عند سفح الجبل‏

نفس عارية1‏

الكوميديا الأرضية‏

خيوط العنكبوت‏

الكراهية الصامتة‏

عروس المولد‏

إلى سادتي الحكام‏

أبناء الظلام‏

عالم قلق‏

نفوس فقيرة‏

مصباح علاء الدين‏

مقومات الحياة‏

عزمات الإرادة‏

هاروت وماروت‏

رهان‏

نظرة الطائر‏

تمثال فيدياس‏

الأفراد! الأفراد!‏

آباء وأبناء‏

سيئات الموتى‏

ندوة الخميس‏

ابتسامة الساخر‏

أنتيجونا‏

نشر القديم‏

سلم القيم‏

نموذج المتمدن‏

الحس المشترك‏

الفكرة الواضحة‏

جناية الألفاظ‏

مهمة الكاتب‏

إعانة المجلات العلمية‏

جناية الأدباء‏

عند سفح الجبل‏

نفس عارية1‏

الكوميديا الأرضية‏

خيوط العنكبوت‏

الكراهية الصامتة‏

عروس المولد‏

إلى سادتي الحكام‏

أبناء الظلام‏

عالم قلق‏

نفوس فقيرة‏

مصباح علاء الدين‏

مقومات الحياة‏

عزمات الإرادة‏

هاروت وماروت‏

رهان‏

نظرة الطائر‏

تمثال فيدياس‏

الأفراد! الأفراد!‏

آباء وأبناء‏

سيئات الموتى‏

ندوة الخميس‏

ابتسامة الساخر‏

أنتيجونا‏

نشر القديم‏

سلم القيم‏

نموذج المتمدن‏

الحس المشترك‏

الفكرة الواضحة‏

جناية الألفاظ‏

مهمة الكاتب‏

إعانة المجلات العلمية‏

جناية الأدباء‏

الكوميديا الأرضية

الكوميديا الأرضية

تأليف

زكي نجيب محمود

عند سفح الجبل

هو جبل شاهق، يعلو بقمته على مستوى السحاب، فلئن اعتاد أهل الأرض أن ينظروا إلى السحاب منسابا فوق رءوسهم، فأهل تلك القمة العالية ينظرون إليه صاعدا أو هابطا تحت أقدامهم؛ إذ لا يجاوز ثلاثة أرباع الجبل صعودا، حتى إذا ما كثف الغمام نظر الواقف هنالك، فإذا هو على جزيرة ناتئة حولها بحر من دخان، تتدافع أجزاؤه في صمت، كأنه الموج الأخرس، يرتفع حينا ويهبط حينا، وهو في معظم الحالات من الكثافة بحيث يستحيل على ساكن القمة العالية أن يرى شيئا من السفح، وقليلا ما يصفو الفضاء فيتبدى سفح الجبل من أعلاه إلى أدناه، بصخوره البارزة الغليظة، وشعابه الخشنة الممزقة.

فالقمة مشمسة طيلة النهار سماؤها صحو أبدا، وعليها قامت قرية صغيرة أمرها عجب؛ فهي نظيفة البيوت نظيفة الشوارع، نعم إن شوارعها ملتوية كالأفاعي، تكاد لا تستقيم في موضع، إلا أنها مرصوفة كلها، نظيفة كلها، وعلى جوانبها صفوف من المنازل الجميلة الأنيقة، مختلفة الطرز منسقة البساتين، وأهل القرية على درجة ملحوظة من نظافة الثياب وسلامة الذوق، وإن يكن مما يلفت النظر فيهم بدانة وترهل وبطء حركة.

ولست ترى هنالك خدما ولا دكاكين؛ فتعجب من أين تأتيهم حاجاتهم؟ ومن ذا يعاونهم على تنظيف الشوارع والبيوت؟ ولذلك قلما تسمع في طرقاتها صوتا، ومن النادر أن ينبعث صوت من هذا البيت أو ذاك، بل قليلا ما يصادفك في أنحائها رائح أو غاد، كأنهم جميعا قد قروا في بيوتهم لا يبرحونها لنزهة أو عمل.

هكذا كانت الحال كما وصفها محدثي الرحالة، وكما بدت له عند أول صعوده ذلك الجبل إلى قمته، ثم ما لبث أن التقى من أهل القرية برجل، قصد إلى لقائه بتوصية من صديق، حتى تبين له - بهداية هذا الزميل - نشاط عجيب حاد عنيف داخل الجدران؛ ذلك أن هذه القرية كثيرة النوادي، كثرة ليس لها نظير فيما نعرف من مدن الأرض الواقعة في مستوى البحر، ومن تلك النوادي ما هو خاص، ومنها ما هو عام، لكن النوادي الخاصة هي التي كانت موطن النشاط العجيب الذي أشرنا إليه، وهي صنوف مختلفة، منها النوادي السياسية، والاجتماعية والثقافية، والرياضية وغير ذلك، بل قد يختص النادي الواحد بناحية غريبة واحدة لا يتعداها بنشاطه، فمن أمثلة ذلك ناد لسباق الأرانب وناد لتدخين النرجيلة، وناد لصيد البط، وآخر لصيد الإوز وهكذا.

وأخذ يصف لي محدثي الرحالة ما لقيه في نوادي القرية وهو بصحبة دليله، فهذا ناد سياسي، تدخل من بابه الخارجي إلى البهو، فلا حركة ولا صوت، صمت شامل وهدوء جميل، حتى إذا ما انفتح لك باب غرفة الاجتماع، جاءتك الأصوات كالرعود. ويقول محدثي: إن أول ما عجبت له عندما دخلت مع دليلي متسللا على أطراف قدمي، أني رأيت أصحاب الأبدان السمينة والحركات البطيئة والأطراف المسترخية، قد دبت فيهم حرارة المناقشة كأنها شعلة من نار؛ فالوجوه محتقنة، والعيون محمرة، والأجسام متحفزة، والأطراف مرتعشة، وكانت كلمة «الشعب» أكثر الكلمات ورودا في مناقشاتهم الحادة الحارة. وقد سألت نفسي عندئذ: أي «شعب» يا ترى يقصدون؟ لأنني لم أجد في القرية شعبا بقدر ما وجدت سادة، أفيكون هذا المجتمع الغريب رأسا بلا بدن ؟ لكنني لم أطل التفكير في هذا وما كنت لأستطيع أن أطيله؛ لأن شدة التحمس ترغم السامع إرغاما على مسايرة الحديث، وهم يتراشقون فيه بالحجج كأنها الحجارة أو أشد صلابة، ويظلون كذلك حتى يفوتهم أوان الغداء إن كان الوقت نهارا، وأوان العشاء إن كان الوقت ليلا، وهنا كذلك سألت نفسي: من أين لهؤلاء الزاهدين في الطعام هذه الأبدان السمينة؟ لكنني مرة أخرى لم أطل التفكير في هذا، وما كنت لأستطيع أن أطيله؛ لأنني إزاء تيار دافق من الكلام، يستحيل معه لإنسان أن يقف لحظة واحدة يفكر أثناءها لنفسه في هذا أو ذاك مما عساه أن يستوقف نظره أو سمعه.

ومضى محدثي الرحالة يقول: الحق أنهم في تلك الندوة السياسية التي زرتها، كانوا يناقشون موضوعا ظريفا طريفا وهو: هل يستورد الإصلاح الدستوري «للشعب» - قلت إن كلمة «الشعب» كانت كثيرة الورود - من فرنسا أو من بلجيكا؟ فالبضاعة الفرنسية - بما في ذلك الدستور والقوانين - فيها جمال لكنها رقيقة إلى حد الهزال والضعف، والبضاعة البلجيكية على شيء من متانة البناء، لكنها عسرة الهضم متعذرة القبول، و«الشعب» عندنا - هكذا روى الرحالة محدثي عن خطباء الندوة السياسية على قمة الجبل - لا ترضيه الرقة الفرنسية ولا تقنعه الغلظة البلجيكية. وقال قائل: لماذا لا تمزج عناصر من هنا بعناصر من هناك؟ فجاءت فكرة مزج العناصر كالقنبلة الداوية؛ لأنها نقلت الحديث كله إلى موضوع جديد هو: هل يمكن للعناصر أن تمتزج؟ وأي المقادير يجعل النسبة صحيحة مناسبة للمزج؟ ولبثوا في ذلك حتى انفض الاجتماع ليعود إلى البحث مرة أخرى.

وزار محدثي الرحالة ندوة ثقافية في تلك القمة العالية التي لا تعكر صفو سمائها سحابة في نهار أو ليل؛ لأن القمة تعلو على مستوى السحاب، وها هنا - بداهة - لم يجد صخبا ولا ضجيجا؛ كان البهو صامتا، وانفتح الباب عن غرفة الاجتماع فإذا فيها صمت هامس، وكان موضوع الحديث هو: ماذا يكون أساس الفن كله بما في ذلك الأدب؟ أيجعلون الفن للفن، أم يخدمون به «الشعب» - كانت كلمة «الشعب » هنا أيضا دائرة على ألسنة المتكلمين في كثرة ملحوظة - وكانت كثرتهم الغالبة مع «الشعب»، لا بد أن يصور المصور للشعب، وأن يعزف الموسيقي للشعب، وينشد الشاعر شعره للشعب، وينحت المثال تماثيله للشعب، ويقيم المهندس المعماري عمارته للشعب. وعبثا حاول منهم فريق ضئيل أن يبين للحاضرين أن القطعة الفنية مخلوق قائم بذاته. ولا يقال عن المخلوق الذي كملت خلقته ماذا يحقق من أغراض؟ لأنه لا غرض من الكائن التام التكوين إلا أنه كائن تام التكوين وكفى، هل تقول ما الغاية من هذه الفراشة؟ وما الغاية من هذا العصفور؟ وما الغاية من هذه الوردة؟ كذلك لا ينبغي أن تقول ما الغاية من هذه القصيدة؟ وما الغاية من هذه القطعة الموسيقية؟ وما الغاية من هذه الصورة أو التمثال؟ إنها جميعا كائنات خلقها خالقوها فأحسنوا خلقا، وفي ذلك الكفاية.

لكن فكرة «الشعب» - كما قلت - كانت لها الغلبة والرجحان؛ ففي سبيل الشعب ما يخلق الفنان.

وخرج محدثي الرحالة - كما روى - من الندوة الثقافية معجبا أشد إعجاب؛ لأن تبادل الرأي قد تم في هدوء ورحابة صدر، أين منه ما شهده في الندوة السياسية من نيران مستعرة في الأعين والوجوه والأطراف؛ وقصد لتوه ندوة اجتماعية ولم يشأ أن يرجئ الزيارة إلى يوم آخر لقصر مقامه هناك، فقد كان لا بد له من الهبوط إلى السفح في صبيحة اليوم التالي.

وكانت الندوة الاجتماعية في منتصف نشاطها عندما زارها صاحبي، لم يشهد الحديث من أوله، لكن المصادفة قد شاءت أن تكون أول كلمة يسمعها عند انفتاح الباب، هي كلمة «الشعب»، ولم يسعه عندئذ إلا أن يعاود السؤال من جديد: أين يا ترى هذا الشعب الذي يشير إليه كل متحدث إذا ما انفرجت شفتاه عن حديث مهما قصر؟ إنها - فيما رأى - قرية صغيرة كلها منسق نظيف، لا خدم فيها ولا باعة ولا مارة إلا في القليل النادر، لكنه سرعان ما طرح هذا التيار الداخلي في نفسه لينصت.

كان الخطيب الذي يتكلم في نحو الثلاثين من عمره، تميزه حركات بذراعيه وجذعه تتناسب مع المعاني التي يعبر عنها في حديثه، وخلاصة كلامه أنه متألم لحال الشعب؛ لأن حياته تكاد تخلو خلوا تاما من أسباب اللهو البريء، فهل عملت الحكومة في القرى على الترويح عن هؤلاء العاملين منهوكي القوى؟ هل أعدت لهم شيئا مما يدفئ في الشتاء ويخفف عناء الحر في الصيف؟

وما إن خرج محدثي الرحالة - هكذا روى - من تلك الندوة، حتى سأل دليله في حذر وتلعثم: أين الشعب هنا؟ فقال الدليل: الشعب؟ ليس هنا، إنه هناك، هناك عند سفح الجبل، ها هنا القمة، قمة الصفوة الممتازة، ألم تصعد إلينا من سفح الجبل حيث أفراد الشعب يعملون ويقيمون؟

فأجاب الرحالة في ارتباك واضطراب: نعم، نعم، رأيتهم هناك، لكنني ظننت أنهم ...

فسأل الدليل: ظننت ماذا؟

فقال الرحالة: ظننتهم أفراد شعب لا ينتمي إلى هذه القمة وأهلها، كانت غفلة مني وكان سهوا لأن العلاقة بين القمة والسفح واضحة، واضحة لا تحتاج إلى بيان؛ فما على السائر إلا أن يصعد مجتازا حاجز السحاب فإذا هو في القمة المشمسة، أو يهبط مجتازا حاجز السحاب فإذا هو عند سفح الجبل.

وفي ضحى اليوم التالي، هبط رحالتنا إلى السفح في طريق عودته، فكان أول من لقيه من الناس امرأة عجوز متهدمة جلست على جانب الطريق، وأمامها صندوق خشبي صغير تناثرت على ظهره سبع قطع من الحلوى، فأما المرأة فكومة من أسمال سوداء، تكاد لا تميز فيها رأسا من صدر، حتى إذا ما رفعت وجهها، رأيت شيئا قريب الشبه بجماجم الموتى، غطاه جلد داكن متغضن، وكأنما كانت ترتعش بجسدها كله رعشة متصلة، وأما حلواها فسل عنها أقذر الذباب.

ترى كم مليما تربح هذه المسكينة في يومها؟ أين تسكن وعلى أي كومة من التراب والحصى تضع جنبها سواد الليل؟ ماذا تأكل؟ وكيف تغطي جسدها إذا ما اشتد برد الشتاء؟ أين وكيف تغسل جسدها؟ ومن ذا يجيبها إن تأوهت من ألم كما شاء الله لعباده المرضى أن يتأوهوا كلما اشتد بهم الألم؟

وأبطأ صاحبي الرحالة خطاه أمام بائعة الحلوى، وهو يفكر في أمرها ، ويسأل نفسه هذه الأسئلة عنها، فظنته المسكينة شاريا لبضاعتها، فقالت في أنفاس متقطعة واهنة: «حلاوة يا زباين.»

قال الرحالة: بكم تبيعين القطعة يا أمي؟

فقالت: القطعة بمليم.

قال: سأشتري منك حلواك كلها لأولادي.

وكأن «البائعة» لم تصدق قول «زبونها» فراحت - قبل أن تجمع له «البضاعة» - تدعو له ولأولاده بطول البقاء، ناظرة إلى السماء، باسطة كفيها النحيلتين المعروقتين المرتعشتين.

فقال لها صاحبنا وهو يدفع لها قرشا كاملا ثمن حلواها - وحقها سبعة مليمات - لا تنسي يا أمي أن تطلبي من رب السماء رحمة بأولئك الذين يرعون مصالحك فوق قمة الجبل، لقد رأيتهم هناك بعيني رأسي، يتحمسون لك ولا يدخرون من وسعهم وسعا، فقد كانوا يتجادلون في نوع الإصلاح الدستوري الذي يستوردونه لك من فرنسا وبلجيكا، وكانوا يتناقشون في هل يخلق الفنان فنه لنفسه أو يصوغه ويوجهه إليك، ورأيتهم يبحثون كيف يهيئون لك مصيفا تستمعين فيه بهواء عليل حين تشتد الحرارة هنا في يوليو وأغسطس ...

فرفعت المرأة عينيها مرة أخرى نحو السماء، وبسطت كفيها، وقالت: «يا رب بارك لنا فيهم أجمعين.»

نفس عارية1

«لا، إني لا أريد أن أكون سعيدا، لا أريد اطمئنان النفس وراحة البال، وإني لأسعى دءوبا إلى الشقاء والعناء والتعب، وأبحث عن أسباب البؤس والنكد؛ كذب كله هذا الذي يكتبونه في الكتب ويعظون به في المحافل عن طلب الإنسان لسعادة نفسه، إنهم لا يعلمون عن النفس الإنسانية شيئا أولئك الذين يحسبون الناس جادين في طلب السعادة وراحة البال، ويظنونهم جادين حقا في التماس الرفاهية والخير.

إني أريد لنفسي الألم، وأريده للناس؛ أريد لها ولهم أن يتعذبوا، ومنافق أنا مع سائر المنافقين حين أدعي بهتانا وزورا أنني كاره حقا للألم ينزل بي، وبالناس، ويشتملني ويشتملهم جسدا وروحا ... إنني لن أنسى أبد الدهر ذلك الطفل الذي رأيته مرة يبكي على لعبة أفسدتها له أخته، فجاءت أمه تمسح له الدموع عن عينيه، وترضيه بحلو كلامها، فقال لها وهو يدفعها عنه بيديه الصغيرتين غاضبا: عني لا تمسحي دموعي؛ لأنني أريد أن أبكي ولا أستطيع البكاء بغير دموع ... لن أنسى أبد الدهر ذلك الطفل الذي أصاب من حقيقة النفس الإنسانية بفطرته الشفافة، ما لم يصبه أصحاب الكتب والمواعظ الذين قد راءوا حتى أفسدهم الرياء، ونافقوا حتى أنساهم النفاق أنهم منافقون. إن الإنسان يريد أن يتألم ويبكي، ويبحث في الخفاء عما يثير فيه ذلك الألم وهذا البكاء، وكذب كله هذا الذي يقولونه ويكتبونه من أن الإنسان ينشد لنفسه وللناس راحة وطمأنينة وسعادة.

أنظر إلى هذه القطعة من الحلوى، قد وضعت لي على المائدة منذ أمس، وهممت أن آكلها مرات عدة في غضون النهار، ثم أمسكت لأنني آثرت لنفسي الحرمان ...»

بمثل هذه الدفعة العجيبة راح صديقي يحدثني عندما زرته فوجدته في داره وحيدا، فلا أمه هناك ولا خادمته، وكانت الدار مغلقة النوافذ، والضوء فيها قبيل الغروب خافتا بين الظلام والنور.

فتح لي الباب ولم يفرح للقائي كعادته؛ لأنه - فيما بدا لي - قد كان يريد الوحدة، بل لم يكفه أن يكون في الدار وحيدا، فانتبذ من داره هذه الخالية ركنا أبعد ما تكون أرجاؤها عن مصادر الضوء والصوت، كان في مستطاعه أن يضيء المصباح وأن يدير المذياع، لكنه لم يفعل.

وجلست إلى جواره فيما هو أشبه بظلام الليل منه إلى ضوء النهار، لا أجرؤ على إضاءة هذا المصباح لأني ضيفه، وليس للضيف أن يغير من أوضاع الدار التي تضيفه، أو أن يلاحظ عليها شيئا إلا أن يكون استحسانا ومدحا. وظل هو إلى جانبي صامتا يفرك يديه، ويطقطق أصابعه، ولم يمنعني خفوت الضوء من رؤية شفتيه الراجفتين وعينيه البارقتين وأطرافه المختلجة.

فقلت له: لست أراك في وحدتك هذه سعيدا.

فاندفع يجيبني متدفقا بالعبارة التي أسلفت بعضها: «لا، إني لا أريد أن أكون سعيدا ...»

وانتهزت لحظة قصيرة وقف فيها تياره الدافق، وقلت: هل لك أن تذكر لي ما حدث لك اليوم حتى أتعقب ثورتك هذه إلى أصولها؟ وسترى عندئذ أنها ثورة مؤقتة مرهونة بأسبابها، حتى إذا ما زالت الأسباب، عاد إلى النفس هدوءها وصفاؤها؛ فالأصل في الإنسان أن يكون هادئا ساكنا سعيدا، والشذوذ أن يضطرب ويشقى.

فقاطعني قائلا: هذا حديث شاعر يسبح في أحلامه الجميلة مغمض العينين، أولى لك أن تصيح بالرياح: أن اسكتي يا رياح حتى يهدأ البحر فلا يموج، أو أن تهتف بالشمس ساعة غروب جميل أن قفي يا شمس حتى لا يغيب عنا هذا الجمال ... إن مثيرات النفس قائمة لنا في كل خطوة من الطريق وفي كل منعطف بها؛ سر هنا فهنا ما يثيرك، وسر هناك فهناك ما يثيرك، ومل نحو اليمين أو مل نحو اليسار، تجد مثيرات النفس تتلقفك يمينا ويسارا، فماذا أنت صانع إذا أردت لنفسك الطمأنينة والهدوء؟ بل ارجع إلى دارك وغلق من دونك بابها ونوافذها كما تراني أفعل الآن، وستلاحقك المثيرات، حين تستعيد بالذاكرة ما رأيت وما سمعت، وحين تضيف إلى كل هذا الذي قد رأيته وسمعته جديدا من عندك تسر به إلى نفسك.

فسألته: ماذا تعني؟

فقال: ألم تلحظ في نفسك كيف تتوهم بخيالك أنك تتحدث إلى فلان أو علان، فيقول لك كذا فتقول له كيت، ويفعل كذا فتفعل كيت، وما تزالان - في خيالك - تتخاصمان بالقول وتتقاتلان بالفعل، حتى تنظر، فإذا أنت قد احتدمت في نفسك الثورة واشتد بك الغضب؟

فقلت: كأنما عداوات العالم الواقع لم تكفنا فنزيدها بخيالنا عداوة، وكأنما مثيرات الدنيا من حولنا لم تشبع نفوسنا، فألهبناها بأوهامنا حرارة وسعيرا.

فقال - وقد هدأ بعض الشيء - نعم ... لكن الخير كل الخير في أن تنكشف للناس هذه الخواطر الدفينة، حتى يعلموا حقائق نفوسهم وما يدور فيها، إنك قد تقاتل خصمك في خيالك قتالا ينتهي بك فعلا إلى غضبة حقيقية تندفع معها إلى الأخذ بالانتقام والثأر ... أليس جديرا بالناس أحيانا أن يضعوا نفوسهم عارية أمامهم لا يحجب مكنونها حجاب، فلعل ذلك يفتح أعينهم على حقائق يجهلونها فيحورون من سلوكهم بعضهم إزاء بعض بما قد يحد من هذه الضغائن والسخائم التي يكتمونها في أنفسهم كارهين.

وصمت صديقي قليلا ثم قال: ولماذا لا أبدأ بنفسي؟ هذه هي نفسي أضعها أمامك عارية كما وجدتها طوال ساعات العصر - لن أستحي من مكنونها وخبيئها مهما يكن خبيثا، فكل الناس هذا الخبيث - لكنه الرياء يستر ويخفي ...

رأيت ظهر اليوم طفلا أمام الدار يلعب «بالنحلة» فيلف طرف الخيط حول نحلته الخشبية، ثم يقذف بها، فتدور النحلة على سنها فوق بلاط الإفريز دورانا شديدا، لكن الطفل يخشى على دورانها الفتور والضعف، فيظل يضربها بعذبة سوطه ضربا متلاحقا، حتى تدور ولا تكف عن الدوران. وعدت إلى هنا، فما هو إلا أن تنزو بنفسي الخواطر المثيرة، إذ صورت لنفسي فلانا وقد قذف بي على الأرض قذف الطفل لنحلته، وراح يلهبني بعذبات سياطه حتى أدور ولا أكف عن الدوران لنفعه هو ومتعته، ولا عليه أن أدوخ وأتعب.

إنني تلك النحلة الدائرة لمتعة غيرها، أضرب بالسياط لئلا أقف فتنقطع متعة المتمتعين - لا تقل إنه وهمك وخيالك؛ لأنه عندئذ لا فرق بين حقيقة وخيال، فانطلقت خواطري متلاحقة، ساعات العصر سوداء قاتمة، كأنها أسراب الغربان تحوم في الهواء سابحة متعاقبة، ثم تدور دورتها لتعود من جديد ... انطلقت خواطري السوداء متلاحقة فلا أرى الناس إلا معذبا بعضهم بعضا - كذب ونفاق هذا الذي يكتبونه في الكتب ويعظون به في المحافل من أن الإنسان يرجو لغيره الراحة والخير، فأنت مشاهد في كل خطوة تخطوها وفي كل ثنية ينعرج بك الطريق فيها، دليلا شاهدا على أن الناس يمقت بعضهم بعضا ويوقع بعضهم ببعض الضر والأذى.

وخطر لي خاطر عجيب، وهو أن أمزق كتبا عندي تمتلئ صفحاتها بمثل هذا الكذب الذي يكتبه الكاتبون على سبيل الوعظ والتقويم، أو لست أدري لماذا يكتبونه وهم يعلمون أنه كذب، أو لعلهم لا يعلمون.

لكن خاطر التمزيق لم يكد يطوف برأسي، حتى اشتدت سرعة الخواطر الهدامة المشتعلة بالحقد والانتقام؛ رأيت نفسي أنتظر حتى ينسدل ظلام الليل، فأتخفى تحت ستاره وأقصد إلى دار خصمي الذي يبتسم لي رياء، والذي تصورته يضربني بعذبة سوطه لأدور كما كان الصبي يضرب نحلته على بلاط الإفريز؛ أقصد إلى دار خصمي ذاك فأشعل فيها النار ثم أجري إلى التليفون القريب لأنادي رجال المطافئ ، والعجيب أني استشعرت الراحة للصورتين معا: لصورة النار أشعلها انتقاما، ولصورة الشهامة أبديها في محاولة الإنقاذ ...

قلت لصديقي: ليس عليك من بأس، فأنت خير حالا من شيطانة دوستويفسكي؛ لأنك هدمت وأصلحت، أما هي ...

فسألني: وما شيطانة دوستويفسكي؟

فقلت: هي «ليز» الفتاة التي أحبت «أليوشا» في قصة الإخوان كارامازوف، ثم أخذتها هذه الدفعة الجامحة نحو ارتكاب الشر وإيقاع الأذى حتى بنفسها، فأرسلت إلى «أليوشا» - وهو الشاب المتبتل الورع - فلما سألها: ماذا تريدين؟ قالت: أردت أن أعبر لك عن شوق شديد بنفسي، وهو أن يتزوجني زوج ليعذبني ثم يخدعني ويفر عني هاربا، إني لا أريد أن أكون سعيدة.

فقال لها «أليوشا»: أتنشدين السوء؟ فأجابته: أن نعم، وما أنفك راغبة في إشعال النار في بيتي، بحيث لا يدرك الناس الخطر إلا بعد فوات الأوان فيحترق كل شيء.

قال صديقي - وقد اطمأن نفسا أن يرى الناس في ذلك سواء: يظهر أن هنالك لحظات يحب الإنسان فيها ارتكاب الشر وينزع إلى الجريمة، ليس الناس ملائكة ولا قديسين، لكن ما الذي دفع «ليز» في قصة دستويفسكي أن تنزع إلى هذا الشر كله؟

فقلت: لعله مرضها؛ كانت كسيحة ثم برئت، لكنها لم تبرأ كل البرء، فربما أشعلت العلة في نفسها نار الحقد والرغبة في الانتقام.

قال: انتقام ممن؟! لقد أرادت أن تشعل النار في دارها هي، فهي الخاسرة.

قلت: نعم، هذا هو الإنسان وهذه هي طبيعته، يشتد به الضيق فيشق ثيابه ويمزقها، ويضرب رأسه في الجدار ليتورم، بل قد يزهق نفسه بيديه ... لقد ضاقت «ليز» نفسا حتى طردت حبيبها من الدار، وأغلقت الباب على إصبعها عامدة، ثم أخرجت إصبعها وهو ينز بالدم من أسفل الظفر، فراحت تتأوه من الألم وتفرح في دخيلة نفسها أن أوقعت بنفسها ذلك الألم ... إنه الإنسان وطبيعته، يضيق نفسا فينزل الأذى بالناس وبنفسه.

هنا قام صديقي وأنار مصباحه - وكان الظلام قد اشتد سواده - وعاد إلى مكانه منبسط الجبين، كأنما اطمأن على نفسه من شذوذ ظنه بها، وقال: لو لم تكن «ليز» مريضة لما أحدثت شرا ولا اقترفت إثما، فماذا أنت قائل فيمن نزل بهم المرض مضافا إليه عري وجوع وتشريد؟

الكوميديا الأرضية

يحكى أن شاعرا كان اسمه «دانتي»، عاش في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قد كتب قصيدة طويلة عظيمة أسماها له الناس من بعده «الكوميديا الإلهية»، طاف فيها بصحبة أستاذ له قديم من الشعراء الأولين، هو «فرجيل»، طاف بالجحيم فوصف من شهده فيها من الآثمين، وما شهده منصبا عليهم هناك من عذاب أليم.

ثم شاء الله - ولا راد لمشيئة الله إذا شاء - أن يبعث «دانتي» حيا شاعرا كما كان، وأن يبعث معه «فرجيل» دليلا هاديا كما كان أيضا، وعادت لدانتي شهوته القديمة في وصف الأهوال، فكان أن زار بلدا يقال عنه إنه بلد العجائب، حتى إذا ما رجع إلى بلاده عمد توا إلى ما كان قد كتبه في حياته الأولى، وأدخل عليه تغييرا وتحويرا يناسب العصر الحديث، مستفيدا بما علمته التجربة في بلد العجائب، وإدراكا منه بأن الشاعر الحق لا مندوحة له عن مسايرة الزمن، لكنه هذه المرة أطلق العنان بنفسه على قصيدته، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة، كما قد فعل أول مرة، ثم اختار عبارة «الكوميديا الأرضية» عنوانا لقصيدته الجديدة.

وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم في «الكوميديا الأرضية» كما كتبها الشاعر القديم الحديث.

يقص علينا «دانتي» كيف سار في صحبة دليله «فرجيل» حتى بلغا باب الجحيم الأرضي، فقرأ على قمة الباب هذه الأسطر الآتية مكتوبة بماء الذهب: «ادخلوا إلى مدينة الأحزان، ادخلوا إلى أرض العذاب، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل إلى أبد الآبدين، فيأيها الداخلون انفضوا عن أنفسكم - عند مدخلي - كل رجاء.»

ويدخل الرجلان فإذا بالجحيم هوة سحيقة في هيئة واد طويل مديد، رأسه عند مركز الأرض وقدمه على حافة البحر، وجوانبه مدرجة درجات عراضا، وعلى هذا الدرج حشر الآثمون، ولا يكاد الشاعران يدخلان أبواب الجحيم حتى يبلغا نهرا يسمى بنهر الأسف والأسى، وعلى شطه ألفيا نفرا يريد العبور إلى الشاطئ الآخر، وكان العبور تحت إشراف حارس فظيع بشع يجذب الناس جذبا قاسيا عنيفا، وعيناه تدوران في رأسه كأنهما حلقتان من نار، فلا يحتمل دانتي هذا المشهد الرهيب، ويسقط في إغماءة لا يفيق منها إلا على صوت رعد يقصف قصفا شديدا، وعندئذ يعلم أنه وزميله قد عبرا نهر الأسف والأسى، حيث انتهى بهما العبور إلى أولى حلقات الجحيم، وها هنا وجدا عبدة المبادئ الذين أنهكوا قواهم وأضاعوا حيواتهم في سبيل مبادئهم؛ ولذلك فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس، وأخذت تلدغهم الزنابير في وجوههم وأعناقهم، فيصيحون من الألم، ولا يعرفون إلى الطمأنينة والراحة سبيلا. ويجتاز الشاعران هذه المرحلة ليجدا أمامهما فريقا من الآثمين المجرمين، وهو فريق أولئك الذين شغلتهم في الدنيا عقولهم عن إشباع شهوات أجسادهم، وإذا بهؤلاء قد عصفت بهم ريح شديدة فأخذتهم الراجفة كأنهم الكراكي في العاصفة، وهنا يقول دانتي: «ها هنا بدأت أسمع صيحات الحزن والأسى، فها هنا قد أتيت إلى حيث الأنات الشاكيات، تقرع أذني فتؤذيها، إذ ها هنا قد أتيت إلى مكان خفت فيه الضوء وزمجرت رياح عواصف، كأنه البحر مزقته العاصفة برياحها الهوج، وهبت في جنبات الجحيم رياح عاتية أخذت في سورة الغضب تسوق أمامها هؤلاء الآثمين سوقا فتدور بأجسادهم حتى الدوار، وتدفعهم دفعا عنيفا موجعا ... إلخ.»

وهنا سقط شاعرنا «دانتي» في إغماءة أخرى؛ لأنه رقيق الحس كسائر الشعراء، حتى إذا ما أفاق ألفى نفسه في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم، في هذه الحلقة الثالثة أعد العقاب لمن عف فلم يلحف في السؤال عن حقه لدى أصحاب السلطان، فشاهد الشاعران أولئك الخائبين الخاسرين وهم يتمرغون في حمأة من الطين تحت وابل من المطر والثلج والصقيع، بينما وقف صف من كلاب وحشية تنبح في وجوههم وتعوي وتمزق جلودهم تمزيقا بأنيابها ومخالبها.

وبعدئذ سار الشاعران إلى حيث الحلقة الرابعة من حلقات الجحيم، فوجدا جماعة كانت تشتغل بالإصلاح فتفسد على غيرهم نعاسهم وأحلامهم؛ ولذلك حقت عليهم اللعنة ونزل العقاب، فرآهم الزائران هناك يدحرجون جلاميد صخر عاتيات في اتجاهين متقابلين، ثم لا تلبث جلاميدهم أن يصدم بعضها بعضا ، ويعود كل جلمود كما كان أول أمره، فينفجر الأشقياء المجرمون بالغضب من كثرة ما نالهم من نصب وإعياء، ويلعن فريق منهم فريقا؛ لأن كل فريق يعتقد أن الفريق الثاني هو الذي أتلف عليه ما صنع.

وينتقل الزائران إلى الحلقة الخامسة من حلقات الجحيم، وقد خصصت لمن أخذ زمانه بالدقة فلا يؤخر موعدا، ولا يؤجل عملا إلى غد، ويغضب ويحزن إذا ما رأى من المستهتر تراخيا وتفريطا، كان هؤلاء المغفلون يسكنون في الجحيم قاع بحيرة من وحل، يتنهدون فتنتفخ على سطح البحيرة فقاقيع لا تلبث أن تنفجر، وقد قال منهم قائل حين أحس مرور الشاعرين إلى جانب البحيرة: «كنا ذات يوم حزانا على الفوضى الضاربة في أرجاء البلاد، كنا رغم الهواء الحلو الذي كانت تبهجه أشعة الشمس، نحمل في أجوافنا نفوسا مظلمة وضبابا ثقيلا؛ لذلك حق علينا الحزن في هذا المكان القاتم.»

وبعدئذ وصل الشاعران إلى مكان الحلقة السادسة حيث أبصرا خلال الضباب الكثيف أبراجا وقبابا متوهجة بألسنة اللهب، فقيل لهم إن هذا مدخل مدينة الشيطان، وكانت طائفة من الجن قائمة على حراسة أبوابها، ويدخل الرجلان بابا فإذا هما يشهدان سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء، تتأجج في كل منها نار تلتهمه؛ لأن صاحبه كان حرا في رأيه يعلنه كيف شاء، فحقت عليهم جميعا هذه الفضيحة المنكرة لجرأتهم الشنعاء.

وبلغ الراحلان حدود الحلقة السابعة من حلقات الجحيم فهبطاها خلال شق من صخور ممزقة الجوانب، حتى انتهيا إلى نهر من دماء وقف في لججه أولئك الحمقى الذين كانوا يتورعون في حياتهم عن اعتراك الأحزاب السياسية، ويقفون في ركن هادئ يفكرون، أو يمضون في سبيلهم الجاد ينشئون ويعلمون.

وكانت الحلقة السابعة ذات شقين، فدخل الشاعران شقها الثاني، وأبصرا فريقا آخر من المغفلين الذين أخذتهم الغيرة في سبيل الضعفاء والمرضى والمعوزين، فهؤلاء قد انقلبوا في الجحيم أشجارا جافة قصيرة، تتدلى منها ثمار مسمومة، وكان كلما انكسر فرع من شجرة تدفق الدم كأنه ينصب من جسم مجروح، وذلك جزاء ما أحدثوه من قلق في نفوس كانت آمنة مطمئنة.

وفي الحلقة الثامنة من حلقات الجحيم حشدت طائفة أولئك الذين كانوا لا يراءون ولا ينافقون في عالم خلقه الله للرياء والنفاق؛ فحق على هؤلاء الكفار عقاب شديد، إذ غمسوا في حفرة ملئت بقار يغلي، وقد يحدث الفينة بعد الفينة أن يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم، ثم يختفي في سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف. فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها، لا يبدو فوق الماء منها غير خياشيمها، كذلك وقف هؤلاء الآثمون في لجة القار، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت الموج.

وقد شهد «دانتي» هنالك مشهدا رهيبا، إذ شهد أحد الجناة يطفو ويطيل الظهور على سطح القار بعض الشيء، فجاءه الحارس وأمسك بخصلات شعره وجذبها جذبا شديدا، ثم ألقى به في عنف طريحا حتى بدا له كأنه كلب من كلاب الماء.

وفي الحلقة التاسعة حشر أولئك المجانين الفدام البلهاء الذين استنصحوا في حياتهم فنصحوا بالحق، فكل فرد من هؤلاء قد ألبسوه هناك قلنسوة ثقيلة من رصاص زخرفوه له بالذهب، وكلما ثقلت القلنسوة على رأس المذنب حتى مال عنقه إلى صدره، ألهبه الحارس بسوطه على ظهره، قائلا له: اعتدل فإن على رأسك طلاء من ذهب هو علامة الصدق في القول والإخلاص في العمل.

وفي الحلقة العاشرة والأخيرة من حلقات الجحيم، شهد الشاعران - ويا هول ما شهدا - شهدا فريقا من الناس أتوا في حياتهم أمرا إدا، واقترفوا جريمة هيهات أن تجد لها عند الله غفرانا، هؤلاء هم الذين لم يتشفعوا بشفيع أو يتوسطوا بوسيط وعملوا في صمت، مع أن الله قد أراد لهم أن يصيحوا ويملئوا الدنيا جلبة كلما خطوا خطوة أو نطقوا كلمة، فكان جزاؤهم في جهنم أن ينزلوا في قاع الجحيم، وهو بحر من ثلوج تبدو فيه أشباح المعذبين كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلور، وكتب عليهم هناك أن يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع كما تفعل الكلاب الجائعة، فهذا جزاء من يعمل صامتا معتمدا على نفسه، فلماذا خلق الله للناس آذانا إذا لم يسمعوا بها صياح الصائحين، ولماذا خلق لهم قلوبا إذا لم ترق لشفاعة المتشفعين؟

وكانت الكروب عندئذ قد أضاقت صدر «دانتي» وطلب من دليله أن يسرع به إلى حيث الفردوس ونعيمه، فما هو إلا أن وجد مركبة مغطاة بالزهر، حملته مع زميله بين مروج من الخضرة اليانعة والقصور الشامخة والأكل الطيب وطمأنينة النفس وراحة البال؛ فها هنا يقيم من رضي عنهم الله من المنافقين أصحاب الشهوة المسعورة والكذب المبين والخداع والرياء.

وأفاق «دانتي» وهمس لزميله فرحا مستبشرا، فقال: ادع لنا الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بهذا النعيم.

خيوط العنكبوت

هذه الصديقة الفاتنة الثائرة لست أدري كيف أنجو من لحظها الساحر، فإني حيالها كالصيد الذي يمرح في حبائل صائده ... عيناها اللامعتان الصافيتان هما البحر السحيق العميق يغري ضحيته بهدوئه الساكن، فيغوص وراء اللآلئ والأصداف، وإذا هو في لحظة قصيرة بين المغرقين ... فمن هاتين العينين تفيض خيوط رفيعة من الضوء، غزلتها ملائكة أو شياطين، وتظل الخيوط الرفيعة اللألاءة فياضة تغمرني هنا وهنا وهناك، فما هو إلا أن أراني بين يديها مغلولا مسحورا فلا اختيار ولا إرادة.

إنه لولا حبي لهذه الفاتنة لقلت إنها هي بعينها - بل بعينيها - تلك الأفعى التي قالت عنها الأساطير ... قالت الأساطير إن ثعبانا رقد على بيضة باضها ديك، فخرجت من البيضة هذه الأفعى المسحورة الساحرة، خرجت ذات رأسين، في كل رأس منها عين، فإذا هي نظرت ذات اليمين برأسها الأيمن أو ذات اليسار برأسها الأيسر، فقل سلاما على من وقعت عليه نظرتها! إن أسير نظرتها هو إلى الأبد مغلول مشلول مفقود الإرادة، والويل لمن حدج ناظريها بناظريه ... وفاتنتي الثائرة هي هذه الساحرة، غير أن أسيرها ينعم بأسره في حبائلها المغزولة من ضوء عينيها.

ليت شعري: هل أدركت هذه الفاتنة كم أضعف لجمال العينين؟ إنه ضعف أعزوه إلى ما في عيني من علة وكلال ... كان «نيتشه» عليلا هزيلا، وكان ذات يوم واقفا ليشهد صفوف الجند تضرب الأرض بأقدام قوية، وتهز الأذرع هزا عنيفا، وتبرز بصدورها بروز الشباب الفتي المتحدي، فأوحى له هذا المنظر بما أوحى، وراح منذ تلك الساعة يتغنى «بالإنسان الأعلى» ويحلم بيوم يزول فيه الضعف لتملأ مكانه قوة وفتوة، وكان ذلك كله حسرة على ضعفه وهزاله ... أفيكون عجبا مني أن أنظر إلى العينين أول ما أنظر، وأن يأتيني من العينين أول الفتنة؟ فما بالك والعينان قاتلتان فاتكتان تستحلان سفك الدماء في الأشهر الحرام؟

ولقد اعتادت صديقتي الثائرة ذات العينين الساحرتين - إذا ما أرادت أمرا - أن تنظر إلي بعينها هنيهة وهي باسمة صامتة، ثم تلقي أمرها، فإذا هو بين جنبي الحافز الذي لا تسكن غمزاته حتى يكون لها ما أمرت به ... وقد التقينا منذ حين فسألتني:

لماذا أغمدت القلم في غطائه أشهرا طوالا، ورقدت رقدة أهل الكهف أو شبهها؟ لقد تغير وجه الدنيا ودالت دولة وقامت دولة ...

قلت: وماذا تريدين؟

فنظرت إلي بعينيها الواسعتين لحظة، ثم قالت: اكتب، اكتب في نقلة الناس من حال إلى حال. فمضيت عنها، لا أدري كيف أهمل أمرها ولا كيف أنفذه، وعدت إلى مكتبي أقلب الصفحات لعلها تلهمني بما أقول، أو أستلقي على الفراش متفكرا متأملا، لكنك تعلم كيف تكون الحال حين يجف مداد القلم وينضب منه المعين، فتأمل عندئذ ما شئت، وفكر ما حلا لك التفكير، فلن تنبت الأرض الجدباء شيئا إلا الحسك اليابس هنا وهناك.

قلت لنفسي: أخرج إلى الطبيعة النقية الفسيحة، فإلا يكن لك منها وحي فعافية، وكان الوقت أول المساء، وكان القمر قد أوشك على الاكتمال، وكان الجو طريا رخيا لا برد فيه، فقصدت إلى حضن الهرم الكبير، وهنالك جلست وحدي على صخرة عاتية، أنظر إلى الفضاء الذي غمره الضوء الفضي، وإلى المدينة العظيمة الواسعة وقد لمعت مصابيحها التي تقاربت مع المسافة البعيدة، حتى اختلطت كلها في سحابة خفيفة من الوهج الأصفر، ليس السكون شاملا، فأقدام هنالك أخذت تطقطق على الحصى آنا بعد آن، وأصوات يعلو صداها على سفح الهرم، قد حسبها أصحابها همسا خفيا فإذا هي موجات عريضة متتابعة من الصوت يصطدم بالصخر كما تصطدم أمواج البحر على رمال الشاطئ في ليلة ساكنة الريح، ثم نق خفيف يقال لي عنه إنه فعل الصراصير، وخيل إلي أن بعضه قريب مني، فنظرت إلى موقع الصخرة من الأرض، فلم أجد صرصورا بل وجدت عنكبا في خيوطه المنسوجة هادئا كأنما أسكره ضوء القمر.

دنوت أتأمل نسيج العنكبوت بخيوطه الرفيعة الواهية ... واهية؟! سل الذبابة المسكينة التي تتعثر أقدامها في تلك الخيوط أواهية هي؟ وهل كنت أستطيع أن أتصور حينئذ الفريسة إذا ما وقعت في تلك الحبائل «الواهية» دون أن أتذكر موقفي إزاء الخيوط النورانية الرفيعة الدقيقة السيالة التي تنبعث لي من عيني صديقي، فتوثقني كأنها أغلظ السلاسل التي صنعت من أصلب الحديد؟!

لقد نسجت العنكبوت خيوطها «الواهية» هذه في شكل هندسي بديع لتحيا، وأقام «خوفو» هذا الهرم الضخم الأشم ليموت! فأيهما أحكم يا أيها الإنسان المغرور!

وعدت إلى جلستي فوق الصخرة الكبيرة، وشخصت ببصري إلى القمر، فامتلأت عيني بخيال عجيب، حاولت عبثا أن أصرفه عني فلم ينصرف، وظل ماثلا أمامي يحجب الواقع عني حتى صار هو الواقع الذي عشت فيه ما جلست على تلك الصخرة العاتية في حضن الهرم ... رأيت القمر عنكبا ضخما قد تدلت منه وأحاطت به شبكة من خيوط رفيعة دقيقة اتسعت وانتشرت حتى ملأت كل أرجاء الفضاء، وعلى الخيوط الممتدة هنا وهناك رأيت ذبابا يمسك بتلك الخيوط صاعدا عليها في طريقه إلى العنكبوت الضخمة الرابضة في قمة السماء، والذباب الصاعد متفاوت السرعة، فهذه تصعد في سرعة كأنما هي تنزلق هابطة على سطح أملس وهذه مبطئة، وتلك متعثرة تتقدم حينا وتتأخر حينا ... وكثيرا ما تلتقي ذبابتان في طريق واحد، ولا يكيفهما الخيط الواحد أن يصعدا معا جنبا إلى جنب، فتتشابكان بالأطراف، وتظل كل منهما تدفع الأخرى إلى أسفل، هذه تنقلب على ظهرها مرة ثم تستقيم على أرجلها لتسرع الخطى حتى تلحق بزميلتها التي ظنت أن قد خلا لها طريق الصعود، وما تكاد تمسك بأطرافها الخلفية حتى تشدها شدة عنيفة توشك أن توقعها في الفضاء لولا مهارة تسعفها فتتعلق بذراعيها وتتأرجح بجسمها في الهواء، محاولة أن تثني بدنها إلى أعلى رافعة أرجلها الخلفية حتى تمسك بالخيط من جديد وتأخذ في الصعود مرة أخرى.

الذباب كله صاعد على خيوط العنكبوت، إن صعوده هذا يكلفه الجهد والمشقة والعناء، لكنه مرح فرح بصعوده، ليس في ذلك من شك، إنه مرح واضح في الذبابة التي تسللت من الزحمة الكثيفة عند أوائل الخيوط السفلى، فانفسح الطريق أمامها وحدها، ولم يعد بينها وبين العنكبوت حائل، وهو مرح واضح كذلك في هذا الذباب المتقاتل المتعارك حين يضيق به الطريق، وتريد كل واحدة أن يكون طريق الصعود لها قبل زميلاتها.

أنظر إلى الخيوط عند أطرافها السفلى، حيث أقلها يمس الأرض وأكثرها يرتفع عنها قليلا، من أين جاءت هذه الألوف المؤلفة من الذباب المحتشد المتزاحم؟! لقد كان الهواء صافيا نقيا عند أول قدومي إلى هذا المكان؟ أأكون يا رباه في حلم عجيب، أم إني في عالم مسحور؟ أم أنا كما أنا واع يقظان؟ هأنذا ألمس الصخرة بأصابعي، وأخبط الأرض بقدمي، هذا هو الهرم كما ألفته وعرفته، وهذه هي القاهرة العظيمة بأضواء مصابيحها كما رأيتها عندما استويت على الصخرة أول مرة! ألا أن العين إذا توهمت فاللمس لا وهم فيه كما قال شكسبير على لسان ماكبث وهو يتلمس الخنجر ... كلا، فإني في وعي ويقظة بشهادة الحواس كلها، وهذه الألوف المؤلفة من الذباب المزدحم المحتشد عند أطراف الخيوط السفلى، حقيقة واقعة لا شك فيها، وهذه الشبكة التي تملأ أرجاء الفضاء حقيقة لا شك فيها، والعنكبوت الرابض في قمة السماء ناشرا أطرافه المخيفة حقيقة لا شك فيها ...

لكن الألوف المتزاحمة من الذباب ساعية إلى الصعود، ولما كانت الزحمة شديدة كثيفة، كان يستحيل على ذبابة أن تمسك بأول الخيط - إن كان طرفه مرفوعا عن الأرض لا يمسها - إلا إذا صعدت على أكداس من الذباب الساقط، فانظر نحو أطراف الخيوط السفلى تجد عجبا، إنه قتال لا ينقضي بين الذباب، والذبابة الظافرة هي التي عرفت كيف تصرع كذا مائة أو كذا ألفا من الزميلات، لتتخذ من أجسادها سلما ترتفع به إلى أول الخيط؟ فلو قد أمسكت بطرف الخيط، زالت من أمامها أعقد الحوائل وأعسر العقبات، ولا يبقى بعد ذلك إلا ذبابات قليلات يعترضنها في بعض الطريق ...

إنه طريق إلى العنكبوت الرابض هنالك في قمة السماء، يلتهم ما تتناوله أطرافه الممتدة من الذباب الصاعد، لكن الطريق قد زين في أعين الذباب حتى بدا لها كأنه طريق المجد الذي لا طريق إلى مجد سواه.

أمعنت النظر في المعركة الدائرة بين الذباب عند أطراف الخيوط السفلى، فأخذني دوار خفيف حين امتلأت أذني بطنينها الممل القبيح، فأغمضت عيني بكفي وأدرت رأسي إلى أعلى حتى يخف هذا الطنين البشع القبيح، فارتسمت أمام عقلي صورة واضحة، أجهدت نفسي بعدئذ لعلني أتذكر أين رأيتها، حتى أدركت أنها صورة رسمها شاعر في قصيدة كنت قرأتها منذ حين بعيد.

هي صورة امرأة تعيش في كهف صخري معزولة عن الناس، فكانت تشعل لنفسها نارا وتجلس أمامها مستدفئة وهي تغزل غزلها الرفيع الدقيق الذي يشبه خيوط العنكبوت، إنها امرأة عجيبة ولعلها أن تكون ساحرة لأن لها وجه الفتاة الشابة وشعر العجوز الأشيب، وذات مساء طرق بابها زائر غريب، فحيته بابتسامة ومضت في غزلها، وراحت تغني وهي تغزل، فيلمع الخيط في وهج النار كأنه سلك الذهب، ولولا لمعة الضوء على الخيط لما رأته عينا بشر لأنه رفيع دقيق يشبه خيوط العنكبوت، وجلس الشاب الغريب يرقب الخيط، ورأت فيه المرأة الساحرة نظرة المتعجب المشدوه، فطلبت إليه أن يلفه حول يديه قائلة إنه خيط ضئيل دقيق رفيع، لكنه قوي شديد، وشخصت المرأة بعينيها الزرقاوين البراقتين إلى الشاب الغريب وابتسمت له ابتسامة رقيقة لم يلحظ فيها شرا، وتناول الخيط منها وأخذ يلفه حول يديه، ثم ضحكت المرأة الساحرة ضحكة شيطانية فزع لها الشاب الغريب، وحاول أن يفك الخيط عن يديه، لكن هيهات؛ لأن الخيط قد نسجته يدان سحريتان ... وعندئذ قامت المرأة فانتزعت من الشاب خصلة من شعره الفاحم، وقذفت بها في النار، وصاحت والشعر يحترق:

أختاه! أختاه! اسمعي صيحتي!

أختاه! أختاه! تعالي واشمتي!

لقد وقع الشاب في خيطي الرفيع أسيرا.

ورفعت كفي عن عيني، فإذا السماء صافية رائقة، وإذا القمر ضاحك باسم، ينقش نوره الفضي في أحجار الهرم، فأخذني فزع ونشوة في آن معا: فزع لما أوغلت فيه من عالم مسحور، ونشوة لأني قد وجدت شيئا أكتبه قضاء لما أمرت به الصديقة الفاتنة.

وعدت مسرعا إلى داري، وما أويت إلى مخدعي إلا بعد أن وصفت كل الذي رأيت، وحملت الوصف مكتوبا إلى صديقتي في صبيحة اليوم التالي، مغتبطا لما عساني واجد عندها من إعجاب عودتني إياه كلما كتبت لها شيئا.

لكني ما كدت أفرغ من قراءة ما كتبت، حتى ضحكت فيما يشبه ضحك الساحرة قائلا: ما هذا يا رجل؟ إن حديث العنكبوت والذباب قد سمعته منك منذ زمن طويل، أما يكون عندك من جديد؟

فقلت لها وأنا في ربكة شديدة من الخجل: أقسم لك بسحر عينيك، إني لا أذكر من القصة القديمة شيئا، وأن هذا الذي أرويه قد شهدته مساء الأمس رؤية العين.

فقطبت ما بين عينيها وقالت في صوت حالم: ماذا؟ أيكون الجديد قديما؟ أم أني أنا الأخرى مثلك قد نسيت؟!

