माका मूसिका: यादें और अध्ययन
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
शैलियों
لم تتميز البيئة التي نشأت فيها بأي عامل يساعد على تنمية المواهب الموسيقية، أو حتى على كشف هذه المواهب إن كانت موجودة بالفعل؛ ففي المدارس الابتدائية كنا نتلقى نوعا من التعليم الموسيقي الاختياري الذي يقوم به معلمون يفتقرون هم أنفسهم إلى الحساسية والذوق المرهف. وفي المدرسة الثانوية كانت هناك دروس منتظمة (ربما لأن المدرسة التي التحقت بها كانت نموذجية في ذلك الحين)، ولكن المعلم كان يفترض مقدما أن تلاميذه لن يفهموا من دروسه شيئا، أو لن يعبئوا بها إن فهموها، فكان جهده كله مركزا على الفرقة العازفة للمدرسة، أما تلاميذ الفصول فكان تعليمه لهم مجرد واجب رسمي فحسب. وعلى أية حال فإن هذا التعليم لم يكن يبدأ أبدا بتجربة موسيقية تعرض مباشرة على التلاميذ، وتنمي تذوقهم الموسيقي، ولو في أبسط صورة بطريقة متدرجة، بل كان يبدأ بالدروس الجافة التي تقتضي مذاكرة وحفظا، خطوط النوتة الموسيقية «مي» و«صول» ... إلخ، ومسافاتها «فا» و«لا»، علامة «الروند» = 4 نوار ... وهكذا لم يكن درس الموسيقى يفترق عن دروس العلوم إلا في أن لغته أشد غرابة، وألفاظه أبعد عن الفهم. ومع ذلك، فما أحسب أننا في تعليمنا المدرسي قد تقدمنا كثيرا في هذا الميدان منذ ذلك الحين، وحسب المرء أن يستمع إلى الموسيقى التي تقدم في برامج الأطفال في الإذاعة والتلفزيون، وإلى أصوات المشتركين فيها، وعدم قدرة المشرفين على هذه البرامج حتى على التفرقة بين الصوت «النشاز» والصوت الصالح، ليدرك مدى تخلف التربية الموسيقية عندنا، والتأثير الهدام لوسائط الإعلام والتعليم الحيوية في كل موهبة تحتاج إلى رعاية وصقل وتدريب.
ولم تكن الألحان التي أسمعها في بيئتي المنزلية تزيد عما كان يسمعه أي طفل مصري من أسرة متوسطة في أواسط الثلاثينيات وأواخرها؛ ففي تلك الفترة كانت أغاني الإذاعة تشكل كل عناصر تجربتي الموسيقية، وكنت أتابع هذه الأغنيات باهتمام بالغ. ولعل أول ما جعلني على وعي بأن لدي نوعا من الحس الموسيقي هو أنني كنت أحفظ ألحان الأغنيات الشائعة بدقة تسمح لي بكشف أي خطأ في أدائها، حتى لو كان هذا أداء يقوم به محترفون.
وكان أول لقاء لي بالموسيقى العالمية لقاء حزينا يحيط به إطار من الرهبة والاكتئاب؛ فقد كانت الجنازات العسكرية تمر كلها أمام البيت الذي قضيت فيه طفولتي قرب ميدان العباسية، وكان العرف المتبع في ذلك الحين هو تشييع هذه الجنازات على أنغام الموسيقى النحاسية الحزينة (ولست أدري لم أبطلنا هذا التقليد الجميل ... أهناك ما هو أروع من تشييع بطل في يومه الأخير على ألحان الحركة الثانية لسيمفونية «البطولة» لبيتهوفن، أو اللحن الجنائزي في باليه روميو وجولييت للموسيقي «بروكوفييف» مثلا؟) وكان المارش الجنائزي لشوبان هو الذي يعزف في معظم هذه الجنازات العسكرية، بعد توزيعه بحيث يلائم الفرقة النحاسية،
1
وعلى الرغم من أنني كنت، وما زلت، أشعر دائما بأن آلات فرقنا النحاسية ليست منضبطة في أصواتها انضباطا كاملا، وأنها أشبه بالعود أو الفيولينة التي لم يحسن العازف ضبط أوتارها تماما فتركها منخفضة قليلا، أو مرتفعة قليلا، عما يجب أن تكون عليه (وربما كان ذلك راجعا، في حالة الآلات النحاسية، إلى تأثير الجو)؛ فقد كان لهذا المارش الجنائزي تأثير هائل في نفسي. وما زلت أذكر أنني حين كنت أصادف أحيانا جنازة عسكرية خلال عودتي من مدرستي، كنت أسير وراءها عن بعد مسافة طويلة، لا لشيء إلا لكي أستمتع بجمال اللحن، وربما كان لفظ «أستمتع » غير معبر بدقة عما كنت أحس به؛ إذ إن جو الرهبة والحزن المحيط بالجنازة العسكرية كان كفيلا بأن يحول دون حدوث أي «استمتاع» بالمعنى الصحيح. والأدق أن أقول إن ملاءمة الموسيقى للإطار الذي كانت تعزف فيه، والقدرة الهائلة للحن الشجي الحزين، وللطبول الضخمة الوقور، على أن تضفي على الموكب الجنائزي جوا من الأسى، من غير ضعف أو تخاذل، بل مع صمود وشموخ؛ كل ذلك كان بالنسبة إلي تجربة فنية فريدة، ربما لم أكن في ذلك الحين واعيا بكل عناصرها، ولكني كنت على أية حال مندمجا في تيارها العام كل الاندماج. ولا أكون مبالغا إن قلت إنني كنت أشعر بنوع من الفرحة المنقبضة - إن جاز هذا التعبير - كلما سمعت من بعيد أصوات الطبول التي تؤذن بمقدم جنازة يعزف فيها المارش المحبب إلى نفسي.
