كلمة غير مفهومة‏

الصدى‏

الخلاء‏

البارمان‏

المتهم‏

السكران يغني‏

جنة الأطفال‏

فردوس‏

الرجل السعيد‏

معجزة‏

المجنونة‏

خمارة القط الأسود‏

زيارة‏

حلم‏

رحلة‏

المسطول والقنبلة‏

صورة‏

صوت مزعج‏

شهرزاد‏

كلمة غير مفهومة‏

الصدى‏

الخلاء‏

البارمان‏

المتهم‏

السكران يغني‏

جنة الأطفال‏

فردوس‏

الرجل السعيد‏

معجزة‏

المجنونة‏

خمارة القط الأسود‏

زيارة‏

حلم‏

رحلة‏

المسطول والقنبلة‏

صورة‏

صوت مزعج‏

شهرزاد‏

خمارة القط الأسود

خمارة القط الأسود

تأليف

نجيب محفوظ

كلمة غير مفهومة

تثاءب المعلم حندس طويلا، وهو يزيح الغطاء عن جسده، وجلس في الفراش معتمدا بذراعيه على ساقيه، متقوسا تحت وطأة غم لاحت آياته في وجهه الممتلئ العريض، ورأى زوجته واقفة وسط الحجرة، وهي تجمع شعرها المشعث تحت منديلها البني، فقال بنبرة ناعسة: حلم غريب!

التفتت نحوه باهتمام قائلة: خيرا إن شاء الله. - طول الليل مع حسونة الطرابيشي.

تجلت في عيني المرأة نظرة فارغة من كل معنى، فراقبها بعيني صقر تطلان من سحنة أطبقت على أديمها آثار طعنات وجراح قديمة، ثم قال: حسونة الطرابيشي! .. أنسيت الرجل الذي طمع يوما في الفتونة؟

ندت عنها آهة وتمتمت: نعم .. يا له من عمر! - حوالي خمسة عشر عاما. - وماذا رأيت؟ - رأيته كما رأيته آخر ليلة في الخيامية، صريعا تحت قدمي، والدم يغطي فاه وذقنه وأعلى جلبابه! - أعوذ بالله. - وردد آخر كلماته: «سأقتلك يا حندس وأنا في القبر.» - أعوذ بالله. - رأيتني بعد ذلك أجالسه في مكان غير محدد المعالم، وكنا نضحك عاليا كما كنا نفعل قبل أن تفرق بيننا البغضاء، وقال لي معاتبا: أنت قتلتني. فقلت له: وأنت توعدتني بالانتقام. فضحك طويلا ثم قال: انس كل شيء، أنا نسيت، وأمس زرت ابني وقلت له: لا تفكر إلا في الحياة ودع الموت والأموات للخالق. وجعلنا نضحك حتى استيقظت.

تجمدت ملامح المرأة، وغشيتها سحابة مظلمة من الذكريات، فقال حندس بصدر منقبض: أنت خائفة؟! - أبدا، ولكني أتساءل عن تفسير للحلم. - المهم أنه ذكرني بأشياء نسيتها.

سألته عن «الأشياء» بهزة من رأسها، وهي غارقة في التفسير، فقال: ذكرني بما قيل يوم دفن حسونة من أن زوجته رفعت طفله فوق القبر، ونذرت إن عاش الطفل أن يكون مقتلي على يديه. - ولكن زوجة حسونة اختفت منذ دفنه. - نعم، ولعل طفلها اليوم في عز الشباب!

قالت ملتمسة الطمأنينة له ولنفسها: أنت سيد الحي، رجاله رجالك، وربنا الحافظ.

فقال مقطبا: أنا لا أبالي بعدو ما دمت أعرفه، أما الذي لم أعرفه ولم أره ...!

جلست المرأة على كنبة واجمة، فقال: الحلم يفسر بعكس ظاهره، وهذا يعني أنه يحرض ابنه على الانتقام. - كيف وهو ميت من خمسة عشر عاما؟ - كما خاطبني الليلة الماضية!

غالبت المرأة نكدها بابتسامة، وقالت: حينا معروف لا يختفي فيه غريب، وأنت سيده، والله هو الحافظ.

وغادر المعلم حندس منزله، يسير وسط هالة من الأتباع، ويتقدمه سائق الكرتة، ومال من درب الأعور إلى قهوة حلمبوحة، فجلس على الأريكة التي لا يمسها أحد غيره، وراح المعلم يروي حلمه لأتباعه، فضحك طمبورة باستهانة وقال: أي أم تحرض ابنها عليك يا معلم؟

ولكن سمكة كان أميل إلى الحذر، وهو يقول: حارتنا يقتل بعضها البعض مذ خلق الله الأرض وما عليها. - لكن أحدا لم يسمع عن ابن حسونة ولا أمه.

فقال القهوجي عنارة، وكان لحندس بمنزلة الأب: هذا يعني أنه يستطيع أن يوجد في أي وقت، وفي أي مكان!

وضحك المعلم حندس معلنا عن استهتاره، فقال طمبورة: نحن حولك كالجدار.

ولكن عنارة قال وهو يرمش بعينيه الدامعتين المرمودتين: الحلم له معنى، إنه يذكرك بما نسيت!

وذاع الحلم في الحي كله، وكثرت التأويلات، وتوثب الرجال للبطش، وجعل حندس يذهب ويجيء وكأنه لا يبالي شيئا. وذات مساء جاء القهوة الشيخ درديري، وهو مقرئ ضرير، يتعيش من التلاوة في المقاهي والغرز، وتروج سوقه في المواسم. صافح المعلم ثم تلا الصمدية، وقال وهو يتخذ مجلسه بين يديه: يا معلم، إن كنت تريد ابن حسونة، فأنا أعرفه!

سرعان ما تركزت فيه الأعين، وأحدق به الرجال، حاز في ثوان أهمية لم يحظ بعشر عشرها طيلة عمره البالغ الستين. وانتبه إليه حندس لأول مرة في حياته، وكأنما يكتشف عينيه الممطورتين وجبينه البارز كمشربية، وسأله: متى عرفته؟ - منذ عام أو أكثر. - كيف؟ - صدفة وأنا أتجول بين المقابر. - أين يقيم؟ - لا أدري، ولكني دعيت للقراءة في المدفن بالمجاورين في موسم، وهناك عرفته كما عرفت أمه. - ما اسمه؟ - لم يناد به على مسمع مني. - ولم تر وجهه طبعا! - ولكني أعرف صوته!

سأله بازدراء: متى زرت المدفن آخر مرة؟ - في عيد الفطر الماضي. - ماذا يقولان وهما في المدفن؟ - يستمعان للتلاوة أو يتبادلان حديثا لا يستحق الذكر. - ألم يجر الحديث مرة عن الميت؟ - لم أسمع.

نفخ قائلا: لم تقل شيئا يا أعمى!

ولكن عنارة قال بنبرة ذات مغزى: قال إنه يعرف المدفن.

ولما ذهب الشيخ درديري، قال طمبورة: نذهب في العيد الكبير، لنرى بأعيننا. - وبعد ذلك؟ - دعوا الباقي لي! - أنقتله من غير أن يثبت لنا سوء نيته؟ - إنه لن يزيد الميتين عدا، ولن ينقص الأحياء!

وفي موسم العيد، تفرق حندس وأعوانه في البقعة حول المدفن الذي دلهم عليه الشيخ درديري. وقد ذابوا في الزحام الذي ناءت به الأرض بمنجى من الريب، وظلت أعينهم تدور حول المدفن الذي تراءى وراء سوره المتهرئ قبر مكشوف ونخلة وحيدة، على حين قام بابه الخشبي في هزال منحوت القشرة، مزعزع المفاصل، خليقا بأن يقتلع لدى أول لطمة قوية من الهواء. ومر النهار كله دون أن يطرق الباب طارق، وكان الشيخ درديري يسترزق هنا وهناك، وكلما جاء المدفن وجده مغلقا فيمضي في تجواله، واقترب سمكة من الشيخ درديري، وهمس في أذنه: كذبت علينا يا أعمى.

فهتف الشيخ: والله ما كذبت على أحد.

فلكزه بكوعه قائلا: اسأل الترابي ثم عد إلينا.

غاب الشيخ قليلا، ثم عاد إليهم ليخبرهم بأن الترابي لا يعرف شيئا عما عاق الأسرة عن المجيء. - ألم تسأله عن مسكنه؟ - في باب الربع، ولكنه لا يعرف أكثر من ذلك.

وبعد وقفة قصيرة استطرد الشيخ قائلا: ومن عجب أن الرجل لا يعرف اسمه ولا عمله، وختم حديثه عنه بقوله: «حد الله بيني وبينه.» فلما سألته عما جعله يقول ذلك، دفعني قائلا: «توكل على الله!»

رجع الرجال إلى درب الأعور بوجوه متجهمة. وضح لهم أن الشاب غامض حقا، أو أنه يحيط نفسه بالأسرار، وأنه خطير يجب أن يحسب له حساب.

وتساءل طمبورة: إن يكن حقا كما يقال عنه، فما الذي أقعده حتى الآن عن الانتقام؟

فقال عنارة بكآبة: لا يهمنا ذلك بقدر ما يهمنا المستقبل.

ثم وهو يعصر عينيه الملتهبتين: والأحلام لا ترى عبثا!

عند ذاك قال الشيخ درديري: سأسأل عن مسكنه بحجة الاطمئنان عليه.

وغاب الشيخ يوما كاملا، ثم رجع ليعلن في ظفر اهتدائه إلى بيت الشاب، قال إنه جالسه وعلم بسبب تخلفه عن زيارة قبر أبيه، وهو مرض أمه، وأخبرهم بأقصر طريق إلى المسكن من ناحية الخلاء؛ إذ لا يدري بهم أحد، ولكن هل يقتلونه أو يكتفون برؤيته وإرهابه؟

وأدرك الأعوان من صمت المعلم أنه يترك لهم الكلمة لغرض لم يعد يخفى عليهم بحكم معاشرته الطويلة، فقال طمبورة ساخرا: وجد المسكين مقتولا بيد مجهول!

فاعترض عنارة متسائلا: ماذا تدرون عن قوته وأعوانه؟

وتبادلوا نظرات قاسية، ثم استقر رأيهم على خطة عركوها منذ القدم.

وفي ليلة شديدة الظلام، خرج حندس وأعوانه، وقد استقل هو وخلصاؤه الكرتة، موسعين للشيخ درديري مكانا عند الأقدام، وأوغلوا في الصحراء حتى صعدوا ما يشبه التل عند مفترق تتجه طريقه الرئيسية نحو باب الربع، وعند ذاك قال السائق: لا يمكن أن تتقدم العربة قيراطا واحدا في هذا الخراب.

غادروا الكرتة، وحثهم الشيخ درديري على البحث عن سبيل ماء قائم على رأس منحدر طويل، وكان قائما على مبعدة أمتار منهم، كما لاح شبحه تحت ضوء النجوم، وقال الشيخ: في نهاية المنحدر يقع البيت، وهو في عزلة؛ إذ تحيط به الخرائب من جهتين، ويحدق بالثالثة فناء واسع لوكالة، توكلوا على الله، أما أنا فإني ذاهب.

قال له حندس: انتظر حتى لا تضل الطريق في الظلام.

فقال وهو يهم بالذهاب: الأعمى لا يضل طريقه في الظلام.

مضوا في الطريق متمهلين حذرين؛ لوعورته ولكثرة ما يعترضه من أحجار ونفايات، وأحدقت بهم خرائب تفوح منها روائح عطنة، وأحيانا نتنة كريهة، كأنما تصدر عن جثث في جوف الليل، وغلظت الظلمة حين بلغوا ممرا مسقوفا بغطاء لم يتبينوه، تقوم على جانبيه المتقاربين جدران مبان غير مرئية، فكأنما فقدوا الأبصار. مات كل شيء في ظلمة الممر حتى أشباحهم، وند عن أقدامهم ارتطامات كخشخشة زواحف، وعن أفواههم زفرات كالفحيح، وعلى بعد سحيق تراءى نور خافت، فقال عنارة: سنطرق الباب ثم نندفع كالمصيبة، ولا من سمع، ولا من رأى.

فرددت أصوات بهيمية: ولا من سمع ولا رأى.

ثم ارتفع صوت حندس قائلا بوحشية: وينتهي الحلم!

وإذا بصرخة تنطلق من حلقه كالعواء، وإذا بجسمه الضخم يتهاوى على الأرض. صرخوا في صوت واحد «معلم حندس»، وتطايرت زعقات الغضب والويل، وحملقوا في الظلمة المستحيلة، ولكنهم لم يروا إلا العمى، ونادى سمكة بأعلى صوته السائق أن يحمل إليهم فانوس العربة، وتأوه حندس فساد الصمت، ثم قال بصوت متقطع محشرج: عنارة، قتلت .. بينكم.

وعلى ضوء الفانوس تبدى المعلم حندس منكفئا على وجهه، عاري الرأس، مكشوف الساقين، ودمه ينساب بطيئا بين الحصى. قتلهم الغيظ وأذلهم الحنق. لم يشعروا من قبل بعجز مهين كهذا العجز، فهم لم يرفعوا نبوتا ولا سلوا خنجرا ولا قذفوا طوبة، وخطف الرجل وهم يبادلونه الحديث. وأين القاتل، بل أين منزله؟ وجدوا مكان المنزل ضريح ولي في خلاء تشتعل في كوة بجداره شمعتان، ولم يشعر أحد منهم بالقاتل عند تسلله، ولا عند انفلاته، لم يسمع له حس، ولا عثر له على أثر.

الصدى

اعتمد على عصاه وانتظر، تلاشى رنين الجرس، ولا صوت يجيء من وراء الباب؛ كأن الشقة خالية، بعد لحظة سينفتح الباب عن الوجه القديم، الوجه الذي لم تره منذ عشرين سنة، والزمن لم يطمس صورته القديمة الباكية المتصبرة المتأففة. وهي وإن تكن اليوم في الثمانين، فما أكثر المعمرات في أسرتنا، أما الرجال ...؟! الرصاص والمآسي والأعين التي لا تذرف الدمع.

وسمع صوت شبشب يزحف فوق البلاط، فتهيأ للمفاجأة وعواقبها، ولكن الشراعة فتحت عن وجه ذابل عليل ، أم محمد الخادمة، ارتاح لذلك ونظر إليها من عل وهي تتطلع إليه بحذر ونظر كليل: من؟ - افتحي يا أم محمد. - من حضرتك؟

قالتها بلهجة من لا ينتظر زائرا على الإطلاق، بيت مهجور كأن القطيع كله لم ينطلق منه إلى الساحات الدامية. - حقا نسيتني يا أم محمد؟

رمشت عيناها طويلا، ثم أضاءت بانتباهة مذهلة: سيدي عبد الرحيم! .. يا خبر!

دخل وهو يحبك عباءته السوداء حول قامته الفارغة، ثم ترك لها يده تلثمها بحرارة قائلة: من يصدق؟! .. من يصدق؟!

ثم وهي تضبط أنفاسها: سأذهب لأخبر ستي.

فاعترضها بعصاه قائلا: لا .. أين حجرتها؟

أشارت إلى باب في نهاية الصالة الممتدة إلى يمين الداخل، وقالت: يجب يا ...

فقاطعها بحزم وهو يسير: أعرف ما يجب، أعرف كل شيء، ولا أريد أن يزعجني أحد.

دخل الحجرة متمهلا، وبلا صوت، وبقلب يزدرد انفعاله بصلابة معهودة، ثم أغلق الباب وراءه. وقف في وسط الحجرة وهو ينظر إليها بتمعن واستطلاع، ورغم غلظته تأثر بعض الشيء، تسربت إلى أنفه الأفطس رائحة غريبة وأليفة معا، كما تنبلج ذكرى ضائعة، فدفعته إلى أحضان الماضي. ها هو يعود إلى صميم نفسه، وتربعت المرأة على كنبة قابضة بأصابعها على مسبحة طويلة لامست شرابتها البساط، ولكنها لم ترفع رأسها إليه، وكأنها لم تشعر له بوجود، وقد تلفعت بخمار غامق لم يتضح لونه في جو الحجرة الغامض المحجوب عن النور بنافذتين محكمتي الإغلاق، إنها تتجاهلك بلا شك، لعلها سمعت ما دار من حديث في الصالة فتأهبت لتجاهلك. لا تعجب لبرودها، فكم قاست وكم عانت! وهي على أي حال أم المآسي، فكيف تخلو من روح العنف! .. وماذا توقعت عندما اضطرتك الحال إلى العودة؟ وابتسم ليلين من قسوة وجهه الداكن كجلد مدبوغ، ولكنها لم تأبه له البتة، وراحت تسبح بصوت مهموس ثم تثاءبت! اختفت الابتسامة من وجهه. إنها أشد مما تصور، إنها أقسى من تاريخ الأسرة الدامي، لكنني عنيد أيضا، لم أقطع الوادي لأسلم بهزيمة عاجلة. توقعت سخطا ولعنا وبكاء ومرارة، ولكن ليس الصمت والتجاهل، تلك صدمة أجلت فكرة تقبيل اليد إلى حين، والانسحاب أبعد ما يكون عن الخاطر، لم يبق إذن إلا طريق وسط، قال بهدوء: نهارك سعيد يا أمي.

واقترب خطوتين مادا يده، ولكنها لم تشعر له بوجود. صدمة أشد من الأولى، الماضي بكل مآسيه لن يخفف من قسوة اللطمة، حق أنك آخر من يعجب لقسوة ما، وعليك أن تؤدي حساب عشرين عاما من المقت، وهي كما ترى لا تبرأ من صفة الضجر، وابتسم ابتسامة مفجعة وهو يتقهقر نحو الفراش ثم جلس على حافته، وضع طربوشه على الوسادة، واعتمد براحته على العصا. ما دمت قد رجعت إلى مهدك، فلا بأس من الجلوس على الفراش. - الحق أني لم أتوقع مقابلة لطيفة، ولكني لم أتصور هذه القدرة على الإعدام!

وضحك ضحكة قصيرة ميتة، وقال: نحن أسرة الأنياب والأظافر، ولكني مشوق إلى معرفة النهاية.

رفعت رأسها قليلا، ربما لتريحه، ثم عادت إلى الانطواء على المسبحة في عالم لا يشاركها فيه أحد. - من يدري، فلعل حضوري خطأ من أساسه، ولكني مصمم على ألا أندم عليه.

لا كلمة .. لا حركة .. لا اهتمام. - أتتوقعين أن أعتذر؟! .. أن أعترف بخطأ .. أن أعلن الندم؟ .. أنت تعرفيننا خيرا مما نعرف أنفسنا، والكلام لم يعد يجدي، وكلانا قد تغير كثيرا، ولكن صحتك ما زالت بحمد الله جيدة، لعلها أفضل من صحتي.

العبارة الأخيرة غير قابلة للتجاهل إلى ما لا نهاية، سوف تدب حركة. أجل، ستنفجر أولا في غضب وتصب اللعنات، ثم تلين رويدا، وأخيرا ستسمع هذه الجدران دعاء! - أعلم ماذا يقول صمتك، جاء اللص، جاء المجرم، جاء أخيرا، بالله خبريني، هل تطلبت حياتك هنا مالا أكثر مما لديك؟

وركبته رغبة يائسة في المزاح، فتساءل: هل أردت مالا لتجربي حظك في الزواج من جديد؟

وضحك عاليا، لكنه ضحك وحده، وحده. لله هذه القدرة الجهنمية على الإعدام! - ما مضى قد مضى، الدم والأرواح مضت، لسنا أول مجموعة دموية ولن نكون آخرها، وكم هلك لي من أعزة، وقطنت في صدري رصاصة إلى الأبد، ولا تعدي بقايا الطعنات في الفخذ والبطن والرأس، وكنت تبكين وتمزقين شعرك، وكنا وما زلنا نعاني في حياتنا، ما الفائدة؟ ما مضى قد مضى.

ألم تعاهد نفسك على تجنب الذكريات؟ ولكن كيف؟ إنها مستمرة في قتلك، وأنت لم تقطع الوادي من أقصاه لتجلس أمام تمثال من حجر. - إذن، تودين أن أذهب؟! لا أعجب كثيرا ولكني أتيت، وهذا جزء لا يتجزأ من الحكاية، ألم تغضبي بما فيه الكفاية؟ لعنت الأبناء حتى جف صوتك، هالك أن يخرج من بطنك هذا العدد العديد من الأعداء، ولكنه بطنك على أي حال. وخبريني بالله كيف مات أبي، وأعمامي؟ وقيل لي لماذا تذهب بعدما كان، ولكن لا أحد يعلم بسري سواي، وأنا أومن بالغيب إيماني بالدم، والوقت قد فات فيما بدا لهم، ولكني رأيت رأيا آخر، غير أني أود أن أعلم حتام تتعلقين بالصمت؟!

آه! .. فلتعجب بها بقدر ما تحنق عليها، ما أصدقها لنا من أم! لكنك تمثل عناد من تربص يوما في حقل الذرة ثماني ساعات دون حركة. وكم غنيت فوق أشلاء الجثث، وأيدي الإخوة التي قطعتها! وقولك الساخر عن ابني عميك في البلد: «يتحابان رغم أنهما أخوان!» - لا تطرديني دون كلمة، اسأليني على الأقل عما جاء بي، الغبار لم يعد يطاق، والشوك أدمى الأقدام، وأعترف بأن نفسي نازعتني إلى مأوى منسي لأسترد فيه أنفاسي، شعور طبيعي بالحاجة إلى الظل بعد احتراق لعين، وسمعت - إن صدقا وإن كذبا - أشياء وأشياء عن غرابة أطوار الأم، أي أم كما قالوا، ومع أن آخر صورة احتفظت بها منك كانت عابسة باكية لاعنة، إلا أني غامرت بالتجربة.

يا رب السموات! ها هي تتثاءب مرة أخرى، من الضجر لا من التعب، ولكن طلاء القسوة سيتقشر عاجلا أو آجلا ثم يتساقط، والأحزان قد أنضبت في نفسك موارد سخية، ولكني أجلس أمامك بشخصي وشهادة ستين عاما من البنوة، وإن تكن بنوة مفلسة جدباء. - أصغي إلي، أنا لا أسافر عبثا. هكذا خلقت، قيل لي لماذا تذهب بعد ما كان، ولكن لا أحد يعلم بسر ذلك سواي، ومذ قدمت وأنا أتكلم وأنت تقتلين، سأذهب أقسى مما جئت، والساقية تدور ولا تحمل من باطن الأرض إلا العلقم، لم يجئ الأبناء خيرا منا، هيهات أن أعترض، اليوم يقطبون ويتبادلون نظرات ممتعضة، وغدا ينطلق الرصاص، ها أنا أرى المستقبل بعين الماضي الدامية، واليوم تجمعهم صورة عائلية، كما جمعتنا صورة يوما ما، ولكن ماذا عن الغد؟ وكان أن ضجرت، ضجرت حتى الموت، ولكننا نكره الكلمات الطيبة ولا نصدقها، وإذن فلتمض القافلة مثيرة للغبار ولرشاش الدم. ولكن تمادى بي الضجر حتى وقعت، وبعد عشرين عاما من العقوق والنسيان ذكرني الضجر بك! ولكن ماذا أريد؟ أن أرجع إليك؟ ولكن ماذا وراء ذلك؟ ونحن نخجل من العواطف ونتباهى بالكلمات، غير أني أصبحت ذات يوم مقوس الظهر، أزحف على أربع، وكتمت الألم خشية الشماتة، لا شيء سوى الشماتة، وما جاء الظهر حتى أعلمني الطبيب بأني مريض بكل معنى الكلمة، ولست أصدق الأطباء، ولكني لم أجد مفرا من تصديق الألم، وخصوصا وأنه لا يؤلمني إلا الألم الأليم، وانزويت في حجرتي أياما، وأحدقت بي نذر الشقاق بين الأبناء حتى رأيت صفحة المستقبل دامية كالصفحة المنطوية، وتجهمتني الدنيا، وأبيت في الوقت نفسه تذكر كلماتك القديمة، ولكني رأيت حلما.

