قبل أن تقرأ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
قبل أن تقرأ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
اللجنة
اللجنة
تأليف
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
الفصل الأول
بلغت مقر اللجنة في الثامنة والنصف صباحا قبل نصف ساعة من الموعد المحدد لي، ولم أجد صعوبة في العثور على الغرفة المخصصة لمقابلاتها. وكانت في طرقة جانبية هادئة، كابية الضوء، يقف أمامها عجوز في سترة صفراء نظيفة، تنطق ملامحه بالطمأنينة التي تغشى وجوه من يرفعون راية الاستسلام عندما يجدون أنفسهم في نهاية المطاف، فينسحبون من صخب الحياة والصراع الدائر على مظاهرها الفانية.
أفضى إلي الحارس بأن أعضاء اللجنة لا يتوافدون عادة قبل الساعة العاشرة. ووجدت ذلك أمرا طبيعيا، رغم أنه ضايقني. وندمت لأني التزمت بالموعد المحدد بالضبط، فغادرت فراشي مبكرا دون أن أنعم بقسط كاف من النوم.
لم يكن هناك مقعد غير الذي يجلس عليه الحارس، فوقفت إلى جواره، ووضعت حقيبتي «السامسونايت» على الأرض، ثم قدمت إليه سيجارة وأشعلت لنفسي أخرى. كان قلبي يدق بعنف طيلة الوقت، رغم محاولاتي للتماسك والسيطرة على أعصابي. وكررت لنفسي أكثر من مرة أن اضطرابي سيفقدني الفرصة المتاحة لي؛ إذ سأعجز عن تركيز انتباهي وهو ما أحتاج إليه بشدة في المقابلة القادمة.
ضقت بالوقوف بعد قليل، فحملت الحقيبة في يدي، ومضيت في الردهة الطويلة حتى نهايتها، ثم استدرت عائدا وعيني على باب الغرفة؛ خشية أن تكون اللجنة قد وصلت واستدعتني. لكن الحارس كان ما يزال جالسا في مكانه، يحدق أمامه بدعة، وهو يحرك فمه الخالي من الأسنان كأنما يلوك شيئا وهميا.
عدت أذرع الطرقة جيئة وذهابا وأنا أتطلع إلى ساعتي بين الفينة والأخرى. وكانت عقاربها قد اقتربت من العاشرة والنصف عندما رأيت الحارس ينتفض واقفا ويضع سيجارته على الأرض أسفل المقعد، ثم يدير مقبض باب الغرفة ويفتحه بحذر، ثم يختفي وراءه.
أسرعت أتخذ مكاني إلى جوار مقعد الحارس وقلبي يدق أسرع من ذي قبل. وتوقعت أن يطلب مني الدخول عندما يخرج، لكنه لم يفعل، وإنما عاد إلى كرسيه بعد أن تناول سيجارته، وواصل التدخين في هدوء.
حزمت أمري أخيرا وسألته بلطف عما إذا كانت اللجنة قد وصلت، فقال: «واحد منهم فقط.»
تساءلت: «لكني لم أر أحدا يدخل الغرفة؟»
أجابني: «هناك باب آخر يدخلون منه.»
بقيت واقفا إلى جواره نصف ساعة، تتابع خلالها وصول أعضاء اللجنة عن طريق الباب الداخلي. ومضى الحارس عدة مرات إلى البوفيه ليحضر لهم القهوة. وفي كل مرة كنت أحاول اختلاس النظر داخل الغرفة، لكنه كان يحرص دائما على ألا يكشف الباب إلا عن فرجة يسيرة تسمح له بالدخول، بعد أن يحشر نفسه خلالها دون أن تكشف لي عن شيء.
وفي إحدى المرات برز من الغرفة وهو يحمل في يده حذاء جلديا، ونادى على ماسح أحذية يقف في نهاية الردهة فأعطاه الحذاء. وعندما أراد هذا أن يقتعد الأرض قرب الباب، نهره الحارس وأشار إليه أن ينتحي بعيدا حيث كان يقف.
عاودت السير وأنا أنقل حقيبتي من يد إلى أخرى. كنت متعبا لأني لم أنم جيدا بالأمس رغم الحبة المنومة التي تناولتها؛ ولهذا السبب كان هناك صداع خفيف يحوم عند مؤخرة رأسي. ولم أكن قد حسبت حسابا لهذا الطارئ، رغم أني لم أفعل شيئا طوال العام الماضي كله سوى الاستعداد لاحتمالات اليوم. ولم أجرؤ على مغادرة مكاني بحثا عن مسكن خشية أن تستدعيني اللجنة خلال ذلك.
اقتربت أثناء سيري من مكان ماسح الأحذية الذي أقبل ينظف بحماس حذاء اللجنة (هكذا أسميته في سري وأعجبتني التسمية حتى إني ابتسمت). ورأيته قد انتهى من تلميع وجه الحذاء، فقلبه ومضى يطلي نعله السفلي.
استدرت عائدا إلى حيث يجلس الحارس، فوضعت حقيبتي إلى جواره على الأرض وناولته سيجارة، ثم أشعلت واحدة، وبقيت إلى جواره أدخن. ولم يلبث الماسح أن انتهى من الحذاء، فأحضره إلى الحارس الذي تناوله بعناية وحمله إلى الداخل. وخرج بعد قليل حاملا صينية امتلأت بفناجين القهوة الفارغة، فمضى بها إلى البوفيه، ثم عاد إلى مكانه فوق الكرسي.
ولما كنت أنا الوحيد الذي ستستقبله اللجنة اليوم؛ لسبب بسيط هو أن الساعة أشرفت على الحادية عشرة والنصف، دون أن ينضم إلي أحد؛ فقد خطر لي أنها تناقش أمري الآن. وكانت هذه فكرة مزعجة للغاية؛ لأن معناها ببساطة أن تتكون لديها صورة مبدئية عني. وإذا كانت هذه الصورة سلبية، وهو الاحتمال الغالب لأسباب عديدة؛ فإن ذلك من شأنه أن يضيق من فرصة التأثير الذي يمكن أن أحدثه عندما أمثل أمامها. كنت أعرف أن لديها تقارير كافية عني، ومع ذلك فقد فهمت أن مصيري يتوقف على المقابلة القادمة. وليس معنى هذا أني الذي سعيت إلى هذا اللقاء، وإنما قيل لي إنه لا مندوحة منه؛ ولهذا جئت.
وعند الظهر تماما دخل الحارس الغرفة، ثم خرج على الفور وسألني عن اسمي، وعندئذ أشار إلي بالدخول.
تناولت حقيبتي بيدي اليمنى، وبيدي الأخرى تحسست رباط عنقي لأتأكد من أنه في المكان الصحيح. ورسمت على وجهي ابتسامة واثقة، ثم وضعت يدي على المقبض الأبيض المصنوع من الخزف، الذي تطلعت إليه عشرات المرات في غضون الساعات الثلاث الماضية، وأدرته دافعا الباب إلى الداخل، وولجت الغرفة.
وللوهلة الأولى ارتكبت غلطتين.
ففي اضطرابي - الذي جاهدت عبثا أن أخفيه - نسيت أن أغلق الباب خلفي، وعندئذ سمعت صوتا نسائيا بالقرب مني يقول بلهجة رقيقة: «أغلق الباب من فضلك.»
اندفع الدم حارا إلى وجهي واستدرت إلى الباب، فأمسكت مقبضه بيدي اليسرى ودفعته إلى الخارج، لكنه لم ينغلق.
كان المصراع قديما يتطلب إغلاقه قليلا من الضغط، وكانت يدي اليمنى مشغولة بالحقيبة، فاستخدمت ركبتي للضغط عليه، بينما تصبب العرق على جبيني.
عندئذ سمعت نفس الصوت النسائي الرقيق يقول: «ضع الحقيبة على الأرض واستخدم يديك الاثنتين.»
وأدركت أني خسرت الجولة الأولى.
كنت أعرف أن اللجنة ستوجه إلي بعض الأسئلة، لكن هدفها لم يكن قاصرا على تبين مدى معلوماتي، وإنما يمتد إلى استكناه مفاتيح شخصيتي وحجم قدرتي الذهنية؛ فمضمون الإجابة ليس هو كل شيء، رغم ما له أيضا من وزن، والأهم منه هو القدرة على المواجهة.
وكما سبق أن قلت، فقد قضيت العام الماضي في الاستعداد لهذا اليوم بشتى الوسائل؛ فعكفت على دراسة اللغة التي تستخدمها اللجنة في مقابلاتها، وراجعت معلوماتي في مختلف المجالات، فقرأت في الفلسفة والفن والكيمياء والاقتصاد، ووجهت إلى نفسي عشرات الأسئلة المتباينة، وأنفقت أياما وليالي في البحث عن إجاباتها، وتابعت برامج الذكاء والفوازير التي يذيعها التليفزيون، وراجعت الأبواب المماثلة في الصحف والمجلات. وأسعفني الحظ عندما اكتشفت أن أخي الذي يكبرني بعشرين عاما يحتفظ لديه في حزمة يضمها خيط من المطاط بمجموعة «صدق أو لا تصدق» الكاملة، منذ بدأ نشرها قبل ثلاثين عاما.
ولم أكتف بهذا؛ فحاولت أن أكون فكرة واضحة عن عمل اللجنة بالبحث عمن مثلوا أمامها من قبل. ورغم ثقتي من كثرتهم فإني لم أتوصل إلى غير قليلين منهم، نفى أغلبهم أنه تقدم إلى اللجنة في يوم من الأيام، بل أنكر معرفته بوجودها. وتذرع الآخرون بأنهم نسوا تفاصيل ما جرى معهم، فجاءت أقوالهم عائمة متضاربة. ولم تساعدني الشذرات الأخرى التي التقطتها من مصادر مختلفة على استخلاص شيء. الأمر الوحيد الذي خرجت به أنه ليس ثمة قاعدة محددة لعمل اللجنة.
وعندما سعيت لجمع المعلومات عن أعضائها؛ لعلي أستطيع تكوين فكرة عن اتجاهاتهم وميولهم؛ وجدت ستارا من السرية المحكمة قد أسدل على أسمائهم ومهنهم. وكان كل من سألته عنهم يتطلع إلي في وجود وإشفاق بالغين.
لكن الجميع اتفقوا على أن اللجنة تنصب شراكا ماهرة لكل من يمثل أمامها؛ ومعنى هذا أن حكاية الباب وإغلاقه لم تكن مصادفة؛ فهي قد كشفت لهم - والمقابلة لم تبدأ بعد - عن ارتباكي وقلة حيلتي.
ولكم أن تتصوروا حالتي بعد هذه التجربة الفاشلة وقد وقفت أمامهم غارقا في عرقي. لكن أغرب ما في الموضوع أني لمست في أعماقي شعورا بالارتياح لهذا الفشل، كأنما كان ثمة جزء من نفسي يخشى على نفسه من نجاحي. ولم يحل ذلك دون اضطرابي أو رغبتي الجارفة في كسب رضاء هؤلاء الذين اصطفوا أمامي إلى مائدة طويلة بعرض القاعة.
كان عددهم كبيرا حقا. ولأني كنت عاجزا عن التركيز لم أتمكن من إحصائه بالضبط. وكان بعضهم منهمكا في أحاديث هامسة، والبعض الآخر يتصفح أوراقا أمامه، وأغلبهم يضع عوينات سوداء كبيرة على عينيه. وخيل إلي أن بينهم وجوها مألوفة طالعتني من قبل على صفحات الجرائد والمجلات، واكتشفت أيضا أني أعرف صاحبة الصوت الرقيق؛ فهي عانس التقيت بها في إحدى المناسبات. ولمت نفسي على أني لم أولها - حينذاك - شيئا من الاهتمام. وكانت تتطلع إلي الآن بابتسامة خلت أنها ودية.
ولم أدهش عندما رأيت بينهم ثلاثة من العسكريين. وكانت الشرائط الحمراء الموشاة بالذهب فوق ياقات ستراتهم تنطق برفعة شأنهم.
وكان يتوسطهم عجوز متهالك، ذو عوينات طبية سميكة، قرب منها ورقة في يده حتى أوشكت أن تلامسها، واستغرق في محاولة القراءة. وقدرت أن الورقة تنتمي ولا شك إلى الملف الخاص بي.
فرغ العجوز من القراءة، أو لعله يئس من المحاولة، فوضع الورقة على المائدة، واستدار بوجهه ناحية اليسار، ثم ناحية اليمين؛ فأدرك زملاؤه أن الجلسة بدأت، وكفوا عن الكلام وهم يسلطون نظراتهم علي.
تعلقت عيناي بشفتي العجوز، وبدا لي وجهه الشاحب أبعد ما يكون عن الحياة.
خاطبني قائلا: «في بداية هذا اللقاء أحب أن أسجل تقديري، الذي يشاركني فيه زملائي، لاختيارك المجيء إلينا. وليس معنى هذا أننا سنأخذ - حتما - بوجهة نظرك؛ فهذا أمر يتوقف على أشياء كثيرة، ونحن هنا اليوم لنحسمه. أما ما أردت أن أوضحه فهو أن المثول أمام لجنتنا - كما يعلم الجميع - ليس إجباريا؛ ففي هذا العصر يتمتع كل إنسان بحرية تامة في الاختيار، ويعكس هذا الاختيار من جانبك قدرا كبيرا من سلامة التفكير ونفاذ البصيرة، وهو مؤشر هام سنأخذه في اعتبارنا عندما نبحث حالتك. إلا أننا نود أولا أن نسمع وجهة نظرك في هذا الشأن.»
كنت أعرف مما سمعته من مختلف المصادر أن اللجنة تطالب الماثلين أمامها دائما بعرض للأسباب والدوافع التي حملتهم على التوجه إليها؛ ولهذا السبب أعددت الإجابة مقدما.
وكنت قد توقعت أن تكون اللجنة على إدراك بأني سأفعل ذلك؛ ولهذا فكرت طويلا قبل أن أستقر على الإجابة الضرورية، فلم أشأ أن أقدم إليهم إجابة مبتذلة سمعوها من قبل، هدفها الظاهر هو تملقهم، إنما أردت أن أقدم إليهم إجابة متميزة، تبدو بسيطة وتلقائية، كأنما فوجئت بالسؤال، وتنطق بشيء من الأمانة والصدق، أعطي فيها صورة دقيقة عن نفسي، دون أن أتورط في الحديث عن أشياء معينة، مثل الدوافع الحقيقية لبعض الأفعال، وإنما أشير إلى هذه بطريقة تخلي مسئوليتي عن كل ما من شأنه أن يسيء إلي، وتجعلهم يستنتجون ما أتصور أنه سيلقى قبولا لديهم.
وكانت تلك في الواقع مهمة شاقة للغاية؛ بالنظر إلى ما لديهم من وسائل خاصة وإمكانيات واسعة، تتيح لهم معرفة كل شيء عني.
بلعت ريقي عدة مرات، ثم شرعت أتكلم، وخرج صوتي خافتا، فمال العجوز إلى الأمام واضعا يده على أذنه اليمنى وقال: «عفوا، إني لا أسمع جيدا بإحدى أذني، فهل لك أن ترفع صوتك؟»
أذعنت لطلبه ومضيت أبسط الإجابة التي أعددتها من قبل. وغني عن البيان أني نسيت جزءا كبيرا منها بسبب اضطرابي من ناحية، وصراعي مع لغتهم - كي لا أرتكب أخطاء فادحة في قواعدها - من ناحية أخرى.
المهم أني رسمت لهم صورة عامة لنشأتي، والمسار الذي اتخذه تطور حياتي وفقا لظروف لم يكن لي فيها خيار كبير، وان كنت مسوقا أيضا بأحلام عريضة، وبالرغبة في تنمية مواهبي واستغلالها على أحسن وجه. ولم يفتني أن أنوه بالمثل والمبادئ الأخلاقية التي كنت أسترشد بها.
انتقلت بعد ذلك إلى المحنة التي وقعت لي وعرضتني للمرض، وقلت إن مرضي في الغالب كان نتيجة للتباين الشاسع بين طموحاتي وقدراتي الحقيقية، وأنه أدى بي إلى أن أضيق ذرعا بكل شيء، حتى لم يعد أمامي من مخرج سوى أن أغير حياتي تغييرا تاما.
وأشفعت حديثي بحركة مسرحية تدربت عليها؛ إذ تناولت حقيبتي وفتحتها، ثم أخرجت منها مجموعة من الشهادات التي حصلت عليها من مصادر مختلفة تنوه بكفاءاتي، وتؤكد صحة المعلومات التي قدمتها عن نفسي.
ولما كانت أغلب هذه المواد باللغة العربية؛ فقد انطلقت أتحدث عنها بلغة اللجنة، فاستمعوا إلي باهتمام وهم يتصفحون الأوراق التي وضعتها أمامهم. لكني لاحظت أن العضو الجالس إلى يسار العجوز - وهو أشقر الشعر ملون العينين - لم يعبأ بهذه الشهادات، وانهمك في تصفح ملف يضم - ولا شك - التقارير السرية بشأني.
رفع عضو قصير القامة قبيح الوجه رأسه نحوي، وكان يجلس إلى يمين الرئيس بينه وبين أحد العسكريين، وخاطبني في لهجة عدائية: «أنا لا أستطيع أن أفهمك؛ فأنت فيما يبدو قطعت شوطا بعيدا، وها أنت في هذه السن تسعى وراء بداية جديدة. ألا تظن أن الوقت قد فات لذلك؟!»
أجبته بلهفة: «إن الكثيرين يبدءون حياة جديدة بعد الأربعين. ثم إنها ليست بداية جديدة بمعنى الكلمة، وإنما هي تتويج للمسيرة السابقة، واستثمار شامل للإمكانيات المختلفة التي أملكها، ومن زوايا عديدة يمكن اعتبارها تطورا طبيعيا لشخصيتي.»
همهم القصير غاضبا، وعجبت لحقده علي، وأحسست إحساسا مبهما أني أثرته عندما أبرزت مواهبي، ودللت عليها بالشهادات الصادرة من جهات محترمة ذات نفوذ.
وتتبعت هذا الخط من التفكير، فقدرت أنه ربما وقف موقفي في صدر شبابه وأجازته اللجنة، لكنه فشل في تحقيق الآمال المعقودة عليه، وانتهى به الأمر إلى أن يكون مجرد عضو من أعضائها؛ ذلك أنه بالرغم من خطورة اللجنة وضخامة نفوذها، فإن البعض - وأنا منهم - يعتبرون عضويتها دليلا على نضوب الموهبة والفشل التام.
تكلمت إحدى السيدات وهي عجوز وقور، كانت تجلس في أقصى اليسار إلى جوار رجل بدين يرتدي سترة بيضاء، ويضع ساقا على ساق رافعا رأسه إلى أعلى، محدقا في السقف كأنه ليس معنا. سألتني: «هل تعرف الرقص؟»
أجبت: «أجل، بالطبع.»
فتدخل الرجل القصير الغاضب قائلا: «أرنا إذن.»
سألته: «أي أنواع الرقص؟»
وأدركت أني أخطأت بالسؤال. أي نوع من الرقص حقيقة؟! كما لوكان ثمة غيره.
تصرفت بسرعة وبراعة. طمعت في أن تشهدا لصالحي؛ فعندما لم أجد ما أحزم به وسطي، خلعت رباط رقبتي، وعقدته حول خصري فوق عظام الحوض مباشرة، حيث يتمتع الجسم بمرونة بالغة. وراعيت أن أجعل العقدة على الجانب كما تفعل الراقصات المحترفات. وسرعان ما اكتشفت أن لهذا الوضع ميزة كبرى؛ فهو يكاد يفصل البطن عن الردف، ويعطي لكل منهما قدرة كبيرة على الحركة المستقلة.
انطلقت أهز وسطي وأنا أرفع كعبي قدمي قليلا عن الأرض، متطلعا إليهما من فوق كتفي، بينما أشرعت ذراعي إلى أعلى وشبكت يدي فوق رأسي. ورقصت في حماس بعض الوقت، بل حاولت أن أطرقع بأصابع يدي بعد أن ضممت سبابتيهما. وكنت منهمكا في ذلك فلم أعرف انطباع الأعضاء.
تكلم الرئيس الذي لا يسمع ولا يرى فجأة قائلا وهو يلوح بيده: «كفى.»
عندئذ مال أحد العسكريين الذي كاد وجهه يختفي تماما خلف عوينات سوداء كبيرة، وخاطبني قائلا: «إننا نعرف من الأوراق التي أمامنا كل شيء تقريبا عنك، لكن هناك شيء واحد ما زلنا نجهله؛ وهو أين كنت في ذلك العام؟ فهل لك أن تخبرنا؟»
تشاغلت بنزع رباط عنقي عن خصري وعقده حول رقبتي وأنا أفكر بسرعة في العام الذي يعنيه؛ ففي حدود معرفتي بلغة اللجنة، لم يكن اسم الإشارة الذي استخدمه يشير إلى العام الذي نحن فيه. وطالما أنه لم يذكر عاما بعينه؛ فلا بد أنه تعمد ذلك، وبهذا يكون الأمر شركا نصب لي، خاصة وأني لا أتصور أن يكون ثمة نقص في التقارير المرفوعة عني.
لم يكن في وسعي أن أستفسر عن العام الذي يقصده، وإلا أكون قد وقعت في الفخ. وتعين علي أن أحدده بمفردي وبأسرع ما يمكن.
بدت لي المسألة صعبة للغاية، وقررت أن المخرج الوحيد هو أن أستبعد بعض الأعوام المحتملة مثل 48 و52 على أساس عمري في ذلك الحين؛ وبذلك أضيق من دائرة البحث. بقيت أمامي أعوام 56 و58 و61 و67. وقبل أن ينتابني اليأس خطرت لي إجابة موجزة لا تبعد عن الحقيقة كثيرا.
قلت: «في السجن.»
ويظهر أن إجابتي، على إيجازها، كانت مفحمة؛ فلم يسألني أحد شيئا. وتبدد جانب من الجو العدائي الذي جابهني في البداية، أو هكذا خيل لي. وإن كنت قد احترت في تفسير النظرة التي لمحتها في العينين الملونتين للعضو الأشقر، وهيئ لي أن بها شيئا من السخرية.
رأيته يخط بقلم أحمر على ورقة أمامه، ثم مال على الرئيس العجوز وهمس له شيئا في أذنه اليسرى التي تجيد السمع، وهو يناول الورقة للقصير.
خاطبني الرئيس في لهجة حازمة: «لقد استمعنا منك إلى حديث طويل عن مواهبك وقدراتك، لكن لدينا هنا تقريرا يقول إنك لم تتمكن من ممارسة الجنس مع سيدة معينة. والتقرير لا تشوبه شائبة؛ فقد رفعته نفس السيدة التي تعرضت لهذا الموقف، فما تفسيرك له؟!»
أخذني هذا السؤال على غرة. وشعرت بالحيرة؛ لأن هذا الطارئ لم يعرض لي مع سيدة واحدة فقط، وإنما مع عدد منهن ولأسباب مختلفة. ولما كانت اللجنة دقيقة في عملها فلا بد أن تكون إجابتي محددة، وكيف يكون ذلك وأنا لا أعرف السيدة التي يعنيها ؟
كان العضو القصير - بدافع من حقده علي - هو الذي أنقذني من الإجابة؛ فلم يملك نفسه وصاح: «ربما كان عنينا.»
لكن ذا الشعر الأشقر لم يشاطره الرأي؛ فقد انحنى على أذن الرئيس قائلا: «هو في الغالب ...»
لم أسمع بقية الجملة، لكني لم أجد صعوبة في تخمينها.
أشار إلي صاحب الشعر الأشقر أن أقترب بحيث أقف أمامه، ثم أمرني بأن أخلع بنطلوني، ففعلت، ووضعت بنطلوني على حافة مقعد فارغ، ثم وقفت أمامهم بسروالي الداخلي القصير والجورب والحذاء.
ظلوا يتطلعون إلي كما لو كانوا ينتظرون شيئا، فمددت يدا إلى سروالي الداخلي متسائلا: «وهذا أيضا؟»
أومأ الأشقر برأسه فخلعت السروال ووضعته فوق البنطلون، بينما استقرت أنظار أعضاء اللجنة على الجزء العاري من جسدي يتأملونه باهتمام.
ولم يلبث الأشقر أن طلب مني أن أستدير وأعطيه ظهري، ثم أمرني أن أنحني، وشعرت بيده على أليتي العارية، وأمرني أن أسعل، وعندئذ شعرت بإصبعه داخل جسدي.
اعتدلت واقفا بعد أن سحب الرجل إصبعه، وعدت أواجههم، فرأيت الرجل الأشقر يتطلع إلى الرئيس قائلا في انتصار: «ألم أقل لك؟»
ابتسم العجوز لأول مرة، وانطلق الجميع يتكلمون في وقت واحد. وساد الهرج القاعدة؛ فلم أتبين شيئا مما يقولون. وأخيرا دق الرئيس على المائدة بقبضة يده، فتوقف الكلام، وعندما هدأت الضجة تماما خاطبني قائلا: «إن القرن الذي نعيش فيه هو بلا شك أعظم عصور التاريخ، سواء من حيث ضخامة وقائعه وعددها، أو من حيث الآفاق التي تنتظره. فبأي شيء من هذه الوقائع، كالحروب والثورات والابتكارات، سيذكر قرننا في المستقبل؟»
رحبت بهذا السؤال رغم صعوبته؛ لأني وجدت فيه فرصة لاستعراض معلوماتي في موضوعات محببة لدي.
قلت: «هذا سؤال قيم، وبوسعي أن أذكر أمورا كثيرة ذات خطر.»
تدخل ذو الشعر الأشقر موضحا: «إننا نريد أمرا واحدا، ولا بد أن تكون له صفة العالمية من حيث ماهيته أو دائرة نفوذه، فضلا عن قدرته على تجسيد المعاني السامية والخالدة لحضارة هذا القرن.»
ابتسمت وأنا أقول: «وهنا وجه الصعوبة يا سيدي؛ فمن الممكن أن نذكر مارلين مونرو ؛ لأن هذه الفاتنة الأمريكية كانت حدثا عالميا حضاريا بمعنى الكلمة، لكنه حدث عابر، ولى أمره وانتهى؛ فمقاييس الجمال تتغير كل يوم على يد أشخاص موهوبين مثل ديور وكاردان. والكائن الإنساني نفسه فان، وهي خاصية تنأى بنا عن اختيار البترول العربي الذي سينضب بعد سنوات قليلة. ويمكن أن نذكر غزو الفضاء سوى أنه لم يتمخض بعد عن شيء ذي قيمة. ونفس المعيار يجعلنا نستبعد الكثير من الثورات. ربما خطر لنا أن نتوقف عند فيتنام، وهو ما لا أحبذه لما سيجرنا إليه ذلك من مداخلات أيديولوجية لا ضرورة لها.
أقول كل هذا لأنكم طلبتم أمرا سيذكر به قرننا في المستقبل. أولا يتحقق هذا إذا ما وجد الشيء نفسه في المستقبل ليكون تذكرة دائمة بنفسه؟
وهذا يقودنا للبحث في اتجاه آخر، وسنعثر بغير صعوبة على الطريق السليم، لكنه للأسف طريق طويل مزدحم، كالطريق المؤدي إلى المطار، بلافتات كثيرة تحمل أسماء شديدة التنوع مثل فيليبس، توشيبا، جيليت، ميشلان، شل، كوداك، وستنجهاوس، فورد، نسله، مارلبورو.
وأظنكم توافقونني أيها السادة على أن العالم كله يستخدم الابتكارات التي تحمل هذه الأسماء. كما أن الشركات العملاقة التي تنتجها تستخدم العالم بدورها، فتحول العمال إلى آلات، والمستهلكون إلى أرقام، والأوطان إلى أسواق؛ وهي بذلك نتاج ذو خطر لمنجزات قرننا العلمية والتكنولوجية، كما أنها غير معرضة للفناء أو النضوب؛ فقد وجدت لتبقى.» - «أيها إذن نختار؟»
توقفت لحظة محسوبة وأنا أتطلع إليهم، ثم أجبت بطريقة مسرحية: «ولا واحدة!»
سرت همهمة بين الأعضاء فتجاسرت ورفعت يدي قائلا: «مهلا أيها السادة. لم أقصد أني عاجز عن الإجابة على سؤال لجنتكم الموقرة، وإنما أردت أن أقول إن الإجابة ليست فيما ذكرت لكم من أسماء.»
توقفت لحظة، ثم استطردت: «سأذكر لكم أيها السادة، ردا على سؤالكم، كلمة واحدة وإن كانت منصفة، هي كوكا-كولا.»
انتظرت أن أسمع تعليقا ما أتبين منه أثر إجابتي، لكن الصمت ران عليهم. عندئذ مضيت في حديثي: «لن نجد، أيها السادة، بين كل ما ذكرت شيئا تتجسد فيه حضارة هذا القرن ومنجزاته، بل آفاقه، مثل هذه الزجاجة الصغيرة الرشيقة التي يتسع است كل إنسان لرأسها الرفيع.»
ابتسمت لهم منتظرا أن يشاركوني الابتسام لمحاولتي في الفكاهة، لكنهم ظلوا يتطلعون إلي في جمود، فاستطردت: «إنها موجودة في كل مكان تقريبا، من فنلندا وألاسكا في الشمال، إلى أستراليا وجنوب أفريقيا في الجنوب. ولقد كان نبأ عودتها إلى الصين - بعد غيبة استمرت ثلاثين عاما - من الأنباء المدوية التي سيصاغ منها تاريخ هذا القرن. وفي الوقت الذي تختلف فيه كلمات الله والحب والسعادة من بلد إلى آخر، ومن لغة إلى غيرها، تعني الكوكا-كولا نفس الشيء في كل مكان، وبكافة اللغات. وإلى جانب هذا فإن المادة التي تصنع منها لا يهددها شيء بالنضوب؛ لأنها نبات يمكن زراعته بسهولة، والذوق الذي يستسيغها لن يتحول عنها بفضل ما تتميز به من قدرة على تكوين عادة تقرب من الإدمان.
ومنذ ظهورها، ارتبطت الكوكا-كولا بالمعالم الرئيسية للعصر، بل وساهمت أحيانا كثيرة في صياغتها؛ فقد توصل الصيدلي الأمريكي «بمبرتون» إلى تحضيرها بمدينة أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا، مسقط رأس الرئيس الأمريكي كارتر، وعصابات كلو-كلوس كلان الشهيرة في سنة 1886م، وهي نفس السنة التي تم فيها نحت تمثال الحرية الشهير، الذي أصبح رمزا للعالم الجديد.