الكراهية الصامتة

عجيبة هذه الكراهية التي قد يحملها الناس أحيانا بعضهم لبعض بغير سبب ظاهر معقول؛ فترى رجلا وقد اتخذ موقف الكراهية والمعارضة من رجل آخر، مع أنهما بعد لم تصلهما صلة من حديث أو عمل، لكنه يحس من نفسه استعدادا لرفض ما عسى أن يقوله هذا الآخر قبل أن يقوله؛ لأن رفضه في الواقع منصب على شخصه، فإذا رأيته معارضا لأقواله مفندا لآرائه، فإنما جاء ذلك عن كراهية لاحقة لكراهية سابقة، إنه قد بدأ برفضه للشخص ذاته ثم عقب على ذلك برفضه لأقواله وآرائه كائنة ما كانت، فإن قال هذا عن شيء إنه أبيض رأى هو أنه أسود، أو قال هذا عن شيء إنه أسود، رأى هو أنه أبيض، لا إخلاصا في التعبير عما يراه حقا وصدقا ، بل رغبة في نبذ هذا الشخص الكريه بكل ما ينطق به من نبأ أو حديث.

وكثيرا ما تكون هذه هي نفسها العلاقة بين جماعة وجماعة أو بين جيل وجيل، فترى الكراهية بينهما صامتة قائمة متحفزة متأهبة تتحين الفرص والظروف، حتى إذا ما سنحت لإحداها اللحظة المواتية نفثت سمومها على الخصيمة الكريهة دفعة واحدة، كأنه سيل حبيس وجد الثغرة فاندفق. إنك لتعجب أحيانا كيف تكفي الحادثة التافهة لإثارة حرب طاحنة بين شعبين، أو لإعلان خصومة حادة بين أسرتين، والواقع أن قد كانت الكراهية بين الجماعتين قائمة وإن تكن صامتة، ثم سنحت فرصة إعلانها، كأنها المرض الخبيث المزمن، يكمن حينا حتى ليظن بصاحبه الشفاء، فإذا لفحة خفيفة من البرد تثير كوامنه وتشعل خوامده.

وبين أبناء الجيلين المتعاقبين تقوم مثل هذه الكراهية الصامتة العجيبة، فأبناء الجيل المقبل - في أغلب الأحيان - ناقمون ثائرون على أبناء الجيل المدبر، الأبناء لا يعجبهم سلوك لا بدآبائهم، والأدباء لا يرضيهم أدب شيوخهم، والمشتغلون بالسياسة يرون في القادة قوة رجعية لا بد من زوالها، وكذلك آباء الجيل المدبر في أغلب الأحيان مستخفون بأولئك الصغار الناشئين، حتى ليكاد يستحيل عليهم أن يتصوروا أن من هؤلاء المقبلين أحدا هيأه الله لملء فراغهم، فلا الوالدون يرون في أبنائهم ما عهدوه في أنفسهم من متين الخلق وحميد الخصال، ولا الأدباء يلمسون في أدب الناشئين شيئا ذا غناء وبال، ولا قادة السياسة يطمئنون إلى أن هذا الشباب الغر قادر على تسيير السفينة بمثل ما سيروها. الجيل المقبل والجيل المدبر، كلاهما ينظر إلى الركب، فإذا هو عند الأول سائر إلى أمام، وإذا هو عند الثاني منزلق إلى وراء ... وهكذا ترى ثورة أولئك على هؤلاء، واستخفاف هؤلاء بأولئك، مظهرين للكراهية الصامتة القائمة بينهما؛ الكراهية التي ترفض القول نتيجة لرفض قائله، ولا تنتظر حتى تسمع ما يقوله القائل قبل أن تنتهي إلى رفض أو قبول.

هكذا قد تكره شخصا من الناس ولا تدري لماذا، أو لعلك تستطيع أن تدري لو أخذت في تحليل الموقف على نحو ما يفعل علماء التحليل النفسي في أمثال هذه الحالات، فهم يزعمون أن للكراهية سببا قد طمرته الأحداث فاختفى عن العين السطحية العابرة، لكنه لا يخفى على العين الفاحصة التي تنبش حتى تزيح عن العقدة الدفينة ركام الحوادث، فتخرجها إلى ضوء الشمس من جديد.

وإلا فقل لي بربك ماذا ترى بيني وبين هذه البائعة الصغيرة لأوراق النصيب؟ إنها بنت في نحو العاشرة من عمرها، كثيرا ما تطوف بأوراقها مشارب القاهرة، أراها مقبلة فكأنما رأيت الحية الخبيثة تسعى، وأسمعها تنطق فكأن الصوت هو الفحيح الذي تقشعر له الجلود، إنها في أغلب الحالات تجيء مصبوغة الشعر في أصفر فاقع لا يلائم وجهها، وقد ألبسها ذووها ثوبا ذا بريق عجيب، شقوه لها - في أرجح الظن - من ستار نافذة قديم، وعلى قدميها حذاء أبيض خفيف، والوجه بين هذه البقع اللامعة مطل وقد علته غلالة من قذارة لاصقة ببشرته ... يا إلهي من هذه البنت الصغيرة حين تقبل ناظرة بعينيها الضئيلتين من ذلك الوجه الكريه! إذا رأيتها أشحت بوجهي أو أسرعت إلى صحيفة أو كتاب أدس فيه عيني فلا أراها، وكثيرا ما ناديت أقرب خادم لأصب عليه انفعال غضبي أن أذنوا لها بالدخول في مثل هذا المكان، فتتخلل صفوف موائده، ولا ترحم حتى هذا الركن الهادئ البعيد الذي أحب عادة أن أختبئ في ظلامه ... إنها مسكينة تسعى إلى رزقها، وأنا أعلم ذلك، لكني أعلم ذلك بعقلي، أما شعوري الذي لا حيلة لي فيه فهو شعور الكراهية الشديدة التي يستحيل أن أجد لها سببا ظاهرا معقولا، اللهم إلا أن يكون السبب هو هذا الذوق البشع الفظيع في طريقة لفها وطليها، لتبدو - في ظن من لفها وطلاها - «للذوات» بنتا من «الذوات» أخنى الدهر على أهلها فترحم قلوبهم، وليتني ألتقي بذويها يوما؛ لأنبئهم أن أرحم القلوب قمين أن ينقلب جلمودا من الصخر لهذه الكتلة المتحركة من الكذب والزيف.

إنها الكراهية الصامتة القائمة بين الناس أفرادا وجماعات، وليقل في تحليلها وتعليلها أصحاب البحوث النفسية ما شاءوا من أسباب دفينة خبيئة؛ لأن ذلك لا يغير من الأمر شيئا، فلا يزال الأمر الواقع هو أنك قد تحمل لهذا أو لذاك كراهية لغير ما سبب ظاهر، فتوحي لك الكراهية أن تتخذ الأهبة لرفض ما يقوله الكريه قبل أن ينطق به، وإلى جانب هذه الكراهية التي تحملها لبعض الناس، حب تحمله لبعضهم الآخر، يميل بك إلى قبولهم وقبول كلامهم وآرائهم، كأنها في أذنك النغم الجميل، وعلى ذوقك العسل المصفى.

فكأنما تسير بين الناس وفي جعبتك عدة شعورية تقابل بها ما يقولونه وما يفعلونه بالقبول أو بالرفض، لا لأنها مقبولة لذاتها أو مرفوضة لذاتها، بل لأنك تكره هنا وتحب هناك. إن من أقوى اللمحات الفكرية التي قرأتها، لمحة لنيتشه، يقول فيها: إن منطق الناس لا يسير من المبررات العقلية إلى إرادة أداء الأفعال التي تترتب عليها، بل يسير على عكس ذلك من إرادة أداء أفعال معينة يشتهيها الفاعل بعاطفته، ثم يبحث لها بعد ذلك عن مبرراتها العقلية، أي أنك لا تقول: إن عقلي يرى الصواب من الأمر كذا وكذا ولذلك فإني فاعل كيت وكيت، بل تقول: إني فاعل كيت وكيت ولذلك فإن عقلي سيجد له من المبررات كذا وكذا.

العاطفة من حب وكراهية تأتي عند الناس أولا، ثم يأتي بعد ذلك قبول الآراء ورفضها في ظل تلك العاطفة، وقد تخف هذه العدة الشعورية عند فرد حتى لا تبدو آثارها إلا لماما وفي لمسات رقيقة، لكنها قد تشتد عند فرد آخر فتصبح عاطفة جارفة كعاطفة العاشق الولهان أو الوطني المتحمس أو صاحب العقيدة الذي ملأه الهوس نحو عقيدته؛ وعندئذ تعمى العيون وتصم الآذان، فلا يرى صاحب العاطفة ولا يسمع إلا ما يغذي فيه عاطفته تلك، فعين الرضى - كما يقول الشاعر - عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا.

الملائكة في عين الكاره أبالسة وشياطين، وعبثا تحاول إقناع الكاره بتغيير رأيه فيمن يكره، إلا إذا انتزعت أولا منظاره الأسود من فوق عينيه، أما أن يظل منظاره ذاك أمام عينيه، ثم تحاول بعد ذلك أن تريه بياض الأشياء ونقاءها وطهرها، فأنت عندئذ كمن يحاول أن يضع النقيضين معا، والظاهر أن الجماعات الإنسانية قد أدركت ذلك منذ زمن بعيد، فعولت عليه في تربيتها لأفرادها، فالجماعة المعينة تريد لأبنائها أن يحبوا شيئا ويكرهوا شيئا، فحسبها أن تلبسهم مناظير فوق أنوفهم باللون الذي تريد لهم أن يروه، وهي بعد ذلك على يقين من أنهم سيساقون لمشيئتها سوق الأغنام للراعي.

ولعلك تلاحظ هنا أن الإنسان لا يرى زجاج منظاره، وإن يكن ينظر خلاله إلى كل شيء عداه، ومن ثم لا يدرك المتعصب أنه متعصب، لا يدرك أبدا إلا إذا جاءته رحمة الله فخلع منظاره الملون عن عينيه. فتعدد الآراء في الشيء الواحد هو في الحقيقة اختلاف في ألوان المناظير، لا في الشيء ذاته، ولا في العيون التي تستطيع أن ترى الشيء على حقيقته لو مكن لها أن تراه مباشرة وبغير منظار.

قد أنظر إلى الجماعة من الأصدقاء، وقد أستمع إليهم يديرون المحاورة حول موضوع، فيقول الواحد منهم رأيا ليدحضه صديقه، فأهمس لنفسي عندئذ: ترى كم بين هؤلاء الأصدقاء من كراهية صامتة لا تعلن عن نفسها؟ إن الحب محمود عند الناس؛ ولذلك فهم يسرعون إلى إعلانه إن كان بينهم منه شيء كثير أو قليل، أما الكراهية فمرذولة ممقوتة؛ ولذلك فهي مضطرة إلى التستر في صمت وراء أقنعة الرياء، نعم أسأل نفسي عندما تجلس جماعة الأصدقاء في حديثها يدحض بعضهم آراء بعض: ترى إلى أي حد صدر الرافض للرأي عن صدق مخلص، وإلى أي حد صدر عن كراهيته المكنونة في صدره، التي يحرص على إخفائها حرص تاجر المخدر على إخفاء بضاعته؟

وإنما جاءتني هذه المقارنة بين الخبيئين؛ لأن كليهما قد يثري صاحبه من وراء الستار، ولست أدري كم جمعت تجارة المخدر لأصحابها من ثراء، لكني أستطيع أن أدلك على طرف يسير مما جاءت به الكراهية الدفينة على الكارهين من ربح نفسي موفور! فبمقدار كراهيتك للناس والأشياء والأوضاع من حولك، تكون مقاومتك لها ومحاربتك إياها، ثم بمقدار هذه المقاومة والمحاربة يكون التقدم بالحياة من حال إلى حال: كره الناس حكامهم الطغاة فقاتلوهم حتى ظفروا بحريتهم من سياط طغيانهم، وكره الفقراء أن يتمتع الأغنياء بكل شيء من دونهم فطالبوا بالإصلاح حتى رأينا الضرائب تجبى بكثرة على الأغنياء ليعيش الفقراء ... فهذه وأمثالها كراهيات منتجة، لكنها أنتجت حين أعلنت عن نفسها، ولو لبثت على صمتها كامنة في النفوس لظلت على عقمها.

آه لو شقت الصدور وفتحت القلوب، لترى كم اختبأ فيها من عناقيد الحصرم المر - حصرم الكراهية التي يحملها الناس بعضهم لبعض، ثم لا يكشفون! ورحمك الله يا «فرويد» حين وضعت أصابع الناس على حقيقة هالتهم وأفزعتهم، وهي هذا العداء المستحكم بين الابن وأبيه منذ الطفولة، ولو أدرك الآباء هذه الحقيقة على هولها كله، لساسوا أبناءهم بما يخفف حدة هذه الطبيعة البشعة بدل أن يزيدوا النار لهبا وسعيرا ... هل تصدق أن هذه البسمات التي يتبادلها الزوجان لا تخفي وراءها كراهية وضيقا؟ هل تصدق أن هذا الود يتقارضه الصديقان لا يطوي في أحشائه غلا وحسدا؟ ... إنه البشر وإنها طبيعته.

وما كل طبيعي مقبول، فالطبيعي لماء النيل أن يأتي ممزوجا بالطين، لكننا ننقيه ونصفيه في المواسير والصنابير قبل شربه، والطبيعي للطرقات أن تكون رمالا وأحجارا، لكننا نمهدها ونرصفها ليسهل السير فيها ... فإن كان من الطبيعي للبشر أن تعكر الكراهية قلوب الناس ونفوسهم، فلا بد من التنقية والتصفية والتمهيد والرصف حتى يتم التعامل بين إنسان وإنسان.

فلنعلن من الكراهية التي نحملها في صدورنا عما عساه أن ينتج خيرا بإعلانه، كهذه الكراهية التي أعلنتها الشعوب ضد حكامها الطغاة، والتي أعلنها الفقراء على الأغنياء؟ أما ما عدا ذلك فالخير في حبسه في الصدور، حيث تظل الكراهية هناك بين جدرانها صامتة، لا أثر لها ولا خطر، اللهم إلا ضيق الصدور الحابسة وكتمة النفوس الكارهة.

عروس المولد

أرسلت إلي قائلة: «لقد أعجبني كثيرا وصفك للكراهية الصامتة، حتى تمنيت لو استطاع «الحب الصامت» أن يحظى من قلمك بمثل هذه اللفتة ...» وتمنيت بدوري لو استطاع قلمي أن يجيب الصديقة الأديبة إلى طلبها، لكني أحسست في أعماق نفسي بأنني إذا ما أجريت قلمي في هذا الميدان، تعثر وكبا، فلا أكون جديرا منها بإعجاب آخر.

ترى أين عساي أن أوجه النظر، لأبصر بالحب صامتا لا يفصح عن نفسه ولا يبين؟ إن الناس إذا ما أحس أحد لأحد حبا، أسرع إلى إعلانه فرحا فخورا، كأنما وقع في ثنايا الطبيعة الإنسانية على كنز نادر نفيس، إنهم إذا ما أثنى أحد منهم على أحد في غيبته، تمنى لو بلغ هذا الثناء صاحبه؛ لأنه يعلم أن الفطرة البشرية قلما تجود بهذه اللحظات التي يثني فيها إنسان على إنسان، ثناء صادقا مخلصا لا ملق فيه ولا رياء.

أتذكر يوم جاء أبوك إلى غرفتك ساعة الفجر يصلي - فما رأيته مقصرا قط عن أداء الصلاة منذ شببت فوعيت حتى مات - أتذكر وقد أخذ يدعو لك في صوت جهير، وكنت عندئذ مستيقظا في فراشك، لكنك ظللت مغمض العينين؟ أتذكره وهو ينبئك على مائدة الإفطار كيف دعا لك وبماذا دعا؟ فلما قلت له إنك قد سمعت دعاءه؛ لأنك كنت بين اليقظة والنعاس، تهلل وجهه وانتشى نشوة لم تفارقه طيلة يومه؟ إنه والد أحب ولده حبا خالصا، لكنه لم يطق أن يظل حبه خبيئا صامتا؛ وانظر - إن شئت - كيف يفرح الآباء إذا ما جاءوا لصغارهم بالحلوى، انظر كيف يفرحون فرحة مضاعفة إذا كانت الأمهات على مرأى منهم أو مسمع! إن الوالد حين يعطي صغاره الحلوى، إنما يعطي أبناءه الذين يمحضهم الحب نقيا خالصا لوجه الله، لا شبهة فيه ولا شائبة، لكنه مع ذلك يود لو رأت أمهم علائم حبه لهم، لأنه لا يريد للحب أن يمضي خفيا صامتا، غير مرئي ولا مسموع.

كلا، لست أجد المكان الذي أقف فيه لأنظر فأرى الحب صامتا، وإذا فلا يجمل بي أن أجيب الصديقة الأديبة إلى طلبها، فليس المهم أن يكتب الكاتب ليملأ الصفحات، إنما المهم أن يكون صادقا فيما يكتب وليقل بعد ذلك من شاء ما شاء.

إنهم يقولون: إن الأدب خيال، وإنهم لصادقون، فلماذا لا تنسج بخيالك نسيجا ترضي به الأديبة فيما طلبت، وترضي به غرور الناس في آن معا، حين تنبئهم بأن قلوبهم مفعمة بالحب، بعض إزاء بعض؟ ماذا عليك أن تتخيل زيدا وقد أحب عمرا حبا لم يعلنه بإشارة أو عبارة؟ ... لا، إن خيال الأديب ليس معناه أن يطير في الهواء بلا جناح، والجناح الذي يطير به هو الواقع الذي يلمسه ويراه.

إن «سرفانتيز» لم ينظر بعينيه إلى فارس بين من رأى من الفرسان، اسمه «دون كيشوت» فرآه يصنع لنفسه خوذة من ورق، ثم يضرب الخوذة بسيفه فتمزقها ضربة السيف، فيعود إلى صنع خوذة أخرى من الورق، ويأبى هذه المرة أن يضربها بسيفه خشية أن يمزقها، حتى يظل رافلا في خياله الجميل، بأنه - كسائر الفرسان - يغطي رأسه بخوذة تحميه من ضربات الأعداء إذا ما التقى بالأعداء في قتال ... إن «سرفانتيز» لم ير شيئا من هذا رأي العين، لكنه خلقه بخياله، وكان معنى الخيال هنا أن العين يجوز أن ترى أشباهه في الحياة الواقعة، ولا أحسبنا - نحن المصريين - بحاجة إلى غوص عميق في لجة الحياة الواقعة لنستخرج منها أمثلة شبيهة بهذا الذي وقى رأسه بخوذة من الورق، موهما نفسه بأنه قد أصبح كسائر الناس الذين يضعون الخوذات الصلبة فوق رءوسهم لتحميها.

ولم يكن «لير» ملكا حقيقيا من أصحاب العروش الذين عرفهم التاريخ وسجلهم في كتابه، بل خلقه شكسبير بخياله ليصور ما يمكن أن تكون عليه حالة الوالد إذا ما قسم ملكه بين أبنائه أو بناته قبل موته، معتمدا على حب الولد لوالده؛ فهذا «لير» قد قسم ملكه بين ابنتين من بناته الثلاث، حتى إذا ما طرق باب الواحدة منهما بعد ذلك ليعيش في كنفها، ضاقت به أولا، ثم نهرته ثانيا، ثم طردته ثالثا، فراح المسكين - من هول الصدمة - في الأرض العراء يهذي، وما لبث هذيانه أن أصبح جنونا صريحا ... إن شكسبير لم ير ذلك بعينيه، لكنه خلقه بخياله خلقا، وكان معنى الخيال هنا أيضا أن العين يجوز أن ترى أشباهه في أي زمان أو مكان.

فلئن كان الأدب خيالا، فهو هذا الخيال الذي يستمد من الواقع جناحه، فلا بد لي - إذا - قبل أن أكتب في «الحب الصامت» أن أراه ...

يا لسعدي! وقلما شاءت لي الأيام سعدا! لقد وقعت عيناي ليلة المولد على مثل عجيب من الحب الصامت، وإذا فسأكتب للصديقة الأديبة ما أرادت!

هذا صبي في العاشرة وقف أمام بائع العرائس - عرائس المولد - وقفة تفيض بالمعاني، وقف على بعد ثلاثة أمتار أو نحوها، مثبتا ناظريه في عروس كبيرة، والأعجب من هذا أن راحت العروس «الحلوة» بدورها تنظر إليه لا تزيح عنه البصر! ... والله لن أمضي في طريقي حتى أتبين حقيقة هذا الغزل النادر، إن الصبي ينظر إلى معشوقته وعلى فمه ابتسامة خفيفة كلها هيام، والأعجب من ذلك أن راحت العروس «الحلوة» بدورها تبتسم له في حنان ظاهر! من ذا يرتاب في أن العروس قد وقفت هنالك على شرفتها العالية من دكان البائع تصوب نحو الصبي نظراتها وتبعث إليه ابتسامتها؟ ألا إنهما عاشقان صامتان، لولا أن حبه هو قد كان ممتزجا باشتهاء الحبيبة، وأما حبها هي فصادر منها عن عطف وإشفاق، ترى شهوته في عينيه ولعاب شفتيه، ويرى عطفها في ابتسامتها ...

لكن أوجه الخلاف بين العاشقين الصامتين بعد ذلك فسيحة المدى، إنه صبي فقير وقف هناك في هلاهيله رغم البرد الشديد، وقف مرتعش الأطراف تريد عضلاته الصغيرة أن يزحم بعضها بعضا ليدفئ بعضها بعضا! ورأيته يرفع إحدى قدميه فيقف بها على أطراف أصابعها، ونظرت إلى القدم المرفوعة فإذا آثار جرح كبير في عقبها، تعرفه جرحا بحواشيه القرمزية المنتفخة، وأما فجوة الجرح نفسه فقد ملئت بالطين الجاف، كأنه بركان ثار وأرسل الحمم ثم خمد مؤقتا ليثور من جديد بعد حين. لكن الصبي الولهان ظل واقفا هنالك يرتعش ويرقب معشوقته المشتهاة في شرفتها العالية، إنها بادية الثراء، لبست ثوبا نظيفا جديدا لامعا، عليه «الترتر» اللامع الساطع.

شعر الصبي ملبد فوق رأسه خشن بأوساخه غليظ، وشعر العروس ممشط ناعم مرسل، وجسد الصبي ملطع ببقع بيضاء من ملح، وجسد العروس كله في حلاوة السكر وأشهى، شتان ما كان من فرق بين العاشق الفقير ومعشوقته الثرية: إنه بقعة سوداء في محيط لامع من الأضواء المختلفة الألوان والبريق، كان المكان كله يتوهج بالنور ليلة المولد، وكان الهواء كتلة من الصوت، فاختلط الصوت بالضوء اختلاطا يكاد يخيل لك معه أنك ترى الضوء بأذنيك وتسمع الصوت بعينيك - إلا هذا الصبي العاشق الولهان، فقد وقف وسط الضوء اللامع بقعة سوداء من فقر، ووقف وسط الصوت المدوي قطعة ساكنة من ذل، ترتعش أطرافه من برد ديسمبر، وترتفع قدمه الجريحة تخفيفا للألم، وذراعاه ضاغطتان على بطنه، إما طلبا لدفء أو دفعا لجوع، وقف هنالك بقعة سوداء ساكنة، رافعا رأسه قليلا إلى أعلى، شاخصا ببصره إلى عروسه لا يتحول عنها يمينا أو يسارا ولا يتقدم خطوة ولا يتأخر.

فأين ذلك كله من عروسه اللامعة من محيطها اللامع، المزدانة في اتساق مع ما حولها من زينة؟ إنها وقفت هنالك تنظر إليه وتبتسم، لماذا لا تنزل الدرج ساعية إليه؟ إن الفقير والغنية إذا تحابا، كان على الطبيعة أن تغير مجراها، فتخطب الأنثى ود الذكر؛ لأن الذكر هنا عاجز مهيض الجناح منتوف الريش! لقد كان محالا على الصبي أن يتصور أن عروسه تلك المزدانة، قد وقفت هنالك في بهرجها، أمة رقيقة معروضة في السوق للبيع، ولا تتحرك إلا بإذن صاحبها الذي يتقدم لشرائها، كان محالا أن يطوف بباله أن هذه «الحلاوة» كلها تباع بمال، وأكثر من ذلك استحالة على تصوره أن يكون بين الناس من يملك المال الذي يستطيع به الشراء!

كيف كان يمكن لصبي في فقره وخبرته أن يتصور أن عروسه تلك مما يؤكل؟ كيف يأكلها آكلوها؟ هل يبدءون بالرأس أم يبدءون بالقدم؟ وهذا الشعر المنساب الناعم على رأسها، وهذا الثوب المزخرف الجميل اللامع ...

طاخ! نزلت صفعة الشرطي على الصبي إذ هو شاخص ببصره إلى عروسه يحلم، والشرطي معذور؛ لأنه مطالب بحفظ النظام، وليس من النظام في شيء أن يشتهي مثل هذا الصبي مثل تلك العروس، إن في ذلك خلطا كريها لطبقات الأمة غنيها وفقيرها، وقد كان العشق منذ أقدم العصور مقيدا بقيود الطبقات، فلا يكون عاشق من طبقة ومعشوقه من أخرى ... طاخ! صدمت ركلة الشرطي قدم الصبي الجريحة، فجرى المسكين صارخا من الألم في صوت يشبه عواء الكلب الجريح، وظل يحجل على قدم واحدة وهو يصيح، حتى أوى إلى فجوة باب مغلق خلف حظيرة الحلوى التي عرضت فيها عروسه، وجلس هناك في الظلام باكيا، يهز جذعه إلى خلف وإلى أمام، ممسكا بقدمه الجريحة بين كفيه.

ونظرت إلى الصبي في ظلامه نظرة أخيرة، ثم نظرت إلى عروسه في زينتها وضوئها؟ نظرت إليهما بعد أن فرق قانون الدولة بينهما إلى الأبد، فإلى الأبد سيظل حب الصبي لحبيبته مكتوما في قلبه، وسيظل حب العروس لفتاها حبا صامتا، لكن ابتسامة الصبي قد حولها قانون الدولة بكاء وأسالها على وجه البائس دموعا، وأما ابتسامة العروس فستبقى ابتسامة، وإن تبدل معناها من عطف إلى سخرية، ستبقى لها ابتسامتها لأنها في السوق لا تباع بغير ابتسامة.

ومضيت في طريقي وأنا أحمل بين جنبي قلبا من حجر، وهل أدعي غير ذلك ما دمت قد رأيت وسمعت، ثم مضيت في طريقي؟ وما هو إلا أن رأيت قوما تحلقوا يذكرون الله في ورع وتقوى، فهل كان يسعني عندئذ إلا أن أتذكر «فيفيكا ناندا» - من رسل الإصلاح الديني في الهند - إذ يقول: «أسمى الحقائق هي هذه: الله كائن في الأشياء كلها، إنها صوره الكثيرة ... إننا نريد عقيدة دينية تعمل على تكوين الإنسان ... اطرح هذه التصوفات المنهكة للقوى وكن قويا ... ولنمح من صفحات أذهاننا - في الخمسين عاما المقبلة - كل ما عدا ذلك من آلهة، جنسنا البشري هو الإله الوحيد اليقظان، يداه في كل مكان، قدماه في كل مكان، أذناه في كل مكان، إنه يشمل كل شيء ... إن أولى العبادات كلها هي عبادة من حولنا، ليس يعبد الله إلا من يخدم سائر الكائنات جميعا.»

لم يكن يسعني وقد رأيت الذاكرين يذكرون الله بعد رؤيتي لذلك الصبي يتألم ويعوي، بكل ما فيه: بقدمه الجريحة وبطنه الجائع ، وجسمه المرتعش، وقلبه الولهان! لم يكن يسعني وقد رأيت أولئك بعد هذا، إلا أن أذكر قول «فيفيكا ناندا» على نحو ما يتوارد الضدان في الذهن، والحق أني ظللت أذكر ذلك الصبي المتألم الولهان، كلما طالعت الصحف ووجدت قصائد «الشعراء» تترى في ذكرى المولد النبوي الكريم: ترى هل لهؤلاء «الشعراء» قلوب حساسة حقا كما يتوهمون ويوهمون، أم أن قلوبهم - مثل قلبي - قدت من حجر، فيرون أمثال هذا الصبي المسكين ليلة المولد، ثم يمضون إلى مكاتبهم الدافئة ينظمون و«يشعرون»؟!

ولكن مالي الآن ولهذا كله؟ لقد كتبت إلي صديقتي الأديبة متمنية لو استطعت أن أكتب عن «الحب الصامت» كما كتبت عن «الكراهية الصامتة» وتمنيت بدوري لو استطاع قلمي أن يجيب، وحسبت تحقيق أمنيتي هذه - في أول الأمر - محالا لاستحالة أن يكون في العالم حب صامت يقع عليه البصر فيجري به القلم، ثم شاءت لي الأيام سعدا وقلما تشاء، فأطلعتني ليلة المولد النبوي على حب صامت عجيب، سيظل إلى الأبد قائما بين صبي فقير عاشق وعروس من الحلوى.

إلى سادتي الحكام

إلى السادة من أصحاب السلطان في هذا البلد أوجه الحديث ... لكن عفوا سادتي، فما قصدت بهذا إلى الإساءة عامدا، فأنا عالم أتم العلم بأن سادتي لا يقرءون لأصحاب الفكر النظري ما يكتبون، ومن ثم نجاح الأولين وإخفاق الآخرين؛ فهؤلاء قد أوصدوا من دونهم أبواب أبراجهم وقطعوا الأسلاك التي تصلهم بالعالم الخارجي، وعاشوا في عزلة موحشة يقرءون ويكتبون، أما أولئك السادة فقد خرجوا إلى حيث يضطرب الناس وتصطخب الحياة؛ ليحكموا الناس ويمسكوا بزمام الحياة، فليس بهم حاجة إلى كاتب يوجه إليهم حديث النصح والهداية، وحسبهم في باب القراءة ما قد طالعوه أيام الطلب في مدارسهم وكلياتهم في عهد الطفولة والصبا.

لم أقصد يا سادتي إلى الإساءة عامدا، حين زعمت أني أوجه إليكم حديثي هذا، فلست جادا في استعمال هذه الكلمات، وإنما الأمر كله أحلام وأوهام، فالخيال والغرور كلاهما يصوران لي أحيانا أني أكتب لقارئ، ثم سرعان ما يوغل بي الخيال ويشتط الغرور حتى أتوهم أن هذا القارئ قد يكون من أصحاب السلطان، فأخاطبه كأنما أخاطب رجلا سميعا بصيرا من لحم ودم، والأمر كله لا يعدو تخليط واهم وأضغاث حالم، وكما يقول «جولد سميث»: إذا كانت أحلام الحالم لا تضر الناس فاتركوه يحلم كيف شاء.

أردت أن أقول يا سادتي: إني كنت أقرأ لأفلاطون قراءات مبعثرة هنا وهناك، فاستوقف نظري حرص شديد من ذلك الشيخ القديم على أن ينبه قارئه على مر الأجيال إلى علاقة قوية شديدة بين الخير والجمال، فقد أخذ يكرر في مواضع كثيرة أن الخير والجميل شيء واحد ... وفكرت لنفسي: ترى ماذا يعني كبير الفلاسفة اليونان بقوله هذا؟ وانتهيت إلى تحليل أرضاني، تترتب عليه نتيجة هي التي أردت أن أسوقها إلى سادتي الحكام في هذا البلد، وهي أن كل ما في هذا البلد المسكين قبيح ذميم بفعل هؤلاء السادة أنفسهم، وعجبت أن يعنى السادة بالجمال في مساكنهم الخاصة وفي ملابسهم ومآكلهم وشتى جوانب حياتهم الشخصية، ثم لا تمتد هذه العناية قليلا لتشمل شئون الشعب الذي ألقى إلى أيديهم بزمامه ...

فماذا يعني فيلسوفنا بأن الخير هو نفسه الجمال؟ سأقص على القارئ خواطري كما وردت حين أردت توضيح الفكرة لنفسي. قلت: اختر لنفسك مثلا أو مثلين مما يستحيل أن يختلف الناس في أنه خير، فالصحة خير من المرض بغير شك، والغنى خير من الفقر بلا ريب، وإذا فلنمعن النظر في هذين: الصحة والغنى، فهذان مثلان للخير يرضاهما الناس جميعا وعلى رأسهم السادة أصحاب السلطان، فكيف تكون العافية جمالا؟ وكيف يكون المال جمالا؟ وقد عهدنا الجمال على ألسنة الشعراء لا يكون إلا للزهرة والجدول والمرأة الفاتنة والقمر الوضاء والشمس وهي غاربة وما إلى ذلك من ألوان الجمال؟

ثم سألت نفسي قائلا: ألا يحسن بك أن تنتقل بنظرك إلى الأشياء الجميلة أولا؛ لعلك مدرك عنصرا مشتركا بينهما، هو الذي يجعلها جميلة، بحيث تزداد جمالا أو تنقص بزيادة ذلك العنصر فيها أو نقصه؟ وسرعان ما وقعت على الجواب الذي لست أشك في أنه كان ماثلا في ذهن أفلاطون وهو يفكر في هذا الصدد؛ لأنه جواب أعتقد أن كل مفكر يوناني لم يكن يتردد في قوله لو سئل: ما الجمال؟ وذلك هو احتفاظ الجسم بنسب معينه بين أجزائه؟ ففكرة تناسب الأجزاء والوقوف بالشيء عند حد يرضاه الذوق والعقل معا، في غير إسراف في هذا الطرف أو ذاك، هذه الفكرة كانت تشغل الفكر اليوناني حتى لتصادفك كلما قرأت لليونان شيئا.

جمال المرأة الجميلة هو احتفاظ أجزاء جسمها بنسب معينة، يعرفها في عصرنا هذا القائمون على مسابقات الجمال، فللذراع طول وللساق طول ولكل جزء من أجزاء الجسد مقياس معين، ويكون جمال المرأة بمقدار قربها من تلك المقاييس في أجزاء جسمها. ولكن من الذي يقرر هذه الأطوال والمقاييس؟ تقررها التجربة والخبرة والملاحظة، فأنسب طول للذراع هو نفسه الطول الذي يجعل الذراع في أحسن حالة تمكنها من الحركة السهلة، وأنسب طول للساق هو نفسه الطول الذي يجعل الساق في أحسن حالة تمكنها من الحركة السهلة، وهكذا، فكأنما الذي يقرر لنا تلك الأطوال والمقاييس هو مدى قدرة الأعضاء على أن تحتفظ لنا بالحياة والبقاء القوي السليم.

وبعد أن يتقرر لنا شرط الجمال البشري، يتقرر تبعا له شرط الجمال في كل شيء آخر؛ لأن الإنسان بعدئذ يخلع نظرته الذاتية على الأشياء، فما دام الإنسان حين تتوافر لأعضاء جسده النسب التي تجعلها أقدر على الحركة والاحتفاظ بالحياة، يكون في الوقت نفسه قد توافرت له صفة أخرى هي التماثل (السيمترية)، إذا فليجعل التماثل مقياسا يقيس به جمال الزهرة وجمال البناء وجمال الشعر وجمال الصفوف المنظمة من الجنود وما إلى ذلك.

وما دام الإنسان يتوافر لجسده شرط الجمال حين تتوافر له سهولة الحركة ويسرها، إذا فليجعل من الحركة المنسابة مقياسا يقيس به جمال الجدول الجاري، وانطلاق الصوت وكل ما يذكره بحركة الحياة النامية في جسده هو، كاحمرار الشفق عند غروب الشمس، وميسان الأغصان وميلانها السهل مع هبوب الريح، وصوت حفيفها الذي يذكر بهمس العاشقين.

والخلاصة هي أن رأي الإنسان في جمال الأشياء مستمد في النهاية من رأيه في جمال جسمه، وجمال جسمه مستمد من خبرته التي دلته على أن الحياة تكون أضمن بقاء حين تتوافر للجسم نسب معينة بين أعضائه، فهذه النسب - إذا - هي عنده المرجع الأخير. •••

وبعد أن قررت لنفسي ذلك في الأحكام الجمالية، عدت إلى المثلين اللذين أردت بحثهما من أمثلة الخير المتفق عليه، مثل الصحة ومثل الغنى، وسألت: متى يكون الجسم صحيحا معافى؟ يكون كذلك حين تلتزم عناصره نسبا معينة، فإذا زاد أو قل السكر أو الزلال أو الملح أو غير ذلك عما ينبغي، اعتل الجسم، وكان شفاؤه في الحد من الزيادة إن كانت زيادة، أو في سد النقص إن كانت قلة.

ومزاج الإنسان يختلف من ساعة إلى ساعة، فهو الآن في نشوة من نفسه، وهو الآن في غم وضيق، لماذا؟ لأن «مزاج» العناصر يختلف من ساعة إلى أخرى، فإذا كانت نسبة «المزج» صحيحة كان «المزاج» النفسي صحيحا كذلك، وإذا كانت نسبة المزج مضطربة كان المزاج النفسي مضطربا.

فالصحة البدينة والصحة النفسية على السواء، هي في أساسها صحة النسبة بين العناصر، لكن الجمال في الشيء الجميل إن هو - كما أسلفنا - إلا احتفاظ الأجزاء بنسب معينة كذلك، وإذا فالجسم الصحيح هو كذلك جسم جميل؛ لأن الأساس في الحالتين واحد. ولما كانت الصحة خيرا متفقا عليه، كان الخير والجمال شيئا واحدا، وكان الخير هو نفسه الجميل.

وننتقل إلى المثل الآخر من أمثلة الخير، الذي أردنا تحليله لتوضيح ما أردنا توضيحه، وهو الغنى؛ فالمال خير متفق على خيريته عند الكثرة الغالبة من الناس، وحتى أولئك الذين يذمونه ويجعلونه شرا، إنما يذمونه بالكلام ويسعون وراء جمعه بالفعل والعمل.

لكن الناس كذلك متفقون بما بينهم من فهم مشترك للأمور، على أن هنالك نسبة معينة لا بد أن يراعيها صاحب الحاجات لإنفاق مقادير معينة من المال بين كسبه وإنفاقه، فإذا كسب مالا ولم ينفقه لم يكن عند الناس موضع مدح، كذلك إذا أنفق مالا ولم يكسبه، بل ترى الناس يكادون يحددون أنواعا معينة من العمل لكسب مقادير معينة من المال، ثم أنواعا معينة من المال المكسوب، ولا يكون صاحب المال عندهم موصوفا بالخير إلا إذا حافظ على هذه النسب كلها بين نواحي كسبه وأوجه إنفاقه جميعا، فرجل يمدح لأن معظم ماله من كسبه عن طريق العمل، ورجل يذم لأن معظم ماله هو مال زوجته، وغني يمدح لأنه يجود بماله، وغني يذم لأنه يبخل، وهكذا.

وهكذا يتوقف الخير المنسوب إلى المال على نسب مطلوبة في طريقة كسبه وطريقة إنفاقه على السواء، وقد أسلفنا أن التناسب هو أيضا أساس الحكم بالجمال على الشيء الجميل، وإذا فالخير هنا أيضا هو نفسه الجميل؛ لأن الأصل واحد في الحكمين. •••

وأعود إلى السادة من أصحاب الحكم والسلطان، الذين أوجه إليهم الحديث فيما أوهمت نفسي، فأقول:

أيها السادة، لقد اختل في أيديكم الميزان فاضطربت النسبة الصحيحة بين الأشياء والأوضاع، فامتلأت البلاد بالقبح الذميم لأنها امتلأت بصنوف الشر، وقد أوضحنا لكم أن الشر هو القبح، وأن الخير هو الجمال.

إنكم - فيما أرى - عشاق للجمال في كثير من صوره، تعشقونه في جميلات النساء، شأنكم في ذلك شأن سائر الناس منذ كان على الأرض إنسان، وتعشقونه في الطعام الجيد، فقد ظهر لنا فيما أسلفناه من تحليل أن الجودة في الشيء هي جماله، وإذا فالطعام الجيد هو كذلك طعام جميل، وقد حباكم الله في هذه الناحية بحاسة حادة تميزون بها الجيد من الرديء، أعني الجميل من القبيح، وتعشقون الجمال في الجبال الشمم المعشوشبة السفوح المثلوجة القمم، وإلا لما تجشمتم هذا العناء المضني كل صيف في ارتياد سويسرا وغير سويسرا من بلاد الجبال، وتعشقونه في البحر وشواطئه، وتعشقونه في أثاث منازلكم وفي ملابسكم ... وبقي يا سادتي شيء واحد لو عشقتم فيه جماله صلح الأمر كله من أوله إلى آخره، ذلك هو العدل.

كان العدل أقوى مثل وأضخم مثل ساقه لنا أفلاطون - صاحب فكرة اتحاد الخير والجمال - ليوضح به كيف يكون الاحتفاظ بالنسبة الصحيحة بين الأشياء جميلا، وما العدل عنده إلا هذا الاحتفاظ بالنسبة الصحيحة بين الأشياء، فهلا أضفتم يا سادتي هذا الخير إلى سائر خيراتكم، فتضيفوا بذلك جميلا آخر إلى قائمة الجمال الذي تعبدونه في كثير من صوره؟

الظلم - أيها السادة - يملأ حولكم أركان البلاد، الظلم بمعناه الذميم، وهو اضطراب النسبة بين الأشياء والأحياء، وبالتالي يملأ القبح جنبات هذا الوادي المبارك الذي أراد له الله أن يكون جميلا، إنه لا تناسب يا سادتي بين المناصب وشاغليها، فصغير عندكم يملأ منصبا كبيرا، وكبير يشغل صغيرا، ولا تناسب بين المرتبات والعاملين، فعامل منتج ضئيل الكسب، وخامل لا ينتج عظيم الكسب، يستمتع بما لم يرد له الله ولا طبائع الأشياء أن يستمتع به من طيبات.

العدل، العدل يا سادتي الحكام، فالعدل خير؛ ولذلك فهو جميل، وأنتم من عشاق الجمال.

أبناء الظلام

ينقسم العصر في تاريخ الأمة جيلين: جيل صاعد وجيل هابط، أما الصاعدون فهم أولئك الذين لا يزالون من أعمارهم دون الأربعين أو نحوها، لا تزال خطاهم ترقى بهم - في حساب الحياة - من درجة أسفل إلى درجة أعلى، وما تزال أبصارهم أثناء السير شاخصة إلى قمة تحجب عنهم نهاية الطريق، فيحسبون أن ليست للطريق نهاية. كنت أتحدث إلى شاب في الخامسة والعشرين، جاءني يستشير في أمر مستقبله، فقلت له إن الطريق الفلانية أضمن لك حين تبلغ الستين، فابتسم قائلا: إن هذه الستين لا تطوف لي ببال، كأنما خلقت الشيخوخة لغيري من الناس، وكأنما يخيل إلي أني سأعيش أبدا في شباب يتجدد له إهاب كلما أبليت منه إهابا.

قال لي ذلك، فذكرت من فوري كيف كانت حالي أيام الصعود، من عمل متصل فيه الجد والحرمان، لا أبالي بنتائج عملي كيف تجيء، أتكون كسبا أم وبالا، فكنت أبذل من عافيتي وجهدي بذل المسرف المتلاف، الذي ينفق الألوف بغير حساب، مستندا إلى رصيد لا يفنيه تبذير، كنت أعمل الليل والنهار ثم النهار والليل، حتى لقد سألني أستاذ كبير كريم ذات يوم، حين رأى ما أكتبه أكداسا تتلاحق حملا بعد حمل، على الرغم من عمل مضن لكسب العيش يطول ما طال النهار. سألني: من ذا يعاونك في هذا كله من جماعة الجن؟ ... فوا أسفا، كأنما كنت أصب الماء في إناء مثقوب، أو أبذر البذور في حقل يثمر الحنظل، لقد أكملت من عمري سبعة وأربعين عاما، تركتني كالأسطوانة الجوفاء، فزرع ولا حصاد، وحركة ولا سير، وشيخوخة ولا نمو ...

وأما الهابطون فهم أولئك الذين قد جاوزوا قمة الأربعين وأخذوا ينحدرون على السفح خطوة خطوة في سير وئيد، يرون النهاية بأعينهم هنالك في أسفل، لم تعد في الطريق قمة تحجبها، كانت الأبصار إبان الصعود شاخصة إلى السماء، وهي الآن منحدرة إلى الأرض تتبين مواضع القدم. إنه لم يعد في الرصيد المخزون ما يحتمل إتلافا وإسرافا. إن شمعة الضوء قد ذهب أكثر من نصفها؛ فينبغي أن يحيطوا شعلتها بالحواجز الواقية حتى لا تتعرض للأنواء والعواصف، ذهب زمان المخاطرة وجاء وقت الحذر، لم يعد في طريق الحياة غيب مجهول يستحق المقامرة والمغامرة، فكل شيء قد وضح وانجلى عنه الدخان والقتام، ستكون كيت وكيت بعد كذا وكذا من السنين إن طال بك أمد السنين ...

والعادة - إذا كانت حياة الأمة قوية سليمة - أن يسلم الجيل الدابر مصابيحه إلى الجيل التالي عند قمة الجبل التي تفصل بين الصعود والهبوط، فتظل المشاعل الهادية عند القمة العالية يتسلمها جيل بعد جيل، فتزيدها الأجيال المتعاقبة وهجا ونورا، وبهذا وحده يصعد الصاعدون على ضوء فلا تزل لهم قدم في شعاب المرتقى، ويهبط الهابطون وقد خلفوا وراءهم مشاعل الطريق، تطرح أمامهم الظلال التي تزداد طولا كلما أمعنوا في الهبوط، فيزدادون بطول ظلالهم ثقة واطمئنانا بما صنعوا لمن جاء بعدهم في مراحل الطريق.

وإني لأستثني حياتنا السياسية وحدها، وأسأل بعد ذلك: هل حمل جيلنا الدابر في أيديه المشاعل ليهتدي بضوئها الجيل الصاعد، أم أن أبناء هذا الجيل الصاعد يشرئبون بأعناقهم عبثا، ويشخصون بأبصارهم سدى فلا يجدون أمامهم إلا ظلاما يتخبطون فيه على غير هدى؟ - بعبارة أخرى: هل رسم الجيل الدابر لخلفه المثل العليا التي يترسمها في شتى جوانب حياته؟ وقد استثنيت الحياة السياسية، لا لأني راض عنها كل الرضا، بل لأن رجال السياسة - إلى جانب نقائصهم الفادحة وعيوبهم البشعة - قد رسموا المثل الذي نترسمه: وهو أن نعمل في سبيل تحرير أنفسنا من الغاصب، وها نحن أولاء ماضون فيما دعونا إليه، وكأنما ينظر شبابنا فلا يرون أمامهم أفكارا تنتظر التحقيق، إلا الأفكار التي يدعوهم الساسة إليها، فينصرفون بكل جهدهم نحو هذه الغاية وحدها، ولا عجب، فلم يقم غير رجال السياسة بوضع غايات أخرى أمام الشباب إلى جانب تلك الغاية، فيستحيل أن يقع اللوم كله على الشباب، إذا رأيناهم قد ذابوا في مجرى الحياة السياسية ذوبانا يختل معه توازن الحياة. •••

إنني رجل قد أصيب في عقله بمرض اسمه «تحديد المعاني»، فماذا يراد بعبارة «المثل الأعلى»؟ لأنه من الخير - قبل المضي في حديثنا - أن نعلم في أي شيء يقوم الحديث.

المثل الأعلى فكرة يؤمن بها صاحبها وتشتد به الرغبة في تحقيقها، لكنها رغبة تختلف عن رغبته في تحقيق راحته الشخصية ومتعته، فقد تكون لدي فكرة أن يكون لي منزل أملكه في نهاية مراحل عمري لأتخذ منه مأواي الهادئ عندئذ، وقد تشتد بي الرغبة في تحقيق هذه الفكرة، لكنها مع ذلك لا تكون «مثلا أعلى»، وقد تكون لدي فكرة أن أبلغ منصب الوزارة، وقد تشتد بي الرغبة في تحقيق هذه الفكرة، لكنها أيضا لا تكون «مثلا أعلى» لماذا؟ لأن المثل العليا أفكار نؤمن بها ونرغب في تحقيقها، ثم يشترط فيها إلى جانب ذلك ألا تكون قاصرة على العنصر الشخصي، بحيث تصلح أن تكون موضع اشتهاء أبناء المجتمع جميعا، «فالمثل الأعلى» فكرة مرغوب في تحقيقها، لكنها لا تتصل بذات الراغب اتصالا يحصرها في مصلحة تلك الذات وحدها، بل تصلح إلى جانب ذلك أن تكون هدفا للجميع على السواء.

فإذا رغبت في أن يكون لدي ما يكفيني من الطعام، فليس ذلك «مثلا أعلى» أما إذا رغبت في أن يكون لدى كل إنسان ما يكفيه من الطعام، ثم عملت على تحقيق تلك الرغبة بأية وسيلة مؤدية، كان ذلك «مثلا أعلى»، وإذا رغبت في أن يعاملني الناس بالحسنى، لم يكن ذلك «مثلا أعلى »، وإنما يكون كذلك لو رغبت في أن يعامل الناس جميعا بعضهم بعضا بالحسنى، ثم عملت على تحقيق هذه الرغبة، وإذا رغبت في أن أكون عالما يتقصى في الطبيعة حقائقها، فليس ذلك «بالمثل الأعلى» وإنما يكون كذلك لو رغبت في أن يكون العلم هو الأساس السائد في حياة الناس بحثا وكشفا، أو عملا وتطبيقا، وإذا رغبت في أن أستمتع بنحو معين من ألوان الفن، كائنا ما كان، عمارة أو نحتا أو تصويرا أو موسيقى أو ضربا من ضروب الكلام، فليس ذلك وحده «بالمثل الأعلى»، ولا يكون كذلك إلا إذا تمنيت لهذا اللون المعين من الجمال أن يشيع تذوقه بين الناس أجمعين.

ولا بد لي أن ألاحظ هنا، أن الأمر كله قائم على «الرغبة الشخصية» في نهاية الأمر، لكن هذه الرغبة الشخصية لا تكون مثلا أعلى إلا إذا جاوزت حدود صاحبها بحيث تمناها صاحبها للناس جميعا، ومن ثم تختلف «المثل العليا» في العصور المختلفة؛ لاختلاف أهل تلك العصور في رغباتهم التي يسعون إلى تحقيقها تحقيقا شاملا، فيصح أن نقول عن عصرنا هذا إن الحرية الفردية من بين مثله العليا لأن هناك من أبنائه من أرادوا لأنفسهم هذه الحرية الفردية ثم أرادوها للناس أجمعين، لكن هذه الحرية الفردية لم تكن هي المثل الأعلى في كثير جدا من العصور السابقة، حين كانت عضوية الفرد في جماعة، وانطماسه في أسرته أو في قبيلته، هي المثل الأعلى المنشود، ولعل هذا المثل الأعلى الذي ينشد الحرية الفردية، هو نفسه الذي انبثق منه مثل أعلى آخر لعصرنا، وهو أن تنمحي الحواجز التي تفصل بين الأمم، لتعيش الدنيا كلها مجتمعا واحدا؛ لأن الفرد لا يتحرر حقا باعتباره فردا قائما بذاته، إلا إذا أزيلت عن عاتقه الروابط المكانية التي تجعله تابعا بالضرورة لهذا الوطن أو ذاك.

نعم تتغير المثل العليا من عصر إلى عصر، فجمهورية أفلاطون كانت صورة للمثل الأعلى كما أراده للناس في حياتهم الاجتماعية، وفي رأيي أنه يستحيل على كاتب معاصر أن يتمنى للناس مثل هذا النظام، الذي لا يمنيهم إلا بالانتصار في الحروب الخارجية، وبتوفير الطعام في الداخل، إنه مجتمع يخلو من البحث العلمي ومن الفنون، فأين هذا المفكر اليوم الذي يرسم لنا مثلا أعلى لتحقيقه، فيرسم لنا حياة لا علم فيها ولا فن؟ الحقيقة أن هذه الجمهورية الأفلاطونية قد أزاغت الأبصار عن حقيقتها قرونا طويلة، وحسبوها نموذجا لزمانها وغير زمانها، ولو أمدني الله بقوة أحقق بها مشروعات كثيرة أتمنى أداءها، فسيكون من بينها تحليل هذه الجمهورية تحليلا يبين مواضع النقص فيها باعتبارها مثلا أعلى يصلح لزماننا، كما يقع في وهم كثير جدا من شبابنا الذين يتاح لهم أن يلموا بطرف منها - لكن ذلك لا ينفي إمكان صلاحيتها مثلا أعلى لزمانها. •••

ولنا في ضوء هذا التحليل أن نسأل: هل طافت برءوس الجيل الدابر أفكار، اشتدت بهم الرغبة في تحقيقها، بحيث تصلح كذلك أن تكون موضع الرغبة عند الناس جميعا؟

هل بينهم مثلا من أخذ ينادي بفكرة في النظام الاقتصادي على نحو مفصل بحيث تحمس لها وراح ينشرها بكل وسيلة ممكنة؟ فإذا شخص الجيل الصاعد بأبصاره ليهتدي في هذه الناحية من حياته، أفتراه واجدا عند الجيل السابق ما يهتدي به، بحيث يتحمس بدوره لهذا المذهب الاقتصادي أو ذاك تحمسا بصيرا مستنيرا؟

هل بينهم من جعل ينادي بطريقة معينة في المعيشة الفردية، يحياها هو أولا، وينشرها بكل وسيلة ممكنة حتى يجد الجيل المقبل نماذج يتخير منها ما يشتهي؟ إن غاندي بطريقة عيشه كان ينشر «مثلا أعلى» لأنه تمنى لنفسه وللناس، و«سارتر» برأيه في الوجودية ينشر «مثلا أعلى»؛ لأنه كذلك يتمنى لنفسه وللناس، وقد تعمدت أن أضرب هذا المثل الأخير؛ لأني أعلم أن كثيرين ممن يسيئون فهم وجودية سارتر، سيقولون: أين «العلو» في هذا المثل؟ فأجيبهم بأن أية فكرة كائنة ما كانت، تصلح أن تكون «مثلا أعلى» ما دام صاحبها «يعيشها» ويحاول أن يشرك معه الناس فيها، والفرض هو بالطبع ألا يتمنى الإنسان لنفسه إلا ما يراه مؤديا إلى الحياة السعيدة.

