मदीना फ़ादिला
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
शैलियों
والحياة البشرية في صورتها اليونانية الرومانية تبدو كأنها ملحمة حقيقية أساسها أن الحياة البشرية يتحكم فيها قضاء جبار لا تفلت منه أبدا، ولكن الملحمة كانت بلا خاتمة سعيدة أو بلا خاتمة بالمرة، وهذا سر ضعفها، فإذا جاز للنفس العاقلة أن تتسلى عند الأربعين وبعد اختراقها الزمان اللا متناهي بالعلم بأن لا جديد تحت الشمس، وأن لن يكون جديد تحتها أبدا، فإن بني الإنسان عموما لا يقنعهم هذا الأجر الهزيل، وكيف يرضون به أجرا؟ ألا يحق لهم وحياتهم على ما هي عليه من قصر وخشونة وضنك وخوف أن يتطلعوا إلى ما يعوضهم عن الشقاء الذي منوا به في الحياة الدنيا؟ ألا يحق لهم أن ينعموا، ولو بالرجاء والأمل فيما هو خير فيما بعد؟ أجل كان لا بد من أن يكون للمسيحية خاتمة سعيدة، وهذه وجدوها في الصورة المسيحية للحياة الإنسانية، ولا بدع في ذلك، فرسالة المسيحية كانت للمعذبين والمحرومين ومن إليهم من عامة الخلق، والمسيحية لم تزعم أن حياة الإنسان في الحاضر أقل شقاء مما هي، أو أقل خيرا مما هي، ولكنها جعلتها أيسر فهما وأجمل تأويلا، وسقوط الإنسان إذا ما نسب إلى عصيان الإنسان أمر ربه كان تعليله مقبولا، والبأساء والضراء والعذاب في سبيل الله يحتملها الإنسان صابرا، بل تتبدل أنعما إذا ما اعتبرت جزاء وفاقا، أو تكفيرا ثوابه النعيم السرمدي في الجنة، ومحت المسيحية عالما بائسا عاجزا ليس فيه من جديد أبدا، وأقامت مقامه عالم الأمل والرجاء، ووعدت الإنسانية عصرا ذهبيا مستقبلا بدلا من حلمها بآخر كان في زمان قد انقضى، فيتكفل المستقبل بذلك بإنصاف الإنسانية من حاضرها، ولم يكلف الدين الناس، لكي يستحقوا هذا شططا ، ولم يقتض منهم لكي يدخلوا الجنة الموعودة سوى أن يكونوا راضين بقضاء الله طائعين، وما ذلك على الناس عامة بعسير.
وملك هذا التأويل على الناس لبهم، وتعليل هذا يسير، فإننا مهما بحثنا لن نجد تأويلا أكبر اتفاقا منه مع ما يدل عليه واقع التجارب الإنسانية أو أعظم استجابة منه لدواعي الرجاء في صدور الناس، وبعد فما الذي تدل عليه تجارب الفرد من بني الإنسان؟ إنها تدل على حاضر يتعرض فيه الإنسان لأنواع شتى من البلاء والنوائب، وعلى شباب مضى تداعب الفؤاد ذكريات هنائه أو على الأقل هنائه المتوهم، أو على شيخوخة آمنة هادئة يتطلع إليها الرجاء، أليست هذه أدوار الحياة كما يمر فيها بنو الإنسان عموما؟ وجاءت المسيحية، فجعلتها أطوار التاريخ الإنساني، فللبشرية شبابها ونعيمها في جنة عدن تحلم به، وللبشرية حاضرها من الشقاء تعانيه، وللبشرية الأمن في المستقبل ترجوه، أمور جليلة لا غموض فيها ولا إبهام، ولا يقتضي فهمها من أي إنسان أن يفقه علما لاهوتيا، ثم هي لا يقدر الإنسان على فهمها فحسب، بل يقبل عليها ويرحب بها؛ إذ هي تكسب وجوده في الدنيا قدرا وقيمة ومعنى، فيرى أن وجوده على ضآلته وضيقه وعمقه أخرط وأجل في حقيقته منه في مظهره، وأنه جرم صغير، ولكن يتمثل فيه العالم الأكبر، يتمثل فيه جميع ما قضى به الله بالنسبة للخلق كافة، وأخرى أحبوها، أنه ستكون هناك خاتمة، وأن الله سيقضي بينهم، وأنه سيكون حساب، وأن الأشرار سيعاقبون والأخيار سيثابون، وملأ الإيمان باليوم الآخر القلوب، وزكاه في كل قلب ما ذكر وما شاهد من صنوف البغي وما عانى من ظلم، وصحب الإيمان الرجاء في أنه سيلحق بالصالحين ويدخله الله دار المقام الأمين، دارا لا عوج فيها ولا أمتا.
