أما من الوجهة النظرية فلا أحسب أن اثنين يختلفان، في الإجابة عن هذا السؤال، فالأمة عندنا جميعا هي المجموعة الكبرى التي تحتوي في جوفها الأسر، وهي التي يجب أن تظل سواء بقيت أو فنيت هذه الأسر أو تلك، فلا ضير علينا أن تزدهر أسرة أو تذوي، أو أن تولد أسرة أو تموت، لكن علينا كل الضير إذا فقدت الأمة مقومات بقائها؛ لأن الخيط الذي يمسك الأفراد وأسرهم في كل واحد، ينقطع عندئذ وينفرط العقد، وتنتثر الحبات فرادى، وبذلك نكون بمثابة من يناقض نفسه؛ لأننا حين أقمنا من أنفسنا مجموعة كبرى أسميناها أمة، قد اعترفنا ضمنا أننا في ظل هذه المجموعة وحدها نستطيع أن نعيش. وماذا أنت قائل في رجل يظل السنين ينبت شجرة ويرعاها في سبيل أن يستمتع بظلها، حتى إذا ما نمت الشجرة وامتد ظلها، أمسك بيده الفأس ليبترها عن أرضها زاعما لنفسه أن صالحه أحق بالرعاية وأولى؟ كأن صالحه الفردي لم يكن هو المبدأ الأساسي والدافع الأول لاجتماعه مع غيره في حظيرة أمة واحدة!
نقول إنه لا خلاف على ذلك من الوجهة النظرية، حتى إذا ما وجدنا أنفسنا أمام الموقف العملي الذي يتطلب منا أن نسلك هذه السبيل أو تلك، فإما أن ننتصر لأبناء الأسرة التي ننتمي إليها، أو أن نتحيز للأمة على حساب الأسرة، حين يكون بين صالح هذه وصالح تلك تعارض واختلاف، فعندئذ يتعذر جدا على غير من قطعوا من المدنية شوطا بعيدا، أن يغضوا أطرافهم عن صوالح أسرهم في سبيل مصلحة المجموعة الكبرى.
وإذا فذلك مقياس تستطيع أن تسبر به مدى ما نالك من تحضر وتمدن، هو مقياس تستطيع أن تجزم به لنفسك إن كنت لا تزال بدائيا جاهليا في تكوينك النفسي، أم خطوت إلى أمام مع خطو الزمن، وسأروي لك فيما يلي خلاصة لمسرحية أنتيجونا
1
التي أنشأها سوفوكليس ليصور بها هذا الصراع الذي ما ينفك ينشب في صدور الأفراد حين يدعوهم الداعيان معا: داعي الأسرة وداعي الأمة، وحين يكون الداعيان على تناقض وخلاف، سأروي لك هذه الخلاصة لتسأل نفسك بعدها: هل أشعر بالعطف على أنتيجونا التي آثرت واجبها نحو أخيها على واجبها إزاء قانون أصدره الملك ليمثل به صالح الأمة، أم أشعر نحوها بالسخط والغيظ؟ فإن وجدت نفسك عاطفا عليها راضيا عنها، فاعلم أنك إذا ما تزال في هذه المرحلة الأولية البدائية بقلبك وشعورك، وإن ظننت في نفسك غير ذلك فإنك في حاجة إلى أن تغير من نفسك، ليغير الله ما يحيق بأمتك من تهدم وتصدع وانحلال: «إيثيوكليس» و«بوليتيس» أخوان قضيا معا في يوم واحد، أما الأول فقد أجيز لجثمانه أن يوارى في التراب وأن يؤدى إليه من الواجبات الدينية ما يسر نفوس الموتى؛ لأنه جاد بنفسه في سبيل وطنه، وأما الآخر فقد أمر الملك «كريون» - ملك ثيبة - ألا يدفن ولا يبكى، وأن يترك نهبا لسباع الطير التي تتأهب لافتراسه؛ وذلك لأنه ناصر أعداء الوطن على وطنه. ويجيء النبأ إلى أختهما أنتيجونا، فماذا تراها صانعة؟ إن رابطة الرحم التي تربطها بأخيها بولينيس تقضي عليها ألا تترك جثمانه في العراء بغير أن يقبر أو تؤدى إليه فروض الدين، لكن هذا هو أمر الملك - والملك هنا هو الدولة وأمره هو صالح الأمة - هذا هو أمر الملك صريح، بأن من يحاول دفن ذلك الشقي الآثم، سيلقى أقصى أنواع العذاب وسط المدينة وبمشهد من مواطنيه.
وتلتقي أنتيجونا بأختها أسمينا لتحمل إليها النبأ، ولتطلب إليها أن تعاونها على دفن أخيهما:
أسمينا :
ماذا؟! أي أنتيجونا التعسة! أتقدمين على ذلك رغم أمر كريون؟
أنتيجونا :
أله الحق أن يقطع ما يصل بيني وبين قرابتي؟
अज्ञात पृष्ठ