آه هل تستسلم لليأس؟ وما هذا الألم الذي يدب في أعماقك، أهو نذير نوبة جديدة؟ إذن ماذا تفعل العقاقير؟ ولم هي ليست حاسمة كالرصاص والفأس؟ وأنت أيتها العجوز ماذا بالله يمكن أن يحركك؟ أأقول إنك أقسى منا جميعا؟ لا تضطريني إلى هزك حتى تفيقي، إني إذا صرخت تقوضت الجدران! - حلمت حلما، فلماذا لا تسألينني عما رأيت؟ هل فقدت ولعك بالأحلام وتأويلها؟ اعذريني إذا اعتقدت بأننا إنما ورثنا القسوة عنك، عنك أنت أكثر مما ورثناها عن أبي أو أي جد غابر، لا أحد يمكنه المحافظة على بروده كما تفعلين، وجهك لا يفصح عن شيء، أنت لا تتجاهلين وجودي ولكنك تجهلينه، تجهلينه بكل معنى الكلمة، أنت لا تسمعينني ولا ترينني، من أين لك هذه القوة كلها؟

وانتفض واقفا في انفعال، ذهب مرة وجاء، ثم وقف قبالتها معتمدا على عصاه بيمناه متجهم الوجه: أهذه طريقتك في العقاب؟ لا شك أنك تخيلت هذا اللقاء وتمنيت وقوعه وانتظرته طويلا، قلت سيجيء يوما، سيجيء إذا ألمت به كارثة أو صرعه مرض، سيذكر عند ذاك أمه المنسية، ويهرع إليها سائلا العفو والبركة، وعند ذاك أجد فرصتي للانتقام، سيكفر عن السرقة والنهب والاعتداء والقتل، عن دموعي التي لم يجففها أحد، عن استغاثاتي التي قوبلت بالنهر، عن حبسي الطويل في هذه الغربة، هذه هي الحقيقة، وإنك لأمنا حقا، فأسلوبك هو أسلوبنا، وقسوتك هي قسوتنا، وفي بعض أويقات الإرهاق والملل كنت أتساءل عما شكلنا بهذه الصورة الوحشية التي لا تعرفها الكلاب ولا الحمير ولا البقر ولا الجاموس، وها هي الحقيقة تتكشف لي، إن السيل الذميم المنصهر ينحدر منك يا امرأة!

وضرب أرض الحجرة بعصاه مرتين حتى طقطق زجاج النافذة، وإذا بأم محمد تنقر على الباب المغلق مستطلعة مستأذنة، فصاح بها غاضبا «اذهبي»، ثم التفت إلى المرأة التي واظبت على التسبيح في هدوء، وقال: كفى، كفي عن التسبيح، نحن لا نعرف الله، ولا نذكره إلا عند شراء النقل أو صنع الكعك، الحق أننا لا نعرف الله ولا نريد أن نعرفه، والحلم الذي رأيت كان حلما كاذبا، وما كان ينبغي أن أحلم، أو أن أكترث للحلم إذا حلمت، وما كان ينبغي أن أمرض، على الذين يعيشون للرصاص والدم ألا يمرضوا أو يحلموا، وعليهم ألا يبحثوا عن راحة إلا في الموت، عليهم أن ينتحروا قبل أن يقتلوا، فأي شيطان دفعني إلى زيارتك يا امرأة؟

ولما لم تخرج عن تجاهلها الرهيب، قطب في عزم، وتقدم منها خطوتين، ثم مد يده فأمسك بيدها، ارتفع رأسها متراجعا في دهشة، تركت المسبحة في حجرها وأراحت يدها الأخرى على يده، تحسست ظهرها الجاف المعروق ومنابت الشعر الأبيض عند أصول الأصابع، ارتسم الفزع في وجهها، ثم ندت عنها صرخة وصاحت: من؟ .. من؟ .. أم محمد!

وسرعان ما ألمت بها نوبة سعال، ثم عادت تصيح بصوت مخنوق شرق: أم محمد .. أم .. محمد.

انفتح الباب في دفعة متمردة، وهرولت المرأة إليها في اللحظة التي أخذ هو فيها يتراجع في وجوم شديد. احتوت الخادم يد سيدتها المرتعشة بين راحتيها في حنو، ثم راحت تربت ظهرها النحيل في إشفاق، قال الرجل كالمعتذر: لا أدري ماذا أفزعها!

فقالت الخادم بصوت خائف: أردت أن أقول لك، فلم تسمع لي يا سيدي، ثم منعتني من الدخول!

لبس طربوشه وتناول عصاه، وهو يقول: ماذا أفزعها؟ .. كنت طوال الوقت أتودد إليها، وكان أملي كبيرا في أن تلين إذا رأتني بين يديها.

أرخت الخادم جفونها، وهي تقول بحسرة: يا سيدي، إنها لا ترى!

اتسعت عيناه الغامضتان في ذهول، وراح يتفحص أمه، وهو يقول: تعنين ...؟ - نعم يا سيدي، إنها لا ترى.

وحل بالحجرة خرس مقدار دقيقتين، ثم تمتم: لم أتصور ذلك، النور خافت كما ترين.

ثم بنبرة مرة، وكأنه يحادث نفسه: ولكني حدثتها طويلا فتجاهلتني على نحو أليم!

قالت الخادم بصوت منكسر: يا سيدي، إنها لا تسمع!

بذهول أشد: تعنين ...؟ - نعم يا سيدي، إنها لا تسمع.

لطمه الفهم لطمة مفزعة أدارت رأسه: كلية؟ - نعم. - أئذا صرخت ...؟ - لا فائدة يا سيدي. - لا بصر ولا سمع؟ - لا بصر ولا سمع. - يا ألطاف الله، متى حدث ذلك؟ - من أعوام يا سيدي، بدأ أمر الله بالعينين، ثم تلاه السمع، ولم ينفع طب الأطباء.

تردد مليا ثم تساءل في حرج واضح: ألم تكن هناك طريقة للاتصال بي؟ - أردت ذلك عقب إصابة العينين ولكنها منعتني، منعتني بشدة ورجاء معا، فاحترمت رغبتها إلى النهاية.

لم يكن الموقف كما تصورت، ولكنه في الحقيقة أفظع، وأنت شريك في الجناية لا مفر، جئت تتخفف من أثقالك فضاعفتها أضعافا مضاعفة، وها هي أنفاسها تتردد على يدك، ولكنها أبعد من نجم، كالموت، غير أنه ينضح بالعذاب. وها هو الصمت، وها هو السد، وعليك أن تؤول حلمك بنفسك، أو سوف يبقى الحلم بلا تأويل.

الخلاء

لتكن معركة حامية وحشية، ولتشف غليل عشرين عاما من التصبر والتربص والانتظار. قدح وجه الرجل شررا وهو يحيط به الأعوان، وامتدت جموعهم خلفه قابضين على العصي ذوات العقد، كل عقدة تنذر بحفر ثغرة في العظام، وقد انخرط في أحضان الموكب حملة المقاطف المملوءة أحجارا وزلطا. تقدم الرجال في طريق الجبل المقفر بعزائم متوثبة للقتال، جاءك الويل يا شرداحة. وبين آونة وأخرى يتطلع زبال أو ترابي إلى الموكب الغريب مركزا بصره على الرجل الذي يحتل القلب في استطلاع ودهشة وإنكار، يتساءلون عن الفتوة الذي لم يره من قبل أحد، سوف تعرفونه وتحفظونه عن ظهر قلب يا ذباب الخليقة. وألقت الشمس المائلة على اللاثات المزركشة أشعة حارة، ودار هواء خماسيني مجنون، فلفح الوجوه، ونفخ في الجو اكفهرارا ومقتا، ومال أحد الأعوان إلى أذن الرجل، وسأله: معلم شرشارة، هل تقع شرداحة على طريق الجبل؟ - كلا، علينا أن نخترق إليها حي الجوالة. - سيطير خبرنا إليها فيستعد عدوك.

عبس وجه شرشارة، وهو يقول: عز المطلوب، فالغدر يحقق النصر، ولكنه لا يشفي الغليل.

غليل عشرين عاما في المنفى، بعيدا عن القاهرة الساهرة، وفي مجاهل الميناء بالإسكندرية، ولا أمل لك في الحياة إلا الانتقام. الأكل والشرب والنقود والنساء والسماء والأرض غرقت في عماء، وانحصر الإحساس في التحفز الأليم، ولا فكرة تخطر إلا عن الانتقام، لا حب ولا استقرار ولا إبقاء على ثروة، ضاع كل شيء في الاستعداد لليوم الرهيب. هكذا ذابت زهرة العمر في أتون الحنق والحقد والألم، لم تهنأ بتفوقك المتمهل الأكيد بين عمال الميناء، لم تجن ثمرة حقيقية من انتصارك على الجعافرة في معارك كوم الدكة. ما كان أسهل أن تعيش فتوة مهابا، وأن تتخذ من الإسكندرية موطنا يدوي تحت سمائه اسم شرشارة، ولكن عينك الدامية لم تر من الوجود إلا شرداحة بطرقها الضيقة، وحاراتها المتفرعة الصاعدة، وفتوتها الجبار البغيض لهلوبة. الويل .. الويل.

انتهى طريق الجبل المقفر عند البوابة، فمرق منها الموكب إلى حي الجوالة المزدحم، وصاح شرشارة بلهجة آمرة حادة كضرب الفأس في الحجر: لا كلام مع أحد ولا جواب.

أوسع المارة للموكب، واشرأبت إليه الأعناق من الحوانيت والمشربيات، وتطلعوا إلى القائد الجديد، ثم شاع الاضطراب والخوف، وقال صاحبه محذرا: سيظنون أننا نقصدهم بسوء!

قلب شرشارة عينيه في الوجوه الشاحبة، وقال بصوت مسموع: يا رجال، لكم منا السلام.

انفرجت الأسارير، وارتفعت الأصوات بالتحيات، وإذا به يقول مخاطبا القوم، وهو يلحظ صاحبه بنظرة ذات معنى: نحن قاصدون شرداحة!

ولوح بعصاه المخيفة وهو يتقدم في طريقه. ما زالوا يتطلعون إليك باستغراب، كأنك لم تولد في هذا الحي، في صميم شرداحة، ولكن لا ذكر يبقى إلا للقتلة والمجرمين. شاب في العشرين، عامل في السرجة، هوايته لعب البلي تحت شجرة التوت، يتيم، حتى مرقده لا يجده إلا في السرجة صدقة من عم زهرة صاحبها، وأول مرة حمل الزيت الحار إلى بيت لهلوبة، صفعه هذا على قفاه، تلك كانت تحيته. وزينب ما كان أجملها! لولا جبار شرداحة لبقيت زوجتك منذ عشرين عاما. كان بوسعه أن يطلب يدها من قبل أن تطلبها أنت، ولكنها لم تحل في عينيه إلا ليلة الزفة، وتحطمت الكلوبات، وفر المطرب، وتكسرت آلات الطرب، وخطفت أنت كأنك وعاء أو قطعة من أثاث. لم تكن ضعيفا ولا جبانا، ولكن المقاومة كانت فوق طاقتك، ورمي بك تحت قدميه، وأحدقت بك عشرات الأقدام.

وضحك ضحكة كريهة، وقال متهكما: أهلا بعريس الزيت الحار!

تمزق الجلباب الجديد، وفقدت اللاثة، وسرقت بقية تحويشة العمر، وقلت: أنا من شرداحة يا معلم، كلنا رجالك وفي حماك.

فصفعه على قفاه معلنا عطفه، وخاطب رجاله قائلا في سخرية: أي معاملة يا أنذال؟! - أنا خدامك يا معلم، ولكن دعني أذهب. - العروس في انتظارك؟ - نعم يا سيد الحي، وأريد نقودي، أما الجلباب فالعوض على الله.

قبض على قصتك وجذبك منها، وقال بلهجة جديدة جادة ومرعبة: شرشارة! - أمرك يا معلم؟ - طلق! - ماذا؟ - أقول لك طلق، طلق عروسك، الآن. - لكن ... - هي جميلة، ولكن الحياة أجمل! - كتبت كتابها العصر. - وتكتب طلاقها في الليل، وخير البر عاجله!

ندت تأوهات يائسة، وركله ركلة قاسية، وفي ثوان جرده من ثيابه الممزقة. انطرح أرضا على أثر ضربة في الرقبة، وانهال عليه بخيزرانة حتى أغمي عليه، وغرز وجهه في نقرة مليئة ببول فرس، وعاد يقول: طلق!

بكى من الألم والقهر والذل، ولكنه لم يعترض بكلمة، وقال الآخر بلهجة عطف ساخرة: لن يطالبك أحد بمؤخر الصداق.

فهزه رجل من الأعوان بعنف قائلا: احمد ربنا، واشكر سيدك!

الألم والهوان والعروس الضائعة، وها هي روائح العطارة بالجوالة ترجعك إلى الماضي أكثر مما أرجعتك العودة الحقيقية. الملاعب القديمة، ووجه زينب الذي أحببته مذ كانت في العاشرة، وطوال العشرين عاما لم يتحرك بغير الحقد قلبك. قبل ذلك لم يعرف إلا الحب واللهو، وبعد قليل، فلن أتحسر على ضياع ما ضاع من عمر، عندما أطرحك يا لهلوبة تحت قدمي، وأقول لك «طلق» .. بذلك أسترد عشرين عاما مفقودة في الجحيم، وأتعزى عن مالي الذي بعثرته على هذه العصابة، المال الذي دبرته بالشقاء والجهد والسرقة والنهب والتعرض للمهالك.

ولما لاح عن بعد قريب القبو المفضي إلى شرداحة، التفت إلى رجاله قائلا: احملوا على الأعوان، ودعوا لي الرجل، ولا تمسوا بسوء أحدا من غير هؤلاء.

لم يداخله شك في أن نبأ غزوته قد سبقه إلى شرداحة، وأنه عما قليل سيقف أمام لهلوبة وجها لوجه، ولم يعد يفصله عن هدفه إلا قبو قصير. تقدمهم في حذر، ولكنه لم يصادف داخل القبو أحدا، واندفعوا مرة واحدة وهم يشدون على عصيهم، ويطلقون صرخات مرعبة، ولكنهم وجدوا الطريق خاليا، لاذ الناس بالبيوت والحوانيت، وامتد طريق شرداحة مقفرا حتى الخلاء الذي يحده من ناحية الصحراء، وهمس صاحبه في أذنه: مكيدة! .. مكيدة وسيدي أبو العباس!

فقال شرشارة باستغراب: لهلوبة لا يستعمل المكائد!

وبأعلى صوته صاح: لهلوبة .. اظهر يا جبان!

ولكن لم يجبه أحد، ولم يخرج إلى الطريق أحد، نظر فيما أمامه بترقب وذهول وهو يتلقى تيارا من الغبار الخانق الحار، كيف يفرغ شحنة عشرين عاما من الغضب والحقد؟! ورأى باب السرجة القصير المقوس المغلق، فمضى إليه في حذر، وطرقه بعصا، حتى جاءه صوت مرتعش النبرة، وهو يهتف في ضراعة: الأمان!

فصاح بظفر: عم زهرة! تعال ولك الأمان.

ظهر وجه العجوز من كوة في الجدار أعلى من الباب، ورمى ببصر زائغ كليل. - لا تخف، لا أحد يريد لك السوء، ألم تتذكرني يا رجل؟!

نظر العجوز إليه طويلا، ثم تساءل في حيرة: من أنت يحفظك الله؟ - أنسيت صبيك شرشارة؟

اتسعت العينان الغائمتان، ثم صاح: شرشارة؟! وكتاب الله هو شرشارة ولا أحد غيره!

وسرعان ما فتح الباب، وهرع إليه فاتحا ذراعيه في ترحيب ظاهر وخوف باطن فتعانقا، وصبر شرشارة حتى انتهى، ثم سأله: أين لهلوبة؟ ما له لم يجئ للدفاع عن حيه؟ - لهلوبة! - أين فتوتكم الجبان؟

شهق العجوز رافعا رأسه عن رقبة نحيلة معروقة، ثم قال: ألم تدر يا بني؟ لهلوبة مات من زمان!

صرخ شرشارة من أعماق صدره، وهو يترنح تحت ضربة مجهولة: لا! - هي الحقيقة يا بني.

بصوت أقوى وأفظع من الأول: لا .. لا يا مخرف!

قال العجوز وهو يتراجع خطوة في خوف: لكنه مات وشبع موتا.

تراخت ذراعاه، وتهدمت قامته، فعاد العجوز يقول: منذ خمسة أعوام أو أكثر.

آه! ما بال جميع الكائنات تختفي ولا يبقى إلا الغبار! - صدقني لقد مات، دعي إلى وليمة في بيت أخته، فأكل الكسكسي، ثم تسمم هو وكثيرون من أعوانه، ولم ينج منهم أحد.

آه! إنه يتنفس بصعوبة كأن الهواء استحال طوبا. وهو يغوص في أعماق الأرض ولا يدري ماذا بقي منه فوق سطحها. وحدج زهرة بنظرة ثقيلة خابية وتمتم: إذن مات لهلوبة؟ - وتفرقت البقية من أعوانه، إذ سهل على الناس طردهم. - لم يبق منهم أحد؟ - ولا واحد والحمد لله.

وصاح فجأة بصوت كالرعد: لهلوبة .. يا جبان .. لماذا مت يا جبان؟!

انذعر العجوز من عنف صوته، فتوسل إليه قائلا: هون عليك ووحد الله.

هم بالتحول إلى أصحابه في حركة متهاوية، ولكنه توقف في فتور، وعاد يسأل: وماذا تعرف عن زينب؟

تساءل العجوز في حيرة: زينب؟! - يا عجوز، أنسيت العروس التي أجبرني على تطليقها ليلة دخلتها؟ - آه .. نعم .. هي اليوم بياعة بيض في عطفة الجحش!

نظر إلى رجاله في انكسار وهزيمة، العصابة التي استنفدت عمره وماله وصبره، ها هو العمى يهبها للعدم، وقال بضجر: انتظروني عند الجبل.

تجمد نظره تجاههم وهم يختفون داخل القبو رجلا في إثر رجل، هل سيلحق بهم؟ متى يلحق بهم، ولماذا؟! وهل يرجع من طريق الجوالة أو من طريق الخلاء؟ ولكن زينب، أجل زينب. من أجلها احترقت عشرون عاما من العمر، أمن أجلها حقا؟! لن تصل إليها فوق جبار منهزم كما رسمت، مات ولا جدوى من نبش القبور، ما أفظع الفراغ! وها هي في دكانها. هي هي دون غيرها، من كان يتصور لقاء كهذا اللقاء الفاتر الغامض الخجلان! وجلس على مقعد في قهوة صغيرة في حجم زنزانة، وراح يرقب الدكان الغاص بالزبائن، ها هي امرأة غريبة ممتلئة لحما وخبرة، وقد أنضجت الأعوام قسماتها الساذجة، ملتفة بالسواد من الرأس حتى القدمين، ولكن وجهها متشبث بقسط وافر من الوسامة، وهي تساوم وتناضل، وتلاطف وتخاصم، كامرأة سوق لا يمكن أن يستهان بها، ها هي إن أردت، وبلا معركة، بلا كرامة أيضا. فاتك إلى الأبد أن تقف فوق صدر لهلوبة وأن تأمره بالطلاق. ما أفظع الفراغ! ولم يحول عينيه عنها لحظة واحدة، وانهمرت عليه الذكريات في غرابة وحزن وحيرة قاتلة، ولا فكرة عنده عما سيفعل، كم آمن بأنها كل شيء في الحياة، ولكن أين هي؟!

وهبط المغيب كآخر العمر، وذهب الزبائن تباعا، وجلست في النهاية على مقعد قصير من القش المجدول، وراحت تدخن سيجارة، قرر أن يلقي بنفسه بين يديها هربا من حيرته، وقف حيالها وهو يقول: مساء الخير يا معلمة.

فرفعت إليه عينين مكحولتين مستطلعة، ولم تعرفه، فتابعت دخان سيجارتها متمتمة: طلباتك؟ - لا طلب لي.

أعادت النظر بشيء من الاهتمام المفاجئ، فتلاقيا في نظرة ثابتة، ارتفع حاجباها وانحرف جانب فيها في شبه ابتسامة. - هو أنا! - شرشارة! - هو نفسه، ولكن بعد عشرين سنة! - عمر طويل. - كالمرض. - حمدا لله على سلامتك، أين كنت؟ - في بلاد الله. - عمل وأهل وأبناء؟ - لا شيء. - وأخيرا رجعت إلى شرداحة. - عودة الخيبة.

التمعت في عينيها نظرة ارتياب وتساؤل، فقال بغضب: سبقني الموت!

تمتمت في غير ما ارتياح: كل شيء مضى وانقضى. - دفن معه الأمل. - كل شيء مضى وانقضى.

وتبادلا نظرة طويلة، ثم سألها: وكيف حالك؟

أشارت إلى مقاطف البيض، وقالت: كما ترى، معدن!

بعد تردد: ألم ... ألم تتزوجي؟ - كبر الأولاد والبنات.

جواب لا يعني شيئا، واعتذار واه كأنه مصيدة، ما جدوى العودة قبل أن تسترد الكرامة الضائعة؟ ألا ما أفظع الفراغ! وأشارت إلى مقعد خال في زاوية الدكان، وقالت: تفضل.

نغمة ناعمة كأيام زمان، ولكن لم يبق إلا الغبار، قال: في فرصة أخرى.

وتردد في حيرة معذبة ثم صافحها وذهب. لن تتكرر الفرصة. هكذا وجدت نفسك قبل عشرين سنة، ولكن الأمل لم يكن قد قبر، وكره فكرة الذهاب إلى الجبل من طريق الجوالة، كره أن يرى الناس أو أن يروه، وكان ثمة طريق الخلاء، فمضى نحو الخلاء.

البارمان

مهما يكن من أمر فقد اقتران بأطيب الأوقات وجهك، وأنت معتمد على الطاولة الرخامية البيضاء بكوع يسراك وراحة يمناك، تنظر وتنتظر، ودائما تبتسم، وبين حين وحين تتناول منشفة صفراء كبيرة فتمسح السطح برشاقة، ثم تعود إلى موقفك، ووراء ظهرك على رفوف أربعة صفت زجاجات الخمور من كل صنف، مستكنة في خمول، ناضحة بسوائل ذهبية وبنية وحمراء، ولا مشابهة أو مقاربة بين ظاهرها الأنيس الوديع وخميرها العامر بالقوى الغامضة الملهمة المفجرة. ورأسك المستدير الكبير، وشعرك الأسود المفروق من الوسط، وحاجباك الغزيران المتباعدان، وشاربك الكث المتعرج كقوس، وذقنك العريض القوي، وعيناك الواسعتان الزرقاوان اللامعتان، وأنفك الأقنى؛ كل أولئك آيات منظر لا يمكن أن ينسى، أنت حقا ملك قهوة وبار أفريقيا.

