبادات وطقوس ولا حياة أخرى، ومهما يكن فالثابت أنها ملأت العالم جندا ورسلا وشهداء.
والملاحظة عميقة دقيقة، ولكن - على الضد مما زعم دي توكوفيل - كان للثورة إلهها في مبادئ الحرية والمساواة المقدسة، وكانت لها عباداتها في مراسم الثورة الكبرى، وكان لها قديسوها في أبطال الحرية وشهدائها. •••
ومضت مائة عام على سقوط الباستيل، تم في أثنائها الانقلاب السياسي الاجتماعي الذي تولد عنه العالم الذي شهدناه قبل الحرب العالمية الأولى.
وهذا الانقلاب لم يتم دون الترخص في حق مبادئ الثورة الفرنسية ودون التساهل والتحريف عند تطبيقها، والترخيص والتساهل لم يكونا شيئا قليلا ولا شيئا مستورا.
ففي فرنسا، شتان ما بين الجمهورية المثالية التي كانت حلم سنة 1793 والجمهورية الثالثة التي كانت من إنشاء الملوكيين لما اختلفوا فيما بينهم، وبدأت جمهورية بلا دستور، بل وبلا إعلان لحقوق الإنسان.
والوحدة الإيطالية، فرق بين ما كان يحلم به مازيني وبين ما حققه كافور بالخداع السياسي، وبمعونة نابليون الثالث عدو الحرية في بلاده.
والوحدة الألمانية، كانت من إنشاء بسمارك، ثمرة الدم والحديد، وماذا نالت ألمانيا المتحدة، سوى حق التصويت العام، لترسل نوابا عنها لا يتجاوز سلطانهم إلقاء الخطب واتخاذ القرارات.
والإمبراطورية النمسوية المجرية، على ما غرفتها الأيام السابقة للحرب العالمية الأولى، كانت وليدة الاتفاق بين ألمان الإمبراطورية ومجرييها على التسلط على الشعوب غير الألمانية وغير المجرية الخاضعة لسلطان آل هابسبرج.
فالانقلاب العظيم كان على الوجه الذي تم عليه خيانة لآمال الدعاة الذين بشروا به، ولما تحقق سواد الناس من أن حكوماتهم على ما هي عليه من تلويث وقهر لا تعدو أن تكون نوعا من الحكم أقرب إلى السوء منه إلى الجودة، وأن إزالة الضيم القديم لم تؤد في الواقع إلا للإفساح لضيم جديد، انقسموا فريقين: المترفون أو الراضون عن عيشهم أو عن أنفسهم، وهؤلاء ظلت العقيدة الديمقراطية على ألسنتهم كلمات بلا روح، وأما الساخطون فقد نبذوا تلك العقيدة ليتبعوا ما بشر به كارل ماركس وأنجلز.
وقد أقام كارل ماركس المذهب الشيوعي على قوانين الطبيعة، كما دل عليه العلم على عهده، والمذهب في هذا مثل دين الإنسانية في القرن الثامن عشر، وكتاب رأس المال يقوم على أساس من جدل هيجل ونظريات داروين في التطور، إلا أن الشيوعية أقل توكيدا لأثر الفرد في الأحداث، وهي لا تحلم بجنة كانت أو بعصر ذهبي كان، ولا تؤمن بأن بعث خلق جديد سيتم عن طريق انتشار النور وطيب الطوية، فالماضي كان حربا لا هوادة فيها، ولا رحمة بين قوى مادية، حربا تحركها المصالح الاقتصادية للطبقات والطوائف، ومن هذه الحرب نشأ نظام الأرستقراطيين أصحاب الأرض في العصور الوسطى، ثم حطمت حرب المصالح هذا، وأحلت محله النظام الرأسمالي البورجوازي الذي بلغ أشده في القرن التاسع عشر، وسوف تحطمه بدوره لصالح البروليتاريين.
अज्ञात पृष्ठ
والآن، وفي أيامنا، أقيم المشهد الأول من الانقلاب الجديد، فبدأت الثورة الروسية في سنة 1917.
وبين الثورة الفرنسية والثورة الروسية فروق، ولكن الفروق تتضاءل إذا ما نظر إليها من بعيد، والاتفاق بين الثورتين على الأساسيات أهم من الاختلاف بينهما، ونحن ورثة الثورة الفرنسية، نغفل عن الاتفاق؛ أولا لأن الثورتين تسميان الأشياء بأسماء مختلفة، وثانيا لأننا ورثة الثورة الفرنسية سنكون المجني عليهم إن قدر للثورة الروسية التغلب على العالم الغربي.
ولننظر إلى بعض وجوه الاتفاق؛ اتخذت الثورة الروسية ما اتخذته الثورة الفرنسية بحكم الاضطرار، فأقامت ديكتاتورية «الأمناء» على الثورة. والثورة الروسية دعت المحرومين للاتحاد، والثورة الفرنسية دعت الشعوب للعمل ضد الحكومات، والثورة الروسية لا ترمي إلى الإصلاح فقط، ولكن إلى إنشاء حياة كاملة جديدة صالحة لكل زمان ومكان، والثورة الفرنسية كانت ترجو أن تحقق هذا. والثورة الروسية يعتبرها خصومها أداة الهدم والإنكار، أداة الإلحاد في الدين والفوضى في المجتمع، وقديما قال خصوم الثورة الفرنسية فيها مثل هذا.
ولو رأى في سنة 1815 أولئك الخصوم - خصوم الثورة الفرنسية، قادة الحركة الرجعية في أوروبا - مقدار ما تحقق في خلال القرن التالي مما كرهوا، لهالهم ما يرون هولا شديدا، ترى ماذا يضمر القرن التالي لسنة 1917 لخلفنا؟ ترى أتكون كلمة الدين الجديد هي العليا؟ وهذا بغض النظر عما إذا كان هذا سيتحقق تدريجا، وبغض النظر عمن يتولى مقاومته، وعن مقدار ترخيص الشيوعيين بالنسبة لمبادئهم وتخفيفهم من غلوائهم وبطشهم بأعدائهم.
