اعتدلت واقفا بعد أن سحب الرجل إصبعه، وعدت أواجههم، فرأيت الرجل الأشقر يتطلع إلى الرئيس قائلا في انتصار: «ألم أقل لك؟»
ابتسم العجوز لأول مرة، وانطلق الجميع يتكلمون في وقت واحد. وساد الهرج القاعدة؛ فلم أتبين شيئا مما يقولون. وأخيرا دق الرئيس على المائدة بقبضة يده، فتوقف الكلام، وعندما هدأت الضجة تماما خاطبني قائلا: «إن القرن الذي نعيش فيه هو بلا شك أعظم عصور التاريخ، سواء من حيث ضخامة وقائعه وعددها، أو من حيث الآفاق التي تنتظره. فبأي شيء من هذه الوقائع، كالحروب والثورات والابتكارات، سيذكر قرننا في المستقبل؟»
رحبت بهذا السؤال رغم صعوبته؛ لأني وجدت فيه فرصة لاستعراض معلوماتي في موضوعات محببة لدي.
قلت: «هذا سؤال قيم، وبوسعي أن أذكر أمورا كثيرة ذات خطر.»
تدخل ذو الشعر الأشقر موضحا: «إننا نريد أمرا واحدا، ولا بد أن تكون له صفة العالمية من حيث ماهيته أو دائرة نفوذه، فضلا عن قدرته على تجسيد المعاني السامية والخالدة لحضارة هذا القرن.»
ابتسمت وأنا أقول: «وهنا وجه الصعوبة يا سيدي؛ فمن الممكن أن نذكر مارلين مونرو ؛ لأن هذه الفاتنة الأمريكية كانت حدثا عالميا حضاريا بمعنى الكلمة، لكنه حدث عابر، ولى أمره وانتهى؛ فمقاييس الجمال تتغير كل يوم على يد أشخاص موهوبين مثل ديور وكاردان. والكائن الإنساني نفسه فان، وهي خاصية تنأى بنا عن اختيار البترول العربي الذي سينضب بعد سنوات قليلة. ويمكن أن نذكر غزو الفضاء سوى أنه لم يتمخض بعد عن شيء ذي قيمة. ونفس المعيار يجعلنا نستبعد الكثير من الثورات. ربما خطر لنا أن نتوقف عند فيتنام، وهو ما لا أحبذه لما سيجرنا إليه ذلك من مداخلات أيديولوجية لا ضرورة لها.
أقول كل هذا لأنكم طلبتم أمرا سيذكر به قرننا في المستقبل. أولا يتحقق هذا إذا ما وجد الشيء نفسه في المستقبل ليكون تذكرة دائمة بنفسه؟
وهذا يقودنا للبحث في اتجاه آخر، وسنعثر بغير صعوبة على الطريق السليم، لكنه للأسف طريق طويل مزدحم، كالطريق المؤدي إلى المطار، بلافتات كثيرة تحمل أسماء شديدة التنوع مثل فيليبس، توشيبا، جيليت، ميشلان، شل، كوداك، وستنجهاوس، فورد، نسله، مارلبورو.
وأظنكم توافقونني أيها السادة على أن العالم كله يستخدم الابتكارات التي تحمل هذه الأسماء. كما أن الشركات العملاقة التي تنتجها تستخدم العالم بدورها، فتحول العمال إلى آلات، والمستهلكون إلى أرقام، والأوطان إلى أسواق؛ وهي بذلك نتاج ذو خطر لمنجزات قرننا العلمية والتكنولوجية، كما أنها غير معرضة للفناء أو النضوب؛ فقد وجدت لتبقى.» - «أيها إذن نختار؟»
توقفت لحظة محسوبة وأنا أتطلع إليهم، ثم أجبت بطريقة مسرحية: «ولا واحدة!»
अज्ञात पृष्ठ