وفي بعض الأوقات كنا نغادر مكاتبنا بالوزارة فنتسلل إلى «أفريقيا» لنشرب فنجالا من القهوة، ولم يكن من النادر أن يدور حديثنا عنك وأنت لا تدري. ومرة تساءلت بين إخوة من الموظفين: كيف يختارون البارمان؟

فأجاب صديق من أهل الخبرة وهو يرمقك بإعجاب: لعله في الأصل جرسون، ولكنه ينتقى بمنتهى الدقة.

وقال ثان: إنهم يتقاضون مرتبات خيالية. - وله دراية مذهلة بالنفس البشرية. - وفي المعلومات العامة، أستاذ بكل معنى الكلمة. - ألا ترى كيف يحادث، وكيف يضاحك، وكيف يناقش؟ - ولذلك، فالشريب العتيق هو زبون البارمان قبل كل شيء. - هو كل شيء، وكل ما يجيء من ناحيته طريف، حتى اسمه، فاسيليادس .. فاسيليادس .. أصغ إلى موقعه من الأذن!

فنظرت إليه بإكبار، واندفعت إلى الإعجاب به اندفاعا لا يصدر عادة إلا عن يافع الشباب، وكانت مودته قيمة أعتز بها حقا، ويستخفني الفرح كلما استقبلني بابتسامة متفتحة مشرقة، تنجاب معها هموم القلب، وفي مساء العطلة الأسبوعية، كان يدعوني إليه الشباب قبل السهرة، أي سهرة، وما أكاد أجلس على المقعد الطويل، حتى تمتد يده إلى زجاجة الديوارس، فيصب لي منها في الكأس المضلعة، ويتابعني وأنا أشرب، ثم يسأل باهتمام: أين تذهب هذا المساء؟

فأجيبه بما أنوي الذهاب إليه من سينما أو مسرح أو صالة غناء، فيقول: كل هذا جميل في عهد الشباب.

فأقول ضاحكا: شباب .. شباب .. لم التغني الدائم بالشباب؟ .. أليس لكل فترة من العمر قيمتها؟ - إنك تتطاول على الشباب؛ لأنك شاب، بالله انتبه إلى قيمة الكنز الذي في قلبك. - لا تبالغ يا فاسيليادس، الحياة ليست دماء وساعات ودقائق. - إذن ما هي الحياة؟ - هي المال قبل كل شيء يا فاسيليادس. - المال مهم جدا، ولكن الشباب أهم، ثم إن مظهرك ...

فقاطعته: دعك من مظهري، ماذا تعرف عن موظف صغير بتلك الوزارة المشئومة، التي ترى مدخلها من موقفك وراء البار؟ الرغائب كثيرة واليد قصيرة، فلا تحدثني عن الشباب. - أتدري كيف كان صاحب هذه القهوة عندما هاجر إلى مصر؟ - جاء فقيرا معدما، ثم شق سبيله في عالم غير عالم الوزارة والوظائف، جميع الترقيات والعلاوات موقوفة لأجل غير مسمى، فماذا بقي للشباب؟ - الموقوف اليوم يسير غدا، ولا يبقى شيء على حاله .. خذ.

ويملأ الكأس من جديد، فسرعان ما أصدقه وأستحلي منطقه، ثم أودعه بقلب ممتن ودود.

وفي صباح يوم عيد وأنا راجع من القرافة، وجدت في البيت بطاقة معايدة من فاسيليادس، فطرت بها فرحا، وجلست حين المساء أمامه وأنا أقول: هذا يوم الشراب والورد والأفكار الطيبة.

فملأ الكأس وأهداني قرنفلة وابتسامة ، وحلا كل شيء وطاب حتى نسيت فاسيليادس نفسه، وجعلت أردد بصوت منخفض:

كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم

ولامك أقوام ولومهم ظلم

وإذا به يتساءل: شعر؟

فقلت وأنا أضحك من غفلتي: نعم. - خبرني عن معناه؟

فرحت أشرحه له كلمة كلمة، وهو يتابعني باسما، ثم قال: جميل حقا، ولكن أأنت عاشق أم شاعر؟

فقلت بنبرة اعتراف: عاشق! - جميل حقا، ولكن لماذا الكتم، ولماذا الظلم؟ - هكذا الحب في بلادنا. - الحب أن تتكلم، وأن تحب، وأن تمرح مع من تحب. - هذا عند اليونان. - والرومان .. وكل الناس.

فهتفت منتشيا: بالله احكم العالم يا فاسيليادس. - أنت شاب مهذب وقوي، أي بنت يمكن أن تحبك، ولكن لا تكتم وإلا فكيف يعرف المحبوب أنك تحبه، ولا تهتم بلوم الظالم .. خذ.

وملأ لي الكأس من جديد، فآمنت بقوله واستعدت الثقة المفقودة، ثم ذهبت بقلب شكور.

وتمر الأيام ولا تشيب لك شعرة يا فاسيليادس أو يخبو لعينيك ضياء. وذات مساء سألته، وأنا أرمقه بإعجاب: كيف تحافظ على شبابك؟

فأجاب مبتسما في لباقة: بمعاشرة الأحباب من أمثالك!

فتناولت الكأس قائلا: كلامك دائما حلو.

فسألني بإشفاق: كيف حال الوليد؟ - يتقدم إلى الشفاء، وفي الطريق آخر فيما يبدو! - مبارك، هذا عهد الإنجاب، أنت رجل محترم ولا عيب فيك، إلا أنك سريع الشكوى. - الحق أن الحياة لا تسر. - كيف لا وأنت موظف محترم وزوج وأب؟ - أقصد البلد، وحياتنا السياسية، لعلك لا تهتم بذلك؟ - من بعيد، كثيرا ما أرى من موقفي وراء البار المظاهرات وأسمع الهتافات، وأرى عساكر البوليس وهم يطاردون الطلبة، ثم تجيء اللوريات وعربات الإسعاف، كثيرا .. كثيرا، لماذا أنتم عصبيون هكذا؟ - بلد تعيس الحظ يا فاسيليادس. - هكذا السياسة في كل مكان، عندنا في اليونان سالت دماء كثيرة. لا تحزن، أين كنت أمس وأين أنت اليوم؟ وستشرب هنا نخب انتصارات قادمة، وسوف أذكرك، خذ.

وملأ الكأس من جديد، وزايل وجهي العبوس، وطربت لغير ما سبب، وغادرته وأنا أدعو لمودتنا المتبادلة بالخلود.

وازددت مع الأيام إعجابا بحيويته، وكنت أسترق إليه النظر مستطلعا، ولكني لم أعثر على آية من آيات الكبر، وها هما عيناه تشعان بقوة كبلورتين لا يعتورهما تلف، فمن أين تجيئه القوة المتجددة؟ - هل تشرب كثيرا يا فاسيليادس؟ - كلا يا حبيبي، كأس واحدة قبل الغداء. - والعشاء؟ - عشائي لبن زبادي، وخس، وتفاحة. - أليس في حياتك أحزان؟ - مثل جميع الناس، ولكني لا أستسلم للحزن كأكثر الناس!

ولاحظ أنني هجرت مجلسي التقليدي إلى مقعد وراء البرافان، الذي يفصل القهوة عن ركن الشراب، فقال: ألاحظ أنك تفضل الاختفاء.

فضحكت عاليا، وقلت: ابني اليوم في سن الشباب، وقد رأيته مرة وهو يمر أمام القهوة في رفقة بعض الصحاب. - عجيب أن يخاف الأب ابنه! - شد ما أعاني من الأبناء. - لماذا يا سيدي، وأنت الرجل الطيب؟ - لا نكاد نتفق في رأي أو ذوق، وأشعر حقا بأني غريب. - ولماذا تريدهم على أن يكونوا مثلك؟ - على أيامنا ...

ولكنه قاطعني: أيام الترقيات والعلاوات الموقوفة!

فلم أتمالك نفسي من الضحك، وقلت: إذن، فأنت لا يزعجك تمرد الأبناء! - تعلم منهم! .. تعلم منهم إن استطعت .. خذ.

فرفعت الكأس وأنا أهتف: «في صحة التمرد والعصيان!»

ورغم أن الشخص هو آخر من يعلم بفعل الزمن في ذاته، فقد أقنعتني علامات لا سبيل لإخفائها بمدى التغير الذي طرأ علي، ومع ذلك لم أكد ألاحظ في فاسيليادس شيئا، وذهبت إليه ذات مساء، فحدجني بإنكار لم أجهل بواعثه، وبادرني وهو يملأ الكأس: لست كعادتك.

فقلت وأنا أخفض جفني: أحلت أمس إلى المعاش!

فلوح بيده قائلا: برافو. - ما معنى التحية يا فاسيليادس؟ - أنك أتممت رحلة موفقة لتبدأ رحلة أخرى. - أي رحلة يا رجل؟ - الحياة تبدأ بعد الستين. - في قهوة أفريقيا؟

فقال وهو يهز رأسه: كنت تتعامل مع تفاصيل الحياة، وآن لك أن تتعامل مع خلاصتها. - الحق أني وجدت نفسي لا شيء! - هكذا تكلمت يوما عن الشباب. - لم يعد أحد معي إلا المدام، ولولا الشعور بالواجب ما زارني أحد من الأبناء! - اهتم بأمر واحد، هو كيف تستمتع بالحياة بعد الستين. - وهل بقي من الحياة شيء؟ - الحياة القديمة انتهت، أما الجديدة فلم تبدأ بعد .

فقلت واجما: أصاب أحيانا بالدوار، فيخيل إلي أن كل شيء لا شيء. - صحتك حسنة، ولك أصدقاء، والحياة في البلد لم تعد تسير على وتيرة واحدة. - في أعماقنا حزن دفين، ينتهز الفرص غير المواتية؛ ليطفو فوق السطح. - ولكنه لا يستطيع أن يمحو أفراح الحياة الماضية والراهنة. - المسألة أن لسانك لا ينطق إلا بالشهد. - ما زال أمامنا أيام كثيرة للقاء والحديث وتبادل المودة. - لتكن مشيئة الله. - وزر من جديد حديقة الحيوان والأسماك والآثار .. خذ.

وملأ الكأس فعجبت أي كنز هو فاسيليادس!

ويوما، وأنا أتأهب لاستقبال شهر رمضان، هاجمني مرض الكلى، وعادني الأبناء، وعادني الأصدقاء فتسلينا بأحاديث الأمراض والسياسة. وذات صباح، جاءت زوجتي لتخبرني بأن «خواجا» يرغب في مقابلتي، وما هي إلا دقيقة حتى كان فاسيليادس يعانقني بحرارة وشاربه الكث ينهش فمي وخدي. رأيته بالبدلة الكاملة والقبعة لأول مرة، وقال ضاحكا: ما أوحش البار من غير ضحكتك!

فقلت وأنا أتحسس أسفل الظهر: المغص! أجارك الله يا فاسيليادس. - دعابة سخيفة، ولا بد أن تنتهي، وأعترف لك أن فاسيليادس لا يساوي شيئا بدونك. - وماذا أساوي أنا بدونك يا عزيزي؟ - ومتى ترجع لنا؟ - ربما في نهاية الأسبوع، أين الشباب أين؟ - قلت إنها دعابة سخيفة، ثم نواصل حياتنا الطيبة.

الحق أن زيارته أنعشت روحي أكثر من الأبناء أنفسهم، وليلة عدت إلى «أفريقيا» تعانقنا أمام الجميع، ورفعت الكأس وأنا أقول: في صحة فاسيليادس، رمز الحب والوفاء.

وقصصت عليه حلما زارني فيه الموت، فقال: لا تصدق، الموت لا يجيء إلا مرة واحدة، وإذا جاء أعقبته سعادة كبرى. - ها أنت تتحدث عما وراء الموت.

فقال بثقة: من أين أتيت؟ ألا يشبه الظلام الذي أتيت منه الظلام الذي ستذهب إليه بعد عمر طويل؟ وقد أمكن أن خرج من الظلام الأول حياة، فما يمنع من أن تستمر الحياة في الظلام الثاني؟!

فصحت وأنا ثمل: برافو فاسيليادس .. يا صوت القديسين.

وقمت بجولة طويلة بين الحدائق والآثار، وجلست في الخلوات تحت أشعة الشمس المشرقة، ولكن شيئا لم يمنع الواقعة، وغبت عن الوجود زمنا لم أدره، ولما عدت إلى الوعي، وجدتني ممددا فوق الفراش كميت، وخطر لي أنها النهاية، ولكن تعلقي بالحياة لم يهن، وقال صديق من العواد: فاسيليادس يبلغك تحياته.

فاختلج جفناي باهتمام حقيقي لأول مرة منذ الرقاد وسألته: ترى هل علم بحقيقة حالي؟ - أجل، أخبره بعض الأصدقاء فحزن جدا.

وقلت لزوجي بعد ذهاب الصديق: إذا جاء الخواجا فأدخليه فورا.

وقلت لنفسي إنه لمعجزة حقا، وسوف يجدد حياتي بسحره العجيب، وكلما دق جرس الباب اختلج جفناي وتأهبت للقاء. وجاء كثيرون، ولكن لم يجئ فاسيليادس، وتساءلت عما أقعده، وعبثت بي الظنون وأرهقني القلق، وقلت للصديق ذات يوم: فاسيليادس لم يزرني!

فقال كالمعتذر: الرجل مرهق بالعمل. - ولكنه لم يتأخر عن زيارتي في مرضي السابق.

وصمت الرجل، فقلت متأثرا: أبلغه أنني زعلان.

وقلت إنه سيجيء حتما مهما تكن شواغله، ولكن طال الانتظار بلا أمل، ومضى الحزن يتحول إلى غضب، وقلت إنه كان يجاملني ليس إلا، ولما عرف النهاية أسقطني من الحساب، وها هو الوغد يتكشف عهده الطويل عن أكذوبة سمجة، ومودته الحارة عن مهارة محترف.

وجاء الصديق لزيارتي مرة ثالثة، وأنا بين الحياة والموت، وسمعني أغمغم باسمه الرنان في أسى، فأدنى رأسه مني وقال: البقية في حياتك في فاسيليادس.

هتفت رغم ضعفي: لا!

فقال: هكذا قلنا جميعا، لم نصدق أعيننا ونحن نراه وهو يتهاوى وراء البار، وقبيل ذلك بثوان كان يضحك ويتحدث وهو واقف كتمثال، ولكن بالله خبرني كيف كان يمكن أن يموت رجل في مثل قوته إلا بضربة قاضية؟!

المتهم

لأنه وحيد في سيارته الصغيرة، لم يجد تسلية إلا في السرعة، طار فوق شريط الأسفلت المنساب وسط الرمال في طريق السويس، ولا تنوع في المنظر؛ مما ضاعف من شعوره بالحدة، ولا جديد يذكر في سبيل يقطعه ذهابا وإيابا مرة كل أسبوع، وتراءت له عن بعد سيارة نقل ضخمة، فقرر اللحاق بها، ثم ضاعف من سرعة سيارته «رمسيس» ومضى يقترب منها. سيارة بترول ضخمة كقاطرة، وثمة راكب دراجة يمسك بركن مؤخرها، وينطلق بحذاء عجلتها اليسرى الخلفية دون عناء، وهو يغني. ترى من أين جاء راكب الدراجة، وأين يقصد، وهل كان يطوي الطريق بدراجته لو لم يجد سيارة تجره؟! وابتسم إعجابا وهو ينظر إليه في إشفاق، ومر بمجموعة من التلال عن يمينه، تترامى وراءها بقعة خضراء زرعت ذرة، واكتنفتها أرض معشوشبة ترعاها الماعز، فهدأ من سرعته مؤجلا السباق حتى يتملى الخضرة اليانعة، وإذا بصرخة تمزق الصمت. انجذب وجهه إلى الأمام بعنف، رأى عجلة السيارة تدوس الدراجة وراكبها وتمضي في طريقها. صرخ فزعا، وصرخ ينادي السائق، وأوقف سيارته على مبعدة مترين من الدراجة، ثم غادرها دون تفكير، ودون أن يكف عن مناداة السائق، واقترب في تهيب من مكان الحادث، فرأى جسما ملقى على جانبه الأيسر، وذراعه اليمنى منطرحة إلى جانبه سمراء صغيرة اليد، بارزة من قميص أغبر نصف كم، مغطاة الأديم بالسحجات والكدمات، لا يظهر من وجهه إلا عارضه الأيمن، ورجلاه ما زالتا مطوقتين للدراجة داخل بنطلون رمادي متهتك ينز منه الدم، وقد هصرت العجلتان وتهشمت أسلاكهما، وانكسر جانب المقود، وثمة حركة تنفس ثقيل عميق سريع تجتاح صدر الضحية الذي بدا شابا في العشرين أو فوق ذلك بقليل. تقلص وجهه وثبتت في عينيه نظرة حزن ورثاء، ولكنه لم يدر ماذا يفعل. شعر بعجزه في الخلاء، ونبذ فكرة حمله إلى سيارته التي قد يكون فيها القضاء عليه، وأخيرا، وجد المهرب من حيرته في أن يركب سيارته، وينطلق بها في إثر السيارة الجانية حتى يلحق بها، ولعله يجد في الطريق نقطة مراقبة أو تفتيش فيبلغ عن الحادثة.

ورجع إلى سيارته وهم بالدخول فيها عندما ارتفع صوت، بل أصوات، وهي تصيح: قف .. لا تتحرك.

التفت وراءه فرأى جمعا من الفلاحين يركضون نحوه، آتين من ناحية الأرض الخضراء، منهم من يحمل عصا أو يقبض على حجر، واضطر إلى العدول عن الركوب خشية أن تنهال عليه الأحجار، والتفت نحوهم وهو يرجف من دقة موقفه، وأيأسته الوجوه الغاضبة المتوثبة من أي أمل في التفاهم، فمد يده بسرعة إلى الخزانة، فاستخرج مسدسه ثم سدده نحوهم، وصاح بنبرة مختلجة: مكانكم.

أدرك بسرعة خاطفة مضطربة أنه بحركته هذه قد قضى على أي أمل أيضا في التفاهم مستقبلا، ولكن لم يكن ثمة وقت لحسن التدبير، وهدءوا من اندفاعهم حتى توقفوا تماما على مبعدة عشرة أمتار. استقرت في أعينهم نظرة مكفهرة حاقدة، وأضرم من نيرانها العجز غير المتوقع حيال المسدس، وتبدت الوجوه غامقة جافة مرهقة تحت أشعة الشمس، وتهاوت الأيدي بالعصي والأحجار، وتشبثت الأقدام الغليظة الحافية بالأسفلت، وقال رجل منهم: أتريد أن تقتلنا كما قتلته؟ - لم أقتله، لم أمسه، ولكن داسته سيارة البترول. - سيارتك أنت. - أنتم لم تروا شيئا. - رأينا كل شيء. - إنكم تمنعونني من اللحاق بالسيارة الجانية. - أنت تريد أن تهرب.

ازدادوا حقدا وازداد خوفا، وأرعبته لحد الموت فكرة أن يضطر إلى إطلاق النار، أن يقتل، وأن يجره القتل إلى مأزق لا نجاة منه. كيف حل الكابوس بلا نوم. - صدقوني ما مسسته، وقد رأيت السيارة وهي تدهسه. - لم يدهسه أحد غيرك. - كان يجب أن تبلغ أقرب مستشفى. - حصل. - ونقطة البوليس؟ - حصل. - إذن، أرجو أن ننتظر في سلام، وسوف يظهر الحق. - لا تهرب وسوف يظهر الحق. - بالله، لماذا الإصرار على الباطل؟ - لماذا تقتله؟!

أي جحيم من العناء والكذب؟ ومتى تنقضي فترة الانتظار الجهنمية، العذاب البطيء والخوف والفكر المحموم؟ لماذا وقف؟ وكيف تظهر الحقيقة؟ حتى سائق السيارة الكبيرة لا يدري، ولا أمل في أن يكون الموقف كله حلما مزعجا.

وندت عن الشاب الطريح تأوهة، أعقبتها آهة محشرجة وأنين طويل هبط حتى الصمت مرة أخرى، وهتف رجل: الله ينتقم منك. - الله ينتقم من الفاعل. - أنت الفاعل! - الحق علي لأني وقفت. - ظننت نفسك وحيدا. - بل ظننت أن أسعفه. - تسعفه! - لا فائدة من الكلام معكم. - لا فائدة!

لو أدار لهم ظهره ثانية واحدة لالتهمته الأحجار، لا مهرب من موقف العذاب، ولا سبيل إلى السيارة الكبيرة، هو وحده الفداء، ودون حلم النجاة أهوال وأهوال، ترى كيف تحدد المسئولية، وكيف تقدر العقوبة؟ وهل يمكن أن ينجو الشاب المسكين؟ وتجلى الحنق في نظرته تجاه حقد ثابت في نظراتهم. •••

وتراءت في أقصى الأفق سيارتان، وأخذتا تقتربان حتى تنهد في ارتياح، وصلت إلى مكان الحادث سيارة الإسعاف وسيارة البوليس، انتقل رجال الإسعاف إلى الدراجة فورا وأحاط بهم الجميع، خلصوا الدراجة من بين ساقيه بأناة، ثم حملوه بعناية إلى السيارة، ورجعوا من حيث أتوا، وأبعد العساكر الجمع عن الدراجة وراح الضابط يعاين المكان صامتا، ثم التفت إليه قائلا: أنت؟

فصاح الفلاحون بإيجاب حتى أسكتهم الضابط بإشارة من يده، وهو ينظر إليه مستطلعا، فقال: كلا، كنت أسير وراء سيارة بترول، وكان قابضا على مؤخرها، انتبهت إلى صرخة، فرأيته تحت عجلتها الخلفية.

وصاح كثيرون: هو الذي داسه. - لم أمسه، كنت شاهدا فحسب.

وعادت الضجة، فصاح الضابط: الكلام بنظام.

وسأله: هل رأيت الحادث وهو يقع؟ - كلا، عندما التفت إلى مصدر الصرخة، رأيت الدراجة تحت العجلة. - ولكن كيف وقع تحتها؟ - لا أدري. - وماذا فعلت؟ - أوقفت السيارة لأرى ما حل به وما يمكن عمله، وأردت اللحاق بالسيارة، ولكني رأيتهم يجرون نحوي بالعصي والأحجار، فاضطررت إلى تهديدهم بمسدسي. - هل تحمل رخصة؟ - نعم، إني صراف بالسويس وكثير السفر.

والتفت نحو الفلاحين متسائلا: لماذا تتهمونه؟

فاستبقوا هاتفين: رأيناه بأعيننا، ومنعناه من الهرب.

فقال الشاب حانقا: كاذبون، لم يروا شيئا.

أمر الضابط جنديا بحراسة المكان، وآخر بإبلاغ النيابة، ثم مضى بالجميع إلى النقطة لكتابة المحضر، وأصر علي موسى على أقواله كما أصر الفلاحون على أقوالهم، وجعل علي يردد بأن التحقيق سيكشف عن الحقيقة. وعرف أن الضحية اسمه عياد الجعفري، وهو تاجر متنقل، وله معاملات متبادلة مع أكثر الفلاحين. وتساءل علي موسى: ما الذي يدعوني إلى الوقوف لو كنت حقا الجاني؟

فقال الضابط ببرود: ليس المفروض أن تدهس وتهرب.

