قلت: نعم، هذا هو الإنسان وهذه هي طبيعته، يشتد به الضيق فيشق ثيابه ويمزقها، ويضرب رأسه في الجدار ليتورم، بل قد يزهق نفسه بيديه ... لقد ضاقت «ليز» نفسا حتى طردت حبيبها من الدار، وأغلقت الباب على إصبعها عامدة، ثم أخرجت إصبعها وهو ينز بالدم من أسفل الظفر، فراحت تتأوه من الألم وتفرح في دخيلة نفسها أن أوقعت بنفسها ذلك الألم ... إنه الإنسان وطبيعته، يضيق نفسا فينزل الأذى بالناس وبنفسه.
هنا قام صديقي وأنار مصباحه - وكان الظلام قد اشتد سواده - وعاد إلى مكانه منبسط الجبين، كأنما اطمأن على نفسه من شذوذ ظنه بها، وقال: لو لم تكن «ليز» مريضة لما أحدثت شرا ولا اقترفت إثما، فماذا أنت قائل فيمن نزل بهم المرض مضافا إليه عري وجوع وتشريد؟
الكوميديا الأرضية
يحكى أن شاعرا كان اسمه «دانتي»، عاش في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قد كتب قصيدة طويلة عظيمة أسماها له الناس من بعده «الكوميديا الإلهية»، طاف فيها بصحبة أستاذ له قديم من الشعراء الأولين، هو «فرجيل»، طاف بالجحيم فوصف من شهده فيها من الآثمين، وما شهده منصبا عليهم هناك من عذاب أليم.
ثم شاء الله - ولا راد لمشيئة الله إذا شاء - أن يبعث «دانتي» حيا شاعرا كما كان، وأن يبعث معه «فرجيل» دليلا هاديا كما كان أيضا، وعادت لدانتي شهوته القديمة في وصف الأهوال، فكان أن زار بلدا يقال عنه إنه بلد العجائب، حتى إذا ما رجع إلى بلاده عمد توا إلى ما كان قد كتبه في حياته الأولى، وأدخل عليه تغييرا وتحويرا يناسب العصر الحديث، مستفيدا بما علمته التجربة في بلد العجائب، وإدراكا منه بأن الشاعر الحق لا مندوحة له عن مسايرة الزمن، لكنه هذه المرة أطلق العنان بنفسه على قصيدته، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة، كما قد فعل أول مرة، ثم اختار عبارة «الكوميديا الأرضية» عنوانا لقصيدته الجديدة.
وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم في «الكوميديا الأرضية» كما كتبها الشاعر القديم الحديث.
يقص علينا «دانتي» كيف سار في صحبة دليله «فرجيل» حتى بلغا باب الجحيم الأرضي، فقرأ على قمة الباب هذه الأسطر الآتية مكتوبة بماء الذهب: «ادخلوا إلى مدينة الأحزان، ادخلوا إلى أرض العذاب، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل إلى أبد الآبدين، فيأيها الداخلون انفضوا عن أنفسكم - عند مدخلي - كل رجاء.»
ويدخل الرجلان فإذا بالجحيم هوة سحيقة في هيئة واد طويل مديد، رأسه عند مركز الأرض وقدمه على حافة البحر، وجوانبه مدرجة درجات عراضا، وعلى هذا الدرج حشر الآثمون، ولا يكاد الشاعران يدخلان أبواب الجحيم حتى يبلغا نهرا يسمى بنهر الأسف والأسى، وعلى شطه ألفيا نفرا يريد العبور إلى الشاطئ الآخر، وكان العبور تحت إشراف حارس فظيع بشع يجذب الناس جذبا قاسيا عنيفا، وعيناه تدوران في رأسه كأنهما حلقتان من نار، فلا يحتمل دانتي هذا المشهد الرهيب، ويسقط في إغماءة لا يفيق منها إلا على صوت رعد يقصف قصفا شديدا، وعندئذ يعلم أنه وزميله قد عبرا نهر الأسف والأسى، حيث انتهى بهما العبور إلى أولى حلقات الجحيم، وها هنا وجدا عبدة المبادئ الذين أنهكوا قواهم وأضاعوا حيواتهم في سبيل مبادئهم؛ ولذلك فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس، وأخذت تلدغهم الزنابير في وجوههم وأعناقهم، فيصيحون من الألم، ولا يعرفون إلى الطمأنينة والراحة سبيلا. ويجتاز الشاعران هذه المرحلة ليجدا أمامهما فريقا من الآثمين المجرمين، وهو فريق أولئك الذين شغلتهم في الدنيا عقولهم عن إشباع شهوات أجسادهم، وإذا بهؤلاء قد عصفت بهم ريح شديدة فأخذتهم الراجفة كأنهم الكراكي في العاصفة، وهنا يقول دانتي: «ها هنا بدأت أسمع صيحات الحزن والأسى، فها هنا قد أتيت إلى حيث الأنات الشاكيات، تقرع أذني فتؤذيها، إذ ها هنا قد أتيت إلى مكان خفت فيه الضوء وزمجرت رياح عواصف، كأنه البحر مزقته العاصفة برياحها الهوج، وهبت في جنبات الجحيم رياح عاتية أخذت في سورة الغضب تسوق أمامها هؤلاء الآثمين سوقا فتدور بأجسادهم حتى الدوار، وتدفعهم دفعا عنيفا موجعا ... إلخ.»
وهنا سقط شاعرنا «دانتي» في إغماءة أخرى؛ لأنه رقيق الحس كسائر الشعراء، حتى إذا ما أفاق ألفى نفسه في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم، في هذه الحلقة الثالثة أعد العقاب لمن عف فلم يلحف في السؤال عن حقه لدى أصحاب السلطان، فشاهد الشاعران أولئك الخائبين الخاسرين وهم يتمرغون في حمأة من الطين تحت وابل من المطر والثلج والصقيع، بينما وقف صف من كلاب وحشية تنبح في وجوههم وتعوي وتمزق جلودهم تمزيقا بأنيابها ومخالبها.
وبعدئذ سار الشاعران إلى حيث الحلقة الرابعة من حلقات الجحيم، فوجدا جماعة كانت تشتغل بالإصلاح فتفسد على غيرهم نعاسهم وأحلامهم؛ ولذلك حقت عليهم اللعنة ونزل العقاب، فرآهم الزائران هناك يدحرجون جلاميد صخر عاتيات في اتجاهين متقابلين، ثم لا تلبث جلاميدهم أن يصدم بعضها بعضا ، ويعود كل جلمود كما كان أول أمره، فينفجر الأشقياء المجرمون بالغضب من كثرة ما نالهم من نصب وإعياء، ويلعن فريق منهم فريقا؛ لأن كل فريق يعتقد أن الفريق الثاني هو الذي أتلف عليه ما صنع.
अज्ञात पृष्ठ