माकुल और ना माकुल हमारी बौद्धिक परंपरा में
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
शैलियों
إنه ليندر بين الباحثين منا من يتناول فكرة «السببية» عند الفيلسوف الإنجليزي «ديفد هيوم» (1711-1776م) دون أن يعلق عليها بقوله إن الغزالي قد سبقه إلى هذه الفكرة نفسها على ما بين الرجلين من زمن مديد. وأساس الفكرة المشتركة عند الرجلين هو البيان بأن حادثة ما لا يجوز أن تعد سببا في حادثة أخرى، لمجرد أننا نراهما متصاحبين متلازمين دائما، أو متعاقبين بلا تخلف؛ فمهما تعددت الحالات التي رأينا فيها الحادثتين أو الشيئين متلازمين متعاقبين، فذلك لن يزيد على كوننا قد «تعودنا» هذا التلازم أو التعاقب، بحيث إذا وقعت إحداهما توقعنا حدوث الأخرى بحكم الرابطة التي ألفناها بينهما، ولكن هل يعني ذلك استحالة أن يحدث في المستقبل غير ما ألفنا، فتقع إحدى الحادثتين ولا تصحبها الأخرى؟ يقول الغزالي وهيوم معا: كلا، ليس ذلك محالا عند العقل، فما يزال العقل يجيز استقلال إحداهما عن الأخرى، برغم ما قد تعودناه فيهما من تلازم لم ينقطع في الحالات الماضية. وهو قول لا يقرهما عليه فلاسفة آخرون، كما لا يقرهما عليه الإدراك الفطري عند عامة الناس؛ لأن الفلاسفة وعامة الناس جميعا يرون بأن في الحوادث أو الأشياء قوة سببية من شأنها أن تستحدث حوادث أو أشياء تابعة حتما، ولا استثناء لتبعيتها في مستقبل، كما لم يكن لتبعيتها استثناء في حاضر أو ماض. أما الغزالي وهيوم فيذهبان إلى القول بأن لكل حادثة استقلالها الذاتي عن الحادثة الأخرى، وما الرابطة السببية المزعومة بين حادثة سابقة وأخرى لاحقة إلا عادة تعودناها، لا شأن لها بطبيعة الأشياء نفسها؛ ومن ثم جاز عندهما أن يأتي ظرف تحدث فيه أولاهما ولا تعقبها الأخرى. وأود أن ألفت نظر القارئ إلى أن المسألة ليست مجرد لجاجة في الجدل بغير حاصل، بل هي مسألة تمس بناء العلم في صميمه؛ لأنه إذا ما أخذنا بوجهة النظر هذه، كان معناها أن قوانين العلوم قائمة على احتمال الصدق لا على يقينه؛ إذ لو أردنا لتلك القوانين صدقا يقينيا للزم أن نجعل الرابطة السببية بين الظواهر والأشياء والحوادث أمرا محتوما، يقع في المستقبل كما وقع في الماضي بغير أدنى ريب في ذلك.
ولنورد هنا عبارة الغزالي في هذه المسألة لأهميتها، يقول: «الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا [أي ليس محتوم الحدوث]، بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا [أي إن كلا منهما مستقل بكيانه عن الآخر]، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر.»
ويسوق الغزالي أمثلة لأشياء قد نظن فيها قيام رابطة سببية ضرورية بين السابق واللاحق، ومن أمثلته: الري والشرب، الشبع والأكل، الاحتراق ولقاء النار، النور وطلوع الشمس، الموت وحز الرقبة، الشفاء وشرب الدواء، وهلم جرا إلى سائر ما نشاهده من مقترنات في الطب والفلك والحرف والصناعات.
على أن الغزالي يسارع بعد هذا الكلام مباشرة ليقرر أمرا فيه كل الفرق بينه وبين الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»، ولم يحدث لي قط في حياتي العلمية أن وقعت على دارس عربي واحد، ممن يقارنون بين هيوم والغزالي فخورين بأن يكون الفيلسوف العربي قد سبق بالفكرة زميله الإنجليزي بسبعة قرون، أقول إني لم أقع على دارس عربي واحد يذكر لنا هذا الفرق، برغم أن الأمر لم يكن يقتضيه أكثر من أن يتابع القراءة بضعة أسطر في الصفحة نفسها؛ ليجد قول الغزالي بأن اقتران المقترنات، التي قد يؤخذ اقترانها على أنه رابطة سببية يكون فيها السابق سببا واللاحق مسببا، إنما هو في حقيقة أمره اقتران من «تقدير الله سبحانه؛ لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت.»