ولبث الجميع ينتظرون، جلس الفلاحون القرفصاء، وجلس علي موسى على كرسي بإذن من الضابط، ومر الوقت ثقيلا كئيبا غليظا، وبانتهاء المحضر تناساهم الضابط ولم يعد يعنيه من الأمر شيء، وراح يتسلى بقراءة الصحف. ولماذا يصر الفلاحون على اتهامه؟ والأدهى أنهم مطمئنون بشهادتهم كأنهم حقا صادقون. هل خدع البصر؟ هل فسر أحدهم الموقف بما يحدث عادة، لا بما حدث بالفعل، ثم تبعه الآخرون بغريزة عمياء؟ آه .. لا أمل إلا في نجاة عياد الجعفري، هو قبل أي إنسان آخر الذي يستطيع أن يوقظه من الكابوس بكلمة واحدة.

وقال علي موسى للضابط برقة ورجاء: أيمكن الاطمئنان على حال المصاب؟

فرمقه الضابط بنظرة لم يرتح لها، غير أنه اتصل بالمستشفى بالتليفون، ثم أعاد السماعة قائلا: في حجرة العمليات، نزف كثيرا، ولا يمكن التنبؤ بالنتيجة.

فتردد لحظات ثم سأل: ومتى تجيء النيابة؟ - ستعرف ذلك بنفسك عند مجيئها.

فقال وكأنه يخاطب نفسه: لماذا يجد أناس أنفسهم في مثل موقفي هذا؟

فأجاب الضابط وهو يعود إلى الجريدة: لعل عندك الجواب!

وارتمى في وحدته الموحشة، وهو يلقي على المكان نظرة مقت. هؤلاء الفلاحون يودون القضاء عليه، ولو تمكن هو من القضاء عليهم لفعل، وهذا الضابط يمارس مهنته كآلة، وثمة قوة عمياء مجهولة تطحنه وكأنها لا تدري، وهو له أخطاء كثيرة، ولكن من السخف ربط أطراف الفوضى بأسباب منطقية.

وتنهد متمتما: يا رب.

فردد أكثر من صوت لأسباب مناقضة. - يا رب!

وفقد أعصابه فصاح بهم: أنتم لا ضمائر لكم.

فصاحوا: ربنا بيننا وبينك يا ظالم.

ورفع الضابط وجهه من فوق الجريدة، وقال بغضب: لا .. لا أسمح بذلك.

فقال علي ممتعضا: لولا الكذب والزور، لكنت الآن في بيتي آمنا.

فقال رجل: لولا استهتارك لكان عياد المسكين في بيته آمنا.

رماهم الضابط بنظرة وعيد عقلت الألسنة، وساد السكون فاستشرى ألم الانتظار، ومر الوقت كأنما يسير إلى الوراء، ومضى علي في إرهاق غير محتمل حتى اضطر إلى الاستغاثة بالضابط من جديد، فسأله بلهجة غاية في الأدب: سيدي، لا أخالك تجهل ما أعانيه من عذاب، هل يمكن أن أعرف متى تأتي النيابة؟

فأجاب من وراء الجريدة في ضجر: أتظن أن حادثتك شيء يذكر بالقياس إلى الحوادث؟

كل هذا العذاب شيء لا يذكر، الآمال المهددة بالتلف شيء لا يذكر، العداوة الغامضة الأسباب بينه وبين الفلاحين شيء لا يذكر، والسماء المترامية التي وقع تحتها الحادث أهي شيء أيضا لا يذكر؟ بمرور الوقت ركبه الإرهاق وخنقه، ولم يعد يكترث كثيرا للمجازفة، فقال: سيدي الضابط ...

فقاطعه وكأنه كان يتربص به: أنت لا تريد أن تسكت! - ولكني في الواقع معذب. - لو شاركت في عذابات كل من يشرف النقطة لمت كمدا من أول يوم. - ألا يمكن السؤال على الأقل عن حال المصاب؟ - سأبلغ بأي جديد عنه دون سؤال من جانبي.

حياتي رهن بحياتك يا عياد، وقد تهزأ الملابسات بذكاء النيابة، وهل إدخالي إلى السجن بلا ذنب شيء لا يذكر؟! ومن الخير - إن أمكن - أن ترمي بالأعباء من فوق كاهلك، وأن تبتسم في استهتار وبلاهة، وكانت الدموع تراودك، وها هو الضحك يوشك أن يجتاحك. بالله تذكر ذنوبك الماضية لتتعزى عن مأزقك، ولكن لا علاقة ولا رابطة. من قال إن الفوضى تعالج بالفوضى، وأعين هؤلاء الفلاحين ترى من خلال منظار أسود، ركبته الأجيال فوقها، ولكنني لم أسهم في صنعه، أو لعلني أسهمت وأنا لا أدري، وها أنا أفكر لأول مرة في حياتي، وسوف أفكر طويلا وراء الجدران، وقد تم التعارف اليوم بيني وبين أشياء لم أعرفها قبلا بالسماع؛ المصادفة، القدر، الحظ، النية والعمل، الفلاح والضابط والأفندي، الرياح الموسمية، البترول، سيارات النقل، قراءة الصحف في النقطة، ما يذكر وما لا يذكر. كل شيء يجب أن يعاد التفكير فيه، كل شيء كشيء وككل. يجب أن نبدأ من الألف لنفهم كل شيء، ولنسيطر على كل شيء، وحتى لا يوجد شيء لا يذكر. وليس الزلزال بمسئول، ولكن المسئول هو الجهل، وعليك ألا تذعن بعد اليوم لدكتاتورية المجموعة الشمسية ولا للغة النجوم الغامضة، فكيف ترهب الضابط الذي يقرأ صفحة الوفيات دون أن يعزي أحدا؟

وقال بصوت قوي: شيء لا يطاق!

ظهر وجه الضابط فوق الجريدة حاملا نظرة إنكار، فقال بحدة: حضرتك تقرأ الجريدة ولا تفعل شيئا! - أنت تقول ذلك؟! - كما سمعت. - ألا تخاف؟ - لا أخاف شيئا. - إن كنت فقدت أعصابك فعندي لكل داء دواء! - وأنا عندي لكل داء دواء.

وقف الضابط وهو يقول بغضب: أنت؟! - أنت تؤخر حضور النيابة، أنت تمنع القانون. - سأضعك في السجن. - أهو أفظع من هذه الفوضى؟ - أتريد أن تدعي الجنون؟

ووقف علي محتدا وفي عينيه نظرة زائغة، ونادى الضابط العسكري، ولكن جرس التليفون رن. تناول الضابط السماعة واستمع بعض الوقت، وأعاد السماعة وهو ينظر إلى علي بشماتة وحقد، ويداري في ذات الوقت ابتسامة، ثم قال: مات المصاب متأثرا بجراحه!

وجم علي موسى قليلا. تلقى النظرة الشامتة بغضب جنوني، وصاح بصوت مرتجف: القانون لم يقل كلمته بعد، وإني لمنتظره.

السكران يغني

خلت الحانة من الزبائن تماما، ومسح الجرسون العجوز على صلعته وهو يتثاءب بصوت مرتفع كالتوجع، ومضى يكوم المقاعد الخشبية والمناضد العارية، ومشى صاحب الحانة بين أرجائها المتقاربة متفقدا الأركان والمرحاض، وعد القروش على مهل، وأغلق الأدراج المدسوسة تحت الطاولة، ودرج منضدة الماركات، ثم أطفأ المصباح المدلى فوق الطاولة، فانخفض الضوء بالمكان وزاده كآبة على كآبة، وقال مخاطبا الجرسون: أسرع، فالساعة تدور في الثانية صباحا.

فانتهى الرجل من تكويم المقاعد والمناضد، ثم خلع المريلة المتسخة في أكثر من موضع، وعلقها بمسمار منغرز في الجدار، وسار نحو الباب يجر قدمين ثقيلتين مدفونتين في حذاء من المطاط، وجسمه النحيل يتأرجح في جلباب فضفاض. وأطفأ صاحب الحانة المصباح الآخر، فساد الظلام، وغادر المكان إلى الخارج، ثم أغلق الباب وذهب، باعثا من حذائه الثقيل أطيطا متواصلا كدر صمت الطريق.

ثمة رجل لابد تحت البرميل الأوسط يترقب ذهاب الرجلين بفارغ الصبر، تسمع أطيط الحذاء حتى سكن، وتنهد في ارتياح، ثم زحف خارجا من تحت البرميل. وقف في ظلام دامس، يحملق في الظلام ولا يرى شيئا، ولا شبح شيء، أعمى بكل معنى الكلمة، وضائع كأنما ألقي به في عالم الغيب، ولكن إذا كان البرميل الوسطاني وراءك فالبار إلى اليسار، وعند طرف البار يرقد صندوق النقود، وسار بحذر إلى اليسار مادا ذراعيه حتى مست أصابعه الطاولة، ثم مشى بحذائها معتمدا عليها حتى المنضدة العالية، ورائحة قوية من مزيج من المخلل والسردين والجبن تملأ أنفه. ضائع تماما، ولكن ها هو الدرج المنشود ، ها هنا توجد نقود مانولي التي يكسبها من بيع أقداح النبيذ المقطر من نيران الجحيم، وأخرج من جيبه آلة كالمبرد، ومضى يعالج بها القفل حتى فتحه، واقتحمته عطسة آتية من الخارج فشلت يده، وفي سره سب ولعن، وتخيل حانقا المتسكع في الشارع الضيق، شبه المظلم، الذي يضيئه فانوس واحد في طرف منحدره عند اتصاله بشارع البواكي. ودس يده في الدرج بلهفة، وتحسس أرضه من طرف إلى طرف، ولكنه لم يعثر على شيء، لا شيء البتة. يا مانولي الكلب، أتأخذ الإيراد معك؟ ألا تترك مليما؟ أليست الحانة آمن على النقود من الطريق والبيت؟ وقطب في غيظ وحنق، واشتد ضيقه بالظلام. هل تضيع المغامرة هباء! ويهزأ الفراغ من الحيلة والعدة ودهاء التدبير! ودفعه الغيظ إلى فتح أدراج الطاولة جميعا، ولكنه لم يعثر إلا على بقايا الجبن الرومي والزيتون والفول النابت. ولبث واقفا وراء الطاولة بمكان العجوز الداهية يفكر في لا شيء، ويتناول حبات من الفول بلا تذوق. وسلم أخيرا بهزيمته، ولكنه عزم على الترفيه عن نفسه قبل أن يعالج النافذة ليفر. مد يده وراء ظهره إلى الرف، فتناول زجاجة نبيذ، فض سدادتها وأطبق عليها فاه، وراح يشرب بشراهة ونهم حتى أفرغها. وركز انتباهه ليتابع تقلب الدوامة في جوفه. رهيب .. جليل .. لا مثيل له .. ولا يقدر بثمن. ولا وجه لإنفاق النقود خير من الخمر، فلا موجب للزعل. المؤسف حقا أن يفوت عربتك الكارو موسم القرافة غدا، فلعنة الله عليك يا مانولي. ومد يده فتناول زجاجة ثانية، ما أفظع الظلام والعماء! ليشرب حتى يروى، وليؤجل الشروع في الهرب حتى يقوم العسكري بدورة المرور، ولكن الظلام يقوم كالسد، وله أنفاس مخمورة وقبضة من الصخر، وها هي زجاجة ثالثة من المياه النارية، ويجب أن تجلس وليكن فوق البار. مضى مانولي والنقود معه، فإلى الجحيم يا مانولي. وليس ألعن من الجحيم إلا الظلام، وتنحنح بلا حذر، فسرت النحنحة في ظلام الحانة، ولكنه لم يبال كثيرا. لا يبالي أن يبالي، والحق أنك عدو الظلام. إني أعمل في الشمس ، وأنام تحت النجوم، وفي ليالي الشتاء يضيء فانوس الحارة حجرتي في البدروم، وضربت من الرجال عددا يفوق الحصر، وأرمي بجسدي على العصي بلا خوف، ولكني أخاف أن يمزق جلبابي الوحيد. وحماري يجرني وهو عار، فلا يتعرض له أحد، أما أنا فلا غنى لي عن الجلباب والخمر. ورفع الزجاجة الرابعة، فقرقر صوت الشراب وهو ينصب في حلقه، ويجلجل بين الجدران الغارقة في الصمت والظلام، وقال لي الشيخ زاوي لا تسكر، فقلت له أنا سلطان الترك والعجم، فقال لي عليك لعنة الله، فحلفت يمينا لأسمين حماري بالزاوي، وراح يدندن بصوت سري «أوان الوصل»، ولما تناول الزجاجة الخامسة اضطجع على راحتيه ومد ساقيه فوق الطاولة، وتذكر شاعر الربابة، فتساءل لماذا تختفي الأشياء الجميلة، واندفع يغني كأنه في بيته:

أوان الوصل قرب بالتهاني.

وتلوت النغمة المخمورة، ولكنه هز رأسه في إعجاب، وعند الهنك ارتفع صوته إلى طبقة عالية، واعتدل في جلسته وراح يصفق بيديه.

وإذا بقبضة تهوي على الباب، وصوت العسكري يصيح: من بالداخل؟

ولم يكف أول الأمر عن الهنك، ولكن تتابع الخبط أزعجه، فأمسك وهو يتمتم بغيظ: «لا منكم ولا كفاية شركم»، وتساءل في عظمة: من أنت؟ - أنا العسكري. - وماذا تريد؟ - عجيبة! .. قل من أنت؟

فأجاب وهو يضحك: زبون! - الدنيا نامت، فكيف بقيت أنت في الداخل؟ - وما شأنك أنت؟ - يا سكير، يا عربيد، ستدفع ثمن وقاحتك. - ليس معي مليم واحد! - إني أعرف صوتك، رغم السكر فإني أعرف صوتك. - من الذي لا يعرف أحمد عنبة! - عربجي الكارو! - بعينه .. هل من خدمة يا شاويش؟

وصفر العسكري، فأرهب سكون الليل، وتحسس الرجل الجدار فوق الطاولة حتى عثر على مفتاح الكهرباء، فأضاء المصباح، وقطب وهو يضيق عينيه، ومضى يتفحص المكان بعناية، حتى استقرت عيناه الحمراوان الجاحظتان على موقد الجاز وصفيحة الجاز، ودار رأسه ودارت به أفكار في سرعة، فلم يكد يمسك بإحداها ثانية واحدة، وكاد ينسى العسكري وصوته، ولكن ترامت إليه من الخارج ضجة وضوضاء. آه! .. ضابط النقطة، وعساكر، وسكان الأرصفة من جامعي الأعقاب، وآخرون، وميز صوت مانولي، فصاح بغضب: مانولي!

فقال الرجل باضطراب: أنا مانولي يا عم أحمد. - لا تفتح الباب .. عند أول حركة في الباب، ستصبح حانتك شعلة من النيران. - لا .. لا تحرق نفسك! - لا شأن لك بي يا مانولي، الجاز في كل مكان، فوق الأرض والبراميل والمقاعد والمناضد، وها هو عود الكبريت في يدي .. احذر يا مانولي.

قال الرجل باضطراب واضح: هدئ أخلاقك، لن أفتح حتى تأمر. - من أين لك هذا الأدب يا مانولي؟! - طول عمري مؤدب .. هدئ أخلاقك، وقل لي ماذا تريد؟ - عندي كل ما أريد. - ألا تريد أن تخرج؟ - ولا أن يدخل أحد. - لا يمكن أن تبقى في الداخل إلى الأبد! - ممكن جدا، عندي كل ما أريد. - أنا آسف، لقد أغلقت الباب عليك خطأ! - أنت تكذب، وأنت تعرف أنك كاذب. - ولكن ذلك حصل بالفعل. - تعرف أني هنا لأسرق! - لا شيء عندك يستحق السرقة. - وبراميل النبيذ السام؟ - كل ما شربت هدية مني إليك. - ولا مليم في الدرج! - ليس الدرج للنقود. - لماذا تغلقه إذن يا مانولي؟ - عادة سيئة، هدئ أخلاقك ولا تحرق نفسك. - أنت خائف علي؟ - طبعا .. البراميل طظ، ولكنك روح. - كذاب يا مانولي، وسل العساكر حولك.

في أثناء ذلك قام رجال الشرطة بنشاط واسع، أخلوا البيت الذي في أسفله الحانة، واتصلوا بأصحاب الحوانيت الملاصقة للحانة من تجار الخشب والبوية والخردوات، العاملين في الطريق المهدد بالدمار، وسرعان ما أقبلت سيارات الحريق وأخذت أهبتها، وقهقه أحمد عنبة طويلا، وصاح: العود في يدي يا مانولي.

فقال الرجل بانكسار: لا ذنب لي، هدئ أخلاقك. - شربت خمس زجاجات في صحة خراب بيتك. - اشرب السادسة، ولكن لا تحرق نفسك.

وراقته الفكرة، فمد يده إلى الرف، ثم استأنف الشرب، وشعر بأنه يستمتع بآخر وقت طيب متاح، وجاءه صوت هادئ يقول، وقد سكنت الضوضاء: يا أحمد!

آه .. لا يمكن أن يخطئ هذا الصوت العميق الغليظ. - حضرة الضابط؟ - نعم. - أهلا وسهلا. - يجب أن تعقل، وتتركنا نفتح الباب. - لم؟ - ليتسلمه صاحبه. - الخمارة لمن يشرب! - اعقل يا أحمد. - وأنا؟ - ستخرج آمنا سالما. - وبعد ذلك ؟ - لا شيء البتة. - حتى أنت تكذب كمانولي! - ستسأل عن وجودك في الحانة، ولكن واضح أنك نمت من السكر، وفقدت وعيك، ولا ذنب عليك. - والأدراج المكسورة؟ - فعلت ذلك دون وعي، وتحت تأثير السكر. - آه منك! .. والصفع والضرب والسب والسجن؟! - لا .. لا .. أعدك بأحسن معاملة.

وأفرغ الزجاجة أو كاد، ثم صاح: أحمد عنبة سلطان الترك والعجم، وكلكم ركش. - الله يسامحك. - يا حضرة الضابط أنا فاهمك. - الله يسامحك. - أتذكر يوم بال الحمار أمام النقطة وأنت خارج؟ - لم أفعل شيئا. - تركت الحمار وصفعتني أنا. - مجرد مداعبة. - جاء دوري في المداعبة! - ولكن لا تقتل نفسك. - نفسك! .. هل تهمك نفسي حقا؟ - طبعا! وتهمني سلامة الناس والدكاكين. - الناس في الخارج والدكاكين أشياء لا أتعامل معها. - ولكنك تخاف الله. - أنت لا تخاف الله! - وتكره الأذى. - أنت تحب الأذى. - الله يسامحك. - عود الكبريت في يدي، فابتعدوا عن الباب.

وأتى على بقية الزجاجة، وراح يغني «في العشق ياما كنت أنوح»، ولما انتهى من المقطع الأول جاءه صوت الضابط: أحسنت يا عم، ولعلك عدت إلى عقلك.

فأجاب ساخرا: قضيت على الزجاجة السادسة. - ستقتل نفسك. - اسمع، كلمة أخيرة. - نعم؟ - قل «أنا مرة». - لا يرضيك ذلك. - يرضيني كل الرضا، وهذا شرطي لكي أترككم تفتحون.

فصاح مانولي: أنا مرة. - أنت مرة بلا شرط، ولكن على الضابط أن يقولها. - عيب يا أحمد!

وقهقه طويلا، ثم صاح بلهجة آمرة: اهتفوا بحياتي.

وانقضت دقيقة من الصمت، ثم دوت عاصفة من أصوات الغلمان والأهالي: «ليحي أحمد عنبة!» وتواصل الهتاف، فوثب إلى أرض الحانة وراح يرقص في زهو وابتهاج، ودار في الفراغ المحدود، فدارت معه المقاعد والمناضد والسقف والدنيا جميعا. وانفتح الباب فجأة في غفلة منه وانقض الجنود، ووقف يترنح بين أيديهم القابضة على جلبابه وساعديه وعنقه. ورغم ذلك كله، ألقى على الجميع نظرة سلطنة متعاظمة، كأنما هي هابطة من السماء، وقال بنبرة ثقيلة نائمة، كأنها مسجلة بالتصوير البطيء: ليس معي عود كبريت واحد.

جنة الأطفال

- بابا. - نعم. - أنا وصاحبتي نادية دائما مع بعض. - طبعا يا حبيبتي، فهي صاحبتك . - في الفصل، في الفسحة، وساعة الأكل ... - شيء لطيف، وهي جميلة ومؤدبة. - لكن في درس الدين، أدخل أنا في حجرة، وتدخل هي في حجرة أخرى!

لحظ الأم فرآها تبتسم رغم انشغالها بتطريز مفرش، فقال وهو يبتسم: هذا في درس الدين فقط. - لم يا بابا؟ - لأنك لك دين، وهي لها دين آخر. - كيف يا بابا؟ - أنت مسلمة وهي مسيحية. - لم يا بابا؟ - أنت صغيرة، وسوف تفهمين فيما بعد. - أنا كبيرة يا بابا. - بل صغيرة يا حبيبتي. - لم أنا مسلمة؟

عليه أن يكون واسع الصدر، وأن يكون حذرا، ولا يكفر بالتربية الحديثة عند أول تجربة.

قال: بابا مسلم وماما مسلمة، ولذلك فأنت مسلمة. - ونادية؟ - باباها مسيحي وأمها مسيحية، ولذلك فهي مسيحية. - هل لأن باباها يلبس نظارة؟ - كلا، لا دخل للنظارة في ذلك، ولكن لأن جدها كان مسيحيا كذلك.

وقرر أن يتابع سلسلة الأجداد إلى ما لا نهاية حتى تضجر وتتحول إلى موضوع آخر، ولكنها سألت: من أحسن؟

وتفكر قليلا، ثم قال: المسلمة حسنة، والمسيحية حسنة. - ضروري واحدة أحسن؟ - هذه حسنة، وتلك حسنة. - هل أعمل مسيحية لنبقى معا دائما؟ - كلا يا حبيبتي، هذا غير ممكن، كل واحدة تظل كباباها وماماها. - ولكن لم؟

حق أن التربية الحديثة طاغية! .. وسألها: ألا تنتظرين حتى تكبري؟ - لا يا بابا. - حسن، أنت تعرفين الموضة، واحدة تحب موضة وواحدة تفضل موضة، وكونك مسلمة هو آخر موضة، لذلك يجب أن تبقي مسلمة. - يعني نادية موضة قديمة؟

الله يقطعك أنت ونادية في يوم واحد، الظاهر أنه يخطئ رغم الحذر، وأنه يدفع بلا رحمة إلى عنق زجاجة. وقال: المسألة مسألة أذواق، ولكن يجب أن تبقى كل واحدة كباباها وماماها. - هل أقول لها إنها موضة قديمة، وإنني موضة جديدة؟

فبادرها: كل دين حسن، المسلمة تعبد الله، والمسيحية تعبد الله. - ولم تعبده هي في حجرة، وأعبده أنا في حجرة؟! - هنا يعبد بطريقة، وهناك يعبد بطريقة. - وما الفرق يا بابا؟ - ستعرفينه في العام القادم أو الذي يليه، وكفاية أن تعرفي الآن أن المسلمة تعبد الله، والمسيحية تعبد الله. - ومن هو الله يا بابا؟

وأخذ، وفكر مليا، ثم سأل مستزيدا من الهدنة: ماذا قالت أبلة في المدرسة؟ - تقرأ السورة وتعلمنا الصلاة، ولكني لا أعرف، فمن هو الله يا بابا؟

فتفكر وهو يبتسم ابتسامة غامضة، وقال: هو خالق الدنيا كلها. - كلها؟ - كلها. - ما معنى خالق يا بابا؟ - يعني أنه صنع كل شيء. - كيف يا بابا؟ - بقدرة عظيمة. - وأين يعيش؟ - في الدنيا كلها. - وقبل الدنيا؟ - فوق. - في السماء؟ - نعم. - أريد أن أراه. - غير ممكن. - ولو في التليفزيون؟ - غير ممكن أيضا. - ألم يره أحد؟ - كلا. - وكيف عرفت أنه فوق؟ - هو كذلك. - من عرف أنه فوق؟ - الأنبياء. - الأنبياء؟ - نعم .. مثل سيدنا محمد. - وكيف يا بابا؟ - بقدرة خاصة به. - عيناه قويتان؟ - نعم. - لم يا بابا؟ - الله خلقه كذلك. - لم يا بابا؟

وأجاب وهو يروض نفاد صبره: هو حر يفعل ما يشاء. - وكيف رآه؟ - عظيم جدا، قوي جدا، قادر على كل شيء. - مثلك يا بابا؟

فأجاب وهو يداري ضحكة: لا مثيل له. - ولم يعيش فوق؟ - الأرض لا تسعه، ولكنه يرى كل شيء.