أما الزجاجة نفسها فهي إحدى ثمار أول حرب تحريرية تخوضها الولايات المتحدة خارج حدودها، بعد انتصارها في الداخل على الهنود الحمر، وهي الحرب ضد إسبانيا في كوبا، والتي انتهت عام 1899م بإعلان «استقلال» كل من كوبا وبورتوريكو والفيليبين؛ ففي كوبا شهد جندي أمريكي - يحمل بالصدفة اسم المفكر الأمريكي العظيم للقرن السابق بنيامين فرانكلين - زجاجة مياه غازية من شراب الموز. وتمكن فور عودته إلى بلاده من الحصول على امتياز تعبئة الاختراع الجديد في زجاجات تعددت أشكالها حتى استقرت أخيرا على الشكل الشهير المعروف «بالمرأة ذات الثوب الضيق».
ربما كانت الكوكا-كولا هي أول من حطم المفهوم القديم للإعلان، الذي كان قاصرا على مجرد بيان بمواصفات السلعة، واضعة بذلك حجر الأساس في البناء الشامخ لأحد فنون العصر القائدة، وأعني بذلك فن الدعاية. لكن المؤكد أنها هي التي قضت على الوهم الذي ساد طويلا بشأن العلاقة بين العطش ودرجة الحرارة، عندما ابتدعت وروجت شعار «العطش لا يعرف فصلا». وكانت سباقة إلى استغلال الراديو، وإلى إضاءة المدن بالإعلانات الضوئية، وتبني البرامج التليفزيونية والأفلام السينمائية، واحتضان نجوم الدنيا الجديدة ومعبوديها الجدد من ممثلين وخنافس ورواد للروك والتويست والبوب.
وخاضت الكوكا-كولا غمار حربين عالميتين، خرجت منهما منتصرة؛ فقد باعت خمسة مليارات من الزجاجات خلال السنوات السبع للحرب الثانية. ثم إنها دخلت أوروبا على جناح مشروع مارشال الذي ساعد الأوروبيين بالمنتجات والقروض الأمريكية على تغطية ما سببته الحرب من عجز في الدولارات.
وإذ استقرت فوق قمة المجتمع الاستهلاكي إلى جوار سيارة فورد وقلم باركر وولاعة رونسون، لم تفتها التغيرات المتلاحقة في عالم اليوم؛ فعندما بدأ عصر الشراء العظيم والبيع بالتقسيط والتنافس على أكبر سيارة وأحدث طراز منها بأكبر مساحة في الخلف، تستوعب أكبر كمية من السلع لتملأ أكبر ثلاجة؛ تقدمت الكوكا-كولا بالزجاجة العائلية «الماكسي».
وعندما اشتركت الولايات المتحدة في حرب تحريرية جديدة في كوريا، ابتكرت الكوكا-كولا علبتها الصفيح؛ حتى يمكن إلقاؤها بالمظلات إلى الجنود. ولم تقتصر أهمية هذه العلبة على أن صورة الأمريكي الذي يفتحها بأسنانه أصبحت رمزا للبطولة والرجولة، أو على أنها أثبتت فاعليتها في الحرب التالية بفيتنام، وإنما تعدت كل ذلك إلى ما هو أخطر، فدشنت عصر الفوارغ، الذي يرمي فيه المستهلك بعبوة السلعة بعد أن ينتهي من استخدامها.
ولا شك أن نجاح الكوكا-كولا يرجع أساسا إلى حسن التنظيم، الذي ابتكرت له منذ البداية الشكل الهرمي، حيث توجد الشركة الأصلية في القمة، وتتتابع تحتها، حتى القاعدة، شركات مستقلة تتولى التعبئة والتوزيع. وقد مكنها هذا الشكل الفريد من الحصول على التمويل اللازم لتغطية السوق الأمريكية في أول عهدها، ثم ساعدها فيما بعد على الإفلات من حملة روزفلت ضد الاحتكارات، وأتاح لها أخيرا أن تغزو العالم.
فهي تعتمد في فتح الأسواق العالمية على إقامة مؤسسات محلية مستقلة في كل بلد، يؤلفها أشهر الرأسماليين به. وقد حققت هذه الخطة نتائج هائلة، ليس أقلها إضفاء الصبغة الوطنية على الزجاجة الأمريكية.
ولعلكم سمعتم بقصة الياباني الذي تمايل طربا عندما قدموا إليه زجاجة كوكا-كولا في أحد مطاعم باريس؛ إذ ظن أن إدارة المطعم كرمته بصفة خاصة فأحضرت له مشروبه القومي بالطائرة من طوكيو.
ولمزيد من الدلالة على ما لهذه الزجاجة من خطر، فإني أحيلكم أيها السادة إلى المقال الذي نشرته جريدة «الموند ديبلوماتيك» الفرنسية المعروفة في عدد نوفمبر (تشرين الثاني) 1976م، وذكرت فيه أن رئيس شركة الكوكا-كولا هو الذي أعد - منذ زمن بعيد - وبالاشتراك مع عدد آخر من رؤساء الشركات الأمريكية الضخمة، جيمي كارتر، ليكون مرشحا لرئاسة الولايات المتحدة.
ويقول المقال - الذي قرأتموه ولا شك - إن رؤساء الشركات المذكورة كونوا لجنة من عشرة سياسيين - بينهم الرئيس الأمريكي نفسه ونائبه والتر مونديل - لتمثيل الفرع الأمريكي لما يسمى ب «اللجنة الثلاثية» التي أسسها عام 1973م دافيد روكفلر، وتولى إدارتها حتى فترة قريبة جدا البروفسور زيجنيو برجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي. أما لماذا سميت اللجنة بالثلاثية؛ فلأنها تجمع أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان في هدف محدد هو مواجهة العالم الثالث وقوى اليسار في أوروبا الغربية.
وإذا كان هذا هو نفوذها على أكبر وأغنى دولة في العالم، فلكم أن تتصوروا وضعها في بلدان العالم الثالث، وخاصة بلادنا نحن الصغيرة الفقيرة.
والواقع أن من حقنا أن نصدق ما يقال عن هذه الزجاجة البريئة المظهر، وكيف أنها تلعب دورا حاسما في اختيار طريقة حياتنا، وميول أذواقنا، ورؤساء بلادنا وملوكها، بل والحروب التي نشترك فيها، والمعاهدات التي نوقعها.»
خيل إلي أن الوجوم سيطر على اللجنة، وقدرت أن السبب ربما يعود إلى أني - وقد خلب الموضوع لبي - أطلت الحديث أكثر مما يجب، لكني لم ألبث أن أحسست إحساسا مبهما بأني «قد وطأت قدم أحدهم»، وهو تعبير دارج في لغة اللجنة، يستعمل للدلالة على الشخص الذي يرتكب إساءة أو خطأ عن غير قصد.
كنت ما أزال مجردا من بنطلوني وسروالي الداخلي، وجعلني هذا أشعر أني عار تماما أمام اللجنة، ليس فقط بالمعنى المادي للكلمة، وإنما بمعناها المجازي أيضا، وأنني تحت رحمتهم تماما.
لكن أغرب ما في الأمر أن الدقائق الأخيرة أمدتني بإحساس مبهم بأني أستطيع أن أوجه إليهم ضربة ما، أو أرد لهم ضربتهم بصورة ما.
تنحنح القصير الذي صرت أبادله الكراهية، وبعد أن التفت للعجوز مستأذنا، وجه إلي الحديث بلهجة متكلفة: «إن إجابتك المستفيضة تكشف عن سعة اطلاعك في الشئون المعاصرة، ونحن نتمنى أن تكون على نفس القدر من السعة (وهنا لم أملك نفسي من الابتسام) بالنسبة للقضايا التاريخية.»
التمعت العينان الملونتان لذي الشعر الأشقر وقال لزميله القصير: «إذا سمحت لي.»
ثم اتجه إلي قائلا: «سنختبر هذه النقطة حالا. وبالنظر للأهمية التي أعطيتها في حديثك للشكل الهرمي، فليكن الهرم الأكبر موضوعنا. فلا يساورني الشك في أنك تتمنى الجلوس فوق قمته. على أن لك مطلق الحرية في اختيار الزاوية التي تريد الحديث عنها.»
للوهلة الأولى فرحت؛ فها هو موضوع أعرفه جيدا بحكم مصريتي، وأستطيع أن أصول وأجول فيه كما أشاء، لكن قلبي سرعان ما حدثني بأن هناك شركا كبيرا في انتظاري، وتضرعت إلى الله أن يلهمني كي أتجنبه، وأزيل أيضا الأثر السيئ الذي أحدثته كلمتي السابقة. ولم يلبث الله أن استجاب لدعائي؛ فأنار بصيرتي، وانطلقت أتكلم بثقة وطمأنينة: «إن المجموعة المعمارية المؤلفة من الأهرامات الثلاثة وأبي الهول، والتي شيدت قبل خمسة آلاف سنة، ما زالت تمثل لغزا من الألغاز التي تتحدى العقل الإنساني، وتشهد بعبقرية من شيدوها.
وكلنا - ولا شك - تابعنا المحاولة الأخيرة التي قام بها العلماء الأمريكان لكشف هذا اللغز بالأجهزة الإلكترونية المتقدمة، ولم تسفر عن شيء.
فما زال العلماء مختلفين في الغرض من إقامة الأهرامات وكيفية بنائها؛ فمنهم من يرى أنها شيدت لتكون مراصد لتسجيل ما حدث، والتنبؤ بما سيحدث. ويقول دافيدسون: إن السطوح الخارجية للهرم الأكبر صممت بحيث تعكس الضوء. وبذلك يكون الهرم بمثابة مزولة شمسية تعين مواعيد البذار والحصاد.
وهناك بالطبع الاحتمال الأغلب، وهو تخليد أسماء الملوك والمحافظة على جثثهم؛ فلا شك أن الغرض الواضح من بناء الأهرامات هو أن تكون بمثابة مقابر خالدة. وإن كان خوفو قد نجح في تخليد اسمه أكثر من أي ملك آخر في التاريخ، فإن الغرض الأساسي من بناء الهرم، وهو المحافظة على جثته لم يتحقق؛ لأنها اختفت رغم الشبكة الداخلية المتقنة من الممرات والغرف التي أخفيت عمدا أثناء البناء.
ونحن نعرف من هيرودوت أن الأحجار المستخدمة في بناء الهرم الأكبر كانت تنقل بواسطة نهر النيل، عبر طريق بناه مائة ألف عامل في عشر سنوات، وبعد ذلك ترفع من درجة إلى أخرى في البناء بواسطة روافع مصنوعة من قضبان قصيرة.
وليس هناك من دليل على أن المصريين استخدموا - في أي عصر من عصور تاريخهم - أجهزة ميكانيكية عدا الرافعة والبكرة والمنحدر المائل؛ ولهذا يميل الكثيرون إلى الاعتقاد بأن ضخامة البناء ودقته تقطعان بأن وسائل ميكانيكية سرية - ضاع سرها - قد استخدمت في إتمامه. وربما كان هذا مبعث الخلاف الناجم بشأن دور الإسرائيليين في بنائه؛ فالبعض يقول إن خوفو نفسه كان من ملوك بني إسرائيل في حقيقة الأمر، وقد أخفى ذلك طبقا لتقاليد هذا الشعب، الذي أجبره الاضطهاد المتواصل منذ فجر التاريخ على أن يتسلح بالسرية التامة في كل أموره. والبعض الآخر يقول إن خوفو لم يكن سوى فرعون مصري، لكنه استعان بالعبقرية اليهودية لحل المشاكل المعقدة التي طرحها بناء هذه الأعجوبة المعمارية.
والواقع أن الخواص الهندسية للهرم الأكبر تدل على دراية وافرة بعلم الهندسة، وقدرة فائقة على الابتكار والإبداع. وهما أمران لم يتوفرا بالطبع لدى المصريين؛ ولهذا فمن الأرجح أن يكونوا قد استعانوا بالخبرة الأجنبية الإسرائيلية. وإن كان هناك من يؤكد أن الإسرائيليين كانوا عبيدا لخوفو، وأن هذا الملك المستبد أرغمهم على العمل في بناء الأهرام. وهذه النقطة بالذات محل مناقشة، فإذا كان من الصعب إنكار الطابع الاستبدادي لفراعنة مصر على مر الزمن، فمن العسير أن نتصور أن بناء بهذه العظمة والدقة يمكن أن يكون وليد السخرة وحدها، والأقرب إلى التصديق أن يكون وليد إيمان عميق بديانة تضع الفرعون على قمة الوجود.
وهذا ما يؤدي بنا إلى تفضيل النظرية القائلة بأن خوفو نفسه كان من الملوك السريين لبني إسرائيل، خاصة وأننا نعرف المهندس الذي أشرف على بناء الهرم ويدعى حم-إيونو، وهو ابن عم خوفو نفسه.
وفي كافة الحالات فإن هذا البناء الهائل الذي تكون من مليونين وثلاثمائة ألف قطعة من الحجر، شاهد على عبقرية من بنوه؛ فهناك ما يدل على أن مناشير نحاسية يبلغ طول الواحد منها تسعة أقدام، قد استخدمت في قطع الكتل الحجرية الكبيرة، التي إذا قطعت اليوم إلى أجزاء صغيرة بطول قدم لكل منها، ووضعت بجانب بعضها؛ لأمكنها أن تغطي ثلثي المسافة حول الأرض عند خط الاستواء.
والمؤكد أيضا أن المثاقب الأنبوبية الشكل قد استخدمت في تفريغ الكتل الحجرية. والحق أن الثقوب الحديثة لا تداني في الدقة والكمال تلك التي صنعها أولئك البناة العظام منذ خمسة آلاف عام، وهي وحدها معجزة حقيقية.»
شعرت أن التوتر الذي كان يسود الحجرة قد تلاشى، وأن الجو المعادي لي قد خف كثيرا. وكان أعضاء اللجنة قد استمعوا لي في اهتمام شديد، حتى إن الرجل البدين الذي يجلس في الطرف أنزل عينيه لأول مرة من السقف وصوبهما إلي. وعندما انتهيت رمقني أحد العسكريين بنظرة رضاء أسعدتني. ودبت الحركة في الأعضاء فانهمكوا في أحاديث هامسة. وعندئذ لحظت أن الجزء الأسفل من جسدي ما زال عاريا، فتناولت سروالي الداخلي في تردد. وعندما لم يستوقفني أحد ارتديته على عجل، ثم أشفعته ببنطلوني.
وبدا أنهم استقروا أخيرا على رأي تولي الرجل ذي الشعر الأشقر إبلاغه للرئيس عبر أذنه السليمة، فقال لي هذا وهو يشير إلى الأوراق التي وضعتها أمامهم فوق المائدة: «يمكنك أن تأخذ هذه الأشياء الآن. لم تعد لدينا أسئلة، وعندما نتوصل إلى قرار بشأنك سنحيطك به علما.»
جمعت أوراقي وأنا أحاول أن أبدو واثقا من الحكم الذي سيصدرونه، لكني كنت أحس باضطراب شديد في أمعائي، وكنت أقوم بحركاتي دون وعي ، فوضعت الأوراق في الحقيبة بغير انتظام، ثم أغلقتها وتناولتها في يدي اليسرى (إذ تذكرت ما وقع لي في بداية المقابلة). وانحنيت أمام أعضاء اللجنة دون أن أنبس بكلمة، ثم اتجهت إلى الباب فأدرت مقبضه بيدي اليمنى، وسررت لأنه استجاب ليدي في يسر وانفتح، فغادرت القاعة ولم أنس أن أغلق الباب من خلفي. ووضعت الحقيبة على الأرض، ثم أشعلت سيجارة في لهفة.
وكنت أعرف أني لن أذوق طعم النوم، أو راحة البال، حتى تصدر اللجنة قرارها النهائي بشأني.
الفصل الثاني
انقضت عدة شهور على المقابلة التي جرت لي مع اللجنة، تناوبتني خلالها مشاعر اليأس والرجاء؛ فكنت أستيقظ في الصباح بثقة مطلقة في أن قرارها سيكون لصالحي، ولا تمضي ساعات إلا ويكون الشك قد راودني، فأسترجع وقائع المقابلة لحظة بلحظة، وعندئذ يستولي علي هبوط بالغ، أو أقع فريسة ليأس مطبق.
لم تكن هناك وسيلة لتلمس موقف اللجنة مني، أو الاتجاه الذي تمضي فيه مداولاتها بشأني. حقا إنه قد خطر لي أن أسعى للقاء العانس، عضو اللجنة، لكني تصورت أنها ليست من البله بحيث تفضي إلي على الفور بما أريد، ولا بد أن أبذل جهدا خاصا لأبلغ هذه الغاية. على أني كلما تذكرت وجهها الشاحب، تلاشت رغبتي في لقائها. فرغم أني تورطت في بضعة أشياء تتناقض بدرجة أو أخرى مع مبادئي، منها على الأقل قبولي للمهانة التي تعرضت لها على «يد» اللجنة، إلا أني لم أهبط بعد إلى الدرك الذي أتودد فيه إلى امرأة توددا مصطنعا. وليس الأمر قرارا عقليا بقدر ما هو استعداد نفسي في الأساس. وحتى لو استطعت، فماذا يضمن لي ألا أضطر للمضي حتى النهاية. ومعنى هذا أن يتطور الموقف إلى كارثة، بالنظر إلى سوابقي في هذا الشأن، والتي كانت موضوعا للعبث بي أمام اللجنة.
لم يبق أمامي غير الانتظار، فلزمت البيت لا أغادره إلا لماما كي لا تفوتني إشارة من اللجنة تبلغني فيه بقرارها، إن سلبا أو إيجابا، أو تستدعيني أمامها لهذا الغرض.
وكنت أهم بتناول عشائي ذات مساء ، عندما وصلتني منها برقية أثارت حيرتي؛ فبدلا من دعوة للحضور، أو بلاغ وجيز بالقرار النهائي، طالعتني هذه الكلمات: «ننتظر دراسة عن ألمع شخصية عربية معاصرة».
كانت المعلومات القليلة التي تجمعت لدي عن إجراءات اللجنة تؤكد أني أمام إجراء غريب ليس له سابقة؛ فقد جرت اللجنة على أن تبت في أمر من يسوقه حظه للمثول أمامها، من خلال لقاء وحيد لا يتكرر.
ولم يكن من سبيل لتعليل هذا التحول الغريب في تقاليدها إلا بافتراض حدوث انقسام في الرأي بشأني بين أعضائها؛ ومعنى هذا أن قوة مركزي هي الدافع لهذا القرار، الذي أرادت به اللجنة - ولا شك - إرضاء المعترضين علي (وبينهم بالتأكيد ذلك القصير قبيح الوجه)، وإعطائي فرصة جديدة لتبيان مواهبي.
رفع هذا التأويل من معنوياتي إلى أن تبينت الوجه الآخر من الأمر؛ فماذا يمنع أن يكون ضعف مركزي، على العكس، هو الذي جعل اللجنة تحاول إرضاء من تصدى للوقوف بجانبي، بمنحي فرصة ثانية؟ ومعنى هذا - في الغالب - أن المهمة المطروحة ليست لها قيمة كبيرة، وإنما هي ذريعة لتأجيل القرار الذي تحدد جوهره بالفعل.
وقبل أن أهوي إلى قرار اليأس، تراءى لي احتمال ثالث، هو أن تكون اللجنة قد أدخلت بعض التطوير على إجراءاتها. ومن الطبيعي أني لم أسمع بالنبأ منذ كانت الصحف لا تخوض في شئونها من قريب أو بعيد.
ساعد على ميلي للأخذ بهذا التفسير أن الدراسة المطلوبة ستكشف عن مدى تمكني من لغة اللجنة، حيث إنها ستقدم إليها مكتوبة كما يفهم من ثنايا البرقية. ولم تكن تهتم في السابق بهذا الجانب من قدرات الماثلين أمامها.
اتجه اهتمامي بعد ذلك إلى دراسة البرقية بحثا عن الفخاخ التي اشتهرت اللجنة بها، فوجدتها حافلة بالعديد منها؛ فهي أولا لم تحدد زمنا لهذه الدراسة ولا حجما لها، فلا أعرف إذا كان المطلوب هو عجالة سريعة مثل ما ينشر بالصحف، أو بحثا أكاديميا في مئات الصفحات. كما أنها لم تحدد المقصود باللمعان، أهو الشهرة؟ أم تحقيق إنجازات معينة؟ وأي نوع من الإنجازات؟ وعلى أي مستوى؛ فردي أم عام؟ وفي أي مجال؟
لم يكن من الممكن الاستفسار من اللجنة عن هذه الأمور؛ لأن هذا من شأنه - إذا فرضنا أنه تيسر - أن يظهرني بمظهر العاجز، ويقضي على كل فرصي منذ كانت اللجنة تعول كثيرا على طريقة تفسير أسئلتها؛ لهذا لم يكن أمامي سوى الاعتماد على نفسي.
لجأت إلى معاجم اللغة فوجدت أن للمعان في لغة اللجنة معنى واحدا يقتصر على خاصية عكس الضوء. أما العرب فقد أضفوا على الكلمة معاني متعددة فاستخدموها بمعنى البرق والإضاءة، وبمعنى السرقة عندما قالوا: لمع بالشيء؛ أي ذهب به واختلسه. كما قالوا إن الأنثى ألمعت؛ أي ظهر حملها وتحرك الجنين في بطنها. وقالوا أيضا إن الألمع هو الذكي المتوقد. أما ألمع الناس فهو أكثرهم كذبا. ويبدو أن المعنى الأخير هو الذي اشتق منه التعبير الشعبي المعاصر «أبو لمعة الأصلي»، الذي عرف في البداية كاسم تجاري لأجود أنواع الطلاءات المستخدمة في تلميع الأحذية، ثم أصبح مع الوقت علما على كل من أدمن الكذب والمبالغة والادعاء.
ولكم أن تتخيلوا حيرتي؛ فأي هذه المعاني التي تعرفها اللجنة هو المقصود؟ وعم أبحث بين مئات الشخصيات التي تحدث ضجيجا لا ينتهي في كل بلد عربي على حدة، وعلى نطاق العالم العربي ككل؟!
قلبت الأمر في رأسي مدة دون أن أصل إلى رأي، وأخيرا قررت أن أستعرض الأسماء المعروفة في المنطقة من مختلف المجالات، دون أن أتقيد بمقياس معين لهذه المعرفة. ومن خلال استبعاد الواحد منها بعد الآخر، أحصر البحث في عدد محدود من الأسماء والمعايير، ثم أتخذ قرارا بشأن المعيار النهائي في اختيار أحدها.
بدأت بالزعماء السياسيين والحكام؛ فليس هناك من هم أكثر إحداثا للضجيج منهم، ولا أقوى، لكني لم ألبث أن تبينت المشاكل التي ستترتب على اختيار أحدهم؛ فالمعروف أن الجدل يثور كثيرا حولهم، ومن شأن دراسة كالتي أنا مقدم عليها أن تتعرض لتقويم الشخصية المختارة. وفي هذه الحالة تكون ثمة فرصة - قد لا تتوفر في حالات أخرى - لأن أتخذ وجهة نظر تتعارض مع تلك التي تتبناها اللجنة.
استقر رأيي على استبعاد الساسة والحكام ، وأتبعتهم بالقادة العسكريين عندما لم تسعفني ذاكرتي باسم واحد منهم. ثم أسقطت الشعراء من حسابي لأني لا أستسيغ - ربما عن خطأ - كلماتهم الفضفاضة ومعانيهم المبهمة؛ وبذلك فأنا من البداية متحيز ضدهم، وهو أمر يخل بالموضوعية الكاملة التي لا بد أن تتوفر في دراسة كالتي أنا بصددها.
دونت أسماء عدد من الكتاب البارزين. وعندما أخذت في تحليل وضع كل منهم، وجدت أن ما نالوه من مكانة يعود إلى الأفكار والمبادئ التي دعوا إليها في وقت ما. وبمزيد من التحليل تبينت أنهم أصبحوا فريقين؛ الأول التزم الصمت، سواء عن رهبة أو قنوط، رغم أنه يعرف أكثر من غيره حقيقة ما يجري، والفريق الآخر تراجع بسهولة ويسر عن دعاويه السابقة، بل وتنكر لها.
وبحثت عبثا عن قاض واحد ارتبط اسمه بوقفة مجيدة إلى جانب الحق. ومن هذه الزاوية أيضا أمكنني أن أتخلص من الصحفيين وزعماء العمال، وسرعان ما ألحقت بهم من يدعون بنواب الشعب.
واكتشفت أن أغلب العلماء والأطباء والفنانين والمهندسين والمدرسين وأساتذة الجامعات كانوا مشغولين بجمع الثروات عن القيام بعمل واحد من شأنه أن يضعهم في دائرة الضوء، أو بالقرب منها. حقا إن صيت بعض من هاجر منهم طبق الآفاق بما حققه من كشف أو ابتكار في مجاله (رغم شكي أن الأمر في كثير من الحالات لا يتعدى الدعاية المفتعلة). لكنه فعل ذلك في الخارج، بعد أن نشأ وتعلم بين ظهرانينا، ووضعت ابتكاراته وكشوفه على الفور لخدمة البلاد الأجنبية وأهلها. فأي علاقة صارت تربطه بموطن نشأته؟!
توقفت طويلا عند عدد من المغنين والمغنيات الذين يتمتعون بشعبية واسعة بين جميع العرب، وتتابعهم الآذان بشغف من فوق قمم الجبال، وفي متاهات الصحراء، ومراكز المدن، لكن الكلمات المبتذلة والألحان الرخيصة التي يرددونها نفرتني منهم. وكنت أميل إلى صوت أحد كبارهم، الذي استطاع بعبقرية من نوع خاص أن يبقى فوق القمة أكثر من نصف قرن، طافيا فوق سطح الأحداث التي عصفت بهذه الأمة. لكني كنت أعرف، بحكم ظروف عرضت لي، المصدر الأصلي لأغلب الألحان التي نسبها لنفسه، كما كنت أعرف أيضا أنه يقدم ما يشبه الرواتب الشهرية لعديد من الشخصيات الإعلامية التي تعمل على حراسة مجده، وأنه يحارب بلا هوادة أية أصوات جديدة منافسة.
وقضيت وقتا مماثلا أدرس موقف تلك الدمى التي تملأ فراغ الشاشتين الكبيرة والصغيرة على السواء، فلم أجد لدي حماسا لتقصي أمر أحدها. فبالرغم من دقة وضعي، وحاجتي الشديدة لرضاء اللجنة، فاني آليت على نفسي في كل أموري ألا أقوم بعمل من الأعمال إلا ويكون له صدى في نفسي، ويستجيب لشيء عميق أو أصيل في داخلي.
لم يتبق غير الراقصات اللاتي تظهر صورهن في الصحف كل يوم، ويأتي للاستمتاع بمشاهدتهن في الملاهي المتناثرة تحت سفح الأهرامات العتيدة، آلاف المبعوثين المتعطشين إلى المعرفة من مختلف أركان الوطن العربي.
وكان ثمة ما يغري بالبحث والتقصي بشأنهن، وأقصد بذلك بعدهن عن الأمور الأيديولوجية والسياسية؛ مما يضمن منذ البداية عدم الاصطدام باللجنة.
اتجه ذهني على الفور إلى واحدة منهن، دأبت الصحف على نشر أخبارها. وكنت قد شاهدتها بعيني في مرة وحيدة قادتني فيها الصدف إلى الملهى الذي ترقص به، وأعجبني يومها جسدها الفارع الطويل الذي تلاعبت بدلة الرقصة اللامعة بتفاصيله الرائعة بين الكشف والإخفاء، رغم ما اتسمت به حركاتها من مبالغة. ولاحظت أنها تجد صعوبة في إيداع الهبات التي انهالت عليها، بين نهديها المكتنزين. وكان من الواضح أن بدلة الرقص لا تترك في هذا الموضع مكانا كافيا للأوراق العريضة من الجنيهات العشر التي كانت الهبات تتألف منها، وهو أمر تنبهت إليه الدولة أخيرا عندما أصدرت أوراقا من فئة المائة جنيه في أحجام صغيرة ملائمة، مما يقطع بمدى ما لصاحبتنا من ثقل.
فكرت طويلا في الأمر، وقد استمالني أني سأقضي - بحكم الدراسة المقترحة - بعض الوقت بالقرب منها، قد تسمح لي خلاله بارتياد الأماكن المطروقة جيدا من فنها العظيم.
إلا أني لم ألبث أن تخليت عن هذه الفكرة آسفا، عندما تصورت المقاومة العنيفة التي ستواجهني من عضوات اللجنة، والتي ستحظى - دون شك - ببعض المساندة، ولو ظاهريا، من بقية الأعضاء .
عندئذ انتابني شعور بالغ بالإحباط والعجز، ورأيت أني مشرف على الإفلاس والفشل، ولمت نفسي على أني انسقت منذ البداية وراء سراب من الطموح، قادتني إليه ثقة مبالغة بمواهبي، فوضعت نفسي في طريق اللجنة، متعرضا بذلك لمحن متتابعة.
كان هذا منحى تفكيري ذات صباح، وأنا أمر ببصري في غير مبالاة على عناوين الصحف، متوقفا عند بعضها لأقرأ التفاصيل بشعور المرارة الذي يفيض بي عادة عندما أفعل.
لفتت نظري صورة كبيرة بعرض الصفحة الأخيرة، تمثل إعلانا عن بنك أمريكي-عربي جديد، ظهر بها جانب من حفل افتتاحه، وعدد من كبار المؤسسين وجلهم من الشخصيات البارزة.
والذي اجتذب انتباهي على وجه التحديد هو البدلة اللامعة لأحد الذين ظهروا في الصورة. ولم أتعرف عليه في البداية بسبب التمويه الذي تتميز به هذه الصور عادة، إلا أني تمكنت من ذلك بعد أن قرأت أسماء الواقفين بالترتيب.
كان لاسمه الكامل وقع غريب في أذني؛ لأنه كان معروفا لي وللكثيرين بلقب «الدكتور» وحسب. ومع أن بلادنا تعج بالآلاف الذين يحملون هذا اللقب العلمي الرفيع، فإن مجرد ذكر اللقب وحده كان كافيا للدلالة عليه دون سواه.