أين بيننا «المدارس» الفكرية على النحو الذي نراه في الأمم الحية؟ ضع أمامك قائمة بعشرة من أئمة الفكر في جيلنا الدابر، وحاول أن تصنفهم شيعا مختلفة من فلسفات أو مذاهب في طرائق العيش، فلن تستطيع؛ ذلك لأن تفكيرهم لم يقم على أساس المذهبية التي تصدر عن عقيدة وإيمان، وبالتالي لم يكن لديهم «مثل عليا» بالمعنى الذي حددناه.

إننا أمة بغير مثل عليا، إن قادة الجيل الماضي - من غير رجال السياسة - لم يحملوا لمن يجيء بعدهم المشاعل، فجاء هؤلاء وهم يتخبطون في الظلام.

عالم قلق

ترى هل شهد التاريخ كله فترة اشتد فيها القلق كما يشتد في هذه الفترة التي يجتازها العالم اليوم؟ لست أدري، فليس يعيش الآن على وجه الأرض إنسان واحد قرير العين مطمئن النفس هادئ البال.

إنها فترة كفاح وجهاد وحرب وقتال؛ فالشعوب المغلوبة تحاول أن تقف على أقدامها، والشعوب الغالبة تريد الثبات في مواقفها، والدول القوية بعضها مع بعض تصطرع ابتغاء السلطان والسيادة ... والغالب والمغلوب والسيد والمسود جميعا قد ضاقت نفوسهم، واكفهرت الدنيا من حولهم، فاشتدت بهم الرغبة في شيء يؤمنون به - أي شيء كائنا ما كان؛ لذلك كثرت بيننا المذاهب الفكرية، والمعتقدات السياسية، كثرة لا نحسب أن قد سبق لها نظير في عصور التاريخ الماضية.

فقد يحس الفرد منا إزاء ما شمل العالم من قلق واضطراب أنه لا ينبغي له أن يجلس أمام مسرح الحوادث رائيا سامعا لا يعمل شيئا، وأن نفسه لا تستريح وضميره لن يرضى إلا إذا قام بنصيب - لا بد مهما يكن ضئيلا - في إعادة البناء المنهار، لكنه إذا ما هم بالعمل أدرك من فوره أنه لا بد له من جماعة ينضم إليها؛ لأن مجهود الفرد الواحدة هباءة لا تغني ولا تسمن، ولا يبعد أن يقع على أقرب جماعة منه دون أن يفكر طويلا في هل تعمل هذه الجماعة التي ينضم إليها في سبيل ما ينشده هو لنفسه ولسائر الناس، أم أنها تعمل في طريق يعكس له أهدافه المنشودة؟ لكنه قلق يريد أن يعمل شيئا وحسبه ذاك؛ لأن النار قد أوشكت أن تأتي على الحياة كلها، أخضرها ويابسها على السواء، فكثرت الأحزاب والهيئات والجماعات في أنحاء العالم كثرة - كما أسلفت - منقطعة النظير.

إن النفوس القلقة تدفع أصحابها إلى العمل، تدفعهم إلى العمل السريع، فتراهم يغذون السير ويحثون الخطى؛ لأن السير المتمهل لا يكفي والخطو البطيء مضيعة للفرض؛ ولذلك امتلأت أركان الدنيا بالنظريات المتطرفة والمشروعات الجريئة، والانقلابات السريعة ... قل ذلك في الأمم وفي الأفراد على السواء، إن الربح البطيء المطرد الثابت لم يعد يرضي النفوس المتعطشة العجلى، انظر إلى عالم التجارة والأعمال تجد ألوفا من الناس ينزلقون على السفوح المثلوجة انزلاقا سريعا، إنهم لا يقنعون بالخطوات الوئيدة على الأرض الصلبة الثابتة، فالحياة قصيرة المدى والجو مكهرب من حولهم، ففيم الوقوف والتمهل والانتظار؟ إن السلامة لم تعد في التأني، فإلى الغاية المنشودة انزلاقا، ولئن سقط في المعمعان رجل فإلى جانبه ألف رجل بالغون المدى.

إن العالم اليوم في لهفة عجيبة يكتنفه الظلام، فينشد الضوء مهما يكن مصدره، فلكل صائح أتباع أيا ما كانت صيحته، ولكل داع مستجيبون مهما تكن دعوته، لقد تقسمت الدعوات الكثيرة سكان الأرض بصفة عامة، وأهل أوروبا المعاصرة لنا اليوم بصفة خاصة، فيها الآن مائة مذهب ومذهب، هذا داع يدعو إلى الرجوع إلى حظيرة الدين فيستمع إلى دعوته فريق، وذلك داع يدعو إلى طرح الإيمان الساذج والاستمساك بالعقل وحده فيستمع إليه فريق آخر، وذلك ثالث يهيب بالناس أن عودوا إلى غرائزكم فأشبعوها؛ لأن الحياة الطبيعية هي أسلم الحياة، فيستجيب له فريق ثالث، ثم هذه ديمقراطية وتلك اشتراكية، وهذه شيوعية وتلك ديكتاتورية عسكرية، وهلم جرا ... ذلك كله لأن الناس قد ضاقوا ذرعا بما هم فيه، ويريدون التغيير؛ أي تغيير.

وكان مما زاد مرارة طعم الحياة في أفواه الناس، أنهم فتحوا أعينهم على الواقع، بعد أن كانت أعينهم مغمضة لسبب أو لآخر، أقول لسبب أو لآخر؛ لأن السبب لم يكن واحدا بالنسبة للناس أجمعين، إذ كان العالم حتى عهد قريب ينقسم قسمين رئيسيين، فإما أغنياء قد طفحت بيوتهم بأسباب النعمة والرخاء، وإما فقراء يكدحون في سبيل لقمة العيش وخرقة الثياب، فأما الأغنياء فقد ألهاهم التكاثر وأعماهم الغنى، فلم يروا من الحياة إلا مطاعم تفوح وصالونات تتألق، وأما الفقراء فقد أشقاهم الكدح المتصل عن التفكير في أنفسهم أو في غير أنفسهم، فالدنيا كلها في أعينهم فأس تضرب الأرض بياض النهار، وكوخ معتم سواد الليل، ومن ثم استقرت الحياة بهؤلاء وأولئك، وبدا عليهم الرضى، أما اليوم، فمعظم الناس - في أغلب أنحاء الدنيا - طبقة متوسطة، ليس لديها الثراء الذي يلهي ويعمي، ولا الفقر الذي يهلك ويحطم، فوقفوا بين بين، يعملون ساعة وينظرون إلى ما حولهم ساعة، فتفتحت عيونهم على الواقع كما هو، فإذا الواقع علقم وحنظل، وإذا الضرورة الملحة تقضي بتغيير ذلك الواقع المرير في أسرع وقت مستطاع ... فنشأت بذلك عند الناس لهفة نحو انقلاب الأوضاع، ومن ثم كثرت الأحزاب والجماعات وتنوعت الآراء والمذاهب.

ألا تسمعهم يصفون لك هذا العصر بأنه عصر السرعة؟ إنها ليست سرعة القطارات والطائرات وكفى، بل هي السرعة التي انتابت النفوس في لهفتها على تغيير حالها؛ ولذلك تراه عصرا يتميز بكثرة المعايير الخلقية والجمالية، إنه لا يستقر على معيار واحد يرضي الناس جميعا، لأنه عصر قلق وتغيير، فهذا يأخذ بمعيار جديد، وذلك يظل مستمسكا بمعيار قديم، وثالث يأخذ بالقديم تارة وبالجديد طورا، وكلهم مخلص فيما يأخذ به، فهم جميعا متفقون على شيء واحد، هو ضرورة تغيير الأوضاع الراهنة لأنها لا ترضي أحدا.

إننا نعيش في عالم قلق، يفزع أهله أن تضيع من وقتهم لحظة سدى، لأنهم مسرعون، متلهفون، يغذون السير ويحثون الخطى، وكان حتما أن يساير التفكير هذه السرعة ويماشيها، فلم يعد الوقت يتسع عند الكثيرين لقصة طويلة يكتبها لهم أديب هادئ الفكر طويل البال؛ لأن الأمر لم يعد تسلية ولهوا، بل هو جد وعزم وصرامة، وإذا فأجدى على أصحاب الفكر أن يتجهوا بفكرهم نحو شيء آخر غير الأدب الذي خلق للفراغ والمتعة، فإن كان حتما أن يكتب لنا أديب، فلتكن كتابته أقصوصة قصيرة للترام أو القطار، فإن أطال فليتجه بإنتاجه نحو السينما، لنرى قصته ساعة استرخاء، بأقل مجهود ممكن ... لكن الله قد أراد لنفر من الناس أن يكونوا أدباء على رغم هذا الصراخ كله وهذه العجلة كلها، فماذا عساهم يكتبون ليرضوا أنفسهم؟ إن العالم من حولهم قلق مضطرب فوار، فإما أن يندفعوا في تيار الحوادث الدافق، فيكونوا من رجال الصحافة لا من رجال الأدب بمعناه الصحيح، وإما أن يلتمسوا مرحلة أخرى من مراحل حياتهم، كانت أنعم روحا وأهدأ محيطا، فلا عجب، إذا، أن نسمع أن كثيرين من أدباء أوروبا اليوم قد انصرفوا نحو ماضيهم يؤرخونه ويسجلونه؛ لأنهم يجدون في ذلك الماضي حياة مستقرة هادئة بعض الشيء، تصلح للتصوير الذي يرضي عشاق الجمال.

عالم قلق هذا الذي نعيش فيه، ينهار فيه بناء ليقوم مكانه بناء، ويندك فيه نظام ليحل محله نظام، والدعوات فيه متلاحقة متتابعة، لا تكاد الدعوة منها تبلغ الأسماع حتى تنسخها دعوة ... هل رأيت حركة الهدم والبناء من حولك في بلد كالقاهرة مثلا؟ فقد تغيب شهرين عن حي من أحيائها ثم تعود لتجد عمارة شامخة أقيمت، أو لتجد بناء مألوفا لك قد أبيد، ففي كل حين، بل في كل شارع، بل في كل ركن هدم وبناء، والسمة التي تسم الحركة كلها هي السرعة اللاهثة، و«الهرجلة» التي لا تعبأ بشيء من ترتيب أو تنسيق. وهكذا العالم كله الذي نعيش فيه اليوم، ففيه الهدم والبناء، ثم الهدم وإعادة البناء، يتلاحقان في مثل هذه السرعة اللاهثة المحمومة، وهذه «الهرجلة» التي لا تجد الفراغ للروية والتأني؛ لعلها توفق إلى شيء من ترتيب يدوم أو تنسيق يرضي.

لكن هذا العصر القلق الثائر الفائر المتغير المتحول، هو عصرنا الذي خلقنا له لنعيش فيه، فلنضرب على نفس الأوتار التي يضرب عليها سائر العازفين، لتأخذنا حمى القلق التي أحذت بسائر أنحاء العالم المتحضر، ولتهتز أعصابنا بما اهتزت به أعصابه من دعوات ومذاهب، وأفكار ونظم، إن كان عالما مدججا بسلاحه فلنأخذ في التسلح، أو كان عالما جشعا فلندع الناس إلى النهم الذي لا يشبع ...

حرام يا أصحاب الأقلام أن تهدهدوا الناس بأناشيد المخادع التي تجلب النعاس، بل أوقدوها تحت الجنوب جمرات حتى تستيقظ العيون وتؤرق القلوب، في هذا العصر القلق المضطرب اليقظان.

نفوس فقيرة

الفقر صوره شتى ...

فمنها اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، حتى لتنقلب حبات الرمل على سطحه جمرات من نار، وتهب عليه الريح السموم فإذا هي ألسنة من اللهب تنفثها جهنم، هذا اليباب إذا ما شاء له القدر يوما أن يصيبه شيء من المطر، غاص المطر في جوفه وغاب كأن لم يكن، فهو قفر كما كان، لا زرع فيه ولا ضرع، إلا أشواكا تنشب على وجهه هنا وهناك فتزيده فقرا على فقره.

ومنها الصخر الأجرد الذي صلد صدره وتصلبت أطرافه، فلا يتفجر جوفه عن قطرة أو نبتة، إذا سال عليه الماء انحسر عنه لأنه مغلق أصم عبوس مخيف، فلا هو يخرج من جوفه شيئا، ولا هو يفتح مغاليقه ليتقبل مما حوله شيئا، لا أمل فيه لمسافر ولا رجاء عنده لضال.

ومنها السماء لا تجود بالغيث، تيبس الأرض من تحتها وتتشقق، ويجف الزرع ويموت، وتشخص الأبصار إليها ضارعة، وتصعد الدعوات إليها مسترحمة، لكنها كالحة مصفرة الوجه لا تجود.

ومنها الوردة تذبل وتذوي، طار عنها الشذى وجف من عرقها الماء، تفركها بين إصبعيك فإذا هي رماد تذروه الريح مع التراب والعفر، ومنها الجدول غيض ماؤه، تعبره ماشيا على قدميك، فترن أصداء خطاك بين صخوره لخلائه وفراغه.

ومنها الجيوب تخلو من المال، فيمضي صاحبها بين أكداس الطعام في الدكاكين وهو جائع؛ لأنه لا يملك أن يستجيب للمعدة تناديه ولبائع الطعام يغريه.

لكن لا اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، ولا الصخر الأجرد الذي صلد صدره وتصلبت أطرافه، ولا السماء اليابسة، ولا الوردة الذابلة، ولا الجدول غيض ماؤه، ولا الجيوب الخالية من المال؛ بمستطيعة أن تعبر عن الفقر بأبلغ مما تعبر عنه النفوس الفقيرة!

فقيرة هي تلك النفوس التي يعيش أصحابها فيما نعيش فيه ولا تتأثر، كأنما تنظر العين ولا ترى، وتسمع الأذن ولا تعي، وكأنما قد القلب من صوان، فتجري في شعابه «مجاري» الدماء، لا تترك وراءها ثمرا ولا أثرا، كالماء يهبط على رمال اليباب البلقع فيغيض فيه بغير زرع، أو يسيل على الصخر الأصلع فينحسر عنه ولا حياة! إن القلب الفقير عضلة تصلح لمبضع التشريح ولا تصلح لريشة الشاعر، وصاحب النفس الفقيرة كالمذياع التالف، فيه المفاتيح والصمامات والأسلاك، لكن الهواء من حوله يعج بموجات الصوت وهو أبكم، لا يلتقط ولا يذيع.

فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها ذلك الخواء، وماذا تقتني؟ تتصيد أناسا آخرين ذوي نفوس أخرى لتخضعهم لسلطانها! إنها علامة لا تخطئ في تمييز أصحاب النفوس الفقيرة من سواهم، فحيثما وجدت طاغية - صغيرا كان أو كبيرا - فاعلم أن مصدر طغيانه هو فقر نفسه. إن المكتفي بنفسه لا يطغى، إن من يشعر في نفسه بثقة واطمئنان ليس في حاجة إلى دعامة من سواه، وإذا فماذا أقول؟ أأقول إن الطغيان قد امتد بجذوره في ربوع الشرق لجذب نفوسه أهله؟

إي والله، لقد ضرب الطغيان بجذوره في ربوع الشرق منذ آماد بعيدة سحيقة، حتى أصبحت لفظتا الشرق والطغيان مترادفتين أو كالمترادفتين، فهما تصادفانك متجاورتين متلاصقتين في كثير من الآداب الأوروبية، لا! إني أرى الكلمة على شفتيك فلا تقلها! لا تقل دهشا: أي طغيان؟ لا تقل إن لنا دستورا يجعل الناس سواسية ويحرم الطغيان، فالطغيان في دمائنا: الحاكم الشرقي طاغية، والرئيس الشرقي طاغية، والوالد الشرقي طاغية، والزوج الشرقي طاغية، والموسر الشرقي طاغية - طغاة هؤلاء جميعا؛ لأن في نفوسهم هزالا يعوضونه بمظاهر الاستبداد بسواهم ... قال أمامي وزير مصري لست في حل من ذكر اسمه، قال ذات يوم وكنا في لندن، وكان مؤتمر سياسي منعقدا هناك، وجاء مستر بيفن - وزير خارجية إنجلترا إذ ذاك - جاء إلى المؤتمر السياسي يمثل بلاده، مشيا على قدميه، وليس وراءه ولا أمامه «زفة» تطبل وتزمر، فقال الوزير المصري على مسمع مني: كنت أتصور في الديمقراطية الإنجليزية شيئا كثيرا، ولكني لم أكن مع ذلك أتصور أن يبلغ بها المدى هذا الحد البعيد، أوزير خارجيتها يجيء إلى مؤتمر كهذا وسط الزحام راجلا؟ فكدت عندئذ أصيح في وجه الوزير المصري قائلا: أستحلفك الأهل والولد يا معالي الوزير أن تذكر ذلك عند عودتك إلى بلادنا، أن تذكر لأصحاب المعالي الوزراء؛ حتى يتذكروا شيئا منه وهم راحلون إلى حمامات الاستشفاء للمتعة والتنزه، وحتى يتذكروا شيئا منه وهم عائدون من شطآن البحر وجنات الأرض إلى بلادهم ليستأنفوا «العمل».

العظمة في الشرق معناها الطغيان، والطغيان من معانيه كسر القوانين، فيستحيل أن يكون العظيم عظيما عندنا إن أطاع القانون، حتى لو كان هذا القانون من وضعه هو؛ لأن العبث بالقيود هي عندنا الحد الفاصل بين السيد والمسود. فقل لي إلى أي حد تستطيع في الشرق أن تعبث بالقانون والنظام، أقل لك في أي مرتبة أنت من مراتب المجتمع، فأعلاها منزلة أكثرها عبثا، وأدناها أقلها.

ولعل هذه الفكرة قد بلغت أقصاها تطرفا، حين أرادوا أن يتصوروا كمال الله ومطلق سلطانه وسيادته، فتصوروه فاعلا للمعجزات، والمعجزة هي إيقاف قانون من قوانين الطبيعة وتعطيله، فلما كان الله أكمل ما يكون الكائن جبروتا وسلطانا، فلا بد أن يكون أقدر ما يكون الكائن على تعطيل القوانين الطبيعية كيف شاء وحيث شاء، أما أن يكون كمال الله - كما تصوره سبينوزا - هو أن تظل قوانين الكون قائمة مطردة، فذلك تصور بعيد جدا عن تصورهم لمعنى العظمة والجلال.

فقيرة هي النفس التي لا تستطيع أن تقف موقف سواها، لترى ما ترى وتحس كما تحس، وهيهات عندنا أن تجد صاحب النفس الغنية بخيالها الخصبة بشعورها؛ ذلك الذي في مقدوره أن يحس الألم مع من يحسه، وينظر إلى الناس في ظروفهم. هل رأيت الأطفال في القرى كيف يجرون الجراء مشدودة من أعناقها بالحبال، وكيف يمسكون الهررة من أذنابها ثم يجذبونها جذبا ويديرونها في قسوة وعنف، والجراء تئن والهررة تموء مواء المتألم المستغيث، والأطفال يضحكون لأنين الجراء ومواء الهررة، والآباء والأمهات يقهقهون لضحكات أطفالهم؟ إذا فاعلم يا سيدي أن هذه هي المدرسة التي نتلقى فيها أول دروسنا في التعاطف والمشاركة الوجدانية بعضنا مع بعض. اعلم يا سيدي حق العلم أن قصة الجراء والهررة المسكينة تتكرر حولك مائة مرة في اليوم الواحد، لكنها ليست هذه المرة بين الأطفال من ناحية والجراء والهررة من ناحية أخرى، فيشد الأطفال الجراء من أعناقها ويجذبون الهررة من أذنابها، بل هي الآن بين أصحاب النفوذ - أيا كان نوع النفوذ - وبين العاجزين وأرزاقهم!

إننا يا سيدي أمة تحيا وفق الحكمة التي استنها لها شاعر من شعرائها الأقدمين، وهي «إنما العاجز من لا يستبد»، بل إن الشاعر لم يخلق من عنده شيئا، إنما لاحظ أخلاقنا وسجل، فكم ألف سنة لا بد أن تمضي قبل أن يجيء شاعر آخر يلاحظ أخلاقنا ويسجل، فإذا ما يسجله هو: «إنما القادر من لا يستبد»؟

كم ألف عام لا بد أن تمضي قبل أن يجد الطفل في القرية أبوين يربيانه على أن لا ينبغي أن يعبث بآلام الكلاب والقطط؟ لو بدأنا هذه البداية، جاز لنا أن ننتهي إلى أن يعطف الإنسان منا على الإنسان.

لقد تفضل أستاذنا الدكتور أحمد أمين بك فوجه إلي الحديث قائلا: «إن كل مدنية فيها مزاياها وفيها عيوبها، ومزية المدنية الغربية بناء الحياة على العلم، ومن عيوبها خلوها من الإنسانية» ... أحقا يا سيدي أن المدنية الغربية قد خلت من الإنسانية، تلك المدنية التي لا يستطيع الإنسان في ظلها أن يفرك زهرة بين أصابعه على مرأى من الناس، ولا أن ينزع البذور عن أمها؛ لأنها بمثابة الأجنة التي تضمن استمرار الحياة؟ تلك المدنية التي يستحيل على إنسان في ظلها أن يوقع الأذى بقط أو كلب، حتى لقد أصبح ذلك «الضعف» فيهم مصدر كثير من تندرنا وفكاهتنا؟

سيقول القائل: لكنهم أقوام ترعى القطط والكلاب والإوز وتبطش بالأمم، فأقول ردا على ذلك: إن الفعل الأول صواب والفعل الثاني خطأ، ولا تذهب السيئة بالحسنة، وقد شاركناهم في البطش السياسي، ولم نشاركهم في العطف على الأحياء.

هل كان يمكن يا سيدي لهذا الغرب أن ينتج ما أنتجه من فنون وآداب لو كان خلوا من الشعور الإنساني؟ كم عالما وكم عاملا وكم معملا في ربوع الغرب تقوم النهار والليل؛ لتخرج لنا ما نخفف به البلاء عن مرضانا؟ أنصف الغرب يا سيدي، فهو نفسه الغرب قد تركز في قنينة الدواء التي نبعث إلى الصيدلي في لهفة أن يسعفنا بها دفعا للألم.

فقيرة هي تلك النفوس التي لا يستطيع أصحابها أن ينظروا من وراء الأشخاص إلى حيث ظروفهم، ولو قد فعلوا لاشتد بهم التسامح وشاع فيهم العفو والمغفرة، إنك - كما يقول الشاعر الإنجليزي - لو عرفت كل شيء عفوت عن كل شيء، وهو يعني بذلك أنك لو ألممت بكل الظروف التي تحيط بمن تعده آثما، أدركت موقفه على حقيقته بما فيه من مثيرات ودوافع، وعندئذ ستراك أميل إلى المغفرة والتسامح، والإثم - كما يقول شاعر إنجليزي أيضا - من طبيعة البشر، أما الغفران فمن صفات الله ... لكن أنى لنا العين التي تنظر إلى الظروف خلال الشخص الماثل أمامنا بجسده؟ أنى لنا العين التي تنظر إلى «ع» - مثلا - فترى وراءه دارا ملئت أركانها وجحورها بالأنفس البشرية المقعدة العاجزة، كلها تريد منه الطعام والدواء؟ إن «ع» موظف صغير، قد يعبس حينا وقد يبتسم حينا، فإذا ابتسم ابتسمنا معه، وإذا عبس زجرناه على عبوسه؛ لأننا خلو من النفوس العاطفة التي في مقدورها أن تنظر إلى العابس القانط، فتقول: لعل وراء ذلك ما يغفر.

فقيرة هي تلك النفوس التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان، فقيرة - يا أبا العلاء - هي تلك النفوس التي لا تخفف الوطء؛ لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجساد.

مصباح علاء الدين

ما أشقاني بهذه الذاكرة الضعيفة العاجزة التي توشك أن تبدد لي كل ما قد وعيت وخبرت في أعوامي السوالف، فلا تبقي لي من ذلك شيئا، وإني لأعلم عن ذاكرتي هذا الضعف الشديد وهذا الإسراف في تبديد الودائع، حتى لتراني أتحوط لها بكل ما يشير به علماء النفس من وسائل، فأشدد الروابط بين أجزاء الشيء المحفوظ، وأضع تحته الخطوط، وأوضحه في هوامش الكتب برموز وعلامات وملخصات، لكن هيهات للغربال أن يحفظ في جوفه ماء، تراني أقرأ الكتاب، فلا تمضي أيام قليلة بعد الفراغ منه، حتى يذهب عني وتذهب كل آثاره، فلا عنوانه هناك ولا اسم كاتبه ولا شيء من مكنونه، فالرأس بعده خلاء خواء كما كان قبله، فلا زيادة به إن لم يكن نقصان.

فكيف نرجو من مثل هذه الذاكرة المنكودة أن تستعيد ما أردتها أمس على استعادته مما قد قرأته منذ ثلاثين عاما؟ أردتها أمس على أن تعيد لي قصة علاء الدين ومصباحه، وكنت قد قرأتها منذ ثلاثين عاما، حين أخذنا - وكنا ثلاثة أشخاص - أخذنا ذات صيف نقرأ ألف ليلة وليلة، فكنا نجتمع كل يوم في الصباح والعصر، في غرفة ريفية لم يكن يؤثثها غير الحصير على أرض تراب كانت في منزل صديق لنا أيام الطفولة، لم يكن من حظه أن يختلف إلى معاهد التعليم، لكنه يحب أن يسمع أنباء الصحف وأخبار الكتب يقرؤها له أصدقاؤه «التلاميذ»، وكنت أنا القارئ لهما في أغلب الأحيان، ولم أكن بعد قد تبينت كل ما بعيني من قصر وضعف، فكنت أضع الكتاب على الأرض وأنحني على صفحاته أقرأ لهما، حاسبا أن ذلك الوضع هو أكثر الأوضاع راحة لجسدي، والحقيقة أن عجز العينين عن النظر الطويل هو الذي أوحى به واستلزمه، كنت أقرفص جسدي في ذلك الوضع المتعب، وأقرأ بصوت عال كأنما أردت أن أسمع سكان القرية جميعا، وقد لازمتني عادة القراءة العالية دهرا طويلا، حتى لقد شكا كثيرون من الجيران إلى أبي هذه الضجة التي أحدثها في أركان البناء هزيعا طويلا من الليل، وفي كل ليلة، ولعل الزمان لم يكن بعد قد هاضني حتى دفعني دفعا إلى الانزواء والانطواء وخفوت الصوت وخفض البصر.

أردت أمس أن أستعيد ذاكرتي ما استودعتها إياه من قصة علاء الدين ومصباحه، فلم أذكر أبدا من ذلك شيئا، سوى أن علاء الدين كان يمسح مصباحه، لست أدري كيف، فإذا الجن خدم له يأتمرون به، فينجزون له المستحيل، يبنون له القصور في لمح البصر ويمحونها في لمح البصر، ويأتون له بابنة السلطان حبيبة طائعة إذا أرادها، ويطيرون به في السماء أو يهبطون به في فجاج الأرض، وينشئون له المدن ويملئون له الكنوز ذهبا ولؤلؤا، ينجزون له كل ذلك إذا ما أشار لهم إشارة خفيفة بيده أو لسانه.

والحق أني قد أردت ذاكرتي على أن تعيد لي قصة علاء الدين ومصباحه السحري، للتسلية لا للجد؛ لأني لمحت فيه وفي قصته رمزا لطيفا لمن يظن أن الدنيا يتغير له وجهها بالرغبات تطوف بين جدران رأسه، فحسبي أن أجلس هكذا على مقعدي وفي عقر داري، ثم أعبر بالكلام عن رغبتي هذه أو رغبتي تلك، فإذا سحرة الأرض وعفاريت جوفها وجن سمائها كلهم خدم ينجزون لي ما اشتهيت وما تمنيت. ماذا يضطرني إلى الجهاد الشاق وإلى العمل العنيف إذا كانت لمسة خفيفة للمصباح السحري تكفيني لتحقيق ما أشتهي وأتمنى؟ والمصباح السحري قادر على الهدم كما هو قادر على البناء؛ لأن رغبات الإنسان سالبة وموجبة معا، فالإنسان قد يرغب في أن يمحى شيء يضايقه، كما قد يرغب في أن يخلق له شيء يشتهيه، قد يرغب الإنسان في زوال نظام كما قد يرغب في قيام آخر ... ولمثل هذا كله ينفع مصباح علاء الدين.

وأي عجب بعد ذلك في أن تستهوينا قصته ونحن على عتبة الشباب: حيث الأحلام والآمال والشعر؟ لئن كانت الرجولة الناضجة عملا منتجا، فالشباب الفج عاطفة جياشة، الأمل لا يتحقق إلا بالعمل عند الرجل الناضج، لكن تكفيه قصيدة من الشعر عند الشباب الغرير، كم كانت لنا ونحن على عتبة الشباب أمان وأحلام حققناها بمصباحك يا علاء الدين، أو تذرعنا لتحقيقها بطاقية الإخفاء التي تيسر كثيرا جدا من الصعاب والعقبات، فسحقا لهذا النضج العقلي الذي لم يعد يكفيه من ذلك شيء، وبات محتوما علينا بمقتضى أحكامه أن نجاهد جهادا شاقا ونعمل عملا عنيفا إذا ما أردنا للأماني أن تتحقق ... فهكذا ينتقل الإنسان في مراحل حياته من شعر إلى نثر ومن أحلام حلوة إلى واقع مرير . •••

لكنني إذ التمست من قصة علاء الدين ومصباحه تسلية، فقد وجدت فيها الجد؛ لأنني ما كدت ألهو بجانب المزاح منها حتى تبين لي جانب آخر، فلئن أشبع المصباح السحري خيال الشاب الحالم، فهو كذلك كفيل أن يهدي الرجل الناضج العامل، إن هذا المصباح العجيب رمز إلى إمكان التغيير لمن أراده، ليس في الدنيا بأسرها ما يستحيل على الإرادة الإنسانية إذا صممت ومضى عزمها، وكأنما قصد علاء الدين إلى إعلان ذلك بقصة مصباحه السحري، إن الفساد ضارب في طول البلاد وعرضها، لكنه يزول لصاحب الإرادة الذي لا يرى محالا أن تتغير الحال.

ماذا عسانا أن نصنع وماذا عسانا أن ندع؟ من أين نبدأ وإلى أين ننتهي؟ الوحل يملأ الطريق في كل أرجائها فأين نلتمس سبيل النجاة؟ ... هذه وأمثالها أسئلة يلقيها السائلون المهتمون بإصلاح الفساد، فيقف الناس إزاءها رجلين: رجل يلقي السلاح قنوطا ورجل يحمل العبء لأنه يؤمن بالمصباح السحري وقدرته على محو الظلام مهما يكن حالكا.

والحديث ذو شجون ... فقد ذكرتني قصة علاء الدين ومصباحه بقصة صينية تقع منها موقع النقيض من نقيضه، إذ يروى أن عالما في الصين قد صنع عربة تطير في الهواء كما تطير ذوات الجناح، وتناقل الناس هذا النبأ العجيب حتى انتهى إلى مسامع الحاكم، فأمر الحاكم أن يؤتى له بذلك الشيطان البشري ولعبته، فجاءه العالم يصطحب العربة الطائرة، ولم يجد سبيلا إلى شرح أجزائها للحاكم؛ لأن هذا لم يكن على كثير ولا قليل من العلم بالآلات وفعلها، فطلب صاحب العربة الطائرة إلى الحاكم أن يصحبه في رحلة جوية ليقطع شكه بيقين لا ريبة فيه، وصعد الرجلان، فما هي إلا أن طارت بهما العربة العجيبة مع الطير في أجواز الفضاء، وهذا هو السحاب قد بات دونهم بعد أن كان فوق رءوسهم، ثم هبطا إلى الأرض. أما العالم فملئ بالزهو والأمل، وأما الحاكم فمرتعش مرتجف من هول ما رأى. الحق أنها معجزة قد تحققت على يدي هذا الشيطان، لكنه بعد أن هدأ قليلا التفت إلى صاحبنا العالم، وقال له: هذا عجيب! عجيب جدا تحار معه العقول، لكنه يجاوز بغرابته حدود ما أطلبه لشعبي! لا، إني لا أريد لبلادي بدعة كهذه مهما تكن براعتها وإعجازها لأنها ستكون للناس عاملا من عوامل القلق بحيث تضطرب أوضاعهم اضطرابا تتغير معه الأشياء والقيم، لا، لا، إني أريد لنفسي ولشعبي راحة البال ... ثم أمر بالعربة الطائرة فتحطمت أوصالها وأجزاؤها، وأمر ذلك الشيطان البشري ألا يعود إلى مثل هذا في غد قريب أو بعيد.

العربة الطائرة ومصباح علاء الدين رمزان يختلفان فيما يشيران إليه: القصة الأولى ترمز إلى الجمود والرغبة في ألا يتغير من أمر الناس شيء، والقصة الثانية تشير إلى الإنشاء السريع والمحو السريع، وترمز إلى إمكان التجديد والتغيير - وكل ما ندخله على قصة مصباح علاء الدين من تحوير وتعديل حتى تناسب الرجولة الناضجة العاملة، بعد أن كانت خيالا يلهو به الشباب الحالم، هو أن نجعل ذلك المصباح داخل نفوسنا لا خارجها، فنجعله في الإرادة الفعالة الماضية، والعزم المصمم الذي لا ينثني.

إن للإرادة القوية لسحرا، هو بذاته ما نسبه علاء الدين إلى مصباحه؛ لأنها تستطيع أن تغير كل شيء بمثل ما غير علاء الدين بمصباحه كل شيء.

لقد روي عن شاعر إيطالي بعد الحرب الكبرى الأولى أنه قال:

مات الماضي، قتلناه بأسنة الحراب

وهذا هو الحاضر فلنفتك به فتكا

حتى نقيم للمستقبل قوائم عرش مجيد

فيا ليت ما قاله الشاعر الإيطالي يتردد في أرضنا على كل لسان.

مقومات الحياة

كان برناردشو في زيارة جار له عندما جاءه نبأ اغتيال غاندي، فقال - وقد تأثر للنبأ: «لقد قلتها مرارا، إن الرجل الطيب دائما في خطر.»

وأذكر أني لما قرأت ذلك في حينه، جعلت أفكر لنفسي: من ذا يكون الرجل الطيب الذي تجيء طيبته خطرا عليه؟ وأذكر كذلك أني لم أجد سبيل الجواب عن هذا السؤال ميسرا؛ لأنني كلما قلبت في رأسي هذه الصفة أو تلك، مما عساه أن يحدد لي معنى هذه «الطيبة» المشئومة الخطرة على صاحبها، وجدتها هي بذاتها صفة مطلوبة محمودة، ويستحيل - من الوجهة البيولوجية على الأقل - أن تطلب الصفات التي تودي بأصحابها إلى التهلكة.

لكنه ما من شك في أن هنالك نوعا من «الضعف» ينعتونه في لغة الحديث الجارية «بالطيبة» - ولغة الحديث في هذا مؤدية للمعنى المراد أبلغ الأداء، حين يصف لك الناس هذا الشخص أو ذاك بأنه «رجل طيب» في نغمة صوتية خاصة، تبين لك على الفور بأن المقصود هنا، هو أن بالشخص الموصوف سذاجة أو بلاهة أو سرعة تصديق، تجعله في خطر من الناس، وتجعل الناس في مأمن منه ... لكن غاندي «الطيب» لم يكن هذا الساذج الأبله، فأين يكون العنصر المشترك بين الطيبة هنا والطيبة هناك؟

للهنود في ذلك قصة لطيفة ربما أنارت أمامنا بعض الطريق، فهم يحكون أن ثعبانا راح ينفث سمومه في الناس هنا وهناك بلا حساب، فيلدغ من يستحق ومن لا يستحق بغير تمييز، حتى كانت ساعة تحرك فيها ضميره، فندم على هذا الشر كله الذي يصيب به الناس أخيارا وأشرارا، وصمم على التوبة، فقصد من فوره إلى راهب متعبد يستفتيه نوع الحياة التي يحياها ليرضى عنه الله والناس، فأفتاه الراهب بأن يعيش كما يعيش هو، أعني أن ينتبذ من وجه الأرض مكانا معزولا، فيكتفي بالقوت اليسير، بعيدا عن الحياة ومغرياتها، فعاد الثعبان يبحث لنفسه عن ركن مهجور، ووجد بغيته في منطقة خلاء من العمران، وهنالك تحوى هادئ البال راضي النفس، لكن ذلك لم يدم له طويلا، إذ جاءت جماعة من الصبيان تلهو، وأبصر أحدهم بالثعبان متكوما في ركن الخرابة، فصاح صيحة الذعر وجرى وتبعه الباقون، ثم عادوا في اليوم التالي ليجدوا الثعبان على حاله هناك، فأمسك صبي بحجر من بعيد وألقاه وجرى وتبعه بقية الإخوان، وعادوا في اليوم الثالث ليجدوا الثعبان على استكانته، فألقوا عليه بدل الحجر حجرين، وأخذت القذائف تكثر في كل يوم عن سابقه، حتى هان أمر الثعبان في أعينهم، واقتربوا منه في غير خوف، وراحوا يمطرونه وابلا من حجارة كل يوم، فكادوا يرجمونه رجما يمزقه ويقضي عليه.

فلم يسع الثعبان إلا أن يعود إلى الراهب يستفتيه في هذا الموقف الجديد، فها هو ذا قد تاب وأناب، وانزوى عن الناس واعتكف، لكن شرار الناس لم يتركوه، واعتدوا عليه بما لم يعد به احتمال عليه، فماذا عساه صانع حتى لا يغضب الله والناس؟ فقال له الراهب: إنني لم أقصد حين أرشدتك إلى طريق الهدى، أن تتلقى الاعتداء بغير عدوان يقيك آنا بعد آن، فلا بد لك في الأسبوع مرة من نفثة تنفثها في الهواء؛ ليعلم هؤلاء الصبيان الأشرار أنك تستطيع - إن أردت - أن تجيبهم إيذاء بإيذاء.

أقول: إن هذه القصة الهندية تنير أمامنا بعض الطريق في التفرقة بين «طيبة» و«طيبة» - بين الطيبة التي ترضي الله والناس في غير ضعف ولا خطر، والطيبة التي تستعدي على صاحبها عوامل الضر والأذى، فالطيب من الصنف الأول هو من لا يعتدي بادئا بالاعتداء، لكنه لا يسكت عن رد اعتداء وقع عليه، والطيب من الصنف الثاني هو من لا يعتدي، ثم يسكت عن رد الاعتداء - وإذا فلغة الحديث الجارية على صواب، حين تنعت الناس بالطيبة في نغمتين مختلفتين: نغمة تدل على أن الشخص الموصوف على خلق قويم، لكنه في الوقت نفسه ذو لحم مر لا يسهل أكله التهاما، ونغمة أخرى تدل على أنه إلى جانب استقامة أخلاقه يمكن أن يكون نهبا للطامعين.

إنني لا أحسن دراسة طبائع الحيوان، فلعلي لا أكون بعيدا عن الصواب إذا زعمت أن الليث والذئب والحمل تمثل ثلاثة ضروب مختلفة من الطبائع في ميدان العدوان ورده، فالليث - فيما أعلم - يرد الاعتداء إذا وقع لكنه لا يبادئ به، والذئب يصنع الصنيعين معا، فيبدأ بالعدوان ويرد، والحمل لا يفعل هذا ولا ذاك، فلا اعتداء ولا رد اعتداء، ومن ثم وداعته التي ذهبت بذكرها الأمثال، فإن كان لنا أن نختار من هذه الطبائع الثلاثة واحدا، فهو طبع الليث؛ لأن الذئب شر والحمل ضعف، ففي الليث «طيبة» بالمعنى القوي - إن صح هذا التعبير - وفي الحمل «طيبة» بالمعنى الضعيف، وأما الذئب فكله خبيث.

وأساس القوة في الطيبة القوية، هو أن مقومات الحياة الصحيحة تتوافر فيها، وأول هذه المقومات للحياة، بل تعريف الحياة وتحديد معناها - في رأي هربرت سبنسر - هو استمرار المواءمة بين ما يحدث في باطن الكائن الحي وما يحدث في محيطه الخارجي، الحياة - في صميم معناها - هي أن يستجيب الكائن الحي لما يقع حوله، والموت هو أن تقف هذه الاستجابة للمؤثرات الآتية من خارج، الكائن الحي يرد على المنبهات المحيطة به ردودا ملائمة ليوفق بين داخله وخارجه، والجسم الميت تأتيه المنبهات فلا يتنبه ولا يجيب.

الفرق بين الفاعلية والقابلية هو نفسه الفرق بين الحياة والموت، الحي فاعل والميت قابل، الحي يتلقى عوامل الجو - مثلا - من حرارة وبرودة، فيتخذ منها موقفا ملائما، وأما قطعة الحجر الملقاة في الفلاة، فتتلقى هي كذلك عوامل الجو نفسها من حرارة وبرودة، فتفعل فيها تلك العوامل فعلها من تفتيت وتحليل وتهديم وبعثرة، وهي إزاء هذا كله قابلة وكفى، لا حيلة لها ولا سبيل.

والحياة - بهذا المعنى - تكون درجات يتفاوت بها الأحياء، فليس كل ما هنالك من فرق هو أن يكون هذا حيا وهذا ميتا، بل هنالك فروق فسيحة بين الأحياء أنفسهم في نصيبهم من الحياة؛ لأن هنالك فروقا فسيحة بينهم في القدرة على إجابات المنبهات الخارجية بما يلائمها، وها هنا أيضا نرى في لغة الحديث الجارية بلاغة في الأداء، حيث تصف شخصا بأنه «مليء بالحياة»، إذ أكواب الأحياء تتفاوت - كما رأينا - في مقدار ما بها من العصارة الحيوية، فكوب مليء إلى حافته، وكوب فيه العصارة إلى نصفه أو ربعه، وثالث فارغ، يعد صاحبه بين الأحياء بهتانا وزورا، حين يجيء أوان التعداد وإحصاء السكان.

بين اليقظة الواعية في طرف، والموت البارد في طرف آخر، هنالك حالات متدرجة من الغيبوبة والنعاس، التي إن أدركت فيها الحواس شيئا مما حولها، فأخلاط مهوشة لا تغني شيئا من حركة الجسم ونشاط الأعضاء، وسيأخذك العجب حين أزعم لك أن قلة ضئيلة من الناس هي اليقظانة الواعية، وأما الكثرة الغالبة منهم ففي غيبوبة ونعاس، في وجوههم أعين مفتوحة ، لكنها تنظر ولا ترى.

والأمم في هذا كله كالأفراد سواء بسواء، فما الأمة إلا مجموعة أفرادها، وقد تشيع في هؤلاء الأفراد يقظة للعالم من حولهم، فتكون أمتهم بذلك أمة حية، أو قد تشيع فيهم حالة الغيبوبة فتكون أمتهم بذلك نعسانة غافلة، وفي إيقاظ الأمة النعسانة معنى النهوض، فإذا قلنا إن أوروبا قد «نهضت» في القرن السابع عشر، حين تنبه فيها نفر من أبنائها إلى عالم الأرض والسماء، كان معنى ذلك اعترافا منا بغيبوبة سابقة، شاعت في أبنائها، فأغمضت أعينهم وأصمت آذانهم عن مشاهد الدنيا وأصواتها، وإذا قلنا إن مصر قد بدأت «نهضتها» في أول القرن التاسع عشر، كان المراد بذلك أنها ظلت غافلة عن أحداث العالم الخارجي حتى ذلك الحين، ثم جاءها من أيقظها ففتح عينيه. وإني لأذكر أستاذنا الجليل «...» وهو يحاضرنا أيام الطلب في الحملة الفرنسية على مصر، بعلمه الغزير وفكاهته البارعة، كيف أخذ يرسم لنا صورة حية للمصريين عندئذ، وهم في نعاسهم غارقون، حتى إذا ما جاءهم «نلسن» بأسطوله باحثا عن نابليون - لأن نابليون وهو في طريقه إلى مصر، قد أخفى عن العالم هدفه المقصود - فسألهم: ألم يمر ببلادكم نابليون بمراكبه؟ فقال له من أجابه: أي نابليون وأية مراكب؟ إننا لا ندري من أمر ذلك شيئا، نحن بلاد تتبع السلطان ... إلى آخر الصورة الفكهة البديعة التي رسمها لنا أستاذنا عندئذ، ولم يطل بهؤلاء الراقدين الغافلين زمن الانتظار، حتى جاءتهم الحملة النابليونية توقظهم، فعلموا عندئذ أن أوروبا قد قامت بالثورة الفرنسية على قدم وساق، واتصلت مصر بذلك العالم الصاخب منذ ذلك الحين، فقيل - وللقول مغزاه - إن مصر قد «نهضت» فاستيقظت من نعاسها، وهي ما تزال ماضية في هذا النهوض المبارك، حتى تستكمل يقظتها ووعيها، فتكمل لها بذلك مقومات الحياة.

إن هذه الأحداث الدامية التي تقع في أرضنا اليوم هي من علائم البشرى؛ لأننا قد أخذنا نرد على المؤثرات من حولنا بما يلائمها، فحياتنا القوية المليئة مرهونة بقدرتنا على الاستجابة السريعة للمؤثرات الخارجية، استجابة نؤقلم بها أنفسنا على نحو يوفق بينها وبين العالم المحيط بنا بكل ما فيه من خير وشر، إنه لا يجدينا شيئا أن ننكمش في قواقعنا الفكرية والسلوكية، ظنا منا بأن تلك القواقع قمينة أن تصون لنا شخصية مستقلة متميزة قائمة بذاتها، فلنفتح النوافذ والأبواب على مصاريعها للهواء، بل للزوابع والعواصف، حتى تتعادل درجة الحرارة داخل الدار معها في الخارج، ولا يكفي أن نتلقى ونحن في قابلية الحجر الأصم، بل لا بد أن نرد على العوامل الآتية في فاعلية نثبت وجودنا ونؤكد للعالم أننا جزء من جسمه متنبه حساس.

عزمات الإرادة

ما أسرع وما أهون أن تسري الفكرة الخاطئة في الناس، فلا يستطيع بعدئذ أن يشير إلى بطلانها إلا فيلسوف كبير أو طفل صغير! ذلك لأن الحقيقة كثيرا ما تكون واضحة ناصعة جلية، يراها كل ذي بصر لم يعمه الهوى، لكن إعلانها - مع ذلك - قد يحتاج إلى فيلسوف جريء أو طفل بريء!

إن من أقاصيص «هانس أندرسن» قصة مشهورة معروفة، خلاصتها أن حاكما كان مولعا بالملابس الجديدة، فأقبل ذات يوم على مدينته محتالان زعما له أنهما يحسنان نسج قماش رقيق جميل، فيه ميزة عجيبة، وهي أنه يخفى على عيون العاجزين والبلهاء، ففرح الحاكم بما سمع، وأمرهما أن ينسجا له ثوبا من هذا القماش العجيب؛ لأنه عندئذ يستطيع أن يميز في رجال حكومته بين القادر والعاجز، وأن يعرف من ذا يكون من الناس عاقلا ومن لا يكون.

وأخذ المحتالان ما طلباه من مال، ثم أخذا يخبطان بالأنوال نهارا وليلا؛ ليوهما الحاكم أنهما جادان في العمل، والحقيقة أنهما لا يعملان شيئا، وبعد أيام أرسل الحاكم وزيره إلى النساجين ليرى كم نسجا، فأخذ هذان يلوحان بأيديهما في الفضاء، زاعمين أنهما يشيران إلى قماش منسوج مزخرف، ولم ير الوزير شيئا، لكنه لم يجرؤ على إعلان ذلك حتى لا يوصم بالعجز والبلاهة، وراح يؤيد المحتالين في جمال القماش وجودته.

وسرى نبأ القماش الجديد العجيب بين أهل المدينة، وأعلن الحاكم أنه سيسير بين شعبه في موكب رسمي يوم يرتدي حلته الجديدة، فلما حان اليوم ذهب الحاكم مع حاشيته إلى مكان النسج، وخلع ملابسه ليرتدي الثوب الجديد، وجعل النساجان يحركان أيديهما في الهواء كأنما يلبسانه شيئا. إنه لم ير في الهواء ثوبا ولا شبه ثوب، لكنه لم يجرؤ على إعلان ذلك فيوصف بالبلاهة والعجز، مع أنه صاحب جلالة وفخامة، وراح بدوره يبدي إعجابه بما لبس، وينظر إلى نفسه في المرآة مزهوا فخورا.

وبدأ الموكب الرسمي، وسار الحاكم بين الناس «عاريا» إلا من أوهامه وأوهام شعبه، فمن ذا يجرؤ على القول بأنه لا يرى شيئا؟ ... إلا طفل صغير كان يقف إلى جانب أبيه، فصاح لأبيه قائلا: لكن الحاكم لا يرتدي شيئا! فنقلها أبوه إلى جاره، وهذا الجار إلى جاره، حتى ساد الرأي بأن الحاكم عريان الجسد لا يرتدي شيئا.

والطفل الذي أخرج الناس من ضلالهم حين رأى الحقيقة الواضحة ببداهته الطبيعية التي لم يفسدها الناس بأوهامهم، هو كالفيلسوف الذي يرى للناس رأيا واضحا يسيرا، فلا يكون فضله عليهم هو أنه أدرك ما لا يستطيعون إدراكه، بل فضله هو جرأته في إعلان ما يدركه ويدركونه معه ... وأي عسر في أن يقال إن الإنسان من حقه أن يعيش حرا في رأيه وعقيدته؟ لكن إعلان هذا الحق قد تلكأ مئات السنين إن لم نقل ألوفها حتى يعلنه الجريء في وجه الطغاة، أي عسر في أن يقال إن الإنسان من حقه أن يأكل ما يشبعه ويكتسي بما يقيه؟ لكن إعلان هذا الحق قد تلكأ وما يزال متلكئا ... وهكذا قل في بدائه كثيرة يراها كل إنسان، أو يستطيع أن يراها إذا أراد، لكنه ينتظر أول ناعق.

وهل تصدق أن الأمر قد احتاج إلى فيلسوف من أضخم الفلاسفة ليقول للناس: «أنا موجود»؟! هل تصدق أن وجود الفرد - على بداهته - قد تلكأ إعلانه حتى جاءه فيلسوف؟ لا، بل إننا حتى هذه الساعة بحاجة إلى فيلسوف وفيلسوف وفلاسفة كثيرين؛ ليصيحوا في الناس بأن الفرد موجود وجودا حقيقيا، وليس هو بالشبح أو الظل، ولا هو مجرد اسم يكتب بالمداد على شهادة الميلاد، أو مجرد رقم يسجل في دفاتر هذا أو دفاتر ذاك، نحن إلى هذه الساعة بحاجة إلى فلاسفة كثيرين ليقولوا إن الفرد موجود وجودا ماديا، وإنه من لحم ودم، وإن له بطنا يجوع وجلدا يشعر بالبرد ويرتعش ...

لكن الفكرة قد تكون واضحة ناصعة جلية، ومع ذلك فلا يستطيع إعلانها إلا فيلسوف جريء أو طفل بريء!

إنه ليروي عن مدام دي ستايل أنها طلبت من فيلسوف ألماني أن يلخص لها فلسفته في عشر دقائق، فلما أجابها الفيلسوف بأن ذلك مستحيل لصعوبة الفكرة وكثرة تعقيدها قالت في اعتداد: «إن ما لا أستطيع فهمه في عشر دقائق لا يكون عندي جديرا بأن يفهم»، وتلك بالطبع مبالغة منها، لكنها مبالغة تفيدنا في لفت أنظارنا إلى مجرد إدراك الحقيقة النظرية ليس دائما هو موضع الصعوبة، بل الصعوبة في الانتقال من رؤية الحقيقة إلى إعلانها، أو بعبارة أخرى، الانتقال من الفكرة إلى العمل، وفي مضاء العزم يكون الفرق بين إنسان وإنسان، وبين أمة وأمة.

ما كان أجدر ديكارت أن يقول: «إني أريد فأنا إذا موجود» بدل قوله: «إني أفكر فأنا إذا موجود»؛ لأن جوهر وجود الإنسان عمل يريده وينجزه لا فكر يديره في رأسه، فالإنسان في حياته أشبه ما يكون بالتائه في جوف غابة كثيفة، لا يدري كيف يكون الطريق إلى الخلاء المكشوف، وخير له ألف مرة أن يعقد إرادته على خطة ينفذها، مهما طالت، كأن يسير مثلا ناحية الشمال أو ناحية الجنوب بغير ذبذبة ولا تحول، من أن يظل واقفا في مكانه، أو أن يدور في دائرة مغلقة، أو أن يبدأ طريقا لا يخطو فيه إلا خطوات قليلة، ثم يحاول طريقا ثانيا فثالثا ...