هذا؛ وإن نحن نظرنا للتأويل نظرا سطحيا، فاعتبرناه رواية أحداث تخضع لأصول النقد التاريخي الحديث، ما انطبق عليها هذا، وإن حاول تطبيقها طبقات المفسرين والنقاد، وقد أضافوا إلى محاولة تطبيق الأصول الحقائق التي جمعها العلماء عن أحوال العالم اليوناني الروماني وتاريخ نشأة الكنيسة وأحوال الشعوب البدائية والشعوب غير المسيحية، مما أدى إلى إضعاف ثقتهم بالتأويل المسيحي باعتباره عرضا تاريخيا، وأدى هذا أيضا إلى حركة أخرى، وهي الحركة التي بدأها الإنسانيون منذ القرن الخامس عشر أو فيما قبله، وذلك أن هؤلاء وقد بهرتهم حضارة العالم اليوناني الروماني عندما كشفوا عنه الغطاء، جعلوا منها ذلك العصر الذهبي للإنسانية الذي عينته العصور المسيحية في جنة عدن، وهكذا فعل الإنسانيون ما فعل اللاهوتيون النصارى حينما جعلوا عصرهم الذهبي جنة عدن بدلا من ذلك العصر الذهبي الذي تخيله اليونان، وكان أمرا مفهوما أن يولي الإنسانيون وجوههم نحو العالم القديم، وأن يتتلمذوا لليونان والرومان وأن يتعلموا منهم كل ما علموه، بل أن يعدوهم أفضل ما أخرجت البشرية من مثل تحتذى، وعودتهم هذه تأتيهم بالعتاد الذي يلزمهم لمهاجمة عدوهم؛ إذ هي تمكنهم من الاطلاع اطلاعا صحيحا على نشأة الرواية المسيحية، وتظهرهم على «العلم» الجاف الممل الذي نما حولها خلال العصور، وتكاثف عليها حتى أخفى حقيقة معناها، ولكن هل يكفيهم هذا لكي ينالوا من عدوهم؟ إن قوة الرواية المسيحية وصلابتها منفصلتان عن الأحداث التاريخية لا تتوقفان عليها، والنقد التاريخي مهما بلغ لن ينال منها، وكان سر قوة الرواية المسيحية أنها أعلنت للناس بما لها من سلطان (ولا يهم في هذا إن كان الإعلان صادقا أو غير ذلك) أن حياة الإنسان لها معنى وغاية، وأن دلالتها تتعدى حياة الفرد إلى الوجود كله، تتجاوزها لتشمل كل ما يعرض لها وما تكسبه في الزمان، سر قوتها الباقية أبدا هو في هذا، في إشراق الرجاء من خلال التشاؤم، في إطلاق عقل الإنسان من ربقة الأكوار التي عقدتها الفلسفة القديمة حوله، في إحلالها - حينما نقلت العصر الذهبي من الماضي للمستقبل - فكرة مستبشرة عن مصير الإنسانية محل أخرى قانطة؛ وهكذا يتبين لك أن مهاجمة الإنسانيين للرواية المسيحية بسلاح التاريخ، كان لا غناء فيه اللهم إلا لافتتاح المعركة.