على أن التجربة التي أذكرها إلى اليوم بمزيج من الزهو والأسف على ما ضاع من الفرص والإمكانات، هي تجربة صنعي لآلتي الموسيقية الخاصة؛ ففي طفولتي المتوسطة، حين كنت في حوالي العاشرة، لم تكن لدي آلة موسيقية، ولم تكن أسرتي من الثراء بحيث تملك البيانو في البيت، كما أنها لم تكن مقتنعة بميولي الموسيقية إلى الحد الذي يجعلها «تضحي» بشراء آلة موسيقية بسيطة لي، بل إن نفس فكرة الميول الفنية وضرورة تنميتها كانت - وما تزال - فكرة غريبة عن أذهان الآباء والأمهات في معظم الأسر المصرية المتوسطة. ولم يكن هناك مفر من أن تجد ميولي الموسيقية مخرجا آخر؛ فقد صنعت آلة موسيقية بدائية من صندوق مستطيل من الصفيح، شددت فيه خيوطا من الجلد أو المطاط الرقيق المستخدم في طرود الأدوية وما شاكلها، وراعيت في الشد أن يكون متدرجا بحيث يكون كل خيط مناظرا لنغمة في السلم الموسيقي، وما زلت أذكر أن أجمل هدية كان يمكن أن تقدم إلي في هذه الفترة، هي خيوط المطاط التي تتيح لي أن أستبدل ب «الأوتار» البالية أوتارا أخرى سليمة متينة. ولم يكن في هذه الآلة البدائية أكثر من عشرة أوتار أو اثني عشر وترا ، ولكنها كانت تكفي لكي أعزف عليها - بطريقة أشبه بطريقة عازفي القانون - ألحانا شائعة معروفة للناس. ولكم كانت الدهشة تتملك أفراد أسرتي، وأصدقاءهم، حين كنت ألصق بأذنهم هذا الصندوق الصغير (الذي يستحيل أن يسمع صوته عن بعد)، فيجدون ألحانا حقيقية معروفة تصدر عنه! ولكي أكمل صورة «مغامراتي» الموسيقية في هذه الفترة المبكرة من حياتي، فإني أستميح القارئ عذرا أن أصف له وجها آخر من أوجه هذا الخيال الطفولي الطريف؛ فقد اكتشفت بعد فترة أن ماسورة صرف المياه (المظراب) الموصلة من «سطوح» بيتنا إلى أرض الشارع، لها قدرة على مضاعفة الصوت وتضخيمه ما بين فتحتها العليا وفتحتها السفلى. وسرعان ما استفدت من هذا «الكشف» في ممارستي لنشاطي الموسيقي؛ إذ كنت أضع الصندوق الصفيح في طرفها العلوي، فوق السطوح، بينما يتناوب أصحابي على الاقتراب من طرفها السفلي في الشارع فيسمعون منها ألحانا «شجية» لمحمد عبد الوهاب ومحمد صادق وغيرهم من مطربي ذلك الزمان. ولعل هذه الماسورة أعجب «ميكروفون» عرفه تاريخ الموسيقى، بحيث إنه لو كان لي أي حق في أن أدخل هذا التاريخ يوما ما، فلن يكون ذلك إلا من خلال فتحتي ماسورة بيتنا القديم!