لقد رأيت منذ أيام قليلة مجموعة من أطفال صغار أربعة أو خمسة، ولا أدري ماذا أرادوا أن يصنعوا، لكني لاحظت أنهم لم يعرفوا كيف ينجزون ما أرادوا، فسرعان ما اعتركوا وأخذ بعضهم يشد بعضا من شعر رأسه أو أطراف ثوبه، في انفعال شديد، فلم يسعني إلا أن أرى في هؤلاء الأطفال صورة مصغرة لنا، لكنها على كثير من دقة التصوير لحالنا، فلست أعلم كم قضينا من القرون لا نعمل لأنفسنا شيئا، فلما نهضنا حديثا وأردنا أن نعمل، أرتج علينا، فأخذنا انفعال الأطفال، وما لبثنا أن اعتركنا بعضنا مع بعض شدا للشعر وجذبا لأطراف الثياب؛ ذلك لأننا نعرف ماذا يعمل، لكننا لا نملك الإرادة التي تنفذ، فلا عجب ألا تجد اختلافا بين أحزابنا على الأهداف؛ لأن الأهداف «فكرة» لا يصعب على الطفل إدراكها، وهل يعجز الطفل عن إدراك الفكرة البسيطة القائلة بأننا نريد أن نستقل عن المستعمر لنكون دولة ذات سيادة كاملة؟ الفكرة بسيطة واضحة، بل والطريق إليها قد يكون «معروفا» كذلك؛ معروفا كفكرة، ولكننا حين بدأنا نخطو نحو التنفيذ، حل بأبداننا شلل تراكم على مر العصور وطول القعود والركود، فانتقلت الفاعلية من الأقدام التي تسير، إلى الحلوق تصيح والأذرعة تلوح في الهواء وتضرب.

تنقصنا الإرادة، والإرادة لا تكون إلا في شخص يريد، ليس هناك «إرادة» سابحة في الهواء مع السحاب، أو «إرادة» تسكن الكهوف مع الأشباح والأرواح، إنما الإرادة تراها في فرد يريد، فقم الآن واعمل. إنه لتعجبني هذه الأسطر الآتية في رواية «ميديا» ل «كورني»، ولتلاحظ أن «كورني» في مسرحياته قد جعل عظماءه هم أصحاب الإرادة التي تنفذ وتمضي في غير ضعف أو لين، فهذه «ميديا» قد زال عنها كل ما تركن إليه حياتها، لكنها تستحفز في نفسها العزيمة والثقة بالنفس:

الوطن ينبذك والزوج خائن.

فماذا بقي لك في هذه المحنة السوداء؟

بقيت لي نفسي.

نفسي وحدها وفيها الكفاية.

ولا نحسبه من فعل المصادفات العابرة أن ينطق أديب فرنسي بهذه الأسطر في نفس الوقت الذي يتحدث فيه فيلسوف فرنسي بمثلها، وذلك هو ديكارت، الذي لم يتردد في هدم كل شيء بشكه، وكأنما ألقى على نفسه مثل السؤال الذي ألقته «ميديا» على نفسها: ها أنت ذا واقف بين ركام وأنقاض فماذا بقي لك؟ فأجاب أيضا بمثل ما أجابت به «ميديا»: بقيت ليس نفسي، «فأنا موجود».

وتلك بعينها هي وقفات الأبطال في التاريخ الإنساني كله: الأنبياء والمصلحون وزعماء الثورات وقادة الحروب الكبرى. فكل من هؤلاء كان ينطق بلسان حاله ولسان أفعاله، وينطق في وجه الظروف القائمة قائلا: هذا هو كل شيء قد فسد من حولك، فماذا بقي لك؟ وقد كان كل من هؤلاء يجيب لنفسه: بقيت نفسي، وما هو إلا أن يأخذ في التنفيذ والعمل، البطل الحقيقي لا يملى عليه بل يملي، ومهما صغرت الدائرة التي يفرض فيها الإنسان إملاءه وإرادته، فهو على كل حال أوفر حياة ممن يتلقى عن غيره، فلو كانت «جان دارك» رأت رؤاها وسمعت أصوات قلبها ثم وقفت عند هذا الحد، لما كان منها بطلة ولا شبهها؛ لأن الزاعمين والزاعمات بأمثال تلك الرؤى والأصوات لا يكاد يحصرهم العد في كل جيل من كل أمة، والناس يسلكونهم - بحق - في عداد المخرفين، لكن الذي نقل «جان دارك» من هذه الدائرة الدنيا - دائرة التخريف - إلى دائرة البطولة والعظمة النادرة، هو أنها راحت تعمل وفق أحلامها ورؤاها! قالت لها الكنيسة: تعالي نحقق صدق دعواك، فأبت أن تذعن لقضاء الكنيسة؛ لأن جانب البطولة منها قد أبى عليها أن تنصت لما يقوله الآخرون.

أول خطوات الرجاء - إذا - أن نطمئن إلى سلامة بناء الأفراد في قوة إرادتهم وقدرتهم على العمل والإنجاز، أول خطوات الرجاء أن نبث في كل فرد عقيدة قوية بأن الإنسان أقوى ما في الوجود، إنه أقوى من الوجود كله، هذا الإنسان الذي يبدو كأنه القصبة النحيلة تهزها الريح، في يده العصا السحرية التي تتحكم في الطبيعة من أولها إلى آخرها، وما عصاه السحرية هذه سوى عزيمة ماضية إلى هدفها بالعمل الدءوب.

هاروت وماروت

كان من أساطير العرب أن كوكب الزهرة هو امرأة بغي تحولت نجما، وخلاصة الأسطورة كما ذكرها «البلخي» هي ما يأتي: «روي أن الله تعالى لما أراد أن يخلق آدم، قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فلما خلق آدم وأظهرت ذريته في الأرض الفساد، قالت الملائكة: يا رب، أهؤلاء الذين استخلفتهم في الأرض ؟ فأمرهم الله أن يختاروا من أفاضلهم ثلاثة ينزلهم إلى الأرض ليحملوا الناس على الحق، ففعلوا. قيل وجاءتهم امرأة فافتتنوا بها حتى شربوا الخمر وقتلوا النفس وسجدوا لغير الله سبحانه وتعالى، وعلموا المرأة الاسم الذي كانوا يصعدون به إلى السماء، فصعدت، حتى إذا كانت في السماء مسخت كوكبا، وهي الزهرة. قالوا وخير الملكان بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا عذاب الدنيا، فهما معلقان بشعورهما في بئر بأرض بابل، يأتيهما السحرة فيتعلمون منهما السحر.» (الأساطير العربية قبل الإسلام، نقلا عن كتاب «عبقر» لصاحبه شفيق معلوف من أدباء المهجر).

تلك هي أسطورة هاروت وماروت كما قرأتها، ولا بد لنا بادئ ذي بدء أن نغضي عما فيها من خلط بين المثنى والجمع، إذ هي تبدأ بالحديث عن ثلاثة من الملائكة أرسلوا إلى الأرض، فتتحدث عن هاروت وماروت وحدهما بصيغة المثنى، دون أن تذكر خبرا عن زميلهما الثالث.

قرأت هذه الأسطورة فوجدتها تصور حياتنا السياسية منذ ربع قرن أو يزيد، بل وجدتها تصور كثيرا جدا من جوانب الحياة إلى جانب تصويرها للحياة السياسية.

فعناصر الأسطورة كما يرى القارئ هي أن تعيث ذرية آدم في الأرض فسادا، فيرفع الملائكة شكاتهم إلى الله، فيختارهم الله لحكومة الأرض لعلهم يصلحون. فما يكادون يضطربون في الشئون الأرضية حتى يتعرضوا لعوامل الإغراء، فيفسدون ويفسدون، ولا يكونون خيرا حالا من آدم وذريته.

وهكذا الحال في حياتنا السياسية، فكلما أرادت الظروف لحزب سياسي أن يتولى أمورنا، قالت الأحزاب الأخرى بلسان حالها متوجهة بشكاتها إلى ربها: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ... إلخ؟

ويكون الحق إلى جانب هذه الأحزاب فيما قالت؛ لأن الحزب القائم على الأمر وذريته، تظهر فيه عوامل الفساد حقا، وتنتشر في الأرض ألوان العبث على أيديهم ألوانا وأشكالا، فلا غرابة أن تشمت الأحزاب المعارضة وأن تتوجه بسؤالها إلى الله: يا رب أهؤلاء الذين استخلفتهم في الأرض؟!

وها هنا يأمر الله تلك الأحزاب المتأففة المتضجرة الغاضبة الشامتة، والتي ترى أنفسها ملائكة أطهارا أتقياء إذا قيست إلى الحاكمين الفجار، يأمر الله تلك الأحزاب الغاضبة الشامتة أن تختار من أفاضل رجالها نفرا تلقي بين أيديهم مقاليد الحكم، لعلهم أن يكونوا الصالحين المصلحين، فينزل الملائكة المختارون إلى الأرض ليحملوا الناس على الحق، ثم لا يلبثون أن تسري في دمائهم الشهوات الحيوانية الملتهبة العارمة، فتفتنهم عن أنفسهم فتنة بعيدة المدى، لا يتورعون معها أن يسجدوا لغير الله، إنهم عندئذ لا يتورعون أن يسجدوا للشيطان العابث بهم وبأحلامهم، وهو الشيطان الذي ما يزال بغوايتهم حتى يأخذ منهم كلمة السر التي يصعد بها إلى السماء حيث يلمع ويسطع كما يلمع كوكب الزهرة في السماء ... وأما هم، فيعلقون من شعورهم بين الأرض والسماء، فلا إلى الناس هبطوا واضطربوا معهم في شئون العيش الشريف، ولا إلى السماء صعدوا ليعودوا مع الملائكة أبرارا أطهارا.

والتتمة التي لم تذكرها الأسطورة، هي أن تعود ذرية آدم إلى مكان القيادة مرة أخرى، وسرعان ما تنشر الفساد في الأرض كما نشرته أول مرة. وهكذا دواليك حلقة بعد حلقة إلى يوم الدين. •••

هكذا تصور الأسطورة القديمة حياتنا السياسية الحديثة أبدع تصوير وأبرعه، لكنها إلى جانب ذلك تصور كثيرا جدا من جوانب حياتنا الأخرى، فلنا في كل يوم من أمثال هاروت وماروت مئات ومئات، ولنا في كل يوم من أمثال الزهرة كذلك مئات ومئات.

وهنا يجمل بنا أن نحدد للقارئ معنى «البغي» كما يجب أن نفهمه، فالبغي قد يكون رجلا كما قد تكون امرأة، والصفة الجوهرية في البغي أن يبيع مثله العليا من أجل نفع عاجل، وقد تكون هذه المثل العليا مبادئ خلقية تواضع عليها الناس، أو أهدافا فكرية أو فنية اتفقت عليها كلمة العالم المتحضر كله، يبيع البغي هذا كله بثمن بخس من مال أو جاه، يبيع كل ما لديه من عزة وكرامة ثمنا لصعوده، حتى إذا ما صعد البغي إلى منازل الكواكب المنيرة اللامعة، لم يسأل الناس كيف كان وكيف أتيح له الصعود ومن أين جاءه النور الذي يلمع به.

وفي حياتنا العامة، بل في حياتنا العلمية والفنية من أمثال هؤلاء البغايا كثيرون ، كثيرون جدا، ففي مكان الرياسة قد ترى من ليس له رأس يفكر، وفي مكان العلماء قد تجد من لا يقوم على علمه برهان واحد من آثاره، بل قد تصادف في مكان الصدارة من حياتنا الأدبية من سوف لا يذكره الغد القريب بصفحة واحدة خطها قلمه ... كل هؤلاء كواكب نيرات في سمائنا، كالزهرة اللألاءة كانت بغيا ثم مسخها الله كوكبا! •••

كذلك رأيت في الأسطورة معنى آخر، يمس جانبا آخر من جوانب حياتنا العلمية والسياسية.

ففي الأسطورة قد فسد الملائكة عندما نزلوا إلى الأرض، وتعريف «الملائكة» أنهم الكائنات التي تعقل بغير أجساد، أعني أنهم الكائنات التي لها ما للإنسان من فكر، دون أن يكون لها ما له من بدن، وسنتخذ «الأرض» هنا رمزا للحياة الدنيا بشئونها العملية، وبخاصة شئون السياسة.

وفي ضوء هذا التفسير للكلمتين، نسأل هذا السؤال: هل يجوز لأصحاب العقل والفكر أن يشتركوا في سياسة الجماعات اشتراكا عمليا؟ بعبارة أخرى: هل يجوز لأصحاب الفكر النظري أن يتولوا مقاليد الحكم؟

ولهذا السؤال جوابان: فأما هذه الأسطورة التي نحن اليوم بصددها، فتجيب جوابا واضحا، وهو أن لا؛ لأن العقل الخالص إذا نزل إلى الأرض واضطرب في محيط الحياة العملية انحرف عن صوابه، وضل ضلالا بعيدا؛ ذلك لأن الحياة العملية ستضطره اضطرارا أن يميل مع «الهوى» - والهوى في الأسطورة غرام بامرأة بغي، لكن الأهواء قد تتعدد صنوفها - وشرط الفكر الخالص ألا يميل مع الأهواء كائنة ما كانت، فيستوحي إملاء المنطق العقلي وحده دون أن يحب أو يكره، شرط المفكر أن يقف من موضوع تفكيره على الحياد التام، فلا يبدي عاطفة هنا أو هناك، فإذا تناول العالم الفكر وردة، انقلبت الوردة في يديه جسما يحلله إلى أجزائه كما يحلل الأوساخ والأوحال، أما إن شمها فأعجبته بأريجها، فعندئذ يصبح فنانا ويخرج من دائرة العلماء أصحاب الفكر الخالص والعقل المحايد.

وهيهات أن تشترك في عالم السياسة بفكرك وتظل محايدا لفكرتك فلا تحيد بدوافع العاطفة ذات اليمين مرة وذات اليسار أخرى، ومن ثم كان فساد الملائكة في هذه الأسطورة عندما نزلوا إلى الأرض ...

لكن للسؤال جوابا آخر قاله أفلاطون منذ زمن بعيد، فقد كتب «الجمهورية» ليقول فيما يقوله: إن الحكم ينبغي أن يكون للحكماء، أي أن تلقى مقاليد الحكومة إلى أصحاب الفكر - وهم عنده الفلاسفة - لأنهم أقدر من غيرهم على تفهم طبيعة الإنسان وقيادته. فكما أنك لا تلقي بزمام السفينة إلا إلى ربان يعرف طبيعة البحر والجو ليجنب السفينة مواضع الخطر، فكذلك سفينة الدولة ... إلى آخر ما قال.

ونحن نضع السؤال نفسه في صيغة أضيق مجالا، فنقول: هل يجوز لرجال الجامعة عندنا أن يشتركوا في الحكومة؟ ونترك للقارئ أن يختار لنفسه أحد الجوابين، فأمامه ما قد أجاب به أفلاطون، وما تجيب به أسطورة هاروت وماروت.

رهان

هي عشرون جوادا أو ثلاثون، بعضها في حلبة السباق يلهث من الجري، وبعضها الآخر في الحظائر يدس رأسه في المذاود ليطعم، أو يتمرغ على أرض لينة - بما فرشت به من الدريس - ليستجم ويستريح، ثم يتبادل الفريقان من الجياد موضعهما، فتجيء الخيل المتسابقة إلى الحظائر فتأكل من المذاود جيد العلف أو تسترخي على الأرض اللينة لتستجم وتستريح، وتذهب الخيل المستريحة الطاعمة إلى حلبة السباق لتلهث من الجري، وهكذا دواليك حينا بعد حين.

وحول حلبة السباق وقفت ألوف البشر، متلاصقة الأجساد متدافعة بالمناكب، حتى لتحمر منها الأعين، وتنتفض الأوداج، ويتصبب العرق. هذه الألوف من التعساء المناكيد، قد تأرقت جنوبها على المخادع، لم يهنأ لها في ديارها طعام ولا شراب، فجاءت إلى حلبة السباق لتبذل من مالها وجهدها ما تستطيع بذله وما لا تستطيع، رهانا على الجياد المتسابقة، حتى إذا ما أتمت الخيل شوطها، أخذ يعلو في الثراء والجاه من يعلو، ويهبط فيهما من يهبط، وللمراهنين في كل يوم حظوظ كتبت لهم في اللوح المحفوظ.

ارقب الوجود والأجساد في ذاك الزحام، واستمع إلى ما ينطقون به همسا وصياحا، حين تهتز أقدارهم في كف القدر، معلقة بما هو أوهى من خيوط العنكبوت: هذا واحد قد مط عنقه مطا، وشد أوتاره شدا، وشب على أطراف قدميه ، وأخذ يدور بناظريه خلال غابة من أعناق المتزاحمين، لعله يتابع الجياد بناظريه وهي تدور، فتنبسط في وجهه الأسارير ثم تنقبض مائة مرة في الدقيقة الواحدة؛ لأن حصانه الذي راهن عليه يتقدم تارة ويتأخر تارة، وهو مع الحصان في تقدمه وتأخره يتأرجح انبساطا وانقباضا.

وهذا آخر يضرب الأرض بقدميه من قلق، ويضرب فخذيه بيديه، ويزفر آهات متتابعة، لكنها مختلفات الصوت والمعنى، فآهة يزفرها مرة ليتوجع، وآهة أخرى يطلقها لينتشي؛ لأن حصانه هو الآخر لا يخلي بينه وبين الأمل المتصل أو اليأس المتصل، فأخذ يؤرجحه بين اليأس والأمل.

وهذا ثالث لا يكف عن الصياح إلى الجياد مناديا لها بأسمائها، يستنهض فيها الهمم؛ لأن سنابكها تكتب له مقدار حظه، وكل ثنية ينثني بها هذا الحصان أو ذاك، لها في حياته هو صدى، فقد ينثني حصانه قليلا ذات اليمين، فإذا معنى ذلك أنه رئيس على أترابه منذ الغد، أو ينثني قليلا ذات اليسار، فيهبط منذ غده إلى مراتب المرءوسين، وهلم جرا، فهو معذور إذا أجهد حلقه بالصياح هاتفا: «الله الله يا سموحة!» «شد حيلك يا بلبل» ...

وللمراهنين في اختيار جيادهم مذاهب، فبعضهم يفضل أن يضع رهانه على جواد سباق، راضيا بالكسب القليل المضمون؛ ذلك لأن الجواد إذا اشتهر بالسبق، كثر المراهنون عليه، وبالتالي قل النصيب عند توزيع الغنائم، وبعضهم الآخر يؤثر لنفسه الرهان على جواد مغمور بعض الشيء، لأن الحظ إذا أسعف هذا الجواد المختبئ وكان له السبق، فاز المراهن بربح موفور لقلة المراهنين، وبعضهم يمسك العصا من وسطها - كما يقولون - حتى لا يفوته طرف اليمين ولا طرف اليسار، فيراهن على النوعين في آن معا.

وأشهد أني عشت ما قد عشت من سنين، غافلا عن هذا النشاط العجيب الذي يستنفد جهود الألوف من البشر، فقد كنت أحسب أن الناس جميعا ينفقون أيامهم كما أنفق أيامي على نحو بارد ممل رتيب: عمل وأكل ونوم، فعمل وأكل ونوم، ثم عمل وأكل ونوم. لم أكن أدري أن هناك ألوفا من البشر تغمض أعينها على أرق وتفتحها على قلق، من كثرة ما أضافت إلى حياتها من عوامل الأمل واليأس، وأسباب الصعود والهبوط، بحيث لا يكون الواحد منهم في غده ما يكون في يومه، فهو في كل يوم على حال.

وظللت على غفلتي حتى فتح عيني صديقي الطبيب البارع حين ذهبنا يوما إلى دار السينما، حيث شهدنا فيها مباراة في الملاكمة جرت بين ملاكمين قيل إنهما مشهوران معروفان في العالم أجمع - وإن كنت لم أعرف عنهما شيئا - وحول منصة المباراة جلست أو وقفت ألوف مؤلفة من المتفرجين، على أشد ما يكون الناس تحمسا واهتياجا، فكانوا يقفون ويقعدون، ويلوحون بأيديهم ويخبطون الأرض بأقدامهم ويصيحون على نحو عنيف مثير، كأنه يوم الحشر قد نفخ له في الصور.

عندئذ ملت نحو صديقي أهمس في أذنه: كيف تبلغ حرارة التحمس عند هؤلاء الناس كل هذا المدى؟ ألسنا مثلهم ننظر إلى اللاعبين فنرى ما يرون؟ لماذا - إذا - ننظر في هدوء وصمت، وينظرون هم في هذه الضجة الكبرى؟ كيف يكون بين الناس كل هذه الفروق والمشهد واحد أمامهم؟!

فضحك صديقي الطبيب البارع ضحكته الرزينة الهادئة، وقال: إن هؤلاء لا يتفرجون على الملاكمة وكفى كما نفعل نحن، وإلا لما كان هناك كل هذا الفرق بيننا وبينهم، لكنهم قد راهنوا بأموالهم على اللاعبين، فأصبح الأمر عندهم أمر كسب أو خسارة، ومن ثم هذا الهيجان العنيف وهذا التحمس الشديد. •••

وأشهد أني منذ تلك الملاحظة اليسيرة العابرة، التي قالها لي الصديق الطبيب، قد فهمت من مجرى السياسة المصرية ما لم أكن أفهمه من تيارات ودوافع، وانكشف لي عن كثير من سرها الذي ليس بالسر عند النابهين المتنبهين الذين تمتلئ عروقهم بدم الحياة ويشتعلون حرارة بوقدة العيش، وإنما هو سر ينتظر الكشف عند الغافلين المغفلين الذين يجعلون أيامهم عملا وأكلا ونوما.

في حلبة السياسة المصرية تجيء وزارة وتمضي وزارة، كالجياد رأيناها في حلبة السباق تجيء وتمضي، وبين الوزراء يجيئون ويمضون، ما بين الجياد: فمنهم وزراء عاملون قائمون على الحكم، يشبهون الخيل وهي تجري شوطها لاهثة من الجري ، ومنهم وزراء متعطلون يقضون فترة الراحة، فتراهم في الأندية والدور يطعمون وينعمون استجماما واسترخاء؛ استعدادا لدورتهم القادمة - فثلاثون عاما من أعوام السياسة المصرية قد علمتهم أن الوزارة دورات متتابعة يتولاها فريق بعد فريق، رضي الناس أو كرهوا.

أما الغافلون المغفلون فيقرءون خبر وزارة تجيء ووزارة تمضي، على نحو ما كنت مع صديقي الطبيب أشهد الملاكمة، يقرءونه خبرا من الأخبار كما يقرءون - مثلا - أن مواعيد القطارات الذاهبة إلى الإسكندرية قد تغيرت مع قدوم الصيف أو حلول الشتاء، فيترتب على ذلك تغيير يسير جدا في حياتهم، أو لا يترتب عليه شيء قط إن لم يكونوا من أصحاب السفر والانتقال - وهم في كلتا الحالتين يقرءون الخبر بجنان ثابت وأعصاب هادئة، ولا يكادون يفرغون من قراءته، حتى يلقوا بالجريدة جانبا، ليمضوا فيما هم ماضون فيه من عمل وأكل ونوم.

وأما النابهون المتنبهون فليست هذه حالهم، فهم أشباه هؤلاء الألوف الذين شهدناهم حول حلبة السباق يراهنون بجهدهم كله ومالهم كله على هذا الحصان أو ذاك، ثم يقفون بعد ذلك في تشوف وتطلع وقلق وأرق وانتظار، ترى هل يكتب لهم في ميدان السباق صعود أم هبوط؟ ترى هل يخرجون من الزحام ظافرين أم خاسرين؟

ويختلف المراهنون في ميدان السياسة المصرية أحزابا على نحو ما رأينا المراهنين في حلبة السباق يختلفون مذاهب: ألم تر فريقا من المراهنين على الجياد يفضل الرهان على جواد كسبه قليل لكنه أكثر ضمانا من غيره لأنه سباق؟ وفريقا آخر يؤثر الرهان على جواد مغمور بعض الشيء لكن كسبه غزير موفور إن صادفه التوفيق وحالفه النجاح.

فهكذا يتخير المشتغلون بالسياسة المصرية أحزابهم: هل يناصر هذا الحزب أو ذاك؟ أما هذا الحزب فأشياعه كثيرون والرجحان في الكسب من ورائه قليل، وأما ذلك الحزب فأشياعه قليلون واحتمال الكسب من ورائه كبير، وذلك الحزب الآخر لا رجال فيه، فطريق الوزراء لأعضائه البارزين مفتوح. وهكذا يأخذ المشتغلون بالسياسة المصرية في المفاضلة بين حزب وحزب، ثم يختلفون في اختيارهم باختلاف أمزجتهم وطباعهم، فمن الناس من يحب المغامرة الجريئة التي إما رفعتهم إلى قمة الجبل الشاهق أو جاءتهم بالهلاك، كهؤلاء الذين نقرأ عنهم في الأساطير من طلاب الكنوز المدفونة في الجزر البعيدة، تراهم يركبون في سبيل بغيتهم كل صعب، فإما كنز يقعون عليه فتدين لهم الدنيا أو يهلكون، لكن الناس فيهم إلى جانب هؤلاء المغامرين من أذلهم الحرص فأرادوا السير الهين السلس وإن أبطأ.

ورءوس الأحزاب المصرية على أتم علم بجوانب الموقف ما ظهر منها وما استتر، فهم يعلمون حق العلم أن ليس الأمر بين الناس مرهونا باختلاف الآراء وتشعب الفلسفات، ليس الأمر عند المشتغلين بالسياسة المصرية موقوفا على اختلاف المنهج، فوزارة تجيء لأنها اشتراكية والناس قد صوتوا في الانتخاب للحكم الاشتراكي، أو لأنها محافظة على النظام الاقتصادي القديم والناس قد أرادوا عند التصويت لهذا النظام القديم أن يبقى، إنما الأمر كله كسب شخصي وغنائم، الأمر كله رهان في حلبة السباق: أي الجياد أقرب إلى أن يملأ جيوبي بالمال وجوفي بالطعام فأراهن عليه ... وأدرك رؤساء الأحزاب المصرية ذلك أتم إدراك، فراحوا - كلما جاء الحكم إلى فريق منهم - يغدقون على أنصارهم ألوان النعيم جزاء ما رهنوا، ولقاء ما بذلوا من جهد جهيد في الصياح والهتاف والقلق والأرق.

والسعيد السعيد في هذا البلد هو من يهتدي في حلبة السياسة إلى الجواد الرابح، والشقي الشقي هو من ربط مصيره بجواد خاسر.

نظرة الطائر

يرتفع الطائر إلى السماء وينظر، فتكون نظرته واسعة المدى بعيدة الأفق، وأما الدودة فتنكفئ بوجهها نحو الأرض زاحفة، فينحصر نطاق النظر عندها حتى لا يمتد إلى أبعد من أنفها.

ونحن في كثير جدا من أمورنا - أفرادا ودولة - أقرب إلى الدود الزاحف منا إلى الطير المحلق في الفضاء، فترانا ننظر إلى «هنا» و«الآن» - على حد تعبير الإنجليز - أي ننظر إلى مواضع أقدامنا وإلى اللحظة الزمنية القصيرة التي نجتازها، ثم نتصرف بما يرضي ذلك المكان المحدود وهذا الزمن القصير العابر، بغض النظر عما يترتب على ذلك من نتائج فيما هو أبعد قليلا من نطاقنا المكاني والزماني الضيق المحدود، ولا غرابة إذا أن ترانا ننقض غدا ما أبرمناه اليوم، ثم نهدم بعد غد ما نبنيه في الغد؛ ذلك لأننا اليوم لا نفكر في غد أو بعد غد، وفي غد ننسي اليوم ونتناسى ما يتلوه من أيام - كالتي نقضت غزلها، لولا أن التي كانت تغزل غزلها لكي تنقضه، ثم تغزله مرة جديدة لتنقضه، وهكذا، إنما كانت تقصد إلى المماطلة حتى يعود زوجها من سفره البعيد المجهول، تخلصا من خطابها الكثيرين الذين لبثوا ينتظرون قرارها، وقد وعدتهم ألا تنطق بقرار حتى تتم غزلها، ثم قصدت ألا تتمه أبدا، فراحت تغزل وتنقض ما غزلت، وهي عالمة بما تفعل مدبرة له، وإذا فمن الظلم على تلك المفكرة المدبرة التي ترسم لنفسها الخطة وتأخذ في تنفيذها؛ من الظلم عليها أن نقيس أنفسنا بها حين نريد تشبيها يصور حالنا، إذ نبني اليوم ما نهدمه بعد حين، عن غير تدبر ولا تفكير.

حين يرتفع الطائر إلى السماء لينظر، تعتدل في عينيه النسب بين الأشياء مقرونا بعضها إلى بعض، فيرى على وجه الدقة ضآلة الضئيل وعظمة العظيم، إذ يرى - مثلا - كم يكبر هذا البناء العالي ذلك الكوخ الصغير الوطيء؛ لأنه يراهما معا بنظرة واحدة فتسهل الموازنة والمقارنة، أما إذا وقف ذلك الطائر على باب الكوخ ونظر، فسيخيل إليه أنه إزاء عمارة جبارة، أين هو منها طولا وعرضا وارتفاعا، وسيحجب الكوخ عن عينيه ما وراءه من قمم عالية، فينقلب الكوخ الصغير الوطيء في عينيه مثلا أعلى في الارتفاع والسمو.

إن إدراك النسبة الصحيحة بين الأشخاص والأشياء والأفكار نعمة كبرى، ليست تتوافر للناس جميعا على السواء، فهذا قد تدق عنده «حاسة النسبة» بين الأشياء دقة تهديه إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح، وذلك قد تنعدم عنده تلك «الحاسة» انعداما حتى لتراه يكبر الصغير ويصغر الكبير وهو لا يدري، وما أشبه هذين برجلين متساويين في الدخل، فأما أولهما فيوزع ماله المكسوب على مقتضيات الحياة - ضروراتها وكمالياتها - توزيعا تراعى فيه النسبة الصحيحة، فلا يضطرب له أمر، وأما الثاني فقد تتملكه الشهوة نحو شيء بعينه فيزيغ بصره عما عداه، وينفق ماله كله في ناحية واحدة لأن عينه قد عميت عن سائر النواحي، فيختل التوازن وتضطرب الحياة.

ولعلنا إذ نصف إنسانا بأنه «عاقل» في طريقة تصرفه في حياته، فإنما نريد بهذه الصفة أنه ينظر إلى أموره الكثيرة نظرة الطائر؛ ليراها كلها في لمحة واحدة، فيتسنى له أن يوازن ليقدر النسبة الصحيحة بين أحجامها، وعندئذ يقدم الأهم على المهم لأنه قد وقف الوقفة التي تكشف له أين الأهم وأين المهم وأين ما ليست له أهمية فيحذف من قائمة الحساب. فالإنسان حزمة من شهوات ورغبات، وليس من الحكمة أن تقتلع تلك الشهوات والرغبات اقتلاعا من أساسها، فتلك هي النظرة القديمة التي استبدت بتفكير الإنسان عصورا طويلة، على اعتبار أن الشهوات والرغبات هي من مقتضيات الجسد، والجسد منبوذ مكروه محتقر دنيء، بكل ما يتعلق به وبكل ما يقتضيه، أما الصحيح فهو أن نضع هذا الجسد البشري موضع التقدير، وكدت أقول موضع التقديس. ولكم عانى الناس ضروب العنت والإرهاق بسبب أن أجسادهم لم تكن هي موضع الاعتبار من أولي الأمر؛ فلبثت تلك الأجساد تتضور من جوع، وتئن من ألم؛ لأن أصحاب الشأن مشغولون «بالمثل العليا» التي هي وراء الأجساد وتزدري التفكير في الجوع والألم! لكن ذلك استطراد قد بعد بنا عما أخذنا في تقريره، وهو أن الإنسان حزمة من شهوات ورغبات، ليس من الحكمة في شيء أن تجتث وتقتلع، وإنما الحكمة هي في نسبتها بعضها إلى بعض نسبة صحيحة، فأشبع هذه الرغبة مني ضعف ما أشبع تلك، إذا رأيت ذلك يحقق لي في النهاية اتزان الحياة وهدوءها واطراد رقيها. ولست أستطيع إدراك هذا التناسب إلا إن وقفت من رغباتي جميعا موقف الذي يراها دفعة واحدة، وتلك هي نظرة الطائر.

وما أكثر ما نصف بالجنون إنسانا، إذا حللنا وجه النقص فيه، وجدناه انحصار نظره في نطاق ضيق من جوانب حياته، أو خضوعه خضوعا تاما لعاطفة واحدة أو فكرة واحدة فرضت نفسها عليه فلم يعد يستطيع رؤية ما وراءها أو الإحساس بما عداها، فالذي ينصرف بكل شعوره نحو الحزن على وليد فقده أو مال أضاعه، مجنون جنون الذي ينصرف بكل إنفاقه نحو الخمر غير آبه لما يتطلبه العيش من رداء ومسكن وخبز وماء، وموضع الجنون هنا هو في النظر بين الدودة المنكفئة بوجهها نحو الأرض فلا ترى أبعد من مليمترين أو ثلاثة، فتفوتها الدنيا الواسعة العريضة من حولها.

و«العاقل» في نظرته إلى الأمور نظرة الطائر، يضيف المستقبل إلى الحاضر في اعتباره، وكلما ارتفع الطائر الرائي ازداد الطول الزمني الذي يقع له في مجال رؤيته، واتسعت أمامه رقعة المستقبل الذي لا بد أن يدخله في حسابه وهو يقضي في شئونه بهذا القرار أو ذاك، ومن هنا قيل إن الموازنة بين الرغبات عند إشباعها وتفضيل بعضها على بعض، تحسب حساب المدة إلى جانب حسابها للحدة، فقد تكون الرغبة الآن حادة شديدة ملحة تناديك بإشباعها إشباعا سريعا، لكن أثر إشباعها لن يقيم معك إلا لحظة قصيرة ثم يمضي، بل قد تترك وراءها من النتائج ما يسبب آلاما أضعاف أضعاف اللذة التي نجمت عن إشباعها، فمثل هذه الرغبة - عند «العاقل» - يجب أن تفسح الطريق لرغبة أخرى أطول منها أمدا في بقاء الأثر وإن تكن أقل منها حدة وإلحاحا في اللحظة الراهنة.

وكذلك الأمر في الدولة وسياستها، فقد توصف الدولة بأنها بعيدة المدى في سياستها أو قصيرة المدى، والفرق بين الحالتين هو الفرق بين نظرة الطائر ونظرة الدودة: الدولة في الحالة الأولى توسع من نطاق الرؤية حتى لتضع مئات السنين المقبلة في اعتبارها وحسابها، وهي في الحالة الثانية تضع أنفها على الرغام وتنظر، فإذا اللحظة الراهنة ومقتضياتها هي كل ما هناك، وأنا أترك للقارئ أن يحكم لنفسه بأي النظرتين تنظر الدولة في بلادنا: أهي من قبيل ما ينظر الطير أم من قبيل ما ينظر الدود؟

وكذلك تتحكم فينا نظرة الدود في علاقتنا بعضنا ببعض، فقد أوصينا برعاية ذوي القربى ورعاية الجار، ولو سألنا: من هم ذوو القربى ومن هو الجار الذي تجب علينا رعايته؟ كان الجواب عند الدودة غيره عند الطائر: «القربى» عند الدودة هي «القرب» المكاني الزماني، فلا قرابة إلا لمن التصق بجلدك التصاقا ليدخل في نطاق نظرك الضيق، وإلا فلو بعد قليلا فلا سبيل إلى رؤيته وإدراكه؛ لأن الوجه منكفئ نحو الأرض فلا يرى، وكذلك الجار هو من تمد يدك فتلمسه إلى جوارك، لكن الطير حين يرتفع ويتسع نطاق إدراكه، تزداد في عينه المسافة من مكان وزمان، ويصبح «البعيد» في الحقيقة «قريبا»، فذوو قرباه عندئذ يزداد عددهم، كما يزداد عدد جيرانه.

إن أصحاب النظرة البدائية الإقليمية المحدودة هم الذين يحسبون القربى محصورة في الأسرة وأفرادها، ويحسبون الجوار في تلاصق جدران المنازل، وإذا علوت بنظرك، أصبحت الأمة كلها من ذوي قرباك، وأصبح الشعب كله جيرانك، ثم إذا ازددت ارتفاعا حتى تقرب من مواضع الآلهة، كان ذوو القربى هم الإنسانية كلها، وكان الجيران هم أفراد البشر جميعا.

إنه لمما يستوقف النظر في هذا الصدد، أن الفلاسفة الذين كتبوا في الدولة المثلى، تفاوت في أعينهم الحجم بتفاوت أزمانهم، فأفلاطون يرى الدولة المثلى في «مدينة» واحدة؛ لأنه لم يكن يتصور أن التماسك الاجتماعي ممكن إذا اتسعت رقعة البلاد اتساعا يجاوز بها حدود المدينة، وهو في ذلك بغير شك صادر عن تفكير عصره السياسي والأخلاقي معا، فكأنما الإنسان عنده قد ضاق به الخيال حتى ليعجز عن مؤاخاة إنسان آخر في مدينة أخرى، وجاء «توماس مور» في عصر النهضة الأوروبية فكتب في الدولة المثلى، وجعلها جزيرة لا مدينة؛ لأن الأفق الإنساني كان قد اتسع بعض الشيء، ثم جاء بعد ذلك من الكتاب الأوروبيين - مثل أوجست كونت وصموئيل بتلر - من جعل الدولة المثلى هي أوروبا جميعا بعد أن تتحد دولها كلها في دولة واحدة، وهي دعوة شبيهة بما يدعو إليه فريق من ساسة هذا العصر. وأخيرا جاء «ولز» وكتب كتابا في الدولة المثلى فجعل حدودها الكرة الأرضية بأسرها. وهكذا ترى الطائر يزداد ارتفاعا على مر الزمن، فيزداد أفقه اتساعا.

أعتقد أننا نصيب إذا قلنا إن نظرة الطائر علامة من علامات التقدم والرقي، ونظرة الدودة دليل على التأخر والبدائية.

ترى في أي مرحلة نحن من مراحل الطريق؟

تمثال فيدياس

في محاورة «هبياس الكبير» لأفلاطون، يدور نقاش بين سقراط وهبياس عن الجمال ما هو؟ ويستطرد الحوار بينهما سؤالا وجوابا، حتى يبلغ موضعا يدور فيه الكلام على الصورة الآتية:

هبياس :

لو كان، يا سقراط، كل ما يريده مني السائل عن معنى الجمال، أن أدله على شيء يخلع الفتنة على كل الأشياء الفاتنة، بحيث يبدو الجميل جميلا إذا ما أضيف إليه ذلك الشيء، فليس أيسر من الإجابة عن مثل هذا السؤال، ولا بد أن يكون السائل في هذه الحالة غاية في السذاجة والفقر في ذوقه الفني؛ لأنك إذا أجبته عن سؤاله يقولك: إن الجمال الذي يسأل عنه، إن هو إلا الذهب، أخرسه الجواب ولم يستطع أن يقيم له اعتراضا؛ لأننا جميعا - فيما أظن - متفقون على أن الشيء إذا طلي بالذهب، حتى وإن كان قبيحا قبل طلائه، فسيبدو جميلا بعد إضافة الذهب إليه.

سقراط :

إنك لا تدري إلى أي حد تبلغ البدائية الجاهلية من صاحبنا السائل يا هبياس، ولا تدري كم يتعذر عليك أن تقنعه!

هبياس :

وماذا يضرك من أمثال هذا البدائي يا سقراط؟ إنه إذا لم يرض بقولة الحق، فسيكون هو أضحوكة الضاحكين.

سقراط :

لكنه مع ذلك سيكون أبعد ما يكون الإنسان قبولا لمثل جوابك هذا، وسيتناولني أنا بلاذع تهكمه، قائلا: هل أصاب رأسك مس من جنون حتى لتظن أن «فيدياس» نحات رديء؟ وعندئذ لا بد لي من الاعتراف له بأنني لا أظن مثل هذا الظن بفيدياس.

هبياس :

وستكون في اعترافك هذا على حق يا سقراط.

سقراط :

بالطبع، ومع ذلك فإذا ما اعترفت له بأن فيدياس فنان مجيد في فنه، سيقول لي على الفور: «وهل تظن أن فيدياس لم يكن على علم بمثل هذا الجمال الذي تحدثني الآن عنه؟» وعندئذ سأستفسره ما يريد بسؤاله هذا، وسيجيب قائلا: «لأن فيدياس حين نحت تمثال «آثيني» لم يجعل عينيها من ذهب، إنما صنعها من عاج، ألم يكن الذهب (على رأيك ) ليزيدها جمالا؟ ولا بد أن يكون خطؤه هذا في فنه راجعا إلى جهله بهذه الحقيقة التي جئت تقررها لي اليوم، وهي أن كل شيء جميل إنما يستمد جماله من الذهب» - فبماذا ترد اعتراضه هذا يا هبياس؟

هبياس :

ليس في ذلك شيء من عسر، سنقول إن فيدياس كان على صواب فيما فعل؛ لأن العاج أيضا جميل.

سقراط :

لكنه سيعود إلى السؤال قائلا: «ولماذا صنع فيدياس الحدقتين (في تمثاله) من الحجر، فجاء الحجر والعاج على أتم ما يكون الانسجام؟ أم هل تقول إن الحجر الجميل هو كذلك - كالذهب والعاج - شيء جميل؟

هبياس :

نعم إن الحجر حين يوضع في موضعه المناسب يكون جميلا، ولا مندوحة لنا عن الاعتراف بجماله عندئذ.

سقراط :

وإذا سألني إن كان الحجر يبدو قبيحا لو وضع في غير موضعه الملائم، فهل أوافقه أو لا أوافقه؟

هبياس :

لا بد لك من موافقته يا سقراط.

سقراط :

عندئذ سيجيبني قائلا: إذا فخلاصة حكمتك هي أن العاج والذهب يخلعان على الأشياء جمالا على شرط أن يجيئا ملائمين، أما إذا أضفت إلى الشيء عاجا أو ذهبا في غير ملاءمة فسيكون الشيء قبيحا برغم ما أضيف إليه من عاج أو ذهب؟» ... إلخ.

وأحسب القارئ على أتم اتفاق مع هذه النتيجة التي انتهى إليها سقراط في هذا الجزء من محاورته مع زميله هبياس عن معنى الجمال؛ إنه الملاءمة والتناسب، مهما تكن المادة التي بين يديك، فالذهب في الموضع الخطأ قبيح، والحجر في الموضع الصواب جميل.

ليس الجميل جميلا ولا القبيح قبيحا في ذاته بغض النظر عما يحيط به من ظروف وملابسات، فالشيء الواحد يكون جميلا هنا قبيحا هناك؛ لأنه هنا متفق متسق مع محيطه، وهو هناك متنافر نشاز، وكثيرا ما يعاد تنظيم الأجزاء مع بقائها على عددها بغير حذف أو إضافة، فتصبح جميلة بعد قبح، أو قبيحة بعد جمال.

وما جمال الشعر أو النثر الفني؟ إن هذا أو ذاك قوامه ألفاظ من القاموس، لكنه الوضع الصحيح للفظة بالنسبة إلى ما يجاورها هو سر الجمال عبارة وتعبيرا ، والمشاعر نفسها قد تجمل أو تقبح بائتلافها أو اختلافها مع المحيط، فالضاحك في مأتم قبيح كالباكي في عرس سواء بسواء، وهذا هو نفسه معنى النشاز في أنغام الموسيقى، فالنغمة نشاز مرذول بالنسبة لما حولها من نغمات، وربما كانت هي نفسها نغمة جميلة في موضعها المناسب، والقذارة مادة كأية مادة أخرى، لكنها وضعت في غير موضعها الصحيح فأصبحت «قذارة» تشمئز منها النفوس، وهكذا وهكذا من الأمثلة التي لا تنتهي، مما يقطع بصواب هذه النتيجة من معنى الجمال، وهي أن الشيء يستحيل الحكم عليه في ذاته بجمال أو بقبح مجردا عن موضعه بالنسبة إلى سائر الأشياء.

وبديهي أن هذه الحقيقة الواضحة تظل حقيقة في صغار الأمور وكبارها على السواء، فليست الأنظمة السياسية والاجتماعية بالشيء الذي يوصف بالجمال أو بالقبح، أو يوصف بالصواب أو بالخطأ، مجردا عن الظروف التي يراد لتلك الأنظمة أن توضع في وسطها، فإذا كان من الحكمة أن تعامل الطفل على أنه طفل وهو طفل، فمن الحكمة كذلك أن تعامل الجاهل على أنه جاهل وهو جاهل، أما إذا طالبت الطفل أن يسلك سلوك الرجال، أو توقعت من الجاهل أن يتصرف تصرف العلماء، فأنت متطلب من الأشياء ضد طباعها، وموقفك في كلتا الحالين خطأ قبيح.

إنني حتى هذه الساعة من حياتي ما أزال أعاني كلما عاودتني ذكرى طفولتي حين كنت أتصرف كما يتصرف الأطفال بحكم طبائعهم المفطورة فيهم، فإذا بالصفعات تأتيني من حيث أدري ولا أدري، ذلك أن والدي رحمه الله كان يريدني رجلا في سلوكي وأنا بعد في الخامسة من عمري أو نحوها، كان يعطيني المال ويطلب مني أن أشتري له كذا بكذا وأعيد له بقية ماله، وكثيرا ما كنت أخطئ في وصف ما حدث فينزل بي العقاب السريع، على الرغم من أني كنت أعود له ببقية ماله صحيحة كاملة. لا، إنه لم يكفه مني أن أذهب إلى الدكان كالآلة الصماء فأشتري كذا وأعود له بكذا، بل لا بد لي أن أبين له لماذا كان الحساب على نحو ما كان ، ولم يكن ذلك الحساب في مقدوري عندئذ، وإذا فما أقبح - في رأيه - ألا أكون مثله في سرعة الحساب ودقته، وهيهات له أن يقتنع بأقوال الوسطاء، بأن الطفل لا يطلب إليه ما يطلب إلى الرجل.

ولست أدري لماذا أحكم على أبي الآن بالخطأ، ولا أحكم بهذا الخطأ نفسه على دولة تتولى أمور أمة في دور الطفولة، وتصر على أن تضع لها من الأنظمة السياسية والاجتماعية ما لا يتسق إلا في أمة اكتمل نموها ونضجها، فتكون النتيجة المحتومة أن تعجز الأمة الطفلة عن هضم الغذاء لأنه أكثر دسما مما تحتمله معدتها، وينتهي بها الأمر إلى حال من الذبول والموت، وقد أراد لها ولاتها الحياة والنمو، أرادوا لها ذلك بنية حسنة طيبة، لكن الطريق إلى الجحيم قد يكون مرصوفا بأطيب النيات. •••

لكننا أمة دستورها في الجمال هو طلاء الشيء بالذهب، فحسب العين أن تقع من الشيء على ظاهر لامع يخطف البصر ببريقه، وليكن بعد ذلك من حقيقة الباطن ما يكون، فما نزال نهتدي في كل أمورنا بالقول السائر بأن «الجرن الكبير خير من شماتة الأعداء» - وليس يهمنا بعد ذلك في كثير أو قليل أن يكون ذلك الجرن الكبير مليئا بالغلال أو خاويا ينعى من بناه.

الأفراد! الأفراد!

إذا جعلت قصة «الوعاء المرمري» لأستاذنا الأديب الفاضل محمد فريد أبو حديد، موضوع حديثي إلى القراء فلأنها قصة قد أثارت في نفسي كثيرا جدا من مشكلاتنا الاجتماعية والأدبية على السواء.

إنها «قصة جهاد بطل وأمة - من حياة سيف ابن ذي يزن بطل اليمن»، ولعل أديبنا الفاضل قد أراد بها اليوم أن تكون تحية منه يهديها إلى المجاهدين في سبيل الحرية القومية بمثل ما جاهد سيف بن ذي يزن في تحرير بلاده من الحبشي الغاصب، لعله أراد بكتابه هذا أن يكون تحية منه لشباب اليوم من المجاهدين، يهديها إليهم من ذكريات شبابه، عندما كانت الثورة المصرية في عزها تلهب نفسه الحساسة بحرارة الإيمان والأماني، أيام أن غمسته روحه الوطنية في بني قومه من أبناء الشعب في إحدى ندواتهم «البلدية»، حيث يعتلي «الشاعر» منصة لينشد للسامعين قصة سيف بن ذي يزن ... ف «هذه القصة التي أكتبها اليوم بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على تلك الأيام البعيدة ما هي سوى تحية أؤديها لذكرى اللحظات المجيدة التي كنا نجاهد فيها بأنفسنا ونسخو فيها بأرواحنا، لا نسأل أحدا عليها أجرا ولا شكرا ... ثم هي تحية للشاعر الذي ما زالت صورته ماثلة في الذكرى وإن كان اليوم يثوي في مضجعه الأبدي، لا يذكر أحد أن أناشيده القوية الوثابة كانت تحرك قلوب طلاب الحرية نحو عزمات الغد الطالع من ضمير الغيب ...»

وأول ما نذكره مما يعنينا الآن من هذا الكتاب النفيس هو أنه قصة أدبية، أجراها كاتبها على قواعد الفن القصصي، وليس بذي وزن كبير في العمل الأدبي أن يكون موضوعه منتزعا من التاريخ أو لا يكون، بل لا يجوز للناقد أن يحاسب الأديب على صدق ما ورد في قصته من تاريخ، مستندا في محاسبته إياه إلى المدونات والوثائق؛ لأن صفة التاريخ في القصة الأدبية عرض، والأصل فيها تصوير الأشخاص الذين تقوم القصة على أقوالهم وأفعالهم.

فلا يكاد الناقد يسأل: هل صدق شكسبير - مثلا - صدقا تاريخيا في مسرحياته «هنري الثامن» و«رتشارد الثالث» و«أنطون وكليوباترة» وغيرها من رواياته التاريخية - يكاد الناقد لا يسأل هذا السؤال؛ لأنه يعلم أنه بصدد عمل أدبي أنتجه فنان، فالسؤال فيه إنما يكون: هل رسم الفنان هذا الشخص أو ذاك رسما يجعله ذا طابع فردي متميز، كالذي يتسم به الأفراد الأحياء الذين نصادفهم في الحياة ويصادفوننا؟ هل هذا الملك أو هذا العاشق أو هذا الخادم، قد تكاملت في صورته العناصر تكاملا يتمم فيه بعضها بعضا، كما تتكامل الأجزاء في أي كائن عضوي بصفة عامة، وفي أفراد الإنسان بصفة خاصة؟

لقد أتاحت السينما منذ حين لألوف المتفرجين أن يشهدوا مسرحية «قيصر وكليوباترة» لبرنارد شو، فشهدوا قيصر وكليوباترة على غير ما ألفوا سماعه عنهما من كتب التاريخ؛ لذلك كان النقد الذي يدور على ألسنتهم هو هذا : إن الأديب قد أخطأ هنا لأن كذا قد حدث، وأخطأ هناك لأن كيت لم يحدث ... كأنما قد قطع الأديب لهم عهدا على نفسه بأن يكون مؤرخا يحاسب بالوثائق والمراجع والأسانيد.

إن بين العلم والفن فارقا لو جعلناه نصب أعيننا، ضاقت شقة الخلاف بيننا في تقدير الآثار الفنية تقديرا نميز به غثها الزائل الفاني من سمينها الخالد الباقي، وذلك هو أن العلم تعميم والفن تخصيص. العلم يبحث في أفراد من النوع الواحد، لا ليقف عند الأفراد في ذواتها، بل ليسقط من حسابه المميزات الخاصة التي يتصف بها كل فرد على حدة، ويبقي العناصر المشتركة التي تعم أفراد النوع جميعا دون تمييز بين فرد وفرد، فإذا قال العلم - علم النفس مثلا - إن الإنسان من طبيعته جمع الأشياء وحيازتها، كان قوله هذا نتيجة ملاحظة عدد من أفراد الناس، والتقاط الصفة أو الصفات التي يشتركون فيها، فإذا كان هذا الفرد معنيا بجمع المال، وذلك معنيا بجمع الكتب القديمة، والثالث بجمع الآثار الخزفية، أسقط العلم ما يختلفون فيه مما يجمع، وأبقى على المشترك بينهم وهو أنهم يجمعون ويملكون، أما الفن فيقف عند الفرد الواحد ليبرز ما قد اختص به بحيث أصبح متميزا من غيره متفردا، ويكون نجاح الفنان بمقدار توفيقه في الاهتداء إلى هذه الصفات الخاصة المميزة للحالة المفردة التي يصورها، وترتيبها على نحو يبرز لنا في النهاية إنسانا معينا بذاته الفذة الوحيدة.