ظل كل من اسمه ولقبه يتردد في ذهني طول اليوم، ومعهما صورته بالبدلة اللامعة، وبعض الذكريات القديمة، ومنها المرة الوحيدة التي رأيته فيها رأي العين. وكان ذلك منذ خمس سنوات تقريبا عندما توقفت بي سيارة أجرة أمام إشارة المرور في ميدان رمسيس، ورأيت الأنظار كلها تتجه إلى سيارة مرسيدس فخمة من أحدث طراز، استقر صاحبنا في مؤخرتها ممسكا بسماعة تليفون. وكان ذلك أمرا عجبا حينئذ؛ لأننا كنا ما نزال قريبي العهد بحرب أكتوبر، ولم نكن قد انفتحنا بعد، وبالإضافة إلى ذلك كانت أغلب التليفونات الثابتة في البلاد عاطلة عن العمل، فما بالكم بواحد متحرك يعمل؟!
وبعد ذلك بعام أو نحوه حملتني الظروف إلى بغداد، وكنت أسير مع صديق عراقي في أحد الشوارع القريبة من وسط المدينة، عندما رأيت على الرصيف المقابل منزلا مكونا من طابقين، تحيط به حديقة صغيرة، ويحرسه عدد من الجنود بالملابس المموهة والمدافع الرشاشة. سألت صديقي عن صاحب المنزل فإذا به ينهرني بصوت خافت وقد أطرق برأسه إلى الأرض: «انظر أمامك ولا تتطلع إلى الناحية الأخرى.» فعلت كما أراد، وعندما ابتعدنا عن المنطقة قال لي: «أتريد أن تقضي علينا؟ هذا منزل «الدكتور»!» لم أجرؤ ساعتها على مزيد من الاستفسار؛ فلم أعرف حتى الآن ما إذا كان المقصود بذلك هو مواطني المعروف، أم شخص آخر، عراقي، ينازعه اللقب.
وإذ أعطيت الأمر الآن جانبا من تفكيري رأيت أنه يستوي في الحالتين؛ فلا يقلل من شأن مواطني أن يوجد منافس له في كل عاصمة عربية. وعلى العكس؛ فإن ذلك يعطي فكرة عن أوجه التشابه، إن لم يكن التطابق بين الاثنين، ويؤكد من جديد خطورة شأن صاحبي وأهميته.
ولعلكم لمستم اهتمامي بأمره؛ فمع تداعي الذكريات والانطباعات، ازددت اقتناعا بأني وجدت ضالتي أخيرا. قد لا يكون «الدكتور» معروفا بالقدر الذي يتمتع به المغنون والراقصات، إلا أنه بالتأكيد أكثر منهم فاعلية وتأثيرا، لا في حدود بلادي وحدها، وإنما على مستوى العالم العربي بأكمله. ولا شك في أنه يساهم بقدر كبير في صياغة الحاضر والمستقبل، فهل يكون ثمة من هو «ألمع» من ذلك؟
هكذا حزمت أمري على أن أجعله موضوعا للدراسة المطلوبة مني.
وضعت خطة بارعة تتلخص في قراءة كل ما كتب عنه من دراسات أو مقالات أو أنباء عابرة بالصحف، ثم مقابلته وتوجيه عدد من الأسئلة الذكية إليه أعدها بعناية، بحيث تسد الفجوات التي ستقابلني في قراءاتي، وأستكمل بها معالم شخصيته التي أنوي رسمها بدقة وإحكام.
على أني اضطررت إلى تعديل خطتي عندما لم أجد كتابا واحدا عنه. ويبدو أن أحدا غيري لم ينتبه إلى أهميته، ولم يجد فيه موضوعا جذابا، أو ربما كان الكتاب ينتظرون موته لتكتمل بذلك سيرته.
وبقدر ما سعدت لأني أطرق موضوعا بكرا لم يسبقني إليه أحد، شعرت بالصعوبات الناشئة عن ذلك؛ لهذا قررت أن أبدأ بمقابلته؛ فقد يدلني على شيء كتب عنه وفاتني العثور عليه، أو قد تكون لديه بعض المذكرات الشخصية التي لا يمانع في اطلاعي عليها.
ارتديت أفضل ملابسي، وحملت حقيبتي «السامسونايت» بعد أن أودعت بها مسجلة يابانية صغيرة الحجم، وكراسا جديدا، وعدة أقلام، وورقة صغيرة دونت بها رءوس الموضوعات التي أبغي طرقها معه.
انطلقت إلى مقر إحدى المؤسسات التي ارتبطت باسمه بعد أن حصلت على عنوانها من دفتر التليفون. وذكر لي موظف الاستعلامات أن «الدكتور» لا يتردد على مؤسسته في مواعيد محددة. وعندما أوضحت له حاجتي الشديدة للقائه - دون أن أذكر له بالطبع السبب الحقيقي - أحالني إلى إحدى السكرتيرات بعد أن فتش حقيبتي للاطمئنان على خلوها من الأسلحة والمتفجرات.
عاملتني السكرتيرة بجفاء، مؤكدة استحالة الفوز بمقابلة «الدكتور» في موعد قريب؛ فهو أولا لا يتواجد في مكتبه إلا نادرا لأنه دائم التنقل بين العواصم العربية بحكم أشغاله، وهناك ثانية قائمة طويلة من المنتظرين، ولا بد لي ثالثا من إيضاح مطلبي باستفاضة على ورقة مكتوبة بلغة سليمة تقدم إليها لتحيلها بعد ذلك إلى مدير مكتبه. وعرفت منها أن مدير المكتب هو نفسه أحد أساتذة الجامعات المعروفين الذين لمعوا في الستينيات، وارتبطت أسماؤهم بمشروعات طموحة للتصنيع الثقيل.
وقعت في حيرة شديدة؛ فلم يكن في وسعي أن أذكر حقيقة علاقتي باللجنة. فبالرغم من خطورتها وسعة نفوذها، فإنها من الناحية الرسمية لا وجود لها، وأي محاولة للتمسح بها لن تقابل إلا بالاستغراب والسخرية. وإذا كان من الممكن أن يدور الحديث حول هذا الموضوع بيني وبين «الدكتور» نفسه، فمن المستحيل أن أشير إليه في ورقة تأخذها السكرتيرة لتضعها أمام مدير المكتب. أما إذا أغفلت دور اللجنة، فماذا يتبقى؟ أحد هواة الكتابة المجهولين يبغي وضع كتاب عن شخصكم الكريم. وما الذي يضمن له أني لست سوى محتال يسعى للقائه طلبا لوظيفة أو صدقة.
انصرفت مهموما لأدرس الأمر، ورأيت أن الوقت يمضي بسرعة دون أن أتوصل لشيء، وأن محاولة الالتقاء بالدكتور ستستغرق عدة أيام وربما أسابيع، وفي النهاية قد لا تسفر عن شيء؛ لذلك غيرت خطتي مرة ثانية، وعزمت على التفرغ فورا لجمع كل ما نشر عنه بالصحف.
مضيت إلى المبنى الضخم الذي يضم مكاتب أهم الصحف اليومية وأكثرها توزيعا، وطلبت الاطلاع على أعدادها الصادرة منذ ربع قرن؛ فهذا هو التاريخ الذي رأيت أنه يصلح نقطة بدء لتتبع مسيرة «الدكتور» الحافلة.
اتخذت مكاني إلى إحدى الموائد في قاعة المكتبة، وأخرجت من حقيبتي الكراس الفارغ والقلم، بينما أحضر لي الموظف عدة مجلدات من الصحيفة يكسوها الغبار، فتناولت المجلد الأول، وفتحت غلافه، ثم بدأت أقلب الصفحات.
غصت على الفور في عالم غريب من الأحداث المثيرة، والرجال والنساء الذين ملئوا الأسماع والأصداء. وانبسطت أمامي الطموحات التي تأججت يوما في الصدور. استغرقتني صور الماضي، حتى إني كنت أنتزع عيني بصعوبة من الصفحات المغبرة مذكرا نفسي بالهدف الذي أسعى وراءه، فانتقلت إلى الصفحات التالية في تثاقل وكآبة، وأصبحت كمن يستعيد طفولته وصدر شبابه، ويتأمل ما داعبه ذات يوم من أحلام وآمال، ولا يلبث أن يشعر بالأسى عندما يتبين ما صار إليه حاله.
اعتورني دوار من جراء تقليب الصفحات، ونقل البصر بين العناوين والصور، واستنشاق الغبار. وبدأت أشعر بهول المهمة التي وضعتها لنفسي عندما لم أتمكن بعد ثلاث ساعات من استعراض أكثر من عشرة أعداد؛ عندئذ أصابني هبوط مألوف، وشعرت بحاجة ماسة إلى فنجان من القهوة أو كوب من البيرة، لكني لم أجد الهمة الكافية لأن أطلب شيئا من صبي المقصف الذي كان يطل برأسه من مدخل القاعة كل حين.
وحسم موظف المكتبة الأمر عندما أبلغني بانتهاء موعد العمل فتنهدت في ارتياح، وأعدت أوراقي إلى الحقيبة، بيضاء من كل سوء، وحملت الحقيبة وغادرت القاعة.
قمت بعملية حسابية بسيطة فرأيت أن الأعداد التي أريد الاطلاع عليها من هذه الصحيفة بالذات هي 365 × 25 سنة = 9125 عددا. وطبقا لمعدل اليوم، وبفرض أني عملت كل يوم دون انقطاع ودون أن أمرض أو تؤخرني المواصلات أو يعوقني انقطاع الكهرباء أو المياه أو غير ذلك من الطوارئ المألوفة، أكون بحاجة إلى حوالي الألف يوم؛ أي ثلاث سنوات. هذا بالنسبة لصحيفة واحدة.
ولم يكن بوسعي أن أعتمد على صحيفة واحدة فحسب؛ فرغم أن صحفنا القومية تنشر دوما نفس الأخبار والتعليقات، بل ونفس الصور، إلا أن أركان الأخبار الخفيفة وأنباء النوادي والسهرات تتميز بشيء من التنوع. وهي التي عولت عليها؛ فليس ثمة مكان لأنباء «الدكتور» على الصفحات الأولى، طالما أنه ليس بالشخصية السياسية أو السينمائية.
يضاف إلى ذلك المجلات الأسبوعية والشهرية، والصحف والمجلات الصادرة في المشرق والمغرب. ومعنى هذا كله أني إذا أردت أن أكون أمينا مع نفسي، فلا بد لي من التفرغ، تفرغا كاملا، لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات أو أربع، من أجل جمع مادة البحث فقط. وهناك بعد ذلك الوقت اللازم لدراستها وتحليلها، ثم صياغة النتائج التي سأتوصل إليها.
لم أكن قلقا بشأن انقطاعي عن عملي الأصلي؛ إذ إن اللجنة توفر لمن يتقدم أمامها إجازة مدفوعة الأجر من عمله إلى أن تنتهي من أمره، لكني كنت أجهل المدة المقررة للبحث، وبالتالي لم يكن بوسعي التورط في منهاج للعمل يتطلب وقتا بهذا الطول.
بحثت بلا جدوى عن مخرج إلى أن تذكرت أن إحدى الصحف اليومية الكبرى تحتفظ بأرشيف ضخم يضم معلومات تفصيلية عن أهم الشخصيات العربية، يعتبر من مفاخر مؤسسيها. وكان الهمس قد تردد في وقت من الأوقات، أن اللجنة حصلت منهم على صورة من هذا الأرشيف، وأنها تعتمد عليه في عملها إلى درجة كبيرة. وقدرت أن ما يضمه هذا الأرشيف من معلومات عن «الدكتور» سيكون ذا عون كبير لي.
على أن الاطلاع على هذا الأرشيف لم يكن متاحا لكل من هب ودب من الناس. وتطلب الأمر بحثا شاقا حتى اهتديت إلى من أوصى بي الموظف المسئول عنه، وسرعان ما كان الملف الموعود في متناول يدي.
لم يكن بالضخامة التي توقعتها. وكان يحمل فوق غلافه شعار الدار، واسم «الدكتور» الكامل مكتوبا بخط مزخرف في عناية.
فتحت الملف بأصابع مرتعشة من الانفعال، فطالعتني ورقة بيضاء في أعلاها تاريخ يعود إلى بداية الخمسينيات، ولا شيء عدا ذلك. وقلبت الورقة فرأيت الورقة التالية مثلها.
تصفحت أوراق الملف بسرعة فرأيتها كلها متشابهة في خلوها من كل شيء عدا التاريخ. وما لبثت أن تبينت في صدر كل ورقة أثر الصمغ الذي كان يلصق به المقتطفات المنتزعة من الصحف والمجلات.
أبدى المسئول دهشته عندما عرضت عليه الملف، لكنه لم يكن يملك شيئا لي. وأوشكت أن أنصرف عندما خطر لي أن أسجل التواريخ المذكورة على رأس كل ورقة، ثم أرجع إلى الصحف والمجلات التي صدرت فيها، وبذلك أتوصل بمجهود بسيط إلى محتويات الملف.
هكذا فعلت، ثم انتقلت على الفور إلى قاعة مجاورة، حيث شرحت للموظف المشكلة، فأحضر لي المجلدات التي تتفق وأول التواريخ لدي. وإذا بي أفاجأ بخلوها من أي شيء عن «الدكتور». وعندما دققت البحث اكتشفت أن بالأعداد المقصودة فقرات قصيرة منزوعة بعناية بواسطة موسى. ولاحظت أن بعضها في الصفحات المخصصة لأنباء الجرائم وأخبار السينما والتليفزيون.
انتابني الشك في أمر الفقرات المقتطعة، فقررت أن أواصل البحث لأقطع الشك باليقين. وعندما عدت في اليوم التالي لهذا الغرض، فوجئت بصدور تعليمات تحظر استخدام المكتبة على غير العاملين بالصحيفة.
وتكرر الأمر معي بحذافيره في دور الصحف الأخرى، بدءا من الموسى الخفي، إلى الأوامر التي تحول بيني والتردد على مكتباتها.
لجأت إلى دار الكتب، فقدمت إلى المختصين قائمة بالأعداد التي أريد الاطلاع عليها من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. وبعد عدة ساعات من الانتظار، أبلغت بأن الأعداد التي طلبتها غير متوفرة في الوقت الحالي بسبب وجودها في قسم التجليد.
لم يعد لدي شك في الأمر، فأعملت فكري إلى أن توصلت إلى حيلة ماكرة؛ فقد مضيت إلى مكاتب إحدى المجلات النسائية الأسبوعية، وطلبت الاطلاع على الأعداد الصادرة بعد أسبوع أو أسبوعين من كل تاريخ لدي. وعندما سألني الموظف عن بغيتي احتطت للأمر، فقلت إني أعد بحثا عن أشهر الجرائم في التاريخ العربي المعاصر؛ فقد كان من عادة هذه المجلة أن تغطي أهم أحداث الأسبوع، كما أنها أفردت ركنا خاصا في كل عدد لأخبار الجرائم، وآخر لأخبار الفن.
عكفت على العمل بحماس أوقدته - في الغالب - الظواهر الغامضة التي صادفتني. وحالفني الحظ فعثرت في أحد الأعداد الصادرة حوالي أول تاريخ لدي، على صورة ل «لدكتور» في شبابه، بصفته وجها جديدا في ميدان الإنتاج السينمائي، وذلك بمناسبة نجاح فيلم كوميدي شارك في إنتاجه.
وبعد عدة أشهر من التاريخ الثاني لدي عثرت على مقال يسرد وقائع جريمة غريبة، اعتدى فيها أحد الشبان على «شخصية فنية معروفة»، وصفتها المجلة بأنها «ذات تاريخ وطني حافل».
فهمت من ثنايا المقال أن هذه «الشخصية» كانت على علاقة بأخت المعتدي. وذات يوم وجدت الفتاة ميتة في ظروف غامضة، فاتهمه أخوها بأنه السبب في وفاتها. ولم يعبأ أحد بهذا الاتهام؛ فما كان من الأخ إلا أن أطلق عليه الرصاص، فأحدث به إصابة طفيفة.
وأغرب ما في الأمر أن المجني عليه اتهم الجاني في التحقيق بأنه عضو في منظمة يسارية، ثم تصالح معه وألحقه بوظيفة في الشركة التي يديرها.
حدثني قلبي بالاسم الحقيقي لهذه الشخصية الفنية. وتأكد حدسي عندما عرضت المجلة لتاريخ صاحبها وذكرت أنه كان قبل الثورة عضوا في إحدى الجمعيات الوطنية المتطرفة التي قامت بدور بارز في الكفاح ضد الاستعمار الإنجليزي (فهي إحدى الحقائق المعروفة عن حياة «الدكتور»)، وأنه ترك دراسته عام 1947م وسارع إلى فلسطين على رأس كتيبة من زملائه المتحمسين حيث اشترك في الحرب ضد العصابات الصهيونية التي كانت تقاتل باستماتة لإنشاء دولة إسرائيل. وفي أعقاب الثورة استكمل دراسته واتجه إلى ميدان الإنتاج السينمائي.
سعدت بهذا الاكتشاف، وواصلت العمل بنفس الأسلوب؛ فأمكنني أن أجمع بعض المعلومات القيمة، وإن استغرق مني ذلك وقتا ليس بالقصير.
فقد عرفت أنه شارك في تكوين شركة لإنتاج المياه الغازية عشية العدوان الإنجليزي-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر، وأنه كان أحد الذين تقدموا لشراء الشركات الأجنبية بعد تمصيرها في أعقاب ذلك العدوان.
وعثرت على نص كلمة ألقاها في مؤتمر اقتصادي عقد بدمشق غداة الوحدة المصرية-السورية، وصف فيها الوحدة العربية بأنها الرسالة الخالدة لكل عربي في هذا القرن، وهاجم الشيوعيين متهما إياهم بالخيانة؛ لأنهم سبق أن وافقوا على التقسيم الصادر عام 1948م، والذي كان يسمح بقيام دولتين في فلسطين، واحدة للعرب وأخرى لليهود.
ووجدت بعض الأنباء المتفرقة قليلة الأهمية عنه في تلك الفترة. ثم خدمني الحظ الذي لا يعطي هباته إلا لمن يعمل بدأب؛ فعثرت بالصدفة على خبر صغير في باب الأخبار الاجتماعية يشير إلى محاضرة ألقاها في أحد الأندية النسائية بالجزائر عن «المفهوم العربي للاشتراكية». وفي هذا الخبر وجدت اسمه، لأول مرة، مسبوقا بلقب «الدكتور». وبعد ذلك بشهور وقعت على إعلان كبير في صفحة كاملة يتضمن تهنئة من إحدى شركات المقاولات التابعة للقطاع العام لرئيس الدولة على ما حققه من انتصارات، وأسفل الإعلان قرأت اسم «الدكتور» بصفته رئيسا للشركة.
انقطعت أخباره بعد ذلك فترة طويلة إلى أن عثرت بأحد الأعداد الصادرة في صيف عام 1967م على إشارة إلى سلسلة من المقالات نشرتها له إحدى الصحف اليومية، يحلل فيها أسباب الهزيمة، ناسبا إلى الاتحاد السوفيتي المسئولية الأساسية عنها.
ويبدو أنه تزوج في هذه الفترة للمرة الثالثة من ابنة أحد ملوك البترول العرب، المعروفة بنزواتها وشطحاتها الغريبة؛ إذ إن أنباءها سرعان ما طغت على أنبائه هو، وهو أمر طبيعي بحكم تخصص المجلة. ولم أجد في أعداد السنوات التالية سوى إشارات مقتضبة إلى أعماله الواسعة، والمشروعات الضخمة التي يتعهدها بمختلف أرجاء المنطقة، وخاصة بعد حرب أكتوبر، ويقوم فيها بدور همزة الوصل بين الممولين الأجانب، والمستهلكين المحليين.
شعرت أن المجلة النسائية قد أدت دورها بالكامل، وأن الوقت قد حان للبحث في اتجاه آخر، فشكرت مدير المكتبة على ما قدمه لي من مساعدة، وعرفني الرجل بنفسه.
استولت علي الدهشة لأنه كان اسما معروفا بين كتاب الصحف في أحد الأيام فغمغمت: «لكن كيف؟»
رد على سؤالي المبتسر قائلا: «اسأل من كنت تفتش عن أخباره!»
انزعجت للغاية وسارعت أقول: «من تقصد؟»
ابتسم وقال: «لا تخف، فلن أذكر شيئا لأحد على الإطلاق.»
قلت: «لست خائفا؛ فهناك جهات ذات نفوذ - لست في حل من ذكرها - تدعمني.»
اتسعت ابتسامته وقال: «لن ألومك إذا خفت.»
سألته : «كيف عرفت؟»
أجاب: «منك؛ فعندما تجلس مكاني هذا عدة سنوات، يمكنك من النظرة الأولى أن تفهم هوية الأشخاص الذين يترددون على المكتبة لينقبوا بين صفحات الأعداد القديمة. وعندما لاحظت أنك تختلف عنهم، ثار فضولي، ولم يكن من الصعب أن أتتبع الصفحات التي تتوقف عندها، وأن أستنتج اهتمامك به.»
عدت أسأله: «وما الذي جعله مسئولا عن انزوائك في هذا المكان؟»
قال: «مقال نشرته.»
تطلعت إليه متسائلا فأضاف: «يمكنك أن ترجع إليه بسهولة.»
رويت له ما صادفني من صعوبات في البحث عن أخبار «الدكتور» بالصحف اليومية، فقاطعني قائلا: «ستجد مقالي بالتأكيد لأن الصحيفة التي نشرته لا يهتم بها أحد، ثم إني لم أذكره بالاسم.»
أعطاني تاريخ نشر المقال وتمنى لي التوفيق، فذهبت من فوري إلى دار الصحيفة التي نشرته، وهي يومية مسائية محدودة الانتشار؛ ولهذا السبب لم يتجه إليها اهتمامي في بادئ الأمر.
بحثت عن المقال دون أن أكشف لأحد عن غرضي، فعثرت عليه تحت عنوان مثير ذي رنة مأساوية، هذا نصه: «من يخلع الأشجار؟»
وتحت هذا العنوان عرض الكاتب لظاهرة اختفاء الأشجار من شوارع القاهرة وحدائقها القليلة المتبقية، وقال إن الصورة المنظمة التي تتم بها عملية الاقتلاع توحي بأن ثمة أشخاصا ذوي نفوذ خلفها. وتساءل عما إذا كانت هنالك علاقة بين هذه الظاهرة وبين الأزمة المفتعلة في سوق الأخشاب، والتي رفعت أسعارها وأوجدت لها سوقا سوداء.
نقلت محتويات المقال في كراسي، ثم خطر لي أن أنتهز الفرصة لأواصل البحث في اتجاه جديد، فعكفت على مجلدات الصحيفة أراجعها بسرعة في أماكن محددة هي الإعلانات الاجتماعية والتجارية وأخبار الوفيات، حوالي نفس التواريخ التي استرشدت بها من قبل.
لم أكن أتوقع كم المعلومات التي عثرت عليها عن هذا الطريق؛ فمثلا من خلال سلسلة من برقيات الشكر الموجهة منه إلى رئيس الدولة، والتهاني الموجهة إليه من عدد من الشخصيات الهامة، علمت أنه نجح في الانتخابات العامة وصار عضوا في المجلس النيابي.
ومن نعي طويل لإحدى السيدات التي تمت إليه بصلة القرابة، تبينت الشبكة الواسعة من العلاقات التي تربطه بأشهر العائلات وأغناها، وبشخصيات تحتل أرفع المناصب في القضاء والشرطة والجيش والإدارة وعالم المال والأعمال.
وقادتني الإعلانات - تلك الوسيلة الناجحة للتواصل بين أبناء العصر - إلى اكتشاف آخر مثير.
فقد لفت نظري سلسلة منها ظهرت بكثرة في السنوات الأخيرة على الصفحة الأولى من الجريدة عن العطور الفرنسية والسجائر الأمريكية والأجهزة الصوتية اليابانية، وكانت مجردة من اسم المعلن، بينما جرت العادة في أمثال هذه الإعلانات على أن يذكر اسم المستورد أو العميل - بلغة اللجنة - أي الوكيل المحلي.
وكان من شأن العمل المتواصل الذي قمت به في الآونة الأخيرة أن نشط ذهني، وأخذت أميل إلى التغلغل في أعماق الأمور التي تعرض لي، وأحاول استنتاج ما قد يكون خلفها من دوافع، وما قد يربط بينها من علاقات. هكذا ثار فضولي، فمضيت إلى إدارة الإعلانات بالجريدة، وزعمت أني مراسل لإحدى المجلات الاقتصادية الأجنبية، وأني أعد تحقيقا واسعا عن الدعاية التي تنشرها وسائل الإعلام العربية للسلع الأجنبية.
شغل المسئولون في الإدارة بالترحيب بي عن التأكد من مزاعمي، خاصة بعد أن أبديت إعجابي بالشعارات الناجحة التي ترفعها إعلانات العطور والسجائر، وترددها الجماهير في سلاسة تامة. واستطعت أن أكسب ودهم عندما مازحتهم متسائلا عمن لم يذهب بعد منهم إلى الفلتر. وبذلك أصبح من السهل علي أن أحصل على ما أشاء من معلومات.
لم أدهش عندما علمت منهم أن الجهة المحلية التي تستورد السلع المذكورة هي مؤسسة يديرها الابن الأكبر ل «الدكتور» من زوجته الأولى؛ فقد توقعت شيئا من هذا القبيل، لكني فوجئت حقيقة، حتى كدت أنفجر ضاحكا، عندما أروني تصميما لإعلان صادر عن نفس المؤسسة، يعكفون على إعداده ليظهر قريبا على الصفحات الأخيرة بكاملها من كافة الصحف القومية.
فلم يكن هذا الإعلان يبشر المصريين بأكثر من عودة الكوكا-كولا الأصلية إليهم.
الفصل الثالث
ظللت أتردد على مكاتب الصحيفة عدة أشهر، وقد أغرتني الاكتشافات التي توصلت إليها، فضلا عن عدم مصادفتي لأي عقبات ظاهرة، بمداومة البحث في نفس الاتجاه.
وخرجت أثناء ذلك بحصيلة وافرة من المعلومات ، ملأت عدة كراسات. حقا إن جانبا منها لم يكن وثيق الصلة بأمر «الدكتور»؛ فقد اتسعت دائرة اهتمامي بالتدريج دون وعي مني، وامتدت إلى بعض الأمور العامة. وبدا وكأن الأنباء التي سبق أن قرأتها في حينها تصافح عيني الآن للمرة الأولى، والظاهر أنها اكتسبت عمقا جديدا بفضل المنظور الزمني، الذي أتاح لي رؤيتها في ارتباطاتها المتشعبة.
وكنت أعود إلى منزلي في نهاية كل يوم مرهقا، أشكو الدوار وصعوبة التنفس، فأرتقي طوابقه السبعة في إعياء إلى مسكني في الطابق الأخير، وبعد أن أغتسل وأتناول طعامي أغفو قليلا، ثم أنهض لأعمل من جديد، فأنقل ما دونته في الصباح إلى بطاقات صغيرة من الورق المقوى، زودني بها صديق عزيز دون أن يخفي إشفاقه علي، مسجلا في أعلاها تاريخ نشر المادة، ومصدرها، ورأس الموضوع، توطئة لعمل تصنيف ما يساعدني على الانتقال إلى المرحلة الثانية من البحث. ولا أنتهي من ذلك قبل ساعة متأخرة من الليل، فأنام نوما قلقا تتخلله أحلام مزعجة يتألف معظمها من عناوين الصحف. والقليل النادر من هذه الأحلام كان مصدر متعة، خاصة إذا ما تصدرته الصور شبه العارية لجميلات العالم وفاتنات السينما، التي كانت تصادفني بين الحين والآخر.
وفي الصباح أغادر فراشي في صعوبة؛ إذ أجدني فريسة لحالة من الهبوط، يضاعف منها تمثلي للمصاعب التي سأعانيها في الطريق قبل أن أصل إلى مبنى الصحيفة، والأخطار المبهمة التي تحف بعملي. ولا أستعيد حيويتي إلا عندما أستعرض في ذهني ما وصلت إليه من نتائج، والعالم العجيب الذي فتحته أمامي.
والواقع أن تغييرا ما طرأ علي في الشهور الأخيرة؛ فقد كنت في السابق سئمت كل شيء، ولم يكن مثولي أمام اللجنة، وتمسكي بالفرصة السانحة لتطوير مواهبي، سوى محاولة من جانبي لتجديد الاهتمام بالحياة. ولم يلبث البحث في أمر «الدكتور» أن أخذ بمجامعي، حتى إني بدأت أخشى الموت، وأدعو الله أن يجنبني حوادث المواصلات والأزمات القلبية، إلى أن أفرغ منه.
واضطررت في أحد الأيام إلى الانقطاع عن الخروج عندما شعرت بالإرهاق، فجلست أراجع البطاقات التي دونتها ووضعتها بنظام في صندوق أحذية من الكرتون؛ ليسهل علي العودة إليها، واستخراج ما أريده منها.
اكتشفت أنه صار لدي كم من المادة لا بأس به، يغطي الخطوط الرئيسية للبحث، لكني كنت ما أزال جاهلا بكثير من خلفيات بعض النقاط الهامة. وهي أمور لا جدوى من التماسها في الصحف المصرية أو العربية، التي تحول الأوضاع السياسية والتقاليد الاجتماعية بينها والخوض في أعماق الظواهر وحقائق الأمور. عندئذ خطر لي أن أستعين بالمجلات الأجنبية، لكن أين يتأتى لي أن أجد مجموعات من الأعداد القديمة لإحداها؟
كان الصديق الذي أمدني بالبطاقات هو الذي اقترح علي أن ألتمس ضالتي في مكتبة السفارة الأمريكية. فذهبت إلى مقرها الجديد الذي انتقلت إليه بعد أن أحرقت الجماهير الثائرة المقر القديم سنة 1965م، احتجاجا على مساندة الولايات المتحدة لموبوتو، رئيس زائير التي كانت تعرف وقتها بالكنغو كينشاسا، ودورها قبل ذلك في اغتيال الزعيم الوطني لومومبا.
وجدت بالمكتبة مجموعة من الأعداد المتفرقة لأشهر المجلات الأمريكية مثل «تايم» و«نيوز ويك»، فقلبت بين صفحاتها مركزا اهتمامي على تلك المخصصة لأمور الشرق الأوسط، دون أن أعبأ بمطالعة الصفحات الأخرى أو النظر إلى الأغلفة؛ ولهذا لم أنتبه إلى أن أحد الأعداد الذي أمسكته في يدي يحمل صورة ملونة ل «الدكتور» على غلافه، إلا بعد أن ألفيتني أرتجف من الانفعال وأنا أقرأ موضوعا ضافيا عنه غطى عددا من الصفحات، وامتلأ بقدر وافر من المعلومات المثيرة.