معنى ذلك أن اقترانا مثل لقاء النار لقطعة من الورق - مثلا - إذا أعقبه احتراق، أو طلوع الشمس إذا تبعه انتشار النور، فليس ذلك لأن في النار ذاتها ما يحتم أن تشعل الورقة، ولا في الشمس ذاتها ما يوجب أن ينتشر النور، إنما الأمر في هذه الحالة هو مجرد تتابع بين الحوادث تعودناه، فحسبنا أنه أكثر من أن يكون عادة ألفناها، وإنما هو رباط سببي ضروري ناتج عن طبائع الأشياء. وإلى هنا والتشابه قائم بين الغزالي وهيوم في تحليلهما لفكرة السببية، لكن بينما يترك هيوم المسألة عند هذا الحد، وبذلك لا ترتد فكرة السببية إلا إلى أسس سيكولوجية في تكوين الإنسان وطرائق إدراكه للأشياء، بحيث إذا شاهد شيئين وقد تلازما في الوقوع، سارع إلى ربطهما معا برابطة سببية، أقول إنه بينما وقف هيوم عند هذا الحد من تحليل الفكرة، جاوز الغزالي هذا الحد وأضاف ما يفيد بأن وراء العادات الإدراكية عند الإنسان تقديرا من الله أن تجيء الأشياء المقترنة على صورة من التساوق بحيث تظل مقترنة دائما، وقد لا يريد الله للأشياء مثل ذلك الاقتران فيبطل ما بينها من ضرورة التلازم؛ وعندئذ قد ترى النار محيطة بقطعة الورق دون أن تحترق بها قطعة الورق، وقد ترى الشمس ساطعة دون أن ينتشر في الأرجاء نور.
بهذه الإضافة التي أضافها الغزالي إلى رد الرابطة السببية إلى عادات سيكولوجية عند الإنسان، يزول من أساسه التشابه الحقيقي بينه وبين هيوم، ويصبح كل من الرجلين طرازا وحده؛ وذلك لأنه بينما يمكن النظر إلى تحليل هيوم للسببية على أنه في الوقت نفسه تحليل لحقيقة القانون العلمي، نرى تحليل الغزالي للسببية مبطلا لفكرة القانون العلمي من جذورها؛ ففي حالة هيوم نستطيع القول - بناء على تحليله للسببية - إن أي قانون علمي ينتظم ظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة، ما هو في أساسه إلا أن يكون في تلك الظاهرة جوانب ارتبط بعضها ببعض دائما فيما شاهدناه منها، فبات مرجحا لدينا أن نتوقع استمرار هذا الارتباط نفسه بين تلك الجوانب في المستقبل؛ ففي ظاهرة «المطر» مثلا، شاهدنا في كل حالاته الماضية أن ثمة ارتباطا بين درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح ... إلخ إلخ، فأصبحنا نرجح كلما توافرت هذه الجوانب نفسها بهذه الدرجات نفسها، أن يسقط المطر؛ لأنه ليس في الأمر - من وجهة نظر هيوم - أكثر من ظواهر ارتبطت في إدراكنا، فتكونت لدينا العادة بأن نتوقع ارتباطها على هذا النحو دائما. وأما عند الغزالي فقد دخل في الموقف عامل آخر هو «تقدير الله»؛ وبذلك لم يعد ارتباط الظواهر في إدراكنا كافيا وحده لنستخرج لأنفسنا منه قانونا من قوانين الطبيعة؛ إذ قد يتم الارتباط كله بين العناصر المكونة للظاهرة المعينة كلها، ومع ذلك يريد لها الله ألا تفعل فلا تفعل؛ قد تتوافر درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح ... إلخ، مما حدث معه سقوط المطر دائما في جميع الحالات الماضية، ومع ذلك فربما قدر الله سبحانه ألا يكون مطر فلا يكون. وبهذا ينتفي العلم من أساسه؛ لأن العلم ينهار كله ولا يبقى منه في أيدينا شيء، إذا نحن لم نجد الأساس الذي نتوقع به ما يحدث في المستقبل إذا توافر كذا وكذا من العوامل والظروف. أما إذا امتلأنا بفكرة تقول: إنه قد تتوافر العوامل كلها والظروف كلها لظاهرة معينة، ومع ذلك يظل الأمر مرهونا بتقدير الله أن تقع الظاهرة أو لا تقع، كان معنى ذلك أن لا علم؛ لامتناع القدرة على تكوين القوانين التي تمكننا من توقع ما يحدث في الحالات المعلومة العناصر.
لقد ظن الغزالي - كما ظن كثيرون من الأقدمين - أنه لو جعل توافر جانبين كافيا وحده لحدوث ظاهرة معينة بناء على ما خبرناه في الماضي، فإنه يكون بذلك قد جعل للجماد قدرة على الفعل، مع أن الله تعالى هو وحده الفاعل. ولنترك الحديث للغزالي نفسه في هذا: إنه إذا لاقت النار قطعة من القطن احترقت قطعة القطن، فنحن «نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار.» وقد يدعي خصومنا من الفلاسفة بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار؛ فلا يمكنه الكف عما هو في طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له. وهذا ما ننكره ونقول: «فاعل الاحتراق بخلق السواد في العطن، والتفريق في أجزائه، وجعله حراقا رمادا، هو الله تعالى، فأما النار فهي جماد لا فعل لها، فما الدليل على أنها الفعال؟ ليس لهم دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به. إن الوجود عند الشيء لا يدل على أنه موجود به.»