فالعلم والفن كلاهما يتناولان الأفراد الجزئية، أما العلم فيتناولها ليأخذ ما تشترك فيه من صفات ثم يهملها، وأما الفن فيتناولها ليقف عندها من بدايته إلى نهايته. وعندي أن الشرق بصفة عامة قد زاغ بصره عن الفردية التي تميز إنسانا من إنسان وحالة من حالة؛ ولذلك فقد أفلت منه العلم والفن معا إلى أقوام آخرين تقف أنظارهم عند الفوارق بين الأفراد والأشياء. ولقد عبرت عن رأيي هذا حين أخرج الأستاذ توفيق الحكيم مسرحيته «الملك أوديب» وقدم لها بمقدمة طويلة يحاول فيها تعليل غياب المسرحية من الأدب العربي القديم، فقلت عندئذ إن رأيي هو أن الأدب المسرحي - والقصصي أيضا - يستحيل قيامه بغير التفات إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها عن بعض، فلو نشأ الكاتب في جو ثقافي لا يعترف للأفراد بوجود، ويطمسهم جميعا في كتلة واحدة من الضباب الأدكن، فلا سبيل أمام هذا الكاتب إلى تصوير الأفراد في قصة أو مسرحية. والشرق كله قد طمس الفرد طمسا ولم يترك له مجالا يتنفس فيه، فالأفراد في الثقافة الهندية كلها «مايا» - أي وهم لا وجود له - والموجود الحق عند الهنود هو الكون كلا واحدا لا تفرد فيه ولا تكثر، وقل مثل هذا في الصين وفي كل بلاد الشرق بصفة عامة. الحضارة الشرقية كلها تغفل شأن الفرد وتجعله جزءا من شيء أعم منه، فهو عند العرب جزء من القبيلة، فلا وزن له إلى جانبها ولا قيمة له بالقياس إليها، وما كذلك اليونان؛ لأن الفرد عندهم هو محور التفكير - حتى الآلهة عندهم أفراد لهم مميزاتهم ومشخصاتهم، ومن هذين الاتجاهين المختلفين في الشرق والغرب، نشأت الديانات في الشرق، ونشأ العلم والأدب في الغرب؛ لأن معظم الديانات أساسها التوحيد بين الظواهر المختلفة، وأما العلم والفن فأساسهما التمييز بين تلك الظواهر - العلم يميز الأنواع والفن يميز الأفراد - وهكذا لم يعرف الشرق «أشخاصا فردية» فلم يعرف مسرحية ولا قصة.

وأعتقد أن أكبر تطور طرأ على أدبنا في الفترة الأخيرة هو بداية الالتفات إلى الأفراد وتصويرهم، وقد كان ذلك نتيجة - أو كان هو المقدمة لست أدري - لتطورات مماثلة في السياسة والاجتماع، فالحكم البرلماني يستدعي تصويت الأفراد كل فرد بذاته، ونظام الأسرة قد أخذ يخلخل الهواء بعض الشيء حول الأفراد لتظهر لكل فرد شخصيته، وبخاصة المرأة وعلاقتها بزوجها أو أبيها، ورجال التربية يصيحون آنا بعد آن أن افتحوا أعينكم للفوارق بين الأفراد.

أقول: إن أكبر تطور طرأ على أدبنا في الفترة الأخيرة فيما أعتقد، هو بداية الالتفات إلى الأفراد وتصويرهم، فالدكتور طه حسين يصور في «الأيام» إنسانا واحدا بذاته، هو نفسه، والدكتور أحمد أمين يصور في «حياتي» إنسانا واحدا بذاته هو نفسه أيضا، والأستاذ توفيق الحكيم يصور في مسرحياته أشخاصا أفرادا، والأستاذ العقاد يصور في «سارة» إنسانة واحدة بذاتها، وهكذا «زينب» لهيكل، و«إبراهيم الكاتب» للمرحوم المازني، وهكذا.

وقد ادخرت الأستاذ فريد أبو حديد في كتابه الجديد «الوعاء المرمري» لأدير حوله بقية الحديث، ف «الوعاء المرمري» ظاهرة جديدة تضاف إلى غيرها من أشباهها التي تدل على هذا التطور الجديد في الأدب العربي ... العناية بالأفراد وتصويرهم في قصة أو مسرحية أو غير ذلك.

لذلك كان أول ما عجبت له في «الوعاء المرمري» أن يعلن الكاتب منذ البداية على لسان الشاعر المنشد، وهو يمهد لقصته التي ينوي إنشادها، مبدأ طمس الأفراد في عجينة الزمان، إذ يقول: «كل فرد ... يحسب أنه يجرب ما لم يجرب أحد من قبله، ويدرك ما لم يدركه أحد غيره، يذوق الحب فيحسب أن أحلامه الساحرة لم تخطر قط على قلب ... ولكن الزمان يرمقه باسما وينادي بصوت خفي قائلا: هكذا كانوا دائما.»

لكن الأفراد لا يكونون «هكذا دائما» إلا إذا غضضنا النظر عن مميزاتهم الفردية التي تجعل زيدا غير عمرو، فالمحب الذي يحسب أن أحلامه الساحرة لم تخطر قط على قلب، ليس مخطئا في حسابه، وإنما أخطأ الحساب من ظن أن كل العاشقين سواء، بل أخطأ من ظن أن العاشق الواحد شبيه بنفسه في كل حالاته، ولو كان العاشقون كلهم سواء لكفانا تعريفهم بأرقامهم كما تعرف إدارة الجيش جنودها، أو وزارة المعارف المصرية تلاميذها.

إنه يستحيل علينا أن نفهم معنى الحرية التي نطالب بها جاهدين، ما لم يتقرر في أذهاننا أولا أن الأفراد تفصلهم فواصل، فلكل منهم شخصه وكيانه، وإذا كانت الحرية المنشودة معنى مجردا، فقد كان حسبنا منها أن تسجل في الكتب والقواميس، وكفى الله المؤمنين شر القتال، لكنها حرية منشودة لأفراد، منشودة لزيد وعمرو وفاطمة، ولن يحاسب الله عباده «بالجملة» على اعتبارهم جميعا «هكذا دائما» بل سيحاسبهم الله فردا فردا؛ لأن لكل فرد قائمة من أعمال وأقوال تفرد بها - وهي نفسها عمل الأديب.

وقصة «الوعاء المرمري» زاخرة بأشخاص، تبينت في بعضهم الملامح الفردية وغمضت هذه الملامح في بعضهم الآخر، فالحمد لله الذي جعل أستاذنا فريد يتسامح في تطبيق مبدئه الذي يمحو الأفراد في غمرة الزمان، فيخرج لنا أشخاصا برزت فيهم الملامح والسمات، فجاءت كسبا للفن بل كسبا للحياة ذاتها؛ لأنها تضيف إلى الأحياء أفرادا آخرين يضمن لهم التسجيل الأدبي طول البقاء.

لقد أفلتت من أديبنا الفاضل عبارة وقفت عندها لحظة متمنيا أن تكون هي مبدأه في التصوير الفني لأشخاصه، وذلك حين يروي عن «خيلاء» أحلامها وهي «تنظر إلى الأغصان تتأملها كيف تتداخل، وكيف تتعانق، وإلى أشكال أوراقها وصور ثمارها، كان بعضها منسرحا لينا غضا وبعضها معقدا جافا وبعضها يمتد بظله الوارف وبعضها يسمو بجذعه الفارع، حتى الأشجار لا يشبه بعضها بعضا، وحتى الغصون لا تتساوى في هيئتها وإن كانت فروع شجرة واحدة ...» - فهكذا يختلف الأحياء.

ومن الأشخاص الأحياء الذين خلقهم أستاذنا خلق فنان قدير، «أبو العيوق» - ربان السفينة - ففي صفحات قلائل أتم له الأديب خلقته الكاملة بملامحها الفريدة، فهو الجبان «النتاش» الثرثار الفكه، الذي ينطبع حديثه بطابع خاص، فيكرر عبارة «نسائي طوالق وسفني غوارق» كلما هم أن يقرر شيئا يقسم على صدقه، كذلك وفق كل التوفيق في صورة «طليبة» الفتاة الشرود التي تحب فتهب حياتها للحب وتكره فلا تبالي أين تندفع مع كراهيتها.

لكنهما شخصان ثانويان في القصة، والعجيب أنهما جاءا معا في السياق، كأنما كانت ربة التصوير الفني تصاحب أديبنا عندئذ فتلهمه الصواب، ويتلوهما في جودة الخلق وسوائه «أبرهة» الطيب المتدين الذي يلين قلبه لحب «ريحانة» رغم دهائه في السياسة وبعد طموحه، وقد كان «للضحكة المزغردة» التي يضحكها حينا بعد حين، نصيب موفور في تحديد صورة الرجل، مما يدل على أن التصوير الفني يعتمد على أتفه الخصائص وأعظمها على السواء، ومما تجدر ملاحظته أن «أبرهة» هذا هو المغتصب الذي قام «سيف» لاسترداد بلاده من أسرته، والذي كان ينتظر من الأديب أن يقصد في تركيبه إلى بث النفور منه عند القارئ، حتى يمهد النفس لاستقبال بطولة «سيف» ومع ذلك فيستحيل على قارئ - فيما أعتقد - أن يخرج من القصة وهو كاره لأبرهة، ترى هل أراد أديبنا شيئا فغلبته شخصية «أبرهة» فيما أراد، كما غلب «ملتن» أمام «الشيطان» في ملحمة الفردوس المفقود حين أراد أن يصب الشيطان في صورة كريهة لتظهر بالمقارنة قوة الله وجلاله، فإذا نحن في النهاية إزاء قوة تبهر النفس وتغري بالمحاكاة؟!

ويجيء بعد ذلك في درجة الجودة الفنية «خيلاء» حبيبة «سيف»، فهي الفتاة الطاهرة المتدينة صاحبة الذوق الفطري في تفهم الأدب والفن، التي تحس بدافع المرأة في جوفها لكنها تجفل، كأنما هي شبيهة بقديسة ترى الرجس في غرائز الإنسان.

ومن خير ما كسبناه بهذا الأثر الأدبي النفيس، أن الأستاذ فريد قد صور نفسه - عن وعي منه أو غير وعي - صور نفسه الرقيقة المحببة إلى عارفيه جميعا، صورها في شخصية «أبي عاصم» - «فأبو عاصم» هو «أبو حديد» في رصانة عقله وفي حبه للخير وفي طيبة قلبه وفي حبه للأسلاف وتراثهم، بل وفي تعليمه للناشئة عن فطرة أبوية سليمة، حتى لقد عرفت كثيرا عن حياة أستاذنا فريد - مما لم أكن أعرفه - من صورة أبي عاصم، فقد ارتعش قلبه للحب الطروب، وهو على شيء من الوحشة واليأس مما حوله في عصرنا هذا الذي كتبت فيه الغنائم للصوص، ولم يعد به مكان لأصحاب الفكر والأدب والعلم والحكمة، ولعله قد تعمد أن يضع لنا «نفيل بن حبيب» النفعي الماكر، جنبا إلى جنب مع «أبي عاصم» كي يتم تصويره لنفسه في بطانة عصره هذا الذي نعيش فيه.

وأما «سيف» و«ريحانة» و«مسروق» فقد كانوا جميعا أمام عيني كأنهم أجلسوا في صندوق من زجاج قد ترى شفاههم متحركة بالكلام أحيانا، لكنك لا تسمع مما يقولون شيئا، فيتولى الكاتب عنهم الكلام في كثير من الأحيان، وتشعر أنت كأنك في متحف أثري ومعك الدليل يشرح لك ما تراه من تماثيل، فهؤلاء المساكين قد ضاعوا في غمرة الزمان الذي يجعل الناس «هكذا دائما»، فإذا تذكرنا أن «سيفا» هو البطل الرئيسي الذي ملأ قلب الكاتب بادئ ذي بدء، وأراد تصويره قبل أن يريد ذلك لأحد سواه، عرفنا فداحة الخسارة في فقده بين من أغرقهم التيار الذي يطمس الأفراد.

قد كنت ألاحظ أشلاء متناثرة عن شخصية سيف، فكنت ألاحظ نفسه القلقة الهائمة السابحة في خيالها، وألاحظ تردده الذي كان يقربه في مخيلتي من «هاملت»، وألاحظ احتقاره للذهب بالقياس إلى أهدافه العليا، لكني لاحظت ذلك كله أشلاء متناثرة، ولا «شخص» هناك - وربما كان النقص في إدراكي أنا لما بين الأشلاء المفككة من وحدة، أو لعله سوء الحظ الذي جعلني أبدأ منذ الخطوة الأولى في مقارنته ب «هاملت» في قلقه وتردده ورغبته في الانتقام وغير ذلك، فتظل المقارنة ماثلة أمام ذهني ليدفع ثمنها «سيف». •••

لقد أجرى الأستاذ فريد على لسان المنشد في أول حديثه هذا المبدأ النقدي، الذي عبر به في الحقيقة عن رحابة صدره ورجاحة عقله وطيبة نفسه وميله الشديد إلى التسامح، إذ قال المنشد لسامعيه ... «سأنشدكم وأنشد ليلة بعد ليلة، ولكم أن ترضوا إذا أرضاكم ما يصدر عني، ولكم أن تنكروا كما شئتم إن بدا لكم من ذلك ما لا يروقكم، لكم أن تصفقوا استحسانا أو تظهروا استهجانكم بغير مداراة! فهذا حق لكم، أما أنا فما أقصد إلا أن أظهر ما عندي مما يهتز له فؤادي وما أودعته ثمرة حياتي وأرسلت فيه عصارة روحي، فإذا وقع عندكم موقعه عندي زادت بذلك سعادتي ...»

فإذا رأيتني قد أسرفت في استخدام هذا الحق الذي أبحته لقارئك، فاغفر لي ضلالا دفعني إليه إيماني بحق الفرد في أن يعيش فردا مستقلا قائما بذاته، سواء كان ذلك في الحياة الواقعة أو في القصة التي تصور تلك الحياة.

آباء وأبناء

يحكى أن جماعة من القنافذ كانت تعيش معا في سفح الجبل، فلما جاءها الشتاء ببرده المثلوج، وأخذتها في الليل رعشة تناولت منها المفاصل والعظام، اقترح عليها واحد منها أن يجتمع شتيتها في كومة متلاصقة حتى يدفئ بعضها بعضا بحرارة أجسادها، لكن جماعة القنافذ لم يكد يلتصق بعضها ببعض طلبا للدفء، حتى أحس كل منها وخز الإبر الحادة المسنونة التي تغطي أجساد زملائه، فما هو إلا أن أفصحت كلها عن كظيم آلامها وطلبت أن تعود إلى مواضعها المتفرقة، فلذعة البرد أهون من هذا الوخز الأليم، وعادت القنافذ فتفرقت كما كانت أول أمرها، لكنها كذلك عادت فأحست زمهرير الشتاء يهز كيانها هزا عنيفا، وكأنما نسيت إزاء هذا البلاء ما كان من ألم الوخز منذ قريب، فصاح بعضها ببعض ينشد كلها التلاصق مرة أخرى حتى يعود لها الدفء، وعاد وخز الإبر وأنساها الألم الحاضر ألم الماضي، فضجرت وتفرقت مرة أخرى - وهكذا دواليك: اقتراب وابتعاد واتصال وانفصال، إلى أن قال منهم قائل حكيم: خطؤنا في المبالغة والإسراف، فإذا ابتعدنا أوغلنا في البعد حتى فقد كل منا دفء أخيه وتعرض للبرد الشديد، وإذا اقتربنا أوغلنا في القرب حتى وخز كل منا جلد أخيه فأدماه، والحكمة هي في اختيار الموضع الصواب بين الطرفين بحيث ننجو من الوخز دون أن نفقد دفء التقارب ما استطعنا إليه سبيلا.

وحكاية القنافذ هذه تقفز إلى ذهني كلما سمعت بخلاف يدب بين أفراد الأسرة الواحدة، أو بين جماعة من الأصدقاء ... فكأنما أراد الله لنا ألا نقع أبدا على هذا الموضع الصواب في علاقتنا بعضنا ببعض، بحيث يبعد كل منا عن شئون الآخرين بعدا يتيح لهؤلاء الآخرين أن يشعروا بشخصياتهم مستقلة قائمة بذاتها، وبحيث لا يكون ذلك البعد سببا في حرماننا من دفء العاطفة التي يستمدها بعضنا من بعض.

وتبلغ هذه المأساة غايتها حين تقع حوادثها بين الآباء وأبنائهم. إنني لا أعتز بخبرة واسعة في شئون الناس وأمور حياتهم من حيث الدخائل والتفصيلات؛ لأنني أعيش حياة أقرب إلى العزلة في ركن هادئ لا يصطخب بكثير من الناس في تشابكهم واتصالهم، لكنني في حدود خبرتي الضيقة القليلة، لم أكد أصادف أسرة مصرية واحدة لا يأكل أفرادها بعضهم بعضا، فكل ينهش لحم أخيه حيا، ومع ذلك لا يجدون إلى التباعد سبيلا، فالتقاليد الشرقية تحتم أن يتكوم أفراد الأسرة الواحدة حتى لا يكون بينها فرقة في أعين الناس، لكنها إذا ما تلاصقت على هذا النحو الشديد ، أصابها ما أصاب القنافذ في اجتماعها: وخز أليم يدمي الجلود، وشر المأساة هو - كما أسلفت - حين يكون هذا الوخز الأليم بين الوالد وأبنائه، فيستحيل على الوالد أن يرضيه ابتعاد أبنائه عنه، إما لشدة في عاطفته الأبوية - ولا أظن ذلك - وإما لخوفه مما يقوله الناس لو تفرق أفراد أسرته، وفي الوقت نفسه يستحيل على ذلك الوالد أن يبقي على شخصيات أبنائه سليمة من الوخز، وقل مثل ذلك أيضا بالنسبة للأبناء إزاء آبائهم، فلا هم يحزمون أمرهم فيستقلون بعيشهم حين تسعفهم القدرة الاقتصادية، ولا هم يظلون مع آبائهم تحت سقف واحد بحيث يحرصون على جلود هؤلاء الآباء من التجريح والتمزيق.

وهنا تعود إلي ذكريات أعوامي الماضية، حين اكتملت رجولتي وأوغلت في الحلقة الرابعة من عمري، ومع ذلك ظللت أساكن والدي في بيت واحد، وحرص كلانا جهد الاستطاعة ألا يتلقى الإساءة من الآخر، فكان كل منا كأنه يلعب بالبيضة والحجر كما يقولون، لا يريد للحجر أن يكسر البيضة، لكن ذلك محال على الطبيعة البشرية، ولما كان لوالدي - رحمه الله - ميزة أنه والد، فكثيرا جدا ما صب على رأسي الإساءة تلو الإساءة على مسمع ومشهد من الناس، وكنت أكظم غيظي وأنطوي على نفسي في غرفتي أمزق أعصابي تمزيقا، ولا يعود إلي هدوء النفس إلا بعد أيام، إني لا أعلم أين قرأ والدي أو أين سمع فكرة أعجبته وصادفت في نفسه هوى، وهي أن الوالد يكرر نفسه في أبنائه، فالابن نسخة من أبيه، وما دام الأصل موجودا فهذه النسخات لا ينبغي أن يعترف لها بوجود، والحق أنه إذا كانت المقدمة صحيحة للزم أن تكون هذه النتيجة صحيحة أيضا؛ إذ ما دمنا صورا مكررة له، فله هو القيمة كلها، وأما نحن فلا يلتفت إلينا إلا في غيبته.

لكن المقدمة خطأ فاحش ونتيجتها خطأ أفحش، وهذا هو ما نريد أن نحفره حفرا في رءوس الآباء عندنا، فلكل ولد شخصيته الفردة المستقلة القائمة بذاتها، وقد أعلنت الطبيعة ذلك إعلانا صريحا يوم قطعت القابلة الحبل السري الذي كان يصل الجنين بأمه، ففصلتهما شخصين بعد أن كانا شخصا واحدا. إن صميم الحياة في كافة الأحياء هو هذا التفرد، فيستحيل عليك أن تجد على سطح الأرض من أقصاها إلى أقصاها ورقتين من أوراق الشجر متماثلتين كل التماثل، وانظر إلى بصمات الأصابع كيف يستحيل تكرارها في شخصين على نحو يحقق التطابق التام، ليس الأمر في الحياة والأحياء كالأمر في المصنع ومنتجاته، نعم إن المصنع يستطيع أن يخرج لك مئات الأحذية أو مئات السيارات بحيث تجيء على تشابه تام أحيانا، لكن ذلك محال في كافة الأحياء من الأميبا الوضيعة البسيطة إلى الإنسان.

لقد حدث لي أن اشتركت في مؤتمر لليونسكو في باريس عام 1947م، وكان بين الشخصيات الكبيرة التي لقيتها هناك السيدة مرجريت ميد، وهي من أكبر العلماء العالميين في علم الأجناس البشرية، كنت أسمع اسمها يذكر في المحاضرات مقرونا بالتبجيل والاحترام، وكنت أرجع إلى كتبها رجوعي إلى الثقة، وكنت أتصورها سيدة عجوزا أربت على الستين، فلما رأيتها في أربعينها ما تزال مليئة بالحياة، عجبت أن تجيء هذه السمعة العلمية العالمية كلها لهذه المرأة التي لم تزل تعنى بنفسها وثيابها ... وتحدثت إليها، وكان مما حدثتني أن ذكرت لي كيف جاءتها الدعوة وهي في أمريكا لحضور اجتماع اليونسكو بباريس، وكان لها طفلة في السادسة من عمرها، فعرضت على الطفلة كلا من الصورتين: صورة مرافقتها إلى باريس (وهو أمر لم تكن توده الأم) وصورة بقائها مع أبيها، وما زالت بها حتى اختارت طفلتها عن طيب خاطر أن تبقى ... قالت لي الأم: إنها لا تذكر مرة واحدة أرغمت فيها طفلتها هذه على شيء، فما الإنسان - في رأيها - إلا قوة اختيار لنفسه، وإنما أرادت هذه الأم العالمة لابنتها أن تنمو على إنسانية كاملة.

لكن قل هذا لمعظم آبائنا يضحكوا منا، وحتى إن هم أرغموا على فعله أمام عناد أطفالهم، فإنما يرغمون عليه إرغاما، ولا يصدر منهم عن عقيدة في تربية أبنائهم تربية سليمة.

لا يريد الوالد عندنا أن يعترف عن عقيدة بأنه هو شيء وكل ابن من أبنائه شيء آخر، ولو كان ذلك صوابا، فلست أدري إذا لماذا يحصون السكان فردا فردا، ولا يحصونهم والدا والدا، وهيهات أن تطمس وجود ولدك إلى جانب وجودك، ثم يسلم الأمر بعد ذلك من النتائج أخطر النتائج.

فالولد الذي يبدأ هذه البداية البشعة، يريد أن يقرر ذاته حسب ما تملي عليه طبيعته وغرائزه، فيمحوه أبوه محوا كأنه ظل من ظلاله، تراه يكبر على أحد أمرين: فإما هو عبد ذليل لكل سلطان، أو هو ثائر ناقم على كل سلطان، وليست حياته في كلتا الحالتين بالحياة السوية الهادئة السعيدة.

إنه سرعان ما تنتقل سلطة الوالد إلى سلطة الحاكم أو سلطة المستعمر أو ما إليهما، وعندئذ يسهل على الحاكم أن يستبد ويطغى، أو يسهل على المستعمر أن يمرع ويمرح؛ لأن هذا أو ذلك سيجد نفسه إزاء أفراد نشأوا على طاعة عمياء، وهل تعجب بعد ذلك أن يضرب المثل في الطغيان بحكام الشرق، وألا يجد المستعمرون أيسر منالا من بلاد الشرق؟ إنهما وجهان لحقيقة واحدة: هي طغيان الوالد بأولاده وابتلاع أشخاصهم في شخصه.

لكن هذه الطاعة العمياء قد تنتج كذلك النفوس الثائرة المحطمة لكل سلطان، التي تهدم للهدم ذاته انتقاما لما أصابها أيام الطفولة، وإذا كثر أمثال هؤلاء تعذر السير الهين المطمئن على المجتمع بصفة عامة. وأذكر في هذا الصدد أني صادفت طالبا قاطعني أثناء المحاضرة ليعترض بما لم يكن له ارتباط قوي بما كنت أحاضر فيه، قاطعني ليبدي رأيا وهو يرتعش من الانفعال الذي لا موجب له، والرأي متعلق بالله ومدى علمه وقدرته، فأسكته في غير جواب، حتى إذا ما فرغت من المحاضرة، دعوته على انفراد لأسأله عن حاله في أسرته قبل أن أستعيده سؤاله، وسرعان ما علمت أن العلاقة بينه وبين أبيه توشك أن تكون هي العلاقة بين العدو وعدوه اللدود ... فثار الثائر على الأب الأصغر والأب الأكبر، وكل ما تشم فيه رائحة السلطان الأبوي بغير تمييز. •••

وبعد، فهذه خواطر في نوع واحد من أنواع العلاقة بين الناس عندنا، أثارتها في نفسي رسالة جاءتني منذ أيام قليلة من قارئة مثقفة تخرجت في الجامعة فيما أرجح، تقرؤها فترتسم أمامك صورة فتاة من مئات الضحايا، اللائي قد أرهف العلم فيهن الشعور وهذب منهن الحس، ثم عدن إلى الحياة ليجدن أنفسهن في مجتمع منزلي قاس خشن غليظ. ولست أدري لماذا اختارت هذه القارئة المجهولة أن تبعث برسالتها إلي؟ لعلها رجحت أن تجد في أذنا تصغي؛ لما يتسرب مني آنا بعد آن من أخبار طفولتي، وهأنذا أترك كثيرا من آلامها المبثوثة في خطابها، وأثبت هنا قليلا منها؛ ليرى القراء كيف تعيش هذه الفتاة المثقفة في دفع من المد والجزر. تقول: ... حينما علمت أن أبي يتهمني بضعف الشخصية وانعدام الإرادة، جثمت على صدري سنوات حياتي الماضية بثقلها فحطمت روحي، لقد لاحظ أبي أخيرا هذا الضعف في شخصيتي وهو في ذلك يلقي التبعة علي! إن مرحلة طفولتي وطفولة إخوتي جميعا لتتراءى أمام عيني الآن بكل أحداثها ... ولكن ماذا أقول؟ ألم تكن كل هذه الأحداث كفيلة بأن تنتهي بي إلى هذه النهاية؟!

لكني مع ذلك قد حاولت يوما أن أتناسى تلك الأيام وأن أبني حياتي من جديد، حاولت أن أتشجع وأكون لنفسي شخصيتي، وقد كنت صادقة قوية الإيمان فيما عزمت عليه، لكنهم لم يتركوني، فقد سدوا أمامي جميع الطرق حتى انهزمت أمامهم، لماذا ينسى أبي كل ما فعل بنا؟ لماذا؟ إنه لا يذكر إلا أنه يجب أن نكون على ما يشتهي ولو كان ذلك هو المستحيل ...

والآن قد ذهبت آمالي وأحلامي، لقد فقدت كل شيء، لقد فقدت الرغبة في الحياة، لم يعد لي أمل ولا هدف، ولم أعد أسعى وراء غاية، كل ما أشعر به هو خواء وركود تام. إن شيئا لم يعد يستثير اهتمامي، حتى كتبي وموسيقاي يا سيدي لم أعد أشعر بالرغبة فيهما، إن حالتي أقرب ما تكون إلى الموت، إنني أسير بل أتعثر في ظلام، لا أعرف لنفسي طريقا في الحياة، لقد سئمت كل شيء، بل وسئمت نفسي ...

ليتنا - يا فتاتي - نسترشد بحكمة القنفذ العاقل حين توجه بالنصيحة لزملائه القنافذ، وهي أن نحسب على وجه الدقة كم تكون المسافة بيننا وبين سوانا من الأهل والأصدقاء، بحيث لا نحرم من دفء العواطف الإنسانية في صلاتنا بهؤلاء وهؤلاء، وبحيث ننجو في الوقت نفسه من وخز الإبر.

سيئات الموتى

يقول شكسبير في رواية «يوليوس قيصر»، والقول هنالك يجري على لسان أنطون، في الخطبة المشهورة التي ألقاها عند جثمان قيصر:

السيئات يقترفها الناس، فيمضي فاعلوها وتبقى.

وأما الحسنات فغالبا ما تدفن مع رفاتهم تحت الثرى.

أما أن تبقى السيئات بعد أن يمضي فاعلوها، فأمر من الوضوح بحيث لا أظنه موضعا للشك والريبة، على أني تاركه الآن لأعود إليه بعد قليل، لكن الذي قد تخطئه العين العابرة، هو ذهاب الحسنات في جوف الأرض مع رفات المحسنين.

وإني لأعترف أني قد لبثت حينا طويلا، أنكر على الشاعر العظيم رأيه هذا كلما ذكرت سطريه السابقين، كنت أعجب كيف يقول إن حسنات المحسنين غالبا ما تدفن مع رفاتهم وتنسى، مع أن الناس - فيما كنت أرى - ما ينفكون لاهجين بمآثرهم، مخلدين لذكرياتهم، بما يبنون لهم من أنصاب وتماثيل، وما يكتبون عنهم من مقالات وكتب، وما يقيمون لهم من حفلات يحيون بها أسماءهم كلما مضى على موتهم كذا عام ... ألا يكفي ذلك كله دليلا على أن حسناتهم لم تذهب - كما زعم الشاعر - مع رفاتهم تحت الثرى، بل بقيت حية في ذاكرات الأحياء؟

هكذا كنت أعجب لنفسي من قول الشاعر، حتى كان الأمس، حين جلست من داري في ركن دافئ ساعة الغروب، أشرب الشاي في صمت وعلى مهل، سارحا بفكري فيما أساء لنا الأسلاف بما ألقوه على ظهورنا من أعباء ثقال؛ أعباء التقاليد التي أقعدتنا عن الحركة الخفيفة والسير السريع؟ وكان طبيعيا عندئذ أن تتوارد الخواطر، فتثب إلى ذهني عبارة شكسبير: «السيئات يقترفها الناس فيمضي فاعلوها وتبقى، وأما الحسنات ...»

ولكني هذه المرة - ولأول مرة - وقفت وقفة المتأمل، بعد أن تعودت فيما مضى أن أوافق على الشطر الأول وأرفض الشطر الثاني، موافقة ورفضا هما أقرب إلى الحركة الآلية منهما إلى التفكير المتروي، لم أرض لنفسي هذه المرة أن تتعجل الإنكار والنفي، فالأرجح أن يكون الشاعر الذي صدق القول في شطره الأول، قد صدق القول كذلك في شطره الثاني - فلأفكر من جديد: أحقيقة تدفن الحسنات غالبا مع رفات المحسنين؟

وكأنما أشرق علي هذه المرة ضوء جديد، إذ نظرت إلى الموضوع من ناحية جديدة، قلت لنفسي: دع عنك ما يقيمه الناس لموتاهم المجيدين من تماثيل وما يكتبونه عنهم من كتب؛ لأن ذلك كله قد يكون سدا من الإنسان لنقص أدركه في نفسه، فربما أدرك الإنسان في نفسه سرعة نسيان الجميل، فعالج نسيانه هذا السريع بما يذكر ... إنه إذا ثبت أن طبيعة الإنسان تمنعه من الاعتراف بالجميل لصاحبه، وتدفعه إلى طمس معالم الفضل الذي أسدى إليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إذا ثبت ذلك في طبيعة الإنسان، إذا فلا شك في صحة قول الشاعر، بأن الحسنات كثيرا ما تدفن مع رفات المحسنين، فلا يكاد المدين بفضل أن يهيل التراب على المتفضل؛ حتى يتناسى الدين فينسى، وينسى الناس معه، وبذلك ترقد الحسنة مع رفات صاحبها في قبره إلى الأبد.

وحسبك وقفة لا تطول، لتدرك على الفور أن الطبيعة البشرية تأبى على الإنسان أن يعترف بفضل أسدي إليه، فإن أخذنا أنفسنا بهذا الاعتراف، فلأننا قد أخذنا طبيعتنا بالتهذيب والتدريب، وإذا فليس يحفظ الجميل إلا من اكتسب القدرة على قمع طبيعته والإمساك بزمامها ... ذلك لأن من أعطى أقدر ممن أخذ العطاء، ومن أحسن أقوى ممن تقبل الحسنة، ولما كان الإنسان بطبيعته أميل إلى إظهار جوانب قوته وإخفاء جوانب ضعفه، كان من العسير عليه أن يعترف بما بدا من عجزه حين قبل المعونة ممن أعانه.

في العطاء قوة وفي الأخذ ضعف، حتى ليركع الآخذ أمام معطيه - حقيقة أو مجازا - وإذا ما حدثه جاء حديثه خافتا، وبدت عينه «مكسورة» حسيرة ... إن من الكتب التي أقامت لي ركنا ركينا من ثقافتي، قصة «راعي ويكفيلد» ل «أولفر جولد سميث». هذا الكتاب العجيب الفريد، الذي ينفذ في الطبيعة البشرية نفاذا يصل إلى أعماقها، والذي له في كل صفحة، بل في كل فقرة، بل في كل سطر من سطوره، ملاحظة صادقة في تحليل طبيعة الإنسان، في هذا الكتاب يقص عليك الكاتب في سياق قصته، أن مسافرا التقى براعي ويكفيلد واستدانه قليلا من المال يرده له عند بلوغه غايته، ثم حدث أن أقام الرجلان ليلة في نزل في الطريق، ودارت بينهما مناقشة احتد فيها المسافر، فأخذ العجب من الراعي كيف استباح ذلك الرجل الجريء لنفسه أن يحتد معه في المناقشة مع أنه مدين له بمال؟!

ولما كان العطاء قوة والأخذ ضعفا، كان عسيرا كل العسر على من به كبرياء، أن يضع نفسه موضع الآخذ؛ لأنه يعلم أن ذلك سيصحبه اعتراف لغيره بالفضل، وفي ذلك ما فيه من جرح، ويزداد هذا الجانب وضوحا، حين يحسن المحسن عن شعور بقدرته، فيثير في الآخذ إحساسه بنقصه وعجزه، وقد يعطي المعطي عن شعور بالعطف على من أعطى، كما يفعل الوالد مثلا نحو ولده، وعندئذ يغلب أن يبادله الآخذ عطفا بعطف.

وانظر الآن في قولهم: «اتق شر من أحسنت إليه»، أفلا ترى القول قد ازداد وضوحا وبيانا؟ كم من مرة سألت نفسي حائرا: كيف يمكن أن يكون لمن أحسنت إليه شر أتقيه؟ لكنني أرى الآن كيف يثير فيه شعوره بنقصه وعجزه شعورا بالمرارة نحو من أعطى، خصوصا إذا اختلط العطاء بالمن، فعندئذ يستحيل على الآخذ ألا يحس نحو من أحسن إليه بالكراهية والمقت، فلا يزول الشر ممن أحسنت إليه إلا إذا أعطيته الإحسان في عطف خالص، لا تكبر فيه ولا شموخ.

ولولا أن سرعة نسيان الحسنة من طبيعة الإنسان، لما كان بالقائل حاجة أن يقول للناس: «اذكروا حسنات موتاكم.» وإذا فلم يخطئ شكسبير كما ظننت، حين لاحظ أن الحسنات كثيرا ما تدفن مع رفات المحسنين. •••

والحق أني ما قصدت إلى الكتابة في الحسنات التي تذهب مع الموتى في قبورهم، وإنما أردت الكتابة في السيئات التي يقترفها الناس فتبقى بعد موتهم على وجه الأرض حية تسعى ينوء بحملها الأحياء بعد ذهاب أصحابها، وأعجب العجب أن ترى هذه السيئات الباقيات على وجه الزمن، قد اكتسبت جلالا من جلال الزمن، فإذا هي في الأعين مقدسات مصونات تجريحها بغي ومسها حرام.

كان لأسلافنا ظروف تحيط بهم، وكان لهم سلوك يستجيبون به لتلك الظروف، فوفقوا في حياتهم أو أخفقوا بمقدار ما جاءت استجابتهم ملائمة لظروفهم. وقد مضى الأسلاف وجئنا، فأية قوة في الأرض هذه التي تشدنا إلى سلوك أسلافنا، نستجيب لظروفنا بمثل ما استجابوا لظروفهم، تغيرت الظروف أو لم تتغير، ووفق هؤلاء الأسلاف أو أخفقوا؟

كانت لأسلافنا حرية الاختيار فاختاروا لأنفسهم وجهة النظر التي تسعدها وترضيها، وليست هنالك قوة لا في الأرض ولا في السماء، تلزمنا باصطناع وجهة نظرهم إلا بمقدار ما تتفق ظروفنا مع ظروفهم ... لكننا مشدودون إلى منظارهم شدا، لا نرى الأمور إلا بأعينهم، كأنما هم وحدهم الرجال يشرعون ونحن الأطفال نعمل وفق ما شرعوا. لقد قام علماء النفس المعاصرون بتجارب على الأطفال في لعبهم، فانتهوا إلى نتائج علمية في نفسية الطفل من حيث وجهة نظره إلى القواعد الموضوعة للسلوك؛ فأما الصغار فيما دون العاشرة، فلو سئلوا: من الذي وضع لكم قواعد الألعاب التي تلعبونها معا؟ أجابوا بأنهم وجدوها كذلك، ولا يجوز لهم أن يتناولوها بتحوير أو تبديل. فإذا ما ضيق القائم بالتجربة عليهم سبل الفرار، وحاول أن يظفر منهم بجواب محدد عن واضع القواعد التي يتبعونها في ألعابهم، قال بعضهم إنه الله، وقال آخرون إنها الحكومة، وقال فريق ثالث إنهم آباؤهم أو أجدادهم ... حتى إذا ما تقدم هؤلاء الأطفال في أعمارهم قليلا، وجاوزوا العاشرة إلى الثالثة عشرة أو نحوها، وأعيد عليهم نفس السؤال: من الذي وضع لكم قواعد الألعاب التي تلعبونها معا؟ أجابوا عندئذ بأن واضعيها هم أطفال مثلهم، وأن في مقدورهم أن يغيروها إذا شاءوا وكيف شاءوا.

وأظننا نستطيع أن نستخدم هذا المقياس نفسه في التمييز بين المجتمع في طفولته وفي نضجه: فأبناء المجتمع الطفل ينظرون إلى أنواع السلوك التي يسلكونها في مواقف حياتهم المختلفة نظرتهم إلى التراث المقدس الذي لا ينبغي بل لا يجوز أن يتناوله أحد بتغيير، وأما أبناء المجتمع الناضج فيدركون أن الأمر لا قدسية فيه، وأن التغيير مرهون بمشيئتهم؛ لأن الحياة حياتهم هم ولا بد أن يعيشوها على أكمل وجه مستطاع، فإن كان السلوك الموروث عن الآباء صالحا لهم فأنعم به، وإلا فمن حقهم بل من واجبهم أن يغيروا منه ما شاءوا وما شاءت لهم ظروفهم. وأظنك تستطيع أن ترى في وضوح، أن روح الاستبداد والطغيان أقرب إلى الشيوع في المجتمع الأول، وأن روح الحرية والديمقراطية أقرب إلى السيادة في المجتمع الثاني؛ ذلك لأن حرية التصرف حرام هناك حلال هنا.

إن احترام التقاليد الموروثة في ذاته أمر لا عيب فيه ولا غبار عليه، ما دمت آخذها أخذ السيد المسيطر لا أخذ التابع المطيع، فها هي ذي أرقى الأمم تحافظ على بعض تقاليدها على شرط ألا تعرقل لهم شيئا من سياسة أو تجارة أو صناعة أو تعليم أو غير ذلك من شئون الحياة، وكثيرا ما تراهم - إذا وجدوا التقليد عائقا في سبيلهم - يبقون على صورته ويفرغون مضمونه وفحواه، كأنما هم ينتزعون من الأفعى سمومها ليبقى لهم جمال ظهرها الأرقط.

ولست أول من يتكلم في جناية أسلافنا بما فرضوه علينا فرضا من وجهات نظرهم وأنواع سلوكهم، فقد سبق إلى ذلك منذ زمن طويل أستاذنا الجليل أحمد أمين، حين فصل القول تفصيلا في جناية الشعر الجاهلي على الأدب العربي ... لكنك تستطيع أن توسع من نطاق هذه الجناية حتى تشمل كثيرا جدا من تفصيلات حياتنا، فعنهم أخذنا حب الظهور بكل ما له من ذيول، وعنهم أخذنا الوضع الاجتماعي للمرأة بكل ما يستتبع من نتائج، وعنهم أخذنا غير ذلك وغير هذا.

لكني أريد أن أترك تفصيلات ما جنوا به علينا؛ لأغوص إلى ما تحت السطح من أعماق، فهنالك في العمق البعيد أم تفرعت عنها هذه التفصيلات كلها، وهي وجهة نظر معينة تصبغ كل شيء بلونها، فورثناها عنهم كما هي وجعلنا ننظر، وإنما أقصد بذلك نظرة وصفها الشهرستاني في عبارة نقلها عنه المغفور عنه الأستاذ مصطفى عبد الرازق في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (ص32) إذ قال: «من الناس من قسم أهل العالم ... بحسب الأمم فقال: كبار الأمم أربعة: العرب، والعجم، والروم، والهند، ثم زاوج بين أمة وأمة، فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية، والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية.»

ولو فهمنا عبارة الشهرستاني على أن العرب والهند من ناحية يمثلون ما يسمى بالشرق، وأن العجم والروم من ناحية أخرى يمثلون وجهة النظر الغربية، كان مؤدى كلامه بلغة يألفها قارئنا، هو أن أهل الشرق يميلون إلى الأحكام الكلية التي تطمس الفروق التفصيلية بين الأجزاء، وأن أهل الغرب يميلون إلى الأحكام الجزئية التي تلحظ ما بين تلك الأجزاء من فروق، والأولون روحانيون لا يستشهدون في أحكامهم بمشاهدات الحواس، والآخرون جسمانيون يحتكمون في معارفهم إلى ما تدلهم عليه الحواس من مشاهدات.

ولو كان هذا هكذا، ثم لو كان الأسلاف قد ألبسونا منظارهم، فقد جنوا علينا الجناية التي أودت بنا وستؤدي إلى مهوى الهلاك، فالبس المنظار الذي يطمس لك الفروق بين الأجزاء تجد أفراد المجتمع قد أصبحوا في عينك عجينة واحدة، لا شخصية لزيد ولا فردية لعمرو، ولا وجود لخالد، ومن ثم استبداد المستبد وطغيان الطاغية، ثم عد فالبس المنظار نفسه تجد النمل والبعوض والذباب كلها حشرات، والصقر والغراب والعصفور كلها طيور، والجير والرمل والبازلت كله صخور، وإذا فلا مشاهدات ولا تجارب ولا علوم، ثم عد مرة ثالثة والبس المنظار الموروث الذي يطمس لك الخصائص الجزئية بين يوم ويوم وساعة وساعة، تر الزمان كله قد انحصر في امتداد من فراغ وعدم؛ ومن ثم فلا تعلق بالدنيا الفارغة، ولنضع الرجاء في عالم آخر ...

فالجناية الكبرى التي جنى بها أسلافنا علينا، هي هذا المنظار الذي أورثونا إياه، فاستمسكنا به وتشبثنا كأنما نفقت سوق المناظير ، فلم يعد منظار سواه.

تعالوا نجرب منظار «العجم والروم» - على تعبير الشهرستاني - لتتبدل الدنيا في أنظارنا، فالعجينة المطموسة تصبح أفرادا متباينة الصفات والخصائص، والكون الخلاء يمتلئ في أعيننا ألوانا وأصواتا فيعمر خرابه، وهذه الحياة الزائلة الفانية تنقلب حياة خصبة مليئة تستحق أن نعمل لها كأننا سنعيش فيها أبدا.

ندوة الخميس

لو كان الله قد أتاح لندوة الخميس التي تنعقد في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر كل أسبوع، والتي لبثت على هذا النحو قرابة أربعين عاما، وكثيرا ما ضمت نفرا من أئمة الأدب وقادة الفكر في مصر، بل وفي بعض الشقيقات العربية أحيانا؛ أقول لو كان الله قد أتاح لهذه الندوة عاملين: عنصر المرأة المثقفة والقلم الذي يسجل، لكان لنا بذلك «صالون» أدبي قل أن يكون له نظير، ثم لكان لنا كذلك ديوان من أخصب دواوين الأدب والفكر المعاصرين، فالحديث في هذه الندوة يجري على غير نسق معلوم، ولا يتقيد المتحدثون فيه بشيء من التحفظ والتزمت اللذين يلازمان الكاتب إذا كتب للناس؛ ولذلك تراهم يرسلون أنفسهم إرسالا، هو أصدق ما يعبر عن خواطرهم ومشاعرهم، وهو بالتالي - لو رصده الراصد - مرآة لجانب حي من حياتنا الفكرية والأدبية على السواء.

وسأسوق للقارئ هنا خلاصة لحديث الندوة يوم الخميس الرابع من شهر أكتوبر عام 1952م، ذاكرا من أسماء المتحدثين أحرفها الأولى؛ لأني لم أستأذنهم في هذا النشر، على أنني إذا استطعت أن أنقل أمهات الأفكار التي دارت في الحديث، فلست بمستطيع أن أبث خلال ذلك ما يسود المجتمعين في هذه الندوة دائما من روح الفكاهة العابرة أحيانا، والساخرة أحيانا، فكأنما أنقل للقارئ هنا «رأسا» بغير «قلب»، و«عقلا» بغير «وجدان». إنني أسوق هنا إطارا، وللقارئ أن يملأه بما يسعفه به خياله من نبضات الحياة.

أ :

زارنا في هذه الندوة أديب صيني منذ سنوات، وأراد أن يعلم شيئا عن الاتجاهات الأدبية في مصر، فسأل عن كبار الأدباء الذين يكتبون الأدب «الكلاسيكي» - إذا صحت هذه الكلمة - ثم سأل عمن يكتبون للجمهور ويتصلون به اتصالا مباشرا، وعجب وأسف حين أنبأناه أن ليس بين أدبائنا من يتصل بالجمهور الشعبي هذا الاتصال المباشر الذي يريد.

ت :

إنه كان على خطأ؛ لأن الأديب الحق لا يتصل أبدا بغمار الناس اتصالا مباشرا، إن هذا الاتصال المباشر مهمة الصحفي لا الأديب، وينبغي أن نفرق بينهما تفرقة واضحة.

ح :

لماذا لا نقول عن «م. أ» وأمثاله من «الصحفيين» إنهم هم الأدباء الشعبيون؟ إنهم يكتبون في جرأة تلفت لهم أنظار الناس.

ن :

ومن الذي هيأ لهم هذا الجو الذي يستطيعون أن يكتبوا فيه بهذه الجرأة التي تستوقف لهم معظم الجمهور القارئ؟ الذي هيأ لهم هذا الجو هم أدباء ممن يعينهم الأستاذ «ت».

أ :

يظهر أننا قد وصلنا إلى شيء من التحديد، فالأديب يخلق الجو الفكري، والصحفي يكتب في هذا الجو الجديد لجمهور القراء، فيتصل بهم اتصالا مباشرا.

ت :

هذا صحيح، فالتأثير في الناس يتم على درجتين: الأديب يؤثر في الصحفيين ومن إليهم من الكتاب، وهؤلاء يكون لهم التأثير المباشر، والأمر في ذلك شبيه بأستاذ الجامعة الذي لا يتصل بتلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية، إنما يخلق الشبان الذين يكون لهم هذا الاتصال، وهذا الاتصال بطبيعة الحال يجيء في نفس الجو الفكري الذي نقله الشبان عن أستاذ الجامعة.

ن :

أظن أن هذا هو المقصود دائما «بتأثير» الأدب في الناس، أعني أن الأديب الكبير دائما ينحصر تأثيره في الطبقة المستنيرة وحدها، ومن هذه الطبقة ينتقل الأثر إلى من دونهم، فلا أظن - مثلا - أن برنارد شو يقرؤه الفلاح والعامل في إنجلترا.

م :

وماذا تقولون في شكسبير الذي كان يعرض مسرحياته على طبقات الشعب رأسا، وفي هومر الذي كان ينشد أشعاره في حلقات من الجماهير الدنيا؟ أليس ذلك دليلا على أن الأديب بأعلى معانيه، قد يكون اتصاله بالشعب مباشرا وبغير واسطة؟

ت :

لا، ليس ذلك بدليل على هذا، فلئن كانت طبقات الشعب قد استمعت لهومر أو شكسبير، فما ذاك إلا لأنه لم يكن لديهم من يستمعون إليه غير هؤلاء، ولو وجدت لهم الصحافة أو ما يشبهها من الكتابة، لانصرفوا عنهم إليها - أتظن أن امرأ القيس حين كان يقول شعره في الناس كان يفهم عنه من الناس إلا القلة المستنيرة؟ لقد كان الناس يقولون عنه إنه مجنون! أتظن أن المتنبي ومثاله كانوا يهدفون بأشعارهم إلى غير حاشية الحاكمين؟ فإن استمع الناس لما ينشده امرؤ القيس والمتنبي، فلأنه لم يكن هناك من يستمعون إليه عن فهم، أما الآن فقد تغير الموقف، إذ وجد المقروء الذي يصلح للشعب إلى جانب الأدب الرفيع، فاقتصر الأدب الرفيع على الطبقة المستنيرة، وقصد الشعب إلى حيث يفهم ويتأثر.

ن :

يخيل إلي أن «الطبقة المستنيرة» عبارة تريد شيئا من التحديد، من أهم أفراد هذه الطبقة؟

ت :

نستطيع أن نقول إنهم خريجو الجامعات ومن إليهم.

م :

أظن أن الأمر هنا لا يتوقف على التعليم الجامعي: فالطبقة المستنيرة هي أولئك الذين يتغذون بالأفكار، فلا تناقض بين أن يكون الشخص بائعا في متجر أو عاملا في مصنع، لكنه إذا ما فرغ من عمله التمس الأفكار النظرية في الكتب أو المحاضرات - وأمثال هؤلاء كثيرون في أوروبا - وعندئذ نقول عنهم إنهم من «الطبقة المستنيرة».

ن :

ستيفن سبندر له مقالة في مجلة إنجليزية صدرت الشهر الماضي، يحاول فيها تحديد الطبقة المستنيرة، ويكاد يشترط للداخل فيها أن يكون كاتبا؛ ليعبر بكتابته عن فكره.

أ :

وماذا يقول مثل هذا الكاتب الذي يعبر عن فكره؟ هل ينبغي أن ينصرف إلى الكتابة فيما يصلح المجتمع، أم الأمر مقصور على مجرد التعبير؟ بعبارة أخرى: هل يجب على الكاتب أن يلتزم حدود الأخلاق فيما يكتب؟

ت :

لا، لا شأن للأديب بالمعايير الخلقية، إنه يفكر ويعبر، ومقياسه الجمال وحده؛ ولذلك تسمعهم يقولون لك عن بعض الأدباء إنهم كانوا في مجتمعهم كالأفاعي تنفث السموم، أي أنهم كانوا يفتون في بناء المجتمع، ومع ذلك فهم أدباء، الحقيقة أن الأديب الحق كالنحلة تعطيك الشهد، لكنها قد تلسع.

ن :

إن مجرد ذكرنا لكلمتي «السموم» و«اللسع» يبين أننا ما زلنا متأثرين في تقدير الأدب بمعيار المصلح الاجتماعي، والأدب الخالص لا يهدف إلى الإصلاح الاجتماعي المباشر ، ولا يقاس بمقياسه.

ت :

هذا صحيح ، لكنك من ناحية أخرى تستطيع أن تقول إن الهدف في النهاية البعيدة هو هذا الإصلاح المنشود، فحتى الذين يكتبون أدبا مكشوفا عن الشئون الجنسية، يريدون أن يضعوا تحت أعين الناس حقائق قد أغمضوا أعينهم عنها على خطرها وأهميتها، هذا د. ه. لورنس يرى الناس في إنجلترا قد أهملوا غرائزهم إلى حد الخطورة، فراح بكتابته في تمجيد الغريزة الجنسية السليمة ينبه الناس إلى ما قد غفلوا عنه. إن الرجل إذا ما تحفظ في طعامه تحفظا يؤذي معدته بحيث لا تعود صالحة إلا لهضم «اللبن الزبادي» هو بحاجة إلى من يستثير شهيته للطعام بالتوابل القوية، ولورنس كان في مجال الغريزة الجنسية عند الطبقة المستنيرة أشبه شيء بالتوابل التي تحرك الغريزة السليمة.

ن :

الغريب في هذا هو أن الطبقة المستنيرة في إنجلترا انتقلت في نظرتها إلى الأمور الجنسية من النقيض إلى النقيض، كان «المستنير» في العصر الفكتوري (القرن 19) يستبشع كل ما له اتصال بهذه الأمور من بعيد أو قريب، وأصبح «المستنير» في هذه الأيام أقرب إلى العقيدة بأنها لا تقل ولا تزيد عن سائر ضرورات العيش التي لا ينبغي أن يكون فيها شيء من الخجل، ولعل هذا الانتقال قد جاء بسبب ما كتبه لورنس ومن إليه.

أ :

إن العرب لم يقولوا أدبا عن الطبيعة فيه جدة.

ز :

لماذا تعيبون على العرب أنهم لم يقولوا عن الطبيعة جديدا والطبيعة نفسها لم تخلق الجديد، فالأزهار العطرة ما تزال هي الأزهار العطرة ...

ش :

أراك بذلك تخاف كلمة أذعتها عن الجديد والقديم.

ز :

وهل من شك في أننا لا بد أن نبقي من القديم على الطيب؟

ن :

على شرط أن نحدد ما هو «الطيب» - ماذا نعده طيبا؟

ز :

هو المشهور المعروف بأنه كذلك، فشعر المتنبي «طيب».

ن :

لا يكون طيبا إلا إذا وافق عليه الناقد الأوروبي الحديث بمعياره في فهم الشعر وتقديره.

ز :

أنا لا أنتظر الناقد الأوروبي الحديث ليحدد لي ما أطرب له - أنا أقرأ شعر المتنبي وأطرب له، وفي هذا الكفاية.

ن :

وإذا فلا بد أن تعطي هذا الحق لساكن الأدغال حين يطرب لضربات «الدربكة» لأنه هو الآخر يستطيع أن يقول: إني أطرب لهذه الضربات وفي هذا الكفاية ... الأمر نسبي في كل ما يتعلق بالمدنية إذا استثنيت العلوم وحدها، فما يعد «طيبا» هو ما يعده أهل المدنية القائمة كذلك، وقد يتغير الأمر بعد كذا من السنين، فتعد عوامل المدنية القائمة الآن علامة همجية عندئذ ...