وليس هذا بالشيء المستحيل، فقد بدأنا نسمع في معاقل الرأسمالية في الغرب كلاما جديدا، بدأ الناس يقولون: إن المجتمع الغربي وقد أصاب ما أصاب من تقدم في استعمال الآلات، وملك ما ملك من موارد القوة، قد أصبح أحوج إلى الإشراف والتوجيه منه إلى الحرية، ومهما يكن فلا يزال في الوقت فسحة، وقرن من الزمان ليس بالشيء القليل، ومن الجائز أن يعم في أثنائه النظام الاقتصادي الموجه - ولنسمه كذلك أو لنسمه الشيوعية - إلى العالم الغربي بأسره، زعما من الشعوب بأنه النظام الوحيد الذي يحقق للإنسان العدالة الاجتماعية والأمن والرخاء، إن كان هذا هو الذي سيحدث فليس بمستبعد أن الخلف في سنة 2032 سيحيي ذكرى نوفمبر 1917 على اعتبار أنها كانت مبدأ التحول السعيد في تاريخ الحرية الإنسانية، كما نحتفل الآن سنويا بيوليو 1789.
وبعد فما الرأي الذي يجب أن ننتهي إليه بالنسبة ليوليو 1789 ونوفمبر 1917 وما إليهما من أيام الإنسانية الكبرى، هل هي بوادر الاقتراب من الأوتوبيا؟ وهل يصح أن نرى في الثورة الروسية مرحلة جديدة من مراحل التقدم الإنساني نحو الكمال كما كانت الثورة الفرنسية في دورها مرحلة من مراحله؟ أو أن الأصح هو أن نقول ما قاله ماركس أوليوس: «إن الرجل في سن الأربعين، إن كانت له حبة من الفطنة يكون قد رأى - بموجب ما بين الأشياء من مماثلة - كل ما كان وكل ما سيكون.» (3) نقد الكتاب
اخترت كتاب كارل بيكر من بين الكتب الكثيرة جدا التي عالجت موضوع الفكرة السياسية والاجتماعية في القرن الثامن عشر للنقل إلى اللغة العربية، وعلي أن أشرح أولا وجه الاهتمام بالقرن الثامن عشر، وثانيا أسباب اختياري لهذا الكتاب بالذات.
فأما وجه الاهتمام بالقرن الثامن عشر فهو راجع لاعتقادي أن من مبادئ ذلك العصر السياسية والاجتماعية ما لا يستطيع جيل من أجيال الإنسانية أن يعاديه أو أن يغفله أو يزدريه إلا وهو مجازف - على الأقل - بما هو أثمن ما في الذخيرة الروحية لبني الإنسان، وقد يكون القرن الثامن عشر قد أسرف في الاطمئنان إلى حكم «العقل» أو إلى قابلية الإنسان للكمال المطلق، أو إلى اطراد التقدم من أدنى إلى أعلى ومن حسن إلى أحسن، أو إلى أن هداية الإنسان بالنصيحة والإغراء أسهل من قيادته بالقسر، أو إلى أن إطلاق العقول من ضلال الجهل والخرافة والأجساد من قهر السلطات الاجتماعية وجورها، يكفي تماما لتحقيق الحياة الطيبة، قد يكون القرن الثامن عشر قد أسرف في إيمانه بالإنسان وعقل الإنسان، وقد يكون أسرف في الإيمان بما سماه الطبيعة أو نظام الطبيعة، وقد يكون أغفل «حرب المصالح» أو حرب الطوائف والطبقات، أو قرأ في التاريخ ما أحب أن يقرأ في التاريخ، وقد يكون العلم الحديث أثبت - أو لم يثبت، لا أدري - أن العوامل الخفية المحدثة للأشياء لا يمكن إدراك كنهها، أو أن الحق هو الواقع أو النافع أو ما إلى ذلك، أو أن فرويد - أو غير فرويد، لا أدري - قد كشف عن قرار مظلم مهول في أعماق النفس أو ما إلى ذلك، قد يكون هذا كله أو بعضه صحيحا، ولكن لا يزال هناك بعد محل للإيمان بنعمة العقل وبالحرية وبالإخاء وبالمساواة، وبأن الصلاح قد يكون ثمرة الجهد المبذول للإتيان به عن قصد وتدبير.
وفلسفة القرن الثامن عشر كانت الفلسفة الأوروبية التي اتصلنا بها حينما عاد الاتصال بيننا وبين أوروبا منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأعتقد أنها كان لها تأثير عميق في حياتنا الفكرية، وفي تطورنا السياسي على حد سواء، وهذا في نظري مبرر آخر لدراستها في موطنها الأصلي.
وكتاب كارل بيكر بالذات وجدته من أجود الكتب لهذه الدراسة، أولا؛ لأنه يفي بما أعتقده شرطين أساسيين لأية دراسة حقة للفكرة السياسية والاجتماعية لعصر من العصور، فالشرط الأول: أن يوضح المؤلف العلاقة القائمة بين الفكرة في ذاتها وبين فكرة العصر عن الطبيعة الإنسانية، وبين الفكرة أيضا وبين فكرة العصر عن مكان الإنسانية في الكون، أو بعبارة أخرى، فكرة العصر العلمية والتاريخية. والشرط الثاني: أن يوضح المؤلف العلاقة بين الفكرة في العصر الذي يدرس والفكرة في العصور التي سبقتها، وفي العصور التي لحقتها، وقد أجاد بيكر كل الإجادة في الوفاء بالشرطين على وجه ممتع طريف، وإلى حد مبتكر، فالمحاضرة الأولى تصور «الجو الفكري» الذي ساد العصور الوسطى والقرن الثامن عشر والعصر الحديث، والمحاضرة الثانية تصور عنصرا أساسيا في فكرة القرن الثامن عشر، ألا وهي تصور ذلك القرن للطبيعة ونسق الطبيعة، والمحاضرة الثالثة تصور فكرة القرن الثامن عشر عن التاريخ، والمحاضرة الرابعة تصور فكرة القرن الثامن عشر عن الاتصال بين الحاضر والماضي والمستقبل.