كان تاريخ العدد يعود إلى عام مضى. أما الموضوع فكان بمناسبة زواج ابنته من رئيس عربي. وكان هذا نبأ جديدا علي؛ لأن صحفنا لم تنشر الأمر في حينه. ويبدو أن الزواج أثار عاصفة من التعليقات وقتها، لا بسبب فارق السن وحده الذي يربو على ثلاثين من الأعوام، وإنما أساسا بسبب المدلولات السياسية والاقتصادية له.
وانتهزت المجلة هذه الفرصة فقامت بعرض سريع لسيرته، وكيف نشأ في أسرة فقيرة، ثم ابتسم له الحظ عندما قامت الثورة بحكم قرابته لأحد الذين آلت إليهم الأمور، وهي الصلة التي مكنته من وضع أول لبنة في صرح مجده؛ فبفضلها استطاع أن يحصل لأحد المنتجين السينمائيين على تصريح بتصوير ثلاثة أفلام كوميدية عن الجيش والطيران والأسطول، مقابل المشاركة في عائدها.
ومضت المجلة فقالت إنه - وقد تكون رأس المال - لم يكن من الصعب عليه أن يضاعفه في وقت قصير. فلم يكن خطؤه أن المشرفين على الاقتصاد - وقد استهوتهم الأفكار الاشتراكية - كبلوه بعديد من القيود التي يتطلب اختراقها ملكات خاصة، وبالتالي ثمنا مرتفعا. وإذا كان «الدكتور» قد استفاد من تذليل هذه الصعوبات لمن يشاء، بحكم علاقاته الواسعة التي دعمها بسلسلة من الزيجات الناجحة، فإن الذي حقق الفائدة الحقيقية هو الاقتصاد القومي نفسه. وضربت المجلة مثلا على ذلك بدوره خلال رئاسته لإحدى شركات المقاولات التابعة للقطاع العام؛ فقد كان يعهد بأغلب عملياتها لشركات خاصة يشترك في ملكيتها. ومهما كان الرأي في هذا العمل فلا جدال في أنه ساهم في دعم النشاط الخاص وإنجاز عديد من المشروعات الهامة في مجال الخدمات، يستمتع المصريون اليوم بثمارها، وكان من المستحيل أن تتحقق لو ترك أمرها للقطاع العام وحده.
وفي تلك الفترة تعرض «الدكتور» لمحنة عنيفة؛ إذ قبضت عليه السلطات وأودعته السجن. أما السبب فيصعب تحديده؛ إذ تضاربت الأقاويل بشأنه، فقيل إنه كان مشتركا في محاولة لقلب نظام الحكم، وقيل إنه تمادى في الدعوة للأفكار الاشتراكية، وهناك من أكد أنه كان ضالعا في إحدى العمليات المالية المريبة، التي كان القانون يحرمها وقتذاك.
وتعرضت المجلة للشائعات المتباينة التي أحاطت به فوصفتها بأنها الضريبة التي يدفعها كل ناجح في البلاد العربية. وضربت مثلا بشائعة تجزم أنه حضر الحفل الراقص الشهير الذي أقيم عشية العدوان الإسرائيلي عام 1967م في إحدى القواعد الجوية المصرية. وقالت إن هذه الشائعة لا تعني شيئا على الإطلاق؛ لأن أغلب القادة المصريين حضروا هذا الحفل. أما محاولة الربط بينه، في شائعة أخرى، وبين تسليم الجولان، فأمر ينقصه الدليل. ودللت المجلة على وطنيته بالدور الذي لعبه في حرب الاستنزاف؛ حيث تولى مقاولة تنفيذ التحصينات الهائلة التي تكلفت ملايين الدولارات، وإن لم تتركه الشائعات وشأنه في هذا العمل الجليل أيضا.
وقالت المجلة إن مرحلة جديدة بدأت في حياته عندما تحررت مصر من السيطرة السوفياتية في السبعينيات، فنقل نشاطه إلى ميدان السلاح الذي يحقق العاملون فيه دائما أرباحا خيالية، وأصبح من كبار مورديه، مما كان له الفضل في الانتصار الذي حققته حرب أكتوبر. إلا أن الثمار الرئيسية لهذه الحرب الناشئة عن الارتفاع الصاروخي لأسعار البترول في أعقابها، لم تسقط في يده، وهو ما يطمح الآن لتحقيقه بزواج ابنته، بعد أن فشل في إدراكه من خلال زيجته الثالثة التي لم تعمر طويلا.
وبالرغم من أن «الدكتور» لم يتوقف عن توريد الأسلحة للحروب المحدودة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وأعلن في أكثر من مرة عزمه على تشكيل فرقة قوية من المرتزقة مستعدة لخدمة من يدفع الثمن؛ فإنه أصبح من دعاة السلام، وعمل بنشاط في استيراد السلع الغذائية والسيارات والطائرات، مستفيدا من سياسة الانفتاح.
وفي هذا الصدد استشهدت المجلة بالقول السائر في العالم العربي: «إذا لم يكن ل «الدكتور» إصبع في إحدى الصفقات، كان له بالتأكيد نصيب في عائدها».
واستطردت تقول إن الأمر لا يخلو أحيانا من بعض القصص الطريفة، مثل قصة المليون بدلة من مخلفات الحرب الفيتنامية التي تبرع بها الجيش الأمريكي للفلاحين المعدمين في مصر، فوجدت طريقها إلى مخازنه حيث باعها بدوره لعدد من التجار مقابل ستة ملايين من الجنيهات.
واختتمت المجلة مقالها قائلة: «إن أحدا لا يملك إلا الإعجاب بحيوية الملياردير العربي ونشاطه، ولا شك أن هذه الحيوية التي برزت في العقد الأخير، وطبعته بطابعها، مازال أمامها وقت طويل قبل أن تذوي، رغم الثمن الذي وضعه الإرهابيون لرأسه بعد ما تردد عن تعاونه مع الشركات الإسرائيلية. وإذا كانت سنه الآن تجعله في حاجة إلى وسائل اصطناعية وكيماوية، أكثر من مجرد شد جلد الوجه، تعينه على القيام بواجباته العائلية أثناء زياراته لقصوره العديدة المتناثرة في أرجاء العالم العربي، فإنه لا يحتاج إلى شيء في صفقاته المالية والعمليات السياسية التي يشارك فيها من وراء ستار. ومهما قيل بشأن مبادئه الأخلاقية فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن «الدكتور» وأمثاله يحملون مشعل التقدم والسلام والاستقرار للمنطقة التي طال بها التخبط في ظل التطرف.»
نقلت المقال كاملا إلى كراسي، واستغرق مني ذلك عدة ساعات، عدت أثرها إلى منزلي راضيا، فعكفت من فوري على تفريغه في بطاقات مستقلة، وإضافة بعض أجزائه إلى البطاقات القديمة حسب موضوعاتها.
وما إن انتهيت من ذلك حتى شعرت بأني قد استكملت استعداداتي، ولم يعد أمامي ما يحول دون البدء في المرحلة الثانية من البحث.
كنت أميل إلى أن أجعل من سيرته العمود الفقري لعملي، فأبدأ بالأسرة التي ولد فيها وظروف طفولته، ثم أنتقل إلى مرحلة التلمذة والمراهقة، ومنها إلى نشاطه الوطني، ثم مراحل صعوده التي يمكن حصرها بين ثلاث حروب متتابعة؛ هي العدوان الثلاثي عام 1956م، والعدوان الإسرائيلي عام 1967م، وأخيرا حرب أكتوبر عام 1973م، منتهيا بالذروة التي يحتلها الآن على نطاق العالم العربي.
لكني لم ألبث أن تبينت الثغرات التي يمتلئ بها هذا المنهج؛ فالمعلومات المتوفرة لدي عن المراحل الأولى من حياته قليلة للغاية، ولست أعرف حتى الآن ما إذا كان تلقيبه ب «الدكتور» يرجع إلى شهادة علمية حصل عليها بالفعل. كما أن التقسيم نفسه تقليدي ليس فيه شيء من ابتكار أو تفرد، وأهم من هذا كله أنه يضعني وجها لوجه أمام سؤال يتعين الإجابة عليه وهو: وماذا بعد الذروة؟ وواضح للجميع العلاقة الوثيقة بين السؤال وأحد المعاني التي أعطاها العرب لمصطلح اللمعان؛ وهو تحرك الجنين في الأحشاء، فضلا عن خطورة الإجابة ذاتها منذ كان التكهن بمصيره - بعد كل هذه المعايشة والدراسة - أمرا غير عسير.
وكنت غارقا في التفكير حتى إني لم أشعر بحلول الظلام. وعندما تنبهت إلى ذلك أضأت المصباح الكهربائي المثبت إلى مكتبي، وعندئذ دق جرس الباب.
وقد سبق أن ذكرت أني أقطن الطابق السابع، وأشرت إلى أن المنزل بلا مصعد. فرغم أن القانون يحتم على مالك المنزل الذي يزيد عدد طوابقه عن خمسة أن يزوده بمصعد، فإن مالك منزلي تمكن من التحايل على القانون بسهولة شديدة؛ إذ بنى الطابقين الأخيرين إلى الداخل قليلا، وعندما لم يعد من السهل رؤيتهما من الطريق، اطمأن القانون وسكت، رغم ما تقدمنا به نحن السكان من شكاوى عديدة إلى الجهات المختصة.
المهم أن هذا الوضع لم يكن يشجع أحدا على زيارتي، وهو أمر لم يكن يزعجني، بل على العكس كان مبعث راحة بالغة وخاصة في الآونة الأخيرة بحكم انشغالي الشديد. وإذا ما فعل أحدهم فإنه يضطر بالطبع إلى ارتقاء الدرج، وعندما يبلغ الطابق الأخير تكون خطواته قد أبطأت من التعب، وازداد وقع أقدامه ثقلا. وبسبب رقة الجدران - الناشئة عن محاولة أخرى من محاولات المالك للتحايل على قواعد البناء المحددة في القانون - أتمكن من سماع خطواته بوضوح وأنا جالس إلى مكتبي، من قبل أن يدق الجرس.
والحق أن أذني التقطتا وقع الأقدام من فترة، لكن الأمر لم ينتقل إلى وعيي لأني كنت غارقا في التفكير، فلم أنتبه إلى كثرة عددها؛ ولهذا السبب كانت دهشتي بالغة عندما فتحت الباب ووجدت ذلك العدد من الرجال والسيدات الذين احتشدوا فوق الفسحة الضيقة الواقعة أمام مسكني.
كان الدرج غارقا في الظلام؛ لأن المالك منع عنه النور الكهربائي، في محاولة للضغط على السكان كي يسحبوا شكاويهم؛ ولهذا السبب لم أتبين وجوه الزائرين من الوهلة الأولى. وما لبثت دهشتي أن تضاعفت بعد لحظات عندما تعرفت فيهم على أعضاء اللجنة التي مثلت أمامها منذ ما يقرب من عام.
دق قلبي في عنف وأنا أتنحى عن الباب قائلا في اضطراب: «تفضلوا ... تفضلوا ... لم أكن أتوقع ... لم أكن أطمع ...»
وهذا حقيقي؛ فلم أتصور أبدا أن اللجنة يمكن أن تزورني في منزلي، بل إني في الفترة الأخيرة، بسبب انغماسي في العمل، نسيت وجودها تقريبا، ونسيت حتى الغرض الأصلي من الدراسة التي انهمكت في إعدادها.
لم ينتظر أعضاء اللجنة دعوة ثانية، ودلفوا إلى مسكني الصغير، فانتشروا في أرجائه على الفور، يتأملون محتوياته، ويلقون بنظراتهم خلف قطع الأثاث وتحتها. واهتمت العانس وزميلتها العجوز بمحتويات المطبخ الذي يواجه المدخل، بينما أحاط اثنان من العسكريين الثلاثة ذوي الرتب الرفيعة بثلاجة كهربائية قوية لدي من إنتاج الصناعة المصرية في الستينيات ، وجعلا يقارنان بينها وبين الثلاجات الحديثة المستوردة.
أغلقت الباب ووقفت حائرا عاجزا عن الفهم. بحثت بينهم عن رئيسهم الذي لا يرى جيدا ويسمع بأذن واحدة فقط فلم أجده. واستنتجت أنه إما لم يأت معهم أصلا أو عجز عن صعود الدرج بسبب سنه. ولاحظت وجود الرجل القصير القبيح الوجه، وزميله الأشقر ذي العينين الملونتين. وكما حدث في المرة السابقة لم أتمكن من إحصاء عددهم من جراء عجزي عن التركيز، وانشغالي بإيجاد تفسير للزيارة غير المتوقعة.
قلت بصوت جاهدت أن أجعله مرتفعا ثابتا: «هل أعد شايا أم قهوة؟»
لم يرد علي أحد فلزمت الصمت، ورأيتهم يتجمعون أمام صفوف الكتب التي وضعتها بنظام على أرض الممر المؤدي إلى غرفة نومي ويقلبون بينها. ووجدتها فرصة نادرة - لم أتعمدها - يتبينون منها سعة اطلاعي، خاصة وأن الكتب في لغات متعددة، وفروع متباينة.
انفصل الرجل القصير فجأة عن الجميع واتجه برفقة زميله الأشقر في خطوات سريعة إلى الغرفة الداخلية التي أعمل وأنام بها، فهرعت خلفهما.
كانت هناك أكوام من الكتب والصحف والمجلات في كل مكان، لكنهما تجاهلاها، ووجها اهتمامهما إلى المائدة الصغيرة التي أستخدمها في الكتابة. وكان سطحها مكتظا ببعض الملفات والصحف في جانب، وكوم من الكتب يعلوها أحد المعاجم في جانب آخر، بينما استقر الكراس الذي كنت أعمل به في الوسط وإلى جواره البطاقات التي فرغت لتوي من ملئها، وصندوق الأحذية الذي اصطفت به بقية البطاقات في نظام كنت فخورا به.
دار القصير حول المائدة وجلس فوق مقعدها، وانكب على البطاقات يفحصها باهتمام وهو لا يخفي انفعاله. أما زميله فقد وقف يقلب في الملفات والصحف دون أن يشي وجهه بتعبير ما.
تكلم الأخير فجأة وهو يستخرج قطعة كبيرة من الورق المقوى من بين الملفات، فقال: «ما هذا؟»
كان يشير إلى عدد من الصور المنتزعة من المجلات المصورة، ألصقتها في براعة فوق قطعة الورق حتى بدت وكأنها صورة واحدة يتصدرها الرئيس الأمريكي كارتر، معطيا وجهه لنا وهو ينظر فوق رءوسنا، بما يتفق مع منصبه من جلال، وإلى جواره مباشرة صورة صغيرة الحجم للغاية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بيجين، وقد استبدلت سرواله الطويل بآخر صغير لأحد التلاميذ، فبدا الاثنان كما لو كانا أبا وابنه. وفي نصف دائرة أمامهما ألصقت مجموعة من صور أبرز الشخصيات في العالم العربي، من رؤساء وملوك وقادة ومفكرين ورجال أعمال، راكعين في وضع الصلاة وقد أعطوا مؤخراتهم لنا.
ابتسمت مجيبا: «إنها هواية أمارسها بين الحين والآخر، فأنا أقص صور الأشخاص المعروفين من المجلات وأعيد لصقها على الورق المقوى بعد أن أختار لها الأوضاع التي تناسبها، وأضيف إليها صورا أخرى في أوضاع مكملة، إلى أن أحصل على لوحة متكاملة.»
ظل يتأمل اللوحة باستغراب، فأضفت بعد لحظة: «كما تعلمون، فإن هناك مدرسة فنية كاملة تستند في عملها على أساس مشابه. وللوهلة الأولى يبدو الأمر بسيطا للغاية، لكن الوصول إلى نتائج قيمة يتطلب النجاح في إيجاد ارتباطات تجمع بين الطرافة والجدة من ناحية، والعمق الفكري من ناحية أخرى.»
لم يفه بشيء، وإنما وضع اللوحة على جانب كأنما يريد العودة إليها فيما بعد، واستأنف البحث بين أوراقي.
أما القصير فخاطبني دون أن يرفع بصره لحظة عن البطاقات التي كان يفرزها في عناية: «لم نكن نتصور أنك جمعت هذا القدر من المعلومات. إنه أمر يثير الإعجاب حقا، بقدر ما يدعو للأسف.»
لم يدهشني معرفة اللجنة بما أفعل، ولا استخدام القصير للغة العربية في حديثه؛ لأني كنت متأكدا من إجادة أعضاء اللجنة لها. لكني انزعجت لكلمته كثيرا، وانتظرت في قلق أن يوضح ما يعنيه.
رفع إلي عينيه فاكتشفت لأول مرة أن بهما حولا منفرا زاد خلقته قبحا على قبح، ومضى يقول: «كنا نظن أن العقبات التي صادفتك ستصرفك إلى موضوع آخر. والواقع أننا كنا نتمنى ذلك لأننا ... لأن هناك بين الأعضاء الموقرين من يعلق آمالا كبيرة عليك.»
غاض الدم من وجهي، وتعلقت عيناي بعينيه القبيحتين، بينما استطرد وهو يتخلى عن البطاقات، ويتراجع بكرسيه إلى الوراء: «يمكنك أن تقرر لنفسك الآن ما إذا كنت ستستمر في هذا الموضوع أو تنتقل إلى غيره ؛ فنحن لا نقسر أحدا على شيء.»
قلت بانفعال: «بعد كل هذا الوقت؟! لقد أوشك العام على الانصرام!»
قال بحزم: «هذه نقطة غير مهمة؛ فبوسع اللجنة أن تعطيك من الوقت ما تحتاج إليه.»
ضممت يدي وضغطتهما في عنف وأنا أقول في صوت متوسل، متغلبا على كراهيتي له التي كان هو مبعثها: «لكني قطعت شوطا طويلا وقاربت على الانتهاء.»
قال أحد العسكريين الذي دخل الحجرة أثناء الحوار واستمع إلى شطر منه: «ولم تفكر في مغزى ما تقوم به ونتائجه؟»
قلت مدافعا عن نفسي: «لقد قمت ببحث رائده الموضوعية الشديدة. ولم أعن بغير الحقائق المؤكدة والتعليلات العلمية. وقد انتهيت تقريبا من جمع المعلومات الضرورية وترتيبها، ولم يعد أمامي سوى استخلاص مدلولاتها، والربط بينها في تحليل كامل متسق.»
قال القصير في حدة: «وهذا بالضبط ما حفزنا إلى الحضور لتوجيه النصح إليك.»
كان بقية أعضاء اللجنة قد أخذوا يتوافدون، فجلست السيدتان على حافة الفراش، وبجانبهما أحد العسكريين، واستقر عسكري آخر على مقعد بمسندين إلى جواره، وانضم الثالث وبعض الأعضاء إلى العضو الأشقر عند المائدة، واستند آخرون إلى مسندي المقعد وخزانة الملابس وباب الغرفة. وقدم إليهم القصير بعض البطاقات، لاحظت بينها تلك المستقاة من المجلة الأمريكية، فتناقلوها بينهم في صمت، ثم جعلوا يتطلعون إلي وقد أحاطوا بي في شبه حلقة.
توجهت إليه بالحديث مستعطفا: «لقد اخترت شخصية «الدكتور» بعد تفكير وتمحيص طويلين؛ فانتقاء ألمع الشخصيات في العالم العربي أمر بالغ الصعوبة بحكم تعدد البلاد وانتشار التعليم وتنوع وسائل الدعاية وكثرتها وبالتالي ...»
قاطعني القصير في غضب: «وبالتالي وجود كثير من الشخصيات اللامعة، ها أنت تعترف بالأمر.»
أجبته في حماس: «لكننا لن نجد من هو ألمع وأكثر حضورا في كل مكان بالعالم العربي. ويكفي أن فكرة الوحدة العربية ترتبط باسمه هو بالذات ارتباطا وثيقا؛ فهو من دعاتها الأولين، كما هو معروف، لكن ما يجهله كثيرون، وما أثبته بالوثائق، أنه أيضا من أبرز دعاتها والمؤمنين بها في هذا العقد الذي انحسرت فيه الدعوة. والمثير في الأمر أن الوحدة التي لم تتحقق في فترة صعود الدعوة إليها، قد تحققت الآن في فترة انحسارها، وهو ما لا يتبدى للرائي من الوهلة الأولى عندما يجابه بالاختلافات والمنازعات السائدة بين الأنظمة المختلفة. لكنه إذا ما تمعن الأمر، وجد تحت السطح الخداع وحدة متينة لم نعهد مثلها قبل الآن، يرجع إليه الفضل في تحقيقها، وهي وحدة السلع الأجنبية المستخدمة من الكافة.
وأؤكد مرة أخرى أن الوثائق التي جمعتها قد أثبتت علاقته الوثيقة بكافة الأحداث المصيرية التي تعرضت لها أمتنا طوال الأعوام الثلاثين الماضية. واليوم تتجمع في يده - أكثر من أي يوم سابق، أو أي شخص آخر - الخيوط الأساسية لمستقبلها.
ويكفي للتدليل على ذلك أنه هو الذي توسط لدى الشركات العالمية العملاقة من أجل إمداد أمتنا بأحدث الأجهزة والابتكارات التي وصلتنا بحضارة العصر، بدءا من حقائب «السامسونايت» والترانزستورات إلى الإلكترونات وطائرات الجامبو، ومن معاجين الأسنان والحلاقة إلى معطرات الفروج وعقاقير الفحولة. وفي هذا الإطار أوجد مجالا واسعا للكفاءات من العلماء وأساتذة الجامعات وخبراء التخطيط الذين عنت الأنظمة العربية بإعداد مئات منهم، ثم حالت بينهم وبين استثمار مواهبهم بصورة تعود عليهم وعلى أمتهم بالنفع.
على أن هناك جوانب أخرى للموضوع، أرجو أن يتسع صدركم لسماعها؛ فقد استهوتني شخصية «الدكتور» لأني وجدت في تناولها مجالات متعددة للبحث تكشف لكم عن مواهبي المتنوعة من ناحية، وتعطي للدراسة نفسها أبعادا مختلفة تغنيها وتضفي المزيد على أهميتها، من ناحية أخرى.
ولقد كنت أفكر في هذه النقطة بالذات عند تشريفكم لي، وقدرت أن المنهاج التقليدي في التناول، الذي يقوم على تتبع تطور السيرة الشخصية، يجب أن يستبدل بمنهاج آخر يتألف من عدة مباحث في فروع مختلفة من العلوم.
فهناك مبحث هام في علم الجمال عن العلاقة بين الوطنية المتطرفة وخلع الأشجار، يتصل به بحث آخر في الاقتصاد عن دور البيع والشراء في حياة الأمم والأفراد، وثالث في علم الأخلاق حول اندثار الأمانة والصدق والشرف ، ورابع في السيكولوجيا عن عوامل القلق التي تدفع العباقرة والرواد إلى التنقل بين ميادين النشاط، وهي دراسة قد تؤدي إلى اكتشافات هامة بالنسبة لطفولة «الدكتور» وظروف رضاعته.
وثمة مبحث خامس في علوم السياسة والإدارة حول فن صياغة وعي الجماهير، وتوحيد معتقداتها وأذواقها، ثم استبدال هذه المعتقدات والأذواق بغيرها، بين الحين والآخر، في سهولة ويسر.
وإنه ليسعدني أن أعلن بكل فخر أني قد عثرت على قصائد رقيقة مجهولة من نظمه، وإشارات متناثرة إلى آرائه في المسرح والسينما والغناء، تصلح أساسا لدراسة مبدعة في آداب العصر وفنونه.
ويتصل بذلك مبحث مستقل عن التطور الذي لحق باللغة العربية ويتمثل في اختفاء كلمات معينة، وظهور كلمات جديدة، بعضها منحوتات فذة ليست لها سابقة؛ مثل «التهليب» و«التطنيش»، والبعض الآخر اشتقاقات مبتكرة من كلمات مألوفة مثل «التنويع» و«التطبيع» و«التحريك».
وقد أوحى لي ما يتميز به «الدكتور» من مرونة في التفكير، وقدرة على تعديل المواقف والآراء التي يثبت خطؤها، أو يتعذر تحقيقها، ببحث فريد في علوم التربية وبناء الشخصية. وبسبب ما أعلقه من أهمية خاصة على هذا البحث أرجو أن تسمحوا لي بشيء من الاستطراد في هذه النقطة بالذات لأقدم إلى حضراتكم مثالا لما أعنيه، مستمدا من وقائع المقابلة الأولى التي تشرفت بها في مقركم، وأقصد بذلك حديثي المستفيض بشأن الكوكا-كولا.
فهذه الزجاجة، كما تعلمون حضراتكم، دخلت بلادنا في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، في ظل حملة إعلانية هائلة سهلت من انتشارها حتى بلغت أقاصي القرى والنجوع، وصار اسمها على كل لسان، لكنها لم تلبث أن بدأت في التراجع بعد الثورة. وقد تبينت أن «الدكتور» كان - مع عوامل أخرى - مسئولا عن هذا التراجع؛ ذلك أنه شارك في محاولة لمنافستها بشراب محلي كتب لها النجاح إلى حين.
أما الضربة القاصمة فجاءت في بداية الستينيات عندما اكتشفت أجهزة المقاطعة العربية أن الشركة الأمريكية أعطت حق التعبئة للإسرائيليين. وترتب على هذا أن وضعت الكوكا-كولا في القائمة السوداء ومنعت من دخول البلاد العربية، فأصبح السوق خاليا أمام «الدكتور».
إلا أن الأحوال لا تثبت على حال كما تعلمون؛ فمن ناحية فشل مشروع «الدكتور» لأسباب عديدة لا محل لسردها الآن، ومن ناحية أخرى لم تعد للمقاطعة المذكورة - بين ليلة وضحاها - من ضرورة. وكان «الدكتور» مبادرا، في الوقت المناسب، على الربط بين الأمرين. وسبق بجهوده من أجل إزالة العقبات والحواجز التي فصلت طويلا بين الشراب المنعش وعشاقه من المصريين. وكافأته الشركة على جهوده بأن منحته امتياز التعبئة في زجاجة وطنية.
ولعلكم توافقونني، أيها السادة والسيدات، على أن هذا الإجراء من جانب الكوكا-كولا هو - من أحد نواحيه - بمثابة شهادة بارزة في حق «الدكتور»، بالنظر إلى أن الشركة الأم لا تعطي هذا الامتياز إلا لألمع الناس في كل بلد.
وأرجو المعذرة إذا كانت هذه النقطة ذكرتني بمجال آخر واسع، تفتحه سيرة «الدكتور» أمام الباحث الطموح، وأقصد بذلك حياته الجنسية التي اتسمت بنشاط غير عادي؛ فمثل هذا النشاط قد تكون له أوجه متباينة للغاية. فمن خصوبة زائدة يمكن دراسة أسبابها للاستفادة منها وتعميمها، إلى محاولة دائمة لنفي ميول لوطية كامنة، أو بحث عن الأم تمخض عما يتجلى في سلوكه الاقتصادي بوضوح من قلق دائم، ورغبة جارفة في الانتماء.»
شعرت أن حلقي جف فتوقفت عن الكلام، وتأملت وجوههم لأتبين أثر حديثي، لكن ستارا كثيفا من الجمود كان يغطيها.
بللت شفتي بلساني، ثم استجمعت قوتي في محاولة أخيرة، فانطلقت أقول: «وأحب أن أصارحكم، أيها السيدات والسادة، بشيء آخر له أهمية خاصة؛ فقد كشفت لي الدراسة التي قمت بها عن عديد من العلاقات والارتباطات الخفية بين مجموعة من الظواهر المتنوعة والغريبة. وأعتقد أني قادر، في وقت قريب للغاية، على أن أميط اللثام عن بعض الألغاز والفوازير التي حيرت الكثيرين حتى الآن.»
بدا عليهم الاهتمام فجأة، فأضفت في صوت حاولت أن أضمنه كل ما أملك من رقة ولطف: «إني واثق أنكم من السماحة وسعة الصدر بحيث تتيحون لي مواصلة العمل الذي بدأته.»
تكلم الرجل الأشقر في لهجة صارمة: «نحن لا نرغمك على شيء، فأنت حر في الأمر.»
وتطلع إلى ساعة يده وهو يفكر بعمق، ثم أضاف: «سننصرف الآن؛ فلا يمكننا البقاء أكثر من ذلك، وسيبقى رفيقنا (وأشار إلى زميله القصير) معك إلى أن تنتهي إلى قرار.»
مد يده فتناول لوحة الرئيس كارتر، وجمع الرجل القصير البطاقات التي تضم مقال المجلة الأمريكية، والكراس الأصلي الذي نقلت عنه، وقدمها إلى زميله الأشقر فأخذها في صمت، ولم أجرؤ على الاعتراض.
اتجه الأشقر إلى باب الغرفة، وتبعه بقية الأعضاء، بينما ظل القصير جالسا إلى مكتبي. وعندما أردت مرافقتهم أشار لي أن أبقى في مكاني.
قلت محتجا: «أخشى أن يتعثروا في الظلام؛ فالدرج بلا نور، كما لعلك لاحظت، وبوسعي أن أعاونهم بمشعلي الكهربائي.»
أجابني في قحة: «معهم مشاعلهم وليسوا في حاجة إلى معاونتك.»
أنصت لوقع أقدامهم فوق الدرج، ولصوت الباب الخارجي عندما أغلقه آخر من خرج منهم، بينما كنت أتأمل الوجه القبيح الذي بقي معي، وقد هبط علي إدراك مفاجئ بأني وقعت أخيرا في يده.
لكني شعرت في نفس الوقت أن المحنة المقبلة - التي سيتوقف عليها مصيري - ستكون فاصلة في شأنه هو الآخر.
الفصل الرابع
جلست على حافة الفراش، وأشعلت سيجارة بأصابع مرتعشة وأنا أحاول استيعاب التطورات الأخيرة المتلاحقة. وأردت، قبل كل شيء، أن أفهم الوضع الجديد، فقلت للقصير الذي لم يغادر مكانه خلف مكتبي: «إني أرحب بك في مسكني، أنت وبقية أعضاء اللجنة الموقرة، لكن ثمة ما أريد أن أستوضحه، وأعني أن الوصول إلى قرار في هذا الأمر قد يستغرق بعض الوقت.»
أجاب: «خذ من الوقت ما تشاء، لكن المهم أن تصل في النهاية إلى قرار.»
قلت في رقة بالغة: «ربما تطلب ذلك عدة أيام.»
قال بحسم: «يجب أن تفهم جيدا أني باق هنا إلى أن تحزم أمرك، ولو بعد عام. والأفضل لك - بالطبع - أن تتمكن من ذلك في أقرب وقت.»
