माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
शैलियों
ويقول ابن رشد في هذا: «العقل ليس هو شيئا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة؛ فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وإن سموا مثل هذا [أي الاقتران بلا سببية] عادة، فما أدري ما يريدون باسم العادة؛ هل يريدون أنها عادة الفاعل؟ أو عادة الموجودات؟ أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات؟» وشرحا لسؤال ابن رشد هذا، نقول: افرض أن الموقف هو نار تحرق ورقا، فما الذي يريده القائلون بأن العلاقة بينهما هو عادة؟ أهي عادة النار أن تحرق؟ أم هي عادة الورق أن يحترق بها؟ أم هي عادتنا نحن في إدراك العلاقة بين النار والورق؟ أم هي عادة الله تعالى في أن جعل النار تحرق الورق؟ «إنه لمحال أن يكون لله تعالى عادة.» هكذا يستدرك ابن رشد ردا على الغزالي؛ ليبين تناقضه في أن يجعل السببية «عادة»، ثم يجعل الله فاعلا لها! «وإن أرادوا أنها عادة للموجودات فالعادة لا تكون إلا لذي النفس، وإن كانت في غير ذي النفس فهي في الحقيقة طبيعة. وأما أن تكون عادة لنا في الحكم على الموجودات، فإن هذه العادة ليست شيئا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلا.»
ألا إنه لنموذج ممتاز للعقل العربي يحاور بعضه بعضا، فحسبنا مثل كهذا للطريقة التي يتجاوب بها اثنان من رجال الفكر العربي - الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب - لنقول إننا نستطيع أن نرث عن الآباء وقفاتهم العقلانية إزاء المشكلات العارضة؛ لنكون خلفا قد أخذ عن السلف، وسار على نهجه.
56
قل ما شئت عن الإمام الغزالي في قوة حجته، وفي قدرته القادرة على التحليل، وفي سعة أفقه وغزارة علمه وحضور بديهته وفي عقلانية نظرته، فلن تجاوز الحق، لكن ذلك كله لا ينفي عنه أنه استخدم تلك القوة والقدرة والرسوخ في أن رسم صورة تفصيلية للمسلم؛ كيف ينبغي له أن يعيش ليساير ما يقتضيه الشرع، وذلك في مؤلفه الضخم «إحياء علوم الدين»، وفي مواضع كثيرة أخرى من مؤلفات أخرى - ك «منهاج العابدين» مثلا و«ميزان العمل» وغير ذلك - فكان فكأنما وضع لحياة المسلم قالبا من حديد، لم يعد بعدها قادرا على أن يتحرك بتلقائية الإنسان المفكر الحر، ولا أظنني مغاليا إذا قلت إن الغزالي - على قدر عظمته - كان هو الرجل الذي أغلق باب الفكر الفلسفي أمام المسلمين فلم يفتح بعد ذلك إلى أن مرت ثمانية قرون، فتحت للمسلمين بعدها أبواب حضارة جديدة، هي حضارة أوروبا الحديثة؛ وكذلك كان هو الرجل الذي صاغ للمسلمين نموذجا نظريا لطريقة العيش، أصبح لهم كالقيد الذي يغل اليدين والقدمين واللسان في آن معا، ولبث المسلمون بعده - ربما إلى يومنا هذا - في شغل عن الحياة النابضة؛ بانصرافهم إلى تحديد الحلال والحرام في كل لفظة يلفظها لسان، أو حركة تتحركها يد أو قدم.
وما ظنك بإمام يرسم للناس صورا قوية أخاذة للطريقة التي ينبغي أن يأكلوا بها ويكسبوا معاشهم ويصادقوا بها الأصدقاء ويعتزلوا الناس إذا أرادوا العزلة، والتي ينبغي بها أن يتأهبوا للسفر ولسماع الموسيقى والغناء، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى؟ إنه لا يجوز لأمثالنا الآن أن يناقشوا الغزالي في مدى توفيقه في تلك الصور التفصيلية كلها؛ لأن له من المكانة في العلم بأمور الشرع ما لا يسهل معه حتى للثقات في هذا الموضوع أن يعارضوه، لكن الذي يجوز لنا، بل الذي يجب علينا الاضطلاع به من الناحية الفكرية، هو أن نتنبه بقوة إلى حقيقة هامة، وهي خطورة الخلط بين النسبي والمطلق في هذه الأحكام؛ فإذا صح أن يكون للأكل أو للسفر - مثلا - آداب بعينها تصدق على ظروف محددة بزمانها ومكانها، فلا يصح أن ننقل الصورة النسبية المحدودة بالزمان والمكان المعينين هذه، لنجعلها صورة مطلقة تصدق على كل زمان ومكان؛ وبالتالي نلتزمها في ظروفنا الراهنة على بعد الخلاف بين الحالتين.
وسأضرب للقارئ مثلا واحدا مما يقوله الغزالي عن «آداب الأكل»؛ ليرى بنفسه كيف أن بعض هذه الآداب قد انقضى زمانها وجاء زمان آخر يقتضي آدابا أخرى، يقول: «إن مقصد ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب، ولا طريق إلى الوصول للقاء الله إلا بالعلم والعمل، ولا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجة على تكرر الأوقات، فمن هذا الوجه قال بعض السلف الصالحين إن الأكل من الدين ...» أرجو أن يلحظ القارئ نقطتين في منهج التفكير عند الغزالي: (1) تسلسل القضايا بعضها عن بعض. (2) استناده أول ما يستند إلى أقوال السلف. فإذا كانت الملاحظة الأولى مؤيدة لمنهجه العقلي، كما أوصى به في كتب كثيرة له - على نحو ما بينا - فالملاحظة الثانية بغير شك تنقض ذلك المنهج؛ إذ ليس «أقوال السلف» من الحقائق الأولية البديهية التي طالما ألح علينا أن نجعلها نقطة البدء في كل تفكير علمي سليم؛ مما جعلنا نقرنه من حيث المنهج بالفيلسوف الفرنسي ديكارت. وبعد هذا فلنستأنف ذكر ما كتبه الغزالي في آداب الأكل: «... قال تعالى:
كلوا من الطيبات واعملوا صالحا
فمن يقدم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل، ويقوى به على التقوى، فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملا سدى، يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المرعى؛ فإن ما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه، ينبغي أن تظهر أنوار الدين عليه، وإنما أنوار الدين آدابه وسننه التي يزم العبد بزمامها، ويلجم المتقي بلجامها؛ حتى يتزن بميزان الشرع شهوة الطعام في إقدامها وإحجامها. وها نحن نرشد إلى وظائف الدين في الأكل؛ فرائضها وسننها وآدابها ومروءاتها وهيئاتها في أربعة أبواب، وفصل في آخرها. الباب الأول فيما لا بد للآكل مراعاته وإن انفرد بالأكل، الباب الثاني فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع على الأكل، الباب الثالث فيما يخص تقديم الطعام إلى الإخوان الزائرين، الباب الرابع فيما يخص الدعوة والضيافة وأشباهها.
الباب الأول، وهو ثلاثة أقسام: قسم قبل الأكل، وقسم مع الأكل، وقسم بعد الفراغ منه.
القسم الأول: قبل الأكل
अज्ञात पृष्ठ