अज्ञात पृष्ठ
وأما ما أحب أن أنبه القارئ إلى وجوب ملاحظته لتكون الصورة التي صورها بيكر للقرن الثامن عشر أدق - فيما أعتقد أنا - فينحصر فيما يلي:
أولا:
أن الثورة الفرنسية كانت الخاتمة الوحيدة لفكرة القرن الثامن عشر.
ثانيا:
بيان الصلة بين الثورة وفكرة القرن الثامن عشر، وعلى أي وجه فكري تم الاتصال بينهما.
ثالثا:
الصلة بين الثورة الروسية والثورة الفرنسية.
عالج بيكر أمر الثورة الفرنسية في الصفحات الأخيرة من محاضرته الرابعة دون أن يوضح إطلاقا الصلة الفكرية بين نظرية الثورة وبين حركة الاستنارة، وأحب أن أوضح أني لا أطلب منه أن يتكلم في أسباب أو في ظروف الثورة الفرنسية، فهذا شيء آخر، ليس من موضوعه، ولكني أحب أن أقول: إن من عناصر حركة الاستنارة ما يفضي إلى المحافظة أو إلى الإصلاح المعتدل أو التدريجي، كما أن منها ما يفضي حتما إلى فكرة «الثورة» أو الانقلاب، وإهمال بيان هذا هو ما آخذه على بيكر؛ فمثلا «فكرة المنفعة» أو الحكم على النظم بمقدار ما تحققه من منفعة، هذه الفكرة عرض لها بيكر عرضا موجزا دون أن يبين أنها ربما كانت الأثر الأكبر لحركة الاستنارة في إنجلترا، ويقرر بنتام رأس مذهب «المنفعيين» أنه اقتبس فكرته من هلفسيوس بالذات.
وهكذا تجد عنصرا هاما من عناصر الاستنارة يفضي لا إلى الثورة، بل إلى الإصلاح عن طريق الأدوات التشريعية القائمة.
ومثل آخر، استمدت الثورة الأمريكية من حركة الاستنارة عنصرا معينا ألا وهو العمل على حماية الفرد لأقصى حدود الحماية بتقييد سلطان الحكومة بشتى القيود، وهذا على أساس نظرية الحقوق الطبيعية للإنسان، وعلى أساس الحريات والحقوق المكتسبة للأمريكي من القانون الإنجليزي - وكان هذا القانون مما ورثه الأمريكيون عن صلتهم بإنجلترا قبل الاستقلال، وهكذا تجد عنصرا آخر من عناصر حركة الاستنارة يفضي إلى ثورة اسما، ولكن شتان ما بينها وبين الثورة الفرنسية.
अज्ञात पृष्ठ
وقد كانت نظرية «الإرادة العامة» عنصرا من عناصر حركة الاستنارة، أكسبها القوة المحدثة للانقلابات الثورة، وكان لجان جاك روسو بصفة خاصة الأثر الأكبر في تقرير هذه النظرية وبسطها.
و«الإرادة العامة» ليست إرادات الأفراد مجتمعة، وليست إرادة الأغلبية من الشعب، وليست مما يظهره تصويت وانتخاب أو مداولات مجالس نيابية أو ما إلى ذلك، بل هي قوة خفية أو هي روح، والإرادة العامة هي التي تجعل «الانسجام» الموجود في الطبيعة بالقوة موجودا بالفعل.
وعلى أساس التعبير عن «الإرادة العامة» قامت دكتاتورية اليعاقبة على اعتبار أنهم الأمناء حقا على الثورة وعلى مصالح الشعب، وأنهم الكفيلون بإنقاذ الشعب من أعدائه الداخليين والخارجيين، وعلى أساس الإرادة العامة قامت ديكتاتورية نابليون قنصلا فإمبراطورا، على اعتبار أنه أصدق تعبيرا عن تلك الإرادة العامة من الهيئات النيابية وما إليها، وعلى أساسها أيضا قامت دكتاتورية مصطفى كمال وهتلر وموسوليني، وعلى أساسها أيضا قامت دكتاتورية الكرملين من لينين إلى ستالين إلى من حل محله، وجوهر الفكرة أنها نظام انتقال تقتضيه الظروف إلى حين، وجوهر الفكرة أيضا أن التعبير عن الإرادة العامة لا يستلزم مطلقا إرضاء رغبات الشعب أو شهواته أو ميوله أو مثله العليا، فقد يحمل المعبر عن الإرادة العامة الشعب على ما يكره، وهذا طبعا لمصلحته في النهاية.
ولقد عقد كارل بيكر فقرات طريفة للاختلاف والاتفاق بين الثورة الفرنسية والثورة الروسية، والتعديل الوحيد الذي أدخله على حديثه في هذا، هو أن أضيف إليه أن الثورة الروسية - أو بعبارة أدق - الماركسية نبتت من بذور بذرت في عصر الاستنارة وعصر الثورة الفرنسية، وأن من تلك البذور ما أنبت مبكرا، ففي عصر الثورة الفرنسية كانت حركة بابيف الشيوعية، ومنها ما نبت في عقول الأفراد والجماعات في خلال القرن التاسع عشر، ومنها ما نبت في حركة الكومون في باريس في أثناء الحرب بين فرنسا وألمانيا في سنة 1870، إلا أن هذه الأشتات وهذه التيارات لقيت في كارل ماركس من ينسق ويؤلف بينها، كما لقيت في شخص لينين من يعرف كيف يخرجها في ثورة أو انقلاب.
