إذا أردتم أيها الناس أن تعرفوا ذلك، فإنكم تستطيعون أن تحققوه بدون أن تكونوا شرطة
14
أو قضاة أو أهل قانون أو رجال فلسفة، ولكن بأن تكونوا من ذوي الإنسانية فقط؛ فإن الإنسانية لا ترى في الأرض إلا الضمائر، وما هذه الأجسام إلا أدوات صناعية ركبت هذا التركيب لتصلح لحياة الضمير؛ فالرجل قد مضى بريء اليد، بريء القوة، بريء العقل، إذ هو لم يقتل، ولم يجن على القتيل، ولم يحتل لقتله؛ ولكن الإنسانية حين تنادي الضمائر بأوصافها فتقول: أيها الطيب، وأيها الكريم، وأيها الشقي، وأيها السافل، تصيح بضمير هذا الرجل قائلة: أيها القاتل!
إذا لم يقر الأغنياء لأنفسهم بالضمائر، ولم يلحقوا بها التبعات التي تناسبها، فهل هم في ذلك إلا كالمجانين لا تقر لهم الشرائع بالعقول، وتخليهم من تبعة ما يجنون على العقلاء لأنهم مجانين؟ وكيف ترى ذلك الغني الفظ الذي يهر في وجوه الفقراء ويزمجر عليهم كأنه ينبحهم بلغة من لغة الكلاب، ولا يفتأ يقذفهم بالألفاظ الجاسية المؤلمة كما يقذف المجنون بالحجارة، وإذا أعطاهم فإنما يعطيهم بقبضة فارغة، وهو لا يوقر أبدا إلا من فوقه، كأنه لا يرى في الدنيا كلها أسفل من نفسه، ولا يبالي إلا بمن يطمع فيه كأنه جالس في «مكتب أحد المخدمين»، وقد تساوى في الدناءة والكلف بالدنيا وقذارة الطباع ظاهره وباطنه ، كأن ضميره لبسه مقلوبا، وصار أمر رضاه وغضبه وإحساسه وحيائه موقوفا على ما يكون من أمر المعاملات، كأن أخلاقه ليست في نفسه، ولكنها في أيدي الناس؛ أفليس مثل الغني الدنيء رجلا عاقلا؟
بلى، وإنه لأعقل من كل من يمدحه ويزكيه، ولو كان هذا المثني عليه أكبر علماء الاقتصاد، ولكنه على ذلك مجنون الضمير بحيث لا يعقل إلا بحواسه!
ولو أنصفت القوانين لما لبست مثل هذه الحرية الإنسانية على رذيلها، ولجعلت من نصوصها القاطعة ما يكفح مثل هذا الغني
15
ويتلقاه بلجامه؛ لأنه في الحقيقة ليس رجلا ولكنه دابة اجتماعية! «قال الشيخ علي»: ومن بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلا من أصول نظامها في ضمير الإنسان، فترك له أن يقترف ما شاء من الإثم والمنكر، ولكنه جعله من الإحساس بطبيعة الخير والشر بحيث يكون له من الذنب نفسه العقاب على الذنب نفسه، حتى إن شر المجرمين ليستعين على مقارفة جرمه بإقناع الضمير بديا،
16
وأخذه بالحجة من هواه، فيخطر في نفسه ما ينزو بها كالشجاعة والنخوة، أو ما يتوهج بروح الغضب في دمه كالانتقام ونحوه، وما يطمئن له الضمير في معنى الجناية كمدافعة الضرر وما إليه!
अज्ञात पृष्ठ