ران علينا الصمت بضع لحظات، تمعنت خلالها في كلماته وما تحمل من مدلولات، إلى أن استأنف الحديث: «ليس من حقي أن أتدخل في شأن قرارك، إلا أني على استعداد لمساعدتك بصفة شخصية.»
قلت: «أشكرك على هذه الروح، وما دمت تتحدث عن المساعدة، فماذا تقترح علي؟»
قال : «لقد عرضنا عليك استبدال شخصية «الدكتور» بغيرها، لكن اللجنة لن تعارض في أية بدائل أخرى، فلعلك تجد صيغة ملائمة تسمح لك بمواصلة العمل في نفس الموضوع.»
لاح لي بصيص من الأمل، فهتفت: «ليس عندي مانع، فكيف أفعل إذن؟»
أجابني في لهجة اشتممت منها شيئا من التشفي: «هذا شأنك. فكر.»
لكني عجزت عن التفكير رغم ما بذلت من مجهود. واشتد إحساسي بجفاف حلقي، فبلعت ريقي عدة مرات، وأخيرا عرضت عليه أن نشرب شايا.
قال في شيء من السخرية: «إذا كان الشاي سيساعدك على التفكير؛ فلا مانع لدي.»
نهضت واقفا وغادرت الحجرة، فترك مقعده وتبعني. اجتزت الردهة وهو ورائي إلى أن بلغت المطبخ، ووقف في مدخله يرقبني وأنا أملأ الغلاية من الصنبور، وأضعها فوق موقد الغاز ثم أشعله.
ولم أدرك الموقف تماما إلا عندما أردت التبول، فغادرت المطبخ وعدت أدراجي في الردهة نحو الغرفة الداخلية التي يقع الحمام إلى جوارها، فما إن دخلت الحمام واستدرت أغلق الباب حتى وجدته قد لحق بي، ودفع الباب جانبا ليحول دون إغلاقه، ثم وقف في مدخل الحمام، قريبا مني، إلى أن فرغت من أمري.
قلت وأنا أتقدم من الحوض وأفتح الصنبور: «أتظن أني سأهرب منك؟»
أجاب بقحة: «لا شأن لك بما أظنه.»
غسلت يدي ووجهي، ثم جففتهما، وعدت إلى المطبخ وهو في أعقابي.
صنعت الشاي وصببته، ثم ناولته كوبه، وحملت كوبي، وتقدمته من تلقاء نفسي إلى الغرفة الداخلية.
رأيته يتجه إلى مكتبي، فاستوقفته قائلا: «أريد أن أطلب منك معروفا.»
قال بحذر: «ما هو؟»
قلت: «أن تجلس في هذا المقعد وتترك لي مكاني عند المكتب.»
تأملني لحظة، ثم طاف بعينيه في أرجاء الغرفة، إلى أن استقرتا على المقعد ذي المسندين، فتفحصه بإمعان، كأنما يبحث عن سر خفي لطلبي، أو خازوق ما، وأخيرا هز كتفيه وقال: «لا بأس.»
احتللت مكاني المفضل عند المكتب، فأصبح الجدار - وهو الجدار الأخير للمسكن كله - من خلفي، والباب من أمامي. ولم أكن أشعر - عادة - بالطمأنينة إلا في هذا الوضع.
ولما كان المقعد ذو المسندين بجوار الباب، بينه وبين الفراش؛ فقد صار القصير في مواجهتي مباشرة، وهو ما جعلني أندم في الحال على السعي وراء طمأنينة واهمة.
قدمت إليه سيجارة فقال إنه لا يدخن حفاظا على صحته. وأسرعت بإشعال سيجارتي، وقد خفت أن يفرض علي مراعاة موقفه من التدخين، لكنه انشغل عني بتأمل لوحة المرأة العارية المعلقة فوق رأسي.
قلت معقبا على اهتمامه: «إنها لمحمود سعيد كما لعلك حزرت. ولا يقتصر جمالها على روعة الألوان وإحكام التكوين؛ فلعلك لاحظت الغموض الذي يتجلى في نظرة العينين ووضع اليدين. وفي رأيي أنها تحمل قدرا منه يماثل ذلك الذي تحمله لوحة الموناليزا الشهيرة.»
ظهرت على وجهه لأول مرة ابتسامة ملتوية، وفوجئت به يغمز لي بإحدى عينيه قائلا: «هل لديك صور أخرى من هذا النوع؟»
أجبت: «فهمت ما تقصده. للأسف إني لست من المغرمين بالصور العارية، وإنما أفضل الكتب الإباحية، ولدي مجموعة من هذه الكتب إذا أحببت أن تلقي عليها نظرة.»
قال: «فيما بعد؛ فأمامنا وقت كاف فيما يبدو، إلا أني لا أفهم وجه اعتراضك على الصور العارية.»
قلت: «لأنها لا تقدم إلا لحظة ثابتة، لا تكشف عن أية أعماق. أما الكتاب فيلقي شيئا من الضوء على السلوك الإنساني؛ فمهما بلغ الكاتب من تبذل وسوقية وإغراق في الخيال، فإنه مضطر لأن ينهل من تجاربه الواقعية، وهو سيكشف - شاء أم لم يشأ - عن جانب من اللاوعي الإنساني بحكم كشفه عن لا وعيه هو. والنتيجة في النهاية يمكن أن تكون مصدر معرفة، بقدر ما هي، بالتأكيد، مبعث متعة.»
لم تبد عليه الرغبة في متابعة الجدل؛ إذ تشاغل بارتشاف الشاي في صوت مزعج، وهو ينقل البصر بين الكتب والأسطوانات الموسيقية التي ملأت عدة رفوف معلقة خلفي، ووجدت في ذلك فرصة لمحاولة ترتيب الأفكار التي كانت تصطخب في رأسي.
هالني أن أبدأ البحث من جديد، بفرض أني وجدت الشخصية التي يمكن أن تحل محل «الدكتور »؛ أي تتوفر فيها الخصائص التي جعلت منه ألمع شخصية عربية معاصرة، وتستحوذ في الوقت نفسه على جل اهتمامي، وشغفي.
وما أدراني أنهم - بفرض أني عثرت على شخصية أخرى - لن يزوروني بعد عدة أشهر ليطلبوا مني استبدالها من جديد؟
عجبت لتمسكي بالدكتور، كأنما سحرتني شخصيته، أو صار وجودي مرتبطا بوجوده. وإذ أوليت الأمر الآن كل تفكيري، رأيت أنني - من خلال الظواهر الغامضة التي صادفتني أثناء البحث في أمره، والمعلومات الغريبة التي جمعتها وسهلت لي إدراك أشياء كثيرة أعياني فهمها من قبل - قد وجدت أخيرا معنى للحياة لست مستعدا لأن أفقده؛ كي لا أعود إلى ذلك الخواء المؤلم الذي كنت أعيش فيه. وهل يتخلى الغريق عن قطعة الخشب التي يمكن أن تؤدي به إلى النجاة؟
لم يعد أمامي إذن سوى أن أقصر تفكيري على السبيل الذي ألمح إليه ضيفي منذ قليل.
على أنه كان ثمة مغزى لاقتراحه، وللتطورات الأخيرة برمتها لم يفتني إدراكه؛ فحرية الحركة والمناورة التي أتيحت لي حتى الآن، ومكنتني من الإفلات من الشباك المنصوبة، قد تقلصت للغاية حتى أوشكت أن تنعدم تماما.
وضايقتني هذه الفكرة للغاية، حتى إني عجزت عن مواصلة التفكير، فقررت أن أؤجل الأمر إلى الصباح؛ إذ ما زالت عادتي أن ألتمس في النوم مهربا.
قلت للقصير بعد قليل: «الوقت تأخر، ولعلك تود أن تأكل شيئا.»
قال: «كلا؛ فقد تناولت عشائي قبل مجيئي. يمكن أن تأكل أنت إذا شئت.»
قلت: «صدت نفسي؛ فقد استولى علي التعب، وأريد الآن أن أنام، فأين تود أن أعد لك فراشك؟»
سألني بدوره وهو يشير إلى الفراش: «أليس هذا سريرك؟»
أجبت: «أجل. بوسعي أن أعد لك فراشا آخر في الصالة، أو تنام أنت هنا، وأنام أنا في الصالة.»
قال في حسم: «لا هذا ولا ذاك، سأنام بجوارك على هذا السرير.»
انزعجت للغاية من قوله؛ فلم أكن قد نسيت بعد ما جرى لي في المقابلة الأولى مع اللجنة. وتأملته فوجدته قويا مدكوكا رغم كهولته، لا قبل لي بمقاومته، أو الاشتباك معه.
واكتشفت أنه أحضر معه حقيبة «سامسونايت»، فتحها الآن وأخرج منها حافظة جلدية لأدوات الزينة، ومنشفة وخفا من القماش. وحرص أثناء ذلك على ألا يمكنني من رؤية محتويات الحقيبة إلى أن أغلقها. وانتظر حتى رآني أتقدم إلى الحمام فألقى بمنشفته على كتفه وتبعني.
باشرت بغسل أسناني، بينما أخرج هو من حافظته الجلدية فرشاة للأسنان، ومعجونا أجنبيا، وصابونة فرنسية معطرة. وانتهيت من الاغتسال بسرعة، فتركت له الحوض، وانتهزت الفرصة لأتبول وأملأ الأواني البلاستيكية من صنبور حوض الحمام. فلأن المياه لا تصل إلى الطابقين الأخيرين إلا ليلا؛ يتعين علي أن أجمع منها، كل ليلة، ما يكفي للنهار التالي.
وقد شرحت هذا كله للقصير عندما سألني عن حكمة ما أفعل. وأبقيته واقفا في مدخل الحمام ريثما ملأت عدة أوعية، فلاحظ أن مياه الحنفية لا يلبث لونها في الوعاء أن يتحول إلى صفرة داكنة، ثم يميل إلى السواد. وكان هذا أمرا عاديا في نظري، إلا أنه أعرب عن دهشته قائلا إنه لم يسبق له أن رأى مياه الحنفية بهذا اللون.
قلت: «لا بد أنك تستخدم جهازا للتقطير.»
قال مستغربا: «أجل. كيف عرفت؟»
ابتسمت وأنا أغلق الحنفية بعد امتلاء الوعاء الأخير، ثم أجبته: «لقد عرفت أشياء كثيرة في الآونة الأخيرة.»
مضيت إلى المطبخ وهو خلفي، فملأت عدة زجاجات وأواني بالمياه من أجل الشرب والطهي. وأحكمت إغلاق صنبور أنبوبة الغاز. وأوشكت أن أقوم بجولتي المعهودة قبل النوم، التي أغلق فيها النوافذ، وأحكم رتاج الباب الخارجي، لكني تداركت نفسي عندما تبينت أنه ليس ثمة ما أخشاه - هذه الليلة على الأقل - من الخارج.
عدنا أخيرا إلى الغرفة الداخلية، فأخرج من حقيبته منامة حريرية مزركشة. واقترحت عليه أن يستبدل ملابسه في الحمام، أو أغادر الغرفة حتى يفعل. ومن الطبيعي أنه ما كان ليوافق، أما أنا فلم أعبأ بالأمر؛ لأني لا أجد غضاضة في أن أتعرى أمام رجل مثلي، فما بالك إذا كان هذا الرجل على معرفة سابقة بأكثر أجزاء جسمي حميمية؟!
لكني لم أكد أخلع ملابسي الخارجية وأقف أمامه بالقميص والسروال الداخليين ، حتى شعرت بالحرج عندما تطلع إلي. ولم أملك أن اختلست النظر إلى فخذيه العاريين، فهالني امتلاء ما بينهما، وقدرت أنه إما أن يكون مصابا بفتق قديم، تدلت معه أمعاؤه في الخصية، أو أنه قد حوبي، عند خلقه، بشيء من السخاء غير المألوف.
أردت أن أثير موضوع الرقاد من جديد، فقلت في انفعال مفاجئ: «ربما تحب أن تقرأ قبل النوم؛ وفي هذه الحالة لا بد أن ينام كل منا في حجرة لأن النور يزعجني، وأريد أن أنام على الفور.»
قال بهدوء: «لا تقلق. لن أقرأ شيئا؛ فأنا أيضا أريد أن أنام الآن.»
تقدمت من الفراش بخطى متثاقلة، وسمعته يطلب مني بنفس الصوت الهادئ أن أسبقه داخل الفراش كي يرقد هو على طرفه الخارجي، فانصعت لرغبته، واستلقيت على ظهري إلى جوار الحائط. وما لبث أن انضم إلي بعد أن أطفأ النور.
وغني عن القول أن النوم لم يجد إلى جفوني سبيلا؛ فرغم حاجتي الشديدة إليه في نهاية يوم مرهق، وأساسا كي أنهض منتعشا في الصباح، قادرا على تدبر المعضلة التي تواجهني، فإن جهلي بمدى ما يمكن أن يذهب إليه جاري في الفراش، نبه كل حواسي، وبالأخص أذني.
وفي البداية غطى وقع الدقات السريعة لقلبي على أصوات الليل المعهودة. وعندما هدأت قليلا تبينت حشرجة المواسير، وصياح جاري في أطفاله، وصرير إناء يوضع تحت الحنفية في المسكن الذي تحتي، ونباح الكلاب في شوارع الحي.
والغريب أن هذه الأصوات التي طالما أثارت حنقي، وحرمتني من النوم، غدت الليلة مصدر طمأنينة، وخففت من توتر أعصابي.
إلا أني لم ألبث أن انتفضت عندما دوت طلقات الرصاص في سكون الليل معلنة بدء الحملة على الكلاب.
وكنت أعرف أغلب هذه الكلاب، وأرى أجسادها الهزيلة بالنهار، في شوارع الحي وعند أقمام الزبالة. كانت جبانة، لا تملك القوة على إيذاء أحد، وكل ما تملكه هو عقيرتها التي ترفعها بدون مناسبة، وخاصة بعد أن يهجع الناس.
ويبدو أن هذا النباح الذي تتضخم أبعاده في هدأة الليل، قد آذى مسامع أحد الشخصيات اللامعة من سكان الحي، فاستأجر من يتصيدها. وأصبح النباح يختلط في أغلب الليالي بطلقات الرصاص، ثم يتباعد تدريجيا إلى أن يتلاشى.
وفي اليوم التالي أو الذي بعده، يعود النباح إلى سابق عهده، كأن شيئا لم يكن، فتدوي طلقات الرصاص من جديد.
لم يأبه جاري لطلقات الرصاص، وظل راقدا على ظهره في سكون. وحبست أنفاسي عندما تحرك فجأة، وانقلب على جانبه الأيسر، بحيث صار وجهه ناحيتي.
أتتني رائحته المعطرة فملأتني بالتقزز. وخيل إلي من انتظام تنفسه بعد قليل أنه استغرق في النوم، فاستدرت على جانبي الأيمن بحيث واجهته. وتطلعت إلى وجهه في الظلام.
كانت عيناي قد ألفتا غياب الضوء، فأمكنني أن أتبين موقع عينيه، وفوجئت بهما مفتوحتان، ترمقاني في انتباه.
أغلقت عيني على الفور وتظاهرت بالنوم وأنا أراقبه من تحت أجفان نصف مغلقة.
بدرت حركة من يده، فحبست أنفاسي في هلع وقد تبادر إلى ذهني أنه سيلمسني، لكنه لم يفعل. وترددت أنفاسه في انتظام. وخيل إلي أنه أغلق عينيه، لكني لم أستسلم للأوهام؛ فربما كان يفعل مثلي ويرقبني من بين جفونه.
تعذر علي النوم، خاصة بعد أن فرضت مشكلتي نفسها على فكري. وعندما حاولت الهرب منها بالتفكير في شيء غيرها؛ فتحت بابا طالما جاهدت في إغلاقه، وكأنما كانت الصور والذكريات تنتظر خارجه، فسرعان ما تدافعت داخل رأسي. ولم تلبث أن تراءت لي بجلاء نقاط ضعفي وسوءاتي. وتضخم إحساسي بتفاهة شأني، وباللحظات التي سمحت لنفسي فيها أن أكون أضحوكة للآخرين، وألعوبة في أيديهم، وبالطرقات الجانبية التي لم أمنع نفسي من الانقياد إليها، وبالمتع الصغيرة التي استسلمت لها، وتركتها تتحكم في.
وما عتمت هذه الأمور ذاتها أن بدت محل شك؛ إذ جرفتني موجة مألوفة منه، ألقت ظلالها على مناحي حياتي وأهدافها. ولم تسلم من ذلك المتع الجنسية التي تحتل مكانا بارزا من وجداني؛ فعندما استدعيت - في محاولة مستميتة للخلاص - ما يخزنه عقلي من صور واقعية ورؤى خالية، طالما بعثت الدماء في عروقي؛ ألفيتني غير مبال، عازفا عن كل وعد بالبهجة.
ويبدو أني غفوت قليلا قرب الفجر، وأني تقلبت بحيث أعطيته ظهري؛ فقد تنبهت فجأة على ارتطام شيء صلب بفخذي.
اعتدلت فوق ظهري على الفور وتطلعت نحوه، فرأيته في ضوء الفجر الخفيف يرمقني بعينين يقظتين، لكنه كان بعيدا عني بمسافة كافية، مما دفعني إلى الظن بأني كنت أحلم، وهو ما يعطيكم صورة عن الهواجس التي كانت تعتمل في داخلي.
ومن الطبيعي أني لم أتمكن من النوم بعد ذلك، وعندما تسللت أشعة الشمس إلى الحجرة قررت القيام، وسبقني هو فغادرنا الفراش سويا. ومضينا إلى الحمام، فتبولنا واغتسلنا.
ورأيته يستخرج أدوات الحلاقة من حافظته الجلدية، فقررت أن أحلق بدوري؛ سعيا وراء شيء من الانتعاش، ولأشغل نفسي حتى ينتهي؛ فقد كنت واثقا أنه لن يدعني أغادر الحمام قبل ذلك.
وقفنا متجاورين أمام المرآة المعلقة فوق الحوض. ورفعت إليها عينين حمراوين دامعتين، فالتقتا باثنتين تفيضان حيوية ونشاطا، كأنما نعمتا بالنوم طوال الليل. وطالعتني فيهما نظرة ثابتة حرت في تفسيرها؛ بسبب حولهما في الغالب، فاضطربت آلة الحلاقة في يدي؛ مما تمخض عن جرح خفيف أسفل ذقني.
وكان ذلك قمينا بأن يرسل القشعريرة في جسدي؛ لأني لم أكن أحتمل مشهد الدماء أو فكرة الألم. لكني رأيتني أتأمل جرحي، وخيط الدماء الذي انسال منه، بمشاعر أقرب ما تكون إلى الفضول.
نبهني رفيقي من استغراقي في تأمل دمائي بأن قدم إلي من حافظته الجلدية زجاجة صغيرة للمياه العطرية؛ كي أعالج بها الجرح. لكني اعتذرت شاكرا، ووضعت رأسي كله تحت الصنبور، وتركت المياه القليلة التي سالت منه تغسل الجرح وتكتمه.
عدنا إلى الغرفة بعد أن جففت رأسي، وألصقت قطعة صغيرة من القطن بمكان الجرح، فاستبدلنا ملابسنا، وبينما اكتفيت بقميص وبنطلون، ارتدى هو ملابسه الكاملة، ولم ينس أن يعقد رباط عنقه.
انتقلنا إلى المطبخ، فصنعت الشاي، ولم أجد في الثلاجة سوى ثلاث بيضات، وضعتها على النار في قليل من المياه، بعد أن استطلعت رغبة ضيفي في هذا الشأن، وأخرجت أيضا قطعة من الجبن، وأخرى من الحلاوة الطحينية، وقدرا من الزيتون الأسود.
جلسنا أخيرا، متواجهين، إلى مائدة الطعام، بعد أن قدمت إليه بيضتين من الثلاث المسلوقة، وخصصت نفسي بالثالثة، ولم يعلق بشيء على هذا التوزيع غير المتكافئ، وإنما أقبل على الطعام في شهية بالغة، بينما أكلت في غير حماس.
فرغنا من الأكل سريعا، فصببت الشاي، والتقطت الصحف التي ألقى بها البائع - كالعادة - أسفل باب المسكن، فأعطيته واحدة، واحتفظت بأخرى.
وكنت قد درجت في الفترة الأخيرة على الجمع بين أربع عمليات في آن واحد؛ وهي تناول الشاي، وتدخين أول سيجارة، وقراءة صحف اليوم، وقضاء الحاجة. وقد تكونت هذه العادة عندما بدأت بحثي عن «الدكتور»؛ إذ كنت مضطرا إلى اختصار الفترة بين نهوضي من النوم، ومغادرتي المنزل؛ لأقضي أكبر وقت ممكن في دور الصحف والمجلات التي كنت أتردد على مكتباتها. إلا أن جذور هذه العادة ترجع إلى شعور داخلي بالمكان الملائم لقراءة صحفنا القومية. وككل عادة، أصبحت تحتل ركنا هاما من حياتي النفسية اليومية، بحيث إن التخلي عنها، أو عن جانب منها، يهدد اليوم كله، على الفور، بالتلف.
ولم أجد ما يمنعني من الجري على عادتي في هذا اليوم، خاصة وأني كنت في أشد الحاجة إلى كل ذرة من قواي الروحية، بالإضافة إلى ما يتيحه لي ذلك من الانفراد بنفسي بعض الوقت، فوضعت علبتي السجائر والثقاب في جيبي، والصحيفة تحت إبطي، وحملت كوب الشاي في يدي، ومضيت إلى الحمام.
توقعت أن يتبعني كالعادة، وهذا ما فعله، فأسندت كوب الشاي إلى حافة الحوض، وواجهته موضحا ما أنتويه، وما يترتب عليه من ضرورة إغلاق الباب.
تطلع إلي مستهزئا: «هل نسيت أني رأيت مؤخرتك العارية في وضع أقل وقارا من قضاء الحاجة؟!»
قلت: «لم أنس، لكن العادة جرت أن ينفرد الإنسان بنفسه في هذه الأمور؛ فهذه لحظة خاصة جدا.»
قال بشراسة: «إن من يتصدى للأمور العامة يفقد حقه في كل خصوصية.»
أيقنت بعبث المحاولة، فأنزلت بنطلوني، واستويت فوق الحلقة البلاستيكية لمقعد الحمام، ووقف هو في فرجة الباب يتأملني.
تناولت كوب الشاي وأخذت منه رشفتين، ثم وضعته على الأرض بجوار قدمي، وأخرجت سيجارة فأشعلتها، ثم بسطت الصحيفة وبدأت بالعناوين الرئيسية.
لكن الانسجام الصباحي المألوف لم يتحقق؛ فلم أجد مذاقا للشاي أو السيجارة، ولم أتمكن من التركيز في القراءة، والأهم من ذلك كله أن أمعائي لم تتحرك.
وما إن يئست من جدوى الاستمرار في مكاني، حتى نهضت واقفا وأنا أجذب سروالي إلى أعلى بسرعة، وخطوت نحو الغرفة شاعرا بضيق وإحباط شديدين. وجلست إلى مكتبي، بينما احتل هو المقعد ذي المسندين.
أشعلت سيجارة جديدة، ومددت يدي إلى البطاقات المصفوفة في صندوق الأحذية، وجعلت أقلب بينها وأنا أشعر بعيني القصير على وجهي.
كان علي أن أجد وسيلة لمواصلة البحث الذي بدأته، ترضى عنها اللجنة وتباركها، فهل يتحقق ذلك باستبعاد جوانب معينة من سيرة «الدكتور»؟ أم بالاقتصار على ناحية بعينها من نواحي شخصيته الغنية؟ وأي ناحية منها؟ أم أن الأمر يتطلب التخلي تماما عن المنهاج المبتكر الذي عرضته على اللجنة، والأخذ بالمنهج التقليدي الذي يتتبع مراحل الحياة؟
وكلما أمعنت التفكير استولى علي القنوط؛ فالمنهج التقليدي حافل بأخطار بالغة، أشرت إليها في حينها، وتجلى لي من ناحية أخرى، الترابط بين جوانب كل من سيرته وشخصيته بحيث يصعب تناول أحدها بمعزل عن الأخرى.
فكيف يمكن الحديث عن ثرائه دون الإشارة إلى مصدره. وعندئذ لن يكون بوسعي تجاهل الحقائق المتعلقة بهذا الشأن، وإلا أكون قد أخللت بالمبدأ الأساسي الذي بلوره بلزاك في عبارته الشهيرة: «خلف كل ثروة كبيرة، جريمة كبيرة.» وأصبحت من بعده ديدنا لكافة الباحثين المعاصرين.
ولا يمكنني بالمثل أن أتجاهل ضعة أصله، أو دوره الوطني وعلاقته بالثورة، أو دعوته للوحدة العربية والاشتراكية، ونشاطه الاقتصادي المتشعب، أو عمالته للشركات الأجنبية، والجوائز الدولية التي فاز بها في هذا المضمار، ولا طمعه في أموال بترول الخليج، التي تذهب إلى أصحابها الحقيقيين في أوروبا والولايات المتحدة عن طريق وسطاء غيره. فماذا يتبقى منه لو فعلت؟
خاطبني القصير بغتة في لهجة ودية، ظاهرها عدم المبالاة: «بالمناسبة، لقد سمعتك أمس تتحدث عن اكتشافات هامة توصلت إليها من خلال دراستك عن «الدكتور». وإن لم تخني ذاكرتي فإنك قلت إنك قادر على إماطة اللثام عن ألغاز كثيرة، فماذا كنت تعني؟»
شعرت بالخطر ؛ فحاولت التهرب من الإجابة.
قلت مهونا: «الواقع أني لم أتوصل بعد إلى شيء. وما أردت أن أقوله - ولعل التعبير خانني - هو أني مقبل على فهم العلاقة بين عديد من الظواهر المتفرقة.»
قال: «مثل؟»
فكرت قليلا، ثم قلت: «الظواهر كثيرة لا حصر لها، بحيث يصعب انتقاء إحداها. خذ مثلا انتشار أمراض الاكتئاب النفسي والعنة الجنسية وفتور الهمة، أو التعصب الديني، أو انقراض السيجارة المصرية، أو عودة «الكوكاكولا». أينما تطلعت ستجد ما تشاء من ظواهر.»
وابتسمت ثم أضفت: «إن «الدكتور» نفسه يمدنا بواحدة من أكثر الظواهر إثارة وغموضا؛ وأعني بذلك وجود كثيرين على شاكلته في كافة البلاد العربية، رغم اختلاف الأنظمة والشعارات والحكام.»
تجاهل إشارتي إلى «الدكتور» وهز رأسه في ازدراء: «وأين هي العلاقة المزعومة بين هذه الظواهر؟»
أجبت بمكر: «لم أقل إني تبينتها؛ فأنا ما زلت في بداية البحث.»
قال وهو يضغط على مخارج الحروف: «أرى أنك تجري وراء سراب، وتتصور أمورا لا وجود لها؛ فكيف يؤدي بحث عادي كالذي تتولاه إلى كل هذه الأمور؟!»
خبطت بيدي على سطح المكتب وقلت: «هذا ما أردده لنفسي طوال الوقت، بلا فائدة .. ما رأيك في فنجان من القهوة؟
بوغت بتغيير مجرى الحديث، لكنه لم يلبث أن قال: «لا مانع.»
ثم تطلع إلى ساعته واستدرك: «الأفضل ألا أشرب؛ فقد قاربنا موعد الغداء.»
نهضت واقفا وأنا أقول في حماس: «للأسف فإني لم أكن أتوقع هذه الزيارة؛ ولهذا لم آخذ أهبتي لها. صحيح أن لدي قدرا كافيا من الأرز، كما أن الثلاجة - فيما أظن - تحوي نصف دجاجة على الأقل، إلا أنه من الضروري - بالطبع - إعداد أصناف أخرى؛ حساء مثلا، وصنف من اللحم أو السمك، وآخر من الخضراوات، فضلا عن الفواكه والحلوى. هكذا ترى أنه من الضروري أن أذهب - أقصد نذهب - إلى السوق.»
قال وهو يتقدمني نحو المطبخ: «لا ضرورة لذلك، سنكتفي بما لديك.»
أتيت بحركة من كتفي، كأنما أخلي نفسي من المسئولية. وأخرجت نصف الدجاجة من الثلاجة فوضعتها في قليل من المياه ليزول تجمدها. وأشعلت الموقد أسفل قدر آخر من المياه، ثم نظفت الأرز من الشوائب، وأضفت إليه المياه الساخنة بعد أن أخذت منها ما يكفي لإعداد فنجان واحد من القهوة، كنت في أمس الحاجة إليه.
غسلت الأرز جيدا في المياه الساخنة، ثم نقلته إلى وعاء آخر، وأضفت إليه السمن والملح، ووضعته فوق النار. وعدت إلى الثلاجة فأخذت منها بضع حبات من الطماطم والخيار والفلفل الأخضر. وجذبت درج أدوات المطبخ الذي يقع أسفل الموقد، بحثا عن سكين نظيفة؛ فلم أجد به غير سكين اللحم الكبيرة، ذات الشفرة الماضية. أعدت الدرج مكانه وتناولت رشفتين من القهوة. وكان رفيقي قد وقف في مدخل المطبخ، موزعا اهتمامه بين مراقبتي وتأمل عناوين الكتب التي تبدأ صفوفها من أمام المطبخ وتمتد حتى الحمام، فطلبت منه أن يصب لي الماء كي أغسل سكينا صغيرة.
قال وهو يفعل، مومئا إلى أقرب كوب من الكتب: «أنت إذن من عشاق الروايات البوليسية؟»
قلت: «فعلا.»
قال: «لكني لا أرى لديك رواية واحدة من روايات آجاثا كريستي.»
قلت وأنا أجفف السكين، وأشرع في تقطيع الخضر: «الواقع أني لا أميل إلا إلى صنف معين من الروايات البوليسية، وهي تلك التي تقوم على الحركة والفعل. وأكثرها قربا إلي هي التي يقوم فيها البطل بمطاردة المجرمين ورجال العصابات، متحملا في ذلك كل عنت، وفي أغلب الأحيان دفاعا عن أحد الضعفاء والعاجزين، وفي مواجهة المجتمع وطبقاته السائدة.»
قال ساخرا: «عندك ميول إنسانية.»
