لكن هذا العصر القلق الثائر الفائر المتغير المتحول، هو عصرنا الذي خلقنا له لنعيش فيه، فلنضرب على نفس الأوتار التي يضرب عليها سائر العازفين، لتأخذنا حمى القلق التي أحذت بسائر أنحاء العالم المتحضر، ولتهتز أعصابنا بما اهتزت به أعصابه من دعوات ومذاهب، وأفكار ونظم، إن كان عالما مدججا بسلاحه فلنأخذ في التسلح، أو كان عالما جشعا فلندع الناس إلى النهم الذي لا يشبع ...
حرام يا أصحاب الأقلام أن تهدهدوا الناس بأناشيد المخادع التي تجلب النعاس، بل أوقدوها تحت الجنوب جمرات حتى تستيقظ العيون وتؤرق القلوب، في هذا العصر القلق المضطرب اليقظان.
نفوس فقيرة
الفقر صوره شتى ...
فمنها اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، حتى لتنقلب حبات الرمل على سطحه جمرات من نار، وتهب عليه الريح السموم فإذا هي ألسنة من اللهب تنفثها جهنم، هذا اليباب إذا ما شاء له القدر يوما أن يصيبه شيء من المطر، غاص المطر في جوفه وغاب كأن لم يكن، فهو قفر كما كان، لا زرع فيه ولا ضرع، إلا أشواكا تنشب على وجهه هنا وهناك فتزيده فقرا على فقره.
ومنها الصخر الأجرد الذي صلد صدره وتصلبت أطرافه، فلا يتفجر جوفه عن قطرة أو نبتة، إذا سال عليه الماء انحسر عنه لأنه مغلق أصم عبوس مخيف، فلا هو يخرج من جوفه شيئا، ولا هو يفتح مغاليقه ليتقبل مما حوله شيئا، لا أمل فيه لمسافر ولا رجاء عنده لضال.
ومنها السماء لا تجود بالغيث، تيبس الأرض من تحتها وتتشقق، ويجف الزرع ويموت، وتشخص الأبصار إليها ضارعة، وتصعد الدعوات إليها مسترحمة، لكنها كالحة مصفرة الوجه لا تجود.
ومنها الوردة تذبل وتذوي، طار عنها الشذى وجف من عرقها الماء، تفركها بين إصبعيك فإذا هي رماد تذروه الريح مع التراب والعفر، ومنها الجدول غيض ماؤه، تعبره ماشيا على قدميك، فترن أصداء خطاك بين صخوره لخلائه وفراغه.
ومنها الجيوب تخلو من المال، فيمضي صاحبها بين أكداس الطعام في الدكاكين وهو جائع؛ لأنه لا يملك أن يستجيب للمعدة تناديه ولبائع الطعام يغريه.
لكن لا اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، ولا الصخر الأجرد الذي صلد صدره وتصلبت أطرافه، ولا السماء اليابسة، ولا الوردة الذابلة، ولا الجدول غيض ماؤه، ولا الجيوب الخالية من المال؛ بمستطيعة أن تعبر عن الفقر بأبلغ مما تعبر عنه النفوس الفقيرة!
अज्ञात पृष्ठ