فرغ العجوز من القراءة، أو لعله يئس من المحاولة، فوضع الورقة على المائدة، واستدار بوجهه ناحية اليسار، ثم ناحية اليمين؛ فأدرك زملاؤه أن الجلسة بدأت، وكفوا عن الكلام وهم يسلطون نظراتهم علي.
تعلقت عيناي بشفتي العجوز، وبدا لي وجهه الشاحب أبعد ما يكون عن الحياة.
خاطبني قائلا: «في بداية هذا اللقاء أحب أن أسجل تقديري، الذي يشاركني فيه زملائي، لاختيارك المجيء إلينا. وليس معنى هذا أننا سنأخذ - حتما - بوجهة نظرك؛ فهذا أمر يتوقف على أشياء كثيرة، ونحن هنا اليوم لنحسمه. أما ما أردت أن أوضحه فهو أن المثول أمام لجنتنا - كما يعلم الجميع - ليس إجباريا؛ ففي هذا العصر يتمتع كل إنسان بحرية تامة في الاختيار، ويعكس هذا الاختيار من جانبك قدرا كبيرا من سلامة التفكير ونفاذ البصيرة، وهو مؤشر هام سنأخذه في اعتبارنا عندما نبحث حالتك. إلا أننا نود أولا أن نسمع وجهة نظرك في هذا الشأن.»
كنت أعرف مما سمعته من مختلف المصادر أن اللجنة تطالب الماثلين أمامها دائما بعرض للأسباب والدوافع التي حملتهم على التوجه إليها؛ ولهذا السبب أعددت الإجابة مقدما.
وكنت قد توقعت أن تكون اللجنة على إدراك بأني سأفعل ذلك؛ ولهذا فكرت طويلا قبل أن أستقر على الإجابة الضرورية، فلم أشأ أن أقدم إليهم إجابة مبتذلة سمعوها من قبل، هدفها الظاهر هو تملقهم، إنما أردت أن أقدم إليهم إجابة متميزة، تبدو بسيطة وتلقائية، كأنما فوجئت بالسؤال، وتنطق بشيء من الأمانة والصدق، أعطي فيها صورة دقيقة عن نفسي، دون أن أتورط في الحديث عن أشياء معينة، مثل الدوافع الحقيقية لبعض الأفعال، وإنما أشير إلى هذه بطريقة تخلي مسئوليتي عن كل ما من شأنه أن يسيء إلي، وتجعلهم يستنتجون ما أتصور أنه سيلقى قبولا لديهم.
وكانت تلك في الواقع مهمة شاقة للغاية؛ بالنظر إلى ما لديهم من وسائل خاصة وإمكانيات واسعة، تتيح لهم معرفة كل شيء عني.
بلعت ريقي عدة مرات، ثم شرعت أتكلم، وخرج صوتي خافتا، فمال العجوز إلى الأمام واضعا يده على أذنه اليمنى وقال: «عفوا، إني لا أسمع جيدا بإحدى أذني، فهل لك أن ترفع صوتك؟»
أذعنت لطلبه ومضيت أبسط الإجابة التي أعددتها من قبل. وغني عن البيان أني نسيت جزءا كبيرا منها بسبب اضطرابي من ناحية، وصراعي مع لغتهم - كي لا أرتكب أخطاء فادحة في قواعدها - من ناحية أخرى.
المهم أني رسمت لهم صورة عامة لنشأتي، والمسار الذي اتخذه تطور حياتي وفقا لظروف لم يكن لي فيها خيار كبير، وان كنت مسوقا أيضا بأحلام عريضة، وبالرغبة في تنمية مواهبي واستغلالها على أحسن وجه. ولم يفتني أن أنوه بالمثل والمبادئ الأخلاقية التي كنت أسترشد بها.
انتقلت بعد ذلك إلى المحنة التي وقعت لي وعرضتني للمرض، وقلت إن مرضي في الغالب كان نتيجة للتباين الشاسع بين طموحاتي وقدراتي الحقيقية، وأنه أدى بي إلى أن أضيق ذرعا بكل شيء، حتى لم يعد أمامي من مخرج سوى أن أغير حياتي تغييرا تاما.
अज्ञात पृष्ठ