وتحدث كارل بيكر عن علة إغفال المعاصرين للثورة الروسية للاتفاق بينها وبين الثورة الفرنسية حديثا جيدا، ولكنه لم يذكر سببا أراه جوهريا، وهو أن الثورة الفرنسية - من حيث نظريتها - اعتبرت حق الملكية الفردية من حقوق الإنسان الطبيعية، ومن حيث الواقع جرت حكومات فرنسا في عصر الثورة سواء أكانت جمهورية أم إمبراطورية على خطط العهد السابق للثورة في حماية المصالح الاقتصادية للبلاد، وقد خرجت الحكومات الفرنسية بهذا على مبدأ هام من مبادئ حركة الاستنارة، ألا وهو أن إطلاق الحرية يتيح المجال للانسجام الطبيعي ليفعل فعله من أجل الخير العام، والفرق بين الثورتين الفرنسية والروسية في هذا كله يرجع إلى التطورات الاقتصادية الخطيرة التي بدأت معاصرة للثورة الفرنسية، واستمرت تنمو إلى أن عمت العالم بأسره في خلال القرن التاسع عشر.
وقد ختم كارل بيكر الحديث كله بالتساؤل، ولا أظن أي مؤرخ يستطيع أن يفعل شيئا آخر.
13
محمد شفيق غربال
يونيو سنة 1945
كلمة المؤلف
अज्ञात पृष्ठ
يتكون هذا الكتاب من أربع محاضرات ألقيتها في كلية القانون بجامعة ييل في أواخر شهر أبريل 1931، وكان ذلك برعاية مؤسسة ستورز.
وحينما أخذت في إعداد المحاضرات للنشر، أدخلت في نصها عددا قليلا من التغييرات أغلبها لفظي، وأضفت إلى المحاضرات الثانية والثالثة والرابعة المدونة في هذا الكتاب مقتبسات معينة لم يتسع لها الوقت عند الإلقاء.
وإني أشكر كل الشكر لأعضاء هيئة التدريس والطلاب في كلية القانون، وفي قسم التاريخ بجامعة ييل احتفاءهم بي في أثناء إلقاء هذه المحاضرات.
كارل بيكر
إيثاكا، نيويورك
مايو سنة 1932
الجو الفكري في مختلف العصور
ما أيسر أن تفقد الخرافة سطوتها حين تعترض غرورنا بدلا من أن تتملقه! وشأن الخرافة في هذا شأن وهميات أخرى كثيرة.
جيتة
1
अज्ञात पृष्ठ
لي - مثل الكثيرين من الناس - آراء معينة أتمسك بها، وأومن بصوابها؛ لأنها تستند استنادا منطقيا إلى حقائق مشهورة بينة، وكثيرا ما أضيق بالصديق الحميم الذي لا يسلم لي برأي أعتز به، قد أجده يصر على الإنكار حتى بعد أن أعرض عليه جميع الحقائق المتعلقة بالرأي الذي يرفض، وحتى بعد أن أظهره المرة بعد المرة على خطوات الاستدلال المنطقي التي ينبغي لها أن تقنع أي رجل منصف معتدل، والذي يزيد في ضيقي به أنه في الغالب لا يستطيع تفنيد حجتي، ومع ذلك، ومع أنه يسلم بها رغم أنفه، فإنه يبقى متمسكا برأيه، وينتهي بي الأمر إلى أن أعتقد أن صديقي، وا أسفاه، قد ختم الله على عقله أو أغشى على بصيرته الانفعال أو الانقياد للهوى، والانسياق وراء الخيالات، فصار بهذا كله لا يبصر الحق.
وقد أغفر لصديقي الانقياد للهوى وانحرافه عن الطريق المستقيم، أفعل ذلك لأني أعرف أثر الهوى في سوء الحكم، ولأني أراها هنة هينة وخطأ كان يصح جدا أن أقع فيه أنا نفسي، لولا أن الله سلم.
والواقع أني وصاحبي هذا لسنا دائما على هذه الدرجة من الاختلاف، بل على العكس، إن آراءنا في القضايا الكبيرة جد متقاربة؛ وذلك لأننا - كما شاءت لنا المقادير - أستاذان جامعيان، اكتسبنا نفس التجارب واهتممنا بنفس الأشياء، وهو وأنا نتفق عادة على نوع الحقائق التي يصح اعتبارها مكونة لقضية ما، وعلى نوع الاستنباطات التي يصح أن تقبل التصديق، فأكثر المقدمات التي يستخدمها كلانا والعبارات التي تدور على لسانينا بحكم العادة، هي مما ألف استعماله رجال التعليم في المدارس. ومع ذلك، ومع اتفاقنا التام على الأساسيات، فقد أقضي أنا وصاحبي الليل كله نتجادل متفقين على كل شيء سوى الرأي، على حد تعبير كارليل.
وهكذا نستطيع نحن الأستاذين أن نقضي ليلة بأسرها في جدل؛ وذلك لأننا متفقان، والحال غير ذلك إن اجتمعت أنا واجتمع هو برجال لا ينتمون إلى طائفتنا؛ برجال السياسة مثلا أو برجال الدين، والذي يحدث حينئذ أن ينقطع حبل المجادلة بحكم عدم وجود الاتفاق على الأساسيات، فما يعده رجل السياسة أو رجل الدين حقيقة جوهرية، قد لا نعدها نحن كذلك، فهي - في نظرنا - مشكوك في صحتها أو في أهميتها، وعمليات الاستدلال التي نراها مؤدية إلى الاقتناع يرفضها صاحبانا بشيء من الاستخفاف والعناد، وما هي في نظرهما إلا كلام النظريين الجامعيين، وهكذا لا تكاد جلسة السهرة تبدأ إلا وقد آن لها أن تنتهي؛ لأننا لا نجد ما نصل به سير المجادلة، وكيف نستطيع أن نواصلها وصاحبانا قد أفسد عليهما التفكير ما يعانيانه من تحكم الأهواء، وما يشاطران فيه أبناء طائفتيهما من استسلام بلا وعي لأفكار ومعان يتداولها الناس دون تثبت منها، فليس قصورهما إذن ذلك الأمر السطحي، الذي يرجع إلى قصور الذات فحسب، بل هو أعمق وأعم.