وسرحت قليلا، ثم قالت: ولكن نادية قالت لي إنه عاش على الأرض. - لأنه يرى كل مكان، فكأنه يعيش في كل مكان! - وقالت إن الناس قتلوه؟! - ولكنه حي لا يموت. - نادية قالت إنهم قتلوه. - كلا يا حبيبتي، ظنوا أنهم قتلوه، ولكنه حي لا يموت. - وجدي حي أيضا؟ - جدك مات. - هل قتله الناس؟ - كلا، مات وحده. - كيف؟ - مرض ثم مات. - وأختي ستموت لأنها مريضة؟

وقطب قليلا وهو يلحظ حركة احتجاج آتية من ناحية الأم: كلا .. ستشفى إن شاء الله. - ولم مات جدي؟ - مرض وهو كبير. - وأنت مرضت وأنت كبير، فلم لم تمت؟

ونهرتها أمها، فنقلت عينيها بينهما في حيرة، وقال هو: نموت إذا أراد الله لنا الموت. - ولم يريد الله أن نموت؟ - هو حر، يفعل ما يشاء. - والموت حلو؟ - كلا يا عزيزتي. - ولم يريد الله شيئا غير حلو؟ - هو حلو ما دام الله يريده لنا. - ولكنك قلت إنه غير حلو. - أخطأت يا حبيبتي . - ولم زعلت ماما لما قلت إنك تموت؟! - لأن الله لم يرد ذلك بعد. - ولم يريده يا بابا؟ - هو يأتي بنا إلى هنا، ثم يذهب بنا. - لم يا بابا؟ - لنعمل أشياء جميلة هنا قبل أن نذهب. - ولم لا نبقى؟ - لا تتسع الدنيا للناس إذا بقوا. - ونترك الأشياء الجميلة؟ - سنذهب إلى أشياء أجمل منها. - أين؟ - فوق. - عند الله؟ - نعم. - ونراه؟ - نعم. - وهل هذا حلو؟ - طبعا. - إذن، يجب أن نذهب؟ - ولكننا لم نفعل أشياء جميلة بعد. - وجدي فعل؟ - نعم. - ماذا فعل؟ - بنى بيتا وزرع حديقة. - وتوتو ابن خالي، ماذا فعل؟

وتجهم وجهه لحظة، واسترق إلى الأم نظرة مشفقة، ثم قال: هو أيضا بنى بيتا صغيرا قبل أن يذهب. - لكن لولو جارنا يضربني، ولا يفعل شيئا جميلا. - ولد شقي. - ولكنه لن يموت! - إلا إذا أراد الله. - رغم أنه لا يفعل أشياء جميلة؟ - الكل يموت، فمن يفعل أشياء جميلة يذهب إلى الله، ومن يفعل أشياء قبيحة يذهب إلى النار.

وتنهدت ثم صمتت، فشعر بمدى ما حل به من إرهاق، ولم يدر كم أصاب ولا كم أخطأ، وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة في أعماقه، ولكن الصغيرة ما لبثت أن هتفت: أريد أن أبقى دائما مع نادية.

فنظر إليها مستطلعا، فقالت: حتى في درس الدين!

وضحك ضحكة عالية، وضحكت أمها أيضا، وقال وهو يتثاءب: لم أتصور أنه من الممكن مناقشة هذه الأسئلة على ذاك المستوى!

فقالت المرأة: ستكبر البنت يوما، فتستطيع أن تدلي لها بما عندك من حقائق!

والتفت نحوها بحدة ليرى مدى ما ينطوي عليه قولها من صدق أو سخرية، فوجد أنها قد انهمكت مرة أخرى في التطريز.

فردوس

كل شيء يتحرك بلا ضابط، والجدران على الجانبين تتموج. لا غرابة في ذلك، ولكن الغريب حقا هو تهافت الأضواء التي كاد يبتلعها الظلام، وأغرب من كل شيء ذلك الصمت - أو ما يشبه الصمت - كأن النوم يلف الطريق، إما أن الذاكرة خداعة كاذبة تختلق ما لا أصل له، وإما أن الدنيا تتغير بقوة لا ترحم الذكريات. على ذاك لم يخطر له التراجع على بال، ولم يفتر حنينه؛ حنينه إلى فترة من العمر ذهبت إلى غير عودة، ولعن من الأعماق إحساسا ملحا لم يعن بتسميته، ولكن أليس التغير أفدح مما تصور؟! ما معنى وقوف سيارات النقل هنا وهناك؟ أين المقاهي الكثيرة والحانات؟ وعلى أي ضوء تخطر النساء بحليهن الزائفة وملابسهن المتهتكة؟ تكلم يا طريق السرور والحزن، لا تقف متجهما كأنك لا تعرفني، ها هي البواكي على الجانبين، ولكنها لا تنطوي على ضوء يذكر، ولا منظر، ولا صوت! ماذا جرى؟ وها هو السلم الصاعد إلى الدرب، ولكن أين العسكري؟ ولا حنجرة تغني ولا وتر يعزف ولا شتمة واحدة، والصيدلي العجوز السيئ السمعة ودكان كل شيء لزوم الشيء أين؟ لا نكتة، لا صرخة، لا معركة ولا تهديد بمعركة، لا قدم تزل ولا استغاثة، لا سحنة غريبة ولا أحد يقيء، لا أحد يرقص ولا أحد يحاول الانتحار، لا خلاف على الحساب، ولا نشال ولا نصاب ولا قواد، لا عصا ارتفعت ولا كرسي طار في الهواء، لا يوجد إلا سيارات النقل والحوانيت المغلقة، والظلام الشامل وبضعة فوانيس متباعدة.

عند مطلع الدرب، رأى قهوة صغيرة فتحول نحوها كالمندفع، لعلها النقطة الوحيدة التي يلتقي عندها الماضي والحاضر. جلس في نفس المكان، ربما على نفس المقعد، ولكن واضح أن صبي القهوة وجه جديد، وكذلك المعلم صاحبها، لم ير من مجلسه شيئا يستحق الذكر، وثمة شيء غامض في الجو كالنذير، وقال للصبي الذي مثل بين يديه: أين أهل الحي؟

فأجاب الغلام الذي توقع سؤالا آخر: في بيوتهم. - لا يوجد أحد في الطريق، ولا توجد أنوار؟

دارى الغلام ابتسامة، فقال الرجل لنفسه إنه قد أفرط، وإن منظره ولا شك مثير للغاية. وسأله الغلام: ماذا تحب أن تشرب؟ - واحد كونياك.

لم يعد في وسع الغلام إخفاء ابتسامته، ولبث متحيرا. - واحد كونياك من غير مزة. - قهوة .. شاي .. قرفة .. جوزة. - قلت واحد كونياك. - لا يوجد. - لكني شربته هنا مرات ومرات. - غير مصرح بها في الأحياء البلدية.

هذا الغلام أبله أو أن رأسه هو يتطور تطورا شاذا. - ومن مطرب القهوة؟ - أي مطرب؟ .. لا مطرب للقهوة.

أشار له أن يذهب. ثمة سر سينجلي عن قريب، وأراد أن يناقش صاحب القهوة، ولكن ظهرت أول امرأة في الطريق، جاءت من ناحية السلم ملفوفة في ملاءتها، سافرة الوجه، فانتزعته من هواجسه. هي نقطة الالتقاء الحقيقية لا القهوة الخربة، وثمة امرأة واحدة تمشي بملاءتها في الحي كله. فردوس، فردوس دون غيرها من نساء الحي، ولما اقتربت ابتسم إليها. هم بدعوتها لمجالسته، ولكنها مضت داخل الدرب دون أن تعيره التفاتة تصاحبها دقات كعبها العالي فوق البلاط. لعلها لم تره، لا يمكن أن تنسى العشرة الطويلة والسرور والحزن، والأحاديث التي لا تنتهي حتى مطلع الفجر. وغادر القهوة ليتبعها على الأثر، ومالت نحو ثالث باب، فدفعته بيدها ودخلت. أوسع خطاه ثم دخل وراءها.

جعل يقترب منها في الطرقة، في جو تغشاه الظلمة، لولا بصيص من النور يترامى إليه من الدرب خلال الباب الموارب، التفتت متسائلة: من؟

أجاب بثقة: أنا.

فسألت بحدة وحذر: من أنت؟ - صاحب هذا الصوت، ألا تذكرين؟ - كلا. - فردوس. - اذهب. - فردوس. - فردوس في عينك يا قليل الحيا!

فضحك قائلا: هذه هي فردوس، إني أعرف ألاعيبك.

ومد يده ليمسك بساعدها، فأفلتت منه وهي تصرخ غاضبة، ثم هوت على وجهه بقبضتها. توقف منزعجا، وهرولت أقدام فوق السلم. وتلاطمت الجدران بزمجرة ولغط، ثم تجلت أوجه غاضبة على ضوء مصباح تحمله امرأة، وقال في جفول: ماذا جرى؟ .. أنا زبون!

أحيط به، وانهالت عليه الصفعات: لص! - دعوني أتكلم. - تكلم يا جبان. - أنا زبون. - زبون! .. من قال إن بيتنا قهوة؟!

وانهالت عليه الأكف حتى صرخ، وأمسكوا عن ضربه مليا، وهم يقربون المصباح من وجهه مستطلعين. - أفندي! - عجوز! - سكران!

توسل قائلا: لنتفاهم بلا ضرب. - ماذا جاء بك إلى هنا؟ - زبون والله .. ومستعد أن أدفع إلى آخر مليم!

وانهالت عليه اللطمات بشدة حتى سقط تحت الأقدام، وحال أحدهم دون الاستمرار في ضربه؛ خشية أن يموت، ثم جرى لاستدعاء البوليس. ترك ملقى فوق أرض تربة وهو يغمغم: الله يسامحك يا فردوس!

ووقف الجميع أمام ضابط القسم، أدلت المرأة والرجال بأقوالهم، وسأله الضابط: ما أقوالك؟

أطل الوجه النحيل المتجعد المتورم في هيئة زرية، وقد انبسطت صلعته مكان الطربوش المفقود، وتدلى البابيون من بنيقة القميص الممزق، وتلطخت جاكتته السوداء بالجير والتراب، وتراقص شدقاه حول فم أثرم، وقال بصوت متعب: أقوالهم دليل عليهم، شهدوا بالاعتداء علي بلا سبب، إني أطالب بكشف طبي عاجل. - إنك سكران لحد الموت. - هذا شأني ما دمت لم أعتد على أحد. - ولكنك اعتديت على السيدة! - بل ذهبت وراءها إلى البيت كما تقضي الأصول! - الأصول؟ - نعم، كأي رجل. - بأي حق؟ - الحق المشروع، وأنت سيد العارفين. - تكلم ولا تضع وقتي! - طلبتها وفي نيتي أن أدفع لها أجرها، فانهالوا علي ضربا. - أتعترف بذلك؟ - طبعا، لست لصا ولا نصابا، ولكنني زبون قديم. - زبون؟! - نعم، ولا أطلب ذلك للهو أو الفجور، ولكنني أقدم للمجتمع خدمة مشكورة! - ما شاء الله! - إني أدرس أحوال النساء بالحي، وخدماتي مقدرة ومشكورة. - من كلفك بذلك؟ - واجب إنساني تطوعت له بلا تكاليف. - لا تتوهم أنك تخدع أحدا بسكرك الفاضح.

ابتسم الرجل ابتسامة بلهاء، ضرب كفا بكف، أجال بصرا زائغا متعبا في الوجوه، ثم تهاوى مغمى عليه. •••

فتح عينيه، فوجد نفسه مستلقيا فوق سرير في حجرة صغيرة ناصعة البياض، ذات رائحة طيبة. ومضت دقائق قبل أن يعرف أنه هو هو، وأنه في مكان. ودخل رجل لم يره من قبل، ولكنه ذو وقار وطابع رسمي. قال إنه المأمور، فنظر إليه باستغراب، وقال إنه يعرفه من قديم، ويذكر نشاطه مذ كان يكتب في الجرائد والمجلات. - الحق أنني كنت من قرائك المغرمين.

تمتم الرجل، وهو يتحسس جبينه وفكيه: فرصة طيبة. - عرفتك في القسم وأنت مغمى عليك، فأمرت لك بالإسعافات الضرورية، أرجو أن تكون أحسن. - أظن ذلك، ولكن لا فكرة عندي عما جرى. - لذلك قصة مؤسفة، ستتذكرها في حينها.

تجلت في عينيه نظرة ممتعضة، فقال المأمور: دعني أولا أتلو عليك المحضر. - المحضر؟

تلا عليه المحضر بأناة ووضوح، تابعه مقطبا ذاهلا. أجل ! شيء كذاك الجحيم قد لفحه على نحو ما، وسأله المأمور: كيف حدث ذلك؟

تمتم بارتباك وحزن: لا أدري. - ثابت أنك كنت في حال سكر بين، ولكن هذا لا يكفي.

لم ينبس. - وقد شك الضابط فيما هو أخطر من السكر، واقترح علي عمل تحليل للمعدة. - لا. - لم يحصل. - لا أدري كيف أشكرك.

ابتسم المأمور، وقال: كنت من المتابعين لدراساتك القيمة، ولكن كيف حدث ذلك؟

تأوه الرجل قائلا: واضح أنني فقدت عقلي تماما. - ولكنك اعتديت على امرأة في بيتها، وتلك جريمة مزدوجة. - لا أصدق! - وسنجد مصاعب حقيقية في محاولة التفاهم مع المرأة وأهلها. - يا له من مصير أسود! - حادث خرافي، أرجو ألا يتسرب إلى الصحافة.

تنهد الرجل لدى ذكر الصحافة، قال إنه كان من أعلامها قبل الاعتزال، قبل أن يعتزلها منذ خمسة عشر عاما. رجع إلى قريته كهلا، جفت به بواعث النشاط. عاش في خمول دهرا، ثم تاقت نفسه إلى زيارة القاهرة. ذهب إلى تافرنا كالأيام الخالية، ثم ساقته قدماه كالعادة إلى الدرب إياه. - ولكنك أول من يعلم بأنه لم يعد حيا للبغاء، وأول من يعلم متى ألغي البغاء. - غاب عني ذلك تماما وأنا فاقد الوعي. - وكان ما كان. - وكان ما كان!

ضحك المأمور بروح مطمئنة لن تتوانى عن مساعدته، وجعل ينوه بكتابه الضخم عن البغاء والبغايا، فقال الرجل: كانت جولة رائعة، وزرت من أجل تأليفه بلدانا كثيرة في الشرق والغرب، كان دائرة معارف. - وكنت تطالب بإلغاء البغاء، والعناية الإنسانية بالبغايا! - وعندما وقع الإلغاء، توجت حياتي بالنصر، وأقام لي الزملاء حفل تكريم في شبارد. - أجل، كأني أذكر ذلك، ولكن لماذا هجرت الصحافة؟ - كان البغاء المشكلة الجوهرية التي كرست لها قلمي؛ تاريخه وأشكاله وضحاياه وجميع ما يتصل به، وجعلت من إلغائه هدفي، فلما تحقق، ولما شبعت من النصر، وضح لي أنه لم يعد لي شيء يثير اهتمامي! - ولكن قلمك ... أعني أن البغاء ليس إلا مشكلة من مشكلات لا حصر لها. - لم يعد لي قلم، مات ميتة غريبة، وتمزقت الأسباب بيني وبين الأشياء. - الحق أني ...

ولكنه قاطعه في ضجر: لقد وقع الإلغاء على البغاء وعلي في آن، ذهبنا معا، أصبحت غير ذي موضوع، وبلا عمل ولا حماس ولا هدف.

تبادلا نظرة، ثم استطرد: رجعت إلى قريتي، وسرعان ما ابتلعني النسيان.

وتبادلا نظرة أطول، ثم ابتسم المأمور قائلا: كان الحي ضمن منطقتي وأنا ملازم، وكنت أراك كثيرا في قهوة العربي! - ذاك كان بعض عملي. - ولكنك ... أعني ... كنت تمرح وتلعب. - أجل، كنت القلب الذي يصغي إلى أناتهن في الهزيع الأخير من الليل.

وخيل إليه أن المأمور يجد حرجا في الإفضاء بما لديه من ذكريات، فقال: كأننا جزء من الشر الذي نحاربه!

ومد يده للمأمور، فأعطاه يده، فشد عليها ممتنا وهو يقول: أرجو - بفضلك - أن أعود إلى قريتي مصونا، ولن أغادرها ما حييت.

الرجل السعيد

استيقظ من نومه، فوجد نفسه سعيدا، تساءل: ما هذا؟! لم يحظ بكلمة هي أدق وأصدق في التعبير عن حاله من «سعيد»، وهي حالة تعد غريبة بالقياس إلى الأحوال التي تنتابه عند الاستيقاظ من النوم؛ عادة ما يستيقظ مثقل الرأس من طول السهر في الجريدة، أو مرهق الأعصاب والمعدة لإفراط في الأكل والشرب في حفلة ما، ودائما تنثال عليه هموم اليوم السابق وشواغل يومه الراهن، فيستقبل الحياة في معاناة وتفكير، ثم ينهض من فراشه وهو يشحذ همته لملاقاة المتاعب وتحدي المصاعب. أما اليوم فهو سعيد، مترع بالسعادة، وبحال لا تقبل المناقشة، ولا تمتحن ذكاءه للبحث لها عن صفة مناسبة، فهي من القوة والوضوح بحيث تفرض ذاتها فرضا على الحواس والعقل جميعا. أجل، إنه سعيد، وإذا لم تكن هذه هي السعادة فماذا تكون؟ إنه يشعر بأن أعضاءه كاملة البناء، كاملة الوظيفة، وأنها تعمل بانسجام رائع مع بعضها البعض، ومع الدنيا حوله، وهو يجد في باطنه قوة لا تحد، وطاقة لا تفنى، وقدرة على تحقيق أي شيء بثقة وإتقان وفوز مبين، وقلبه يفيض بالحب للناس والحيوان والأشياء، وبإحساس غامر بالتفاؤل والبشر، وكأنه لم يعد يحمل هما - أي هم - حيال الخوف والقلق والمرض والموت والمنافسة والرزق ، وهناك ما هو أخطر من ذلك كله، وما يتعذر تحليله في نفس الوقت، إنه إحساس متغلغل في كل خلية من خلايا جسده وروحه، يعزف لحن البهجة والرضا والطمأنينة والسلام، ويناغم في طربه البديع همسات الكون المضنون بها على غير السعداء.

ثمل بنشوته، تذوقها في تمهل وعجب، تساءل من أين وكيف جاءت، لا الماضي يفسرها، ولا المستقبل يبررها، فمن أين وكيف جاءت؟! وحتى متى تبقى؟ هل تصاحبه حتى الإفطار؟ هل تمهله حتى يذهب إلى الجريدة؟ ولكن مهلا، إنها حال لا تدوم؛ لأنها لا يمكن أن تدوم، ولو دامت لإنسان لانقلب ملاكا أو شيئا فوق ذلك، فليمعن في تذوقها، في معايشتها، في تخزين رحيقها قبل أن تصبح ذكرى لا سبيل إلى إثباتها، أو حتى التأكد منها.

تناول إفطاره بشهية، لم يصرفه عنه شاغل ما، ونظر نحو عم بشير وهو يقوم على خدمته بوجه مشرق باسم، حتى ساور الرجل شيء من القلق والتساؤل، فهو لا ينظر نحوه عادة إلا لإلقاء أمر أو استجواب، وإن عامله في أغلب الأحوال معاملة لا بأس بها. وسأله: خبرني يا عم بشير، أأنا رجل سعيد؟

ارتبك الرجل، أدرك سر ارتباكه، فهو يخاطبه - لأول مرة - كزميل أو صاحب، وشجعه على الخروج من ارتباكه، فطالبه بالإجابة بإلحاح غير معهود، حتى قال الرجل: سيدي سعيد بحمد الله وفضله. - تعني أنني يجب أن أكون سعيدا؛ فمن يشغل مركزي، ويقيم في مسكني، ويتمتع بصحتي، يجب أن يكون سعيدا، هذا ما تود قوله، ولكن هل تراني سعيدا حقا؟

وبإلحاح جديد منه أجاب الرجل: سيدي يجهد نفسه أكثر مما يحتمل البشر ...

وتوقف كالمتردد، فأشار إليه أن يأتي بما عنده، فقال: ويغضب كثيرا، المناقشات الحامية التي تدور مع زوارك ...

فقاطعه بضحكة عالية، ثم سأله: وأنت .. أليس لديك هموم؟ - طبعا! لا يخلو الإنسان من هموم. - تعني أن السعادة الكاملة مطلب مستحيل؟ - هذا هو الغالب على حال الدنيا.

من أين له أن يتخيل سعادته العجيبة؟ هو أو سواه من البشر؟ إنها سعادة غريبة فريدة؛ كأنها سر قد خص به وحده. وفي بهو الاجتماعات بالجريدة، رأى منافسه الأول في هذه الدنيا جالسا يتصفح مجلة، الرجل سمع وقع قدميه، ولكنه لم يرفع عينيه عن المجلة، لا شك أنه لمحه بطريقة ما؛ ولذلك فهو يتجاهله محافظة على راحة باله. إن الخلاف يحتدم بينهما في الاجتماعات الدورية حتى يتطاير الشرر، ويتبادلا أقسى الكلمات فلا تبقى إلا خطوة واحدة على التشابك. ومنذ أسبوع نجح منافسه في انتخابات النقابة وسقط هو، باء بطعنة حادة سامة، واسودت الدنيا في عينيه، ها هو يقترب من مجلسه، فلا يستفزه منظره، ولا تعكر ذكريات النضال صفوه. إنه يقترب بقلب خلي صاف، ثملا بسعادته العجيبة، طافح النظرة بالتسامح والغفران، كأنما يقبل على إنسان آخر لم تقم بينهما عداوة قط، أو لعله يعد بصداقة جديدة. ولم يجد حرجا البتة وهو يحييه قائلا: صباح سعيد.

رفع الرجل عينيه في دهشة، صمت لحظات قبل أن يفيق من دهشته، ثم رد تحيته بإيجاز، وكأنما لا يصدق أذنيه وعينيه. جلس على مقربة منه، وهو يقول: الجو بديع اليوم!

فقال الآخر بتحفظ: فعلا. - جو يقذف بالسعادة في القلوب.

