माका मूसिका: यादें और अध्ययन
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
शैलियों
على أن هذه التجارب لم تكن، حتى ذلك الحين، تمثل انتقالا حاسما من النظام النغمي الذي عودتني عليه الأغنيات المصرية الشائعة منذ طفولتي؛ إذ كانت كلها تتم من خلال بعد واحد فقط، هو البعد اللحني، ولم أكن قد تفتحت بعد على عالم البوليفونية، أو تعدد الأصوات في الوقت الواحد. وكانت التجربة التي اهتديت فيها إلى هذا العالم بسيطة غاية البساطة، عميقة غاية العمق؛ ففي أحد الأيام، بعد انتهاء اليوم الدراسي، كان أحد زملائي من أصحاب الهوايات الموسيقية يعزف فالس «الدانوب الأزرق»، وكان عزفه ضعيفا، ولكنه كان يحاول أداء كل ما في المدونة الموسيقية من أنغام هارمونية. وبرغم تعثره وتردده في العزف، فقد كان أداؤه للأعمدة الصوتية (الكوردات) سليما، وكان هذا كافيا لكي أشعر لأول مرة، عن قرب، بإحساسات موسيقية جديدة كل الجدة، أثارها التآلف النغمي الذي لم أكن حتى ذلك الحين قد جربته تجربة مباشرة. وبرغم بساطة هذه التجربة وقصر مدتها، فما زلت أذكر التأثير العجيب الذي تركته في نفسي؛ ففي طريق عودتي الطويل من المدرسة إلى البيت، كنت أشعر طوال الوقت كما لو كنت أمشي فوق السحاب، وكانت تنتابني رجفة ورعدة كلما تذكرت تلك التجمعات الصوتية الرائعة التي يحدثها التآلف النغمي ، وكانت تلك بالنسبة إلي تجربة فريدة من ناحيتين؛ فهي بداية الدخول إلى عالم جديد من الأصوات الموسيقية، مختلف عن ذلك العالم المألوف في البيئة الموسيقية الشرقية ذات الخطوط اللحنية البسيطة الواحدة - أي إنها بداية شعور بالانفصال عن البيئة المحيطة، وبالرغبة في تجاوز ما تقدمه هذه البيئة في ميدان الفن الموسيقي. وهي من جهة أخرى تمثل أول إحساس بتلك الإثارة العجيبة التي تبعثها الموسيقى، لا في الروح وحدها، بل في الجسم بدوره؛ فالرجفة والرعدة رد فعل عضوي أو فسيولوجي تستطيع الموسيقى، بقدرتها الفريدة، أن تثيره في الجسم إذا كان فيه من الحساسية ما يسمح له بالتناغم معها، فليست النشوة الموسيقية شعورا نفسيا أو روحيا فحسب، بل قد تكون لها مظاهر جسمية أيضا، كأن تسري في الجسم - خلال أوقات الحر القائظ - قشعريرة أشبه بتلك التي يبعثها البرد الشديد في الأوصال. ولست أعلم لهذه الظاهرة تعليلا، ولا أظن أن العلم بدوره يمكنه في الوقت الراهن أن يأتي لها بتفسير، ولكنها - بالنسبة إلي على الأقل - ظاهرة مجربة ليست قليلة الحدوث.
كانت تلك إذن هي البداية البسيطة، والعميقة، لدخولي عالم التوافق الصوتي، وسعيي إلى تجارب في عالم الموسيقى لم يكن في وسع البيئة المحيطة بي أن تقدمها إلي. وبالتالي كانت تلك بداية شعور ب «الاغتراب» عن الجو الموسيقي السائد في بلادنا، إن جاز لي أن أستعير هذا التعبير من مجال الفلسفة وعلم الاجتماع. ولم يكن هذا الانفصال مفاجئا، بل حدث بتدرج وبطء في البداية ثم ازداد سرعة فيما بعد، حتى جاء الوقت الذي أصبح فيه تاما. وبعبارة أخرى فقد كانت أذني في البداية تتقبل نوعي الموسيقى، المحلي والعالمي، بنوع من التعايش غير المستقر، ثم أخذ هذا التعايش يتحول بالتدريج إلى طغيان للموسيقى العالمية على الموسيقى المحلية. ولم يمض وقت طويل حتى حلت الأولى محل الثانية حلولا تاما لا رجعة فيه.