على أننا جميعا رجال الجامعة ورجال السياسة ورجال الدين، ننتسب لجيل واحد، فإذا ما قدر لنا أن نلتقي ببعض شخصيات بارزة تنتمي إلى جيل سابق، ظهرت لنا بلا شك أشياء وأمور تجمعنا نحن أبناء الجيل الواحد على الرغم من شدة ما بيننا من اختلاف، فلنقف هنيهة ولنطلق لخيالنا العنان، ولنر ماذا يكون إذا ما استحضرنا لعالمنا هذا دانتي وتوماس الأكويني، كما كان يستحضر علاء الدين الجن بمس مصباحه السحري، فإذا ما استجاب القديس توماس وحضر، فلا يليق أن نضيع وقته الثمين في التحدث عن حالة الطقس وما إلى ذلك، بل ينبغي أن نبادر فنطلب إليه أن يحدد لنا فكرة القانون الطبيعي؛ إذ إن عبارة «القانون الطبيعي» كانت شائعة الاستعمال في عصره، بقدر ما هي كذلك في أيامنا، ونحن نعرف أن القديس توماس كان دائما على استعداد لأن يحدد ويعرف، وإذن فهو لا يتردد في أن يحدد لنا فكرة القانون الطبيعي على النحو التالي، فيقول:
لما كانت الموجودات كلها المشمولة بالعناية الإلهية، يحكمها ويقدرها القانون الأزلي، فبين أن للموجودات كلها نوعا من المشاركة في القانون الأزلي، وذلك أنه من حيث إنها منطبعة به فهي تستمد منه نزوعها لأفعالها وغاياتها الذاتية. هذا وأكمل الموجودات خضوعا للعناية الإلهية هو المخلوق العاقل، وذلك من حيث إن المخلوق العاقل بما له من نصيب من العناية الإلهية لا تقتصر عنايتهعلى ذاته فحسب، بل تمتد إلى غيره، ومن ثم كان له نصيب من العقل الأزلي يستمدمنه نزوعا طبيعيا لفعله وغايته الذاتيين، وهذا الإشراق من القانون الأزلي في المخلوق العاقل هو ما يسمى القانون الطبيعي.
1
وقد نفضل بعد أن نسمع هذا التحديد الموجز الدال أن ننتقل من موضوع القانون الطبيعي إلى موضوع أوثق اتصالا بشئون السياسة العملية، وليكن مثلا «جمعية الأمم»، وهو موضوع كتب فيه دانتي طويلا، وإن كان قد سمى كتابه «في الملوكية»، ودانتي من أنصار جمعية الأمم، إن صح القول، وينتصر لها بالحجة التالية:
الجنس البشري كل بالنسبة إلى أجزاء معينة، وهو جزء بالنسبة إلى كل معين، فهو كل بالنسبة إلى ممالك معينة وشعوب معينة، كما سبق لنا القول، وهو جزء بالنسبة إلى العالم كله، وهذا بين بذاته، وإذن، فعلى النحو الذي تقابل به الأجزاء البشرية الجنس البشري باعتباره كلا يكون مقابلة الجنس البشري للكل الذي هو جزء منه، ومما سبق لنا بيانه يسهل علينا أن نرى أن مقابلة أجزاء الجنس البشري للجنس البشري باعتباره كلا تتم باتباع مبدأ واحد، ألا وهو أن تخضع لحكومة ملك واحد، فإذا ما حدث ذلك قابل الجنس البشري العالم الذي هو جزء منه، والعالم يحكمه ملك واحد، هو الله، فالمبدأ في الحالتين واحد، هو حكومة الملك الواحد، ونستدل بهذا على أن الملوكية، أو ما نسميه نحن جمعية الأمم، ضرورية للعالم من أجل صلاح حاله.
2
अज्ञात पृष्ठ
على أنه بعد أن يلقي دانتي بيانه هذا يتعثر سير المجادلة؛ إذ بماذا نستطيع أن نرد على حججه، أو على حجج القديس توماس؟ وهما قالا ومهما قلت فلا سبيل إلى أن أرى أنا أو يريا هما أننا نتكلم في الموضوع، وقد يشكل الأمر علينا فلا يسهل على واحد منا أن يتبين موقفه من المجادلة بالضبط، ولكنني أستطيع أن أتأكد على كل حال من أمر واحد، هو أن الرجلين يستعملان أسلوبا واحدا لإحاطة الموضوع بالغموض، وإذا ما أدركت هذا كله فإني أدفع نفسي وأحملها على حسن الظن، فألتمس لضيفي الجليلين عذرا، وأقول: إنهما ليسا هذه المرة على ما ينبغي لهما أن يكونا عليه من حسن التوفيق، ثم بعد ذلك أتمتم معتذرا أنهما لا يقدمان حججا بل هراء، ويصح جدا أن يكون الأمر كذلك، بل من المؤكد أنه بالنسبة لعقول الناس في أيامنا هذه هو ذلك، فلا يقدم عاقل في زمننا على أن يعيد طبع كتاب الملوكية للدعوة لتأييد جمعية الأمم، ومع ذلك فإني لا أستطيع أن أخفي عن نفسي أن دانتي والقديس توماس لم يكونا عديمي الذكاء، وكيف أظنهما كذلك، وقد شهدت لهما الأجيال المتعاقبة بأنهما كانا حقا من صفوة الخلق، وإذا كانا يتحدثان حديثا غير مفهوم، فلا يرجع ذلك إلى قلة الفهم من جانبهما، فإنهما كانا - على أقل تقدير - على تلك الدرجة من الفهم ومن العلم التي ننسبها لأولئك الذين تحدثوا في زماننا في موضوع جمعية الأمم، لها أو عليها، فهما - مثلا - لا يقلان ذكاء عن كليمنصو ولا يقلان علما عن ويلسون.