قلت وأنا أرتشف من القهوة: «أبدا. إن موقفي - في رأي البعض - يعتبر ارتدادا إلى فترة المراهقة. وفي رأي البعض الآخر مجرد دليل على استمرار الطفل في كل إنسان. لكني أعتقد أن الأمر أكبر من ذلك. إن الإقبال على قراءة هذا النوع من الروايات يعكس العجز عن فعل ما هو صائب، ويتفق مع الرغبة الطبيعية المشروعة لدى كل إنسان في أن ينال الشرير عقابه، وأن ينتصر الحق.»
واستطردت بعد لحظة: «ثم إن هذه الروايات لا تتطلب مجهودا ذهنيا من القارئ؛ لأنها تقوم على الحركة. وليس معنى هذا أن روايات آجاثا كريستي تتميز بمستوى فكري عال؛ فهي تقوم على ألغاز ساذجة من نسج الخيال، لا يجدر بالمرء أن يبدد طاقاته العقلية في متابعتها، بينما يحفل الواقع ذاته بألغاز حقيقية يحتاج الاهتمام بها إلى كل ملكات الإنسان.»
قال بلهجة استفزازية: «عدنا إلى حديث الألغاز الغامضة والظواهر الغريبة. لقد بدأت أشك في سلامة قواك العقلية.»
أدركت أنه يجذبني من قدمي، لكني لم أملك نفسي من الانفعال، فلوحت بالسكين في اتجاه الصنبور وأنا أقول: «أنت تسخر مني، لكن ما قولك في المياه السوداء التي تخرج من هذا الصنبور؟ أليست لغزا حقيقيا؟!»
قال بهدوء: «وماذا أيضا؟»
اندفعت في تهور: «الألغاز كثيرة إن شئت. خذ مثلا موقف «الدكتور» من مشكلة الحرب والسلم؛ ففي بعض الأحاديث الصحفية القليلة التي أجريت معه وصف الحرب بأنها السبيل الوحيدة لاستعادة الحقوق المغتصبة، بينما أكد في أحاديث أخرى أن السلام هو السبيل الوحيدة لذلك.»
قاطعني متسائلا: «وما التناقض بين الأمرين؟»
قلت: «التناقض هو أنه في الحالة الأولى - عندما يتحدث عن الحرب - تجده يعمل بنشاط في مشروعات تحتاج، أول ما تحتاج، إلى السلام. وفي الحالة الثانية - عندما يتحدث عن السلام - تجده منهمكا في تأليف جيش من المرتزقة يقدمه لمن يدفع الثمن.»
توقفت لأطمئن على الأرز، وأخفض النار من تحته، ثم غسلت نصف الدجاجة وأعددت المقلاة لها.
استطردت: «إليك لغزا ثالثا إذا لم يكفك ما ذكرت؛ إن التعليمات المرفقة بالأدوية الأجنبية المباعة في بلادنا توصي باستخدام جرعات أكبر من تلك التي توصي بها المرضى في بلادها الأصلية. فلماذا؟»
وضعت ملعقتين من السمن في المقلاة، وألقيت بنصف الدجاجة فيها بعد أن ابتعدت قليلا إلى الوراء كي لا يصيبني الطشاش الساخن.
قلت وما زلت في أوج حماسي: «بماذا تفسر أن الخريطة المعلقة في الكنيست الإسرائيلي تقف بحدود إسرائيل المقترحة عند شاطئ النيل الشرقي، بينما يعلم الإسرائيليون أن أجدادهم هم الذين بنوا الأهرامات، الواقعة على الشاطئ الغربي للنيل؟»
لم يعبأ بمجادلتي، وكان مهتما أكثر بأن يستمع إلي، كأنما يتركني أمد الحبل الذي سأشنق به نفسي. وقد تنبهت فجأة إلى ذلك عندما تراءى شيء من الاستمتاع في إحدى عينيه، فلجأت إلى تغيير موضوع الحديث، منتهزا فرصة وضع الطعام على المائدة.
قلت وأنا أجلس في مواجهته: «لعلك لاحظت وجود مجموعة من روايات الكاتب البلجيكي جورج سيمنون لدي. والواقع أني مغرم به وببطله المفتش ميجريه. ورغم أن رواياته لا تقوم على الحركة، وهي أقرب إلى روايات الألغاز، إلا أنها تتفوق على آجاثا كريستي؛ بما تتميز به من عمق سيكولوجي وبعد اجتماعي. وهي تثبت أن كثيرا من النزعات المناقضة لسلوك المرء العادي تختزن في العقل الباطن. وفي لحظة معينة من تراكم هذه المخزونات، يحدث شيء مثل القشة التي قصمت ظهر البعير، فيصدر عن المرء فعل مناقض تماما لكل ما قام به من قبل، ويصبح الإنسان المسالم الذي لم يرتكب في حياته عملا واحدا من أعمال العنف، قادرا على ارتكاب أبشع جرائم القتل العمد.»
لم يعلق بشيء، وانهمك بكليته في الأكل بشهيته المعهودة. وجعلت أرقبه في صمت وهو يمسك فخذ الدجاجة بقبضة قوية، ويرفعه إلى فمه بيد ثابتة، ثم ينهش لحمه في استمتاع، ويلوكه بين أسنانه قبل أن يطحنه في تأن وإحكام، مركزا في الأمر جل اهتمامه.
وخطر لي أن ما أفتقده في حياتي، هو بالضبط هذه الطريقة في الأكل، النابعة من إقبال على الحياة، وعدم التردد في مواجهة أخطارها، والإصرار على قهرها.
فرغنا من الطعام، فرفعت الصحاف، وألقيت بها في حوض المطبخ. ثم مضينا إلى الحمام، فاغتسلنا. ولجأنا بعد ذلك إلى الحجرة الداخلية، فاستقر كل منا في مكانه.
أشعلت سيجارة، وما إن أخذت منها نفسين حتى استولى علي الخمول المألوف الذي أشعر به عادة بعد الأكل، وأحسست أن الإجهاد قد بلغ بي مداه، وأني في حاجة ملحة إلى إغفاءة قصيرة.
قلت له: «ألا ترغب في شيء من الراحة؟ أنا أنام عادة بعض الوقت عقب الغداء.»
أجابني في بطء: «ليس من عادتي أن أنام أثناء النهار. أما أنت فلا أظن أنك تملك إضاعة الوقت في النوم.»
أدركت ما يعنيه، فوجهت اهتمامي إلى صندوق البطاقات، وأخذت أقلب بينها، دون أن تعي عيناي الملتهبتان شيئا مما سطر فوقها.
أما هو فقد استرخى في مقعده باطمئنان، وثبت عينيه على السقف، في نقطة فوق رأسي، ثم استغرق في أفكاره تماما، فبدا كأنما استحال تمثالا.
شعرت بثقل رأسي، فأملته قليلا إلى الأمام، وكان الإغراء لا يقاوم، فأغمضت عيني، وإذا به يخاطبني فجأة في لهجة ملحة: «هل لك أن ترافقني إلى الخارج لحظة؟»
رأيته قد نهض واقفا في توتر، فغادرت مقعدي مدهوشا، وقد تسارعت دقات قلبي، وتبعته إلى الخارج، فولج الحمام قائلا: «أرجوك ألا تتحرك من هنا حتى أنتهي.»
ترك الباب مفتوحا بحيث أظل في مجال بصره، واستقر على الحلقة البلاستيكية بعد أن جذب سرواله إلى أسفل. أعطيته ظهري، ووقفت أتأمل الكتب المصفوفة في الممر، وكنت قد اشتريت أغلبها أثناء التحضير لمقابلتي الأولى مع اللجنة، ورتبتها حسب موضوعاتها، فخصصت جانبا للدراسات الاقتصادية والسياسية، تضمن بعض الأبحاث النادرة عن المصالح الأجنبية في الوطن العربي، ودراسة متميزة عن العسكرية في بلدان العالم الثالث. وقد احتوت الدراسة الأخيرة على فصل شيق عن جذور السادية الواضحة في سلوك قادة هذا العالم، يمكن أن يلقي ضوءا على تعطش الزعماء العرب للدماء.
وأفردت ركنا لأهم الأعمال الأدبية الجادة على مر الزمن، ضم كثيرا من الأسماء؛ ابتداء من شكسبير وبوشكين وسيرفانتيس، حتى جارسيا ماركيز ونجيب محفوظ.
وفي مكان بارز جمعت كل ما يتعلق بسير بعض الشخصيات العالمية، التي وضعت بأفكارها وممارساتها وتضحياتها المثل العامة للمسعى الإنساني؛ مثل النبي محمد، وأبي ذر الغفاري، وأبي سعيد الجنابي، وابن رشد، والمعري، وكارل ماركس، وفرويد، ولينين، وجمال الدين الأفغاني، وطه حسين، ومدام كوري، وألبرت شفايتزر، وفوتشيك، وهو شي منه، وكاسترو، وجيفارا، ولومومبا، وبن بركة، وبن بلا، وفرج الله الحلو، وشهدي عطية، وجمال عبد الناصر.
استغرقت في تأمل هذه الأسماء حتى تنبهت على صوت معدني حاد، فالتفت خلفي برغمي لأراه واقفا في وضع غريب؛ إذ تجمع بنطلونه عند قدميه، وتعرى سائر جسده، بينما انحنى ليلتقط مسدسا ضخما أسود اللون استقر على الأرض.
رفع المسدس في حركة سريعة وأودعه بين فخذيه، ثم جذب بنطلونه إلى أعلى وهو يختلس نظرة في اتجاهي، لكني حولت وجهي عنه في اللحظة المناسبة.
أدركت - وقلبي يخفق بشدة - سر الانبعاج الذي لاحظته من قبل بين فخذيه؛ ومعنى هذا أني لم أكن أحلم عندما تخيلت في الفجر اصطدام جسم صلب بفخذي. وأوشكت أن أبتسم عندما رأيت أني - من خوفي - قد عكست الآية الفرويدية المعروفة، التي يعد فيها المسدس رمزا لعضو الذكورة.
وما إن زال أثر الجانب الفكه من الأمر حتى عاودني الإحساس بالخطر، ولازمني هذا الإحساس ونحن نعود إلى الحجرة ونأخذ مكانينا المتواجهين.
وخطر لي فجأة ما جعلني أحبس أنفاسي.
ماذا لو رفضت؟
ماذا يحدث لو أعلنت له عدم استعدادي للتخلي عن البحث، أو تعديله، وعزمي على استكماله، والوصول به إلى نهايته الطبيعية مع قبولي لما سيؤدي إليه هذا من ضياع كل فرصي أمام اللجنة؟
ووجدت أن هذا الخاطر أراحني للغاية، كأنما أزاح عن صدري عبئا ثقيلا. وتطلعت إليه وأنا أتمعن الأمر، فخيل إلي أنه أدرك اتجاه تفكيري؛ لأنه ابتسم فجأة ساخرا.
أثارت هذه الابتسامة قلقي، وجعلتني أتساءل: أيعقل أن يكون الأمر بهذه البساطة؟ أنت حر توافق أو ترفض. وإذا رفضت قال: «حسنا، أنت وشأنك، سأتركك الآن، ولا أظن أننا سنلتقي مرة أخرى. وداعا.» وعندئذ أرافقه إلى الباب الخارجي قائلا: «صحبتك السلامة.» وتنتهي الحكاية.
إذن ما ضرورة المسدس؟
أدركت دقة موقفي - لأول مرة - بجلاء تام. فأشعلت سيجارة جديدة وأنا أحاول السيطرة على ارتعاش يدي.
أغمضت عيني، واستعرضت تاريخي. تراءت لي المثل التي آمنت بها في صباي، ثم أسقطت منها تدريجيا ما اتضحت سذاجته وعدم واقعيته، محتفظا بأكثرها أهمية وقيمة، وما يتفق منها مع طبيعتي وإمكانياتي، مستميتا في عدم التنازل عنها، ممزقا بين الضغوط، مجاهدا في إعادة تقويمها كل حين، وتطويرها مع التغيرات المتلاحقة في عالم اليوم، متجنبا المزالق والمنحنيات قدر الإمكان ، متعرضا - في سبيل ذلك - لكثير من الأضرار وما لا يحصى من الأخطار.
وتمثلت ما آلت إليه حياتي قبل أن أتقدم إلى اللجنة، وما لحق بي من مهانة على يدها. ولم أنس - من ناحية أخرى - أن البحث الذي كلفتني به قد أعطى لحياتي شيئا من المعنى، بعد طول خواء.
فتحت عيني، فوجدته ينظر إلي.
تضاحكت قائلا بصوت جاهدت أن أجعله عاديا: «ما رأيك في فنجان قهوة؟ إن الخمول يكاد يصرعني.»
قال: «كما تشاء.»
انطلقنا إلى المطبخ، وألقيت نظرة في الطريق على مرآة صغيرة معلقة فوق حائط الممر، فألفيت عيني في لون الدم.
سألته عندما بلغنا المطبخ: «هل تمانع في أن نشربها تركية هذه المرة؟»
لم يعن بالرد وانشغل بتأمل محتويات «مكتبة الممر»، كما أسميها، فاعتبرت موقفه بمثابة القبول.
أخذت «كنكة» متوسطة الحجم من أحد الرفوف وعدت أسأله: «كيف تفضلها؟»
أجاب: «قليلة السكر.»
وتناول أقرب الكتب إليه، فأخذ يقلب صفحاته دون أن يغفل عني.
لم أجد ملعقة صغيرة فوق رخامة الحوض، فجذبت درج أدوات المطبخ، وعندئذ وقعت عيناي على سكين اللحم الكبيرة، ذات الشفرة اللامعة والرأس المدببة.
قفز قلبي بين ضلوعي، فتمالكت نفسي، وتناولت الملعقة التي أريدها، ثم أعدت الدرج إلى مكانه.
وضعت السكر والبن في الكنكة، ثم ملأتها بالماء، وقلبت الخليط جيدا، ووضعتها فوق عين الموقد الصغيرة بعد أن أشعلتها.
غسلت الملعقة وجففتها بتأن، ثم فتحت الدرج، وألقيت بالملعقة إلى جوار السكين، متأملا حافتها الماضية. وأعدت الدرج إلى مكانه ببطء دون أن أرفع عيني عن السكين، وحرصت ألا أغلقه تماما.
وقفت أمام الكنكة حتى بدأت التيارات تتدافع في جوانبها، وتتجمع صاعدة إلى أن بلغت درجة الغليان، فانفجرت من عقالها، وأوشكت أن تجتاح الحافة، وتسيل من فوقها.
أبعدتها بسرعة عن النار، وأطفأت الموقد، ثم وضعت فنجانين بالقرب منها.
وكنت أشعر - لأول مرة منذ زمن بعيد - بفيض من القوة والراحة يسري في أطرافي، ويجتاح كل كياني.
الفصل الخامس
في هذه المرة كانت اللجنة مجتمعة عندما وصلت في موعدي، وأدخلني الحارس العجوز على الفور .
وجدت أعضاءها - فيما عدا القصير بطبيعة الحال - يجلسون خلف الطاولة التي وضعت بعرض القاعة، بنفس الترتيب الذي رأيتهم عليه في المرة السابقة، يتوسطهم العجوز المتهالك، ضعيف السمع والبصر.
ولفت نظري جو الحداد المخيم الذي تجلى في الشارات السوداء المشبوكة في ياقات ستراتهم، وأكاليل الزهور المصفوفة على جانبي القاعة، تحيط بكل منها لفافة من القماش الأسود اللامع، وتعلوها بطاقة عريضة باسم مرسلها، في حروف بارزة.
جعل أعضاء اللجنة يتفرسون في، وهم يقلبون بين أوراق الملفات الموضوعة أمامهم، بينما كنت أطالع في فضول أسماء المعزين، وتبينت في مقدمتها الرئيس الأمريكي كارتر، والسيدة الأولى زوجته، ونائبه والتر مونديل، ومستشاره للأمن القومي برجينسكي. كما قرأت أسماء المستشار السابق كيسنجر، وعددا من الرؤساء السابقين للولايات المتحدة مثل نيكسون وفورد، بالإضافة إلى روكفلر وروتشيلد، ورئيس البنك الدولي ماكنمارا، ومديري البنوك العالمية ورؤساء «الكوكاكولا» وشركات الأسلحة واللبان (العلكة)، والأدوية والسجائر والأجهزة الكهربائية والإلكترونية والبترول، ورؤساء فرنسا وألمانيا الغربية وإنجلترا وبلجيكا وإيطاليا والنمسا، ومرسيدس وبيجو وفيات وبدفورد وبوينج، وإمبراطور اليابان.
ولم أجد صعوبة في العثور على أسماء رئيس الوزراء الإسرائيلي بيجن، ووزيريه دايان ووايزمان، ورؤساء الحكومات العسكرية في تشيلي وتركيا وباكستان وإندونيسيا والفلبين وبوليفيا، ورئيس زائير موبوتو، والملوك والرؤساء العرب، وأفراد أسرة شاه إيران السابق، وماما دوك السيدة الأولى في جزر تاهيتي، ورؤساء الصين الشعبية ورومانيا وكوريا الجنوبية، وقادة الشعب الأسترالي.
وكان ثمة أسماء كثيرة من الشخصيات اللامعة في العالم العربي، من رؤساء للأحزاب القائدة، وكبار المسئولين عن الأمن والإعلام والدفاع والتخطيط والتعمير، وعملاء الشركات الأجنبية، فضلا عن ألمع «الدكاترة»، وبينهم مواطني المعروف.
وإذ وجهت اهتمامي أخيرا إلى أعضاء اللجنة، شعرت أن تغييرا ما لم أتبين كنهه قد طرأ عليهم منذ آخر مرة رأيتهم فيها. وتضاعفت حيرتي وأنا أنقل البصر بينهم، ملتمسا التفسير لما شعرت به؛ فلم تكن الجهامة التي تعلو وجوههم بالأمر الجديد علي. وقد عرفت فيهم - رغم العوينات السوداء على وجوه أغلبهم - نفس الأشخاص الذين التقيت بهم مرتين قبل الآن.
ومع أني فشلت - للمرة الثالثة - في إحصاء عددهم، من جراء عجزي عن التركيز، إلا أني كنت موقنا بأنه لم يزد أو ينقص، اللهم إلا فيما يتعلق بالقصير، الذي كان مقعده الخالي - إلى جوار العجوز - مجللا بالسواد، بمثل ما كانت صورته المعلقة فوق الجدار؛ إشارة إلى ما انتهى إليه أمره.
ولم أكتشف السر إلا بعد أن تطلعت إلى العانس عدة مرات؛ فقد تبينت أخيرا ما غاب عني في البداية؛ إذ كانت ترتدي الملابس العسكرية ذات الشارات الحمراء الموشاة بالذهب.
ولعل تأخري في هذا الاكتشاف يرجع إلى أني ألفت أن أرى بين أعضاء اللجنة ثلاثة من العسكريين، وقد سجل لا شعوري هذا العدد من اللحظة الأولى، فاكتفيت بذلك، ولم أول اهتماما لأشخاصهم؛ شعورا مني بأنهم جميعا - بسبب ملابسهم - متماثلون.
أما الآن فقد دققت النظر إلى العسكريين الآخرين حتى تأكدت من جنسيتيهما، ومن شخصيتيهما، وبحثت عن الثالث حتى وجدته بعد مشقة بسبب التغير الذي أضفته الملابس المدنية على هيأته.
أثارت هذه الظاهرة فضولي، فانطلق عقلي الذي دربته أحداث العام الأخير على استكناه الألغاز والغوامض، يحاول إيجاد تفسير لها.
كان اعتقادي في السابق أن اللجنة مختلطة؛ أي «مدنعسكرية»، لكن استبدال الملابس بالصورة التي رأيتها اليوم هز هذا الاعتقاد من أساسه؛ فلم يكن يعني سوى أحد أمرين: إما أن اللجنة تتألف كلها من عسكريين يرتدي بعضهم الملابس المدنية أحيانا، أو من مدنيين يرتدي بعضهم الملابس العسكرية أحيانا.
وفي كلتا الحالتين لم يكن ثمة مغزى للاستبدال. حقا إن التخلي عن الملابس يمكن أن يعتبر مؤشرا على انكماش الروح العسكرية في اللجنة، أو تقلصها، وهو الأمل الذي داعبني لحظة خاطفة بالنظر إلى ما اشتهر عن العسكريين من قسوة وإيغال في الدماء، وقوى منه ارتداء العانس لها، طالما أنها - بحكم أنوثتها (رغم إحباطها) - أكثر إنسانية. لكني لم ألبث أن رأيت في الاستبدال - لهذا السبب بالذات - تأكيدا للطابع العسكري بدلا من أن يكون تخفيفا منه.
انتزعني رئيس اللجنة من تأملاتي إذ نطق بصوت رصين شابته رنة أسى، فقال بلغة اللجنة: «نستهل عملنا اليوم بالوقوف لخمس دقائق حدادا على الفقيد.»
أزاح الأعضاء مقاعدهم إلى الخلف ونهضوا واقفين، أما أنا فلم أتحرك من مكاني ؛ لأنني كنت واقفا؛ فاللجنة لا تسمح لأحد بالجلوس في حضرتها.
رفعت عيني إلى صورة الفقيد المعلقة على الجدار، خلف الرئيس، وثبتهما على عينيه؛ مشاركة مني لأعضاء اللجنة في مشاعرهم، وركزت ذهني طوال الدقائق الخمس التي تتابعت ببطء شديد، في محاولة مخلصة لتذكر الطريقة التي كان يحركهما بها، كل واحدة في اتجاه، أثناء حياته الحافلة.
تنحنح الرئيس عدة مرات كأنه يقوم بشحن البطارية التي سيعمل بها صوته، ثم انطلق يقول - موجها حديثه إلى زملائه، بينما كان يتطلع إلى أكاليل الزهور، كأنما يخاطب في الحقيقة مرسليها: «حضرات الأعضاء الموقرين. هذه إحدى المرات النادرة التي تنعقد فيها لجنتكم لتبحث أمرا يخرج عن مألوف عادتها. وفيما يتعلق بالفقيد فإنها المرة الثالثة التي نجتمع فيها بسببه. وإذا لم تخني الذاكرة فإن المرة الأولى كانت في منتصف الخمسينيات عندما قررنا ضمه إلى اللجنة. وما زلت أذكره كما كان وقتذاك، ممتلئا شبابا وحيوية، أما المرة الأخرى فكانت في العام قبل الماضي، عندما احتفلنا بفوزه بجائزة «النسر الذهبي»؛ تقديرا لجهوده في خدمة أهداف اللجنة.
والواقع أن الفقيد لعب دورا هاما في الإعداد لكثير من التحولات الرائعة التي تحدث حولنا، وفي صياغة الشكل الذي تحققت به.
وبفضل هذا الدور تتفتح اليوم - من جديد - الإمكانيات التي تراءت في الخمسينيات، ثم قبرت في الستينيات وأوائل السبعينيات؛ لتحقيق أحلام البشرية، والقضاء على كافة المخاطر التي تهدد النوع الإنساني.
ونحن نشير بذلك إلى الحلم القديم، وهو حلم الوحدة الأرضية، أو الولايات المتحدة الأرضية، حيث يندمج سكان الكوكب جميعا في دولة متجانسة، تحقق لهم الرخاء، وتنشد لهم الحياة الأفضل.
وهذا يبين عمق الخسارة التي أصبنا بها، وأصيبت بها قضية الحضارة والتقدم، وقضايا الاشتراكية والسلام والديمقراطية.»
توقف لحظة ليترك للحاضرين فرصة تمثل الاستنتاج الذي توصل إليه، ثم استأنف حديثه: «لقد حرصنا في كل أعمالنا على أن نبقى بمنأى عن أي ارتباط مباشر بالأجهزة الرسمية، والسلطات التنفيذية، رغم الشائعات التي طاردتنا، والتي كان لها أساس من الصحة في حالات معدودة، مست المبدأ المذكور، وإن كانت في الحقيقة تدعيما له.
ونحن نواجه الآن حالة مماثلة أرغمتنا بسبب من خطورتها على أن نتصدى لمعالجتها، فلا يخفى عليكم ما لها من دلالات بالنسبة للمستقبل.
ومما يضاعف من دقة الأمر، ما تتعرضون له من مشقة وعنت، بالنظر إلى أنكم تواجهون الآن، مباشرة، اليدين المضرجتين بدماء أحد زملائكم.»
سرت همهمة غاضبة بين الأعضاء الذين لم يرفعوا عيونهم عني طول الوقت. وألفيت نفسي مدفوعا إلى الكلام. وعلى غير ما توقعت خرج صوتي مهتزا بكلمات غير التي كنت قد أعددتها.
قلت: «أرجو أن يتسع صدركم لي كي أبسط وجهة نظري. وإني واثق أنكم من السماحة والكرم بحيث تسمحون لي أن أتحدث باللغة العربية كي أحسن التعبير عن نفسي، وتأكدوا أني أشارككم الألم لخسارتكم؛ فهي خسارة لنا جميعا.»
خاطبني الأشقر في حدة: «ستتكلم عندما نأذن لك.»
تناول العجوز رشفة ماء من كوب أمامه، ثم استطرد: «لقد وضعت اللجنة نفسها منذ البداية في خدمة الأهداف الثورية، والمبادئ الأخلاقية، والقيم الدينية، وساند أعضاؤها كل ما من شأنه دعم المقومات الأساسية، وتعميق الممارسات الحرة.
وطبيعي أننا أثرنا بذلك حفيظة عناصر الشر والهدم التي لم تأل جهدا في مقاومتنا. وأشير في هذا الصدد إلى ما أثير من ضجة مفتعلة حول الأساليب التي نستخدمها في عملنا، وإلى الاتهامات التي أغدقت علينا، بالسادية حينا، والديماغوجية حينا آخر.
وقد حاولت هذه العناصر دائما أن تربط بيننا وبين الانقلابات السياسية والمذابح الطائفية والحروب الصغيرة الدائرة على قدم وساق في العالم العربي، بل وبعض حالات الانتحار الغامضة، وحوادث متفرقة لأشخاص اختفوا نهائيا دون أن يعثر لهم على أثر، وآخرين سقطوا من أسطح البنايات، أو قتلوا في حوادث عرضية للسيارات.
إلا أن الاعتداء على زميلنا يمثل تطورا بالغ الشأن في هذه المحاولات، الأمر الذي يتطلب منكم اهتماما خاصا. فإذا ما بدت مهمتكم يسيرة لأن المجرم ماثل أمامكم ومقر بما ارتكبه من إثم؛ فإن هذا ليس سوى خداع السطح البراق، وواجبكم هو أن تنفذوا إلى الأعماق.»
بدت على العجوز علامات الإرهاق وهو يتراجع إلى الوراء في مقعده، كأنما يفسح المجال لزملائه. وكانت العانس العسكرية هي أول من تكلم منهم فخاطبتني قائلة: «يمكنك الآن أن تتكلم.»
كان صوتها رقيقا، لكنه لم يخف ما يكمن بين طياته من صرامة ضاعف منها إشاراتها إلى رد الأشقر علي، بما يتضمن التأييد لحدته.
والواقع أني كنت شديد الانتباه لنظرات العيون، وإيماءات الرءوس، ونبرات الأصوات، وبالاختصار كل بادرة يمكن أن أستشف منها ما ينتظرني من مصير.
وليس معنى ذلك أن الشكوك كانت تساورني بشأنه؛ فقد هيأت نفسي قبل مجيئي لأسوأ الاحتمالات؛ إذ إني لم أنكر شيئا منذ البداية، ولم أحاول تبرير فعلتي. ومن ناحية أخرى فإن الندم لم يساورني؛ إذ غشيتني قناعة بأن ما حدث كان لا بد أن يحدث.
هكذا أعددت دفاعي على صورة اتهام موجه إلى اللجنة، واخترت له كلمات قوية؛ فما دامت النتيجة محتومة، فلا بأس من الاحتفاظ بكرامتي، ومواجهة المحتوم في إباء وشمم.
لكني لم أكد أواجه اللجنة وأستمع لكلمات رئيسها حتى تبخرت صلابتي، وخرج صوتي مهتزا ضعيفا، وأنا الذي خططت له أن يدوي في القاعة ثابتا، شامخا، اتهاميا.
قلت بصوت يذوب رقة، مستخدما لغة اللجنة: «إني أشكر لكم هذه الفرصة التي أتحتموها لي كي أتحدث أمامكم، وأحب أن أؤكد مرة أخرى إدراكي لعمق الخسارة التي حاقت بكم؛ فاللجنة لا تفقد أحد أعضائها كل يوم (وابتسمت بالرغم مني، لكنهم بالطبع لم يشاطروني الابتسام).
وأصدقكم القول بأني عندما جئت اليوم لم أكن أفكر في الدفاع عن نفسي؛ فأنا مقر بما فعلته، وقابل لكافة النتائج المترتبة عليه، ومع ذلك فكلي أمل أن يشفع لي تاريخي وسلامة طويتي والظروف التي أحاطت بي.
وأعتقد أنكم تعرفون جيدا أني لم يسبق أن أقدمت على عمل من أعمال العنف؛ فأنا مجرد إنسان عادي، يؤثر السلامة قدر الإمكان، وتلك الأعمال الجسورة التي يتحدث عنها الآخرون ويتباهون بها، ليست بالنسبة لي غير مادة للقصص والروايات.
وعندما مثلت أمامكم أول مرة لم يكن لي من غرض سوى أن أنال رضاكم؛ إذ تبينت أنه الطريق الوحيد لتطوير مواهبي والبرهنة عليها، خاصة وأن أفضل أصحاب المواهب قد سبقوني للمثول أمامكم.
وإذا كانت التطورات التي جرت بعد ذلك تعود أساسا إلى شغفي بالمعرفة؛ فإن ما صدر مني في حق زميلكم - أو على الأصح في صدره - لم يكن غير رد فعل طبيعي لإنسان بسيط في حالة دفاع عن النفس.»
قاطعني الرئيس قائلا: «لكنك قررت - عقب الجريمة مباشرة - أنه لم يهاجمك أو يتعرض لك بالأذى.»
قلت: «هذا صحيح، لكنه كان يحمل مسدسا؛ ولهذا فاستخدام العنف ضدي كان واردا منذ البداية. ومن المؤكد أنه لو لم أبادر بالقضاء عليه فإنه ما كان سيتركني في سلام. على أني لا أريد أن أدافع عن موقفي، وما أبغيه هو أن تضعوا في تقديركم حالتي النفسية والعصبية، وكوني لم أنم على الإطلاق أثناء وجوده معي، فضلا عن الحصار الذي فرضه علي.»
انحنى الأشقر إلى الأمام وتطلع إلي بعينين ملونتين قاسيتين، ثم قال: «إذن فأنت تريد أن نقبل صورة البريء السليم النية التي تحاول أن تبيعها لنا؟!»
