ونهرتها أمها، فنقلت عينيها بينهما في حيرة، وقال هو: نموت إذا أراد الله لنا الموت. - ولم يريد الله أن نموت؟ - هو حر، يفعل ما يشاء. - والموت حلو؟ - كلا يا عزيزتي. - ولم يريد الله شيئا غير حلو؟ - هو حلو ما دام الله يريده لنا. - ولكنك قلت إنه غير حلو. - أخطأت يا حبيبتي . - ولم زعلت ماما لما قلت إنك تموت؟! - لأن الله لم يرد ذلك بعد. - ولم يريده يا بابا؟ - هو يأتي بنا إلى هنا، ثم يذهب بنا. - لم يا بابا؟ - لنعمل أشياء جميلة هنا قبل أن نذهب. - ولم لا نبقى؟ - لا تتسع الدنيا للناس إذا بقوا. - ونترك الأشياء الجميلة؟ - سنذهب إلى أشياء أجمل منها. - أين؟ - فوق. - عند الله؟ - نعم. - ونراه؟ - نعم. - وهل هذا حلو؟ - طبعا. - إذن، يجب أن نذهب؟ - ولكننا لم نفعل أشياء جميلة بعد. - وجدي فعل؟ - نعم. - ماذا فعل؟ - بنى بيتا وزرع حديقة. - وتوتو ابن خالي، ماذا فعل؟
وتجهم وجهه لحظة، واسترق إلى الأم نظرة مشفقة، ثم قال: هو أيضا بنى بيتا صغيرا قبل أن يذهب. - لكن لولو جارنا يضربني، ولا يفعل شيئا جميلا. - ولد شقي. - ولكنه لن يموت! - إلا إذا أراد الله. - رغم أنه لا يفعل أشياء جميلة؟ - الكل يموت، فمن يفعل أشياء جميلة يذهب إلى الله، ومن يفعل أشياء قبيحة يذهب إلى النار.
وتنهدت ثم صمتت، فشعر بمدى ما حل به من إرهاق، ولم يدر كم أصاب ولا كم أخطأ، وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة في أعماقه، ولكن الصغيرة ما لبثت أن هتفت: أريد أن أبقى دائما مع نادية.
فنظر إليها مستطلعا، فقالت: حتى في درس الدين!
وضحك ضحكة عالية، وضحكت أمها أيضا، وقال وهو يتثاءب: لم أتصور أنه من الممكن مناقشة هذه الأسئلة على ذاك المستوى!
فقالت المرأة: ستكبر البنت يوما، فتستطيع أن تدلي لها بما عندك من حقائق!
والتفت نحوها بحدة ليرى مدى ما ينطوي عليه قولها من صدق أو سخرية، فوجد أنها قد انهمكت مرة أخرى في التطريز.
فردوس
كل شيء يتحرك بلا ضابط، والجدران على الجانبين تتموج. لا غرابة في ذلك، ولكن الغريب حقا هو تهافت الأضواء التي كاد يبتلعها الظلام، وأغرب من كل شيء ذلك الصمت - أو ما يشبه الصمت - كأن النوم يلف الطريق، إما أن الذاكرة خداعة كاذبة تختلق ما لا أصل له، وإما أن الدنيا تتغير بقوة لا ترحم الذكريات. على ذاك لم يخطر له التراجع على بال، ولم يفتر حنينه؛ حنينه إلى فترة من العمر ذهبت إلى غير عودة، ولعن من الأعماق إحساسا ملحا لم يعن بتسميته، ولكن أليس التغير أفدح مما تصور؟! ما معنى وقوف سيارات النقل هنا وهناك؟ أين المقاهي الكثيرة والحانات؟ وعلى أي ضوء تخطر النساء بحليهن الزائفة وملابسهن المتهتكة؟ تكلم يا طريق السرور والحزن، لا تقف متجهما كأنك لا تعرفني، ها هي البواكي على الجانبين، ولكنها لا تنطوي على ضوء يذكر، ولا منظر، ولا صوت! ماذا جرى؟ وها هو السلم الصاعد إلى الدرب، ولكن أين العسكري؟ ولا حنجرة تغني ولا وتر يعزف ولا شتمة واحدة، والصيدلي العجوز السيئ السمعة ودكان كل شيء لزوم الشيء أين؟ لا نكتة، لا صرخة، لا معركة ولا تهديد بمعركة، لا قدم تزل ولا استغاثة، لا سحنة غريبة ولا أحد يقيء، لا أحد يرقص ولا أحد يحاول الانتحار، لا خلاف على الحساب، ولا نشال ولا نصاب ولا قواد، لا عصا ارتفعت ولا كرسي طار في الهواء، لا يوجد إلا سيارات النقل والحوانيت المغلقة، والظلام الشامل وبضعة فوانيس متباعدة.
عند مطلع الدرب، رأى قهوة صغيرة فتحول نحوها كالمندفع، لعلها النقطة الوحيدة التي يلتقي عندها الماضي والحاضر. جلس في نفس المكان، ربما على نفس المقعد، ولكن واضح أن صبي القهوة وجه جديد، وكذلك المعلم صاحبها، لم ير من مجلسه شيئا يستحق الذكر، وثمة شيء غامض في الجو كالنذير، وقال للصبي الذي مثل بين يديه: أين أهل الحي؟
अज्ञात पृष्ठ