تفحصه بإمعان وحذر، ثم تمتم: يسرني أنك سعيد.

فقال ضاحكا: فوق ما يتصور العقل.

فقال الرجل بلهجة مترددة بعض الشيء: أرجو ألا أعكر صفوك عند اجتماع مجلس الإدارة. - كلا البتة، رأيي معروف، ولكن لا بأس من أن يأخذ الأعضاء برأيك، لن يفسد ذلك علي سعادتي!

قال الرجل باسما: لقد تغيرت كثيرا ما بين يوم وليلة! - الحق أني سعيد، فوق ما يتصور العقل.

سأله وهو يتفرس في وجهه بعناية: أراهن أن نجلك العزيز قد عدل عن فكرة الإقامة في كندا!

ضحك عاليا، وقال: أبدا، أبدا يا عزيزي، ما زال عند رأيه. - ولكن كان ذلك مصدر حزنك الأول. - أجل، طالما رجوته أن يعود رحمة بوحدتي وخدمة لوطنه! ولكنه أخبرني بأنه سيفتح مكتبا هندسيا مع شريك كندي، بل ودعاني إلى اللحاق به، فليعش حيث يطيب له المقام، وها أنا - كما ترى - سعيد، سعيد فوق ما يتصور العقل.

لم تخل نظرة الآخر من ارتياب، ولكنه قال: شجاعة نادرة المثال! - لا أدري ما هي، ولكني سعيد بكل معنى الكلمة.

أجل، ها هي السعادة، دسمة متينة ذات وزن وكينونة، راسخة كقوة مطلقة، ذائعة كالهواء، عنيفة كالشعلة، ساحرة كالشذا، خارقة للطبيعة فلا يمكن أن تدوم.

وآنس الآخر إلى تودده، فاستنام إليه، وقال: الحق أني أتصورك دائما إنسانا ذا طبيعة حادة عنيفة، من شأنها أن تشقي صاحبها، وأن يشقى بها. - حقا؟! - لا تعرف المهادنة ولا الحلول الوسطى، تعمل بأعصابك، بنخاع عظامك، تقاتل قتالا عنيفا؛ كأن أي مسألة إنما هي مسألة حياة أو موت! - أجل، هذا حق.

تقبل النقد ببساطة، بصدر واسع، انداحت موجته في محيط من السعادة لا محدود، وغالب ضحكة صافية بريئة، حتى غلبها أن يفسرها الآخر تفسيرا بعيدا عن بواعثها النقية، وتساءل: إذن، فأنت ترى أنه لا بد من قدر من التوازن أمام الأحداث؟ - طبعا، أذكر على سبيل المثال مناقشتك أول أمس عن العنصرية، إن رأينا فيها واحد، وهي جديرة بالحماس لحد الغضب، ولكن أي نوع من الغضب؟ غضب فكري، غضب تجريدي لدرجة ما، وليس الغضب الذي يزلزل الأعصاب، ويفسد الهضم، ويهبط بنبض القلب، أليس كذلك؟ - واضح ومفهوم.

وغالب ضحكة ثانية حتى غلبها، قلبه يأبى أن يفرط في قطرة واحدة من أفراحه. العنصرية .. فيتنام .. أنجولا .. فلسطين .. أي مشكلة .. عجزت جميعا عن اقتحام حصن السعادة الذي يطوق قلبه، لدى تذكر أي مشكلة يقهقه قلبه. إنه سعيد سعادة جبارة، مستهينة بكل تعاسة، باسمة لأي شقاء، تريد أن تضحك، أن ترقص، أن تغني، وأن توزع ضحكاتها ورقصاتها وأغنياتها على مشكلات العالم.

وضاق بحجرته في الجريدة، ولم يجد أي رغبة في العمل، عاف مجرد التفكير في يومياته، وعجز عجزا تاما عن استنزال عقله من معتصمه في ملكوت السعادة. وكيف يتأتى له أن يكتب عن غرق التروللي باس في النيل، وهو ثمل بهذه السعادة المخيفة؟ أجل، إنها لمخيفة، كيف لا وهي بلا سبب، عنيفة لدرجة الإنهاك، مشلة للإرادة، فضلا عن أنها ما زالت تصاحبه نصف نهار دون أن تخف حدتها درجة واحدة؟! ترك الأوراق بيضاء، وراح يقطع الحجرة ذهابا وإيابا وهو يضحك ويفرقع بأصابعه.

وساوره شيء من القلق، لم يغص القلق في أعماقه فيفسد سعادته، ولكنه تردد فوق سطح العقل كفكرة مجردة، وخطر له أن يستحضر مآسي حياته ليمتحن أثرها في سعادته؛ لعلها تعيده إلى توازنه أو تطمئنه في الأقل إلى أن سعادته قابلة للفتور. تذكر على سبيل المثال وفاة زوجه، بكافة ظروفها وملابساتها، فماذا حدث؟ تراءى له الحدث سلسلة من الحركات بلا معنى ولا تأثير؛ كأنه حدث امرأة أخرى، زوج رجل آخر، وقع في عصر من عصور التاريخ البعيدة، بل لم يخل من أثر سار، داع للابتسام، بل مثير للضحك، وما تمالك أن ضحك، وإذا به يقهقه ها .. ها .. ها.

تكرر ذلك، وهو يتذكر أول خطاب جاءه من ابنه معلنا عن رغبته في الهجرة إلى كندا، أما عن قهقهاته وهو يستعرض مآسي العالم الدامية، فلولا سمك جدران حجرته، لجذبت إليه العاملين في الجريدة والسائرين في الطريق. لم ينل شيء من مناعة سعادته. لاطمته ذكريات الأحزان كما تلاطم أمواج البحر المستلقي فوق رمال الشاطئ تحت الشعاع الذهبي، وغادر الجريدة دون أن يكتب كلمة، معتذرا في ذات الوقت من عدم حضور مجلس الإدراة. وهجع إلى فراشه - كالعادة - عقب الغداء، ولكنه لم ينم، بل شعر أن النوم مستحيل، ليس ثمة ما يبشر باقترابه ولو على مهل، إنه يثوي في مقام مشتعل متوهج يضج باليقظة والأفراح، لا بد له من هدوء وسكينة وشيء من فتور الحواس والأعضاء، وأين منه ذلك؟ وضاق بالرقاد فغادر فراشه وراح يدندن وهو يتمشى في مسكنه، وقال لنفسه إنه إذا استمرت هذه الحال، فسيتعذر عليه النوم كما تعذر عليه العمل أو الحزن. وأزف موعد ذهابه إلى النادي، ولكنه رغب عن لقاء أي صاحب. ماذا يعني تبادل الرأي في الأمور العامة والهموم الشخصية؟! وكيف يكون الرأي فيه إذا وجدوه يضحك من كل كبيرة وصغيرة؟ ماذا يقولون؟ كيف يتصورون الأمر؟ كيف يفسرونه؟ كلا، لا حاجة به إلى أحد، ولا رغبة عنده للسمر، عليه أن يخلو إلى نفسه، أن يمشي طويلا ليتخلص من بعض فائض حيويته، وأن يفكر في أمره، ماذا حل به، كيف دهمته هذه السعادة العجيبة، وحتى متى يحملها فوق كتفيه، وهل تصر طويلا على حرمانه من عمله وأصحابه ونومه وراحة باله؟! هل يستسلم لها؟ هل يترك نفسه للتيار يعبث به كيف شاء هواه؟ أو أن عليه أن يلتمس لنفسه مخرجا، بالفكر أو بالعمل أو بالمشورة؟ •••

وقد شعر بالحرج وهو يدعى إلى حجرة الكشف بعيادة صديقه الباطني الكبير، وشمله الطبيب بنظرة باسمة، ثم قال: لا يبدو عليك أنك تشكو المرض؟!

فقال له بصوت متردد: لقد جئتك لا لأني مريض، ولكن لأنني سعيد!

فنظر في أعماق عينيه متسائلا، فقال مؤكدا: أجل، لأنني سعيد!

مضت فترة صمت مشحونة بالقلق من ناحية، والتساؤل والدهشة من الناحية الأخرى. - إحساس عجيب لا يمكن تعريفه بصفة أخرى، ولكنه جد خطير.

ضحك الطبيب، مسه مداعبا وهو يقول: أتمنى أن يكون مرضك معديا. - لا تأخذ الأمر ببساطة، إنه جد خطير كما قلت لك، وإليك قصته.

وقص عليه قصته مع السعادة منذ استيقاظه صباحا، حتى اضطر إلى زيارته. - ألم تتناول مخدرا أو شرابا أو عقارا من العقاقير المهدئة؟ - لا شيء من ذلك مطلقا. - هل صادفك توفيق في مجال هام مثل العمل .. الحب .. المال؟ - لا شيء من ذلك مطلقا، ولدي من أسباب الكدر أضعاف ما لدي من أسباب السرور. - لعلك لو صبرت قليلا. - صبرت النهار كله، وأشفقت من قضاء الليل هائما.

كشف عليه بدقة وعناية وشمول، وقال له وهو يهز منكبيه في حيرة: إنك مثال جيد للصحة والعافية. - وإذن؟ - يمكن أن أنصحك بتناول منوم، ولكن من الأفضل أن تستشير أخصائي أعصاب.

وتكرر الكشف في عيادة أخصائي الأعصاب بنفس الدقة والعناية والشمول، وقال له الطبيب: أعصابك سليمة، وبحال تحسد عليها!

فسأله برجاء: أليس لديك تفسير مقنع لحالي؟

فهز رأسه نفيا، وقال: استشر طبيب غدد!

وتكرر الكشف لثالث مرة في عيادة أخصائي الغدد بنفس الدقة والعناية والشمول، وقال له الطبيب : أهنئك على سلامة غددك!

ضحك، اعتذر عن ضحكه وهو يضحك، وكان الضحك وسيلة للإعراب عن قلقه ويأسه.

غادر العيادة وهو يشعر بأنه وحيد، وحيد بين يدي سعادته الطاغية، بلا معين ولا مرشد ولا صديق، وإذا به يتذكر لافتة الطبيب التي يراها أحيانا من نافذة حجرته بالجريدة. أجل، إنه لا يثق في الأخصائيين النفسيين رغم اطلاعه على مضمون التحليل النفسي. فضلا عن ذلك، فهو يعلم بأن حبالهم طويلة، وأنهم يلزمون مرضاهم بنوع من المعاشرة الطويلة. وضحك وهو يتذكر طريقة العلاج بالتداعي الحر، وما تكشف عنه في النهاية من عقد. كان يضحك وقدماه تحملانه إلى العيادة النفسية، وتخيل الدكتور وهو يستمع إلى شكاته العجيبة من السعادة، هو الرجل الذي اعتاد الإصغاء إلى الشاكين من الهستيريا والفصام والقلق ... إلخ. - الحق يا دكتور أنني جئتك لأنني سعيد!

ونظر في وجه الرجل ليمتحن أثر قوله فيه، ولكنه رآه محافظا على هدوئه، فباح بعض الشيء، وقال بلهجة اعتراف: إني سعيد، فوق ما يتصور العقل.

وشرع في قص قصته، ولكن الدكتور أوقفه بإشارة من يده، وقال بهدوئه: سعادة غامرة، عجيبة، منهكة ...

رمقه بذهول، هم بالكلام، ولكن الطبيب سبقه إليه قائلا: سعادة جعلتك تضرب عن العمل، تزهد في الأصدقاء، تعاف النوم.

هتف: أنت معجزة!

فتابع الرجل في هدوئه: وكلما ارتطمت بشقاء ما، أغرقت في الضحك. - سيدي .. أأنت مطلع على الغيب؟

ابتسم قائلا: كلا، لست من ذلك في شيء، ولكن عيادتي تستقبل حالة مماثلة مرة على الأقل كل أسبوع!

فهتف: أهو وباء؟ - لم أقل ذلك، ولا أزعم أنه أمكن تحليل حالة واحدة حتى الآن إلى عناصرها الأولية. - ولكنه مرض؟ - جميع الحالات ما زالت تحت العلاج. - ولكنك مقتنع بلا شك أنها حالات غير طبيعية؟ - هو فرض ضروري للعمل ليس إلا.

فسأله بقلق: هل لاحظت على أحد منهم أن به خللا أو اضطرابا في ...

وأشار إلى رأسه بخوف، ولكن الدكتور قال بيقين: كلا البتة، أؤكد لك أنهم جميعا عقلاء بكل معنى الكلمة.

وتفكر الدكتور مليا، ثم قال: يلزمنا جلستان في الأسبوع ؟

فقال بتسليم: ليكن. - لا يصح أن تجزع أو أن تحزن.

الجزع، الحزن؟! ابتسم، اتسعت ابتسامته لغير نهاية، أفلتت ضحكة منه، وما لبث أن أغرق في الضحك، صمم على ضبط نفسه، ولكن مقاومته انهارت تماما، فراح يقهقه عاليا.

معجزة

سرى الدفء في أطرافه، هفت النشوة إلى رأسه، لم يعد في «فينيسيا» مقعد واحد خاليا، اختنق المكان بالأنفاس ودخان السجاير، تراءى له وجهه في أكثر من مرآة، تتابعت على بصره وجوه النساء والرجال والشواء ودوارق النبيذ الأحمر والأبيض وأصص الأزهار وصحاف السلطة الخضراء، كان يجلس وحيدا، لعله الزبون الوحيد الذي انفرد بمائدته، وقد ولى الضجر، وانتعشت روحه، فوثب فائض النشاط ينشد متنفسا.

أومأ إلى الجرسون، فجاءه من فوره، فسأله: تعرف السيد محمد شيخون الماوردي؟

امتحن الرجل ذاكرته قليلا، ثم أجاب: كلا يا سيدي. - إنه من زبائن فينيسيا. - لكني لم أسمع باسمه من قبل. - عجيبة! - حضرتك على ميعاد معه؟ - كلا، ولكني أريده لأمر هام. - سأتحرى لك عنه.

ذهب الجرسون فغاب برهة ثم رجع ليؤكد له أن أحدا من موظفي المحل وعماله لا يعرفه، أو يسمع باسمه من قبل. شكره، ثم تفرغ لدورق النبيذ الأحمر. راح يبتسم متسليا باستعراض الوجوه، والتجسس على المداعبات اللطيفة الخفية.

وإذا بصوت يرتفع مناديا: السيد محمد شيخون الماوردي! التفت نحو مصدر الصوت التفاتة مذهول بالمفاجأة، رأى مدير المحل قابضا على سماعة التليفون وهو يكرر النداء، وعيناه تنتقلان من ناحية إلى أخرى، ولم يلب نداءه أحد، أبلغ المتحدث في التليفون أن محمد شيخون الماوردي غير موجود، ثم أرجع السماعة إلى موضعها.

ابتسم الجرسون إليه وقال: ثاني شخص يسأل عن نفس الرجل في ساعة واحدة!

دار رأس الرجل، لا من النبيذ هذه المرة، ولكن من النداء الذي لم يتوقعه، من سماعه اسم «محمد شيخون الماوردي»، هو في الحقيقة لا يعرف أحدا اسمه محمد شيخون الماوردي، ولا يتصور أن يتسمى شخص به، وعلى وجه اليقين لم يرد لقاءه كما زعم. أجل قد سأل عنه الجرسون، ولكنه أراد بذلك أن يسلي وحدته، أن يعبث عبثا بريئا، أن يفعل شيئا لا معنى له ولا ضرر منه، فقرر أن يسأل الجرسون عن شخص ما، بأي اسم يرد على ذهنه، فكان ذلك الاسم الغريب، الذي لوحظت الغرابة في اختياره لتتم اللعبة، وكان محتملا أن يخترع اسما آخر، زيد زيدان زيدون مثلا، لذلك لم يدهش البتة لجهل الجرسون به، ولكنه ذهل حقا عندما ارتفع النداء به، ذهل أن يسأل عنه سائل في هذه الحانة التي لم تسمع به من قبل! كيف حدث هذا؟! وكيف يمكن تفسيره؟!

شرب قدحا جديدا وهو يفكر؛ إن معابثة جرسون ليست بمستحيلة، ولا ضرر منها، وهي تسلية لا بأس بها لمن ألحت عليه الوحدة أو ثقل عليه الضجر، ولكن كيف تم تركيب اسم «محمد شيخون الماوردي»؟ محمد اسم شائع يرد على الذهن بسهولة، أما شيخون فما أغربه من اسم، أين ومتى سمعه؟ أتراه قرأه في كتاب مدرسي قديم؟ ولكن كيف وثب إلى خاطره؟ ولماذا؟ وما يقال عنه يقال كذلك عن الماوردي، وباجتماعهما - شيخون والماوردي - يبلغ عسر التركيب الملفق ذروته، بل إعجازه، فكيف يتبين بعد ذلك أنه اسم رجل حقيقي، رجل يحتمل أنه زار الحانة لأول مرة هذا اليوم، ثم يطلبه آخر بالتليفون في نفس الساعة، ألا يدعو ذلك للدهشة والتأمل؟!

وشرب قدحه الخامس فتطايرت نشوته مشعشعة بالدهشة والتأمل.

يجدر به منذ الساعة أن يولي نفسه ما يستحق من الاحترام، أن يتعجب ويتساءل، أن يحكي الحكاية لكل من هب ودب، أن يبحث لها عن تفسير. لقد وقعت معجزة، وقعت ببساطة بين جدران حانة، وسط السكارى والمعربدين من الجنسين، ولا سبيل - للأسف - لتنبيههم إلى مغزاها، أو التماس تصديقهم لها، فهم لم يفدوا إلى الحانة ليشهدوا معجزة أو ليتأملوا معناها، سيرمقونه - إذا حدثهم بها - باستغراب، ثم باستنكار، وسرعان ما يعرضون عنه راجعين إلى لهوهم، أو يتناولونه بألسنة الهزء والسخرية، ماذا يريد هذا الرجل؟ لعله لا يملك ثمن طعامه وشرابه، أو لعله نصاب أو مجنون. محمد شيخون الماوردي؟! أسمعتم عن المعجزة الجديدة؟ إنه لم يحي الميت ولم يسر إلى المسجد الأقصى، ولكنه عرف بإلهام خارق أن محمد شيخون الماوردي اسم، وأنه اسم سكير من زبائن فينيسيا. أرأيتم؟! أعرفتم الآن في أي عصر نعيش؟!

ليكن من رأيهم ما يكون، فلن ينال ذلك من قيمة المعجزة، ولو عن لأحد أن يعتبرها مصادفة لجاز أن نرجع المعجزات جميعا إلى مصادفات، لجاز أن نفسر الخلق بمصادفات لا معنى لها، ولكن ما عسى أن تكون هذه المعجزة؟ نوع من قراءة الغيب؟ موهبة غريبة بدأت تعلن عن نفسها؟ لقد بلغ الأربعين دون أن يفطن إلى موهبته الحقيقية. قنع عمرا طويلا بأن يكون كاتب حسابات، بأن يقتصر عمله على التعليمات المالية؛ لائحة المخازن والمشتريات، الأوامر المنفذة لها، الشطب والمراجعة والميزانية والحساب الختامي، على حين تستقر في أعماقه موهبة فذة، أن يحمل عبء أسرة، أن يرضى بالكفاف، أن يعتنق التقشف، على حين تستكن في قلبه جوهرة غالية. لندع السكارى جانبا، فثمة آخرون سيدهشون لها حقا، ويقدرونها حق قدرها، هناك زوجة، وبعض الزملاء الطيبين، وهناك شيخ الزاوية التي يصلي بها من حين لآخر.

وأفرغ ثمالة الدورق في القدح الأخير، فاقترب الجرسون من مائدته ليكون رهن إشارته، وما إن رآه حتى قال له بلا تدبير سابق: تعرف زيد زيدان زيدون؟

فأجاب الرجل وهو يرمقه بدهشة: كلا يا سيدي، أهو أيضا من زبائن المحل؟ - أجل. - حضرتك على ميعاد معه؟ - كلا، ولكني أريده لأمر هام أيضا.

وغاب الرجل برهة، ثم رجع ليؤكد له أن أحدا من موظفي المحل أو عماله لا يعرفه، أو يسمع باسمه من قبل. شعر - بعد فوات الأوان - أنه تسرع بلا حكمة، ما كان ينبغي أن يتحدى موهبته الوليدة على هذا النحو. من يتصور أن تقع معجزتان في ساعة واحدة، وفي حانة واحدة؟! وإذا فشلت التجربة الثانية، كما هو متوقع، فهل ينال من فشلها من مغزى التجربة الأولى؟! كلا، مهما يكن من أمر فلن يسمح.

ورأى الجرسون مقبلا نحوه، فلما بلغ مجلسه، قال له: تليفون يطلبك.

تساءل بدهشة: لا أحد يعرفني هنا، ولا أنت نفسك، فكيف عرفت أنني الشخص المطلوب؟ - اتصل صاحب حضرتك بالمدير و...

قاطعه متسائلا: أي صاحب تعني؟ - السيد زيد زيدان زيدون!

زلزلته هزة عنيفة، فغض بصره ليخفي عينيه عن الجرسون، وتابع الرجل قائلا: اتصل بالمدير، عرفه بنفسه، وسأله هل يوجد في الحانة أحد يسأل عنه؟

لم يجد بدا من الانتقال إلى التليفون وهو يتخبط في ذهوله وارتباكه. - آلو. - أنا زيد زيدان زيدون. من حضرتك؟ - إني قادم إليك في الحال وشكرا.

هكذا أنهى المكالمة بلباقة، دون أن يفطن أحد إلى ما دار فيها، وقرر أن يغادر المكان فورا تفاديا من وقوع مضاعفات جديدة، غادره وهو يترنح من الذهول والوجل والفرح.

لم يكن له من حديث فيما تلا ذلك من أيام إلا محمد شيخون الماوردي وزيد زيدان زيدون. قال البعض إنها مصادفة، مصادفة خارقة، ولا شيء وراء ذلك، وما أكثر المصادفات في دنيانا، ألا تذكر كيف تزوج رئيس القلم؟ ألا تذكر كيف قتل جارك في ليلة العيد؟ ألا تذكر كيف تولى وزير وزارة العدل لانطباق اسمه على اسم آخر كان هو المقصود بالوزراة؟! وقال آخرون إنها ظاهرة عجيبة حقا، ولكن يمكن إخضاعها للتفسير الطبيعي، فالأسماء الغريبة مأخوذة من مخزون الذكريات البعيدة، وغير مستحيل أن الرجلين كانا يجلسان على مقربة منك، وأن اسميهما لاطما وعيك - رغم انشغالك طوال الوقت بدورق النبيذ - فلما أغراك العبث بتلفيق اسمين وجدتهما طافيين على سطح شعورك أو عالقين بمسمعك، ولا غرابة بعد ذلك في دعوات التليفون، فهي مما تقع كل يوم في المقاهي والحانات!

إذن، فهي إما أن تكون مصادفة خارقة جدا، وإما أن تكون ظاهرة طبيعية جدا.

لا هذا ولا ذاك أرضاه؛ إنه يطمح إلى تفسير جديد يواكب انفعاله المحلق فوق الطبيعة، تفسير خليق بأن يرفعه درجات، بأن يغير وجه حياته، بأن ينتشله من هموم الحياة ومآزقها، ومن حسن الحظ أن كان لشيخ الزاوية رأي آخر، هو وحده الذي استعاده الحكاية مرات، وقرب منه وجهه وهو ينظر في أعماق عينيه، وقال: أتريد رأيي بالحق والصدق! .. أنت فيك شيء لله!

