كان للمكتبة غرفة داخلية لاحظ فرغلي أن الحاج سمهان يستقبل فيها أغلب الأيام بعد صلاة المغرب فتى في شباب العمر طويل القامة عريض الكتفين كث اللحية يرتدي الملابس الإفرنجية، عرف فرغلي أن اسمه أمين ثم عرف أن اسمه أمين الشبراوي، وكان دائما يأتي بعد صلاة المغرب بفترة قصيرة وما هي إلا مصافحة سريعة ثم يدلف سمهان وصديقه إلى الغرفة الداخلية.
ومع الأيام تأكد فرغلي أن تعيينه كان من أجل هذا اللقاء وحده؛ حتى لا يظن أحد أن المكتبة خالية إذا قصدها في فترة هذا اللقاء الذي لم يكن فرغلي يعرف من أسراره شيئا. وليس فرغلي بالذي يعنى في كثير أو قليل بالسبب الذي عين من أجله. وحسبه أنه وجد هذا المكان الذي لم يكن يطمع أن يجد خيرا منه.
وهكذا حرص فرغلي ألا تقوم بينه وبين أحد من زملائه صداقة فهو يرى أن الصداقة صلة مقيتة تجعل الصديق يتسلل إلى خفايا صديقه فيعرف من أبوه ومن أمه، أين ولد، وأين ربي، ومقدار فقره، وهذه كلها أشياء لا يحب فرغلي أن يعرفها عنه أحد، وهو أيضا لا يحب أن يعرفها عن أحد لأن النفس بطبيعتها تميل إلى المقارنة. فإذا عرف أصدقاء أصبح حتما عليه أن يقارن بينهم وبينه، وهو يجزع من هذه المقارنة لأنه دائما سيجد نفسه الخاسر فيها. وأين يجد فتى أمه راقصة موالد وأبوه عامل، وهو يقيم عند عمته شكله ابن أخ وحقيقته خادم بلا أجر ولا يمس القرش يده إلا عن طريق عمل إضافي عند رجل يستأجره ليكون ساترا للعيون. المقارنة قاتلة بالنسبة إليه فهو لا يريد أصدقاء، وقد نجح فرغلي أن يقتل كل صداقة تحاول أن تمد خيوطها بينه وبين غيره من الزملاء، ولكن نجاحه لم يكن كاملا؛ فالصداقة إن كانت اتفاقا غير مكتوب في أغلب أمرها إلا أنها كثيرا ما تفرض فرضا على أحد طرفيها حتى لا يستطيع منها فكاكا أو عنها منصرفا.
من هذه الصداقات ما تقوم عمدها على القرابة، وهذه الصداقة قبلها فرغلي غير ساخط وغير راض في وقت معا. فابنا عمته كثيرا ما كانا يزوران البيت، فكان لا بد أن يسلما عليه، وقد كان يقبل التحية منهما في امتعاض شديد لا يستطيع أن يبديه؛ فقد كان يحس في الكلمات القليلة التي يلقيها إليه كل منهما الكثير من المعاني تتخفى في خبث مقيت مسموم في نغمة الكلام، كان يحس أنهما لم ينسيا شأن أمه، وكان يحس أنهما يحسان أن أباهما ينفق عليه لوجه الله، ولو عرف أبناء الكلب هؤلاء أنني لا أكلف أباهما شيئا لما غير هذا من لهجتهما المتعالية السمجة؛ فقد كان يطيب لهما أن يكون فرغلي في مكان المفضول ويكون أبوهما في مكان المفضل، وأبناء الكلب لا يحبان أباهما ولا يحبان أمهما؛ فقد يمر الشهر وأكثر من الشهر، ولا يزور أحدهما بيت أبويه، ولكنهما مع ذلك كانا يحبان أن يستمتعا بهذا الشعور.