وقد يجد الكثيرون أن فكرة استبعاد الموسيقى العالمية للموسيقى المحلية استبعادا كاملا هي فكرة لا تبعث على الارتياح، وقد يفسرها البعض بأنها نوع من التعالي أو التظاهر بالثقافة. ولست أنكر أن الكثيرين ممن يزعمون هذا الزعم هم بالفعل متظاهرون ومدعون، ولكنني الآن بصدد وصف تجربتي الشخصية، ولست أملك إلا أن أقرر بصدق تام أنني حالما تمكنت من استيعاب الموسيقى العالمية وتذوقها، لم يعد في تجربتي مجال لتلك الموسيقى التي نسمعها في إذاعاتنا المحلية، فضلا عن أن عملية الاستبعاد هذه لم تستغرق وقتا طويلا، بل إنني، لكي أكون أمينا بحق، أذهب إلى أن هذه الموسيقى أصبح لها، بعد اعتيادي الموسيقى العالمية، تأثير عضوي من نوع مضاد لذلك الذي تحدثت عنه منذ قليل؛ فكثير من الألحان المحلية، بما فيها من رتابة وسير على وتيرة واحدة، ومن دوران في دائرة ضيقة من الأصوات المتقاربة المتدرجة، تبعث في رأسي دوارا حقيقيا، لا مجرد ملل نفسي. ولعل هذا يفسر كراهيتي الشديدة للراديو الترانزستور، الذي أعده أفظع اختراع ابتليت به البشرية؛ إذ إن في وسع جهاز واحد «قد الكف» بين يدي جار منسجم، أن ينغص علي ساعات كاملة من حياتي، دون أن يكون في استطاعتي أن أشرح متاعبي أو أشكوها لأحد. وأيا كان حكم القارئ على هذا الكلام، فليأخذه على الأقل من باب الاعترافات الشخصية، وليست كل الاعترافات الصادقة - كما نعلم جميعا - مرضية للجميع.
المهم في الأمر أننا إذا سمعنا من يقول إنه كف عن الاستمتاع بموسيقانا المحلية، وأنه أصبح يجد متعته الوحيدة في الموسيقى العالمية، فلا ينبغي أن نسارع بالحكم عليه بالتحذلق، قد يكون متحذلقا بالفعل، ولكن هناك من يقولون ذلك بصدق وإخلاص. وكل ما أستطيع أن أؤكده هو أن انتقالي من تلك البداية التي كنت فيها أحفظ ألحان الأغنيات الشائعة بدقة وأستطيع التقاط أبسط خطأ تفصيلي في أدائها، إلى المرحلة التي أصبحت فيها أتجنب هذه الألحان بأي ثمن، كان انتقالا طبيعيا ليس فيه أدنى أثر للافتعال. أما أولئك الذين لا يتصورون ذلك، ويتهمون كل اعتراف بالتصنع أو الادعاء، ويظنون أن الإعجاب بالموسيقى العالمية لا يعدو أن يكون تظاهرا ب «الفرنجة» يقوم به أناس معقدو النفوس - وهو حكم شائع يصدره أشخاص منهم من يحتلون مناصب رفيعة في ميادين الآداب والفنون - فلا أملك إلا أن أقول عنهم إنهم لم يمروا بالتجربة الموسيقية على حقيقتها، وأن من المستحيل وجود جسور للتفاهم حين يكون الأمر متعلقا بتجارب يمر بها شخص ولا يمر بها شخص آخر. •••
وكان أول مظاهر انفصالي عن موسيقى البيئة المحلية هي أنني كنت أنفرد بالراديو الذي تملكه الأسرة في حجرة خالية، خلال ساعات معينة من الليل، وأبحث في الظلام عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. أما سبب الانفراد والإظلام فهو أن الأسرة لم تكن تقر بالطبع هذا الاستعمال «غير المشروع» لجهاز الراديو، وكان لا بد من «تهريب» الجهاز وخفض صوته بحيث لا يسمعه أحد، وبرغم أن ظروف الاستماع هذه كانت سيئة إلى أبعد حد، وكانت بعيدة كل البعد عن «صدق الأداء
