मदीना फ़ादिला
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
शैलियों
ولا بد أن كان لكل واحد منهم عذره الخاص في تخليه عن المعبود، ففيما يختص بفرانكلين مثلا نعرف عنه أنه لما حطته الأسفار في إبان الشباب في مدينة لندن، نشر رسالة الحادية، ثم ندم فيما بعد على هذه الفعلة من غرور الشباب وتطاوله، ولم يكتف بالندم، بل اعتقد أنه قد فض الموضوع الخطير الذي أثاره في رسالته حينما قال عرضا إن النظرية الآلية للكون قد تكون صحيحة، ولكن الأخذ بها ليس في المصلحة، وهذا حق، فإن الاعتقاد بها والكتابة عنها ليسا بلا شك في مصلحة فرانكلين، وقد استقر في مدينة فيلادلفيا طباعا ذا اعتبار ومواطنا مشتغلا بالسياسة، أو عندما ذاع صيته مناضلا عن حرية بلاده لدى بلاط سانت جيمس، ونحن نعلم فيما يختص بهيوم - وهذا مثل آخر - أنه استنفد جميع الوسائل الجدلية المؤدية للمعرفة، وأنه لم يطمئن تمام الاطمئنان إلى أن النتائج التي حصل عليها تقوم على أساس مكين، ونعلم أيضا أن الرجل كان يحس بوحدة في مقره بعيدا عن مراكز الحركة السياسية والفكرية، وأنه كان يصبو إلى احتفاء الناس به، ونعلم أن كتبه الفلسفية خيبت رجاءه، فهي من جهة لم تلق رواجا، وهي من الجهة الأخرى لم تلق من أصدقائه حسن القبول، وقد قال له صديقه هتشنسون عنها قولا صريحا، وصفها بأنها باردة لا تسري فيها حرارة الانتصار للفضيلة، والانتصار للفضيلة هو ما يقدره الأخيار في المؤلفين،
9
وكان آخر شيء يوده هيوم لنفسه أن يعتبره الناس رجلا بارد الطبع، لا هم له إلا تبديد الأوهام وإثارة الشكوك والشبهات، بل كان يفضل أن يشتهر بالانتصار للفضيلة على شهرته كاتبا جيد الذوق، ولما وجد أن مؤلفه في التاريخ نال من إقبال الجمهور الشهرة التي كان تواقا لها، زاده هذا يقينا بأن من العبث أن ينبش الباحث حنايا الطبيعة التي قد ينتشر منها الأذى فيما حولها، من أجل هذه الأسباب - بلا شك - أخفى هيوم كتاب «المحاورات»، وثم سبب آخر هو أن معاصريه لو أتيح لهم أن يطلعوا على الكتاب لوجدوا هيوم ينتهي من استدلاله الرائع حقا إلى نتيجة محيرة للب غير متوقعة، ومؤداها هدم نظرية الدين الطبيعي من أساسها.
وقد أوجز هذه الخاتمة في قوله:
إن أي إنسان ملم بقصور العقل الطبيعي يندفع متلهفا متشوقا نحو الدين المنزل.
وهيوم لم يفعل ذلك تماما، فلم يندفع نحو الدين المنزل، ولكنه رفض أن ينشر الكتاب وكان حريصا ألا يخل - في العلانية على الأقل - بواجب التأدب الدقيق نحو موجد الكون.
وفولتير؟ ماذا عنه، كان أخشى ما يخشاه أن يظنه الناس مخدوعا؛ ولذا كان حريصا أن يجعلنا نعرف - تلميحا - أنه مدرك تماما لتلك الأحكام المخطوطة على الجدران، يشير إليها المعبود بإصبعه، يدرك أنه يشير إلى أن لا إله، ولكن لا يهمه إن كان هذا حقا أو باطلا في ذاته، أما الذي يهم حقيقة، فهو أن نصدق بوجوده، فهذا أمر لا بد منه للناس ولعامتهم على وجه الخصوص، فالعامة لن تحصل أبدا على القدرة من الاستنارة الذي يمكنها من أن تفهم أن الطبيعة - على عماها - إن هي جادت بفولتير وأمثاله من وقت لآخر، فإنها بهذا محسنة إلى البشرية خيرة، ولا لزوم في رأيه لأن يشغل الفلاسفة أنفسهم بحل ما هو غير قابل للحل، فليدعوا هذا لسبيله، وليعملوا فيما ينبغي لهم وفيما لهم به طاقة، وللفيلسوف حرثه إن هو انصرف إلى تعهده - وأخلق به هذا - آتى أكله، وعلى الفيلسوف أن يستيقن من أنه سيجد متعة أيما متعة - كما وجد فولتير نفسه - في اجتثاث ما قد ينبت فيه من خبيث النبات.
وأما ديدرو فكان له شأن آخر، أكثر متعة وأجدر بالدرس، يحشره الرأي الشائع في زمرة الملحدين، والظاهر أنه كان كذلك على الرغم من أنفه، وظاهر أيضا أن رأيه في نفسه لم يكن قاطعا كما قطع الرأي الشائع حقيقة من مؤلفاته ما يشهد عليه بالإلحاد، فكان له - كما كان لهيوم - مصنفات (مثل كتابه الفسيولوجيا ورسالته الحديث بين فيلسوف وماريشاله)
10
ذهب فيها إلى أن العالم نظام آلي، وأن الإنسان حدث اتفاقا محضا، وأن النفس لا توجد مفارقة للجسد، وأن إرادة الخير لا تعدو أن تكون آخر ما تبعثه الشهوة أو الكراهية، وأن الإثم والفضيلة مجرد لفظين لا يفيدان شيئا، حقيقة هذا كله كلام ديدرو رجل العقل، ولكن كان هناك ديدرو آخر رفض أن يذيع هذا الكلام، وكان هذا هو ديدرو رجل الفضيلة، الرجل الذي دله قلبه ذو الرأفة والرحمة دلالة أقطع من دلالة عقله على أن الإثم والفضيلة حقيقتا الحقائق، وكان بين الرجلين - بين العقل الخصب والقلب الجياش - صراع دائم يكشف عنه كتابه «ابن أخي رامو»،
अज्ञात पृष्ठ