إنكم - فيما أرى - عشاق للجمال في كثير من صوره، تعشقونه في جميلات النساء، شأنكم في ذلك شأن سائر الناس منذ كان على الأرض إنسان، وتعشقونه في الطعام الجيد، فقد ظهر لنا فيما أسلفناه من تحليل أن الجودة في الشيء هي جماله، وإذا فالطعام الجيد هو كذلك طعام جميل، وقد حباكم الله في هذه الناحية بحاسة حادة تميزون بها الجيد من الرديء، أعني الجميل من القبيح، وتعشقون الجمال في الجبال الشمم المعشوشبة السفوح المثلوجة القمم، وإلا لما تجشمتم هذا العناء المضني كل صيف في ارتياد سويسرا وغير سويسرا من بلاد الجبال، وتعشقونه في البحر وشواطئه، وتعشقونه في أثاث منازلكم وفي ملابسكم ... وبقي يا سادتي شيء واحد لو عشقتم فيه جماله صلح الأمر كله من أوله إلى آخره، ذلك هو العدل.
كان العدل أقوى مثل وأضخم مثل ساقه لنا أفلاطون - صاحب فكرة اتحاد الخير والجمال - ليوضح به كيف يكون الاحتفاظ بالنسبة الصحيحة بين الأشياء جميلا، وما العدل عنده إلا هذا الاحتفاظ بالنسبة الصحيحة بين الأشياء، فهلا أضفتم يا سادتي هذا الخير إلى سائر خيراتكم، فتضيفوا بذلك جميلا آخر إلى قائمة الجمال الذي تعبدونه في كثير من صوره؟
الظلم - أيها السادة - يملأ حولكم أركان البلاد، الظلم بمعناه الذميم، وهو اضطراب النسبة بين الأشياء والأحياء، وبالتالي يملأ القبح جنبات هذا الوادي المبارك الذي أراد له الله أن يكون جميلا، إنه لا تناسب يا سادتي بين المناصب وشاغليها، فصغير عندكم يملأ منصبا كبيرا، وكبير يشغل صغيرا، ولا تناسب بين المرتبات والعاملين، فعامل منتج ضئيل الكسب، وخامل لا ينتج عظيم الكسب، يستمتع بما لم يرد له الله ولا طبائع الأشياء أن يستمتع به من طيبات.
العدل، العدل يا سادتي الحكام، فالعدل خير؛ ولذلك فهو جميل، وأنتم من عشاق الجمال.
أبناء الظلام
ينقسم العصر في تاريخ الأمة جيلين: جيل صاعد وجيل هابط، أما الصاعدون فهم أولئك الذين لا يزالون من أعمارهم دون الأربعين أو نحوها، لا تزال خطاهم ترقى بهم - في حساب الحياة - من درجة أسفل إلى درجة أعلى، وما تزال أبصارهم أثناء السير شاخصة إلى قمة تحجب عنهم نهاية الطريق، فيحسبون أن ليست للطريق نهاية. كنت أتحدث إلى شاب في الخامسة والعشرين، جاءني يستشير في أمر مستقبله، فقلت له إن الطريق الفلانية أضمن لك حين تبلغ الستين، فابتسم قائلا: إن هذه الستين لا تطوف لي ببال، كأنما خلقت الشيخوخة لغيري من الناس، وكأنما يخيل إلي أني سأعيش أبدا في شباب يتجدد له إهاب كلما أبليت منه إهابا.