High Fidelity » الذي تتسم به أجهزة الاستماع الراهنة؛ فإن العالم الذي كان يتكشف لي خلال سير مؤشر الراديو جيئة وذهابا على صفحة القرص المضيء بأسماء بلاد الدنيا، كان عالما غريبا ساحرا. وما زلت أذكر تلك النشوة التي كان يبعثها في صوت مجموعات الفيولينة الكبيرة في الأوركسترات السيمفونية، حتى حين كان عزفها يقتصر على اللحن الميلودي البسيط. كان الفارق في نظري هائلا بين تأثير هذا الصوت الصافي العميق، وبين تأثير الكمان الهزيل في مجموعات «التخت الشرقي» التي كانت تقتصر عليها تجربتي الموسيقية حتى ذلك الحين. وكنت أشعر كما لو كنت أقوم برحلة مسحورة بين بلاد العالم، التي أسمع عنها في الصحف وفي دروس الجغرافيا دون أن أرى منها شيئا، حين تنقلني الإذاعة من بلد إلى آخر في تلك «السياحة الموسيقية» الفريدة. وكانت أوضح المحطات الإذاعية في تلك الفترة محطتي صوفيا وبوخارست، وقد بلغ من مواظبتي على متابعة برامجها الموسيقية أنني أصبحت أعرف، بالتكرار وحده، مواعيد هذه البرامج، بل استنجت معاني كلمات باللغتين البلغارية والرومانية، متعلقة بإذاعة الموسيقى، أصبحت تساعدني على فهم طبيعة البرنامج الذي أستمع إليه.
على أن أفضل مصادر الاستماع في الفترة التي سبقت دخولي الجامعة، كانت محطة الإذاعة الخاصة بالجيوش المتحالفة المرابطة في مصر في أواخر الحرب العالمية الثانية، وأظن أنها كانت في معسكر «كبريت»؛ فقد كانت هذه المحطة تقدم برامج من الموسيقى الكلاسيكية، وفي أحيان غير قليلة كان يسبق الإذاعة شرح موجز بالإنجليزية لظروف تأليف القطعة المذاعة وتحليل لبنائها الفني. وقد أفادتني هذه الشروح فائدة كبرى في تعميق فهمي لما أسمع، وفي تكوين أساس ثقافي لتجربتي الموسيقية. وما زالت هذه هي الحسنة الوحيدة التي أذكرها لتلك الفترة التي كانت فيها جيوش الحلفاء ترتع في شوارع القاهرة وتنشر فيها قيم الانحلال التي لا ينبغي أن يتوقع المرء شيئا سواها من جنود جاءوا من شتى آفاق الأرض، ينتظر كل منهم الموت في أي ساعة. •••
ومنذ دخولي الجامعة أخذ نصيب الممارسة، في تجربتي الموسيقية، يقل تدريجا، بينما ازداد نصيب الاستماع الواعي، وكان السبب الرئيسي في ذلك بطبيعة الحال انهماكي في الدراسة والقراءة العلمية خلال فترة الدراسة الجامعية وبعدها. ولم تكن هذه الدراسة تحول بيني وبين سماع الموسيقى، بل كان من المألوف أن أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية الجادة خلال مطالعتي لكتاب، وأعتقد أنني كنت أستطيع أن أجمع، دون تعارض، بين هذين النشاطين في آن واحد، مع إعطاء كل منهما حقه. ومع ذلك فإن مصادر الاستماع كانت في ذلك الحين محدودة؛ إذ كانت الموسيقى الكلاسيكية محرمة في إذاعاتنا المحلية، وكانت إذاعة الجيوش المتحالفة قد أغلقت أبوابها بانتهاء الحرب، ولم تكن قد افتتحت بعد مكتبات الفنون التي تسمع فيها الآن جميع ألوان الموسيقى العالمية (كانت سني دراستي الجامعية بين عامي 1945م و1949م)، وكان من أهم مصادر ثقافتي الموسيقية عندئذ، جمعية الموسيقى الكلاسيكية بكلية الآداب، التي كان يشرف عليها الدكتور لويس عوض، والتي كنت من أصغر أعضائها المواظبين في ذلك الحين. وأذكر أنني حين كنت أسمع من صديق لي عن شخص لديه مجموعة جيدة من الأسطوانات، كنت أسعى إلى التعرف عليه وزيارته لكي أستمع إلى ما عنده، ولكن لم يكن ذلك بالحل الموفق نظرا إلى طبيعتي التي تنفر من تكرار التردد على بيوت الغير.