أ (وقد أمسك كتابا في يده) :

هذا كتاب كتبه أوروبي عن «إقبال» فهل يكون ذلك إلا دليلا على أنه قدره حق قدره بغض النظر عن عصره؟

ن :

وهذا ما أقوله، فالمتنبي شاعر يعد من يطرب له «متمدنا» لو وافق عليه نقدة هذه المدنية القائمة، وإلا فهو ليس كذلك بالنسبة لهذه المدنية أيضا، فالقديم الذي يستطيبه أصحاب الرأي من أهل العصر الحاضر، هو الذي يدخل في جملة العناصر التي لا بأس في أخذها والإبقاء عليها.

أ :

أنا أطرب للمتنبي وأعده شاعرا عظيما، و«نيكلسن» لم يعجبه شعر المتنبي، فماذا تقول؟

ن :

الأقرب منكما إلى تشرب روح هذا العصر وذوقه في الأدب هو الذي يعبر برأيه عن رأي العصر وذوقه.

د :

قل لي، هل تطربك أنت موسيقى فاجنر؟

ن :

إذا لم أطرب لها فلأني لم أنشأ النشأة الصحيحة، فالعيب عيبي أنا، ولا أعد في هذه الناحية بين المتمدنين؛ لأنني لو أصررت على أن الأمر متوقف على ما أطرب له، بغض النظر عن أهل المدنية الحاضرة هل يطربون معي أولا يطربون، فلا بد كذلك أن أعطي أهل الغابات هذا الحق نفسه حين يفضلون «الدربكة» على فاجنر.

أ :

أو ليست «الدربكة» خيرا من موسيقى «الجاز» التي يطرب لها أهل هذا الزمان؟

ن :

ولو أخذ العالم المتمدن بهذه «الدربكة» نفسها لانتقلت إلى عناصر المدنية، الأمر كما قلت اعتباري صرف، والعبرة بما يقوله أهل الخبرة الذوقية في كل عصر.

ز :

لقد التقيت اليوم مع صديق قص علي قصة فتاة فرطت في نفسها فثار عليها أهلها، وكان هذا الصديق ساخطا على هؤلاء الناس الذين يتدخلون في شأن الفتاة ، فهي وحدها المسئولة عن نفسها ما دامت قد بلغت الحادية والعشرين؛ أي أنه يريد لنا أخلاق أوروبا في ذلك.

ن :

وما وجه الخطأ في ذلك؟ إن كانت هذه هي «أخلاق» المدنية الحاضرة، فهل يعيبها أنها ليست «كأخلاق» المدنيات السابقة؟ إن المقياس هو ما يقرره أهل هذا الزمان لا أهل الأزمان الماضية.

أ :

وجه الخطأ هو أن هذا فساد محقق.

ن :

الفساد هو ما يخرج على ما تواضع عليه أهل الزمن المعين، وقد يصبح فساد زمن صلاح زمن آخر ثم يعود فسادا، وهكذا تتغير النظرة مع تغير ظروف العصر. الحكم على السلوك بالصلاح أو الفساد في عصر ما، متوقف على هذا السؤال فيه: هل يسود هذا السلوك في هذا العصر المعين أو لا يسود؟

أ :

وهل تريد أن يكون الشرق كالغرب فيما يسود وما لا يسود؟

ن :

ليست التفرقة بين شرق وغرب، وإنما تكون التفرقة بين من أخذ بنصيب من المدنية ومن لم يأخذ.

وانفضت عند هذا ندوة الخميس.

ابتسامة الساخر

كان يبتسم لي كلما رآني، وكنت أحس القشعريرة كلما ابتسم! فوا عجبا لابتسامة مسمومة تشيع في النفس فزعا ورعبا! إن هنالك ابتسامة وابتسامة: هنالك ابتسامة الطفل التي لا تنطوي أبدا على خبث وسوء، كلها براءة وسذاجة وطمأنينة ورضى، وهنالك ابتسامة تنفرج عنها الشفاه «لتكشر» عن أنياب الشر والغدر. ترى هل كان ذلك ما قصد إليه «دانتي» حين وصف البسمات التي يلاقيها أصحاب النعيم في الجنة بأنها بسمات الرضع الأبرار؟

أتقول: إن هناك ابتسامة «يكشر» فيها صاحبها عن أنياب الشر والغدر؟ هل تعلم أن الضحك في حقيقة نشأته «تكشير» مكبوت محبوس؟ إن الطبيعة لا تعرف الضحك والمزاح، إنها طبيعة متجهمة عابسة، إن السماء لا تقهقه بالضحك وهي تزمجر بالرعود، والحيوان إذا ما التقى في الغابة بحيوان، فإما هو لا يأبه به إذا لم يكن به حاجة إليه، وإما أن يكشر له عن أنيابه بانفراجة في شفتيه، فلما أراد الإنسان على تطور المدنية أن يخفي تكشيرة الحيوان ويحبسها في صدره، نشأ الضحك ، ولا يزال وجهه يتحرك في حالة الغضب أو الفزع بنفس العضلات التي يتحرك بها في حالة البهجة والمرح!

ابتسامة الضاحك وتكشيرة الغاضب - في الطبيعة - صنوان، وهنالك الحالات التي يختلط عليك فيها الأمر، فلا تدري أيهش لك الضاحك حقا بقلب خالص، أم يعبس لك بابتسامته ويتجهم، كما تحير أبو العلاء في هديل الحمامة أهو بكاء أم غناء ... إن الهجاء في الأدب عبوس في هيئة الضحك، أو ضحك يعبر عن عبوس، كان شاعر الهجاء عند العرب في حروبهم كحامل الرمح: هذا يقذف برمحه، وذاك يرمي بضحكاته الساخرة، وكلاهما يفتك بالعدو على حد سواء.

الضحكات الساخرة في الأدب قذائف من اللفظ تلقيها على العدو كما ترميه برصاص البنادق؛ ذلك لأنك في كلتا الحالين «مكشر» له عن أسنانك، ولا فرق بين أن تكون ضاحكا أو غاضبا. إن ابتسامة الساخر لطمة على الوجه أو ضربة في الرأس، لعلها أفعل من ضربات العصي ولطمات الأيدي.

ويغلب أن نلجأ إلى «قذائف» البسمات، حين يكون «العدو» داخل حدودنا ومن عشيرتنا، فعندئذ يحسن أن نهاجمه بالضحك منه، ومتى يكون الرجل من أهل العشيرة عدوا؟ يكون كذلك إن شذ عن المجموعة ونشر، فعندئذ تأخذنا الغضبة الممزوجة بالخوف من هذا الشذوذ الطارئ، إننا لا نريد لحياتنا الآمنة أن تتغير، ونبرز أنياب الأذى لكل من يحاول إخراجنا عن مجرى حياتنا المألوف.

ترانا نرسل الابتسامة الساخرة إلى كل «غريب» عن مألوفنا: نرسلها إلى من يتكلم بلهجة مختلفة عما ألفنا سماعه، ومن يلبس ثيابا غريبة، ومن يأكل بطريقة غريبة، ومن ينتبذ في سكناه مكانا بعيدا، أو ينحو في تفكيره نحوا غريبا، إن صاحب الفكرة الغريبة التي لم نألفها حقيق منه بالمحاربة - بالقذائف الضاحكة - كمن يلبس على رأسه طربوشا أخضر، أو يتكلم في القاهرة بلهجة الريف، أو يهجر المكان المعمور ليسكن في بيت في الخلاء بعيد عن مساكن الناس ... كل هؤلاء «غرباء» يبعثوننا على الضحك - أو بعبارة أخرى يحملوننا على العبوس، ما دام الضحك والعبوس عند الطبيعة لغتين مترادفتين في الخوف والتخويف! وإنه لمن عبقرية اللغة أن تضغط في لفظة «الغريب» معنيين يتلاقيان على اختلافهما الظاهر، «فالغريب» الذي يجيء إلينا من خارج بلادنا، هو في الحقيقة «كالغريب» الذي يشذ عن أوضاع بلادنا بالخروج عليها، الأول «غريب» بمعنى أنه أجنبي دخيل يدعو إلى الحيطة والحذر، والثاني «غريب» بمعنى أنه باعث على العجب؛ لأنه منا وليس منا، وكلا «الغريبين» يتطلبان أن نكون منهما على أهبة المطاردة بالعبوس الساخر أو بالعبوس المقنع بالضحك.

إننا بضحكات السخرية نسوي أرضنا حتى لا يكون فيها مرتفع ومنخفض، وننسق نغماتنا حتى لا يكون فيها نشاز، فما نزال «بالغريب» عنا همزا ولمزا حتى يعتدل ويجري معنا في فلك واحد، وإنه ليقلق الغريب أن يعلم أنه هدف لابتسامة الساخرين، وكثيرا جدا ما يشذ الشاذ وهو لا يدري، حتى إذا ما لحظ الناس ينظرون إليه بابتسامة ساخرة، أخذ يتحسس ملابسه ويتلفت حوله التماسا لما عساه أن يكون شاذا فيه فيصلحه، أما إن ابتسمنا للشاذ، فظل على شذوذه وهو يعلم، فما أسرع ما نقلب له الابتسامة إلى «تكشيرة» حقيقية، وما أيسر هذا التحول فينا؛ لأن حركة الوجه التي ابتسمنا بها، هي نفسها التي نكشر بها تكشيرة الغضب ... لكن أين هذا الذي يضحك الناس من شذوذه فيصمد لضحكاتهم؟ إنه إذا استطاع فهو العظيم، أو من فيه بوادر العظمة، وهل رأيت في التاريخ كله عظيما واحدا لم يكن موضع السخرية أول ظهوره، ثم صمد للسخرية حتى اجتمع الساخرون أنفسهم تحت لوائه؟!

وليست ضحكات السخرية دائما موجهة نحو الجديد، بل هي أحيانا تصب «غضبتها» على القديم إذا لم يعد هذا القديم مألوفا مرغوبا فيه، إننا نضحك من متعالم يستخدم لنا كلمات عربية قديمة يستخرجها من القواميس كما تستخرج الأجساد المحنطة من القبور، ولن يصرفنا عن الضحك أن اللفظ المهجور القديم صحيح بحجة القاموس، فلئن أفلح المتعالم مرة في حمل الناس على بعث لفظ قديم، فقد أفلح الناس ألف مرة على رده إلى حظيرة الاستعمال المألوف ... إن الابتسامة الساخرة ترتسم على الشفاه، لهي مقياس أدق مقياس لما ينبو عنه ذوق الجماعة، وأنت بعد ذلك حر في أن تصانع هذه الجماعة لتعيش بينها هادئ البال، أو أن تخرج عليها متحديا، عالما بأن النقلة من الابتسامة إلى العبوس، هي عند الناس أهون الهينات.

لست أدري لماذا يستبد «دون كيشوت» بتفكيري إلى هذا الحد البعيد، فكلما طافت برأسي فكرة، ورد «دون كيشوت» على خاطري، فقد أراد «سيرفانتيز» أن يقلع أهل عصره عما أغرقهم إلى آذانهم من حب للفروسية وتقدير لما كانوا يسمونه «شرف» الفرسان، فماذا صنع؟ خلق لهم بخياله «دون كيشوت» هذا، يفعل نفس أفعالهم، لكنه عرف كيف يجعله باعثا على الضحك، وما دمت قد أضحكت الناس من شيء، فقد خطوت أوسع خطوة إلى محوه، ومن هنا نفهم قول «بايرون» الشاعر الإنجليزي: لقد أزال سيرفانتيز الفروسية عن أرض إسبانيا بابتسامة.

ابتسامات السخرية وخزات يخز بها الناس من أبناء الأمة الواحدة بعضهم بعضا، ليجتمع شملهم على سلوك واحد وفكر واحد؛ ولذلك كانت الضحكات إقليمية تقف موجاتها عند الحدود الجغرافية، فما يضحك الناس هنا لا يضحك الناس في بلد مجاور، ومن ثم كانت ترجمة النكتة من لغة إلى أخرى أمرا متعذرا أو مستحيلا، فالنكتة محكوم عليها ألا تعبر حدود بلادها إلا في القليل النادر، إنها لا تحمل جواز المرور، ولا يسمح لها بتغيير الجنسية، فما هو مصري - مثلا - يظل مصريا، ولا يرحل أبدا عن أرض الوطن، لا بل قد تنحصر النكتة في جيل واحد من أهل البلد الواحد، فنكتة أضحكت الناس منذ عشرين عاما أو ثلاثين قد لا تضحكنا اليوم، لتغير الظروف.

وما كذلك البكاء! فللبكاء قوة يتخطى بها الحواجز والسدود، البكاء إنساني عام، فما يبكي إنسانا في أقصى الأرض من طرف، يبكي زميله الإنسان في أقصاها من الطرف الآخر، وما قد أسال الدمع في عهد مينا وخوفو لا يزال حتى اليوم قادرا على إسالة الدموع. إنه ليقال عن «ماكولي» - وفي القول مبالغة جميلة - إنه كان يقرأ الإلياذة يوما وهو سائر في الطريق، فلما طالع موت هكتور سحت عبراته على وجهه، فهل يمكن أن نسمع عن أديب آخر، أخذ يقرأ ملهاة لأرستوفان وهو سائر في الطريق فإذا هو يضحك حتى يشق الضحك جنبيه؟! •••

وإذا كان من علائم الشخصية القوية أن تصمد للهجمات الضاحكة يشنها عليك أبناء الأمة جزاء خروجك على أوضاعهم، فماذا أنت قائل في رجل يجعل نفسه هو الضاحك الساخر بأبناء بلده أجمعين؟

فلعلك قد رأيت كيف يتفاوت الناس في روح الفكاهة، فمنهم من إذا ضحكت منه «مات في جلده» - كما يقولون - ومنهم من يرد الضحك بضحك أقوى، وما يزال كذلك حتى يرتد سهم السخرية إلى نحر الساخر الأول ... وهكذا يكون موقف الساخر العظيم من أمته: يشذ عن أوضاع الناس، فيسخر منه الناس، فيرد السخرية بسخرية أمضى، حتى تنتهي المعركة، فإذا هو واقف وحده في الميدان، يضحك ويسخر، وجموع الناس من حوله تضحك معه وتسخر، وإنما يضحكون عندئذ ويسخرون من ذوات أنفسهم!

من أمثال هؤلاء الساخرين الأفذاذ فولتير، وسويفت، ودكنز، وشو ... ومنهم - وكدت أقول على رأس الساخرين جميعا في العالم طرا - أديب ياباني أمره في السخرية عجب، هو «جيبنشا إيكو» - هذا الذي أدقعه الفقر بين قومه، فهزأ ساخرا بالفقر وبقومه معا، لم يكن في بيته أثاث، فعلق على جدرانه العارية صورا للأثاث الذي كان يشتريه لو استطاع! وفي أيام المواسم الدينية كان يضحي للآلهة بصور فيها رسوم للقرابين التي كان يتقدم بها إلى هؤلاء الآلهة لو كان عنده المال!

لم يكن «إيكو» يصيب من كتبه مالا، فكان رقيق الحال رث الثياب، وحدث مرة أن جاءه الناشر يزوره في بيته، وكان هذا الناشر يرتدي ثوبا جميلا فاخرا، فما زال به الأديب المتفكه حتى أغراه بالاستحمام - وكان اليوم عيدا - وما إن وقع الناشر في الفخ حتى لبس صاحبنا ثيابه تلك الجميلة الفاخرة، وراح يزور بها كل من عرفهم من أهل وأصدقاء.

ولما كان «إيكو» في فراش موته، التمس من تلاميذه أن يضعوا على جثمانه قبل إحراقه بضع لفائف أعطاهم إياها في وقار وجد، وجاءه الموت، وفرغ المصلون من تلاوة الدعوات ، وأشعل الحطب الذي أعد لإحراق جثته ، ووضعت اللفائف على جسده بين ألسنة النار، وإذا بها تحتوي على صواريخ، أخذت تطقطق في مرح ونشوة، وراحت تنطلق في الهواء رسوما ملونة، فلم يسع الحاضرين إلا الضحك، بعد أن كانوا من رهبة الموت في حزن وخشوع، كأنما أراد هذا الساخر العظيم أن يلطم الناس لطمة قوية تؤلب عليهم ضمائرهم، التي أهملته حيا، وجاءت الآن تصطنع الهم والاهتمام أمام جثمانه!

ابتسامة السخرية أداة في يد الأديب القادر، يصلح بها ما قد فسد عند الناس من طرائق العيش والتفكير، ويكاد يستحيل ألا تسخر من جماعة إلا إذا كنت في أعماقك راضيا عن أسلوبها ... ولك أن تسأل بعد ذلك: أين في أدبائنا الأديب الساخر؟

أنتيجونا

إلى أي الجانبين ننتصر إذا نشأ التعارض ونشب الصراع: أننتصر لذوي القربى من أبناء الأسرة، أم للقانون الذي يمثل الأمة جميعا؟

وكثيرا جدا ما ينشأ ذلك التعارض وهذا الصراع في صدور الأفراد؛ لأن كل فرد هو في الوقت نفسه عضو من أسرة وفرد في أمة، وقد يحدث أن يجيء فعله مواتيا لصالح أسرته وأمته معا، لكن قد يحدث كذلك أن يكون الفعل الذي يخدم صالح أسرته مناهضا لصالح الأمة، والفعل الذي يخدم صالح الأمة مناهضا لصالح الأسرة، فإلى أي الجانبين ينبغي له أن يتحيز وينتصر؟

أما من الوجهة النظرية فلا أحسب أن اثنين يختلفان، في الإجابة عن هذا السؤال، فالأمة عندنا جميعا هي المجموعة الكبرى التي تحتوي في جوفها الأسر، وهي التي يجب أن تظل سواء بقيت أو فنيت هذه الأسر أو تلك، فلا ضير علينا أن تزدهر أسرة أو تذوي، أو أن تولد أسرة أو تموت، لكن علينا كل الضير إذا فقدت الأمة مقومات بقائها؛ لأن الخيط الذي يمسك الأفراد وأسرهم في كل واحد، ينقطع عندئذ وينفرط العقد، وتنتثر الحبات فرادى، وبذلك نكون بمثابة من يناقض نفسه؛ لأننا حين أقمنا من أنفسنا مجموعة كبرى أسميناها أمة، قد اعترفنا ضمنا أننا في ظل هذه المجموعة وحدها نستطيع أن نعيش. وماذا أنت قائل في رجل يظل السنين ينبت شجرة ويرعاها في سبيل أن يستمتع بظلها، حتى إذا ما نمت الشجرة وامتد ظلها، أمسك بيده الفأس ليبترها عن أرضها زاعما لنفسه أن صالحه أحق بالرعاية وأولى؟ كأن صالحه الفردي لم يكن هو المبدأ الأساسي والدافع الأول لاجتماعه مع غيره في حظيرة أمة واحدة!

نقول إنه لا خلاف على ذلك من الوجهة النظرية، حتى إذا ما وجدنا أنفسنا أمام الموقف العملي الذي يتطلب منا أن نسلك هذه السبيل أو تلك، فإما أن ننتصر لأبناء الأسرة التي ننتمي إليها، أو أن نتحيز للأمة على حساب الأسرة، حين يكون بين صالح هذه وصالح تلك تعارض واختلاف، فعندئذ يتعذر جدا على غير من قطعوا من المدنية شوطا بعيدا، أن يغضوا أطرافهم عن صوالح أسرهم في سبيل مصلحة المجموعة الكبرى.

وإذا فذلك مقياس تستطيع أن تسبر به مدى ما نالك من تحضر وتمدن، هو مقياس تستطيع أن تجزم به لنفسك إن كنت لا تزال بدائيا جاهليا في تكوينك النفسي، أم خطوت إلى أمام مع خطو الزمن، وسأروي لك فيما يلي خلاصة لمسرحية أنتيجونا

1

التي أنشأها سوفوكليس ليصور بها هذا الصراع الذي ما ينفك ينشب في صدور الأفراد حين يدعوهم الداعيان معا: داعي الأسرة وداعي الأمة، وحين يكون الداعيان على تناقض وخلاف، سأروي لك هذه الخلاصة لتسأل نفسك بعدها: هل أشعر بالعطف على أنتيجونا التي آثرت واجبها نحو أخيها على واجبها إزاء قانون أصدره الملك ليمثل به صالح الأمة، أم أشعر نحوها بالسخط والغيظ؟ فإن وجدت نفسك عاطفا عليها راضيا عنها، فاعلم أنك إذا ما تزال في هذه المرحلة الأولية البدائية بقلبك وشعورك، وإن ظننت في نفسك غير ذلك فإنك في حاجة إلى أن تغير من نفسك، ليغير الله ما يحيق بأمتك من تهدم وتصدع وانحلال: «إيثيوكليس» و«بوليتيس» أخوان قضيا معا في يوم واحد، أما الأول فقد أجيز لجثمانه أن يوارى في التراب وأن يؤدى إليه من الواجبات الدينية ما يسر نفوس الموتى؛ لأنه جاد بنفسه في سبيل وطنه، وأما الآخر فقد أمر الملك «كريون» - ملك ثيبة - ألا يدفن ولا يبكى، وأن يترك نهبا لسباع الطير التي تتأهب لافتراسه؛ وذلك لأنه ناصر أعداء الوطن على وطنه. ويجيء النبأ إلى أختهما أنتيجونا، فماذا تراها صانعة؟ إن رابطة الرحم التي تربطها بأخيها بولينيس تقضي عليها ألا تترك جثمانه في العراء بغير أن يقبر أو تؤدى إليه فروض الدين، لكن هذا هو أمر الملك - والملك هنا هو الدولة وأمره هو صالح الأمة - هذا هو أمر الملك صريح، بأن من يحاول دفن ذلك الشقي الآثم، سيلقى أقصى أنواع العذاب وسط المدينة وبمشهد من مواطنيه.

وتلتقي أنتيجونا بأختها أسمينا لتحمل إليها النبأ، ولتطلب إليها أن تعاونها على دفن أخيهما:

أسمينا :

ماذا؟! أي أنتيجونا التعسة! أتقدمين على ذلك رغم أمر كريون؟

أنتيجونا :

أله الحق أن يقطع ما يصل بيني وبين قرابتي؟

أسمينا : ... إن الذين يأمرون أشد منا قوة، وإن علينا أن نذعن لما يريدون ...

أنتيجونا : ... افعلي ما تؤثرين، أما أنا فموارية أخي، فإذا أديت هذا الواجب، فما أجمل بي أن أموت. (وقامت أنتيجونا بما رأته واجبها نحو جثمان أخيها، فوارته التراب، متعرضة بذلك إلى غضب الملك وعقابه، ولم يزل الحراس يبحثون عمن اجترأ على دفن بولينيس، حتى علموا أنها أنتيجونا، فساقوها إلى الملك كريون.)

كريون :

ماذا؟! أتظلين مطرقة إلى الأرض من غير أن تنكري ما تؤخذين به؟! ...

أنتيجونا :

كلا، بل أنا أعترف به، وأنا أبعد الناس من إنكاره.

كريون :

أجيبيني من غير محاولة، أتعلمين أني قد كنت خطرت مواراة بولينيس؟

أنتيجونا :

نعم، أعلم ذلك، وهل كان يمكن أن أجهله، وقد أعلن إلى الناس كافة؟

كريون :

وكيف جرؤت على مخالفة هذا الأمر؟

أنتيجونا :

ذلك لأنه لم يصدر عن «ذوس» ولا عن «العدل» مواطن آلهة الموتى، ولا عن غيرهما من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم، وما أرى أن أمورك قد بلغت من القوة بحيث تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين، تلك القوانين التي لم تكتب، والتي ليس إلى محوها من سبيل، لم توجد هذه القوانين منذ اليوم ولا منذ أمس؛ هي خالدة أبدية، وليس من يستطيع أن يعلم متى وجدت. ألم يكن من الحق علي إذا أن أذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدا من الناس؟ قد كنت أعلم أني ميتة ... ومن ذا الذي يعيش من الآلام في مثل هذه الهوة التي أعيش فيها ثم لا يرى الموت سعادة وخيرا ... وقد كنت أتعرض لما هو أشد لنفسي إيذاء لو أني تركت بالعراء أخا حملته الأحشاء التي حملتني.

وجعل الملك يبدي من دهشته لجرأة الفتاة، وجعلت الفتاة تبدي من فخرها لأدائها واجبها، قائلة فيما قالت: «وأي مجد أحب إلي من أني قد واريت أخي؟»ويسألها الملك: ألا يخزيها أن تسلك سبيلا غير السبيل التي سلكها أهل ثيبة جميعا حين أطاعوا أمره؟ فتجيبه: ليس هناك ما يحمل على الخزي إذا شرف الإنسان من يصل الدم بينهم وبينه.ويلفت كريون الملك نظر أنتيجونا إلى أنها قد كان لها أخوان، لا أخ واحد، أحدهما دافع عن وطنه فاستحق التشريف، وجاء الآخر يدمر وطنه فاستحق اللعنة، فكيف يسوغ لها - إذا - أن تسوي بين الأخوين في المعاملة، فتجيبه أنتيجونا بأنها لا تفرق بين أخويها، فكلاهما أخوها لأبيها وأمها، وإن الآلهة لتأمرها بتشريفهما جميعا.ولا يجد الملك بدا من أن يأمر بالفتاة فتلقى في كهف حتى تموت، لكن الأديب الفنان سوفوكليس، يمضي في تعقيد الأمور، ليتبين مشاهد المسرحية كيف ينصب البلاء على من يحاول العبث بتقاليد الناس؛ لأن التقاليد في عصره لم تزل أقوى من قوانين الدولة، فهو ينتصر لأنتيجونا، راعية التقاليد على كريون مشرع القوانين، فجعل «هيمون» بن كريون وخاطب أنتيجونا، يلقي بنفسه وراء حبيبته في كهفها، فيموتان معا، وتسمع الملكة - زوجة كريون - أن ابنها قد لقى حتفه ثمنا لعناد أبيه، فتنتحر حزنا عليه، فتنزل الكروب بالملك: «مثل سيئ ضرب للناس يبين لهم ماذا يجر الهوس على الملوك أنفسهم.»

كريون :

قودوني إلى مكان بعيد، أنا هذا الشخص المجنون! أي بني لقد قتلتك دون أن أريد، ولقد قتلتك أنت أيضا أي أوريديس (الملكة) وا حسرتاه! لست أدري إلى أيكما أنظر، ولا إلى أي جهة أتحول، لقد فقدت كل شيء، لقد ألح على رأسي قضاء لا يطاق.

رئيس الجوقة :

إن الحكمة لأول ينابيع السعادة ... إن غرور المتكبرين ليعلمهم الحكمة بما يجر عليهم من الشر، ولكنهم لا يتعلمون إلا بعد فوات الوقت وتقدم السن.

ونعود فنسأل القارئ: ماذا ترى من نفسك، وإلى أي جهة تميل؟ أتناصر أنتيجونا أم تناصر الملك؟ إن انتصارك لأنتيجونا انتصار للأسرة على الأمة حين ينشأ التعارض بينهما، وانتصارك للملك انتصار للقانون على حكم التقاليد - ما أحسبك إلا ذاهبا بعطفك وعاطفتك مع أنتيجونا؛ لأنك - مثلي - قد نشأت في جو يقرب إلى قلبك الأهل بأشد وأقوى مما يقرب المواطنين «الغرباء»، وقد يهون شر ذلك في مثلك ومثلي، لأن كلينا ليس من أصحاب الحكم، فإيثاره لجانب على جانب ليس بذي خطر بعيد، لكن الطامة الكبرى حين يتأثر أصحاب الحكم بما نتأثر به - أنت وأنا - من عواطف العامة والدهماء.

إنني أقول ما قاله كريون مدافعا عن وجهة نظره: «ليس من سبيل إلى أن تعرف نفس الرجل وذكاؤه وأخلاقه إذا لم يجلس مجلس الحكم، ولم يوكل إليه تدبير الدولة وحماية قوانينها، أما أنا فأعتقد، وقد اعتقدت دائما، أن ذلك الرجل الذي يكلف الحكومة وحماية القوانين فلا يقف نفسه على النصح للدولة وتضحية كل شيء في سبيلها، بل يمنعه الخوف من ذلكم؛ أعتقد أن هذا الرجل شرير ممقوت، ولا أستطيع إلا أن أزدري ذلكم الذي يؤثر منفعة الصديق على منفعة الوطن.»

إنه لم يعد بد - كما قلت في موضع آخر - من تغيير قيم الأشياء والأوضاع، فما كان صالحا لآبائنا لم يعد صالحا لنا؛ فقد كانت شدة الروابط الأسرية موضع فخر حين كانت الحياة بدوية متنقلة بين أطراف الصحراء، فكان حتما على أبناء الأسرة الواحدة أن يتحدوا جبهة واحدة أمام هجمات الأسر الأخرى أو القبائل الأخرى - والقبيلة أسرة كبيرة - أما اليوم فسبيل الخير هو أن نخلخل الروابط الأسرية بعض الشيء، حتى لا يجد الرجل نفسه ملزما بحكم تربيته أن يؤثر ذوي رحمه على سواهم حين يئول إليه زمام الحكم وتلقى في أيديه مقاليد الأمور، ويصبح قادرا على الضر والنفع.

إنه لا تناقض بين أن تكون للأسرة المكانة الأولى عند الطفل، حتى إذا ما تم له النمو في محيطها وخرج للناس رجلا، تصبح لأسرته المكانة الثانية، كما أنه لا تناقض بين أن يطعم الرضيع من ثدي أمه، حتى إذا ما جاوز حدود الرضاعة التمس لرزقه موردا آخر.

إن بين أمثالنا التي تصور أخلاقنا مثلا يقول: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب» - صورة قوية موجزة للتكتل الأسري البغيض، ونريد أن يأتي الزمن الذي تقول فيه أمثالنا: أن لا «غريب» بين أبناء الوطن الواحد، وأنني وأخي وابن عمي وأبناء الوطن جميعا على من نوليه أمورنا فيؤثر «قريبا» على «غريب».

نشر القديم

إني أتهم أدباءنا ومفكرينا بالجبن والخور، وأمام من يخورون ويجبنون؟ أمام سواد الناس من الأميين وأشباههم! أتهم أدباءنا ومفكرينا بالجبن والخور أمام السواد، ولست أدري فيم إذا حملهم للقلم إذا لم تكن مهمتهم الأولى أن يستحيل هذا «السواد» على أيديهم بياضا؟

أدباؤنا ومفكرونا يرتعدون خوفا ورعبا مما عسى أن يقوله الناس فيهم، كأن الله قد خلق الطغام ليملوا على أصحاب الفكر ما يكتبون ويزجروهم عما لا يكتبون، ولم يخلق أصحاب الفكر لكي يكونوا لهؤلاء الناس نبراسا يهتدون به ويرشدون.

سيطر هذا الخوف على أدبائنا ومفكرينا - لا أكاد أستثني من كبارهم أحدا - حتى لقد أصبح من المألوف لقارئ أن يسأل قارئا كلما كتب الكاتب من هؤلاء الكبار مقالا أو أخرج كتابا يتمشى مع عقيدة العامة ووجهة نظرها: أحقا يعتقد فلان هذا في صدق ما كتب؟ أصبح من المألوف أن يسأل قارئ قارئا مثل هذا السؤال عما يكتبه كبار أدبائنا ومفكرينا مما يمالئون به سواد العامة؛ لأن القراء قد أدركوا هذه الهوة السحيقة التي أصبحت تفصل بين ما يدور في باطن المفكر وبين ما يخرجه للناس على الورق، وأصبح القراء في حيرة من أمر قادة الفكر فيهم: متى يقصد هؤلاء القادة حقا إلى صدق ما يكتبونه ومتى لا يقصدون؟

إن كانت فكرة الكاتب متمشية مع فكرة العامة، مضى فيها الكاتب من أول حياته الأدبية إلى آخرها؛ لأنه ليس في طريقه خطر يحمله على انتهاج سبيل آخر، وأما إن كانت فكرة الكاتب متعارضة مع رأي العامة، فهنا تلحظ الأعاجيب في سيرة الكاتب، فهو يبدأ حياته الأدبية بشيء لينتهي آخر الأمر إلى نقيضه، ومن ثم سؤال القراء بعضهم بعضا، أحقا يعتقد الكاتب في صدق ما يروي؟ دلني على مفكر واحد من أصحاب القلم عندنا، قد عرف بفكرة معينة تصدم عقيدة سواد الناس، ثم ثبت عليها، وأخذ يكتب فيها دون أن يتحول عنها.

قد يبدأ الكاتب عندنا بشيء من الشجاعة فيعلن الرأي الذي يخالف ما قد ألفه الناس وتواضعوا عليه، لكنه سرعان ما يعود بيسراه ليمحو ما خطته يمناه، ولا يتردد في تمزيق أوتاره جميعا ليعيد مكانها وترا يبعث به النغم الذي يحلو وقعه في المسامع - لماذا؟ لأن المسكين يريد أن يبيع بضاعته في سوق رائجة التماسا للقمة العيش، ألا قبح الله عيشا يكون العهر الأدبي وسيلته.

على أن لقمة العيش إن كانت في أعين الناس مبررا كافيا لهذه الزندقة الفكرية، فماذا يبرر أن نرى الكاتب قد أصاب ما يكفي جوفه وجوف أولاده من شبع وري، ومع ذلك يدس عقيدته بين ضلوعه ابتغاء مجد شعبي أو شهرة رسمية؟ إني لأذكر بهذه المناسبة سطرين من الشعر الإنجليزي، قالهما شاعر محزون في منتصف القرن التاسع عشر، إذ رأى واحدا من زملائه الشعراء قد اختطفته من بين زمرتهم يد تشبه يد المنون في بشاعتها، وأعني به «تنسن» (على ما أذكر) حين اختاروه أميرا للشعراء، وهو لقب كان يحتم على صاحبه أن يكون تابعا من توابع السلطان ... فقال الزميل المحزون على فقد زميله سطريه المشهورين:

من أجل حفنة واحدة من الفضة قد تركنا،

تركنا ابتغاء شريط يلصق بسترته.

ومن يدري؟ لعل هذه المقدمة الطويلة قد أملاها علي الهوى؛ لأمهد بها لرأي جريء أريد أن أفجأ به القارئ ثم أترك على الله بعد ذلك رزقي، فقد أردت أن أعبر في هذا المقال عن رأي أراه وأومن بصدقه، وهو أن رجوعنا إلى الثقافة العربية القديمة بهذه النسبة الكبيرة البادية فيما نكثر من نشره هذه الأيام من كتب العرب الأقدمين، هو أشبه شيء بالوباء يصيب نهوضنا الفكري الذي لم يستقم بعد على قدميه، وربما أحدث هذا الوباء في عقولنا من الضر ما قد يستحيل بعد اليوم زوال أثره والنجاة من شره.

أردت أن أقول: إن كثيرا جدا مما نقوم على نشره هذه الأيام من كتب العرب الأقدمين، لا تساوي قيمته الورق الذي طبع عليه، وليت الأمر في ضرره يقف عند حد انعدام نفعه، بل إنه ليعيد لنا جوا فكريا قد يضطرنا اضطرارا إلى تنفس هوائه حتى تمتلئ به رئاتنا وصدورنا، فنكون عندئذ بمثابة من يعود بالزمان القهقرى، فلست أدري بأي حلق أصيح حتى تسمع الصيحة، فأقول: إننا يا قوم في واد والدنيا المتحضرة في واد آخر.

والأمر أمر نسبة صحيحة بين الأشياء، فلو كان كل كتاب عربي قديم تقوم المطابع على إخراجه واستنفاد الورق والحبر فيه، يقوم إلى جانبه ألف كتاب مما ينقل إلينا ثمار المدنية الحاضرة والفكر المعاصر، لما كان هنالك موضع للشكوى، أما والمطابع منصرفة بمعظم مجهودها إلى شد الأعناق إلى الوراء، حتى لنكاد نطالع كل يوم إعلانا جديدا عن كتاب آخر قديم كتب له النشور وشهد النور بعد ظلمة القبور، فمن ذا يلومنا على آهة الحسرة نبعثها من أعمق أعماق النفس أسى وأسفا؟

الكتاب القديم تحفة نضيفها إلى المكتبة لنضيف بها صفحة الماضي إلى صفحات الحاضر، لكننا نعيش على صفحات الحاضر ونتسلى بذكريات الماضي، اللهم إلا إذا كان المراد بنا أن تكون حياتنا كلها أحلاما نستعيد بها مجدنا القديم، فتمضي الحياة الحاضرة تحت أنوفنا ونحن نيام رقود؟

ألست ترانا نجمع الآثار القديمة في متحف واحد أو متحفين أو عشرة، ثم نترك ألوف الألوف من المباني بعد ذلك للسكنى والعيش؟ من ذا يريد أن يكون المتحف المصري داره التي ينام فيها ويأكل ويعمل ويسمر مع أهله وأصدقائه؟!

لكن الذين يريدون أن يملئوا علينا رفوف المكاتب بالقديم المنشور هم كمن يريدون أن ينسونا أمور عيشنا ويجعلون من المتاحف مضطرب حياتنا، لقد يكون من الخير أن تضع تمثالا في هذا الركن أو ذاك من أركان دارك، أو تعلق صورة هنا أو هناك على جدرانها، على أن تستبقي لنفسك معظم فراغ الدار للجلوس والحركة والأكل والنوم والطهي والغسل.

الكتاب القديم المبعوث من قبره هو كالكراسة القديمة نعثر عليها تحت الأثاث المخزون، ونتصفحها فنجدها أثرا جميلا من آثار الطفولة، فهي الكراسة التي كنا نكتب فيها الحساب أو الإنشاء ونحن في المدرسة الأولية، فنبتسم لها ابتسامة الإشفاق ونمسح عنها التراب ونضعها في ركن من خزانة الكتب احتفاظا بذكرى يوم مضى، لكن الأمر ينقلب جنونا صريح إذا جعلنا هذه الكراسة بعد ذلك شغلنا الشاغل، نقرأ ما فيها قراءة من يتوهم الجد في عمله.

ماذا يريد بنا هؤلاء الناس الذين يلوون وجوهنا وعيوننا إلى الوراء؟ ماذا يريدون للمهندس الذي يبني العمائر والجسور ويرصف الطرق أن يقرأ ليقوم بما نحب له أن يقوم به من بناء وتعمير؟ ماذا يريدون للطبيب الذي يسأل عن شفاء المرضى أن يقرأ ليؤدي ما نسأله عن أدائه؟ ماذا يريدون للاقتصادي الذي نطالبه بتصريف بضائعنا في الأسواق العالمية وباستيراد حاجاتنا من تلك الأسواق بأحسن الشروط، ماذا يريدون لهذا الاقتصادي أن يقرأ لكي يحقق لنا هذا الذي نطالبه به؟ ماذا يريدون للزارع الذي نود له أن يملأ علينا المخازن غلة وثمرا أن يقرأ لتتوافر لنا بحبوحة العيش ورخاؤه؟ أم هل يريد هؤلاء الناس لنا أن ننصرف عن هندستنا وطبنا واقتصادنا وزراعتنا لنقرأ الوافي بالوفيات ونوادر المخطوطات وكتاب الإرشاد والمزهر وترجمة ابن عساكر ...؟! «لا، يا جاهل!» - الآن خيل إلي أن قراء كثيرين سيشفقون علي من هذا الجهل المطبق الذي أبديه، وسيخاطبونني من بعد قائلين: «لا، يا جاهل! فما لنا الآن بالهندسة والطب والاقتصاد والزراعة؟! هذه الكتب القديمة التي ننشرها إنما هي للثقافة والتثقيف ...» كأن الشرط في «التثقيف» عندهم أن يمتلئ الرأس بما ليس ينفع الحياة في شيء من بناء الدور وشفاء المرضى.

والحمد لله فقد رضيت لنفسي بالجهالة المطبقة إن كانت هذه الكتب هي أدوات الثقافة التي أملأ بمكنونها رأسي! لو كان ما أريده فنا من الفنون، فقبل أن أقرأ هذه الكتب لا بد لي أولا أن ألم بما يكتبه جهابذة الفن من أهل المدنية القائمة، ثم أعقب على ذلك إن شئت بصفحة أقرؤها من صفحات الطفولة الماضية لأتسلى بلهو الماضي إلى جانب جد الحاضر، وإن كان ما أريده أدبا من شعر أو نثر أو قصة أو مقالة أو ما شئت، فلا بد لي أولا أن أملأ جعبتي بالزاد الذي يغذيني غذاء حديثا لأسير مع السائرين في ركبهم، ثم بعد ذلك ألهو ساعة أو ساعتين بنوادر المخطوطات؛ وإنما ضربت المثل بالفن والأدب، وهما ما قد يظن أهل الظنون أن لنا فيهما شيئا نفاخر به بين ما تفاخر به سائر الأمم، ولم أذكر شيئا عن العلوم التي لا أحسب مكابرا يريدنا على ترك ما عند الغرب منها لنتزود بما قاله فيها العرب الأقدمون.

احكموا بيننا أيها المنصفون: هذا كتاب قديم نشره الناشرون، فيه - مثلا - طب قديم أو علم نفس قديم، فكم من الزمن ينبغي أن أخصصه لمثل هذا الكتاب بحيث يكون في دراستي شيء من الاتزان، فلا يطغي قديم على حديث؟ في رأيي أنه كلما أنفقت ألف ساعة فيما يقال عن الموضوع عند الباحثين المعاصرين، يكفي أن أنفق ساعة واحدة في نظرة أنظر بها إلى ما قاله صاحبنا القديم، ويكون ذلك على سبيل اللهو والتسلية الذي لا جد فيه - وإن كان ذلك كذلك فقد كان ينبغي أن يصدر ألف كتاب فيها ثقافة حديثة كلما صدر كتاب واحد قديم - لكن انظر إلى ما تخرجه لنا المطابع هذه الأيام واعجب.

إن كل أنواع العزلة شر على الحياة الخصبة المليئة، إلا إن كانت عزلة مؤقتة فيها استعداد لما بعدها. وشر أنواع العزلة جميعا هي العزلة الفكرية عن سائر العالم، فليس الفكر طاحونة تدور في الهواء ولا تطحن شيئا، إنما الفكر يدور في أبحاث علمية من طبيعة وكيمياء ونبات وحيوان ونفس واجتماع واقتصاد وزراعة وتجارة وحرب، ونظم سياسية ونظم تربوية وغيرها، وفي كل هذه الأمور يكتب المؤلفون من رجال الغرب عشرات الكتب تلو عشراتها، فهل نترك هذه الأكداس الفكرية كلها، لننطوي على أنفسنا في جب مظلم مليء بالتراب، فننفض الغبار عن كتاب قديم فيه - مثلا - أسماء الخيل عند العرب أو ذكر الأعشاب وطرائق تحضيرها والعلاج بها، ونهش ونبش لهذا الكنز الثمين، ونروح نغدق عليه المال على فقرنا، والورق عل ما نحن فيه من مجاعة ورقية، ونشغل به أصحاب التفكير والقراء في آن معا؟ والأمر - كما أسلفت - هو نسبة صحيحة بين الأشياء، فلو أخرجت هذا الكتاب وإلى جانبه ألف كتاب - على أقل تقدير - مما ينقل إلي ثقافة الغرب القائمة اليوم، والتي يسير العالم الآن على هديها، وعلى شرط أن تكون هذه الكتب الألف موضع الجد والدراسة، وأن يكون ذلك الكتاب القديم الواحد بمثابة التحفة التي ننظر إليها نظرة من لا يريد أن ينسى طفولته الدابرة. لو حدث هذا لما كان لنا على نشر القديم ملامة وعتاب.

ماذا يكون مصير الأجيال الجامعية الناشئة حين تتلفت في عالم الكتب العربية لتقرأ، فلا تجد على رفوفها إلا هذه الهياكل العظمية التي أخرجناها من قبورها ولففناها بورق أبيض ناصع، وقلنا هاكم الأزاهر النضرة فاملئوا خياشيمكم بشذاها؟ مصيرهم محتوم، وهو أن يقبلوا عليها بقدر ما في وسع شبابنا الجامعي أن يقبل على قراءة، وما هو إلا أن يظن هؤلاء الشباب أن العلم هو هذا، وأن الدنيا هي هذه التي طالعوها على صحائف تلك الكتب، ولسنا في هذا التقدير بمسرفين، فعلى بعد خطوات منا معاهد تأخذ بمثل هذه الدراسة، فعليكم بها وانظروا ما «العلم» في جوها وبين أبهائها.

وهكذا سيمضي الغرب في طريقه وسنمضي: هو يشتغل بتفتيت الذرة، ونحن نعبث بتشقيق الشعرة، هل هذه اللفظة قالها العرب مفتوحة أو مضمومة؟ وهل هذا الحرف في النص الأصلي فاء أو قاف؟ سيمضي الغرب في طريقه وسنمضي: هو يحاول الصعود إلى ذرى السماء، ونحن نحفر الأجداث لنستخرج منها الرمم.

لست أدعي أنني فريد قومي في هذا الرأي الذي أراه، فهم يعدون بالألوف أولئك الذين يضحكون سخرية من هذا الإسراف في نشر الكتب القديمة؛ ودليل ذلك أنهم يعدون بالألوف أولئك الذين لا يقرءون صفحة واحدة من هذه الكتب لو أهديتهم إياها بغير مقابل من مال، لكن أحدا من هؤلاء لا يجرؤ على الجهر بهذا الرأي خوفا من العامة وأشباههم، إن رأي العامة هو أن للآثار العربية قدسية لا ينبغي أن تدوسها قدم، فإذا كتب كاتب فليتغن بهذا اللحن أو فليصمت.

وهأنذا أبيع سمعتي العلمية بغير ثمن؛ لأن تسعة وتسعين قارئا من كل مائة سيتمتم لنفسه قائلا عني: جاهل لا يعرف قيمة الدر النفيس.

سلم القيم

ليست قيمة الشيء كائنة فيه جزءا منه، كما تكون عقارب هذه الساعة التي أمامي جزءا منها يتصل وينفصل، إنما تنشأ قيمة الشيء عن علاقتنا به، فنحن الذين نجعل للأشياء قيمتها، مهما يكن نوع تلك القيمة، اقتصادية أو خلقية أو جمالية، صادرين في تقويمنا للأشياء عن مصالحنا الذاتية، فما يخدم لنا صالحا كان له من القيمة بمقدار ما يخدم؛ ولذلك ترانا ندرج الأشياء المختلفة التي تشبع فينا حاجة أو غرضا، ندرجها في سلم متفاوت من القيم، حسب تفاوتها في إشباعها لحاجاتنا وتحقيقها لأغراضنا.

لهذا قد تجعل للشيء قيمة في موضع معين أو سياق معلوم، حتى إذا ما تغير موضعه أو اختلف سياقه، فقد قيمته، وكلنا قد قرأ إبان الطفولة قصة المسافر الذي انقطع به الطريق في الصحراء، وقد فرغ منه الزاد وكاد الجوع أن يهلكه، فراح يخبط في سيره يمينا ويسارا حتى وقعت عيناه على صرة ملقاة ظنها طعاما، فأخذته نشوة من الفرح ردت إليه الأمل في الحياة، لكنه فتحها بيد مرتعشة ليجدها مليئة بالدر والجوهر، فألقى بمكنونها «النفيس» في يأس وقنوط؛ إذ لم تكن لذلك الدر والجوهر عندئذ قيمة رغيف واحد من الخبز.

ويصدق هذا الكلام على القيم الأخلاقية والجمالية صدقه على القيمة الاقتصادية، فالفعل فضيلة أو رذيلة حسب ما يقوم به ذلك الفعل في نهاية الأمر بتهيئة أسعد حياة ممكنة لأكبر عدد ممكن من الناس، وليس في الفعل ذاته - كائنا ما كان - شيء يجعله فضيلة أو رذيلة بغض النظر عن الظروف المحيطة به، حتى ليحدثنا علماء الأجناس البشرية بأنه ما من فعل يطوف بخيالك، إلا وجدته هو نفسه فضيلة عند بعض القبائل وفي بعض العصور، ورذيلة عند قبائل أخرى وفي عصور أخرى.

كان الرق فعلا مباحا فيما مضى فأصبح محظورا محرما، كانت الطاعة العمياء لولي الأمر عبادة أيام بناء الهرم الأكبر، فأصبحت عبودية تضع الدساتير لها قيودا وحدودا، كان الثأر واجبا لا مندوحة لأفراد الأسرة أو القبيلة عن أخذه بأيديهم عاجلا أو آجلا، فأصبح علامة على الهمجية التي يقف في وجهها القانون، وهكذا وهكذا مما لا يكاد يحصيه عد من الأفعال والأوضاع.

وحتى حين يحكم فريق من الناس في عصر معين على فعل بأنه خير، فهم لا يقصدون بالخير إلا صورة الفعل كما تبدو حركاتها الجسدية في عين الرائي، بل يقصدون إلى ما يترتب على ذلك الفعل من نتائج جالبة للعيش الرخي السعيد، وإلا فلن تجد فرقا في الصورة الحركية الظاهرة لفعل الشجاعة وفعل الجبن: كلاهما مشي أو جري، الشجاع يمشي نحو عدوه أو يجري، والجبان يمشي مبعدا عن عدوه أو يجري، لكن المشي أو الجري في الحالة الأولى ينتج نتائج نسعى إليها ونرضاها، وهو في الحالة الأخرى يعود علينا بما لا نحبه أو نبتغيه.

كذلك قل في القيمة الجمالية: فالشيء الذي نقول عنه إنه جميل، قد يكون شديد الشبه جدا في صورته الخارجية بالشيء الذي نقول عنه إنه قبيح؛ لأن جمال الجميل وقبح القبيح ليس كائنا في الشيء ذاته، وإنما ينبعث من نظرتنا الذاتية لهذا وذاك، وإلا فما الفرق في الصورة بين ثدي «جميل» على صدر فتاة ناهد، وبين ورم «قبيح» على عنقها؟ وما الفرق بين ماء الشلال الدافق حين تنظر إليه ساعة التنزه، وبينه حين تنظر إليه وطفلك غارق فيه؟ لا فرق إلا ما تحدده أهواؤنا ومصالحنا الشخصية الذاتية.

أهواؤنا ومصالحنا - إذا - هي التي تملي ما النفيس وما الخسيس في تقدير القيمة الاقتصادية، وهي التي تملي ما الفضيلة وما الرذيلة في تقدير القيمة الخلقية، ثم هي كذلك التي تقرر ما الجميل وما القبيح في تقدير القيمة الجمالية - هذا رأي من الوضوح بحيث تعجب أشد العجب كيف وقع الخلاف في أمره بين رجال الفكر ونقدة الفنون، فمن هؤلاء فريق يزعم أن فضيلة الفعل الفاضل، وجمال الشيء الجميل، كائن في الفعل نفسه أو الشيء نفسه، كما يكون التربيع في الشيء المربع والتدوير في الشيء المستدير، وتترتب على ذلك بالطبع نتيجة من أخطر النتائج، وهي ما كان فضيلة عند آبائنا وأجدادنا ينبغي أن يظل كذلك بالنسبة لنا وإلى أبد الآبدين.

تعجب أشد العجب أن تجد هذا الفريق من رجال الفكر وأصحاب النقد الفني، ينظر هذه النظرة الموضوعية في القيم، وإذا طالبت أحدهم أن يحلل لك الشيء موضوع الحكم إلى عناصره ليريك عنصرا من بينها اسمه «فضيلة» أو عنصرا اسمه «جمال»، فلا يجيبك إلا بنظرة ازدراء؛ لأنك تكون في رأيه «ماديا» ممقوتا ذميما، وأما هو «فروحاني» لا يريد أن يرى الفضيلة بعينيه ويلمسها بيديه، أو أن يرى الجمال ويلمسه عنصرا مستقلا قائما بذاته على النحو الذي يرى أو يلمس قطعة من النحاس أو الحديد، هو «روحاني» يكفيه أن يقول إن الفعل الفاضل فضيلته جزء منه، وإن الشيء الجميل جماله جزء منه، ولا بأس عنده في أن تكون هذه «الأجزاء» من أفاعيل السحر، نحكم بوجودها لكننا لا ندركها بحاسة من حواس «الماديين» الأجلاف الغلاظ.

ليقولوا في ذلك ما شاءت لهم مثاليتهم، وأما نحن فرأينا في قيم الأشياء والأفعال هو كما أسلفنا: فالأفعال والأشياء في ذاتها محايدة، ونحن الذين تضطرنا ظروف العيش أن نفضل فعلا على فعل، حين نرى أن الفعل المفضل أضمن الفعلين طريقا إلى الحياة السعيدة القوية لأكبر عدد من أفراد المجتمع، أو من أفراد الإنسانية قاطبة إن شئت.

فإذا تغيرت ظروف العيش، تغير في إثرها - أو وجب أن يتغير - سلم القيم، فما كان في أعيننا ذا قيمة قد يصبح ولا قيمة له؛ لأنه لم يعد هو وسيلة احتفاظنا بوجودنا - وإذا تغيرت ظروف الحياة ولم يتغير في إثرها سلم القيم، كان الأرجح أن يظهر مصلح عظيم ينادي بالثورة أو الانقلاب، وما الثورة أو الانقلاب عندئذ إلا تحوير في تقويم الناس للأشياء بحيث يجيء التقويم متناسبا مع ما تقتضيه الظروف القائمة.

إنه من سوء حظ الإنسان في تاريخه، أن ظروف حياته المادية تتغير بخطى أسرع جدا مما تتطور به طريقته في تقدير قيم الأشياء والأفعال والأوضاع، فتظل طريقة التقدير متلكئة حتى تصبح كالثوب الضيق الممزق، ويصبح خلعه ضرورة محتومة، يراها صاحب النظر السليم وإن عارضه فيها سواد الناس، فإن استطاع هذا أن يغير من وجهة نظر الناس حتى يدركوا ما أدركه، كان هو المصلح الاجتماعي العظيم.