كان يتعمد في حديثه دائما - كما لاحظت - أن يستخدم التعبيرات المميزة للغة اللجنة، وهي تعبيرات كانت تثير إعجابي.
قلت: «أنا لا أبيع شيئا، رغم أن البيع والشراء هذه الأيام شملا كل شيء، كما أكدت لي الدراسة التي قمت بها عن «الدكتور». أنا أقرر الحقيقة.»
ضحك ساخرا: «لعلك تظننا من السذج. يجب أن تعرف أننا أدركنا من اللحظة الأولى لوقوفك أمامنا أنك تظهر غير ما تبطن؛ فقد كانت إجاباتك على الأسئلة التي طرحناها عليك دقيقة وموفقة؛ مما أثار شكوكنا.
وإذا كان بيننا من ظل مترددا في القطع بأمرك، فإنه حسم رأيه عندما اتخذت من الدراسة المطلوبة منك ذريعة لنبش تاريخ «الدكتور» وجمع المعلومات عنه. وأصررت على المضي في هذا العمل رغم التحذيرات المختلفة التي وجهت إليك.»
وجه حديثه إلى أعضاء اللجنة واستطرد: «إن كل الدلائل تؤكد أننا نواجه مؤامرة كبيرة، حيكت خيوطها بمهارة وخبث شديدين منذ بعض الوقت، وليس الاعتداء على حياة الفقيد سوى حلقة من حلقاتها.»
انزعجت كثيرا لكلام العضو الأشقر؛ فها هي الأمور تتخذ اتجاها مفاجئا لم يخطر لي ببال، ولن يؤدي إلا إلى مزيد من الإساءة إلى موقفي.
سارعت بالقول وأنا أتضاحك مبديا كل ما أستطيع من مظاهر البراءة والطيبة، بل الغفلة: «سيادتك تملك خيالا نشيطا، ولا أظنك تتكلم جادا.»
قال بحدة: «لن تجديك المراوغة.»
قلت: «أؤكد لك أني بريء.»
قال مستنكرا: «وتتراجع أيضا عن اعترافاتك؟»
قلت: «لم أقصد تبرئة نفسي من ... أقصد أنه لا توجد ثمة خطة، وإذا وجدت فليس لي بها علم.»
قال بلهجة المنتصر: «آه .. ها أنت تقر بوجود خطة.»
قلت فزعا: «أبدا! لقد أردت فقط أن أؤكد مرة أخرى ...»
أشار إلى عضو يجلس في طرف الطاولة، فتناول هذا جهازا للتسجيل من تحت الطاولة ووضعه فوقها.
قال الأشقر مخاطبا أعضاء اللجنة: «سأريكم الآن أيها السادة كيف أنه أقر - بلسانه - بوجود شركاء له.»
أدار العضو الجهاز فسمعت صوتا غريبا لم ألبث أن ميزت فيه صوت تدفق المياه وارتطامها بسطح صلب. ثم تكلم رجل معربا عن دهشته من لون المياه الأسود، وعرفت فيه القصير فارتعدت.
سمعت صوتي يقول: «لا بد أنك تستخدم جهازا للتقطير؟»
ثم صوت القصير مستغربا: «وكيف عرفت؟»
وأخيرا صوتي: «لقد عرفت أشياء كثيرة في الآونة الأخيرة.»
أومأ الأشقر لمدير الجهاز فأوقفه وخاطبني ساخرا: «أليس هذا صوتك؟»
قلت: «أجل .. لكن هذا لا يعني ...»
لم يدعني أواصل كلامي وصاح: «كيف تأتى لك أن تعرف المعلومة التي لا نعرفها نحن عن زميلنا إلا إذا كان لك شركاء يمدونك بالمعلومات؟!»
تدخلت العانس في الحديث قائلة: «ليس من الضروري أن تكون المؤامرة قائمة منذ البداية؛ فربما ولدت في وقت لاحق. وهذا ما تدل عليه إشارته إلى أنه عرف أشياء كثيرة في الآونة الأخيرة.»
ووجهت إلي الحديث مستأنفة: «هذا أفضل لك؛ لأنه يعني أنك كنت سليم النية في البداية، ثم وقعت تحت تأثير العناصر الهدامة والمنحرفة. فإذا ذكرت لنا أسماءهم؛ ربما كان لذلك أثر في تخفيف الأمر بالنسبة لك.»
ضغطت يدي في يأس وأنا أقول في صوت جاهدت لأجعله ناطقا بالصدق: «أرجوكم أن تصدقوني. لقد وقع كل شيء بمحض الصدفة.»
سألني أحد الأعضاء: «ألم يمدك أحد بالسكين التي استخدمتها؟»
أجبت: «أبدا! لقد كانت موجودة - كما ذكرت من قبل - في المطبخ.»
سألني عضو آخر: «كيف تأتى لك أن تعرف تلك الأشياء التي أشرت إليها؟»
أجبت: «من الصحف.»
ضحك العضو، تطلع إلى زملائه كأنما لا يصدق أن تكون الصحف مصدرا للمعرفة.
قلت موضحا: «لقد اضطرني بحثي عن «الدكتور» إلى مراجعة أعدادها على مدى ربع قرن؛ ومكنني هذا من رؤية الوقائع والأحداث في ترابطها والوصول إلى استنتاجات قيمة يسرت لي تفسير كثير من الظواهر المعاصرة.»
مال أحد العسكريين فجأة إلى الأمام وقال: «هل لك أن تحدثنا عن هذه «الظواهر» كما تسميها؟»
قلت في إعياء: «أعتقد أن إجابتي على هذا السؤال الذي سبق أن وجهه إلي الفقيد، موجودة في الأوراق التي أمامكم، بالنظر إلى كفاءة الأجهزة التي تملكونها.»
قلب في عدة أوراق أمامه وهو يقول: «أجل .. أجل. لدينا هنا بضعة أمور .. الأمراض النفسية، والسيجارة المصرية .. مياه الحنفية .. الأدوية الأجنبية، و«الكوكاكولا» .. لكنك لم توضح لماذا تعتبر هذه الأمور دون غيرها ظواهر جديرة بالالتفات؟»
قلت: «لم أقل هذا أبدا ... لقد ذكرتها في معرض الاستشهاد بأمثلة؛ فالظواهر المماثلة لا تعد ولا تحصى.»
قال: «لقد تجنبت أيضا الحديث عما تبينته بصددها، كما أنك أشرت إلى العلاقة بينها دون أن توضح ما تعنيه بذلك.»
فكرت بسرعة حتى وصلت إلى قرار، فقلت بلهجة من استبان أخيرا أن الصدق والصراحة التامة هما أسلم وسائل الدفاع: «سأتحدث بصراحة كي أثبت لكم صدق نيتي وسلامة طويتي. والواقع أني ضحية لطموحي من ناحية، وشغفي بالمعرفة من ناحية أخرى. ولولا الخاصية الأخيرة بالذات ما وقفت هذا الموقف الآن.»
قاطعني العسكري قائلا: «الأفضل أن تطرق الموضوع مباشرة.»
قلت: «لقد أردت فقط أن أوضح كيف انسقت إلى التفكير في هذه الأمور والبحث عن تفسير لها، إلا أني سرعان ما تبينت أن تناول إحداها بمعزل عن البقية لن يؤدي بي إلى شيء. والنتيجة ذاتها تنتظرني إذا ما تناولتها جميعا، من خلال العلاقات المتبادلة بينها، دون أن يكون لدي المنهاج السليم للبحث.
هكذا توصلت إلى نقطة البدء، وهي العثور على المنهاج الذي يصلح لتفسير كل ظاهرة على حدة، وكافة الظواهر في علاقتها بعضها ببعض.»
بدا على وجوههم الاهتمام، وأدركت أني أثرت فضولهم إلى أقصى حد، فتابعت: «أقبلت أجرب كافة المناهج المعروفة دون أن أصل إلى شيء. وذات يوم كنت أفكر في الأمر عندما قلت لنفسي: إن مشكلة هذه الظواهر والألغاز أنها لا تتصل بمجال واحد من مجالات الحياة، وإنما تمتد إلى مجالات متنوعة؛ ومعنى هذا أن «التنوع» هو طابعها الأساسي.
وهنا تذكرت إحدى النتائج الهامة التي توصلت إليها في بحثي عن «الدكتور»؛ وهي مساهمته في تطوير اللغة العربية بابتكار اشتقاقات جديدة من كلمات عادية، منها ذلك المصطلح الفذ: «التنويع»؛ ففيه وجدت ضالتي.»
تحدث العضو البدين لأول مرة، وهو الذي كان يرتدي سترة بيضاء في مقابلتي الأولى باللجنة، وقد استبدلها الآن بأخرى من القطيفة الحمراء.
قال: «هل يمكن أن تعطينا مثالا لما تعنيه؟»
أجبت: «هذا ما كنت أنوي أن أفعله حالا، وسأتخذ لمثالي موضوعا مألوفا لنا جميعا هو «الكوكاكولا»؛ فهناك الكثير من الظواهر الغامضة التي ترتبط بتطور هذه الزجاجة الشهيرة.
وعلى سبيل المثال، فقد قرأت عن حملة واسعة ثارت في الولايات المتحدة عام 1970م حول سوء معاملة ربع مليون من العمال الموسميين في المزارع التابعة لشركة «الكوكاكولا». أقول المزارع لا المصانع. وقد انتقلت هذه الحملة إلى التليفزيون ومنه إلى قاعات الكونجرس، وقام السيناتور والتر مونديل، عضو لجنة العمال الموسميين به في ذلك الوقت، باستدعاء رئيس «الكوكاكولا» ليجيب رسميا على الادعاءات الموجهة إلى شركته، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي.
ولم تمض ثلاث سنوات حتى كان رئيس «الكوكاكولا» يشارك في اختيار مونديل هذا لعضوية اللجنة الدولية التي حدثتكم عنها في لقائنا الأول، ثم ليكون نائبا للرئيس الأمريكي كارتر.
وفي نفس الوقت الذي نجدها متهمة بابتزاز حفنة دولارات من عمالها، نقرأ أنها خصصت مبالغ طائلة للأعمال الخيرية والثقافية التي تمتد من إدارة جامعة كاملة ، إلى جائزة هامة للإبداع الفني والأدبي، ومنحة ضخمة قدمتها عام 1977م لمتحف بروكلين الأمريكي ليعمل على إنقاذ آثار الفراعنة المصريين من الانهيار.
وبينما تمثل مياه الحنفية المنافس الوحيد لها الآن (فهي توزع 200 مليون زجاجة يوميا في العالم حسب إحصائيات عام 1978م)، نراها ترعى مشروعا لإزالة ملوحة مياه البحر تقوم به شركة «أكواشيم» التي اشترتها «الكوكاكولا» قبل عدة سنوات وبالتحديد عام 1970م.
أثارت هذه المتناقضات حيرتي فقمت بأبحاث عدة علمت منها أن شركة «الكوكاكولا» ظلت منذ نشأتها أمينة لمبدأين أساسيين، وضعهما مؤسسوها العظام؛ المبدأ الأول: هو أن يصبح كل مشترك في مغامرة «الكوكاكولا» غنيا وسعيدا. والمبدأ الثاني: هو أن يقتصر نشاطها على إنتاج سلعة واحدة هي الزجاجة المعروفة.
لكن رياح التغيير التي هبت في أوائل الستينيات أرغمتها على الاختيار بين المبدأين. وكي لا تضحي بالمبدأ الأول فضلت أن تقوم بتنويع منتجاتها؛ فبدأت بإنتاج أنواع من المياه الغازية، ثم مدت نشاطها إلى زراعة الموالح والبن والشاي، وأصبح لها مزارع واسعة في نفس الولاية التي ولدت بها، وهي ولاية جورجيا، تجاور مزارع الرئيس الأمريكي كارتر. وربما كان هذا الجوار هو المسئول عن تماديها في سياسة التنويع بالاشتراك في الأمور العامة، المحلية والدولية.
ولا شك في أن النجاح كان من نصيب هذه السياسة. ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى عودة الزجاجة العتيدة إلى كل من الصين ومصر بمبادرة وطنيين شجعان، ذوي مبادئ، في البلدين.
غير أن هذا النجاح تمخضت عنه ظاهرة غريبة؛ فمع استخدام الوسائل الحديثة وتقليل تكلفة الإنتاج بالاعتماد على عمال موسميين ذوي أجور منخفضة، أصبحت «الكوكاكولا» من أكبر منتجي الفواكه الطازجة في العالم الغربي، لكنها وجدت نفسها للأسف مرغمة على إلقاء جانب كبير من هذا الإنتاج في البحر كي لا ينهار السوق العالمي.
ولم يكن من حل لهذه المشكلة إلا بمزيد من التنويع؛ فاستغلت إمكانياتها الضخمة وخبرتها بميدان الزراعة في رعاية عدد كبير من مشروعات الأمن الغذائي في البلاد المختلفة؛ منها مشروع لزراعة البقول في «أبي ظبي» تقوم به شركة «أكواشيم» التابعة لها. كما قامت بأبحاث واسعة لإنتاج شراب غني بالبروتينات والعناصر المغذية الأخرى، تعوض به المستهلكين عن الفائض الذي تضطر لإلقائه في البحر.»
توقفت لحظة ريثما بلعت ريقي، ثم استطردت: «هكذا ترون أيها السادة كيف أن التنويع يصلح - في حالة «الكوكاكولا» - مفتاحا لفهم أغلب الظواهر المرتبطة بها. وقد وجدت بالبحث أن هذا المفتاح قادر على فك مغاليق أخرى كثيرة.
إن نظرة واحدة للواقع العربي تكفي للبرهنة على صحة قولي؛ فهي تكشف لنا من الوهلة الأولى عن ظاهرة «التنويع» في أشكال الأنظمة (وهو بالتأكيد مخطط له بالنظر إلى أن هذه الأنظمة لا تختلف عن بعضها في الجوهر)، وفي وسائل العمل السياسي، وشعاراته وأهدافه.
ففي وقت من الأوقات كانت هذه الأنظمة تتوجه إلى شعوبها بوسيلة إقناع واحدة لا تتغير؛ هي السجن والتعذيب، لكن التنويع أضاف إليها أساليب أخرى متنوعة من التصفية الجسدية إلى التليفزيون والمجالس النيابية.
وفي وقت من الأوقات كانت الأنظمة ترفع شعارات أساسية لا تتغير، لكنها أدركت أخيرا أهمية تغيير هذه الشعارات بين الحين والآخر، وتنويع الأهداف والتحالفات والعداوات.
وبفضل سياسة «التنويع» اتسعت الارتباطات الوحدوية لهذا البلد - والتي كانت قاصرة في الماضي على بقية الشعوب العربية - لتشمل الآن الشعوب الأسترالية الصديقة.
وبفضلها توفرت للمصريين الأسلحة الأمريكية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية التي حرموا منها طويلا. وبعد أن كان السوق المصري قاصرا في الستينيات على سيارة واحدة يتم تجميعها في المصانع المحلية هي سيارة نصر/فيات، امتلأ الآن بالماركات العالمية المختلفة، تأتيه سياراتها مباشرة من مصانعها الأصلية.
وبعد أن كانت مشاريع الإسكان قاصرة على خدمة الطبقات محدودة الدخل، تقدم لها مجمعات متماثلة الشكل والحجم، اتسعت الآن لتشمل كافة الطبقات، واكتسبت تنوعا شديدا يمتد من المقابر إلى الأبراج الفاخرة.
وتصلح السيجارة المصرية نموذجا لعرض وتفسير الظواهر المختلفة - الغامضة أحيانا - التي تصاحب عملية شديدة التعقيد مثل عملية التنويع. فأنتم تعرفون - ولا شك، قوة العادة وسطوة الإدمان. وقد بلغ تعلق المصريين بسيجارتهم المحلية أوجه في الستينيات، عندما منعت السجائر الأجنبية، وأمكن توحيد عدد من السجائر المحلية في سيجارة واحدة ، هي التي عرفت باسم البلمونت، نالت توليفتها رضاء الأغلبية.
وهي العقبة التي واجهتها عملية التنويع في ميدان السجائر، وتطلب التغلب عليها جهودا مضنية في اتجاهات متعددة، تعددت نتيجة لها فترات الاختفاء المفاجئ للسيجارة المصرية؛ مما أجبر المستهلك على تلمس بديل أجنبي لها.
ومن السهل أن نرى في صدمة هذا الانتقال الإجباري المفاجئ علة للإصابة بمرض الاكتئاب النفسي، خاصة وأن السجائر الأجنبية تباع بضعف ثمن السجائر المحلية.
ولما كان استهلاك السجائر في البلاد المتخلفة أوسع منه في غيرها (فالأخيرة تحظر الإعلان عنها، كما تنبه مواطنيها إلى العلاقة بينها وبين الإصابة بمرض السرطان، وتقدم لهم متعا أخرى بديلة ومتنوعة)، يكون الاكتئاب الناشئ أكثر عمقا وأصعب في العلاج، مما يدفع شركات الأدوية الأجنبية إلى أن توصي أبناء البلاد المتخلفة باستخدام جرعات أكبر من العقاقير العظيمة المضادة لهذا المرض.
وهو ما يخلق مشكلة جديدة تتمثل في الإدمان على هذه الأدوية. إلا أن التنويع نفسه يقدم الحل لهذه المشكلة؛ فيلجأ الطبيب إلى تغيير الدواء باستمرار أثناء فترة العلاج، ويساعده في هذا التنوع الذي تتميز به هذه العقاقير.
ومن ناحية أخرى فإن الاكتئاب نفسه هو في أغلب الأحيان بمثابة مفترق طرق يؤدي بعضها إلى العنة الجنسية، أو التعصب الديني، أو فتور الهمة، والقذارة، أو الخبل.
هكذا ترون أيها السادة كيف أن منهج التنويع يصلح لتفسير ظواهر كثيرة في حياتنا المعاصرة، وللربط بينها في سلسلة متينة الحلقات.»
تكلم أحد الأعضاء بلهجة مترددة وهو يتطلع إلى الأشقر بين الفينة والأخرى: «لقد عرضت وجهة نظرك بإسهاب ووضوح، لكن ثمة ما أريد أن أفهمه؛ أقصد أنك لم تتعرض لموضوع مياه الحنفية.»
أجبت على الفور بلهجة تشي بالإعجاب: «لقد أحسنت يا سيدي بإثارة هذا الموضوع لأنه يتميز بأهمية خاصة لكافة المشتغلين بالأبحاث العلمية؛ فهو يعطينا مثالا كلاسيكيا للأخطاء التي يمكن أن يتورطوا فيها.
لقد أغرتني معرفتي بحجم التوزيع العالمي لزجاجة «الكوكاكولا» من ناحية، وبأن الشعب المصري من الشعوب المدمنة لاستخدام مياه الحنفية في الشرب (على عكس الشعوب المتحضرة عموما) من ناحية أخرى، على الربط بين عودة هذه الزجاجة إلى مصر وظاهرة قلة مياه الحنفية واختفائها تقريبا بالنهار، فضلا عن دكنة لونها وميله إلى السواد.
إلا أني لم ألبث أن اكتشفت أن الظاهرة المذكورة سابقة على عودة «الكوكاكولا» بسنوات. وبالبحث وجدت أن الحنفية ظلت من الستينيات المصدر الوحيد لمياه الشرب، إلى أن طبقت سياسة التنويع، وظهرت المياه المعدنية المستوردة. واكتشفت أن التغيير الذي لحق بمياه الحنفية قد بدأ منذ تلك اللحظة، مما يتفق مع النتائج التي توصلت إليها في حالة مماثلة، هي الخاصة بمصير السيجارة المصرية.
على أن الوقوف عند إحدى النتائج والقناعة بها من المخاطر التي يواجهها الباحثون عادة؛ فبمواصلة البحث، مهتديا بالمنهاج ذاته، أمكنني التوصل إلى رؤية أعمق تكشف أيضا عن الترابط بين عدد من الظواهر.
ذلك أن مشروعات شركة «الكوكاكولا» لري الصحاري ظلت لفترة طويلة قاصرة على مجال واحد هو إزالة ملوحة مياه البحر. وقد أتاحت لها حرب أكتوبر فرصة ذهبية لتنويع وسائل عملها باستخدام مياه النيل في ري صحراء النقب، وهو ما تيسر بفضل الأنفاق الهائلة المحفورة أسفل قناة السويس. ومن الطبيعي أن يؤدي مثل هذا التنويع إلى قلة المياه المنسابة من الحنفيات، كما أن انخفاض التخزين نتيجة للسحب المتزايد هو المسئول عن تسلل الشوائب إلى المياه وتغير لونها.»
خاطبني الأشقر بلهجة ظافرة: «أتريدنا أن نصدق أنك عرفت كل هذه الأشياء بجهدك الخاص عن طريق الصحف؟!»
أجبت: «أجل!»
تكلم «العسكمدني» أو «المدنعسكري» لأول مرة، وكان يضع «باروكة» واضحة على رأسه، فخاطبني في لهجة حازمة: «من الخير لك أن تدلي على الفور بأسماء شركائك والتفاصيل الكاملة للمؤامرة قبل أن نجبرك على ذلك؛ فنحن قادرون على فك عقدة لسانك. حقا إننا لا نميل - بحكم المبادئ الإنسانية التي نسترشد بها - إلى الالتجاء لهذا السبيل، إلا أن للضرورة أحكامها.»
مالت العانس نحوي وقالت في رقة: «لا أظن أننا سنضطر إلى ذلك ؛ فهو سيتكلم حالما يتبين مصلحته.»
هبط قلبي بين قدمي وقلت: «أنا أعرف الوسائل التي تشيرون إليها، ومن المؤكد أنها ستضطرني للاعتراف بأي شيء. لكن ما سأعترف به - في هذه الحالة - لن يكون هو الحقيقة، أما أنتم فستظلون دائما في حيرة من أمري.»
ران الصمت على القاعة وجعلوا يتبادلون النظرات، وأدركت - كما يقولون بلغة اللجنة - أن القذيفة التي أطلقتها في الظلام قد أصابت مقتلا.
مال الأشقر على الرئيس وتبادل معه الهمس. وأخيرا تكلم الأخير: «ربما كان من الأفضل أن تنفرد بنفسك قليلا لتتروى في الأمر .. يمكنك أن تخرج الآن، وسنستدعيك بعد قليل من الوقت لنعرف ما توصلت إليه.»
أدركت أنهم يريدون التخلص مني ليتشاوروا في حرية، فغادرت القاعة ووقفت إلى جوار حارسها العجوز، وقدمت إليه سيجارة فتناولها مني في صمت ووضعها خلف أذنه، بينما أشعلت أنا واحدة استنشقت أنفاسها في لهفة.
كان الدهليز خاليا يأتيه الضوء من نافذة كبيرة بالجدار المقابل، تطل فيما يبدو على فناء مهجور. دخنت وأنا أسترق النظر إلى الوجه الوادع المستسلم للحارس الجالس إلى جواري. وتمنيت لحظة أن أكون مكانه، متمتعا بنفس الاستسلام والوداعة. ثم خطر لي أن حالته قد لا تكون طبيعية، وإنما من تأثير مخدر ما.
وسواء كان هذا هو السبب، أو أنه أدرك حرج موقفي، فإنه لم يرد علي عندما حاولت أن أجاذبه الحديث، شاكيا من حرارة الجو.
فرغت سيجارتي، فألقيت ببقيتها في منفضة نحاسية إلى جوار الباب، واعتمدت بظهري على الحائط. كنت عاجزا عن التفكير، فرحت أنظر أمامي عبر النافذة، شاعرا أني أتطلع في الفراغ.
وبعد حوالي نصف الساعة نهض الحارس فجأة كأنما بلغته رسالة سرية، فاختفى داخل القاعة، ثم ظهر على الفور وأشار لي بالدخول.
دخلت في وجل وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى. ووقفت أمام العيون التي حدقت وأحدقت بي.
خاطبتني العانس في رقتها المعهودة: «ماذا قررت؟»
قلت: «ليس لدي ما أضيفه سوى أن أرجوكم تقدير الظروف الشائكة غير الطبيعية التي أحاطت بي.»
قالت في حدة وشراسة مفاجئتين: «أنت وشأنك إذن.»
أزاح الرئيس جانبا بضع أوراق أمامه وتكلم ببطء: «إن موقفك المتصلب يجعلنا لا نجد مبررا للرأفة بشأنك أو للاستجابة لالتماسك؛ ولهذا فأنت - في رأينا - تستحق أقصى عقوبة مقررة. هذا هو قرارنا بالإجماع.»
ونهض واقفا فاقتدى به بقية الأعضاء وهم يجمعون أوراقهم، ثم أزاحوا مقاعدهم إلى الخلف، واتجهوا إلى باب جانبي خلفهم، فغادروا القاعة واحدا خلف الآخر.
لبثت أحدق في ظهورهم حتى اختفى آخرهم، وأصبحت بمفردي أنا وصورة القصير ذي الوجه القبيح، وأكاليل العزاء من كافة أنحاء الدنيا.
ثم سمعت صوتا عند الباب الرئيسي للقاعة، وعندما التفت أبصرت الحارس يتطلع إلي متسائلا، فحركت قدمي نحوه في تثاقل.
الفصل السادس
وقفت في الخارج حتى انتهى الحارس من ترتيب القاعة وإغلاق نوافذها. وما إن ظهر عند الباب حتى أسرعت أقدم إليه سيجارة وأشعلها له.
قلت له: «أيمكنك أن تذكر لي أقصى عقوبة لدى اللجنة؟»
هز رأسه باعتداد وقال: «اللجنة ليست محكمة.»
قلت مستدركا: «أعرف. ما أقصده هو أقصى عقوبة في نظرها.»
قال: «هذا يتوقف على أمور كثيرة.»
قلت: «بالطبع.»
قال: «ولكل حالة خصوصيتها.»
قلت: «مؤكد.»
قال: «في حالتك أنت - التي تابعتها باهتمام - ليس هناك أقصى ولا أقسى من الأكل.»
تساءلت في دهشة: «الأكل؟! من يأكل؟! وماذا يأكل؟»
تأملني برهة، ثم قال بتؤدة وهو ينحني ليرفع مقعده: «أنت تأكل نفسك.»
اختفى بمقعده داخل القاعة بعد أن أغلق بابها خلفه، وتركني وحيدا في الممر الكابي الضوء. انتظرت عودته كي أستزيد من معلوماته، لكنه غاب طويلا، فقررت الانصراف. مضيت في دهاليز خالية ووقع أقدامي يتردد خلفي، إلى أن غادرت المبنى.
انطلقت في الشوارع على غير هدى وأنا أنقل البصر في شرود بين وجوه المارة وواجهات المحلات ومداخل البيوت، ومع ذلك أمكنني أن ألحظ كيف استسلمت الغالبية لإغراء البحث عن الثراء والسعادة؛ فقد كانت صناديق «الكوكاكولا» في كل مكان يقف الجميع خلفها، من بقالين وبوابين ونجارين، بل وصيادلة.
شعرت بالعطش فتوقفت أمام أحد الباعة الذي ترك دكانا خالية إلا من صناديق الزجاجات، وشغل الرصيف بثلاجة كبيرة منزوعة الغطاء ، تكأكأ حولها العطشى.
كانت الثلاجة مليئة بالزجاجات السابحة في المياه. وبدا البائع في حال من النشوة وهو يلتقط الواحدة منها بحركة خاطفة، ويرفعها نحو الأيدي الممدودة إليه، وقبل أن تلمسها يد منها يكون قد نزع سدادتها بالفتاحة الجاهزة في يده الأخرى، وأسرع يتناول واحدة جديدة.
لمحت يده تتجه نحوي بزجاجة، فأسرعت أحول بينه ونزع سدادتها، متسائلا: «باردة؟»
تطلع إلي باستنكار وقال: «كالثلج!»
تحسست الزجاجة بيدي فألفيتها دافئة، فقلت: «لا، أريد واحدة باردة.»
قدم الزجاجة إلى أحد الواقفين وهو يبدي تأففه مني. مددت يدي أقلب بين الزجاجات فاكتشفت أن أغلبها دافئ، وأن المياه تخلو من كل أثر للثلج. وانشغل البائع عني بملاحقة العطشى الذين كانوا يمسحون عرقهم، ويزفرون من الحر، فيعالجهم بالزجاجات الدافئة.
راقبتهم يرشفون السائل السحري وهم يتحسسون الزجاجات بأيديهم كأنما ليتأكدوا من قدرتهم على التمييز بين الساخن والبارد، ثم يزدردون محتوياتها في استسلام حتى النهاية، ويدفعون الثمن الذي طالبهم به البائع، وهو ضعف الثمن المعلن عنه، بذريعة الثلج الوهمي، ودفعه كل منهم صاغرا وهو يتطلع أمامه في جمود.
حولت اهتمامي إلى البائع الذي كان يتحرك بنشاط وشيء من الشراسة، وقدرت أنه سيدرك مبتغاه سريعا، ولن تلبث الدكان الخالية أن تمتلئ بالسجائر والحلويات الأجنبية، ثم السلع المستوردة الأخرى، من شرائط وأجهزة وعلب محفوظة.
استغرقني الأمر فلم أنتبه إلا وفي يدي زجاجة دافئة منزوعة الغطاء، فرفعتها إلى شفتي دون وعي.
دفعت الثمن الذي دفعه الآخرون، وواصلت السير على مهل إلى محطة الأوتوبيس، فوقفت مع الواقفين حتى جاء أوتوبيس «كارتر».
أما السبب في إطلاق اسم الرئيس الأمريكي على هذا النوع من سيارات الأوتوبيس، فلا يعود إلى شكلها المميز الذي يشبه دودة كبيرة مكتئبة الوجه، أو طولها غير العادي، أو الضجة المرتفعة التي تحدثها أثناء سيرها، أو ارتفاع أجر ركوبها (خمسة أضعاف الأجر العادي)، أو كونها صنعت في الولايات المتحدة؛ وإنما إلى العلامة المثبتة على جانبها، بجوار الباب الأمامي مباشرة، وتمثل علما أمريكيا يعلو يدين متصافحتين، تعبيرا عن الصداقة.
وهذا - في الغالب - هو السر في فرحة الناس بظهورها في الشوارع منذ عامين أو يزيد؛ إذ اعتبروها أولى بشائر الرخاء الموعود الذي طال بهم انتظاره . وبدوا مستعدين للتغاضي عن الضجة التي تحدثها على أساس أن الضجة شيء مألوف في بلد متخلف كبلدنا، وعن ارتفاع أجرها على أساس الارتفاع العام في الأسعار العالمية، وعن دخان العادم المنبعث منها بكثافة، على أساس أن تلوث البيئة هو من مشاكل الدول المتقدمة وحدها، وعن انعدام المساند والعلاقات؛ مما يؤدي إلى تأرجح الواقفين وتراقصهم، على أساس افتقار حياتنا الجافة إلى شيء من الترفيه.
