ولم يكن عمه حسين غافلا تغيبه عن البيت كل يوم، بل إنه أيضا لم يغفل أن هذا التغيب لم يكن عبثا فقد كان يدري أن فرغلي ليس من الناس الذين يألفون ويؤلفون، فلم تكن عنده خلجة شك أن فرغلي كان يبحث عن العمل. وحين مرت فترة طويلة دون أن يصيب اليأس فرغلي أدرك حسين أنه لا بد له أن ينجز وعده، وقد كان يستطيع أن ينجزه منذ وعده به، ولكن زوجته أثنته عن ذلك رغبة منها أن يظل فرغلي خاليا لأعمال البيت، ولكنه بعد هذه الفترة. - هيه يا تفيدة ألا ترين أنه من الأفضل أن أجد أنا العمل لفرغلي؟ - ما تشوفه. - إننا بهذا سنجعله يشعر بالجميل ويظل عندنا بدلا من أن يجد عملا في مكان بعيد، ونفقده ولا نجد أحدا يساعدك مجانا في شغل البيت. - معقول، وخصوصا أنه لا يكلفنا شيئا فهو يتغدى دائما بالمدرسة. - على بركة الله.
كان لحسين أفندي أصدقاء كثيرون من كثرة ما مر به من أيام. وقد تكون هؤلاء الأصدقاء من شتى نواح في الحياة؛ بعضهم أمدته بهم الوظيفة، وبعضهم أمدته بهم القهوة، وبعضهم أمسك به المسجد.
وكان من بين أصدقاء المسجد الشيخ سمهان عبد الغني، وهو رجل يملك مكتبة دينية قريبة من الحرم الزينبي، وقد جمع التدين بين حسين أفندي وبين الشيخ سمهان فقامت بينهما صداقة وطيدة أقرب ما تكون إلى الأخوة، وحين وعد حسين أفندي بإيجاد وظيفة لفرغلي لم يكن يفكر إلا في الشيخ سمهان، وفعلا لم يخذل سمهان صديقه. - أين كنت يا سي فرغلي؟ - أتمشى في مصر يا عم حسين أفندي. - أما زهقت مشيا؟ - أرحم من البقاء محبوسا. - والمذاكرة. - ألا أنجح دائما. - فعلا. - لا تخف على المذاكرة فأنا مصمم على النجاح. - قل بإذن الله. - لا بد أن أنجح. - كله بأمره يا فرغلي. - أنا أذاكر تماما. - ولكن أخشى إذا اشتغلت بعد الظهر أن تضعف مذاكرتك. - لا يمكن، أنت تعرف أني لم أسقط مطلقا. - أخشى أن يشغلك العمل عن المذاكرة. - وأين هو العمل يا عم حسين أفندي؟ - موجود. - حقا. - حقا.
وانكب فرغلي على يد حسين أفندي يقبلها، وهم أن يقبل قدمه الحافية المسترخية على الكنبة، ولكن حسين أفندي سارع واحتضنه وأجلسه إلى جانبه. - أستغفر الله يا بني. ألهذه الدرجة كنت تريد عملا؟ - وهل كان خروجي ولفي في الشوارع إلا من أجل هذا؟ - خلاص يا عم؛ من هنا ورايح لن تحتاج إلى لف ولا دوران. - ربنا يطيل عمرك. - أتعرف المكتبة الإسلامية؟ - طبعا في جوار جامع السيدة. - صاحبها صديقي. •••
حين ذهب فرغلي للقاء الشيخ سمهان رأى فيه رجلا رقيق الجسم رقيق القسمات ذا لحية متناثرة الشعر ذات عثنون مدبب، يلف على طاقيته عمامة لها «عدبة» تنسدل على قفاه، في وجهه صدق، وفي سمته طمأنينة، وفي عينيه هدوء وثقة. ورأى سمهان في وجه فرغلي شابا قاسي القسمات في وجهه تصميم، وفي عينيه إيمان بشيء لا يدريه الشيخ، ولا يعرف كنهه، وأحس الشيخ سمهان أن هذا الفتى يعرف ما يريد، ولكنه لا يعرف الطريق إليه، وأحس أنه يريد أن يعمل معه لأن الفترة التي يمر بها لا تتيح له إلا أن يعمل هذا العمل البسيط، وفي نورانية المؤمنين أحس سمهان أن هذا الفتى النحيف المنفتل كأنه ثوب اعتصرته يد الزمن يريد أن يخرق الأرض بعوده الملولب، ويريد أن يبلغ الجبال طولا بتلك العزيمة الصلبة المتمثلة في فمه المتشنج، وفي ذقنه المتحدية، وفي أنفه الذي يثب إلى المستقبل كأنما يريد أن يسبق الحياة والزمان.
أحس سمهان من الفتى رهبة، ولكنه لم يجد ما يمنعه أن يلحقه بالعمل؛ فقد تأكد لديه أن كل ما تراءى له فيه سيجعل منه عاملا نشيطا، وبحسبه منه في فترته تلك أن يكون عاملا نشيطا. أما ما توحي به مكوناته الأخرى فشأنها به والزمان ولتكن الحرب بينهما ما شاء الله لها أن تكون، فقد كان الشيخ سمهان يتوقع أن رحى هذه الحرب لن تدور إلا بعد أن يتركه الفتى بأيام وشهور وربما بسنين.
وتسلم فرغلي عمله.
7
هل المكتبة كتب
عالم آخر انفتح أمام فرغلي. ازداد إحساسه بالغربة في هذا الدكان، ارتصت على جوانبه كتب لم يتصور أنها تستطيع أن تخلق هذا الجو العجيب من الأسرار، ليس بين هذه الكتب كتاب واحد قرأه، وما أقل الكتب التي سمع عنها بينها! لقد دخل مكتبات قبل هذا مرات قليلة فما كان يلتفت إلى أمر هذه الكتب إنما هي لحظات يسأل فيها عن الكتاب الذي جاء من أجله ثم ينصرف، ولكنه اليوم يعيش بين هذه الكتب ساعات طويلة، وقد انفردت به وانفرد بها، ولم يخطر له على بال أن يمسك كتابا ليقرأ فيه، وإنما قصارى ما فعله مع بعضها إطلالة عاجلة يقلب فيها الصفحات عشرات عشرات دون ريث من قراءة أو تمهل من تدبر. وقد استغرق أياما كثيرة حتى عرف أماكن الكتب التي يكثر شراؤها ليستطيع أن يبيع إذا ما غاب الحاج سمهان عن المكتبة، وما كان يفعل ذلك إلا ليقيم صلاة العصر أو المغرب في مسجد السيدة زينب المجاور للمكتبة ويصلي العشاء بعد أن يقفل المكتبة. وهكذا لم يكن فرغلي محتاجا أن يعرف مواقع الكتب كلها. والحقيقة أن الحاج سمهان عينه لسبب كان خافيا عنه ولكنه عرفه بعد فترة قصيرة من بقائه في المكتبة.
अज्ञात पृष्ठ