أكانت صداقة تلك التي تصل بين فرغلي من ناحية وبين ابن عمته الطبيب ممدوح أو ابن عمته الآخر المهندس يحيى؟ هو لا يجد لها اسما إنها قرابة مفروضة لا قبل له بالتخلي عنها، وفارق السن بينهما لا يسمح بصداقة حميمة، ولكن فرغلي مع ذلك كان يحس بصلة قوية تربطه بهما. أيمكن أن تكون الكراهية الشديدة صلة أم تراه الحقد أم تراه السخط على نفسه وعلى الحياة أن جعلته مضطرا أن يقبل تحية هذين الحقيرين اللذين يظنان أن الحياة خلت من أمثالهما نبوغا وعبقرية؟ أم تراه حين ينفذ إلى دخيلة كل منهما، ويرى صورته هناك يراها صورة زرية تحيط بها هالة العار من أمه والفقر من أبيه والذل من مكانه في بيت أبيهما؟ هل هذه الصلة القوية هي واحدة من هذه المشاعر أم هي هذه المشاعر جميعا؟ ليس يدري وليس يريد أن يدري. هي صلة ولكنها ليست صداقة، أما الصداقة التي فرضت عليه وقبلها مضطرا، وأظهر أنه قبلها راغبا فهي تلك التي قامت بينه وبين نديم الطوبجي.
هو زميله في الفصل وفي الدرج، ولم يكن هذان وحدهما يكفيان أن تقوم الصداقة هي زمالة. وهو قد درب نفسه على الصمت الطويل وهو يصغي للمدرس إذا تكلم لأنه يعلم أن الكلمة إذا عبرت ولم يسمعها فهو لن يسمعها مرة أخرى. ومن أين؟ هو لا يستطيع أن يستقدم مدرسا خاصا وهو أيضا لا يستطيع أن يسقط، وهكذا فرض الصمت التام على نديم أثناء الدراسة حتى لأوشك نديم أن يضيق به ذرعا لولا أن شهاداته في النجاح كانت تجيء في صورة ترغم على احترام هذا الصمت.
وهكذا استطاع الصمت الذي لا غنى عنه لفرغلي أن يعفيه من صداقة زميله اللصيق له في المكتب، وهكذا كان يمكن أن تظل هذه الصلة زمالة لا تعدوها إلى الصداقة، ولكن الأيام شاءت غير هذا، فقد فوجئ فرغلي وهو جالس في المكتبة بنديم قادما إليه مقتحما المكتبة اقتحام الباحث عن شيء، وحين رأى فرغلي جالسا غير واقف فوجئ مرتين ... مرة لوجود فرغلي في المكتبة ومرة لجلوسه. - فرغلي؟! - نديم؟! - ماذا تفعل هنا؟ - لا شيء، ماذا تفعل أنت؟ - أريد كتابا. - أنت؟ - نعم. - لك؟ - لأبي. - أي كتاب تريد؟ - شرح البيضاوي. - أحضره لك. - إذن فأنت ... - أنا أعمل هنا بعد الظهر. - صحيح؟! - وما الغرابة؟ - لم تقل لي. - لم تأت مناسبة. - ومن أين تأتي المناسبة؟! لقد فرضت علي الصمت في الفصل، وأنت في الفسحة تذاكر. - إذا سمحت لك بالكلام ما نجحت. - والفسحة؟! - أنا أعمل بعد الظهر ولا بد لي أن أستغل كل دقيقة لأذاكر. - ولكنك تذاكر هنا كما أرى. - المذاكرة هنا غير مضمونة. - ولكن الدنيا بالنسبة لك كلها عمل! هذا غير معقول. - وما هو المعقول؟ - ساعة لربك وساعة ... - هذا تقسيم يعرفه الأغنياء أمثالك، أنا كل ساعاتي لعملي. - ألا تصلي؟ - ولماذا أصلي؟ - وقعتك سوداء! - أنا ليس من حقي هذا الدلع. - هل العبادة دلع؟ - كل لحظة تصرف دون مكسب دلع. - حتى عبادة الله؟! - خصوصا عبادة الله. - إنها تأتي بمكاسب كما تعلم. - مكاسب موهومة، وعود لم يثبت أحد أنه حصل عليها. - لكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير رب. - لقد عاش أقوام كثيرون بغير رب. - أين هؤلاء؟ - قبل الرسالات. - كانت لهم أربابهم صنعوها بأيديهم. - أمثال هؤلاء يصلحون ليكونوا قدوة؟ - وجاءت الرسالات. - وأنا ما شأني؟ أنا لم أر من هذه الرسالات شيئا. - ألم تر القرآن؟ - كلام. - يخرب بيتك! إنه كلام لا يمكن أن يقوله بشر. - وأنا ما شأني به؟ - لمن تلجأ إذا ضاقت بك الحياة؟ - أنا لم أر من الحياة إلا ضيقا، ولم أعرف لنفسي ملجأ إلا نفسي. - أبوك؟ - هو في حاله وأنا في حالي. - وأين تقيم؟ وكيف تدفع أجر بيتك؟ - أقيم عند عمتي. - إذن فهي ملجأ. - إن أحدا لا يقدم الخير مجانا أبدا، تعلم هذا، مهما يكن غناك وغنى أبيك تعلم أن أحدا لا يقدم الخير مجانا أبدا. - وهل تقاضيك عمتك مالا على إقامتك؟ - تقاضيني. - مالا؟ - بل شرا من المال؛ أنا الذي أشتري حاجات البيت، وأنا الذي أنظفه في أيام الإجازات، أنا أدفع أجر إقامتي مهانة وذلا وانكسارا. - أول مرة تفتح لي قلبك. - لقد رأيتني أعمل فكان لا بد لك أن تعرف الباقي. - لنا زملاء كثيرون يعملون. - نديم اسمع ... اسمع ولا تسألني تفصيلا في كل زملائك ... كلهم ... ليس هناك من هو أتعس مني. - أنت طفل! كنت أحسبك رجلا. - أنت دلوعة، كل شيء يفسر لك ولا تعرف أحوال الآخرين. - ولا أنت تعرف أحوال الآخرين، وما كان لك أن تحكم قبل أن تعلم. ربما كان في فصلنا نفسه من هو شر منك حالا. - محال. - لا يستطيع إنسان أن يعيش بهذا السواد جميعه في قلبه. - ومن قال لك إنه كله سواد؟ - كلامك. - لقد كلمتك عن حالي ولم أكلمك عن آمالي. - لك آمال؟ - أضخم بكثير من سوء حالي. - وبها تعيش. - ولها أعيش. - وهل تعيش؟ - كل لحظة من حياتي. - ليست هكذا العيشة. - لمثلي لا تكون إلا هكذا. - ألا تذهب إلى السينما؟ - جربتها. - كم مرة؟ - مرتان. - ألم تضحك أبدا؟ - من همي. - لو عرفت الله لانفتح قلبك للسعادة. - يا عم أنا مالي وماله أنا لست قده. - فأنت تعرف قوته. - قدر ما أعرف قوة آمالي. - فرغلي، لقد أصبحت أخاف منك. - لك حق. - أعوذ بالله! أنت نار. - لم تر منها إلا جذوة أو قبسا. - قد تحرق نفسك. - أو قد أحرق الآخرين. - أخاف أن أكون أول من تحرق. - ولماذا أنت؟ - لأنه يخيل إلي أنني أنا أول من عرفت أسرارك. - أنت لم تعرف عنها شيئا. - أنا مصمم على أن أغيرك. - وأنا مصمم على أن أغيرك. - ولماذا تغيرني؟ - لتصبح صلبا، قد تكون غنيا ولكن الغنى وحده لن يكفيك في الحياة، لا بد أن تكون في قوة الصراع الذي ستواجهك به الدنيا. - لماذا هي صراع في عينيك؟ لماذا لا تكون حبا ومتعة وسعادة ورضا وهناء؟ - لأنها ليست كذلك. - ألم تعرف النساء أبدا؟ - حين نزلت إلى القاهرة اشتريت. - كم مرة؟ - لا أذكر. - إذن فأكثر من مرة ومرتين وثلاث. - ربما؛ ولكن الفلوس لم تجعلني أذهب كثيرا. - ألم تجلس مع امرأة أبدا؟ - ولماذا أجلس؟ أنا أدفع وأمشي. - ألم تعرف لذة حديث بينك وبين فتاة؟ ألم تعرف الحب؟ - فما هذا الذي كنت أفعله؟ - يا بني آدم أنا أتكلم عن الحب. - وعنه أتكلم أنا أيضا. - اسمع لا فائدة. في أي يوم إجازتك. - يوم الأحد. - عجيبة! - وأي عجيبة؟! - كان المفروض أن تكون الجمعة. - يوم الجمعة يكثر هنا الزبائن. - يوم الأحد القادم لا ترتبط. - ماذا تعني؟ - سأريك جانبا آخر من جوانب الحياة. - ومن قال لك إني أريد أن أرى لها جانبا آخر. - وماذا تخسر؟ - وقتي. - لن تخسره. - وهو كذلك. - أين البيضاوي؟ - لحظة.
وقبل أن يحضر فرغلي الكتاب خرج الحاج سمهان، ومعه صديقه وقدم فرغلي نديما إلى الحاج سمهان فوجده يعرف والده ويحمله له السلام، وينصرف نديم، ويلتفت سمهان إلى فرغلي: تستطيع أن تذهب مع صديقك فسأظل أنا في المكتبة حتى موعد عودتي. وينصرف فرغلي ولكن لا يحاول اللحاق بنديم فقد أراد أن يعود إلى نفسه يسائلها؛ لماذا قالت كل هذا الذي قالته لنديم؟ عجيبة هذه النفس! لماذا تتكلم على الرغم من صاحبها وعلى الرغم من أنه عودها أن تكون صوتا كتوما لا تلين؟ ولكن الأعجب أنه لم يشعر بتعاسة لأنه قال ما قال، بل لقد أحس لذة عجيبة لم يحسها قبل اليوم؛ فالقول في ذاته لذة لم يكن فرغلي يعرفها، ولكنه في حزم يرد نفسه، لقد قلت مرة فليس هناك ما يدعو أن تقولي دائما؛ لا بد أن نختار المكان والزمان والشخص الذي نقول له. وقد كان يعلم أن نفسه تخشاه ولا تجرؤ أن تعصي له أمرا. •••
كان نديم وفرغلي في تلك السن الخضراء التي لم تشب إلى النضج، ولا تقف عند الفجاجة؛ تلك الميعة من العمر في تلك الملاوة من فترات الحياة التي تختلط فيها الأحلام الوردية الشفيقة بالجنس المستنسر الكاسر، فالهوى يتخلل بهم ناي الطبيعة لتصدر عنه هذه النغمات المتكسرة، كعيون العذارى الحالمة، كأوهام تلوح من عالم مجهول فيها الجمال، وفيها الدعوة وفيها الاستدعاء وفيها الخوف الذي تبثه شخوص تكونت من دخان أو سحاب، أو سعت تحت عباءة فضفاضة من نسيج فيه الشفافية والاعتمام، وفيها الإبهار والإغراب.
ولو كان فرغلي شأنه شأن غيره من الشباب لاستمتع بتلك الفترة من حياة الشباب كما يستمتع بها نديم، ولكن نفسه أعتمت منذ طالعته الحياة بحجرة مغلقة إن فتحت فإلى بيت يغلق حتى إذا فتحت الأبواب تقاذفته الحياة، وراحت تمخضه وتصفعه بعار أمه أو تدكه وتسفعه بفقر أبيه.
अज्ञात पृष्ठ