وامتحن أثر قوله في وجهه، ثم تابع: لا عجب لذلك، فأنت رجل طيب، ولا تفوتك صلاة الجمعة.

وتفكر الشيخ قليلا، ثم قال: ولكن أين اكتشفت الموهبة؟ في حانة! ألا تدري ماذا يعني هذا؟ - كنت أتناول عشائي ليس إلا. - ولو، إنه امتحان وتحذير.

فسلم برأيه حتى لا يشتت تيار أفكاره. فتابع الرجل: وهناك معنى لا يجوز أن يخفى عليك! - ما هو يا ترى؟ - إن من يوهب كنزا، فعليه أن يستثمره لخير الناس ولخيره.

وتركه الشيخ لنفسه، روى له بعض سير الأولياء، ونوه ببعض الكتب، ثم تركه لنفسه وقرر هو أن يبدأ بالمعرفة، فراح يطالع الكتب المأثورة. كلفه ذلك مالا، ولم يكن يملك فائضا منه، ومشقة في الاستيعاب، ولم يكن من المدربين على القراءة العسيرة، ومن بادئ الأمر لم يلق من زوجه تشجيعا. الحادثة عجيبة حقا - قالت - ولكنها لا تعني أكثر من ذلك، مثلها كمثل العجائب الكثيرة التي تقع بين كل مطلع شمس وغروبها. ما كان يجوز أن يجعل منها نادرة في كل مجلس، ألا يخشى أن يصير هو في النهاية نادرة المجالس! وما كان يجوز أن يجعلها شغله الشاغل، أن يقبع بسببها في حجرته ليقرأ ويقرأ، مهملا واجباته الحقيقية في هذه الحياة. وضرب كفا بكف وهو يقول: هذا هو منطق المرأة! وهل كان ينتظر رأيا أفضل من امرأة؟! وفضلا عن ذلك كله فإن قسوة المعيشة قد أفسدت تفكيرها، وألصقتها بتوافه الأرض.

ولكنه عرف سبيله ولن توقفه قوة، هناك أمل، عند الأفق، وراء حياته الذابلة التافهة الجدباء، أمل يعده بالقوة والنور والامتياز، سيتحول الرجل المسكين إلى شخص نوراني باهر يأتي بالمعجزات، وسوف يوارى بعد عمر طويل في ضريح مبارك.

وازدادت معلوماته يوما بعد يوم، ولكنه كان يدرك أن جوهر المسألة لا ينهض على العلم، وإنما على قطع طريق طويلة، خطوة خطوة، مقاما فمقاما، وحالا بعد حال. أين يجد الصبر؟ كيف يسعفه الوقت؟ ومن أين له بالقوة والعزم؟ ولكن هل ينسى أن المعجزة قد وقعت في «فينيسيا» بلا مقدمات ولا تمهيد، بلا معرفة ولا ثقافة، وبلا أدنى فكرة عن الطريق ومشاقه؟! حدث ذلك فعلا، بعد عمر طويل من الخمول واليأس، حدث أن تجلت موهبته فجأة في حانة وهو يشرب النبيذ الأحمر! وإذن فما عليه إلا أن يتابع قراءاته وتأمله، وأن ينتظر بعد ذلك المعجزات، وهي آتية لا ريب فيها، وكان عجيبا أن يرتفع صوت زوجه مرة أخرى لينعى عليه كفه عن العمل على الآلة الكاتبة في غير الأوقات الرسمية لزيادة دخله، ها هي تفكر في الآلة الكاتبة وما تدره من قروش في اليوم، غافلة عن همومه الحقيقية، جاهلة بالحقائق الجدية في هذه الحياة. ها هي تنعى عليه انزواءه وتأمله، وإهماله أسرته ومظهره، ووقوفه موقف التسليم وعدم الاكتراث من مضاعفات الفقر التي اجتاحتهم، إنه يلقى نعيها بالصمت والصبر الجديرين به، تاركا الفصل في القضية للزمن وحده. ستصبح ذات يوم، فإذا بها زوجة لولي من أولياء الله الصالحين، ستطرق أبوابهم رحمة الرحمن، وسيرتفعون فوق الناس درجات ودرجات.

وطال به عهد القراءة والتأمل، حتى اقتنع بأنه آن له أن يجرب موهبته.

مضى إلى أقرب مقهى من داره متوكلا على الله، سأل الجرسون عن اسم شخص وهمي كما اتفق له النطق به، نفى الرجل معرفته به كما توقع، جلس ينتظر من التليفون أن يخف لنجدته، انتظر حتى ميعاد التشطيب ولكن دون ثمرة.

وتنقل من مقهى إلى مقهى، وخطر له أن المعجزة ربما لا تريد أن تتحقق إلا في حانة، فراح يطوف بالحانات، ولكن بلا جدوى. لم يستسلم لليأس وإن شقي بتجاربه، وهصرت التعاسة قلبه، وأخيرا قادته قدماه إلى حانة «فينيسيا»، وكان طيلة الوقت يدور حولها ولا يقترب منها خوفا من إجراء تجاربه فيها؛ إذ خيل إليه أن الفشل في فينيسيا إنما يعني فشلا نهائيا يسد أبواب الأمل. طلب دورق نبيذ أحمر، لا ليسكر، ولكن مجاراة لتقاليد المحل، ومضى يتساءل عما يجدر به فعله، وفيما هو في حيرته إذ خطر له أن أحد الزبائن سيسقط عن مجلسه ميتا! أتكون هذه هي المعجزة المنتظرة؟! لقد وردت على ذهنه من تلقاء نفسها، وهي ليست باسمة ولا خيرة، ولكنها ستكون معجزة بلا ريب، ولعلها تخفي في طياتها خيرا غير منظور ولا ملموس، ومضى يجول ببصره بين الوجوه الضاحكة متسائلا عن صاحب الوجه الذي ستتحقق ولايته على يديه. وفيما هو يجول ببصره، إذ لمح شخصا وهو ينفصل عن مجموعة معربدة ليستقر إلى مائدة خالية إلى جانبه. جذب سلوكه انتباهه، فغلب على ظنه أنه الشخص الموعود. نظر نحوه، فرآه يرنو إليه بعينين باسمتين، بسمة لا تخلو من قحة، فتوقع أن يمازحه على طريقة السكارى، كلما نظر نحوه طالعته ابتسامته الجريئة، فسرعان ما يتحول عنه، ولاحظ إلى ذلك أن أصحابه المعربدين يسترقون النظر إليه - إليهما على الأصح - كأنهم يتابعون مشهدا مثيرا، أو يتوقعون حدثا يتخذون منه زادا لعربدتهم، تولاه شيء من القلق، فصمم على تجاهله، ومضى يجول ببصره بين الوجوه، وإذا بالآخر يهمس له متسائلا: لم لا تشرب؟

ها هو يبدأ لعبته، ليكن على حذر منه، وتجاهله تماما، فعاد الآخر يقول: كان ينبغي أن نكون أصدقاء منذ زمن بعيد!

إنه يستدرجه ليثب من فوقه إلى عربدته، فليصر على تجاهله. - إنني أتذكرك جيدا، كنت تجلس في نفس المكان.

عم يتحدث السكران؟ لو في المكان مقعد خال لانتقل إليه. - كنت ليلتها تشرب وتبتسم، وكنت وحيدا، أنت دائما وحيد.

ترى هل شهد ليلة المعجزة؟! وأخذ يهتم به على نحو جديد. - كنت أجلس إلى جوارك بين عدد من الأصدقاء.

متى يسكت؟ متى يذهب؟ متى يموت؟ - وسمعتك تسأل الجرسون عن شخص اسمه .. اسمه؟!

نظر إليه بحركة مفاجئة لا إرادية، وقد طفح بصره بالاهتمام. - كان اسما غريبا ومضحكا، كأنه اسم رجل من الجاهلية!

غلب على أمره فخرج من صمته متسائلا: محمد شيخون الماوردي؟ - عليك نور، محمد شيخون الماوردي.

حدجه باهتمام، متلهفا على مزيد، ولكن الآخر مد ساقيه ولاذ بالصمت.

خانه الصبر فسأله: ماذا تريد أن تقول؟ - لا شيء.

تحول عنه متظاهرا بعدم الاكتراث، لزم الآخر الصمت دقائق، ثم قال: لا تتظاهر باللامبالاة. - ليس الأمر بذي بال. - بل إنك تود أن تعرف ، بخصوص التليفون مثلا؟!

دق قلبه بعنف، ولم يتمالك أن يسأله: ماذا عن التليفون؟

ضحك ضحكة قصيرة، وقال: سمعتك تسأل الجرسون عن محمد شيخون الماوردي، وهو يعتذر عن عدم معرفته، وقع الاسم من آذاننا - أنا وأصدقائي - موقع الدهشة، كنا سكارى كما تعلم، حسن .. من يكون شيخون هذا؟ وهل ثمة مطابقة بين اسمه وشخصه؟ عندك فكرة طبعا عن عبث السكارى، قررنا البحث عنه، بأي ثمن، أردنا أن نرى صاحب الاسم العجيب.

هز رأسه يستحثه على الاستمرار، فقال الآخر: ما العمل؟ تطوعت لتنفيذ فكرة لا بأس بها، وهي أن أتسلل إلى المقهى المجاور للحانة، هناك طلبت رقم فينيسيا، ورجوت المدير أن يدعو إلى التليفون محمد شيخون الماوردي! - لا!

ندت عنه كزمجرة منطلقة بشظايا الحنجرة. ذهل الآخر فتساءل: ما لك؟! - أنت!

انقطع صوته مختنقا بشدة انفعاله: أستاذ، هل أخطأت؟ ماذا حل بك؟!

رماه بنظرة غاضبة كاسرة متحفزة قاتمة من اليأس؛ انتفخ وجهه، احتقن بدم أسود، برزت عروق الجبين نافرة وانعقدت كدمات زرقاء، أراد أن يتكلم، أن ينفجر صارخا، ولكن شفتيه انطبقتا كأنهما ألصقتا بالغراء، إنه يصارع قوة خفية، يدافع هجمة ضارية غير مرئية، يقاوم زحفا حانقا. وبسرعة مذهلة قبض على دورق النبيذ، وقذفه به بأقصى قوة فأصاب رأسه فوق الجبهة، تحطم الدورق، سال النبيذ على وجهه وعنقه ممزوجا بالدم. صرخ الرجل ألما وغضبا. انقض عليه وهو يترنح، يريد أن يقبض على عنقه، فتناول الآخر الشوكة وطعن بها عنقه بكل قوة يأسه، انكفأ فوق المائدة وهو يصرخ، ثم تهاوى على الأرض.

المجنونة

ما أكثر المعارك في حارتنا! للسبب الخطير والتافه على السواء تنشب المعارك في حينا، ما من ساعة من نهار أو ساعة من ليل إلا وتتطاير شتمة أو سخرية أو طوبة، يتشاجر اثنان أو أكثر، يستوي في ذلك الصغار والكبار، والويل لنا إذا طالت معركة فاتسعت دائرتها، وانضم إلى كل شخص فريق، فانتشرت كالنار والتهمت الأرجاء، وإذا كانت المعارك لا تدوم، أو لا يمكن أن تدوم، فإن رواسبها لا تزول أبدا، ومضاعفاتها تستفحل يوما بعد يوم، حتى أمسى جونا مشحونا بالتربص والحذر والكراهية والخوف، جو سريع الاشتعال قابل في أي لحظة للانفجار، ربما لمجرد نكتة أو غمزة عين أو نحنحة.

من بين المعارك التي ابتلينا بها، برزت معركة بروزا داميا لا ينسى، معركة غريبة فظيعة غامضة، غطت على جميع ما سبق أو لحق بها من المعارك، فلذلك سميت بالمجنونة، وجرت في تاريخنا أسطورة من الأساطير.

في ذات يوم اجتاحت الحارة معركة شاملة، اشترك فيها جميع من اتفق وجودهم على أرضها من عاملين وعاطلين. تضاربوا بادئ الأمر بالأيدي والأرجل والرءوس، وكلما جذبت إليها أحدا بدافع من حب الاستطلاع، أو الاطمئنان على عزيز، أو المصالحة بين متخاصمين، وجد نفسه بعد حين مشتركا فيها بطريقة أو بأخرى، واشتد القتال وتضخم، واستعمل وسائل جديدة كالطوب والكراسي والعصي والآلات الحادة، وقد استمرت حوالي الساعتين قبل أن يترامى نبؤها إلى القسم، ولما جاء رجال الأمن، وجدوا أرض الحارة مغطاة بالقتلى والمحتضرين والمصابين إصابات قاتلة، وقد علا الصوات واحتدم اللطم. لم يسلم رجل واحد، وما من أسرة إلا وفقدت رجلا أو أكثر، وكان للخبر وقع شديد لدى الجهات المسئولة، وبمجرد نشره في صحف تلك الأيام مصحوبا ببعض الصور الدامية، اهتز الرأي العام هزة عنيفة غاضبة، ووقف رجال الأمن حيارى. هل تقتصر مهمتهم على دفن الموتى؟! ما السبب؟ من البادئ؟ من المسئول؟ ومن عسى أن يجيب بعد أن سوى الموت بين المعتدي والمعتدى عليه، وحتى متى ترتكب هذه الفظائع بلا خوف أو اكتراث أو تقدير للعواقب؟! - علينا أن نصل إلى الحقيقة مهما كلفنا الأمر.

ولكن أي جدوى تنتظر من وراء ذلك، وأي جديد هناك؟! ثمة عداوات قديمة وجديدة، ومنافسات على الفتونة، ولكن قد هلك الجميع بلا استثناء، لم يبق شخص واحد من الذين اشتركوا في المعركة، لم ينج إلا من كان يسعى وراء رزقه خارج الحارة، ولدى أوبتهم اكتشف كل أنه فقد ابنا أو أبا أو عما أو خالا. - يمكننا أن نتصور كيف تبدأ المعارك وكيف تتسع، ولكن من المحرك الأول؟ من المسئول؟

قالت امرأة: خرجت من بيتي لأرمي ماء الغسيل في الحارة، فرأيت العجل يجري وهو يحلف بأيمانه ودينه لينتقمن.

ينتقم ممن ولمن؟ لم تسمع أكثر من ذلك، عادت إلى حجرتها، وبعد وقت قصير ارتفعت ضجة كبيرة. - نظرت من الشباك، فرأيت عددا من الرجال لا يعد ولا يحصى، يضربون ويضربون ويسقطون! - أرأيت العجل بينهم؟ - كان يقاتل والدماء تغطي وجهه وصدره. - ومن الآخر الذي قاتله؟ - كان من المستحيل أن أعرف من مع من، أو من ضد من.

حسن، محتمل أن تكون المعركة قد بدأت بالعجل، ومحتمل أن تكون بدأت قبل ذلك، وأنه جرى لينتقم للجانب المعتدى عليه، ولكن من هو العجل؟! هو دقاق طعمية، ومن رجال عجرمة، فهل ترجع المعركة إلى العداوة التقليدية بين رجال عجرمة ورجال المناديلي؟! ولكن شهد كثيرون بأن العلاقات بين عجرمة والمناديلي كانت تنعم بما يشبه الهدنة، وإن يكن من المستحيل التأكد من هذه النقطة بعد أن قتل العجل وعجرمة والمناديلي جميعا. - إذن، من هم الأشخاص الذين يخاطر العجل بروحه للانتقام لهم؟

أجاب كثيرون: شقيقه حتحوت.

وتبين أنه كان بياع بطاطة، وقد قتل أيضا في المعركة. - فمن هم أعداؤه؟ - جميع رجال المناديلي، وقد قتلوا عن آخرهم.

وسئل من ضحايا المعركة من استطاع أن يتكلم، قبل أن يسكته الموت، قال أحدهم: رأيت صديقا في المعركة، فانضممت إليه، ولكني لم أعرف أسبابها.

وقال ثان: ظننت أن المعركة تدور بين عجرمة والمناديلي، فانضممت إلى رجال المناديلي بطبيعة الحال.

وقال ثالث إنه اشترك في المعركة لأنه لا يستطيع أن يشهد معركة ويقاوم إغراء الاشتراك فيها.

وقال رابع إنه لمح بين المتعاركين غريما له في حب امرأة، فهاجمه بلا تردد.

وخامس قال إنه كان يغادر بيته، فأصابته طوبة عمياء، فراح يرمي بالطوب على غير هدى، حتى أصابته سكين.

وهكذا وهكذا، حتى تبين أن شخصا هاجم آخر، لا لشيء إلا أنه يتشاءم برؤية وجهه، وعلى كثرة ما قيل، فإن التحقيق لم يفد منها شيئا ذا بال، ظل دور العجل محوطا بالغموض، وظلت الأسباب الأولى للمعركة مجهولة. - ألم ير أحدكم العجل وهو يقتل أحد ضحاياه، أو عندما قتل؟

قالت امرأة: رأيت العجل وهو يقتل القللي.

وقالت أخرى: رأيت العجل وهو يقع قتيلا بيد دقلة.

إذن، فالعجل قد قتل القللي، ودقلة قد قتل العجل، وليس عجيبا أن يقتل دقلة، وهو من رجال المناديلي، رجلا كالعجل من رجال عجرمة، ولكن لماذا قتل العجل القللي، وكلاهما من رجال عجرمة؟!

وتحاور المحققون: إنه للغز! - إنه للغز! - أجل، ولكن قد نجد في حله الحل الأخير للمسألة.

تركز اهتمام الباحثين على القللي، فدلت التحريات على وجود شقيق له على قيد الحياة يدعى الزين، وسئل الزين عن علاقة شقيقه القللي بالعجل، فأجاب ببساطة: ثلاثتنا من رجال عجرمة، وكنا أصدقاء. - ألم تتغير علاقتهما في الأيام الأخيرة؟ - كانا صديقين حتى اللحظة التي تركت فيها الحارة، في صباح اليوم المشئوم!

ثم أدلى بما لديه من معلومات، فقال: خرجت في الصباح الباكر بعربتي لأبيع الفول، وعادة ما يذهب معي حتحوت شقيق العجل، وهو بياع بطاطة، فنسرح معا أو نستريح من تجوالنا معا. - متى علمت بالمعركة؟ - رجعت إلى الحارة ظهرا، كان كل شيء قد انتهى، ووجدت أخي والعجل وحتحوت بين القتلى. - قلت إن حتحوت كان معك، فكيف قتل في المعركة؟ - وقع له حادث اضطره إلى العودة مبكرا عن ميعاده. - كيف كان ذلك؟ - من عاداتنا - أنا وهو - أن نتسلى في أوقات الفراغ بالمصارعة، تصارعنا كالعادة، وإذا به يسقط مغمى عليه، رششت الماء على وجهه حتى أفاق، وعند ذاك اعترف لي بأنه مسطول وأنه يشعر بخور، فلذلك رجع إلى الحارة وهو لا يدري أنه ذاهب إلى حتفه!

ما زال اللغز لغزا، لم قتل العجل القللي وهو صديقه، وكلاهما ينتميان إلى فتونة واحدة؟

هل كان هو الرجل الذي أقسم العجل لينتقمن منه، أو أن القللي تصدى للدفاع عن الآخر الذي اندفع العجل للانتقام منه؟!

وتطوع للشهادة رجل ليس في الأصل من أهل الحارة، ولكنه من زبائن العجل، قال: ذهبت إلى دكان العجل لأدق طعمية، فرأيته يغادرها مسرعا غاضبا وهو يهتف : «يقتلك المجرم! .. الويل له!»

ها هي شهادة أخرى تؤكد شهادة المرأة الأولى، وتضيف إليها تفاصيل جديدة، العجل تبعا لهذه الشهادة يريد أن ينتقم لشخص قد قتل، شخص قتل قبل أن تبدأ المعركة، ربما في اليوم السابق لها، أو في أثناء الليل، وتابع الشاهد المتطوع قائلا: جلست أنتظر في الدكان دقائق، ثم حدثني قلبي بأن أحداثا ستقع، وكنت أعرف كيف تشتعل النار في الحارة لأوهى الأسباب، فذهبت مؤثرا السلامة. - ألم تر أحدا في الدكان؟ - رأيت غلاما في العاشرة يقف في مدخلها، فسألته عن المكان الذي ذهب إليه العجل، ولكنه تراجع كالخائف، ثم جرى بسرعة حتى اختفى.

وعرض عليه جمع من غلمان الحارة، ولكنه لم يتعرف على الغلام المعني، واتجه البحث إلى معرفة القتيل الذي هب العجل للانتقام له. من كان ذلك الرجل؟ هل قتل أحد من أهل الحارة أو من أصدقاء العجل قبيل المعركة؟ كلا، لم يقتل أحد من هؤلاء قبيل المعركة، سواء بساعات أو بأيام! - أنظل ندور وندور حول أنفسنا دون أن نتقدم خطوة واحدة؟!

وإذا بالتحريات الدقيقة تقطع بأن المحور الذي دارت حوله المعركة كان في الخرابة الواقعة لقاء مقلى القللي، وإذن فمن المحتمل أن العجل جرى إلى القللي في المقلى ليعتدي عليه فنشبت معركة، واتسعت مندفعة نحو مجالها الطبيعي في الخرابة؛ وإذن، فلعل القللي هو الذي قتل الشخص الذي جاء العجل للانتقام له، ولكن كيف يؤخذ بهذا الاستدلال ولم يثبت بعد مقتل أحد قبل المعركة؟! - لعلنا نقترب من الحقيقة، وما علينا إلا أن نعثر على الخيط الذي يجمع أشتاتها.

لقد علم العجل بأن القللي قتل أو حرض على قتل شخص ما عزيز عليه، فغادر دكانه إلى المقلى لينتقم من قاتله، لم يجد المكان خاليا ولا القللي لقمة سائغة، فتدخل كثيرون بينهما، بدأت معركة، اشترك فيها كثيرون لأسباب شتى، انجر إليها عن سوء نية أو سوء فهم رجال عجرمة والمناديلي، ثم سرعان ما اجتاحت الحارة كلها، حتى أهلكت جميع من اشتركوا فيها. حدث ذلك كله انتقاما لمصرع شخص مجهول ، لم يثبت مصرعه حتى الآن؟!

وتحاور رجال الأمن: ولكن من الغلام الذي كان في دكان العجل؟ - لقد جيء بغلمان كثيرين، فلم يتعرف الشاهد على أحد منهم. - لعله غلام غريب عن الحارة! - ولعله الخيط الذي نبحث عنه! - ماذا كان يفعل في الدكان؟ - ولماذا جرى كالخائف؟!

وأكد تلك الظنون رجل من غير أهل الحارة، ولكنه يبيع الكنافة في المنعطف الموصل إليها.

قال في شهادته: رأيت غلاما في العاشرة يجري نحو الحارة، وهو يصيح يا عم عجل .. حتحوت أخوك قتل!

انفجرت تلك الشهادة كالقنبلة، جمعوا غلمان الحارة وعرضوهم عليه، ولكنه لم يتعرف على الغلام المقصود. ماذا يعني قول الغلام؟ إن حتحوت شقيق العجل قد قتل حقا، ولكن في المعركة، لقد جاء والمعركة مستعرة بشهادة شهود كثيرين، ثم رأى جثة أخيه العجل، ولما علم بأن قاتله هو دقلة، حمل عليه حتى قتله، ثم قتل بعد ذلك!

وسئل بياع الكنافة: أرأيت الغلام قبل المعركة أم في أثنائها؟ - قبل المعركة. - أتستطيع أن تعطينا فكرة عن الوقت الذي مضى بين رؤية الغلام وبدء المعركة؟ - حوالي ربع ساعة.