وأعتقد أننا في مثل هذا الموقف الآن: فظروف اجتماعية واقتصادية تغيرت واشتد بها التغير، وسلم للقيم باق على حاله، وإذا فالثورة الحقيقية التي نريدها، هي أن نقلب هذا السلم قلبا تتغير معه أوضاع درجاته بنسبة بعضها لبعض، وعندئذ نجد أن درجات سفلى ستعلو، ودرجات عليا ستسفل.

كنا أمة زراعية رعوية، نشتغل بالزراعة اليدوية فنتخلق بأخلاقها، وإلى جانب ذلك ورثنا أخلاق الرعاة البدو عن آبائنا العرب، فكان لنا من هذا المزيج الزراعي الرعوي أساس تقويمنا لكل شيء، لكن الزراعة والرعي قد مستهما عجلات الآلات الصناعية، وللصناعة أخلاق غير أخلاق الزراعة والرعي، فلا بد لنا من ثوب جديد ليلائم الجو الجديد. •••

لم يعد بد في الحياة الجديدة من رفع قيمة العلم الطبيعي وخفض قيمة الوسائل الكلامية؛ لأن آلات المصانع لا يديرها الشعر المقفى ولا النثر المسجوع، فإن كانت الإبل في حياة البدو الرحل بحاجة إلى حداء الشاعر لتقطع الفلاة على حلو النغم، فإن القطار لا يستمع إلى غناء ولكنه يريد قضبانا من حديد، والطائرة لا غنى لها عن محركات من الصلب الصليب، كان آباؤنا العرب يتنافسون في عكاظ كل عام ليروا أيهم أشعر من أخيه ليتقرر بذلك أي القبائل أعلى منزلة وأعز جانبا، لكن ميدان التنافس اليوم كائن بين مخابير المعامل وأنابيبها وغازاتها وعناصرها؛ لأن الغلبة للسابق في إعداد الآلة، ولم تعد الغلبة كما كانت للشاعر المجيد وعشيرته.

نفتح كيس البريد الوارد إلى «الثقافة»

1

فإذا نسبة الوارد هي عشر قصائد من الشعر مقابل مقالة واحدة، وبين المقالات النثرية نفسها تجد نسبة البحوث الأدبية إلى البحوث العلمية عشرة إلى واحد أيضا. أعني أن في كل مائة ممن يهتمون بالكتابة تسعين شاعرا وتسعة من الأدباء الناثرين وعالما واحدا، وربما تطيب هذه النسبة الثقافية في قبيلة بدوية أو في قرية زراعية تجر المحراث بالأيدي، فتعمل ساعة وتستريح خمس ساعات تستمع خلالها لما ينشده الشعراء من شعر، لكن العالم قد تغير، وقيم الأشياء ينبغي كذلك أن تتغير تبعا له.

ولا يزال لواء الحكم معقودا عندنا - في أغلب الأحيان - للخطيب البليغ في تنميق اللفظ، القدير في رفع الصوت وخفضه، لا للعالم الإحصائي في شئون الدنيا الجارية من حرب واقتصاد، وحتى الكاتب الذي يكتب للناس في الصحف، تراه أميل إلى صب أسلوبه في قالب الخطابة الذي يؤثر في النفوس الساذجة، أكثر منه إلى مراعاة الدقة والأمانة في رصد الحقائق.

ولم يعد بد في الحياة الجديدة من رفع قيمة العامل بيديه وخفض قيمة المفكر النظري الذي يشطح بفكره في السماء ويأبى النزول إلى الأرض مع أبناء آدم وبناته، فالكفاءة العملية لا «شهادة الكفاءة» النظرية هي مقياس التقدير، ومضى العهد وانقضى الذي كان فيه التفكير النظري المجرد من القدرة على التطبيق من علامات التهذيب والسيادة.

ولم يعد بد في الحياة الجديدة من تغيير النظر إلى المرأة تغييرا كاملا شاملا، ولست أقصر حقها على ما تطالب به من فتح الأبواب أمامها على مصاريعها لتعمل إلى جانب الرجل وتنافسه، بل أزيد على ذلك نقطة أخرى أغفلها المطالبون للمرأة بحقوقها، وأراها جوهرية في تكامل شخصيتها تكاملا يلائم روح العصر الجديد النشيط العامل، وتلك أن المرأة مسئولة عن نفسها، وليس المسئول أخا لها أو والدا كما كانت الحال أيام القبيلة، حين كانت المرأة وعاء يستولده الرجل ما شاء لنفسه من بنين وبنات.

عفة المرأة في الحياة البدائية هي الشغل الشاغل، وهي محور الأخلاق كلها، فإن سلمت كانت الأخلاق بخير، مهما يكن بعد ذلك بين الناس من تقتيل وسرقة ونهب ورشوة وفساد؛ وذلك لأن الغريزة الجنسية عندهم هي الهدف الوحيد الذي يحيون من أجله، وها نحن أولاء نسمع كل يوم صراخا ينبعث من هنا وهناك خوفا من «المدنية الغربية» لأنها تهدم الأخلاق! و«الأخلاق» عند الصارخين المستغيثين هي عفة المرأة ولا شيء غير ذلك، ظنا منهم أن المرأة عندنا أعف منها عندهم، أما أن يكون من الأخلاق ألا تسرق أموال الدولة وأنت قيم عليها، وألا ترفع أنصارك وأصهارك على حساب أصحاب الحق، وألا تجبن عن التصريح برأيك حين تشعر بأنه الحق، وألا تسكت على ظلم تراه، وألا تسطو على العاجزين في طعامهم، حين تستبيح لنفسك أكثر مما ينبغي لك، فيتبقى للعاجزين أقل مما ينبغي لهم ... إلى آخر هذه القائمة الطويلة العريضة من «الأخلاق» بمعناها الصحيح، فليس ذلك كله عندهم بشيء مذكور ما دام «الحريم» مصونا في الخدور.

لكن لم يعد بد من إعادة النظر في سلم القيم، لنعيد الموازنة السليمة بين درجاته، فنضيف إلى هذا «الخلق» الواحد الذي صببنا عليه كل اهتمامنا، عددا كبيرا جدا من «الأخلاق» الأخرى التي ليس من اكتسابها بد.

ولم يعد بد في الحياة الجديدة أن تكون الفردية هي أساس كل تفكير سياسي واجتماعي، فليس زيد زيدا لأنه عضو في أسرة كذا أو قبيلة كذا، بل إن زيدا زيد لأنه زيد، على أن زيدا وعمرا وخالدا كلهم سواء في المادة الإنسانية وإن تفاوتت بينهم ألوان العمل وأقدار المال، فإذا تكلمنا عن جماعة بلغة الحياة القديمة قلنا هذه قبيلة كذا التي يرأسها فلان، أما إذا تكلمنا عن تلك الجماعة بلغة الحياة الراهنة وجب أن نقول: هذه جماعة قوامها فلان وفلان وفلان.

وبعد، فربما أكون قد أخطأت في التطبيق هنا أو هناك، أما المبدأ الذي أردت أن أقرره - وهو أننا في أشد الحاجة إلى تغيير نسبة القيم بعضها إلى بعض؛ ليكون لنا بذلك سلم جديد نهتدي به - فلست أحسب أنني قد أخطأت في تقريره.

نموذج المتمدن

يقول «لتن ستريتشي» - الأديب الإنجليزي الحديث - عن نفسه هذه العبارة: «أنا المدنية التي تحاربون من أجلها.»

وقفت عند هذه العبارة متفكرا متدبرا، فكان أول ما استوقف نظري منها، هو أنها تطبيق جيد لمبدأ فكري آخذ به، وأحاضر فيه، وأدعو إليه طلابي كلما سنحت لذلك فرصة مناسبة، وهو مبدأ غاية في البساطة والوضوح، لكنه بعيد النتائج عميق الأثر، وهو كفيل لصاحبه أن يهديه سواء السبيل في كثير مما يشغل الناس من خلاف واختلاف.

وخلاصة هذا المبدأ، هي أن كل كلمة من كلمات اللغة، تكون صوتا فارغا من المدلول، إلا إذا كانت تدل على أفراد جزئية مما يمكن أن يشار إليه، أو يقع لحاسة من الحواس المعروفة، فلفظة «كتاب» - مثلا - دالة على معنى؛ لأنني أستطيع أن أشير لك إلى فرد أو أفراد من الأشياء التي أضمها جميعا في حزمة واحدة، وأطلق عليها كلمة «كتاب»، أما لفظة مثل «عدم» فهي بغير معنى، ولا فرق بين أن تكتبها أو أن تخط مكانها خطوطا مهوشة كالتي يخطها الأطفال الصغار على الورق؛ هي علامة مرقومة على الورق - أو موجة صوتية إن كانت منطوقة - لا دلالة لها بين الأشياء، فليس هنالك الشيء المفرد الذي يمكنك أن تشير إليه قائلا: «هذا عدم»، إنك لا تستطيع أن تشتري من السوق «عدما» تأكله أو تشربه، ولا أن تطلب إلى الخياط أن يخيط لك «عدما» تتقي به برد الشتاء، وقل مثل ذلك أيضا في لفظة مثل «وجود» فمهما بحثت في عالم الأشياء، فلن تقع بينها على شيء اسمه «وجود»، إنك ستقع على نهر وشجرة، وبناء وكتاب، ومقعد وسيارة، ونملة وطائر، وكلها «موجودات»، لكنك لن تجد بين الأشياء شيئا قائما بذاته اسمه «وجود ».

ولقد ضربت لك المثل بكلمتين الله أعلم كم ملأتا من صحائف وكم شغلتا من عقول، فما أكثر ما كتب أو قيل في «الوجود والعدم»! مع أنهما لفظتان فارغتان جوفاوان ليس وراءهما شيء، فالأمر كله غير ذي موضوع كما اعتاد الناس أن يقولوا اليوم.

كذلك ضربت المثل بهاتين الكلمتين؛ لأن أستاذنا العقاد، حيث تفضل مشكورا بنقد كتابي «المنطق الوضعي» قال في سياق الحديث: «إن الإنسان يستطيع أن يجزم بحقيقة لا صورة لها في الخارج على الإطلاق؛ لأنه يستطيع أن يقول: «إن العدم مستحيل»، ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شيء يسمى العدم أو شيء يسمى المستحيل.» ونحن نرد على أستاذنا في هذا بقولنا: إن أمثال هذه العبارات ليس مما يجوز قوله ولا تقريره؛ لأن كلماتها فارغة من الدلالة، ولنتصور مثلا عالما من علماء الكيمياء أو الطبيعة أو ما شئت من علوم، وقف أمام مجمع علمي يقرر لزملائه «أن العدم مستحيل»، وزملاؤه ممن يسارعون إلى المعامل والأنابيب، وممن يطالبون بإقامة التجارب، فأي تجربة يستطيع القائل أن يثبت بها لزملائه مثل هذا الادعاء؟ ماذا يضع في الأنابيب وماذا يلاحظ ليقبل الدعوى أو يرفضها؟ ... فإن كانت العبارة ليست مما يقوله العلماء، فمن إذا يجوز له قولها وهو آمن مطمئن؟ أولئك الذين لا يريدون أن يسألوا عن معنى ما يقولون، فضلا عن أن يسألوا عن إثبات صدقه - هذه الألفاظ وأمثالها قد اكتسبت «معانيها» من كثرة تكرارها، كررنا النطق بها، وتكرر سمعها، حتى توهمنا أنها كلمات «مشروعة»، والحقيقة أنها أصوات أو علامات زائفة لا بد من حذفها.

لكن ذلك استطراد قد طال، فلعله يلقي لنا ضوءا على الكلمة التي نحن الآن بصدد الحديث فيها، وهي كلمة «المدنية» - فهي الأخرى من الكلمات التي يقوم فيها الجدل ويعنف ويشتد، فتراهم يسألونك: هل نأخذ بالمدنية الغربية أو لا نأخذ؟ وإذا أخذنا بها، فإلى أي حد وبأي مقدار؟ أوليس الأصلح لنا أن نتمسك بمدنيتنا الشرقية؟ ومنشأ الإشكال كله لفظة غامضة لم يحددوا معناها، «فالمدنية» - كأي كلمة أخرى - لا يكون لها معنى إلا إذا وجدنا في عالم الأشياء أشياء بذواتها، نشير إليها بأصابعنا قائلين: هذا وهذا وذلك «مدنية»، وأنا أؤكد للقارئ أنه لو أمسك بقلمه ومذكراته، وخرج إلى الشوارع، وتنقل بين المدن والقرى ليسجل قائمة بالأشياء التي يعدها مدنية، لانحسم كل خلاف، لأنه لن يجد ما يسجله في قوائمه إلا ما يثبت له أن مدنية العالم الحاضر في صميمها واحدة لا تعدد فيها، وما عداها قواقع من جهل وخرافة خلفها جزر الأيام على شاطئ الحياة.

ولست أدري إن كان «لتن ستريتشي» حين قال عن نفسه: «أنا المدنية التي تحاربون من أجلها» قد قصد إلى شيء من هذا التحليل الذي أسلفته لك، أي أنه قصد إلى أن الكلمة لا تكون ذات مدلول ومعنى إلا بمفردات مسمياتها، وأنه لذلك أشار إلى نفسه على أنه هو الفرد الجزئي الذي يحدد معنى كلمة «مدنية» ومدلولها، حين رأى أن في شخصه قد تجمعت عناصر، هي التي نريدها باستخدامنا لهذه الكلمة - أقول إني لا أدري إن كان «ستريتشي» قد قصد إلى شيء من هذا، لكنه على كل حال هو ما نطالب به إذا أردنا أن تكون الكلمة ذات مدلول ومعنى. •••

وهنا ننتقل إلى الجانب الهام من موضوعنا، وهو: ماذا عسى أن تكون العناصر التي إذا ما اجتمعت في شخص، استحق أن يوصف بالتمدن؟

أول ما نذكره في الإجابة عن هذا السؤال هو أن هذه العناصر متغيرة مع تغير الزمن، فلكل عصر «مدنيته» التي قد تعد همجية في عصر آخر، «فالمتمدن» في العصور الوسطى الأوروبية - مثلا - هو المسيحي المتبتل المنقطع لصلاته وعبادته في الصومعة أو الدير، فلما جاءت النهضة تغيرت عناصر «التمدن» وأصبح «المتمدن» رجلا آخر غير راهب العصور الوسطى.

وإنه لمما يقال في هذه المناسبة، أن «سير فلب سدني» (1554-1586م) كان عند الإنجليز إبان نهضتهم نموذجا للرجل المتمدن بمقياس ذلك العصر، فقد كان شاعرا وناقدا وعالما وجنديا محاربا ورجلا من رجال السياسة، فكان يصور بهذه العناصر في شخصه ما كان يصبو إليه الناس من مثل أعلى في الرجل الواحد؛ لأنهم لم يعودوا عندئذ يرون المدنية - كما كان يراها أسلافهم الأقربون - في المسيحي المتبتل الزاهد، بل أصبح مثلهم المنشود فنانا ينتج الفن أو يقدره، أو عالما يدرس ظواهر الطبيعة، أو مغامرا يركب الصعاب، أو رجلا يستمتع بلذات الحياة، فإن اجتمعت هذه الصفات لرجل واحد، فكان مشغوفا بالفن، محبا للعلم، مقاتلا باسلا، مغامرا يمعن في ألوان الرياضة والصيد، عاشقا توافرت فيه شروط الحب كما يعرفه عشاق زمنه؛ كان ذلك الرجل صورة للمثل الأعلى. وقد جاهد الأدباء في عصر النهضة أن يصوروا ذلك المثل الأعلى، ورأى الناس أن هذه الصفات قد تجسدت وتجمعت في «سير فلب سدني» فجعلوه نموذجا يحتذى في عصره.

وإننا لنضل سواء السبيل، إذا ما جاهدنا بدورنا في تصوير نموذج «للمتمدن» في عصرنا، فالتمسناه في أبطال الماضي؛ فهؤلاء الأبطال أبطال في عصورهم، بمقاييس أهل زمانهم، وإني لأجني على الشباب الذين يعيشون اليوم جناية كبرى، إذا رحت أزخرف لهم حياة الزهد والعصر يريد المتعة بالدنيا والفرحة بالحياة، وأجني عليهم جناية كبرى إذا رحت أزخرف لهم حياة التأمل النظري والعصر يريد الصناعة والنشاط والعمل. إنني يستحيل أن أجد للشباب نموذجا من بين أبطال الماضي بكل عناصره، فذلك يكون بمثابة أن ندعوهم إلى العيش في غير عصرهم، والتمدن بغير مدنيتهم.

ونعود من جديد فنسأل: ماذا عسى أن تكون العناصر التي إذا اجتمعت في شخص استحق أن يوصف بالتمدن؟

سأحاول الجواب موجزا في غير إطناب وتفصيل، ومعترفا منذ الآن أنه جواب أسوقه على سبيل «الرأي» لا على سبيل الحصر والتوكيد؛ إذ الموضوع أخطر وأعمق من أن يفصل في أمره بمقال يكتب في ساعة ليملأ بضع صفحات في كتاب.

وسأحاول الجواب على هذا النحو الموجز، مهتديا بالتقسيم الثلاثي الذي اشتهر في علم النفس التقليدي، حتى أصبح عمودا من أعمدة هذا العلم، لا يثور عليه الثائرون إلا ليؤكدوه، وهو أن كل حالة من سلسلة الحالات الشعورية التي تتألف منها حياة الإنسان الواعية، يمكن تحليلها إلى جوانب ثلاثة: إدراك ووجدان ونزوع، فأنت في كل موقف من مواقف حياتك الشعورية الواعية، تدرك شيئا ما أو فكرة معينة، ثم تحس إزاءها وجدانا معينا، ثم تتصرف بناء على ذلك حسب تربيتك وتدريبك على الرد على المواقف المختلفة بألوان معينة من السلوك (وقد يكون الامتناع عن السلوك في موقف ما، ضربا من التصرف).

ولا شك أنك قد رأيت كلمات «الحق والخير والجمال» متجاورة في كثير جدا من المواضع، كلما أراد الكاتبون أن يعبروا بعبارة موجزة عن أحلام الإنسانية وأمانيها، فهذه الكلمات الثلاث تستطيع أن تجعلها تعبيرا آخر للجوانب الثلاثة نفسها التي ذكرناها: «فالحق» هو ما ننشده في حالات الإدراك، و«الجمال» هو ما نبتغيه في حالات الوجدان، و«الخير» هو ما نقصد إليه في جانب السلوك. (1)

وأهم ما يميز الإدراك عند «المتمدن» في عصرنا هذا، هو التقيد بالواقع، وإدراك الواقع كما هو يتطلب القضاء على الخرافة بكل ما يتصل بها من لواحق وأتباع، وللتخريف مظهران أساسيان في طريقة تعليلنا للحوادث والظواهر، الأول أن نعلل حدوث الأشياء المحسوسة بأشياء غير محسوسة، والثاني أن نعلل شيئا محسوسا بآخر محسوس، لكنه لا يرتبط معه ارتباطا يدل عليه طول الملاحظة ودقة التجربة، فلو قلت مثلا إن المرض في جسم المريض سببه شيطان حال في الجسم، أو إن السماء ترعد وتبرق لأنها غاضبة، فأنت مخرف من النوع الأول، ولو قلت إن السفر يوم الأحد مشئوم، ونعيق الغراب نذير بالموت، فأنت مخرف من النوع الثاني - وفي كلتا الحالتين أنت خارج بإدراكك للأشياء على منهج «المتمدن» في هذا العصر الذي أبرز ما فيه هو العلم وما يؤدي إليه وما ينتج عنه.

حتى الآداب والفنون قد أصبح معيارها هو الواقع، ولا أقصد بذلك أن الأديب أو الفنان يقف حيال الظاهرة المعينة موقف العالم الذي يحللها ويصفها بالمقاييس والأرقام، بل أريد أن أقول إن الآداب والفنون في ميدانها - ميدان التعبير عن النفس وما يدور فيها من مشاعر - أصبحت تنزع بقوة نحو إثبات الواقع بغير حياء ولا خجل، فما قد كان يستحيي منه أسلافنا لا يتحتم أن يكون عندنا نحن كذلك موضع استحياء؛ ومن ثم نرى اليوم أدباء لا يتورعون عن تصوير مجرى شعورهم كما هو، فيكون بين ذلك رغباتهم الجنسية وانحرافاتهم الإجرامية وما إلى ذلك، ونرى اليوم مصورين لا يجلسون أمام الشيء يصورونه كما يبدو، بل يصورونه كما يختلط بأفكارهم في لحظة التصوير، فإذا جلست مثلا إلى طائر تصوره، وأثناء ذلك دق جرس شغل بؤرة شعورك، وجب أن تدخل هذه الصورة الطارئة على نحو ما؛ لأنها جزء منك في اللحظة التي أردت تصوير نفسك فيها، ومن هنا كان كثير مما نعده «خلطا» في التصوير الحديث، وهكذا. (2)

وأهم ما يميز الجانب الوجداني من «المتمدن» في عصرنا الحديث، هو التأثر بما ينتجه رجال الأدب والفن المحدثون، فأنت متخلف عن عصرك ومدنيته إذا لم تأخذ بنصيب - قليل أو كثير - في تقدير ما ينتجه هؤلاء الرجال من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وتمثيل ورقص وغناء، مهما يكن عملك وموضوع اختصاصك، فقد تكون طبيبا أو مهندسا أو رجلا من رجال الأعمال، لكنك لكي تكون إلى جانب ذلك «متمدنا» فلا بد من إضافة عنصر آخر، هو التمتع بنتاج الفنون.

أقول: إنه لا بد من أخذك بنصيب في تقدير هذه الأشياء كلها، ولا أحتم عليك أن تحب كل ما تراه منها أو تسمعه، فلك أن تحب أو أن تكره، على شرط أن يكون حبك وكرهك قائمين على معيار هذا العصر نفسه؛ لأن الآداب والفنون كلها تعبير عن روح العصر، ويستحيل أن تتشرب روح العصر وتتمرد في الوقت نفسه على كل آدابه وفنونه.

لقد رأيت أناسا هم في مكان القيادة من طليعة «المثقفين» عندنا، لا يعرفون الألف والباء في أمهات الإنتاج الأدبي في العالم المتحضر الحديث، ولم يشهدوا في حياتهم معرضا للتصوير أو النحت، وحتى لو شهدوا ذلك لما كان لهم فيه رأي ولا فهم، فاذكر - مثلا - اسم «بيكاسو» في جماعة من «المثقفين» عندنا، وانظر كم يعلمون عنه وكيف يقولون القول فيه. وأكرر القول بأنني لا أحتم على كل إنسان أن يحب فن «بيكاسو »، فكثيرون من الأوروبيين لا يحبونه، لكنهم لكي يحبوه أو يكرهوه، لا بد لهم أولا أن يمسوه ويعرفوه، ولا أقول شيئا عن الغناء والرقص؛ فتلك عندنا فنون «حرام» ليس لأصحاب الوقار أن يأخذوا منها بنصيب كبير أو صغير! (3)

وأهم ما يميز السلوك عند المتمدن الحديث هو مقدرته على ضبط زمام نفسه؛ فليس من اليسير عليك أن تثير فيه الغضب الذي يطير بصوابه، وهو لا يغلو في مظاهر الفرح ولا مظاهر الحزن. فأنت «متمدن» بمقدار ما يتصرف «الإنسان العاقل» فيك، لا ما يتصرف «الحيوان» منك. والحيوان منك هو الغرائز تنطلق كما هي بغير ضبط ولا تعديل، وأعجب العجب أننا نفخر بسرعة انفعالنا وشدة هيجان شعورنا، ونصف الأوروبي المتمدن في هذه الناحية «بالبرود» لأنه لا ينفعل ولا يهيج!

كذلك من أميز ما يميز سلوك المتمدن الحديث طريقته في ملء فراغه، فهو متخلف عن عصره إذا قضى فراغه نائما أو جالسا؛ لأن للفراغ في المدنية الحديثة ألوانا من النشاط كثيرة معروفة، ليس منها النوم والقعود، فهي لعب وارتحال وتغيير لمجرى الحياة المألوفة على نحو ما، بالقدر الذي تسمح به قدرة الناس المالية، على تفاوتها، ويستحيل أن يبلغ الفقر بإنسان حدا يمنعه من المشي وطلوع الجبل!

إن في خاطري الآن اسما أو اسمين لرجال أراهم بيننا أقرب الناس تمثيلا للمدنية الحديثة في نزعتها العلمية وفي استمتاعها بألوان الفن، وفي ضبط النفس عند السلوك، وفي ألوان النشاط عند الفراغ من العمل، لكني أمسك عن ذكر الأسماء، وأكتفي بوضع القواعد، وللقارئ أن يطبقها على نفسه وعلى من حوله كيف شاء.

الحس المشترك

كثيرا ما تدل اللفظة من ألفاظ اللغة على طور من أطوار التاريخ الفكري، اجتازه أصحاب تلك اللغة فيما مضى، أو لا يزالون في مرحلة اجتيازه الآن إذا كانت اللفظة ما تزال قائمة بدلالتها تلك، فمثلا لفظتا «رحم» و«رحمة» في اللغة العربية، وما بينهما من تشابه، تدلان على أن الرحمة في طور من أطوار التاريخ الفكري لأصحاب هذه اللغة، كانت مقصورة على ذوي الرحم، وذلك أيام أن كانت القوانين الأخلاقية ملزمة للفرد إزاء بني أسرته أو قبيلته، وغير ملزمة له بالنسبة إلى أفراد القبائل الأخرى، ولفظتا «نفس» و«نفس» تدلان أيضا بما بينهما من تشابه على طور من أطوار التاريخ الفكري لأصحاب هذه اللغة، كانت العقيدة فيه سائدة بأن النفس في الكائن الحي إن هي إلا الأنفاس التي يدخلها أو يخرجها شهيقا وزفيرا، والعلاقة بنفسها قائمة بين لفظتي «روح» و«ريح». وهكذا تستطيع أن تستشف كثيرا من المذاهب الفكرية لأمة من الأمم من خلال دراستك لألفاظها على هذا النحو.

ومن هذا القبيل لفظة

Sense

في اللغة الإنجليزية، فلهذه اللفظة عند أصحاب هذه اللغة حتى اليوم معنيان، فهي قد تعني «الحس» بإحدى الحواس (كالبصر والسمع واللمس)، وهي قد تعني كذلك «العقل» أو «المعنى العقلي» فتراهم يصفون لك الشخص، أو العبارة، بهذه الكلمة ومشتقاتها؛ ليدلوا بذلك على أن الشخص ذو عقل حصيف أو خلو منه، وأن العبارة ذات معنى يسيغه العقل أو خلو منه.

ولهذا الازدواج في معنى كلمة

Sense

في اللغة الإنجليزية دلالة قوية في تاريخهم الفكري؛ لأن أبرز طابع يميز الفلسفة الإنجليزية منذ نشأت إلى يومنا الراهن، هو اعتبارها الحواس مصدر المعرفة، فليس «العقل» عند كثير من فلاسفتهم إلا ما قد أدركته «الحواس» أو ما تستطيع أن تدركه، فالإنجليز في تفكيرهم - حتى الفلسفي منه - أميل الشعوب إلى التزام الأمر الواقع الذي تبصره الأعين وتسمعه الآذان، «فالحس» وحده وما قد يقع له من مدركات هو كل المعرفة التي يعتد بها ويستند إليها، وكل تفكير لا يجد له ركيزة بين المحسوسات، فهو حلم أو كالحلم الذي لا يغني ولا يسمن.

لا عجب إذا أن نرى المعنيين قد التقيا عندهم في لفظة واحدة ومشتقاتها، فإذا وصفوا العبارة أو الفكرة بأنها

nonsence

كان المراد أنها عبارة أو فكرة بغير مدلول، أو إن شئت فقل إنها عبارة أو فكرة لا اعتماد فيها على ما تدركه الحواس؛ لأن لهذه الكلمة معنيين، فهي تعني «لا معنى» وهي كذلك تعني «لا حس» - أي ليس هنالك من المدركات الحسية ما يجعل للعبارة معنى.

ولهم في هذا الباب عبارة ينفردون بها؛ لأنها تدل على صفة تميزهم من سائر الشعوب، وهي عبارة

Common sense ، ومعناها الحرفي هو - في رأيي - أدق ترجمة لها، وهو «الحس المشترك» أو قل «الفهم المشترك» ما دام «الحس» و«الفهم» عندهم شيئا واحدا؛ لأن ما لا يحس لا يفهم، وما يفهم لا بد أن يحس، و«الحس المشترك» أو «الفهم المشترك» هو ما يشترك الناس - كلهم أو معظمهم - في إدراكه على نحو معين، لا يختلف باختلاف الأفراد.

وبديهي أنه كلما ازداد أفراد الشعب الواحد اتفاقا في ثقافتهم، ازدادوا قربا من الحس المشترك؛ فهم يتفقون في أحكامهم على الأشياء بمقدار اتفاقهم في الثقافة واتحادهم في وجهة النظر، والظاهر أن الإنجليز في هذا الاتحاد في وجهة النظر إلى الأشياء والحكم عليها، قد بلغوا مبلغا قصرت من دونه سائر الشعوب، ومن ثم كان تفردهم بعبارة

Common sense

حتى لقد نقلتها بقية الشعوب عنهم إما بنصها أو بأقرب ترجمة لها. •••

وإذا حللت المواقف التي يستخدم فيها «الحس المشترك» للحكم على سلوك الناس بالصواب أو بالخطأ، وجدتها المواقف التي يهتدي فيها الإنسان إلى الحكم الصحيح دون أن يكون على وعي بالمقدمات المنطقية التي يستند إليها في حكمه ذاك، فكأنما هو حكم صائب بالفطرة السليمة، ولا يحتاج إلى سند من أدلة وشواهد؛ ترى الإنجليزي يحكم على هذا السلوك أو ذلك بأنه صواب، أو بأنه خطأ، فإذا سألته: كيف عرفت ذلك؟ أجابك بقوله: «بالحس المشترك»، ثم لا يزيد على ذلك شيئا.

ليس «الحس المشترك» هو سبيل الحكم على العادات والتقاليد، بل الحكم هنا للعادات والتقاليد نفسها، فإذا لبست سيدة السواد لوفاة زوجها أو ابنها، ثم سئلت: لماذا تفعل ذلك؟ كان جوابها: «هي العادة الجارية، أو هو التقليد السائد، في إظهار الشعور بالحزن»، وإذا فليس هذا مجال الحس المشترك.

كذلك ليس «الحس المشترك» هو سبيل الحكم على المسائل العلمية، فالعالم الطبيعي - مثلا - لا يحكم «بحسه المشترك» على الوزن النوعي للذهب أو مقدار الضغط الجوي على جبال الهملايا ، والعالم الرياضي لا يحكم «بحسه المشترك» على مساحة الدائرة والجذر التربيعي للعدد 3؛ هذه المسائل العلمية يرجع فيها إلى التجربة إن كان العلم من العلوم الطبيعية، وإلى التحليل إن كان من العلوم الرياضية، والحكم في كلتا الحالتين مستند إلى مقدمات معروفة مذكورة، حتى إذا ما سئل العالم الطبيعي: كيف عرفت أن الضغط الجوي على جبال الهملايا هو كذا، أظهر التجارب التي قام بها هو أو غيره من العلماء لإثبات ذلك، وإذا ما سئل العالم الرياضي: كيف عرفت مساحة الدائرة، بين الخطوات التي سار فيها تحليله حتى انتهى إلى ما انتهى إليه من نتائج. لكن حين يكون الحكم مستندا إلى «الحس المشترك» فلا يكون صاحب الحكم على استعداد لإبراز مقدماته التي استند إليها، وكل ما في وسعه أن يجيب به إذا ما سئل: كيف عرفت ذلك؟ أن يقول: «بالحس المشترك»؛ فمثلا إذا سألت: لماذا ينبغي أن تخضع الأقلية لحكم الأكثرية؟ لم تجد لذلك جوابا عند علم من علوم الطبيعة أو الكيمياء، وإنما حكمه عند «الحس المشترك».

وذلك نفسه هو ما يجعل لأحكام «الحس المشترك» أهمية كبرى في حياة الناس الاجتماعية؛ لأنه - لسوء الحظ - لم يبلغ الإنسان في فهم نفسه فهما علميا إلا شوطا قصيرا؛ ولذلك ترى أحكامه على أنواع سلوكه بالصواب أو بالخطأ كثيرا ما تعوزها الدقة العلمية، فلا بد له من الركون إلى فطرته يحكم بها حكما سريعا نافذا حتى تسير عجلة الحياة، وإن عجلة الحياة لتزداد في سيرها سهولة ويسرا كلما ازداد الناس قدرة على أحكام «الحس المشترك» في شتى المواقف، بحيث لا يحدث بين الأفراد من الاختلاف والتصادم إلا حده الأدنى. •••

وتستطيع بعد هذا التحليل أن تعلم لماذا تقع على معركة ناشبة بين الأفراد هنا في مصر كلما خطوت خطوة، مع أنك قد تعيش الأعوام في بلد كإنجلترا ولا تصادفك معركة واحدة؟ تركب الترام هنا فيندر جدا ألا تسمع اشتجارا بين الكمساري وراكب أو أكثر من راكب واحد، وتسير في الطريق العام فيندر جدا ألا تشهد اختلافا في الرأي بين الشرطي والباعة، أو بين بائع وشار، بل تدخل البيوت فيندر جدا ألا ترى ما يهولك من اتساع هوة الخلاف بين الزوج وزوجته، وبين الوالد وأبنائه أو بين المخدوم وخادمه. الخلاف بين أفراد الشعب هنا يستوقف النظر بحدته وشدته واتساع نطاقه: هو بين الرئيس ومرءوسيه، وبين صاحب الأرض أو العقار ومستأجريه، وبين العمدة وأهل القرية، وبين رب الأسرة وأفرادها، وبين المدرس وتلاميذه، وفي كل مجال يتصل فيه الأفراد بعضهم ببعض في شأن من شئون الاجتماع.

أقول: إنك تستطيع في ضوء التحليل الذي قدمناه «للحس المشترك» أن تجيب لنفسك عن سؤالك: لماذا يقع كل هذا الخلاف بين أفراد المجتمع الواحد؟ فالجواب الصحيح هنا هو: لأنهم أفراد بغير حس مشترك! إنهم لا يحكمون على الموقف الواحد حكما واحدا، فقد شهدت - مثلا - بالأمس جنديا من جنود الجيش يركب سيارة عامة أجر الركوب فيها ثلاثة قروش، ولما كان للجندي حق الركوب بنصف أجر، فقد كان عليه أن يدفع قرشا ونصف قرش، لكنه أبى إلا أن يدفع ما يدفعه في السيارات الأخرى، وكان خلاف، وكان وقوف للسيارة، وكان غضب أخذ نطاقه يتسع حتى شمل الراكبين جميعا، وما أظن أن موقفا كهذا يجوز أن يقع في بلد بين أبنائه «حس مشترك» أو «فهم مشترك» للأمور. العلة كلها هي أننا نحكم بأحكام مختلفة على الموقف الواحد، ومن ثم يقع بيننا ما يقع من ألوان التنافر التي أشرت إليها؛ التنافر في البيت والطريق العام والديوان وعربات الترام والمتاجر وغيرها.

ليست الروابط بين الأفراد واستقرارها أمرا تافها يسيرا؛ لأنها هي عصب الحياة. إنك تعيش - راضيا أو كارها - على صلات بغيرك، تعيش متصلا بأبنائك وإخوتك وجيرانك، وتعيش متصلا برئيسك أو مرءوسك، وبالتاجر الذي تعامله، وبالشرطي في الطريق، وهكذا. فإن كان لك في كل صلة من صلاتك تلك سبب للشقاء فانظر كيف تكون حياتك في مجموعها! وإنك لتعجب أن يكون بيننا هذا الاختلاف كله وهذا الشقاء كله، ولا يكاد يقوم منا باحث واحدي يبحث «العلاقات الإنسانية» بحثا علميا، في الوقت الذي تسير فيه الصلات الاجتماعية في بلد كإنجلترا على درجة من التفاهم يحسد الإنجليز عليها بغير شك، ومع ذلك لا يزال يقوم من مؤلفيهم من يتناول «الروابط بين الناس» بالبحث المفصل، وإني لأذكر في هذا الصدد كتابين يحضرانني الآن، ولا بد أن يكون هناك سواهما مما لم أقع عليه: أحدهما كتاب بعنوان «العلاقات بين الناس» لكاتبهم «لاندو»، والآخر كتاب لكاتب أمريكي هو «ستيوارت تشيس» وعنوانه «علم الروابط بين الناس».

وقد يسأل سائل: ولماذا انعدم «الحس المشترك» بيننا؟ وأجيب جوابا سريعا بأن ذلك يرجع أول ما يرجع إلى التباين الثقافي الواسع المدى، الذي تراه منعكسا في تباين الأزياء وتباين المساكن والمآكل والمشارب. إنك تسير في البلد الأوروبي فيستوقف نظرك التشابه في المساكن حتى لكأن كل إنسان يسكن بيتا لا يكاد يختلف في باب أو نافذة عن بيت زميله، وحتى لتظن أن لا موضع بينهم لاختلاف الفقر والغنى، وتأكل في بيت الأسرة المتواضعة وفي بيت الأسرة الغنية فيدهشك التشابه الشديد بين ألوان الطعام هنا وهناك وطريقة الأكل، حتى لتظن أن القوم كلهم من طبقة واحدة، تخرجوا كلهم في معهد واحد.

أما نحن ...!

الفكرة الواضحة

«ستيوارت تشيس» كاتب معاصر ومصلح وفيلسوف، يروي لنا عن نفسه قصة تستوقف النظر، لها دلالة بعيدة المدى، خلاصتها أنه قد بدأ حياته العاملة مصلحا اجتماعيا متحمسا، لكنه ما لبث أن وجد وسائل الإصلاح «بالكلام» لا تجدي فتيلا، فأخذه العجب: لماذا لا يتأثر الناس بما يقوله وما يكتبه، مع أنه واضح صادق؟ وسرعان ما وجد لنفسه الجواب، وهو أن الأفكار التي يظنها هو، ويظنها معه الناس واضحة، ليست كذلك، فلا بد له - إن أراد إصلاحا حقيقيا - أن يبدأ بأبحاث تحليلية يوضح بها الألفاظ التي يكثر دورانها على الألسن، حينما يتحدث الناس عن إصلاح حالهم. فاسمع إليه يقول: «لما كنت في سن الشباب، أحاول الإصلاح، أخذت أنظم الاجتماعات، وأكتب النشرات، وألقي المحاضرات، وأرسم الخطط، وأنشر الدعاية على نطاق واسع في حماسة حارة، لكن رجائي قد خاب، حين نظرت فوجدت أن الناس ما زالوا على حالهم، لم يتحولوا قيد أنملة عما كانوا عليه حين بدأت حملتي، وكلما مضت بي الأعوام، ازددت يقينا، بأنني فيما كنت أبذل فيه جهدي، إنما كنت أضيع وقتي سدى، فرسالتي - التي لا أزال أعتقد أنها رسالة رحمة وإنسانية - لم تبلغ القلوب؛ إذ الطريق بيني وبين من أخاطبهم مغلق مسدود.»

وصادف هذا الذي قرأته عن «ستيوارت تشيس» هوى في نفسي؛ لأنني في أعوامي الأخيرة، قد تنبهت في شدة وحماسة، إلى أن غموض الأفكار عند الناس هو أس البلاء، فالرءوس ملأى بالأشباح بسبب ما فيها من أفكار غامضة، والتعصب لهذه العقيدة أو تلك قد أنزل بالناس الكوارث، بسبب أفكارنا الغامضة، وحدة الغضب التي تأخذنا عند اختلافنا في الرأي، سببها الأفكار الغامضة، ومجهودات المصلحين تذهب صيحة في واد بسبب الأفكار الغامضة، ولو وضحت الأفكار، لاختفت الأشباح من الرءوس «المسكونة»، وزال التعصب للرأي والعقيدة تعصبا أعمى، وخف الغضب وهدأ الانفعال حين يختلف الناس في وجهة النظر، ووجدت أقوال المصلحين أرضا خصبة صالحة للنماء والإثمار.

فما هي الفكرة الواضحة؟

أول ما أسارع إلى إثباته في الإجابة عن هذا السؤال، هو أننا كثيرا ما ننخدع بالإلف والعادة، فنألف كلمة معينة ونعتاد قولها وسماعها، حتى ليخيل إلينا أنها فكرة واضحة، مع أنها قد لا تكون من الوضوح في شيء، ولا تزيد على كونها «صوتا» مألوفا لأسماعنا، وإني لأحسب أن ديكارت نفسه - وهو على رأس من نادوا في التاريخ الحديث بالتزام التفكير الواضح - قد أخطأ هذا الخطأ الذي أشرت إليه، وهو أن يظن الكلمة المألوفة فكرة واضحة، بدليل أنه قد جعل عبارته المشهورة «أنا أفكر» مقياسا للفكرة الواضحة، يصح أن تتخذ مقياسا لما ينبغي أن يكون عليه الوضوح في غيرها من العبارات، أي أن الفكرة التي تبلغ عنده من درجة الوضوح ما بلغته هذه الفكرة، تؤخذ على أنها هي الأخرى واضحة.

مع أن عبارته هذه تحتوي على كلمتين: كلمة «أنا» وكلمة «أفكر» هما أبعد ما تكون الكلمات عن الوضوح ، ومن ذا الذي يستطيع حتى اليوم أن يقول إنه قطع برأي يقيني جازم في حدود الشخصية الإنسانية وعناصرها التي نجمعها جميعا تحت كلمة «أنا»، أو يقول إن «التفكير» قد عرف معناه على وجه التحديد الذي لا إبهام فيه ولا غموض؟ - كلا، إنما خدع ديكارت بالإلف والعادة، فما دامت كلمة «أنا» مألوفة، وما دامت كلمة «تفكير» معهودة مكرورة، فهما - في ظنه - واضحتان، والعبارة التي تتألف منهما واضحة لا تحتاج إلى مزيد من بيان.

ولدي من التعليق على معنى الوضوح عند ديكارت كلام طويل عريض، لا أجد هنا مكانا لذكره؛ لأنني لا أحب أن أدخل القارئ في مناقشة فلسفية قد لا يكون به ميل إليها، وكل ما أردته هو التحذير من هذا الخطأ الذي سرعان ما يزل فيه الإنسان، حين يظن أن الفكرة واضحة، ما دامت الكلمة المعبرة عنها مألوفة للأسماع.

إذا فمتى تكون الفكرة واضحة؟

الفكرة الواضحة هي التي يمكن تحويلها إلى عمل، فكل فكرة لا تدلك بذاتها على ما يمكن عمله، بحيث يكون هذا العمل هو معناها الذي لا معنى لها سواه، تكون «صوتا» فارغا، مهما قالت لنا القواميس عنها. الفكرة الواضحة هي ما يمكن ترجمته إلى سلوك، وما لا يمكن ترجمته على هذا النحو لا ينبغي أن نقول عنه إنه فكرة غامضة وكفى، بل ليس هو بالفكرة على الإطلاق، وليس هنالك في الدنيا شيء اسمه «فكرة نظرية» لا شأن لها بالعمل والتطبيق؛ إذ الفكرة النظرية هي الخطة التي يمكن تنفيذها، وما لا سبيل إلى تنفيذه عملا وسلوكا، ليس من الفكر في شيء؛ ولذلك لا فرق بين الفكر النظري والفكر العملي إلا في الترتيب الزمني، فما هو الآن فكرة عملية كان منذ حين فكرة نظرية، وما هو اليوم فكرة نظرية يمكن أن يصبح غدا فكرة عملية ... «النظر» من جهة و«العمل» من جهة أخرى، طرفان لشيء واحد - هو الفكرة - ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء، فنحن نقول عنها اصطلاحا إنها «فكرة» حين نشير إلى طرفها الداخلي، ونقول عنها إنها «عمل» حين نشير إلى طرفها الخارجي.

وفيما يلي أمثلة توضح ما نريد: «الصلابة»:

في الجسم فكرة واضحة إذا كنت أعرف ماذا أعمل في الجسم لأتبين فيه ما أسميه بالصلابة، كأن أحاول خدشه بأجسام أخرى كثيرة، فلا ينخدش، فأقول عندئذ إنه «صلب» وأعد نفسي قد فهمت فكرة «الصلابة» فهما «واضحا» لأني عرفت ما نوع السلوك الذي أسلكه حين أريد ترجمة الفكرة إلى عمل، أما إذا وصفت شيئا بأنه «جميل» فلست أعرف ماذا أعمل بحيث يكون عملي هذا هو ما أسميه في الشيء بالجمال، وإذا فالفكرة غامضة، أو قل إن «الجمال» ليس فكرة على الإطلاق، وكل مناقشة في جمال الشيء أو عدم جماله عبث لا يؤدي إلى طائل، فإذا رأيت الفلاسفة على خلاف لا ينقضي في تحديد معنى «الجمال»، فاعلم أن ذلك لا يرجع إلى «صعوبة» في الفكرة، بل يرجع إلى أن أصحابنا يحاولون أن يقبضوا الريح، إذ هم يناقشون في غير موضوع.

و«الثقل»:

في جسم من الأجسام فكرة واضحة؛ لأني أعرف ماذا أعمل في الجسم لأتبين فيه ما أسميه ثقلا، وهو أن أزيل الحوائل التي تمنع سقوطه على الأرض، فإن سقط كان «ثقيلا»، وكانت فكرة «الثقل» واضحة لأنها قد انتقلت إلى عمل منظور، أما إذا قلت عن شيء ما إن له حقيقة وراء ظواهره المحسوسة، كأن أقول مثلا إن الكهرباء شيء كامن وراء آثارها الظاهرة، كان قولي هذا هراء، بمعنى أنه ليس «فكرا» على الإطلاق، دع عنك أن يكون فكرا واضحا؛ ذلك لأني لا أعرف ماذا أعمل بحيث أتبين في الشيء حقيقته الخفية المزعومة.

الفكرة الواضحة مشروع لعمل يمكن أداؤه إذا شئنا، ولا شيء غير ذلك، حتى الأفكار الرياضية مشروعات لأعمال يمكن أداؤها: لقد طلبت إلى خادمتي يوما أن تشتري لبنا بثلاثة قروش ونصف قرش، وأعطيتها لذلك ورقة ذات عشرة قروش، فلما أردت حسابها، قلت لها: لقد اشتريت اللبن بثلاثة قروش ونصف قرش، وكنت مدينا لك بقرشين، فهاتي أربعة قروش ونصف قرش، فبدا عليها الاضطراب، فقلت: ضعي ها هنا ما تبقى لديك من القروش العشرة، فوضعت على المنضدة ستة قروش ونصف قرش، قلت لها خذي منها قرشين كنت مدينا لك بهما، ففعلت وانتهى الإشكال. كانت العملية الحسابية غامضة في ذهنها أول الأمر؛ لأنها لم تكن بعد قد تحددت على صورة سلوكية يمكن إجراؤها عملا، وكانت العملية «واضحة» في ذهني لأني كنت أعرف كيف أترجمها إلى عمل.

ولئن كان بين الناس خلاف شديد في المذاهب السياسية والاجتماعية، فما ذاك إلا لأن الألفاظ الشائعة في هذا المجال لم تتبلور أفكارا واضحة بعد، أعني أن الأفكار المتداولة لا يعرف لها طريقة معينة محددة للتنفيذ، إننا نفهم كلمة «جمهورية» فهما واضحا إذا عرفنا ماذا نصنع في المجتمع بحيث يجيء ما نصنعه شيئا هو الذي نسميه بهذا الاسم، لكن ألفاظا مثل «ديمقراطية» و«حرية» و«شيوعية» و«اشتراكية» تعبر عن أفكار غامضة، ومن هنا كان الخلاف، بل كان القتال؛ لأن الديمقراطية - مثلا - لا تكون فكرة واضحة إلا إذا عرفنا ماذا نعمل، وعلى أي وضع نقيم الناس والحكومة، وبأي صورة تجري الصناعة والزراعة والتجارة، حين يكون هنالك ما نسميه بالديمقراطية، وما دامت الفكرة غير محددة في طريقة تنفيذها، فليست هي بالفكرة الواضحة، وقل ذلك في سائر أخواتها.

لكن قائلا قد يقول: إنك قد اخترت لأمثلتك أفكارا بسيطة مما يمكن أن يحقق رأيك في الوضوح، لكن هناك أفكارا «عميقة» يستحيل أن ينطبق عليها هذا المقياس، والحق أني ما كتبت هذا المقال إلا لأمحو كثيرا جدا من هذه الأفكار «العميقة» محوا. أيها القارئ الكريم: لا يخدعنك هؤلاء «المتعمقون» لأنهم لا يفهمون لما يقولونه معنى، ثم يجاوزون بشرهم حدود أنفسهم فيدفعونك في خلط يفسد عليك حياتك الفكرية والعملية على السواء، إنهم يريدونك أن تكتفي من دنياك بالكلام، ولقد شبعنا كلاما حتى التخمة، ونريد العمل، نريد العمل، نريد العمل.

فمثلا يقول لنا هؤلاء «المتعمقون» في تفكيرهم: كونوا يا أهل الشرق «روحانيين»، وتسألهم عن معنى «الروحانية» التي يقصدون فلا تدري بماذا يجيبون، فإنني - كما قلت يوما في كلمة ألقيتها - «لا أرى بين ضلالاتنا ضلالة أشد تضليلا من هذا الذي يكثر ترديده على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين» - وهو أننا شعوب روحانية بالقياس إلى الغرب المادي. يقولون لنا ذلك وكأنما يريدوننا أن نفكر ونعمل ونربي أبناءنا على هذا الأساس. ولست أتمنى شيئا بمقدار ما أتمنى أن يتفضل علي فاضل من هؤلاء فيوضح لي ماذا يريدوننا أن نفعل وكيف يريدوننا أن نفكر؛ لأني حاولت جهدي أن أرى كيف تأكل الشعوب الروحانية وكيف تشرب، كيف ترصف الطرق وتبنى الجسور، كيف تقاوم أمراضها وتجري صناعتها وتجارتها، كيف تحارب أعداءها، بل كيف تلهو في ساعات الفراغ، حاولت جهدي أن أفهم كيف تتم هذه الأشياء عند الشعوب الروحانية كي تجيء مخالفة لما يصنعه الماديون في الغرب، فلم أفهم.» - فإذا كانت الفكرة «الروحانية» كما ترى، يستحيل ترجمتها إلى سلوك، إذا فليست هي بالفكرة على الإطلاق، بل هي لفظة فارغة يجب حذفها حتى لا تفسد علينا الحياة. إننا في صراع مع ما يسمونه غربا ولن نظفر من صراعنا بنصر إذا كانت عدتنا كلاما لا يتحول إلى عمل.

وأحسب أن القارئ الذي اعترضني منذ حين، سيعود إلى اعتراضي قائلا: لكنها تعد بالمئات، تلك الألفاظ التي نقولها دون أن يكون في مضمون معناها عمل ممكن الحدوث، ومنها ألفاظ عزيزة جدا على نفوسنا، نحبها ونرددها في الصباح وفي المساء ... فأجيبه مطمئنا واثقا: إنها لغو لن تتقدم به الإنسانية فترا ولا شبرا، إننا نعيش ونحيا بالأفكار القليلة الواضحة، أي أننا نعيش ونحيا بالأفكار التي يمكن أن تتحول عملا وسلوكا، فأما تلك التي لا تغير من دنيانا شيئا فشر يجب أن نتقيه.

إننا نريد العمل، نريد العمل، نريد العمل.

جناية الألفاظ

أرأيت بوارج البحر ودبابات الأرض ومقاتلات السماء التي تنفث اللهب؟ أرأيت هذه المدمرات كلها بما فيها من قوة الفتك والتخريب؟ إذا فاعلم يا سيدي أنها جميعا لا تكون شيئا مذكورا إذا قيست في ذلك إلى كلمة واهنة ضعيفة من هاتيك الكلمات التي تخرجها أفواهنا في موجة صوتية قصيرة ضئيلة، أو نجريها على الورق بقطرة من مداد ، لو تجمعت على سن القلم لأوشكت عين الرائي ألا ترى شيئا.

من هذه الموجة الصوتية القصيرة الضئيلة، أو هذه القطرة المجهرية من مداد قد تنطلق شياطين البوارج والدبابات والمقاتلات وغيرها من وسائل التقتيل والتدمير، فمنها قد تفور الدماء في العروق ويطير عن الرءوس صوابها فإذا الجماعات البشرية قطعان من كائنات تدفعها الغريزة كما يندفع سيل الماء من أعلى الجبل مدفوعا بقوة الجذب دون أن يكون له في مسلكه اختيار؛ ألا إن هذه الألفاظ التي نكتبها أو ننطق بها، لقماقم حبست في أحشائها الأبالسة والشياطين.

وقصة الألفاظ في هذا الصدد مأساة محزنة حقا، فهذه الألفاظ قد خلقها الإنسان خلقا، وحسب أن قيادها بين يديه ورهينة لسانه، فإذا بالألفاظ على مر الزمن يتطور أمرها وتصبح كالمردة الجبابرة، تمسك بزمام الإنسان راكبة فوق ظهره، فتنحرف به يمنة أو يسرة كما يشاء لها عماها الذي لا يبصر سواء الطريق!