قال لي ذلك، فذكرت من فوري كيف كانت حالي أيام الصعود، من عمل متصل فيه الجد والحرمان، لا أبالي بنتائج عملي كيف تجيء، أتكون كسبا أم وبالا، فكنت أبذل من عافيتي وجهدي بذل المسرف المتلاف، الذي ينفق الألوف بغير حساب، مستندا إلى رصيد لا يفنيه تبذير، كنت أعمل الليل والنهار ثم النهار والليل، حتى لقد سألني أستاذ كبير كريم ذات يوم، حين رأى ما أكتبه أكداسا تتلاحق حملا بعد حمل، على الرغم من عمل مضن لكسب العيش يطول ما طال النهار. سألني: من ذا يعاونك في هذا كله من جماعة الجن؟ ... فوا أسفا، كأنما كنت أصب الماء في إناء مثقوب، أو أبذر البذور في حقل يثمر الحنظل، لقد أكملت من عمري سبعة وأربعين عاما، تركتني كالأسطوانة الجوفاء، فزرع ولا حصاد، وحركة ولا سير، وشيخوخة ولا نمو ...
وأما الهابطون فهم أولئك الذين قد جاوزوا قمة الأربعين وأخذوا ينحدرون على السفح خطوة خطوة في سير وئيد، يرون النهاية بأعينهم هنالك في أسفل، لم تعد في الطريق قمة تحجبها، كانت الأبصار إبان الصعود شاخصة إلى السماء، وهي الآن منحدرة إلى الأرض تتبين مواضع القدم. إنه لم يعد في الرصيد المخزون ما يحتمل إتلافا وإسرافا. إن شمعة الضوء قد ذهب أكثر من نصفها؛ فينبغي أن يحيطوا شعلتها بالحواجز الواقية حتى لا تتعرض للأنواء والعواصف، ذهب زمان المخاطرة وجاء وقت الحذر، لم يعد في طريق الحياة غيب مجهول يستحق المقامرة والمغامرة، فكل شيء قد وضح وانجلى عنه الدخان والقتام، ستكون كيت وكيت بعد كذا وكذا من السنين إن طال بك أمد السنين ...
والعادة - إذا كانت حياة الأمة قوية سليمة - أن يسلم الجيل الدابر مصابيحه إلى الجيل التالي عند قمة الجبل التي تفصل بين الصعود والهبوط، فتظل المشاعل الهادية عند القمة العالية يتسلمها جيل بعد جيل، فتزيدها الأجيال المتعاقبة وهجا ونورا، وبهذا وحده يصعد الصاعدون على ضوء فلا تزل لهم قدم في شعاب المرتقى، ويهبط الهابطون وقد خلفوا وراءهم مشاعل الطريق، تطرح أمامهم الظلال التي تزداد طولا كلما أمعنوا في الهبوط، فيزدادون بطول ظلالهم ثقة واطمئنانا بما صنعوا لمن جاء بعدهم في مراحل الطريق.
وإني لأستثني حياتنا السياسية وحدها، وأسأل بعد ذلك: هل حمل جيلنا الدابر في أيديه المشاعل ليهتدي بضوئها الجيل الصاعد، أم أن أبناء هذا الجيل الصاعد يشرئبون بأعناقهم عبثا، ويشخصون بأبصارهم سدى فلا يجدون أمامهم إلا ظلاما يتخبطون فيه على غير هدى؟ - بعبارة أخرى: هل رسم الجيل الدابر لخلفه المثل العليا التي يترسمها في شتى جوانب حياته؟ وقد استثنيت الحياة السياسية، لا لأني راض عنها كل الرضا، بل لأن رجال السياسة - إلى جانب نقائصهم الفادحة وعيوبهم البشعة - قد رسموا المثل الذي نترسمه: وهو أن نعمل في سبيل تحرير أنفسنا من الغاصب، وها نحن أولاء ماضون فيما دعونا إليه، وكأنما ينظر شبابنا فلا يرون أمامهم أفكارا تنتظر التحقيق، إلا الأفكار التي يدعوهم الساسة إليها، فينصرفون بكل جهدهم نحو هذه الغاية وحدها، ولا عجب، فلم يقم غير رجال السياسة بوضع غايات أخرى أمام الشباب إلى جانب تلك الغاية، فيستحيل أن يقع اللوم كله على الشباب، إذا رأيناهم قد ذابوا في مجرى الحياة السياسية ذوبانا يختل معه توازن الحياة. •••
अज्ञात पृष्ठ