3
فكيف إذن نفسر الإشكال؟ قد ييسر لنا تفسيره أن نتذكر العبارة التي اقتبسها الأستاذ وايتهد
4
من أدب القرن السابع عشر، فذاع أمرها من جديد، وهي «الجو الفكري».
هذه عبارة لازمة جدا، ومؤداها أن ما تملكه حجة ما من قوة الإقناع أو عدمه لا يتوقف على المنطق الذي تعرض به بقدر ما يتوقف على الجو الفكري الذي تجد فيه قوام حياتها، وعلى ذلك فإن الذي يجعل حجج دانتي أو تحديدات القديس توماس عديمة المعنى في نظرنا، ليس سوء الاستدلال أو سقم الفهم، إنما هو كونها تنسب للجو الفكري الذي ساد العصور الوسطى، أو بعبارة أخرى، كونها ترتبط بأفكار فطرية معينة، وبنسق عالمي تصوري خاص، وهذا كله فرض على دانتي وعلى القديس توماس استعمالا خاصا للفهم، واستعمالا خاصا لنوع من المنطق، فإذا أردنا إذن أن نعرف علة عجزنا عن متابعة الرجلين في حججهما يلزمنا أن نفهم بالقدر الذي نستطيع طبيعة الجو الفكري في العصور الوسطى، فأقول:
من المعلوم تماما أن نسق العالم الذي عرفته العصور الوسطى له مصدران، منطق اليونان والتاريخ كما روته الكتب المقدسة النصرانية، ومعلوم أن الكنيسة هي التي تولت تشكيل ذلك النسق؛ إذ كانت هي الهيئة التي فرضت سلطانها خلال تلك العصور على المجتمع الأوروبي الغربي النازع إلى الفوضى والتفكك، وليس مما يصعب علينا أن نصف الجو الفكري إذ ذاك. لا يصعب ذلك؛ لأن العقل الحديث يجيد الملاحظة بما طبع عليه من حب الاستطلاع، كما يجيد العناية بدقة الوصف، ولكنه إذ يسجل ويصف لا يستطيع أن يحيا في جو العصور الوسطى، ومما كان يوقن به الناس إذ ذاك إيقانا لا يتطرق إليه الشك، أن الله الأب خلق العالم، بما فيه الإنسان، في ستة أيام، وأن الله عقل خير أحاط بكل شيء علما، وأنه خلق كل شيء لغاية، وإن كانت لا تدرك، وأنه خلق الإنسان كاملا، ولكنه عصى ربه فهوى من نعمته ورضاه إلى الإثم والضلال، واستحق بذلك المقت الأزلي، إلا أن الله أتاح له سبيل التفكير والنجاة بأن ضحى ابنه الوحيد بنفسه تقربا وزلفى، وبينما الإنسان في ذاته عاجز عن أن يتقي جزاءه العادل من غضب الله، إلا أن الله رحمة منه بعبده فتح للإنسان باب مغفرة الإثم والضلالة، إن هو تواضع وخضع لمشيئة ربه، وما الحياة الدنيا إلا طريق المغفرة، يمتحن الله فيها مخلوقاته، وعندما يأتي أمر الله، تكون نهاية الدنيا ويبيد العالم لهبا، وعندئذ يكون يوم الفصل، فأما العاصون المتمردون فيعذبون العذاب الأبدي، وأما المخلصون فيحظون بلقاء ربهم في جنة الخلد حيث الكمال والسعادة السرمديان.
فكانت الحياة، كما تصوروها في العصور الوسطى «دراما» تامة السبك، تدور حول فكرة رئيسية، ومسرحها الكون، صدرت عن مؤلف مهيمن، محيط، وتجري أحداثها ووقائعها طبقا لخطة معقولة، والدراما كاملة في عقل المؤلف قبل أن يخرجها بالفعل، مسطرة من قبل بدء الخلق لآخر حرف من حروف آخر كلمة تقع عند انتهاء الزمان، ولا يتطرق إليها تغيير ما، لا للخير ولا للشر، وليس للإنسان إلا أن يحاول فهم الحكمة أو العلة أو الغاية الإلهية بالقدر الذي يستطيع، ولكن لا سبيل له إلى تفادي واقعة من الوقائع أو حادثة من الأحداث جرى بها القضاء، إلى أن يحين الأجل المسمى، وواجب الإنسان جلي، هو أولا التسليم بأحكام القضاء؛ إذ هو لا يملك لها دفعا أو تبديلا، وهو ثانيا، أن يقوم بنصيبه في هذه الدراما الكونية العظمى، وهنا السؤال: كيف يتيسر له إحسان الأداء على الوجه الذي أراده المؤلف؟ لكي يتيسر له ذلك، تتولى السلطتان الخاضعتان لله والمستمدتان من مشيئته السلطان الشرعي على عباده - وهما الكنيسة والدولة - إلانة قلب الإنسان واجتذابه للخضوع الذي ينبغي للعبد، وتلقينه ما يلزمه لأداء العمل الذي قسم له، وهذه الغاية هي سر إقامة الكنيسة والدولة، ولا ينبغي بحال أن نتصور الحياة أمرا آليا، على الضد، لقد منح الله الناس نعمة العقل، وأوجب عليهم أن يستعملوه، ولكن كيف يستعملونه، ينبغي أن يكون ذلك في حدود، وأن يجري في نظام، فمثلا من العبث أن يستطلع العقل أصل الحياة أو نهايتها، ومن العبث ذلك؛ لأن الله قد عين الأصل والنهاية على النحو الذي أراد، ثم إنه أوحى إلى رسله ما شاء لنا أن نعرف عنهما، ومن العبث أيضا، بل ومن العصيان، أن يحاول العقل معرفة غاية الحياة، فالله وحده هو الذي يعرفها، وبعد فما هو عمل العقل؟ هو أن يبين للناس العلم الصادق الذي أطلعهم عليه الوحي الإلهي، وأن يوفق بين الأحداث والوقائع المتنوعة المتنافرة المعلومة لهم بالخبرة العملية، وبين النسق العقلي للعالم المسلم به بالإيمان.