ولكي يكون القارئ فكرة عن مدى بدائية هذه التجربة الموسيقية الأولى، فحسبي أن أذكر أنني، حتى ذلك الحين، لم أكن أعرف شيئا عن «نصف التون» في السلالم الموسيقية؛ إذ لم يكن تعليمنا الموسيقي في المدارس قد وصل إلى هذه المرحلة «المتقدمة»! ولكنني «استنتجت» وجود هذه الأنصاف حين كنت أجد أجزاء معينة من اللحن لا تصدر بدقة كاملة عن صندوق الموسيقى برغم حرصي على انضباط أوتاره. وكان واضحا أن موقع هذه الأجزاء في مكان ما بين الوترين المتتاليين، فلا بد إذن أن يكون هناك نصف صوت، وحين عدت بذاكرتي إلى منظر البيانو الذي رأيته في بيوت بعض أصحابي، تذكرت أن بعض «أصابعه» سوداء، و«استنتجت» أيضا أن هذه الأصابع السوداء لا بد أن تكون أنصاف الأصوات التي أقصدها. وكنت سعيدا غاية السعادة حين تحققت من صحة استنتاجي هذا في بيت أحد أصدقائي ممن يملكون البيانو، ولكنهم يقفون أمامه صما بكما لا يفيدون منه بشيء.
ومضت سنوات قبل أن أستطيع إقناع أسرتي بشراء آلة موسيقية حقيقية لي. وكنت قد شاهدت «الماندولين» في المدرسة، وأعجبني فيه صغر حجمه وصوته الرنان، فألححت في المطالبة حتى أفلحت أخيرا، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، في الحصول على «ماندولين» لا أظن أنه كان جديدا. ولم تمض أيام قليلة حتى كنت أعزف عليه ألحانا بسيطة، ثم تعقدت هذه الألحان بالتدريج، وأصبحت في فترة وجيزة أجيد العزف عليه. غير أن هذا العزف، الذي لم يكن يخضع لإرشاد أو توجيه، كانت تشوبه أخطاء أساسية في «التكنيك» ذاته؛ أي في الأسلوب الذي لا بد من تعلمه عن الغير، ومع ذلك فقد وصلت في العزف إلى مرحلة أعدها، وسط هذه الظروف، مرحلة متقدمة إلى حد بعيد.
ولم يكن من الصعب أن أنتقل من هذه المرحلة العملية إلى مرحلة معرفة بعض الأسس النظرية للعلم الموسيقي؛ ففي هذا العام نفسه أصبحت أجيد قراءة المدونة (النوتة) الموسيقية، بعد أن تلقيت إرشادات من زميل لي في المدرسة، ما زلت أذكر فضله علي حتى اليوم. كان هذا الزميل - وهو من إندونيسيا - يمدني ببعض المدونات، ويوضح لي الأسس العامة لقراءتها. وكنت أشعر بإعجاب شديد، مقرون بدهشة بالغة، وأنا أراه يحول هذه البقع السوداء المتناثرة على سطور المدونة الخمسة إلى أنغام جميلة. ولم يمض وقت طويل حتى وجدت نفسي قادرا على ممارسة هذا السحر العجيب، بعد أن عكفت ببيتي أياما ركزت فيها كل جهدي على مدونات معينة، حتى استطعت أن أستخلص ألحانها بدقة وإتقان. وكان شغفي بالنتيجة التي وصلت إليها هائلا؛ إذ كنت كمن يكتشف كنزا جديدا نفيسا من بين سطور كل مدونة تقع بين يدي.
ومنذ ذلك الحين، كان «مصروفي» كله يضيع على شراء هذه المدونات، وكنت أنتظر أول الشهر بصبر نافد، لأسرع إلى محل «بابازيان» وأشتري منه مدونة أو اثنتين، وما زلت أحتفظ بمجموعة المدونات التي اشتريتها في فترة «الأزمة» هذه. ولكني كنت في البداية أشعر بخيبة الأمل لأن التدوين كان في معظم الأحيان صالحا لآلة البيانو، فعلمت نفسي كيف أحول ما هو مكتوب للبيانو بحيث يصلح للعزف على الماندولين (أو للفيولينة أيضا؛ لأن ترتيب الأوتار واحد)، بل كنت أحول المقام أحيانا، حين كنت أجده من النوع الذي تكثر فيه علامات «البيمول»، وهو مصدر مضايقة وصعوبة بالنسبة إلى عازفي الماندولين والفيولينة يعرفها كل خبير فيهما. وحين اختفت من السوق، في وقت ما، كراسات الموسيقى ذات الأسطر الخمسة (أو ربما ارتفع سعرها ارتفاعا باهظا)، قمت بتسطير كراسة كبيرة كاملة، دونت فيها مجموعة من الألحان بعد تحويل مقامها بطريقة تتناسب مع الآلة التي أعزف عليها، وما زلت أحتفظ بهذه الكراسة التي تمثل بدورها جانبا طريفا من تجاربي الموسيقية خلال الفترة الوسطى من سني مراهقتي. •••
अज्ञात पृष्ठ