وبالجملة فإن أول ظلمه أن يعتقد ظلمه عدلا أو شبيها بالعدل، حتى لا يتلوي عليه أمر نفسه إذا خذله ضميره؛ فإن اضطراب هذا الضمير يتصل اتصال الكهرباء بأيدي المجرمين، فإذا هو فيها شلل، وبأرجلهم فإذا هو زلل، وبنظامهم العصبي فإذا هو خلل، وبعقولهم فإذا هو المس والخبل، وإذا لم يفلح الجاني في إقناع ضميره أو التلبيس عليه، تخلص منه ففصل بينه وبين العقل بالسكر، وما هو في حكمه حتى لا يشهد من أمره شيئا.
أفلا تجد في تخدير أكثر المجرمين لضمائرهم ساعة الجناية دليلا على أن الضمير الذي يشهد الذنب إنما يتلقى العقاب عليه؟ ولماذا تدفع الجريمة إلى الجريمة غالبا؟ أليس ذلك لأنها إنما تقتضي عقابها الطبيعي؟
ثم ماذا يكون بعد أن يضرب الشقي تلك الحاسة الروحية التي نسميها الضمير ويرميها بالشلل؟ إنه ينحط درجة واحدة ، ولكنها درجة الضمير التي لو جازها الحيوان لصار إنسانا، ولو نزل عنها الإنسان لعاد حيوانا، فلا يبقى فيه من ثم إلا الفطرة الحيوانية التي تجعل عقل الحيوان مرة في القوة ومرة في الضعف، فإن أحس القوة على خصمه كان العقل في الظلم بكل ضروبه وأشكاله، وأبى هذا العقل الحيواني أن يترخص في شيء
17
هو من حقه بالقوة، وإن أحس من نفسه العجز والضعف ورأى أن لا قبل له بخصمه، فكفى باتقاء الظلم عقلا!
يابني، إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاء بطنه، ولكنه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره، فلا تحسبن أن مع جنون الضمير وجفوته ومرضه سعادة وراحة؛ لأن لذة المال لا تتجاوز الحواس الظاهرة، فهو يبتاع لها كل شيء مما تشتهي، ولكنه لا يستطيع أن ينيل القلب شيئا إلا إذا جاءه بالخير والفضيلة.
والغني الذي يمنع الفقراء ماله قد يزيد فيه ولو حكما بمقدار ما يمنع، بضعة دراهم أو بضعة دنانير، ولكنه يزيد ضميره جفاء بالقسوة والغلظة ونسيان الفضيلة، ولا يزال على ذلك حتى يمر به يوم يفقد فيه ضميره كل شعور بالخير، فيفقد معه كل شعور بلذة النفس التي هي أقرب المعاني إلى معنى السعادة.
ويومئذ لو اشترى كل لذات الدنيا بماله ما زادته إلا ألما من الضجر، وضجرا من الألم؛ لأنه فقد قوة من ضميره تقابل القوة التي يفقدها المريض من معدته.
فلينظر الفقير الجائع وقد أخذه كلب الجوع وسطع في عينيه وهجه، ودارت به معدته ذات اليمين وذات الشمال؛ إلى رجل غني ممعود
18
अज्ञात पृष्ठ