هذه كانت مهمة العقل في جو العصور الوسطى، وكانت المهمة عظيمة، شحذت القوى العقلية، فانطبع تفكير أفضل رجال تلك العصور بطابع عقلي تام، وأنا أعرف أنني حينما أقول هذا أخالف ما جرى عليه العرف الشائع، أعرف أن العرف جرى بتسمية القرن الثالث عشر عصر الإيمان، تمييزا له بهذا الوصف عن القرن الثامن عشر، الذي نسبوا إليه أنه كان قبل كل شيء عصر العقل، والتمييز إلى حد ما صحيح، فإن كلمة «عقل» تفيد كغيرها من الكلمات أكثر من معنى، فدلت في الاستعمال الشائع على «غير المؤمن» أو «الملحد» الذي يكفر بالنصرانية، ويرجع ذلك إلى أن الكتاب في القرن الثامن عشر استعملوا حججا عقلية لإثبات بطلان العقيدة المسيحية، وبهذا المعنى الشائع كان فولتير - مثلا - رجل عقل، والقديس توماس رجل إيمان، ولكن هذا الاستخدام لكلمة «عقل» سقيم لسبب بين، فالعقل قد يستخدم لدعم الإيمان كما يستخدم لهدمه، والواقع أن بين فولتير والقديس توماس - على عظم ما بينهما من فوارق - اتفاقا تاما على أن معتقداتهما يمكنهما إثبات صحتها عقليا، ويصح لنا إذن أن نقول: إن القرن الثامن عشر كان عصر إيمان، كما كان أيضا عصر عقل، وإن القرن الثالث عشر كان عصر عقل، كما كان أيضا عصر إيمان.
وليس في هذا القول تناقض، فكثيرا ما يجمع الإنسان بين حرارة الإيمان واستخدام الحجج العقلية استخدام الخبير بأساليبها، وفيما عدا البسطاء من العامة والمتصوفة الجديرين بهذا الوصف - فإن معظم الناس - بما فيهم أولئك الأذكياء الذين يوقنون يقينا خالصا حارا بالله في ملكوته وبأن الدنيا بخير - يشعرون بالحاجة إلى تبرير إيمانهم بحجج معقولة كافية، ويزداد إحساسهم بتلك الحاجة إذا ما بدأت بعض الشكوك تساورهم وتزعجهم، ولعل هذا يفسر لم استمسك المفكرون في عصر دانتي بالاستدلالات العقلية استمساك المستميت، لم يكن ذلك لأن العقيدة كانت قد اختل نظامها وانتثر عقدها، بل كان ذلك لأن أقدر المؤمنين أخذوا يشعرون بأنه لا يكفيها أن تستند إلى العواطف الدينية الغريزية فقط، فبدا لهم أن لا بد لهم من برهان عقلي حاسم، لا يغفل شيئا ما ولا يتهرب من صعوبة ما، وإذا شئنا أن نوضح ما ذهبنا إليه بالاستشهاد بالقديس توماس قلنا: إن الذي دعا ذلك القديس للبحث عن برهان عقلي قاطع على أن العالم نظام إلهي حكيم هو بالضبط إيمانه بأن العالم نظام إلهي حكيم، وإذن فلا يمكن للقديس توماس أن يجري على لسانه القول المأثور عن ترتوليان: «إني أومن بما يحسبه العقل سخيفا.» ولكنه - أي توماس - كان يمكنه أن يقول ما قاله القديس أنسلم: «إني أومن لكي أعلم.» وله أن يضيف إلى عبارة أنسلم: «ولشد ما يحزنني ألا أستطيع التدليل بالعقل على ما أعلم.»
अज्ञात पृष्ठ
5
والتوفيق بين الوقائع والأحداث المتنوعة المتنافرة، وكون العالم نسقا عقليا جد عسير، فما بالك إذا كانت تجارب الإنسان محدودة وأفق علمه غير متسع، كما هو الحال في العصور الوسطى، إن التوفيق حينئذ يكون أمرا مستحيلا، اللهم إلا إذا استطاع المنطق أن يسلم بالنزعات العاطفية التي لا يعرفها العقل، ولم يخيب المنطق رجاء أهل عصر دانتي فيه، ولكن لكي يحققوا ذلك؛ كان واجبهم الأول أن يضعوا قواعد دقيقة للجدل، بيد أن هذا كان أقل صعوباتهم؛ إذ ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم رغم استعانتهم بمنطق أرسطو عاجزين أحيانا عن أن ينظموا في سلك المقولات الأنيقة التي يقررها الدين ذلك النوع من الحقائق الذي وصفه وليم جيمس بكونه
6
غير ذلول لا يقبل أي ترويض، فكانوا مضطرين إذا اشتدت بهم الحال إلى البحث عما يمكن أن يكون وراء ظاهر آيات الكتاب المقدس من معان خفية، واستعانوا على استخراجها بالتأويل الرمزي، وعبروا عن هذا في قاعدة مشهورة من قواعد التعليم وضعها «المدرسيون» هي: ظاهر النص يضبط ما نعلم، والتأويل الرمزي يكشف عما نرجو أن نعلم، والأمثال تدعم العقيدة، والمواعظ تشكل السلوك.
وهكذا أمكن للقرن الثالث عشر - بفضل ما استخدم من جدل دقيق للغاية، يشد أزره أحيانا تأويل رمزي - أن يظهر الإنسان على عجائب صنع الله، وكان محور فكرة الحياة الإنسانية: كيف هبط الإنسان من الجنة ففقدها، وكيف أتيح له أن يعود، فيستحقها، ولجلاء هذه الفكرة اتجهت أفضل العقول في ذلك العصر، فكان شرح تاريخ الإنسانية من عمل رجال اللاهوت، والتوفيق بين الطبيعة والتاريخ وتنسيق ما بينهما في نسق عقلي من عمل رجال الفلسفة، وما يلزم اللاهوت والفلسفة من أساليب البحث والمناهج يقدمه المنطق، وأثمر اللاهوت والفلسفة والمنطق مؤلفات عديدة منها «الخلاصة اللاهوتية» للقديس توماس، ويصح أن يقال عنها قطعا: إنها من أعجب وأضخم ما أنتج عقل الإنسان، ولم ير التاريخ مؤلفا مثيلا لها فيما سبقها، ولا فيما لحقها، أحاط بالعالم الواسع إحاطة تامة على هذا النحو الأنيق من الفهم الدقيق المطمئن، وفي الخلاصة اللاهوتية تستقر كل جزيئة في مكانها اللائق بها بلطف الصانع الحاذق ودقته، بحيث يتركب منها ومن أخواتها نسق كامل متماسك مقنع للناظرين.
