لقد نسجت العنكبوت خيوطها «الواهية» هذه في شكل هندسي بديع لتحيا، وأقام «خوفو» هذا الهرم الضخم الأشم ليموت! فأيهما أحكم يا أيها الإنسان المغرور!
وعدت إلى جلستي فوق الصخرة الكبيرة، وشخصت ببصري إلى القمر، فامتلأت عيني بخيال عجيب، حاولت عبثا أن أصرفه عني فلم ينصرف، وظل ماثلا أمامي يحجب الواقع عني حتى صار هو الواقع الذي عشت فيه ما جلست على تلك الصخرة العاتية في حضن الهرم ... رأيت القمر عنكبا ضخما قد تدلت منه وأحاطت به شبكة من خيوط رفيعة دقيقة اتسعت وانتشرت حتى ملأت كل أرجاء الفضاء، وعلى الخيوط الممتدة هنا وهناك رأيت ذبابا يمسك بتلك الخيوط صاعدا عليها في طريقه إلى العنكبوت الضخمة الرابضة في قمة السماء، والذباب الصاعد متفاوت السرعة، فهذه تصعد في سرعة كأنما هي تنزلق هابطة على سطح أملس وهذه مبطئة، وتلك متعثرة تتقدم حينا وتتأخر حينا ... وكثيرا ما تلتقي ذبابتان في طريق واحد، ولا يكيفهما الخيط الواحد أن يصعدا معا جنبا إلى جنب، فتتشابكان بالأطراف، وتظل كل منهما تدفع الأخرى إلى أسفل، هذه تنقلب على ظهرها مرة ثم تستقيم على أرجلها لتسرع الخطى حتى تلحق بزميلتها التي ظنت أن قد خلا لها طريق الصعود، وما تكاد تمسك بأطرافها الخلفية حتى تشدها شدة عنيفة توشك أن توقعها في الفضاء لولا مهارة تسعفها فتتعلق بذراعيها وتتأرجح بجسمها في الهواء، محاولة أن تثني بدنها إلى أعلى رافعة أرجلها الخلفية حتى تمسك بالخيط من جديد وتأخذ في الصعود مرة أخرى.
الذباب كله صاعد على خيوط العنكبوت، إن صعوده هذا يكلفه الجهد والمشقة والعناء، لكنه مرح فرح بصعوده، ليس في ذلك من شك، إنه مرح واضح في الذبابة التي تسللت من الزحمة الكثيفة عند أوائل الخيوط السفلى، فانفسح الطريق أمامها وحدها، ولم يعد بينها وبين العنكبوت حائل، وهو مرح واضح كذلك في هذا الذباب المتقاتل المتعارك حين يضيق به الطريق، وتريد كل واحدة أن يكون طريق الصعود لها قبل زميلاتها.
أنظر إلى الخيوط عند أطرافها السفلى، حيث أقلها يمس الأرض وأكثرها يرتفع عنها قليلا، من أين جاءت هذه الألوف المؤلفة من الذباب المحتشد المتزاحم؟! لقد كان الهواء صافيا نقيا عند أول قدومي إلى هذا المكان؟ أأكون يا رباه في حلم عجيب، أم إني في عالم مسحور؟ أم أنا كما أنا واع يقظان؟ هأنذا ألمس الصخرة بأصابعي، وأخبط الأرض بقدمي، هذا هو الهرم كما ألفته وعرفته، وهذه هي القاهرة العظيمة بأضواء مصابيحها كما رأيتها عندما استويت على الصخرة أول مرة! ألا أن العين إذا توهمت فاللمس لا وهم فيه كما قال شكسبير على لسان ماكبث وهو يتلمس الخنجر ... كلا، فإني في وعي ويقظة بشهادة الحواس كلها، وهذه الألوف المؤلفة من الذباب المزدحم المحتشد عند أطراف الخيوط السفلى، حقيقة واقعة لا شك فيها، وهذه الشبكة التي تملأ أرجاء الفضاء حقيقة لا شك فيها، والعنكبوت الرابض في قمة السماء ناشرا أطرافه المخيفة حقيقة لا شك فيها ...
لكن الألوف المتزاحمة من الذباب ساعية إلى الصعود، ولما كانت الزحمة شديدة كثيفة، كان يستحيل على ذبابة أن تمسك بأول الخيط - إن كان طرفه مرفوعا عن الأرض لا يمسها - إلا إذا صعدت على أكداس من الذباب الساقط، فانظر نحو أطراف الخيوط السفلى تجد عجبا، إنه قتال لا ينقضي بين الذباب، والذبابة الظافرة هي التي عرفت كيف تصرع كذا مائة أو كذا ألفا من الزميلات، لتتخذ من أجسادها سلما ترتفع به إلى أول الخيط؟ فلو قد أمسكت بطرف الخيط، زالت من أمامها أعقد الحوائل وأعسر العقبات، ولا يبقى بعد ذلك إلا ذبابات قليلات يعترضنها في بعض الطريق ...
إنه طريق إلى العنكبوت الرابض هنالك في قمة السماء، يلتهم ما تتناوله أطرافه الممتدة من الذباب الصاعد، لكن الطريق قد زين في أعين الذباب حتى بدا لها كأنه طريق المجد الذي لا طريق إلى مجد سواه.
أمعنت النظر في المعركة الدائرة بين الذباب عند أطراف الخيوط السفلى، فأخذني دوار خفيف حين امتلأت أذني بطنينها الممل القبيح، فأغمضت عيني بكفي وأدرت رأسي إلى أعلى حتى يخف هذا الطنين البشع القبيح، فارتسمت أمام عقلي صورة واضحة، أجهدت نفسي بعدئذ لعلني أتذكر أين رأيتها، حتى أدركت أنها صورة رسمها شاعر في قصيدة كنت قرأتها منذ حين بعيد.
هي صورة امرأة تعيش في كهف صخري معزولة عن الناس، فكانت تشعل لنفسها نارا وتجلس أمامها مستدفئة وهي تغزل غزلها الرفيع الدقيق الذي يشبه خيوط العنكبوت، إنها امرأة عجيبة ولعلها أن تكون ساحرة لأن لها وجه الفتاة الشابة وشعر العجوز الأشيب، وذات مساء طرق بابها زائر غريب، فحيته بابتسامة ومضت في غزلها، وراحت تغني وهي تغزل، فيلمع الخيط في وهج النار كأنه سلك الذهب، ولولا لمعة الضوء على الخيط لما رأته عينا بشر لأنه رفيع دقيق يشبه خيوط العنكبوت، وجلس الشاب الغريب يرقب الخيط، ورأت فيه المرأة الساحرة نظرة المتعجب المشدوه، فطلبت إليه أن يلفه حول يديه قائلة إنه خيط ضئيل دقيق رفيع، لكنه قوي شديد، وشخصت المرأة بعينيها الزرقاوين البراقتين إلى الشاب الغريب وابتسمت له ابتسامة رقيقة لم يلحظ فيها شرا، وتناول الخيط منها وأخذ يلفه حول يديه، ثم ضحكت المرأة الساحرة ضحكة شيطانية فزع لها الشاب الغريب، وحاول أن يفك الخيط عن يديه، لكن هيهات؛ لأن الخيط قد نسجته يدان سحريتان ... وعندئذ قامت المرأة فانتزعت من الشاب خصلة من شعره الفاحم، وقذفت بها في النار، وصاحت والشعر يحترق:
أختاه! أختاه! اسمعي صيحتي!
أختاه! أختاه! تعالي واشمتي!
अज्ञात पृष्ठ