إلا أنه لم يكد يمر أسبوع حتى ظهرت على السيارات علامات غريبة؛ فقد بدأت أعمدتها الداخلية تتساقط، والمسامير المثبتة في جدرانها تقع، وتلفت أبوابها الأوتوماتيكية، وانهارت أجزاء من جدرانها، كما تمزقت الإطارات المطاطية لنوافذها، وطارت الصواميل المثبتة للوحات القيادة فظهرت أحشاؤها.
ومع صمت الصحف عن هذه الظاهرة العجيبة تعددت التفسيرات بشأنها؛ فمن قائل إن سوء الصيانة هو السبب، ومن أرجعه إلى طبيعة الخدمة الشاقة في بلادنا، أو إلى عدم كفاءة السائقين ولامبالاتهم.
لكن الأنواع الأخرى من سيارات الأوتوبيس التي كانت تجري إلى جوار سيارات «كارتر» في حالة جيدة، رغم مضي سنوات على بداية تشغيلها، ورغم أن بعضها تم تجميعه في الورش المصرية، ألقت ظلالا من الشك على صحة هذه الاستنتاجات.
وسواء كان السبب هو الإحباط الذي شعر به الناس لعجزهم عن تفسير هذه الظاهرة، أو ما درج عليه العامة في كل زمان ومكان، من تحوير الأسماء والصفات حتى يتلاءم نطقها مع مستوى ثقافتهم ومحدودية وعيهم، فإنهم سرعان ما دعوا السيارات المذكورة بأوتوبيس «طرطر».
وجذب هذا التطور اللغوي - في حينه - اهتمامي، فلجأت إلى المعاجم حتى عرفت أن «طرطر» من الأفعال القديمة في اللغة العربية، ومعناه فخر بما ليس فيه، ومنه اشتقت كلمة «طرطور»، الذي يلبس فوق الرأس، أو تطلق على الوغد الضعيف. أما «الطرطر» كاسم فمعناه راسب الخمر المصفى، ومن هنا - في الغالب - جاء فعل التبول في اللغة الدارجة.
ومن الطبيعي - في ضوء الأحداث التي وقعت لي أخيرا، وأدت إلى تنشيط عقلي وانشغالي بالتعمق في الظواهر ومحاولة تفسيرها - أن اهتمامي بالأمر انتقل من الجانب اللغوي إلى لب الظاهرة نفسها، فتعمدت أن أستقل سيارات «طرطر» مرات عديدة، أقبلت خلالها على فحص أجزائها ومكوناتها فحصا دقيقا، لكن النتيجة ضاعفت من غموض الأمر في نظري.
فقد اكتشفت أنها مصنوعة من أردأ المواد وأرخصها، بدءا من معدن الهيكل الخارجي، إلى المسامير المستخدمة في تثبيت الأرضيات. ولا يعقل أن تسير سيارة بهذا الشكل في شوارع نيويورك، ولو حتى في أحياء الزنوج. ولا يعقل أن تكون مصنعة لنا خصوصا (كما في حالة الأدوية)؛ إذ لا أتصور أن صناعة أقوى وأغنى دولة في العالم يمكن أن تخرج - ولو بالقصد - مثل هذا الإنتاج الهابط. أما إذا كانت الولايات المتحدة قد أرسلت لنا المحركات وحسب، وتم تجميع السيارة في بلادنا، فإن هذا أيضا لا يفسر الأمر؛ لأننا نعرف منذ الستينيات صناعة التجميع، وما زال عدد من المحظوظين يحتفظ بما أنتجته المصانع المصرية وقتذاك من سيارات قوية متينة.
وعند هذه المرحلة من التفكير بدأ أنفي - الذي دربته روائح الصحف القديمة - يرتعش من الانفعال.
إلا أن تطورات علاقتي باللجنة لم تتح لي الفرصة كي أصل إلى نتائج ذات بال. وظل الأمر في نظري - كما في نظر الآخرين - لغزا يستعصي على الفهم.
تذكرت هذا كله وأنا أشق طريقي بين الركاب المتدافعين، فوق الدرج الخلفي للسيارة، متلمسا عبثا ما أستند إليه خلال عملية الصعود. وكانت أمامي سيدة ممتلئة الجسم، وقورة الهيئة، ارتقت الدرج بمشقة، وما إن استقرت في الداخل، وأنا خلفها، حتى تحركت السيارة فجأة، ففقدنا توازننا.
مدت السيدة يدها تتعلق بأحد الأعمدة المعدنية، لكن العمود مال تحت ثقلها، وأوشكت أن تقع على وجهها، فتشبثت بي، بينما كنت مشغولا بإخراج الأجرة التي جعل المحصل يطالب بها في إلحاح، وقد باعدت بين ساقي، ملقيا بكل ثقلي على قدمي؛ لأتجنب السقوط.
استعادت السيدة توازنها فتقدمت إلى الأمام، وهي تتراقص برغمها بفعل حركة السيارة، واهتزاز أرضيتها التي تفككت ألواحها، وانفصل بعضها عن بعض في أكثر من موضع.
ولأنني في الفترة الأخيرة - بحكم انشغالي - لم أغادر منزلي كثيرا، ولم يتح لي أن أستخدم سيارات «طرطر » ولا مرة، فقد لحظت - على الفور - ما طرأ على مسلك ركابها من تغير.
ففي الأيام الأولى لتشغيلها كانت الحركة الراقصة التي تحدثها تبعث الابتسامة الخجلى على وجوه الركاب جميعا، من راقصين واقفين، ومتفرجين جالسين.
لكني تبينت اليوم أنه بينما تضاعفت حدة الرقصة بفعل تخلخل بناء السيارة وتفكك حوائطها وأرضيتها، إلا أن بهجة الركاب بالأمر تلاشت تماما.
وتراءى لي أنهم مشغولون بأشياء أخرى؛ إذ كانوا يتطلعون ساهمين إلى الإعلانات التي زينت الشوارع عن آخر المبتكرات العالمية في كل ميدان، وإلى السيارات الخاصة من أحدث الطرز، المزودة بأجهزة عديدة تحمي ركابها من الضجة والتلوث والحرارة والبرودة وعيون الآخرين، فتبدو أشبه بمدرعات صغيرة.
مضيت أنقل البصر بين الوجوه الشاحبة المنهكة، متوقفا عند كهل غارق في تأملات غير سارة انعكست على ملامحه، وجار له يدخن بعصبية، وشاب مكوي شعر الرأس تدلت من عنقه سلسلة ذهبية، وآخر قبضت يده في حرص على جواز سفر، وسيدة بنظارة واسعة الإطار بنفسجية اللون مثل فستانها، تحيط معصمها بساعة على شكل سفينة فضاء.
وكان يجلس إلى جوارها رجل مكتئب الوجه، يحمل في اعتزاز لفافة تصاعدت منها رائحة السمك، جلبه في الغالب بسعر أرخص من أحد أركان المدينة. وخلفه أوشك رجل أنيق الثياب على النوم، رغم أنه تسلح بكافة المعدات العصرية، بدءا من النظارة ذات العدستين المدرجتي الدكنة، والساعة المزودة بآلة حاسبة وتقويم سنوي ومنبه أوتوماتيكي، إلى الحقيبة «السامسونايت».
وتوقفت عيناي عند راكبتين متجاورتين تسربلتا - بغية الانسحاب التام من عالمنا التعس - بثياب فضفاضة داكنة اللون، غطت جسديهما من الرأس إلى القدم، فيما عدا ثقبين في موضع العينين، فبدتا أقرب إلى بومتين، أو اثنتين من الكائنات الفضائية المرعبة.
قدرت أنهم جميعا مستذلون مهانون، يتمتعون بقدرة فائقة على التحمل. واستغرقني التفكير في هذا الجانب من الظاهرة، فلم أنتبه إلى ما كان يجري بجانبي إلا عندما داست قدم على حذائي.
كنت أقف إلى جوار سيدة ممتلئة في أواسط العمر، أوشك أن يلتصق بها من الخلف عملاق في قميص مفتوح الصدر، أرسل بصره عبر النافذة متظاهرا بالشرود. وكانت السيدة دائبة الحركة في محاولة واضحة للابتعاد عنه، مما جعلها تصطدم بي.
أفسحت لها قليلا بقدر ما سمح الزحام. وتطلعت - كما فعل أغلب الواقفين من حولنا - إلى الفراغ الضئيل بين ساقه ومؤخرتها، فألفيته قد ثنى ركبته قليلا إلى الأمام، على أهبة التحرش بها. ولم أملك إلا أن رفعت إليه عيني في استياء صريح.
وأسارع فأقول إنني شخصيا من المغرمين بذلك الجزء البارز من جسد المرأة، بل ومن عشاق هذه اللحظات المختلسة في الزحام. ووجهة نظري أن هذا السلوك الذي قد يستهجنه البعض ليس إلا بديلا عربيا، نابعا من واقعنا وشخصيتنا المستقلة للرقص الغربي، حيث يمارس الناس الأمر ذاته متواجهين.
لكن البديل القومي يؤدي وظائف متنوعة أكثر من مجرد تفريغ الرغبات المكبوتة؛ فهو طريقة ناجحة لمكافحة الملل الناشئ عن الزحام والتوقف المتكرر لفترات طويلة في الشوارع التي زحمتها السيارات الخاصة. كما أنه - لدي على الأقل - وسيلة هامة - مشحونة بالتوتر - من وسائل المعرفة.
فالمرأة تظل كائنا مجهولا محملا بعشرات التكهنات، خاصة إذا ما حملت وجها مترفعا معاديا، إلى أن تكشف عن نفسها فجأة - ككتاب - إثر لمسة ساق خفيفة، معلنة تواطؤها، أو رفضها.
على أني جعلت لنفسي قيدا هاما على هذه الممارسة يمثل بالنسبة لي جوهر المتعة الناتجة، بالإضافة إلى أنه يتفق وأحد المبادئ الأخلاقية التي وضعتها لنفسي، وهو تجنب الإساءة إلى الآخرين؛ فاللمسة الأولى أو الثانية من ساقي لإحدى المؤخرات تكفي - في حالة شخص مدرب مثلي - لأن تعين لي ما إذا كانت المرأة تشاركني متعتي السرية، وإلا تلاشى اهتمامي بها وابتعدت عنها.
وهو ما أثار استنكاري في مسلك العملاق مع السيدة بعد أن أبدت أكثر من مرة - وبجلاء ووضوح تامين - نفورها من المشروع الذي عرضه عليها بلمسات متكررة من ساقه.
ويبدو أنه كان يدين بمبادئ أخلاقية مغايرة؛ لأنه لم يعبأ بتأففها ومحاولتها الابتعاد عنه، ولاحقها بلمساته؛ مما دفعها لأن تحتج صراحة.
فقد استدارت إليه فجأة وقالت بصوت منفعل:«أرجوك أن تكف!»
بهت، ثم انفجر فيها زاعقا: «أكف عن ماذا يا امرأة؟!»
أجابته في حدة: «أنت تفهم ما أعني!»
ران الصمت على السيارة، وتحولت إليهما أنظار الركاب وقد تراقصت في أغلبها ابتسامة تندر واستمتاع.
رفع الرجل يده وأهوى بها على وجهها في عنف وهو يصيح: «يا فاجرة!»
انكفأت المرأة فوق الجالس بجوارها وهي تضع يدها على خدها، وانفجرت باكية. ولم يحرك أحد من الركاب ساكنا.
خاطبهم العملاق دون أن يقصد بكلامه شخصا بالتحديد: «لم يبق إلا هذا!»
لم يكن من عادتي أن أعرض نفسي لمواقف لا ترتفع إمكانياتي البدنية المحدودة إلى مستوى مواجهتها، لكني كنت أغلي منذ الصباح، بعد أن عجزت عن التفوه أمام اللجنة بما كنت أنتويه، ثم لم أجن فائدة من خنوعي، ولم أملك شيئا لبائع «الكوكاكولا» الذي سرقني، كما أن الزحام والحر أخذا يضغطان على أعصابي. وباختصار بلغ السيل الزبى.
ولا أستبعد أن أكون استمديت بعض الشجاعة من مواجهتي لشخص واحد لا لجنة، ومن تصوري أن كافة الركاب - الذين يعرفون جيدا حقيقة ما حدث، وتابعوا الأمر كله من بدايته - سيقفون إلى جانبي، انطلاقا من اعتبارات دينية أو أخلاقية تستنكر المسلك الجنسي للعملاق، أو اعتداءه بالضرب على امرأة عزلاء، أو تنتصف للحقيقة وحسب.
هكذا ألفيتني أخاطب العملاق على غير انتظار: «السيدة لم تدع عليك.»
حدق في غير مصدق، وتساءل بلهجة تهديدية: «ماذا تقصد؟»
قلت بثبات: «لقد رأيتك وأنت تلزق بها. ولما كانت قد رفضت الاستجابة لك، كان المفروض أن تتركها وشأنها.»
زعق: «كاذب! ولا أستبعد أن تكون متواطئا معها في شيء.»
أبدى البعض اهتماما مفاجئا بشيء ما في الطريق، واستدار آخرون بحيث أعطوني ظهورهم. ولم ينتظر غريمي حتى يبدي غيرهم رأيه، فقرر أن يحسم الأمر على وجه السرعة، ووجه إلي لكمة صاعقة، أصابتني في وجهي وألقت بي فوق رءوس الجالسين.
وقبل أن أفيق من أثر اللكمة التي رجت رأسي رجا، وجعلت الدنيا تتراقص أمام عيني، جذبني من ذراعي، ثم دفعني من جديد، فارتطمت كتفي بأحد الأعمدة المعدنية، وفقدت توازني. رأيتني أهوي على وجهي، فمددت يدي اليسرى أمامي حتى لمست الأرض، وسقطت بكل ثقلي فوقها.
شعرت بألم حاد في ذراعي، وكان العملاق قد اندفع في أثري، والسباب الموجه لأبوي ينهال من فمه، لكن اثنين من الركاب اعترضاه، وجعل أكثر من واحد يطيب خاطره ويدعوه للهدوء، كأنما أنا الذي اعتديت عليه.
وسمعت أحدهم يقول له: «روق بالك. لبؤة ولوطي، والاثنان أغرتهما فحولتك فتحرشا بك، فلماذا تعكر دمك؟»
توقف الأوتوبيس في هذه الأثناء، فأعانني راكب على الوقوف ودفعني نحو الباب قائلا: «أقصر عن الشر وانزل.»
غادرت السيارة بلا وعي، ووقفت في الطريق أتأمل ملابسي المنكوشة، وعندما حاولت تسويتها نبهني الألم المنبعث من ذراعي إلى الوضع الغريب الذي استقر عليه، ملويا إلى الخلف عند المرفق، وقد برزت عظام مفصله.
انطلقت أبحث عن مستشفى قريب يمكن أن ألتمس في عيادته الخارجية علاجا بقروش قليلة. ووجدت واحدا لكني لم أعثر على الطبيب الأخصائي. انتظرته طويلا حتى مللت، ولولا الألم الذي كان يخترق ذراعي عند أقل حركة لانصرفت إلى منزلي دون أن أعبأ بوضعه الغريب.
وبعد حوالي الساعة اقترب مني ممرض، وأسر إلي أن الطبيب لن يأتي ما دام قد تأخر إلى هذا الوقت، وأنه الآن في عيادته الخاصة القريبة، إذا كنت في حاجة ماسة إليه.
دفعت له ثمن نصيحته، وذهبت من فوري إلى عيادة الطبيب. وبعد أن دفعت خمسة جنيهات عند المدخل، استقبلني في غرفة وثيرة، مكيفة الهواء، تتردد في جنباتها موسيقى أوروبية خفيفة.
هون علي الطبيب الأمر بعد أن فحصني بعناية قائلا: إن المفصل انتقل من مكانه عند المرفق، وإنه ليس ثمة خطورة بالمرة. وبضغطة قوية من يده، آلمتني، أعاد الساعد إلى مكانه، ثم كتب لي بعض المسكنات.
انصرفت إلى منزلي، فارتقيت طوابقه السبعة في إعياء، والتجأت إلى فراشي مباشرة، فاستسلمت لنوم عميق، أفقت منه على آلام ذراعي. تناولت بعض المسكنات دون جدوى. لم يكن الألم شديدا، لكنه كان ثابتا. وكانت أمامي كثير من المهام العاجلة التي تستلزم تركيزا فائقا، فضلا عن ضيق الوقت المتاح لي؛ ولهذا اضطررت - عندما استمر الألم في اليوم التالي وعاقني عن التفكير - أن أذهب إلى الطبيب مرة أخرى.
فوجئت بالممرض الذي يتولى استقبال الزبائن يطالبني بأن أدفع جنيها، فقلت: «لقد دفعت أمس خمسة جنيهات كاملة.»
قال: «أعرف. تلك كانت أجرة الكشف، وما أطلبه منك هو رسم الاستشارة.»
قلت متعجبا: «هذه أول مرة أسمع فيها أن الاستشارة بنقود!»
لم يعن بالرد علي واكتفى بأن أشار بإصبعه دون أن يحرك رأسه إلى لوحة فوقه على الحائط.
كانت اللوحة - التي لم أنتبه لها من قبل - تعلن أن للمريض الحق في زيارة واحدة للطبيب خلال أسبوع من الكشف ومقابل جنيه.
قلت بانفعال: «لكن هذا هو الاستغلال بعينه!»
لم يعن بمناقشتي وإنما قال ببرود: «هذا هو نظامنا وأنت حر.»
تابع الجالسون من مرضى ومرافقين لهم حوارنا في صمت، ووجوه جامدة لا تشي بحقيقة تفكيرها. وسواء خجلت من أن أبدي أمامهم هذا الاهتمام البالغ بمبلغ تافه - في نظرهم على الأقل - مثل الجنيه، أو كان ألم ذراعي هو السبب، فإني دفعت المطلوب في النهاية صاغرا.
وبحكم أن زيارتي للاستشارة وليست للكشف؛ فقد حل دوري سريعا، ودلفت إلى خن الطبيب، ثم جلست فوق المقعد المجاور لمكتبه. ولحظت على الفور شحوب وجهه، واللمعان الغريب الذي كسا بشرته.
باغتني بالقول: «إذن فأنا في رأي حضرتك مستغل؟»
عجبت للوسيلة التي عرف بها ما دار بيني وبين معاونه، وتسارعت دقات قلبي على الفور، لكني لم أتراجع وأجبت: «هل لديك وصف آخر لما تفعل؟»
قال: «كنت أعتقد أني أؤدي عملا إنسانيا.»
قلت: «اسمع يا دكتور، لقد تقاضيت مني خمسة جنيهات كاملة على خدمة لا تكلف غير قروش معدودة بالمستشفى الحكومي حيث مكانك الطبيعي؛ فأين الإنسانية في ذلك؟»
قال متبسطا: «عيادة كهذه تتكلف كثيرا، كما أنه لا يوجد مستشفى واحد يمكن الاطمئنان إلى خدماته.»
قلت في انفعال: «أنت وأمثالك الذين خربتم المستشفيات الحكومية لصالح دكاكينكم الخاصة. لقد تآمرتم لتنهبوا من يسوقه حظه العاثر إليكم.»
شد قامته وقال في ترفع: «من حقي أن أحدد أجر الخدمة التي أقدمها حسبما يتراءى لي.»
قلت : «وأنا واحد ممن يحق لهم أن يحصلوا مجانا على خدمات سيادتك.»
رفع حاجبيه في دهشة: «كيف؟!»
ملت على المكتب وقلت وأنا ألوح بذراعي السليمة في إشارة شملته كما شملت أثاث الغرفة وأجهزة التكييف والموسيقى والتطبيب: «هذا كله لم يتحقق بفضل عبقريتك الفذة؛ فأنت وأمثالك تستفيدون من مجموعة من الامتيازات المتوارثة التي سلبت مني ومن غيري، ومن آبائي وأجدادي، وآباء غيري وأجدادهم على مر الزمن. وبالإضافة إلى ذلك فأنت من الجيل الذي تعلم مجانا على حسابي وحساب غيري.»
نهض واقفا وهو يرتعش من الانفعال: «كفى. لا أريد مناقشتك. أرجوك أن تغادر عيادتي فورا؛ فأمثالك لا حق لهم في خدماتي.»
ضغط بيديه جرسا مثبتا إلى مكتبه فقلت: «إني أعترف بأني أخطأت في المجيء إليك، وحالما ترد إلي الجنيه الذي دفعته اليوم سأذهب.»
قال بترفع: «إن وقتي ثمين، وقد ضيعت جزءا كبيرا منه؛ ولهذا فليس لك شيء عندي. وإذا لم تذهب الآن فسأطلب من الممرض أن يلقي بك إلى الشارع.»
كان الممرض الذي ظهر عند الباب طويلا عريضا متين البناء، وخفت أن يتكرر معي حادث الأوتوبيس؛ فنهضت واقفا في تثاقل وأنا أقول: «سأذهب، لكني سأعرف كيف آخذ حقي؛ فما زال هناك شرطة وقضاء.»
لم أكن أعني ذلك بالطبع، لكنها كانت صيغة لحفظ ماء الوجه، أعانتني على مواجهة نظرات الاستهجان التي استقبلني بها المنتظرون في الخارج، والإهانات التي شيعني بها الممرض حتى أصبحت في الطريق.
مشيت وأنا أغلي ولا أكاد أتبين شيئا مما يحيط بي. ولم أنتبه إلى نفسي إلا عندما اصطدم أحد المارة بذراعي فآلمني؛ عندئذ اتخذت طريقي إلى منزلي وأنا أتلمس الخطى بصعوبة بين أكوام السلع المستوردة وصناديق «الكوكاكولا» التي شغلت الأرصفة، والأتربة والحفر والقاذورات التي لا يجد أحد الدافع لإزالتها أو حتى الشكوى من وجودها.
جعلت أنقل البصر بين الناس التي زحمت الطرقات، مقبلة في حماس على الشراء وقزقزة اللب وسماع الأغاني. ولمت نفسي على أن رعبي من فكرة الألم قد عرضني لهذا الموقف المهين لدى الطبيب، بينما أن الأمر - بحكم المصير المقدر لي - لم يكن يتطلب كل هذا العناء.
اشتريت طعاما يكفيني لعدة أيام، وقلت للبواب أن يبلغ كل من يسأل عني بأني سافرت، ثم صعدت إلى مسكني.
كان ثمة أمور لا بد من الانتهاء منها سريعا، وقد أقبلت على إنجازها رغم الآلام التي كان يسببها تحريك ذراعي، فتصفحت أوراقي القديمة ورتبتها، وقضيت لحظات ممتعة - رغم ما شابها من أسى - في مراجعة ما حققته من إنجازات، وما أثارته من صدى وتعليقات. وأعانتني الاستمارات الحكومية القديمة وبطاقات السفر والرسائل والإيصالات والفواتير على تتبع المسيرة التي قطعتها منذ وقفت على قدمي.
وتوقفت عند صورة أبي، وتمثلت التركة المثقلة من الآلام والسلبيات والأوهام التي خلفها لي، والآمال التي علقها علي، ولم يسعفه الزمن ليشهد تحققها. وحمدت الله أن هذا لم يحدث كي لا يرى مآلي.
وقضيت يوما كاملا أقلب في مجموعة من الصور لأشخاص عبروا طريق حياتي، ونساء ارتبطت بهن، أو علقت عليهن آمالي في مراحل مختلفة. وتمعنت في العوامل التي تكسرت عليها هذه الآمال، بحثا - للمرة الأخيرة - عن مكمن الخطأ.
ومن الطبيعي أن يثير هذا الاهتمام مشاعر معينة، فلجأت إلى ما لدي من كتب إباحية، واستعنت بكل من خيالي وذكرياتي لأعيش لآخر مرة تلك اللحظات المتوترة الرائعة التي تدب فيها الحياة في كل خلية من خلايا الجسد، وتصبح اللمسة لأي موضع منه مبعث رجفة ولذة متجددتين تلحان على التكرار.
وتفرغت في اليوم التالي لمفكراتي القديمة، وما دونته بها في لحظات مفعمة بالمعاناة، والأمل، بدت في حينها كثيفة، وإن بدت الآن باهتة، رغم ما خلفته من شجن. وطالعتني على الصفحات التي بدأ لونها يتحول إلى الصفرة، المشروعات الكبيرة التي خططت لها بحماس في حينها، والإحباطات المتوالية التي واجهتني.
وقابلتني سطور عديدة نقلتها في مناسبات مختلفة عن قراءاتي، يتحدث أغلبها عن الطريقة المثلى للحياة. ولبثت ساعات أحدق في هذه الأبيات لماياكوفسكي، التي قالها في الغالب قبل قليل من نهايته المأساوية:
أقسم ألا أتحدث بعد الآن باللسان المشين للتعقل والحصافة. ...
الآن يمكن للمرء أن ينهض وينطق، فتتردد كلماته عبر العصور والتاريخ والبشرية جمعاء.
ذكرني المصير الذي انتهى إليه قائلها بمأساتي، فاستعدت ما جرى لي من وقائع، منذ أعددت نفسي لأول مقابلة مع اللجنة. وتتبعت مراحل التجربة، وكيف فتحت عيني - تماما - على الحقيقة الشاملة المرعبة، رغم أن ذلك تم بعد فوات الوقت.
وعندما استعرضت تفاصيل المقابلة الأخيرة ندمت على تخاذلي، وعلى أني فقدت أمام جماعة اللجنة الذلاقة والجرأة اللتين لازمتاني في تعاملي مع أشخاص منفردين مثل القصير وعملاق الأوتوبيس والطبيب.
شغلني تعليل هذه الظاهرة حتى رأيت بعد إمعان أن جذورها تضرب بعيدا في الماضي، منذ أول امتحان خضته وعمري بضع سنوات، وكل مرة بعده وقفت عاريا أمام الأعين الباردة اللامبالية لأشخاص ذوي بطش، ينتمون إلى عوالم مختلفة عن عالمي، وتجري حياة كل منهم في مدار مستقل لا يتوقف بأي شكل على نتيجة المواجهة القائمة بيني وبينهم، عكس الأمر بالنسبة لي.
تمنيت لو وقفت أمام أعضاء اللجنة من جديد لأسمعهم كلمتي. وتخيلت نفسي أواجههم في ثقة، فمضيت أنتقي عباراتي في دقة وعناية. وجرفتني الرغبة، فقمت من فوري ووضعت شريطا خاليا في المسجلة، وأقمتها فوق المكتب، ثم وقفت أمامها كما لو كانت لجنة.
تردد صوتي قويا ثابتا في الغرفة الخالية وأنا أقول: «لقد ارتكبت - منذ البداية - خطأ لا يغتفر؛ فقد كان من واجبي لا أن أقف أمامكم، وإنما أن أقف ضدكم؛ ذلك أن كل مسعى نبيل على هذه الأرض يجب أن يتجه للقضاء عليكم.
وأسارع فأقول إني لست من السذاجة بحيث أتصور أن هذا الهدف لو تحقق سيكون نهاية المطاف؛ إذ من طبيعة الأمور أن تحل مكانكم لجنة جديدة، ومهما كان حسن نواياها وسلامة أهدافها، فلن يلبث الفساد أن يتطرق إليها، وتصبح عقبة بعد أن كانت علامة، ويتحتم إزالتها بعد فترة من الوقت، طالت أم قصرت.
لكني تبينت من استقرائي للتاريخ والحالات المماثلة أنه عن طريق هذه العملية بالذات، عملية التغيير والإحلال المتكررة، ستفقد جماعتكم تدريجيا ما لها من سطوة، بينما ترتفع مقدرة أمثالي على مواجهتها والتصدي لها .
إلا أني للأسف لن أكون هنا عندما يحدث ذلك؛ بسبب المصير المقرر لي، والذي يعود في أحد جوانبه إلى طموحي الذي تجاوز إمكانياتي، وسعيي المهووس وراء المعرفة، وفي جانب آخر إلى تورطي في محاولة متهورة - لكنها كانت حتمية - لتحدي لجنتكم في وقت ومكان غير مناسبين. لكن ما يخفف من أسفي هو ثقتي بما سيحدث، مهما طال الوقت؛ فهو منطق التاريخ وسنة الحياة.»
لم أبالغ في كلمتي، ولم يجرفني تيار الحديث أمام المسجلة؛ فالآن وأنا أتأمل كل شيء بعين متجردة، وأحسب المكاسب والخسائر بنظرة شاملة، أجدني غير نادم على المصير الذي ينتظرني. وبالمقارنة مع مصائر آخرين - من جيلي على الأقل - لا يوجد ما يعيبه. ما يبعث على الأسف حقيقة أن اليوم العظيم سيفوتني، لكن هذا نفسه لم يكن ذا قيمة كبيرة، طالما أني موقن بمجيئه.
وإذ وصلت إلى هذه النتائج شعرت بصفاء عقلي غريب، وامتلأ صدري بسكينة نادرا ما عرفتها، ومرت بي لحظات من النشوة لم أعهدها إلا عندما أصغي للموسيقى. وأردت أن يطول بي أمد هذه اللحظات حتى النهاية، فلجأت إلى ما لدي من تسجيلات موسيقية أعتز بها، فقلبت بينها طويلا، مستبعدا ما يتميز منها بالألحان العذبة الرقيقة، كما لدى موتسارت وجريج، أو يغلفه الشجن كمؤلفات شوبرت وتشايكوفسكي. وعفت نفسي بالمثل عن العوالم الساحرة لبرليوز وسكريايين، والتأملية الرصينة لمالر وسيبيليوس.
وقع اختياري أخيرا على أعمال سيزار فرانك، الذي يتحول جلال الشك عنده إلى نعمة اليقين، وكارل أورف الذي يتفجر بالحيوية والصراع، وبيتهوفن الذي يتغنى بالانتصار والفرح بعد الألم، وشوستاكوفتش الذي يمزج كل هذا بالسخرية.
كان الظلام قد حل، فوضعت تسجيلات هؤلاء المبدعين العظام في متناول يدي، وأخذت مكاني المفضل خلف المكتب، عند الحائط الأخير لمسكني.
مضيت أنصت للموسيقى التي ترددت نغماتها في جنبات الحجرة. وبقيت في مكاني، مطمئنا منتشيا حتى انبلج الفجر.
عندئذ رفعت ذراعي المصابة إلى فمي، وبدأت آكل نفسي.
अज्ञात पृष्ठ