أراني قد طال مكثي وإياكم في جو العصور الوسطى، وإن طال أكثر من هذا قد تكون العاقبة وخيمة، فلننزل من قمم القرن الثالث عشر إلى منخفضات القرن العشرين، حيث يوجد جو أثقل مما كنا فيه في عل، جو يثقله ما يزخر به من حقائق، فنجد فيه تنفسنا أيسر وأقل نصبا.
2
وبعد فأي معنى نستطيع نحن أن نستخرج، وإلى أي رأي نستطيع نحن أن ننتهي - نحن رجال العلم ورجال التاريخ ورجال الفلسفة في القرن العشرين - من ذلك المركب من اللاهوت والتاريخ ومن الفلسفة والعلم، ومن الجدل ومناهج البحث الذي صنعه رجال القرن الثالث عشر؟ إننا نستطيع دون شك أن نقرأ كلمة كلمة ما احتوته المجلدات الثقيلة المتراصة صفا صفا من أمثال «الخلاصة» وما إليها من مؤلفات تعنى بحفظها دور الكتب، نستطيع حقا أن نقرأها، بل إن أساليبنا الدراسية توجب علينا ذلك، ومن المؤكد أننا سنبذل قطعا في فهمها ما نملك من تدقيق وجهد، بيد أننا - مهما حاولنا - لن نستطيع أن نزعم لأنفسنا أننا نهتم حقيقة بما لها أو عليها من الحجج، وقد تبعث فينا قراءة تلك النصوص شيئا من العجب والإعجاب، بما تجلى فيها من كلف لا يفتر وصبر لا حد له، وتفنن وفطنة عديمي المثال، وإن كنا في زمان قل فيه أن يستولي علينا تعجب ما، فقد أصبح كل شيء معروفا لدينا مألوفا عندنا، وقد نستطيع أيضا أن نفهم تلك النصوص بحيث يمكننا أن نعيد صياغتها في عبارات زماننا، وإن بدت الصياغة سيئة الصنعة، قد نقرأ وقد نتعجب وقد نفهم، ولكن الشيء الذي نعجز عن فعله هو أن نقابل حجج القديس توماس بحجج من نوعها، إننا في الواقع عاجزون عن قبولها وعن تفنيدها، بل لا يخطر ببالنا أن نقوم بالجهد الذي يقتضيه القبول أو الرفض؛ وهذا لأننا نشعر بالغريزة أن الجو الذي نمت فيه آراء القديس وترعرعت هو بالنسبة لنا جو خانق، نحاول فيه التنفس ونكاد ألا نستطيعه، وموقفنا من استدلالاته لا علاقة له بكونها صحيحة أو باطلة، فليست في نظرنا هذا أو ذاك، ولكنها - لا أكثر ولا أقل - غير ذات موضوع، وقد صارت كذلك؛ لأن النسق العالمي الذي استخدمت في تأليفه لا يثير فينا ما يحرك الوجدان أو الشعور بالجمال؛ ولذا صرنا لا نستجيب له.
فالناس في زماننا الحاضر يستحيل عليهم - مهما حاولوا - أن يتصوروا الحياة «دراما» إلهية أولها معروف وآخرها معروف، ومغزاها قد بان واستبان وانتهى الأمر، ولا مناص لنا - سواء أحببنا أم كرهنا - من أن نعتبر العالم في تغير متصل معقد لا ينقطع ولا يهمد، تتلاشى فيه الأشياء وتتجدد؛ ولذلك فالأشياء والمبادئ التي تصدر عنها الأشياء ليست إلا أحوالا «عارضة أو أشكالا زائلة»، أو «نتائج تترتب على اجتماع قوى» لا تلبث حتى تتفرق وتأخذ كل منها وجهتها، وإذا سألنا كيف بدأ هذا التغيير، قلنا إن مبدأه يحجبه غمام كثيف لا ينفذ خلاله بصر أو بصيرة، وإذا سألنا كيف ينتهي، قيل إن النهاية أمرها أكثر وضوحا من البداية، وإن كانت ليست مما يفتن أو يجذب إليه القلوب أو الآمال، وهاك ما تصوره ج. ه. جينز:
كل ما في الكون يدل دلالة لا سبيل إلى تجاهلها على حدوث خلق بفعل واحد معين أو بأفعال متصلة، وأن هذا وقع في زمن أو في أزمنة بعيدة عنا حقا، وإن كان بعدها لا يوصف بأنه لا متناه، ومعنى هذا أن الكون لم يتولد اتفاقا من عناصره الحالية، كما أنه لم يكن على الدوام في الحال التي هو عليها الآن؛ وذلك لأن التولد الاتفاقي من جهة وعدم التغيير من جهة أخرى يقتضيان ألا تنجو من الفناء إلا تلك الذرات التي لا تقبل التلاشي إشعاعا، وبعبارة أخرى يقتضيان انعدام ضوء الشمس وضوء النجوم، على ما هما عليه، وألا يكون حينذاك إلا بريق نور إشعاعي بارد منتشر في الفضاء انتشارا متساويا، وهذا - في الواقع - هو صورة النهاية التي يتصور العلم في طوره الراهن أن الخليقة تسير نحوها، وأنها لا بد بالغتها وإن طال السفر.
अज्ञात पृष्ठ