وكنت أود أن أسير مع القارئ في فصول هذه المأساة المحزنة سطرا بعد سطر، ليرى هول الجناية التي تقترفها في حق الإنسان تلك المخلوقات التي ظاهرها وهن وضعف وباطنها طغيان وجبروت، لكن هذه المأساة البشرية الكبرى أعقد جدا وأطول جدا مما يستطيع الكاتب أو القارئ أن يقطع شوطه في مقالة واحدة أو بضع مقالات، فلا مندوحة لنا - إذا - عن القناعة بالخطوط الرئيسية نرسمها أمام أبصارنا، لعلنا مستطيعون أن نترسم الصورة كلها بلمحات الخيال.

وأول ما نذكره في هذا السبيل، أن الكثرة الغالبة من ألفاظ اللغة التي نستخدمها للتفاهم، هي في الحقيقة رموز بغير مدلول ولا معنى! وإذا كان الأمر كذلك، فنستطيع أن نتصور كلمة كلمة (تقريبا) مما ينطق به الناس علامة نصبت في عرض الصحراء وكتبت عليها إشارة تدل على ماء قريب، والحقيقة أن ليس هنالك في القريب أو في البعيد إلا سراب!

ولنضرب لك مثلا لما نريده: كلمة «إنسان»، إن العالم فيه أفراد، ولكل فرد اسمه الخاص، فهذا زيد وذلك عمرو أو خالد، فإذا ناديت قائلا: «تعال يا زيد» جاءك رجل بعينه، وكذلك إذا ناديت يا عمرو أو يا خالد، ولما كنت مضطرا في كثير جدا من الأحيان أن أتحدث عن هؤلاء الأفراد جميعا دفعة واحدة، ولما كان ذكر أسمائهم جميعا يتطلب من الوقت والجهد ما لا طاقة لي به، فقد اخترعت كلمة «إنسان» اختراعا؛ لكي تدل على هؤلاء الأفراد جميعا دون أن تكون هي نفسها اسما لفرد منهم، فإذا ناديت: تعال يا إنسان! ما جاءك أحد لأنه ليس هنالك مسمى لهذا الاسم المخترع.

فأول فصول المأساة إذا، هو أن كل لفظة نستخدمها في كلامنا (ما عدا الألفاظ التي سمينا بها أفرادا جزئية معروفة) هي رمز ابتكرناه لسهولة التفاهم وسرعته، لكنه رمز لا يدل على شيء، أعني أنه رمز لا يشير إلى شيء قط في عالم الأشياء. ليس الاسم أو الكلمة هو الشيء المسمى، احفظ هذا المبدأ جيدا وانظر بعد ذلك إلى المصائب الكبرى التي تنزل على رءوس الناس من جراء نسيانهم لهذا المبدأ الواضح البين.

فإذا أردت فهما للأمور من خلال ما يقال لك من عبارات وألفاظ، فلا سبيل إلى ذلك إلا أن تدرب نفسك على النظر من خلال الألفاظ إلى الأفراد والأشياء الجزئية التي وراءها، فإذا قلت لك مثلا: الشعب المصري جاهل، فقير، مريض، فقد يخيل إليك للوهلة السريعة الأولى أنك فهمت المراد، لكنك في أغلب ظني لم تفهم شيئا، واعذرني في هذا الاتهام؛ لأنني أحكم بما قد جرى عليه الناس من طريقة الفهم لما يكتب أو يقال.

فليس «الشعب المصري» إلا علامة سوداء أمامك على الورق، فإذا وقفت عند هذا الحد من الرؤية، فأنت لم تفهم شيئا على سبيل اليقين، لكنك تأخذ في الفهم حين تقف أمام هذه العلامة السوداء لتتخذها منظارا لا أكثر ولا أقل، هي منظار ترى خلاله عشرين مليونا من الأنفس رجالا ونساء وأطفالا، حاول أن توقف هؤلاء العشرين مليونا أمام مخيلتك صفا طويلا يمتد - مثلا - من منبع النيل إلى مصبه، ثم حاول أن تنقل بصرك في هذا الصف الطويل من هذا الرجل (زيد) إلى هذه المرأة (هند ) إلى ذلك الغلام (خالد) ... هؤلاء جميعا يا سيدي ناس، لكل منهم مشاعر وخواطر من قبيل مشاعرك وخواطرك، وإذا عض الجوع واحدا منهم فهنالك فرد يتألم، وإذا خاب رجاء واحد منهم، فهنالك فرد يتحسر ويحزن، ليس «الشعب المصري» بذي دلالة إلا إذا أدركت إدراكا واضحا أن الكلمة في ذاتها ليس لها معنى، وإنما المعنى المراد هو الحزمة الضخمة من الأفراد الأحياء الذي أسمينا كل فرد منهم باسمه الخاص، ويا ليتنا نستطيع - كلما أردنا أن نتحدث عن الشعب المصري - أن نكتب قائمة طويلة بالأسماء كلها، فذلك أقرب إلى الفهم الصحيح لما نريد.

فإذا قلت بعد ذلك عن هذا الصف الطويل من أفراد البشر، إنه «جاهل» فقد تحسب مرة أخرى أنك قد فهمت المراد، لكنك هنا أيضا في أغلب الظن قد اكتفيت بالنظر إلى علامة سوداء خطت أمامك على الورق، ولكي تفهم المعنى المراد على حقيقته، انظر خلال هذا المنظار إلى أمثلة الجهل القائمة فعلا، عد إلى الصف الطويل من أبناء آدم الذي بلغ عشرين مليونا، عد إلى ذلك الصف الطويل وانظر إلى الأفراد واحدا بعد واحد، فستجد لكل فرد مواقف وأقوالا، وستعلم أن كثيرا جدا من تلك المواقف، وهذه الأقوال، لا يصور دنيا الواقع في شيء، وعندئذ فقط سيتبين لك كم نسبة الجهل في الفرد الواحد، وكم نسبته في المجموعة كلها، وما أنواعه البشعة الفظيعة. سيتبين لك يا سيدي أن معظم «المتعلمين» جهلاء؛ لأنهم في سلوكهم وفي أقوالهم وفي عقائدهم يسيرون في واد والدنيا بأسرها تسير في واد آخر، سيتبين لك يا سيدي كم من أفراد هذا الصف البشري يعيش في أوهامه، وعندئذ فقط ستعلم في شيء من الوضوح قولك عن «الشعب المصري» إنه «جاهل».

وهكذا قل في طريقه فهمك لكلمة «فقير» وفي كلمة «مريض»، نشدتك الله ألا تكتفي بالنظر إلى هاتين اللفظتين الصغيرتين في حيزهما الضئيل على الورق، ثم توهم نفسك أنك قد فهمت المراد. لا يا سيدي، اخرج إلى الطريق وسافر إلى الريف وانظر إلى «الفقراء» فقيرا فقيرا، فكلمة «فقير » لا معنى لها بعيدا عن هؤلاء «الأفراد الفقراء» الذين يطلق على كل منهم اسم خاص به، فهذا «زيد» وذلك «إبراهيم» وتلك «فاطمة»، ثم اخرج إلى الطريق وسافر إلى الريف. أستغفر الله، إنما أردت أن أقول تسلل إلى الجحور البشرية التي تملأ الأرض عن يمينك وشمالك؛ لكي ترى «المرضى» مريضا مريضا، فليس لكلمة «المرض» معنى إذا لم يكن معناها هؤلاء الأفراد المرضى الذين يطلق على كل منهم اسم خاص به في شهادة ميلاده!

أرأيت إذا كم تستغرق من الزمن وكم تنفق من المجهود لتفهم عبارة واحدة قصيرة، مثل «الشعب المصري جاهل فقير مريض»؟

لكنها جناية الألفاظ علينا، هي التي تخيل إلينا أننا بالنظر إلى الكلمة مكتوبة أو مسموعة قد فهمناها! وأصل الجريمة هو كما أسلفت لك، الظن بأن الكلمة هي نفسها الشيء المسمى، لكن احفظ جيدا هذا المبدأ الواضح البين، وهو: ليس الاسم هو المسمى، ليست اللفظة هي الشيء ... الأسماء والألفاظ مناظير ينبغي أن ننظر خلالها إلى الأفراد الذين نتحسس بأيدينا فنلمسهم، وننظر بأبصارنا فنراهم ... •••

وذلك فصل واحد من فصول المأساة، وأما فصلها الثاني فهو تلك الكلمات المجرمة التي تثير مشاعرنا فنأتي الكبائر، مع أنها في ذاتها، ليست بذات معنى! انظر إلى هذه الأمثلة من الكلمات المجرمات:

إنسانية، دولة، ديمقراطية، حرية، أمة، دستور، مدنية ... إلى آخر أفراد «العصابة» إن كان لهذه العصبة الآثمة من آخر.

فما كان أهون على رجل واحد أن يقوم فينادي بألوف الألوف من فتي الشباب ليقذف بهم في جهنم الحرب إرضاء لشهواته هو؛ لأنه يريد أن يقود ويسيطر، ما كان أهون على ذلك الرجل أن يقذف بألوف الألوف من الشباب الفتي القوي باسم «الدولة» - مثلا - أو باسم «الديمقراطية» أو بما شئت من هذه الطلاسم السحرية!

وها هنا نريد لك أيها القارئ أن تحفظ مبدأ آخر حفظا جيدا، وهو أن مدلول الكلمة هو الأشياء الجزئية المحسوسة التي تشير إليها، فإذا قيل لنا «الدولة» وأردنا أن نفهم فيجب أن نسأل بدورنا: أين هي؟ لا بد أن أضع يدي عليها لألمسها، وأن أفتح عيني وأميل بأذني لأراها وأسمعها، وعندئذ سترى أن الدولة مجموعة من أفراد، وليس في ذلك بأس، لكن البأس كل البأس في أن تتوهم أنها كائن إلهي غيبي لا حق لنا في نقده ومناقشته الحساب.

وقد يقول القائلون: لكن هنالك من الألفاظ ما لا سبيل إلى الرجوع به إلى أشياء تلمس بالأيدي وترى بالأعين وتسمع بالآذان، وإلا فماذا تريد أن تلمس في معرفتك لمعنى كلمة «الديمقراطية» مثلا؟ والجواب على ذلك هو أننا بين أمرين لا ثالث لهما: فإما أنه من الممكن أن نعثر في عالم الأشياء الواقعة المحسوسة المرئية على ما نسميه بهذا الاسم وأمثاله، ولو بعد جهد وحصر انتباه ودراسة؛ فيكون لهذا الاسم وأمثاله معنى، وإما أن يكون ذلك مستحيلا فلا تكون الكلمة عندئذ ذات معنى على الإطلاق، وتكون جريمة كبرى أن نستخدمها في إثارة المشاعر، وما تستتبعه من تقتيل وتخريب وفتك ودمار.

حرام عليكم أيها الناس أن تحرصوا على «ألفاظ» حتى إن كان الثمن ألوف الألوف من الشباب الفتي الحالم الآمل، فهاتيك الألفاظ موجات صوتية ضئيلة، أو هي قطرات من مداد سكبناها على الورق في صورة معينة، أما هؤلاء الشباب فأفراد أحياء في أجوافهم قلوب ورئات ودماء وأعصاب! •••

لا عجب والله إن كانت للألفاظ قوة السحر عند الشعوب البدائية الأولى، فهذه اللفظة تشفي من الحمى، وتلك اللفظة تهزم العدو في القتال، إلى آخر ما كان سائدا بين تلك الشعوب من أحلام وأوهام.

اعلم أفادك الله أن اللفظة من ألفاظ اللغة إذا لم تدلك على مسمى تراه بعينيك فهي لفظة فارغة، هي موجة صوتية كأي اهتزاز آخر يهتز به الهواء، أو هي نبش على الورق كأي نبش يحدثه الطفل اللاهي، فاسأل - إذا أردت الفهم والتفاهم - عن الشيء أو الأشياء التي يراد للفظة المستعملة في الحديث أن تشير إليها، فإذا وجدتها فالخلاف بينك وبين خصمك لن يطول، وإلا فسيظل الخلاف في الرأي قائما إلى يوم الدين.

فما أكثر ما يطول النقاش بين فريقين حول كلمة، كالحرية مثلا أو كالديمقراطية أو الدولة أو الأمة، وتكون علة الخلاف بينهما هي أن كلا منهما يقصد بالكلمة إلى معنى غير المعنى الذي يقصد بها إليه زميله، فإذا جعلنا دستورنا في الفهم والتفاهم هو تحديد المسميات أولا؛ المسميات التي نراها بالأعين ونحسها بالأيدي، انحصر مجال الخلاف وقصر أمده كما هي الحال بين رجال العلوم مثلا.

والكارثة الحقيقية في أمثال هذا الخلاف الذي قد يؤدي إلى حرب وسفك دماء، أن يقوم الخلاف على لفظة فارغة زائفة إن بحثنا لها عن مدلول في عالم الأشياء لم نجد شيئا.

راجع التاريخ في ضوء هذا الكلام، وانظر كم أودت الألفاظ الزائفة بأنفس البشر هباء! فكلمة «جهاد» وحدها مسئولة عن سفك أنهر من الدماء لا يعلم إلا الله مداها، ولسنا بطبيعة الحال ننكر استعمال هذه الكلمات وأمثالها، لكن الذي ندعو إليه هو أن يكون المتكلم والسامع على بينة مما تشير إليه كل كلمة من تفصيلات في عالم الأشياء الواقعة. قل للشباب بملء فيك: جاهدوا في سبيل الحرية، على شرط أن تكون أنت، وأن يكون الشباب على علم تام بالتفصيلات التي نطلق على مجموعتها كلمة «جهاد»، وبالتفصيلات التي نطلق على مجموعتها كلمة «حرية»، فعلينا منذ الآن بالتفرقة الدقيقة بين الألفاظ الحقيقية والألفاظ الزائفة كلما أردنا الجد في الكلام والكتابة، وليسمح لي القارئ أن أعيد هنا ما قلته في كتابي المنطق الوضعي في هذا الصدد، لعله يفيد: «الفرق بين اللفظة الحقيقية واللفظة الزائفة هو أن الأولى وراءها «رصيد» من المسميات الجزئية، وأما الأخرى فليس وراءها شيء يشار بها إليه، فما أقرب الشبه بينهما وبين الورقة النقدية الحقيقية بالقياس إلى الورقة النقدية الزائفة! فهاتان قد تكونان في الصورة الظاهرة متساويتين، لكن الأولى حقيقية لأن هنالك «رصيدا» من الذهب أو ما إليه يجعل لها قيمة «فعلية»، وأما الورقة الزائفة فليس وراءها مثل ذلك «الرصيد»؛ ولذا فهي لا تشير إلى شيء وراءها من محفوظات «البنك» مما يجعل لها قيمة حقيقية. «إن الكلمة لا ينفي عنها الزيف طول أمد استعمالها في التفاهم بين الناس ، فإذا مضينا في تشبيهنا الألفاظ الزائفة بالنقد الزائف، قلنا إن اللفظة الزائفة التي طال أمد استعمالها بين الناس حتى ظنوا أن لها معنى، شبيهة بظرف مقفل ليس بداخله شيء، لكنه دار بين الناس مدة طويلة على زعم وهمي، وهو أن فيه ورقة من أوراق النقد، فظلت له هذه القيمة في التعامل، حتى تشكك في أمره متشكك، وفتحه ليستوثق أن له قيمته المزعومة، فلم يجد شيئا، بل وجده فارغا ولا «قيمة» له.»

وهكذا قف إزاء الكلمات التي تراها مكتوبة أو تسمعها منطوقة، وانظر في عالم الأشياء المحسوسة باحثا عن «رصيدها» فإن وجدتها كانت الكلمة ذات معنى وصالحة للتفاهم، وإلا فهي فارغة زائفة، بل هي مجرمة آثمة.

مهمة الكاتب

اللهم إني كفرت بالأقلام تكتب بالمداد، فمن لنا بعشرة آلاف قلم تنفث من أسنانها الحمم، لعلها تلسع الجلود فتوقظ الرقود من سباتهم العميق، وتحفز الوقوف إلى الحركة والسير، وتستحث السائرين ليسرعوا الخطى، عسى أن ندرك الركب، فقد بعدت المسافة جدا بين الرأس والذنب.

كفرت بالأقلام تكتب بالمداد؛ لأن الكتاب عندنا قد ظلوا يكتبون ويكتبون، ولم يزل الناس على حالهم غرقى في أوهاهم، فمهما وجهنا اللوم إلى كبار كتابنا على ممالأتهم الناس في كثير مما كتبوه، حين جعلوا يمجدون لهم أمجادهم ويترنمون لهم بالأنغام التي تصادف هوى في نفوسهم، فلا بد لنا إلى جانب اللوم أن نعترف لهم بالفضل في محاولتهم تغيير كثير من القيم السائدة، التي أصبح قيامها محالا بين شعب أراد أن يتحضر، فمنذ ثلث قرن أو يزيد، أخذ كبار كتابنا ينقلون إلينا معايير جديدة للأخلاق ونظم الحكم والتربية، ويعلموننا مقاييس جديدة نقيس بها الآداب والفنون، ويلفتون أنظارنا إلى القواعد الصحيحة التي ينبغي أن نحكم بها على الأشياء في هذا العصر الحديث. كتبوا وكتبوا، وما يزال الناس على حالهم فيما أرى، حدث تغير طفيف في القشرة، أما اللباب فهو هو كما كان منذ قرون.

كنت أتحدث إلى أستاذنا العقاد منذ حين، فقلت له في سياق الحديث: إننا لا نتطور ولا نتغير، كأنما قوانين التطور الاجتماعي التي تسري على سائر البشر لا تنطبق علينا، فقال باسما: بل قل إن شئت إن القوانين الطبيعية نفسها توشك في أرضنا ألا تفعل فعلها ... وهو بذلك يعني أن ما تتوقعه في أي بلد من بلاد الأرض قد لا يقع لك في هذه البلاد، فربما وضعت وعاء الماء على النار متوقعا للماء أن يغلي، فإذا به ينجمد ثلجا، وبعبارة أعم، إن المقدمات عندنا قلما تنتج نتائجها، والنتائج قلما تتفرع عن مقدماتها الصحيحة، انظر - مثلا - إلى الخطة التي وضعناها منذ ربع قرن لمحو الأمية، حسبنا الحساب وقلنا سنفعل كذا وكذا، وستنمحي الأمية بعد كذا من السنين، وتمضي السنون، وتسأل كيف الحال؟ فلا تجد من يعرف كيف يجيب؛ ليس لك أن تعجب لحدوث شيء في أي زمان وأي مكان؛ لأن العجب إنما يكون لشذوذ يحدث وسط انتظام واطراد فيستوقف النظر ويستثير العجب، أما إن كان الأصل في الأشياء هو أن لا نظام ولا اطراد، فلا عجب ولا تعجب، إلا إذا شاء الله لجزء من الحوادث في ركن من البلاد أن يسير مؤقتا على سياق منتظم من قانون معلوم! ليس في ذلك مبالغة أو إسراف، فالذي يلفت أنظارنا اليوم هو أن نجد رجلا قد اؤتمن على عمل للشعب أو مال للدولة فأنجز العمل أمينا، أو أدى المال كاملا.

ولعل كبار كتابنا قد أدركوا أنهم كانوا ينفخون في قربة مقطوعة حين كانوا يقصدون إلى الجد فيما يكتبون، فانقلبوا إلى كتابة التسلية وإزجاء الفراغ، وشجعهم على ذلك أن بعض الشركات المالية التي أرادت لها المصادفة أن تشرف على إصدار الصحف والمجلات، قد أغرتهم بالمال، على شرط أن يكتبوا لها ما تطلب إليهم الكتابة فيه وبالمقدار الذي تطلبه، وبالكثافة التي تقررها. والموضوع والمقدار والكثافة عند أصحاب تلك الشركات المالية، كلها أمور يقررها الجمهور الشاري؛ إذ لا فرق عندها بين المجلات والصحف التي تنزلها إلى السوق، وبين رءوس الماشية وقوالب الطين، والفول والعدس؛ كلها سلع تجارية، ولا بد فيها جميعا أن ينظر إلى الشروط الصالحة للبيع والشراء ...

إذا فقد انصرف كتابنا الكبار عن الكتابة الجادة لسببين: الأول أنهم وجدوا كتابتهم لا تغير من الأمر الواقع شيئا؛ فالناس هم الناس سواء كتب الكتاب أو لم يكتبوا، والثاني هو أن زمام الكتابة لم يعد في أيديهم هم، بل انتقل إلى أصحاب رءوس الأموال الذين اختاروا لاستغلال أموالهم تجارة الصحف والمجلات، ولك إن شئت أن تنظر إلى إنتاج هذا الأديب أو ذاك، فتأتي بمجموعة من مقالاته التي أصدرها منذ عشرين عاما أو ثلاثين، ثم تقارنها بمجموعة من مقالاته التي يكتبها هذه الأيام في المجلات التي أعنيها، وسترى الفرق واضحا: كان هناك جد وعزم على تغيير عقول القراء، فأصبح هنا استهتار وعدم مبالاة بما يجري به القلم؛ لأن الأمر عنده وعند صاحب المجلة لم يعد يزيد أو يقل عن صفحتين يكتبهما ليتسلى بهما القارئ حين لا تسعفه للتسلية وسيلة أخرى.

لكن لو أخلص هؤلاء الكتاب لوجدوا أن مهمتهم لا تزال باقية على حالها، فهم لم يغيروا من عقائد الناس شيئا، إذ لا يزال الناس في حالة شبيهة جدا بما كانت عليه أوروبا في العصور الوسطى ... إن أميز ما يميز التفكير في العصور الوسطى هو الاستناد في الأحكام على الكتب القديمة، فإذا قال قائل قولا وطالبه السامعون بالسند ارتد إلى الكتب القديمة يستخرج الدليل، حتى إذا ما وجده اقتنع هو واقتنع السامعون على السواء، والنهضة الأوروبية التي جاءت لتنفض غبار العصور الوسطى، كان معناها هو هذا: أن يرجع الناس في أحكامهم إلى ما تقوله الطبيعة وما يقوله الواقع، وأن تكون وسيلتهم إلى ذلك هي عيونهم وآذانهم؛ لأن الله أرحم جدا وأقدر جدا من أن يقصر العيون والآذان على عصر واحد ذهب ومضى ليكون الناس من بعده صما عميا لا يسمعون ولا يبصرون.

لا يزال الناس عندنا في حالة شبيهة جدا بما كانت عليه أوروبا في العصور الوسطى، يؤمنون بأفواه مفتوحة ولعاب سائل، فإذا تمنينا لهم شيئا، فهو أن يقيض لهم الله من أصحاب الفكر وأرباب القلم مثل من أنعم بهم على عباده من الأوروبيين إبان نهضتهم، فلو استعرضت أوروبا عندئذ بخيالك وجدت مفكريها وكتابها قد عقدوا عزما من حديد على تنظيف الرءوس وتجديد النفوس؛ ليستقبل الناس عهدا جديدا، هو الذي نسميه اليوم بأوروبا الحديثة - فأين لنا من علمائنا من يقوم بالدور الذي قام به جاليليو وكبلر ونيوتن إبان النهضة الأوروبية، ليلفتوا أنظارنا إلى الطبيعة ندرسها، بدل الانطواء على أنفسنا مكبين على صفحات صفر معفرة بالتراب؟ وأين لنا من فلاسفتنا من يدعو إلى ما دعا إليه ديكارت وبيكن أيام النهضة الأوروبية، ليرسموا لنا منهاج التفكير الجاد الصارم، الذي لا يلين أمام عاطفة حتى يبلغ الحق، وهو في سبيل ذلك يتشكك ويتثبت ويتحقق حتى لا ينخدع بإيمان السذج البلهاء؟ وأين لنا من أدبائنا من يكتب بمثل الأقلام التي كتب بها سير فانتيز ومونتيني وشكسبير، ليهزوا فينا الخيال هزا عنيفا، فترتسم الدنيا أمام أنظارنا في صورة جديدة؟

لا، ليس بيننا العلماء وليس بيننا الفلاسفة، لا صغار ولا كبار، وأعظم من يعظمون في أعيننا من هؤلاء هم «تلاميذ» حفظوا كثيرا أو قليلا مما كتبه العلماء والفلاسفة في أوروبا التي نعوذ بالله من شيطانها الرجيم! إننا نتسامح في استعمال الألفاظ إلى الحد الذي نقول عنده عن فلان إنه «عالم» حين يكون فلان هذا قد وعى رأسه قائمة طويلة من الحقائق التي وصل إليها العلم، لكن «العالم» الحق ليس هو من وعى وحفظ، إنما هو من عرف كيف يسأل الطبيعة سؤالا وكيف يجعلها تجيب له عن سؤاله بما يجري من تجارب في أنابيبه ومخابيره، وليس بيننا من يعرف كيف يسأل الطبيعة سؤالا جديدا، ويجعلها تجيب له عنه جوابا يذيعه في العالم المتحضر على أنه من كشفه هو ومجهوده هو.

لا، ليس بيننا العلماء وليس بيننا الفلاسفة، وكان يمكن أن يكون بيننا الأدباء، لكنهم - واحسرتاه - قد انصرفوا عن مهمتهم إلى حيث الكلام الخفيف اللطيف، الذي يبيعونه لشركات الصحف والمجلات، بيع التاجر الذي يراعي في سلعته ظروف العرض والطلب.

ولم يكن قد حان الوقت بعد لهؤلاء الكتاب أن يلقوا السلاح من أيديهم؛ لأننا لم نزل أمة في عصورها الوسطى، تنتظر الانتقال إلى العصر الحديث على أيديهم، إنه لمما يستوقف النظر في أمتنا أنها تنقسم قسمين: أقلية ضئيلة جدا في ناحية وأكثرية كبيرة جدا في ناحية أخرى، وهي تنقسم هذين القسمين في كل شيء: في الثروة، وفي العلم، وفي التحضر بأسباب المدنية الحديثة، فأقلية ضئيلة بلغ بها الغنى حد الإفراط، وأكثرية كبيرة مرغها الفقر في الوحل، وأقلية ضئيلة بلغت من العلم شأوا، وأكثرية كبيرة نزلت من الجهالة إلى حد الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، وأقلية ضئيلة تكاد تنخرط مع الأوروبيين في حضارتهم، وأكثرية كبيرة لم تلمسها يد القرون التي تتابعت على الإنسانية في تاريخها الطويل.

إننا لم نزل أمة بدائية في احتكامنا إلى العواطف حيث ينبغي تحكيم العقل، فبالعاطفة نرفع الحكومات ونخفضها، وبالعاطفة نرسم المشروعات وننسخها، وبالعاطفة نخالف الدول الأخرى ونخاصمها، وبالعاطفة نملأ المناصب ونخليها، وبالعاطفة نؤيد ونعارض ونستحسن ونستهجن؛ أفتكون هذه حالنا والكتاب عندما مشغولون بالكتابة الخفيفة لتسلية القراء وإثراء الشركات الصحفية؟

إننا لم نزل أمة بدائية تملأ الخرافة رءوسنا، نتشاءم ونتفاءل ونؤمن إيمان العجائز، واسمع القصة الآتية واسخر: أقمنا ذات يوم حفلا نودع به راحلا ونستقبل قادما، وجلس على المائدة أمامي رجل صناعته تدريس الفلسفة في الجامعة، فأخذ هذا الفيلسوف يقص علينا كيف يفعل الإيمان الأعاجيب، قال: كان في شبرا شيخ تقي صالح، له مريدون كثيرون، وكنت أحضر جلساته أحيانا، وقد أخذ يعلم تلاميذه كيف يقولون البسملة بإيمان، ثم يمشون بعد ذلك على سطح الماء فإذا هم يدوسون بأقدامهم على مسطح أصلب من الحجر، وحدث ذات مرة لبائع فجل (ولست أدري لماذا وقعت الواقعة لبائع الفجل وحده، ولم يقع مثلها لزميله الأستاذ الفيلسوف) من تلاميذ الرجل أن فرغ من بيع بضاعته، وأراد الرجوع إلى داره في إمبابة، وسار على قدميه شوطا، ثم تنبه فجأة إلى دروس أستاذه الشيخ، فوقف على شاطئ النيل، وأغمض عينيه، وقال بكل قلبه «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم مشى، فإذا هو الماشي من النهر على أرض يابسة! - هكذا قص علينا الفيلسوف قصته، ولولا أنني أتمنى له السلامة لتمنيت عندئذ أن يقوم هو الآخر بالتجربة عينها؛ ليتخفف الشعب من عامل من عوامل التخريف - وإن كان هذا شأن القمة العليا من طبقة «المثقفين» (؟!) فماذا تكون حال الملايين من السواد؟ أفبعد هذا كله يلقي كبار كتابنا من أيديهم أقلامهم الجادة كأنما قد فرغوا من مهمتهم، ولم يبق عليهم سوى أن يكتبوا ما تطلب إليهم شركات الصحف كتابته لتسلية القراء؟

ونحن لم نزل أمة بدائية في عقيدتنا بأن الإنسان ألعوبة في يد القدر، فتلك هي نظرة الشعوب الأولى التي لم تكن تدري كيف يسقط المطر، ولا كيف ينبت الزرع، ولا من أين تمتلئ الأنهار، ومن أين يجيء الأحياء، وإلى أين يذهب الموتى. إنها شعوب لم تكن تدري من ذلك كله شيئا، فالتمست علة التغير في خيوط مستورة أطرافها في كف مارد جبار لا تراه العيون، أخذ يشد هذا الخيط أو ذاك كيف شاء، ويعبث بالناس من حيث يشعرون ولا يشعرون، فاستضعفوا أنفسهم إزاء هذا «القدر» المتخفي؛ إذ لا حيلة لهم بين يديه، لكن العلم أخذ يكشف للناس عن ألاعيبه، فيظهرهم على خيوطه السحرية خيطا في إثر خيط، كما يفسر لنا الحاوي سر ما يبهرنا من فعله، والفرق كبير جدا في تكوين الشخصية وبناء الأخلاق بين رجل هتك ستر «القدر» ورجل لا يدري من أمره شيئا: الأول يشعر بالثقة والقوة، والثاني يخنع ويخضع. انظر إلى الناس من حولك، انظر إلى عيونهم وقسمات وجوههم، تجد الاستكانة والمذلة قد ارتسمت في نظراتهم وعلى شفاههم، ولأمر ما يسير المصري عادة مطأطئ الرأس يحف الأرض بقدمه حفا خفيفا، ويمشي الأوروبي مرفوع الرأس يضرب الأرض بقدميه ضربا قويا، إنك قل أن تجد أوروبيا قد أسدل جفنيه على عينيه، بل هو دائما ينظر وكأنما ستلفظ نظراته الشرر، بينما يندر أن تقع على مصري في مستطاعه أن ينظر إليك بعين مفتوحة: عند الأول جرأة على الحياة وعند الثاني جبن وخوف؛ لأن الأول قد علموه أنه سيد الكون، أما الثاني فقد لقنوه أنه ألعوبة في يد «القدر»؛ أفبعد هذا كله يترك الكتاب أقلامهم الجادة ليكتبوا «الطقاطيق» الخفيفة التي تطلب إليهم الشركات الصحفية أن يكتبوها؟

لا، إنه لا تكفينا إزاء ذلك كله أقلام تكتب الجد بمداد على ورق، بل نحن في أمس الحاجة إلى أقلام تنفث من أسنانها الحمم الذي يلسع الجلود ليستيقظ الرقود.

إعانة المجلات العلمية

لوزارة التربية والتعليم جهود مشكورة في تشجيع الحركة العلمية والفنية في كثير من صورها، تشجيعا لولاه لما استطاعت تلك الحركة - في أرجح الظن - أن تحقق هذا الذي حققته اليوم على قلته وضآلته.

فهي تعين المدارس والجامعات إعانة مبسوطة الكف لا تدخر في ذلك وسعا، حتى لتدفع كل نفقات الطالب في بعض المراحل التعليمية، وقسطا كبيرا من تلك النفقات في المراحل التعليمية الأخرى، وهي تدفع مكافآت مجزية في تشجيع حركة الترجمة حتى لقد يبلغ ما تدفعه أجرا على ترجمة الكتاب أحيانا مبلغا يزيد على ما يكسبه مؤلف الكتاب نفسه، وهي تبذل بذلا حميدا في تشجيع المؤلفين بشراء بضع مئات من كل كتاب تقريبا، مما يعوض على المؤلف شيئا مما أنفقه في تأليف كتابه من جهد ومال، وهي تعين الفرق التمثيلية الأجنبية والمصرية على السواء بألوف الجنيهات كل عام، وهي كذلك تسخو على كثير من الجمعيات العلمية والنوادي الأدبية والاجتماعية بمال كثير أو قليل، وهكذا وهكذا إلى آخر ما تنفقه الحكومة في هذا السبيل، وإذا فهي جهود للحكومة مذكورة مشكورة مهما يكن بها من نقص هنا أو عيب هناك، إن لم تصلحه اليوم، فهي لا بد فاعلة غدا، فحسبك من أصحاب الحكم في هذا الصدد أن تراهم قد ولوا وجوههم نحو الخير الصحيح، فإن كان في خطاهم تعثر في أول الطريق، فالأرجح أن يعتدل بهم السير بعد حين.

لكننا نرى أن وزارة التربية والتعليم قد غفلت عن إعانة المجلات العلمية إعانة تمكنها من القيام بواجبها على نحو كامل، وهي بإغضائها عن هذا الجانب من البناء الثقافي بمثابة من يصلح الأدوار العليا من البناء ويترك الأساس متداعيا منهارا، ولست أطلق الكلام هنا إطلاقا عن غير وعي بمعناه، وإنما أعني هذا الذي أقوله بأدق ما يؤديه من معنى.

فالمجلات العلمية والأدبية هي حقل التجارب الذي يخرج لنا الكتاب والمؤلفين فيما بعد، فإذا أنت محوته فقد محوت تسعة أعشار الفرصة التي تتهيأ للأقلام الناشئة، وبالتالي فقد محوت تسعة أعشار المؤلفين في الجيل المقبل، ولست بذلك أعني أن المجلات العلمية مقصورة على أقلام الناشئين، لكنها توشك أن تكون هي المجال الوحيد أمام هؤلاء، أما الكاتب الذي استقام واعتدل وقويت ساقاه فيستطيع أن يتنفس في الكتب إن ضاقت أمامه المجلات التي تتناسب مع مكانته العلمية والأدبية، وأنا أقول ذلك تفاؤلا مني بكبار كتابنا، وإلا فلو قلت ما أعتقده حقا لقلت مرة أخرى ما أعلنته في مواضع عدة، وهو أن الكاتب عندنا في معظم الأحيان تستنفد مجهوده المقالة الواحدة، وليس هو كالكاتب الأوروبي بمستطيع أن يستطرد مع فكرته حتى يملأ بها كتابا، وإذا فإضعاف المجلات العلمية والأدبية عندنا معناه المباشر هو سد الطريق في وجوه أصحاب القلم جميعا، صغارهم وكبارهم على السواء.

كانت المجلات والصحف عندنا هي المعمل الذي أخرج لنا قادة الفكر الذين نفخر بهم ونعتز، والذين نخشى مخلصين أن يتركوا وراءهم فراغا يستحيل على الجيل التالي لهم أن يملأه، فلولا الكتابة الصحفية لما كان لدينا العقاد والمازني وطه حسين وأحمد أمين وهيكل وغيرهم، وقد كدت أقول توفيق الحكيم، وأنا أتحفظ بالنسبة إلى الأستاذ الحكيم لأنه على خلاف هؤلاء جميعا قد بدأ أدبه الممتاز بالكتاب الكامل، ثم جرفه التيار العام، فعقب على الكتاب بالمقالة، وأتبع مرحلة التمثيلية الكاملة ذات الفصول، بمرحلة التمثيلية ذات الفصل الواحد، التي تتناسب مع الإخراج الصحفي، وهو لا شك سير في الطريق من آخره إلى أوله، لكنه يدل دلالة قوية على سيطرة المجلة أو الصحيفة على أدبائنا، فكيف إذا تكون الحال لو عشنا في خلاء من مجلات وصحف أدبية ممتازة؟

فكر في قادة الأدب عندنا واحدا بعد واحد، واسأل: ماذا يستطيع فلان أن يكتب إذا امتنعت دونه كتابة المقالة ؟ تجد جواب السؤال حاضرا في أغلب الحالات، وهو: لا يستطيع أن يكتب شيئا؛ لأنه أضحل فكرا من أن يخرج فكره في كتاب متصل، وكم مر علينا من تجارب، سدت فيها أبواب الصحف على كبار كتابنا، فسكتوا وطووا أقلامهم لأن الواحد منهم إما أن يكتب مقالة أو لا يكتب شيئا، والكثرة الغالبة من نتاجنا الأدبي الذي يتخذ في النهاية صورة الكتب، إن هي إلا مقالات جمعت في كتب، وليست هي بالكتب الأصيلة التي أنشأها منشئوها على أساس الكتاب لا على أساس المقالة.

لست ها هنا ناقدا يشير إلى وجه من أوجه النقص في إنتاجنا الأدبي والعلمي، ولكني أصف هذه الحالة لأنتهي إلى النتيجة التي تتفرع عنها، وهي أنه إذا انعدمت المجلات الأدبية والعلمية فقد انعدمت بالتالي الفرصة الوحيدة التي يتنفس فيها كبار كتابنا، والتي تهيئ مجال المران لصغارهم الناشئين.

قرأت في العدد الأخير من المجلة الإنجليزية «القرن التاسع عشر وما بعده» مقالا هو الذي انبثقت منه فكرة هذا المقال الذي أكتبه، إذ قرأت تحت عنوان «حالة الجمعيات العلمية» (في إنجلترا) ما يشبه البكاء على تدهور الجمعيات العلمية هناك بسبب قلة الإعانة المالية التي تقدمها حكومتهم إليها. ويقول كاتب المقال متجها بقوله إلى رجال الحكومة: إننا في أثناء الحرب الأخيرة قد حرمنا كثيرا من ألوان التسلية واللهو، حتى يتوافر مجهودنا كله للقتال، ومع ذلك لم نجرؤ على تحريم سباق الخيل، وكانت حجة الحكومة عندئذ هي أن إغلاق حلبات السباق يؤدي إلى تعريض تربية الجياد الكريمة لخطر جسيم، ولما كانت الحكومة حريصة على اتصال سلسلة الجياد الكريمة حتى لا ينقطع حبلها، فقد أبقت على الدافع الأول إلى تربيتها والعناية بها، ألا وهو السباق وحلبته. وبعد هذا التشبيه ينتقل الكاتب إلى حالة الجمعيات العلمية عندهم، فيقول: أليست تحرص الحكومة على اتصال سلسلة رجال الفكر كما كانت تحرص على الجياد الأصيلة؟ إنها لا بد حريصة على ذلك أشد الحرص، وإذا فلا مناص من صيانة الحلبة التي يؤدي وجودها إلى وجود رجال الفكر، ويؤدي انعدامها أو ضعفها إلى انعدامهم أو ضعفهم، وما تلك الحلبة سوى الجمعيات العلمية بما لها من مكتبات ومجلات وغيرها.

ويقول كاتب ذلك المقال أيضا: إن هنالك المجامع العلمية الرسمية، مثل «المجمع الملكي» للعلوم الطبيعية والرياضية، و«المجمع العلمي البريطاني» للتاريخ والأدب والفلسفة والآثار، هذه المجامع العلمية الرسمية تحظى برعاية الحكومة على الوجه الأكمل، لكن كيف السبيل إلى إمداد تلك المجامع بقادة الفكر إن لم يكن لدينا «جمعيات» تكون بمثابة صفوف الشعب التي تخرج منها هؤلاء القادة؟ هل تستطيع أن تظفر بالقادة دون أن يكون لديك المجال الذي يتخرجون فيه ويتمرسون في ميدانه؟ فلا مناص لنا - إذا - من رعاية الجمعيات العلمية والأدبية حتى تخرج لنا فيما بعد قادة المجامع.

وإن صح هذا القول مرة واحدة في إنجلترا، فهو صحيح ألف مرة بالنسبة لنا في مصر وسائر بلدان الشرق العربي، ونحن ننظر إلى مجلاتنا العلمية والأدبية نظرتنا إلى «الجمعيات العلمية» التي وردت في المقال الذي أشرنا إليه.

انظر إلى «المجمع اللغوي» عندنا - مثلا - هو يضم فريقا من القادة، تجد أعضاءه جميعا قد بلغوا ما بلغوه بفضل المجلات والصحف التي هيأت لهم سبيل الكتابة في شبابهم وكهولتهم على السواء، ولك أن تسأل بعد ذلك: ما مصير كتابنا الناشئين الذين يحملون بذور التفكير والكتابة، إذا لم يجدوا أمامهم المجلات القوية التي تعينهم وتشجعهم على الكتابة والتفكير؟ أليس واجبا محتوما على القائمين بالأمر أن يتعهدوا هذا المصدر حتى يضمنوا لحياتنا العلمية استمرارا وازديادا في القوة والنماء؟ أم تراهم يحسبون أن الزمان قد وقفت دورته، وأن الحاضر هو الزمان كله من أزله إلى أبده؟

إن الصراحة هنا واجبة لأن الأمر في رأينا خطير غاية الخطر، فإذا استثنيت المجلات التي تصدرها دور النشر الكبرى صاحبة رءوس الأموال الضخمة، وجدت سائر مجلاتنا الأدبية المحترمة في طريقها إلى الانهيار والزوال، وما قيامها إلا تضحية كبرى من أصحابها، أين المجلات التي شهدها شباب الجيل الماضي - والتي كانت ميدان قاد الفكر عندنا اليوم - السياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة في عنفوانها والثقافة في إبانها ؟ بل أين المجلة القوية التي لم تشهد النور إلا حقبة قصيرة؛ مجلة الكاتب المصري؟ زالت كلها أو هي كالزائلة؛ لأن الحكومة لا تعينها بالقدر الذي يمكنها من البقاء، ولا يكفي من الحكومة أن تعين بشراء بضع مئين من أعدادها، بل لا بد هنا من السخاء في العطاء؛ لأن المسألة متعلقة ببنائنا الفكري من أساسه.

لا ينبغي لوزارة التربية والتعليم أن تترك المجلات العلمية لعوامل العرض والطلب في السوق، وإلا فلن يكون هناك مجلة علمية واحدة؛ لسبب بسيط، وهو أن السوق تتطلب مادة سهلة للتسلية، والمجلات التي في مقدورها اليوم أن تعيش عيش الرغد والرواج هي التي تغذي ذلك الاتجاه في السوق، غير آبهة بمثل أعلى لا بد من فرضه على جمهور القراء، فليس من الحكمة في شيء أن تتركوا أصحاب الفكر لأبناء الشارع يسيرونهم كيف شاءوا، كما تتركون بائعي الصابون لعوامل العرض والطلب في سوق البيع والشراء.

جناية الأدباء

كانت أمسيات الصيف كثيرا ما تثقل على كاهلي، فلا أدري كيف أخلص من ساعاتها الطويلة المديدة التي تسبق النوم؛ لذلك كنت أطيل التردد على السينما في دورها الصيفية المكشوفة، حيث «أقتل» قتلا من مسائي ثلاث ساعات أو أربعا، ألهو فيها عن نفسي بما أرى على الشاشة، وكان معظم الأفلام التي عرضت في تلك الدور المكشوفة التي قصدت إليها وقصد إليها ألوف كثيرة جدا ممن هجروا ديارهم فرارا من حرارة الصيف، كان معظم هذه الأفلام عربي التأليف والتمثيل.

وإني لأشهد الله أني ما عدت من هذه الأفلام العربية ليلة، إلا ضيق النفس بما قد رأيت، آسفا لهذه الهاوية التي نعيش في ظلماتها فنا وذوقا وتمثيلا وإخراجا، ثائرا على أدبائنا الذين غضوا أنظارهم عن هذه الصفحة البيضاء التي فتحت لهم صدرها رحبا ليملئوها بنتاج أقلامهم؛ غضوا عنها أنظارهم، فانتهبها أصحاب الأذواق الفجة السقيمة، التي لا تميز بين طيب وخبيث، أستغفر الله، بل لعلها تميز بين الطيب والخبيث تمييزا تستطيع به أن تمحو الطيب كله وأن تثبت الخبيث كله.

ولست أقصد بالخبيث هنا خبيث الأخلاق كما قد تراءى لكثيرين ممن تعرضوا لنقد أفلامنا العربية؛ لأني رجل لا أبالي في الإنتاج الفني بالأخلاق طيبها وخبيثها على السواء، بل لا أكاد أفهم اللغة التي يتحدث بها الذين ينقدون الفنون على أساس الأخلاق، ماذا عساهم يريدون بالخير الأخلاقي أو الشر الأخلاقي، حين يقولون في نقدهم لإنتاج فني إنه خير أو إنه شر؟ إن الكاتب الذي يصور ملاكا رحيما تصويرا بارعا كالكاتب الذي يصور شيطانا رجيما تصويرا بارعا ... أم تراهم يقصدون بكلامهم عن الخير والشر في الإنتاج الفني، ما يبثه هذا الإنتاج في نفوس الناس من تعاليم؟ فالأدب الخير عندهم هو ما علم الناس أخلاقا تواضعنا على اعتبارها رفيعة سامية، والأدب الخبيث عندهم هو ما علم الناس اخلاقا اتفقنا على اعتبارها خسيسة دنيئة؟ لو كان هذا ما يقصدون إليه بنقدهم؛ إذن فالطامة أكبر، وفهمهم للأدب أبعد جدا من الفهم الصحيح؛ لأن الأدب الذي يعلم الناس شيئا ليس من الأدب في كثير، وربما كان من الأدب في قليل ضئيل، فلم يخلق الله الأديب - أو رجل الفن بصفة عامة - أديبا أو فنانا ليقف من الناس معلما وواعظا، بل خلقه أديبا أو فنانا ليحاكي الطبيعة في خلقها للكائنات، فيضيف إلى خلقها خلقا جديدا من نوع جديد ... لكني لا أريد استطرادا في هذا، فما أكتب الآن لأوضح رأيا في طبيعة الفن، بل أكتب في خاطرة كانت تتردد على رأسي كلما قصدت دارا من دور السينما التي تعرض أفلاما عربية.

أعود فأقول: إني لم أرد بالخبيث خبيث الأخلاق، حين ذكرت عن أصحاب الأفلام العربية أنهم يثبتون على شاشتهم كل الخبيث ذوقا وفنا ولا يفسحون للطيب من تلك الصفحة البيضاء مكانا كبيرا أو صغيرا.

فالله أعلم مني بطبيعة هذا الذوق الذي يبيح لصاحبه أن يحشر في القصة الواحدة - وفي كل قصة مما تعرضه الأفلام العربية - كل ما تحويه الأرض والسماء من الحوادث الضخمة الغليظة، التي تكفي كل حادثة منها عشرين قصة حتى يتم تحليلها ... فلا بد عند الكاتب الذي يكتب للسينما المصرية، أن يكون في القصة الواحدة يتم وتشريد وزواج وطلاق وغدر وخيانة وتهتك في المراقص والملاهي بالنسبة للأغنياء، وعفة وأمانة بالنسبة للفقراء، فلا أذكر أني رأيت فيلما واحدا يخلو من شاب غني ذهب إلى مرقص فأحب راقصة بعد أن أراد العبث بها فردته عن العبث الحرام، ولما أراد الزواج منها وقف له أبوه الغني حائلا بينه وبين من أحب، ثم لا بد أن تكون هذه الراقصة قد لجأت إلى رقصها عن طلاق أصاب أمها، أو عن موت حرمها والدا، فاضطرت إلى الكسب عن هذا الطريق ... وأنا أعيش في مصر كما يعيش هؤلاء الكتاب الذين يكتبون القصص للسينما المصرية، ولا أعلم أين أجد ما يجدونه بهذه الكثرة من أمثال هذه الحوادث؟ فكم رأوا من الشبان الأثرياء الذين تزوجوا من راقصات الملاهي رغم ذويهم؟ وكيف تقصوا أنباء هؤلاء الراقصات فعلموا أنهن جميعا لاجئات من جوع وتشريد؟ وأن واحدة منهن لم تلجأ إلى الرقص عن هواية وفن؟ لكن على رسلك! فإلى من توجه هذه الأسئلة؟ أتوجهها إلى أصحاب القصص السينمائية العربية، زعما منك بأنهم أدباء يعلمون ماذا يصنعون، وهم أنفسهم لا يدعون لأنفسهم هذا الذي تلصقه بهم رغم أنوفهم.

هل يعلم أصحاب هذه القصص التي تعرض على شاشة السينما، أنهم يصورون بقصصهم أغلظ الأذواق الهمجية؛ إذ يقصرون تصويرهم على الحوادث الصارخة التي تتلاحق تباعا كأنها سيل من القنابل المتفجرة؟ فصاحب الذوق الهمجي البدائي وحده هو الذي يميل إلى هذا الصراخ كله كي يصحو من نعاسه، وهو وحده الذي لا يطمئن في ألوانه المختارة إلى الهادئ الخافت، ولا يطمئن في حديثه إلى الصوت الخفيض، ولا تكفيه في حياته اللمسات الخفيفة. أما من أصاب شيئا من تحضر وتهذيب، فتراه هادئ الطبع لا يرتاح إلى زعيق في الصوت أو ضجيج في الحركة أو صراخ في اللون، وحسبه إشارة هامسة إذا أردت له يقظة والتفاتا، ولا أحسبنا من همجية الذوق بهذه الدرجة كلها التي فرضها أصحاب الأفلام العربية.

إنه لا عجب أن نرى الأفلام العربية كلها صورة تكاد تكون واحدة لا جديد فيها، صورة واحدة تتكرر، بحيث تستطيع أن تعلم في يقين أو شبهه أي الحوادث أنت راء على الشاشة قبل أن تعرض القصة؛ لأن كل واحدة من هذه القصص تحيط بحوادث الدهر كلها، لا تدع منها شيئا إلى قصة أخرى ... وهل رأيت فيلما واحدا قد قصر نفسه على فكرة واحدة يعرضها بظلالها وأضوائها، كهذا الذي نشاهده في الأفلام الأوروبية والأمريكية الجيدة؟

لكن فيم هذا اللوم كله والنقد كله؟ إنما ينصرف اللوم إلى أدبائنا الذين جنوا على أدبهم وعلى الناس جناية كبرى، إذ تركوا ميدان الشاشة السينمائية لسواهم من غير ذوي الفهم الأدبي والذوق الفني، ولعلهم تركوا شاشة السينما لغيرهم؛ لأنهم نفضوا أيديهم من القصة والمسرحية جملة واحدة - إذا استثنيا حالات قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة - إن كبار أدبائنا يكتبون ويكتبون، ولست أدري والله فيم يكتبون، إذا كنت تلتمسهم في ميدان القصة والمسرحية فلا تكاد تعثر لأحد منهم على أثر، كأنما هم لا يعلمون - مع أنهم خير من يعلمون - بأن العالم كله لا يكاد يعرف من الأديب الكبير إلا كاتبا للقصة أو منشئا للمسرحية.

أدباؤنا الكبار في شغل عن القصة والمسرحية بما يكتبونه للصحف اليومية والأسبوعية من مقالات يذكرون فيها نتفا وعجالات عن السياسة والاجتماع، وإذا قلنا إنهم في شغل عن القصة والمسرحية فقد أوشكنا أن نقول إنهم في شغل عن الأدب.

كيف يجوز لأدبائنا الذين هم في الطليعة، أن يزعموا لنا أو لأنفسهم أنهم يصورون آمالنا ومخاوفنا إن كانوا لا يخلقون لنا بأيديهم أشخاصا تتجسد في سلوكهم هذه الآمال والمخاوف؟ هل يجوز لأديب واحد من هؤلاء الكبار أن يدعي بأنه قد صور الرجل من الطبقة الوسطى الفقيرة بمثل ما صوره ممثل لم يكن ينتمي إلى طائفة الأدباء، وأعني به المرحوم نجيب الريحاني؟ هل يجرؤ أديب واحد من أئمة أدبائنا أن يدعي بأنه قد صور الفساد الذي كان، والذي نرجو ألا يكون، في شخص أو أشخاص أحسن خلقهم وتصويرهم؟

أليست فضيحة ثقافية كبرى أن تسألني: ما أبرز السمات التي تميز الأدب الإنجليزي اليوم، فأجيب، وأن تسألني السؤال نفسه عن الأدب المصري فلا أستطيع الجواب؟ ... إنها فضيحة ثقافية؛ لا لأني أعجز عن تحليل أدبنا المصري المعاصر فأعجز عن إخراج سماته وخصائصه، بل لأني أبحث - حين أبحث - عن الأدب الممثل لنا اليوم في قصة أو مسرحية فلا أكاد أجد من ذلك شيئا، إنك إذا أردت تحليل الأدب الإنجليزي أو الفرنسي - مثلا - لتستخرج خصاصه المميزة، فلا تستعرض الصحف اليومية هناك التماسا لما تريد، بل تستعرض كتبا وقصصا ومسرحيات، فما الذي أستعرضه هنا من كتب وقصص ومسرحيات لأخلص إلى الاتجاه العام الذي يشترك فيه كبار الأدباء عندنا؟

إن أئمة الأدب في شغل عن الأدب بما لست أدري ماذا، وهيأت لهم شاشة السينما مجالا فسيحا، إذا أرادوا حقا أن يتعقبوا حياتنا بالتصوير، وأن يعرضوا على الناس قطعا حية من نفوسهم وما يختلج فيها من خواطر ومشاعر، لكنهم أجمعوا فيما بينهم - أو كادوا يجمعون - على أن يتركوا هذا المجال الأدبي لغير الأدباء، فجنوا على أنفسهم وعلى الأدب وعلى الناس جناية لا يمحوها عنهم إلا غفران من الله ورحمة.

अज्ञात पृष्ठ