ولم يكن تذوقي لأعمال الموسيقيين العالميين متساويا في البداية. وأذكر أنني بدأت - كالغالبية العظمى من الشبان المصريين الذين يتذوقون الموسيقى الكلاسيكية - بالإعجاب الشديد بأعمال ريمسكي كورساكوف، مثل شهرزاد، والديك الذهبي، وبغيره من الموسيقيين الروس المشهورين، مثل بورودين، وتشايكوفسكي (الكابريشيو الإيطالية)، وافتتاحات روسيني (حلاق أشبيلية). وحين انتقلت إلى سماع السيمفونيات، كانت سيمفونيات تشايكوفسكي هي الأقرب إلى فهمي في البداية، وربما كان ذلك راجعا إلى الطابع القريب إلى الشرق، الذي تتسم به كل موسيقى روسية، حتى لو كان مؤلفها ممن اعتادوا أن يولوا وجوههم شطر الغرب، مثل تشايكوفسكي، كما أنه قد يكون راجعا إلى أن الطابع العصبي الانفعالي الحسي الذي تتميز به ألحان تشايكوفسكي وإيقاعاته، ملائم إلى حد بعيد لنفسية المراهقين. أما بيتهوفن فكنت أتذوق بعض سيمفونياته (الخامسة والسابعة) منذ البداية، ومنها انتقلت في مرحلة المراهقة المتأخرة إلى بقية السيمفونيات. وكانت السيمفونية التاسعة، وما زالت، عالما كاملا من المتعة الخالصة في نظري، وكان أول استماع لها تجربة فريدة، تميزت عن كل ما عداها بأن سحرها لم يكن يقل بتكرار السماع، بل كانت تتكشف لي في ذلك العمل العظيم أبعاد جديدة كلما ازددت تعمقا فيه. ومع بيتهوفن، جاء موتسارت، ومندلسون، وشوبان، وبرامز، وكل الفترة الرومانتيكية.
وأستطيع أن أقول إن المسار الطبيعي للقدرة على التذوق يبدأ بموسيقى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم يمتد تدريجا في الاتجاهين: اتجاه الجزء الأخيرة من القرن التاسع عشر، ثم القرن العشرين، من جهة، واتجاه الموسيقى الكلاسيكية في عهد باخ والسابقين عليه في القرن الثامن عشر، وربما السابع عشر، من جهة أخرى. وأشد متذوقي الموسيقى رهافة هم الذين يجمعون على نحو فريد بين تذوق الأعمال المعاصرة، والإعجاب الشديد بموسيقى عصر الباروك والروكوكو في أوروبا. وأذكر أنني كنت أستمع بانتظام، خلال فترة إقامتي بنيويورك (التي سأتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد)، إلى برنامج يقدمه ناقد موسيقي متعمق اسمه «ديكوفين
अज्ञात पृष्ठ