وكان هذا ما لاحظه فلاسفة القرن الثامن عشر، لاحظوا أنهم قد يقولون في جنة عدن ما يشاءون، وقد يقصون سيرة الإنسان وبدء الخليقة على الوجه الذي يعتقدون، وقد يعدون التنزيل الصحيح ما قرءوه في كتاب الطبيعة لا في الأسفار المقدسة، وقد يذهبون إلى أن سلطان العقل يؤيده الإجماع الإنساني كما هو مسطر في التاريخ أكثر عصمة من سلطان الكنيسة والدولة، قد يفعلون هذا كله، ولكنهم لا يلبثون أن يجدوا المعركة لا تزال في مبتدئها، وأن النهاية لا تزال جد بعيدة، وأن أي عودة للماضي يدعون الناس إليها وأي إحياء يتولونه للفلسفة القديمة مهما طلوها بطلاء من المثالية والإنسانية، وأن عبادة الأسلاف الذين بادوا، وأن محاكاة الإغريق في نشأتهم تلك المحاكاة الباردة، أن لا شيء من هذه يقنع ويرضي، ويكفي الناس بعد أن علمتهم المسيحية أجيالا فأحسنت تعليمهم أن يتطلعوا إلى عالم أفضل، فحق على الفلاسفة إذن أن يتولوا إنشاء عالم أفضل، ولكن من طراز آخر، وأن يدلوا الناس على سبيل آخر للنجاة ولبلوغ الكمال، وإن هم لم يفعلوا ذلك، فإن دين الإنسانية سيظل يدعو الناس ولا من مجيب، وهذا العالم الأفضل، وهذه الجنة الجديدة يجب أن تكون في حيز الدنيا نفسها؛ لأن مما قررته عقيدة الفلاسفة أن غاية الحياة تلتمس في الحياة ذاتها، في حياة دنيوية أفضل وفي المستقبل؛ لأن الحياة الدنيوية الحاضرة لا تزال بعيدة عن الكمال، ثم تعين عليهم شيء آخر، تعين عليهم بعد أن ظنوا أنهم هدموا جنة السموات ليعيدوا بناءها في الأرض، أن يعلنوا أن الإنسان لن ينجو بفعل قوة مفارقة خارقة، مقلبة للأشياء رأسا على عقب، «من قبيل قوة إله أو ملك فيلسوف»، وإنما ينجو بجهده ومجاهدته وبما تبذله الأجيال المتعاقبة في سبيل الإصلاح المطرد، وللخلف نصيب في هذا الجهد المشترك؛ إذ عليه أن يكمل ما شرع فيه الغابر والحاضر، ويعبر عن هذا شاتلو بقوله: «لقد صار إعجابنا بالسلف أقل مما كان، بينما زاد حبنا لمعاصرينا ورجاؤنا الخير في خلفنا.»
4
فكأنهم استغنوا بإشراك الخلف عن جنة المسيحية وعن عصر القدماء الذهبي، واستبدلوا حب الإنسانية بحب الله، وقابلية الإنسان للمجاهدة للكمال المطلق بفداء إنسان واحد الإنسانية جمعاء ، ورجاء خلود الذكر لدى الخلف بالخلود في الدار الآخرة.
2
وقد شعر فريق من الأدباء العظام بأن للخلف نصيبا في بناء الحاضر قد يدعى لأدائه، ويرجع هذا الشعور إلى ما قبل القرن الثامن عشر بزمن بعيد، إلا أنه كان في مبدأ أمره شعورا غامضا، من ذلك ما لاحظه سنكا من أنه سيأتي يوم يعجب فيه الخلف من جهلنا أشياء معلومة له حق العلم.
5
ودانتي في أوج العصور الوسطى يفتتح كتابه «دي موناركيا» بجملة لعلها تضمنت أكثر مما يقصد؛ إذ هي تضمنت في حقيقة الأمر وجهة نظر القرن الثامن عشر في موضوع السلف والخلف بتمامها، قال دانتي: «يجب على من طبعتهم الطبيعة العليا على حب الحق أن يشتغلوا - على وجه الخصوص - بالعمل من أجل الخلف، وهذا لكي تغتني الأجيال المقبلة بفضل جهودهم كما اغتنوا هم بفضل جهود من سبقهم.»
अज्ञात पृष्ठ