في هذه العبارة الأخيرة أوضح بيان للفرق البعيد بين الغزالي وهيوم؛ فكلاهما يوافق على أن اقتران شيئين في الحدوث يدل على أن أحدهما قد حدث عند حدوث الآخر، لكنه لا يدل على أنه قد حدث بسبب حدوث الآخر، ولو وقف الغزالي عند هذا الحد كما وقف هيوم، لكان التشابه بينهما كاملا، لكن الغزالي لم يقف عند ذلك، وأضاف أنه إذا كان أحد الشيئين لم يحدث بسبب حدوث الآخر المصاحب له؛ فإن السبب الذي جعلهما يقترنان هكذا، هو أمر من الله، ولما كان مثل هذا الأمر يريده الله وقد لا يريده، جاز للشيئين أن يقترنا في أي لحظة وألا يقترنا في أي لحظة تنفيذا لمشيئة الله. وبهذا القول من الغزالي يكون قد قرر وجود الفاعلية السببية، بينما أنكرها هيوم؛ مما يمحو أي شبه حقيقي بين الرجلين.
الذي يهمنا بيانه في هذا السياق هو أن الغزالي، بعد أن أقام منهجا عقليا يسلكه بين أصحاب النظر العقلي، لم يرد أو لم يستطع أن يطبق هذا المنهج في أي من كتبه، أو أن يلتزمه في أي من الموضوعات التي تعرض لبحثها؛ فوراء «عقله» كان هنالك الإيمان الديني، فإذا جاءه العقل بما لا يصدم هذا الإيمان فبها، وإلا فليتنكر للعقل وما جاء به تنكرا يبديه بالفعل وإن لم يذكره بالقول الصريح. على أننا إنما نعني بهذا مضمارا يكون فيه العقل مدار النظر؛ لأن الغزالي كما نعرف قد اعترف بأن للعقل حدوده التي يعجز بعدها عن النظر، وذلك عندما يكون الهدف هو معرفة الحق الذي هو الله سبحانه، فعندئذ تكون لنا وسيلة إدراكية أخرى، هي الحدس الصوفي، وليس موضع مؤاخذتنا له هو أنه قد جعل للعقل مجالا وللحدس مجالا، بل هو أنه في المجال الواحد الذي يكون المدار فيه للعقل - كتحليل فكرة السببية - نراه لا يلتزم منطق العقل وحده بغض النظر عن نتائجه.
ورد البحث في فكرة السببية - كما أسلفنا - في كتاب «تهافت الفلاسفة» (المسألة السابعة عشرة)، ونود ألا يمضي حديثنا في هذا الموضع دون أن نذكر ما لا بد أن يكون قارئنا على علم به، وهو أن ابن رشد قد تصدى فيما بعد للغزالي بكتاب «تهافت التهافت»؛ فلئن كان الغزالي قد بين ما ظنه تناقضات وقع فيها الفلاسفة، فقد أراد ابن رشد أن يبين بدوره ما ظنه تناقضات وقع فيها الغزالي في نقده للفلاسفة. وفيما يختص بالسببية قال ابن رشد مدافعا عن أن للأشياء قدرات ذاتية بحكم طبائعها على إحداث النتائج؛ أي إن في الأشياء ما يجعلها أسبابا ذاتية لما يلزم عنها، يقول ابن رشد: «... ماذا يقولون في الأسباب الذاتية التي لا يفهم الموجود إلا بفهمها؟ فلو لم يكن لموجود موجود [أي لكل موجود] فعل يخصه، لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، وكانت الأشياء كلها شيئا واحدا، ولا شيئا واحدا.» ويريد ابن رشد بهذا أن يقول: خذ النار - مثلا - فإما أن تقول عنها إن لها فعلا معينا يخصها ولا يخص سواها، وإما ألا يكون؛ فإن كانت الأولى كان معناها أن للنار طبيعة خاصة كانت بها نارا، وإن كانت الثانية بطل أن تكون النار شيئا واحدا بعينه، وإذا ارتفعت عنها صفة الواحدية في طبيعتها ارتفع بالتالي وجودها من حيث هي شيء متميز عما سواه. وخلاصة القول هنا هي أن النار إذا اعترفنا لها بما يميزها، وأن ما يميزها هو الإحراق لما تلاقيه من الأشياء الأخرى القابلة للاحتراق، وجب أن تلازمها هذه الطبيعة في جميع الحالات؛ فإذا فرضنا أن نشأت بين أيدينا حالة فيها نار تلاقي شيئا قابلا للاحتراق دون أن يحترق، لم نقل إن صفة النار قد زالت عنها، بل قلنا إنه لا بد أن يكون هناك عامل آخر مبطل للاحتراق، مع بقاء صفة الاحتراق مميزة للنار لا نسلبها عنها.
अज्ञात पृष्ठ