وتحاور رجال الأمن. - لا شك أن ذلك الغلام هو الذي أشعل الفتيل! - بلى، جرى إلى العجل فأخبره بمقتل شقيقه! - ولكن شقيقه كان في ذلك الوقت حيا يرزق! - كيف؟ ولم كذب الغلام؟! - لعل شخصا حرضه على ذلك لغرض في نفسه؟ - ولكن، أين اختفى؟ - لعله ليس من غلمان هذه الحارة. - ولا شك أنه نفس الغلام الذي رئي في دكان العجل.

طال التحقيق وتشعب، ولكنه لم ينته إلى نتيجة مريحة أو مقنعة. وأخيرا، قال المأمور لرجاله، وقد أنهكهم البحث والتفكير: لقد راجعت التحقيق والتحريات، فاقتنعت بأن الحقيقة أفلتت منا إلى الأبد، ولكني أتخيل أنها ربما جرت على الوجه الآتي:

الزين (شقيق القللي) وحتحوت (شقيق العجل) سرحا معا كعادتهما كل يوم، وكعادتهما أيضا تصارعا في وقت الفراغ طلبا للترويح عن النفس، اجتمع حولهما نفر من الغلمان ليتفرجوا على المصارعة، سقط حتحوت مغمى عليه من أثر المخدر الذي تعاطاه، رآه الغلام المجهول فاعتقد أنه قتل في المصارعة، جرى إلى الحارة ليبلغ العجل، أخبره أن الزين قتل أخاه، صدق العجل الخبر دون أن يتثبت منه، فوقع فريسة للغضب والجنون، غادر دكانه لينتقم لأخيه، ولما لم يكن له من سبيل إلى القاتل الذي حدس هربه، فقد قصد إلى شقيقه القللي؛ ليصب عليه انتقامه. تعارك الرجلان، انضم إلى كل رجال من صحبه، ظن رجال عجرمة والمناديلي أنهم المدعوون للمعركة، فرموا بأنفسهم فيها، ثم اشترك كثيرون لأسباب شخصية أو عرضية حتى شملت المعركة الحارة كلها، ثم كان ما كان من هلاك جميع من اشتركوا فيها!

دهش رجال المأمور وهم يصغون إليه، ومع أن تخيله لم يكن إلا فرضا، إلا أنه جاء مقنعا ورابطا بين الحقائق المتناثرة، ويمكن على أساسه حل لغز المعركة. - يا له من خيال صادق! - وإذن، هلكت الحارة لغباء غلام! - أو غباء رجل وهو الأرجح! - بل هو غباء الحارة، وهو الأصدق!

وجرى خبر المعركة مجرى الأمثال والأساطير، وركز الرواة على دور الغلام المجهول فيها، لا لاطمئنانهم إلى حقيقته، ولكن لطرافته قبل كل شيء. أما سرها، فقد ضاع إلى الأبد، مخلفا وراءه ذكرى مغلفة بالسواد والأحزان.

خمارة القط الأسود

كانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب.

لم يكن بقي في الخمارة كرسي واحد خاليا، وهي - الخمارة - عبارة عن حجرة مربعة تقوم في أسفل عمارة عتيقة بالية، تضاء نهارا وليلا لقتامة جوها المدفون، وتطل على حارة خلفية بنافذة وحيدة من خلال قضبان حديدية، طليت جدرانها بلون أزرق فاتح، يرشح رطوبة في مواضع شتى على هيئة بقع غامقة، ويفتح بابها على ممشى ضيق طويل يمتد حتى الشارع، وعلى جانب منه تصطف براميل النبيذ الجهنمي. زبائنها أسرة واحدة تتوزع فروعها على الموائد الخشبية العارية، منهم من يرتبطون بأسباب الصداقة أو الزمالة، وجميعهم يتآخون بوحدة المكان والمعاشرة الروحية ليلة بعد أخرى، ويجمعهم جامع السمر والنبيذ الجهنمي.

كانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب.

ليس بالنادر أن يتلقى أحدهم هذا السؤال: لماذا تفضل خمارة القط الأسود؟

النجمة اسمها الحقيقي، ولكنها تسمى اصطلاحا بخمارة القط الأسود، نسبة لقطها الأسود الضخم، معشوق صاحبها الرومي الأعجف المدبب، وصديق الزبائن وتعويذتهم. - أفضل خمارة القط الأسود لجوها العائلي الحميم، ولأنك بقرش أو قرشين تستطيع أن تحلق بلا أجنحة.

يتنقل القط الأسود من مائدة إلى مائدة، وراء لباب الخبز وفتات الطعمية والسمك، يتلكأ عند الأقدام، ويتمسح بالسيقان بدلال من بطرته النعمة، وصاحبه الرومي يعتمد الطاولة بمرفقيه رانيا للا شيء بنظرة ميتة، أما الجرسون العجوز فيدور بالنبيذ أو يملأ الأكواب الصغيرة المضلعة من صنابير البراميل. - وهي أرحم خمارة بذوي الدخول الثابتة.

وتتبادل الملح والنوادر، وتتواد النفوس ببث الشكايات، ويترنم صاحب الصوت السالك بأغنية، فيطفح المكان المدفون الرطب بالسعادة. - لا بأس من أن ننسى ساعة من الزمان كثرة العيال وقلة المال. - وأن ننسى الحر والذباب. - وننسى أنه يوجد عالم خارج القضبان. - وأن ننعم بملاطفة القط الأسود.

في ساعات اللقاء تصفو نفوسهم، تفيض بالحب لكل شيء، يتحررون من التعصب والخوف، يتطهرون من أشباح المرض والكبر والموت، يتصورون في صورة منشودة، يسبقون الزمن بقرون كاملة.

وكانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب.

نظر الرجل الغريب في أرجاء المكان، فلم يجد مائدة خالية، اختفى عن الأنظار في الممشى حتى ظنوا أنه ذهب إلى الأبد، ولكنه رجع حاملا كرسيا من القش المجدول - كرسي الخواجا الرومي نفسه - ثم وضعه لصق الباب الضيق، وجلس.

جاء متجهما وعاد متجهما ثم جلس متجهما، لم ينظر نحو أحد، تجلت في عينيه نظرة حادة صارمة ولكنها غائبة، لائذة بعالم بعيد مجهول، لا ترى أحدا ممن يملئون المكان الصغير. منظره في جملته قاتم وقوي ومخيف؛ كأنه مصارع أو ملاكم أو رافع أثقال، وملابسه متوافقة تماما مع قتامته، ومؤكدة لها بالبلوفر الأسود والبنطلون الرمادي الغامق والحذاء المطاط البني. لم يشرق في ذاك البناء المظلم إلا صلعة مربعة توجت رأسا كبيرا صلبا.

أطلق حضوره غير المنتظر شحنة كهربائية نفذت إلى أعماق الجالسين؛ سكت الغناء، انقبضت الأسارير، خمد الضحك، ترددت الأبصار بين التحديق فيه وبين استراق النظر إليه، ولكن ذلك لم يدم طويلا، أفاقوا من صدمة المفاجأة وهول المنظر، أبوا أن يسمحوا للغريب بإفساد سهرتهم، وتداعوا بإشارات فيما بينهم للإعراض عنه واستئناف لهوهم، عادوا من جديد إلى السمر والمزاح والشراب، ولكنه في الحقيقة لم يغب عن وعيهم؛ لم ينجحوا في تجاهله تماما، وظل يثقل على أرواحهم كالضرس الملتهب. وصفق الرجل بقوة مزعجة، فجاءه الجرسون العجوز وحمل إليه النبيذ الجهنمي، وسرعان ما أفرغه في جوفه، وألحق به آخر، ثم أمر بأربعة أكواب دفعة واحدة، وراح يشرب كوبا في إثر كوب حتى أتى عليها، ثم جدد الطلب. عاودهم الإحساس بالرهبة والخوف، ماتت الضحكات على شفاههم، تراجعوا إلى الصمت والوجوم. أي رجل هذا؟! إن ما شربه من النبيذ الجهنمي يكفي لقتل فيل، وها هو يجلس كالحجر الصلد، لا يتأثر ولا ينفعل، ولا تنبسط له أسارير، أي رجل هذا؟!

واقترب القط الأسود منه مستطلعا، انتظر أن يرمي له بشيء، ولما لم يشعر له بوجود مضى يتمسح بساقه، ولكنه ضرب الأرض بقدمه فتقهقر القط، متعجبا ولا شك لهذه المعاملة التي لم يعامل بها من قبل، وحول الرومي رأسه نحو الحجرة بوجهه الميت، رمق الغريب مليا، ثم عاد ينظر إلى لا شيء، وخرج الغريب عن جموده؛ حرك رأسه بعنف يمنة ويسرة، عض على أسنانه، جعل يتحدث بصوت غير مسموع، مع نفسه أو مع شخص في مخيلته. تهدد وتوعد وهو يحرك قبضته، استقرت في صفحة وجهه أقبح صورة للغضب، استفحل الصمت والخوف.

وسمع صوته لأول مرة، صوت غليظ كالخوار، تردد بقوة وهو يقول: اللعنة .. الويل.

وكور قبضته وتابع: ليأت الجبل .. وما وراء الجبل.

وصمت مليا، ثم عاد يقول بصوت انخفض درجة: هذه هي المسألة بكل بساطة وصراحة.

اقتنعوا بأنه لم يعد للبقاء من معنى، قضي على السهرة بالفشل ولما تكد تبدأ، فليذهبوا في سلام. تم التفاهم فيما بينهم بالنظرات، ثم تفشت فيهم حركة تأهب وقيام؛ عند ذاك تنبه إليهم لأول مرة، خرج من غيبوبته، نقل عينيه بينهم في تساؤل، أوقفهم بإشارة وهو يسأل : من أنتم؟

يا له من سؤال جدير بالتجاهل والاحتقار، ولكن أحدا لم يفكر في تجاهله أو احتقاره، وأجاب أحدهم متشجعا بكهولته: نحن زبائن المحل من قديم. - متى جئتم؟ - جئنا مع المساء. - إذن، كنتم هنا قبل حضوري؟ - نعم.

أشار إليهم أن يعودوا إلى مجالسهم، ثم قال بحزم صارم: لن يغادر المكان أحد.

لم يصدقوا آذانهم، عقدت الدهشة ألسنتهم، ولكن أحدا لم يجرؤ على الرد عليه بما يستحق، وقال الكهل بهدوء مناقض تماما لمشاعره: ولكننا نريد أن نذهب.

فرماهم بنظرة وعيد كالحجر، وقال: ليتقدم المفرط في عمره!

لم يوجد بينهم من يفرط في عمره، تبادلوا نظرات ذاهلة حائرة، وتساءل الكهل: ولكن، ما وجه اعتراضك على ذهابنا؟

هز رأسه بقسوة ساخرة، وقال: لا تحاولوا خداعي، لقد سمعتم كل شيء.

قال الكهل بعجب: أؤكد لك أننا لم نسمع شيئا.

فصاح بغضب: لا تحاولوا خداعي، لقد عرفتم الحكاية! - لم نسمع شيئا، ولم نعرف شيئا! - كذابون مخادعون! - يجب أن تصدقنا. - أصدق سكيرين معربدين؟! - إنك تسب أناسا أبرياء وتهدر كرامتهم! - ليتقدم منكم المفرط في عمره.

وضح لهم أن الموقف لا يعالج إلا بالقوة، وأنه لا قوة لديهم، واضطروا تحت تأثير نظراته المخيفة إلى الجلوس، رجعوا إلى مقاعدهم بغضب مكتوم ومهانة لم يجربوها من قبل، وسأله الكهل: وحتى متى نبقى هنا؟ - حتى يجيء الوقت المناسب. - ومتى يجيء الوقت المناسب؟ - اقطع لسانك وانتظر.

مضى الوقت في توتر وألم، اجتاحهم الكدر والنكد فطارت الخمر من رءوسهم. وحتى القط الأسود استشعر في الجو رائحة معادية، فوثب إلى حافة النافذة الوحيدة، ثم رقد عاقدا ذراعيه تحت رأسه، وأغمض عينيه طارحا ذيله بين القضبان. وألحت عليهم أسئلة واحدة: من الرجل؟ أهو سكران؟ أهو مجنون؟ وما الحكاية التي يتهمهم بسماعها؟! وطيلة الوقت ظل الخمار الرومي ملازما لصمته الميت، على حين قام الجرسون بخدمته وكأنما هو لا يرى ولا يسمع.

وجعل الرجل الغريب ينظر إليهم بسخرية وشماتة، ثم قال متوعدا: إن يقدم أحدكم على غدر فسأعاقبكم جميعا بلا رحمة.

تشجعوا بمعاودته الخطاب، على الكلام، فقال الكهل بصدق: أقسم لك، نقسم لك جميعا ...

ولكنه قاطعه متسائلا: بم تقسم إن طالبتك بقسم؟

دب أمل طفيف في النفوس، وقال الكهل بحرارة: بما تشاء، بأولادنا، بالله العظيم! - لا قيمة لشيء عند زبائن خمارة حقيرة كهذه الخمارة! - لسنا كما تظن، نحن آباء صادقون، ومؤمنون مخلصون، ولا يمنع ذلك، أو لعله بسبب ذلك تشتد حاجتنا إلى الترويح عن النفس المثقلة.

فصاح بصوت مدو: أوغاد أنذال، تحلمون ببناء القصور بلا جهد، ولكن بالاستغلال الدنيء للحكاية! - نقسم بالله العظيم بأننا ما علمنا بالحكاية، ولا فكرة لنا عنها. - من منكم بلا حكاية يا جبناء! - إنك لم تتكلم، كانت شفتاك تتحركان، ولكن لم يصدر عنهما صوت! - لا تحاول خداعي يا مخرف. - يجب أن تصدقنا وتتركنا لحالنا. - الويل لكم إذا تحركتم، الويل لكم إذا غدرتم، وإذا وقعت الواقعة فسوف أهشم رءوسكم وأقيم منها متاريس أسد بها الممشى.

الرجل مخيف حقا، ولعله خائف أيضا، وسيضاعف ذلك من سوء المصير. وزحف اليأس إلى القلوب كموجة من البرد المميت، ولم يكف عن الشراب، رغم أنه لا يسكر ولا يفتر ولا يهمد، وها هو يعترض المنفذ الوحيد للمكان، قويا عنيفا فولاذي المبنى مثل قضبان النافذة.

راحوا يتبادلون النظرات بلا أمل، كلما لمحوا شبحا ما وراء القضبان، هفت أنفسهم إليه، ولكن دون أن تند عنهم حركة ما، وحتى القط الأسود بدا أنه هجرهم تماما ومضى ينعم بالسبات، واشتد الحصر بأحدهم فتساءل في إشفاق: أذهب إلى المبولة؟

فهتف الغريب غاضبا: من قال لك إني مرضعة؟!

فتأوه الكهل قائلا: هل كتب علينا أن نبقى هكذا حتى الصباح! - أنتم سعداء إذا طلع الصباح عليكم.

المناقشة عبث؛ الرجل مجنون أو مطارد أو كلاهما معا، وقد تكون وراءه حكاية، وقد يكون وراءه لا شيء، وهم سجناء رغم كثرتهم، وإنه لقوي شديد، وهم لا قوة لهم ولا عزم، ولكن ألا يوجد سبيل للمقاومة؟ المقاومة من أي نوع كان؟

عادوا يتبادلون النظرات، وقد تجسد النكد في أعينهم، وجرى الهمس تحت مستوى سمع الغريب: أي داهية؟ - أي ذل؟ - أي خزي؟

وإذا بنظرة عين تشي بما يشبه الابتسامة، بل هي ابتسامة، ابتسامة حقا! - لم لا، إنه لموقف مضحك. - مضحك؟! - تأمله بحياد مؤقت تجده مهلكا من الضحك! - حقا؟ - أخشى أن أنفجر ضاحكا.

وقال الكهل بصوت مسموع بعض الشيء: تذكروا أننا ما زلنا بعيدين عن ميعاد انصرافنا المعتاد. - ولكن لم تعد هناك سهرة! - لأننا أوقفناها بلا سبب. - بلا سبب؟! - أعني بلا سبب يمنع من مواصلتها «الآن». - وبأي روح نواصلها بعد ما كان؟ - لننس إلى حين الباب، ولنر ما يكون.

لم يرحب بالاقتراح أحد ولم يرفضه أحد، وجاءت الأكواب الجهنمية على مرأى من الرجل الغريب، ولكنه لم يعبأ بهم. وأفرطوا في الشراب، دارت الرءوس، استخفتهم النشوة، انزاحت الهموم بسحر ساحر. أخذ الضحك يتعالى، رقصوا فوق مقاعدهم، تبادلوا القافية، وغنوا معا:

عيد الأنس هلت بشايره.

وطيلة الوقت تجاهلوا الباب، نسوا وجوده نسيانا تاما. استيقظ القط الأسود وراح يتنقل من مائدة إلى مائدة، ومن ساق إلى ساق، شربوا بنهم، طربوا بنهم، عربدوا بنهم، كأنما يستمتعون بآخر لياليهم في الخمارة.

وحدثت معجزة؛ إذ تقهقر الحاضر حتى ذاب في مد النسيان، وتحللت الذاكرة فنفضت من خلاياها كل مكنوزها. لم يكن الواحد يعرف صاحبه، إنه لنبيذ جهنمي حقا، ولكن، أجل ولكن ... - ولكن أين نحن؟ - خبرني من نكون، أخبرك أين نحن؟ - كان ثمة غناء؟ - أو كان بكاء على ما أذكر. - وكان ثمة حكاية .. ترى أي حكاية؟ - وهذا القط الأسود، هو شيء محسوس لا شك فيه. - أجل، إنه الخيط الذي سيوصلنا إلى الحقيقة. - ها نحن نقترب من الحقيقة. - كان هذا القط إلها على عهد أجدادنا. - وذات يوم جلس على باب زنزانة، ثم أذاع سر الحكاية. - وهدد بالويل. - ولكن ما الحكاية؟ - كان في الأصل إلها ثم انسخط قطا. - ولكن ما الحكاية؟ - كيف لقط أن يتكلم؟ - ألم يفض إلينا بالحكاية؟ - بلى، ولكنا ضيعنا الوقت في البكاء والغناء. - ها قد اكتملت الخيوط، وتمهد الطريق لاقتناص الحقيقة.

وارتفع صوت الجرسون العجوز وهو ينهر شخصا ما مهددا ومتوعدا، ويصيح به: اصح يا كسلان وإلا هشمت رأسك.

وأقبل رجل ضخم محني الهامة من الانكسار، راح يرفع الأقداح والصحاف، وينظف الموائد، ويجمع النفايات من فوق الأرض. كان يعمل دون أن ينبس بكلمة أو ينظر إلى أحد، وقد غشيه حزن عميق واغرورقت عيناه بالدموع.

تابعوه برثاء وإشفاق، وسأله أحدهم: ما الحكاية؟

ولكنه لم يلتفت إليه، وتابع عمله صامتا حزينا مغرورق العينين.

وتساءل الكهل: متى وأين رأيت هذا الرجل؟!

ومضى الرجل نحو الممشى بملابسه القاتمة، المكونة من بلوفر أسود، وبنطلون رمادي غامق، وحذاء بني من المطاط، فعاد الكهل يتساءل: متى وأين رأيت هذا الرجل؟!

زيارة

ملقاة على الفراش بلا حول، عاجزة تماما عن أي حركة جدية عدا حركة الجفنين والعينين، أو رفع اليد إلى مستوى الصدر من حين لآخر، وقد امتص المرض حيويتها ولحمها، فلم يبق إلا جلد أصفر مشوب بزرقة وعظام بارزة تكاد تمزق الجلد عند المفاصل، وهي تنظر إلى لا شيء أو تغمض عينيها، وفي أحسن الأحوال لا ترى أبعد من جدران حجرتها.

نادت بصوت ضعيف رفيع كصوت طفل: عدلية.

ولكن عدلية لم تسمع، ستدعي أنها لم تسمع، وستجد عذرا في ضعف الصوت أو بعد المطبخ أو وش موقد الغاز، وهي لا تستطيع أن ترفع صوتها، ولا تستطيع أن تهدر مطالبها الصغيرة، ونادت مرة ثانية: عدلية.

ستجبن كالعادة عن لومها، إنها واقعة تحت رحمتها، تحت رحمتها تماما، هي لا تألو أن تسترضيها بالأجرة المحترمة والكساء والغذاء، إلا أنها تستأثر بتدبير شئون البيت، فهي سيدته الحقيقية، وما الحيلة في ذلك؟ إذا قررت عدلية يوما التخلي عن خدمتها، تركتها للضياع والموت، وهي تتجنب أن تثقل عليها أكثر مما تقتضيه الضرورة الملحة، ولكن ما العمل ونداء الحياة لا يكف عن التردد حتى النفس الأخير.

واستجمعت قواها الخائرة ونادت للمرة الثالثة: عدلية!

وتجمع الغضب بين عظام صدرها، ولكنها لم تستسلم لطغيانه. عدلية على أي حال مرهقة بالعمل، إنها تكنس وتغسل وتطبخ، تتسوق وتستبضع، وتقوم من شخصها مقام اليدين والقدمين والحواس جميعا، هي كل شيء لها، فهي تطعمها وتسقيها وتنظفها، تجلسها وتنيمها وتريحها من جنب لجنب.

وارتفع صوتها قليلا متشكيا متباكيا وهي تنادي: عدلية!

ترامى وقع أقدام ثقيلة، ثم ظهرت عدلية عند باب الحجرة، بوجه جامد يحمل طابع تذمر ثابت، وتساءلت بنبرة لا تخلو من جفاء: تنادينني يا ستي؟ - بح صوتي وأنا أناديك يا عدلية.

اقتربت من الفراش، فقالت المرأة: سيجارة يا عدلية.

تناولت عدلية علبة السجائر من فوق الترابيزة، أشعلت سيجارة، ثم وضعتها بين شفتي سيدتها، وهي تقول: أنت تعلمين أن التدخين مضر بصحتك.

وغادرت الحجرة.

إذا ضاقت بها يوما قضي عليها بالهلاك، لا أحد لها في الواقع سواها، أما عن أبناء وبنات إخوتها، فمن ذا الذي يهتم بالخالة عيون؟! إنها ملقاة منسية، تتعلق بأذيال الحياة بخوف ويأس، وتتمنى الموت بلسانها. والقلب قبل أن يهتصره الداء، قتله الحزن لفقد الابن الوحيد في مظاهرة دامية. من عجب أنها لا تفقه للسياسة معنى، ولا يتحرك في نفسها لها ساكن، ورغم ذلك فقد التهمت وحيدها، وتوفي الأب بعد استشهاد ابنه بعام واحد، وها هي ذكريات الأحزان تختلط بأنات المرض ومخاوف الضياع.

في العيد زارتها بثينة ابنة المرحومة أختها، ناظرة مدرسة ابتدائية، والوحيدة التي تتذكرها في المواسم، وقد أهدتها باقة ورد وعلبة حلوى، وجلست على كرسي على كثب من الفراش. دمعت عينا عيون، وهي تقول: أشكرك يا بثينة، كيف حالكم؟ كيف حال الجميع؟ كم أني متشوقة لرؤيتكم، ولكن لا يسأل عني أحد.

اعتذرت بثينة بابتسامة، وقالت: الدنيا شواغل يا خالتي. - لا أحد لي غيركم، وحتى الأموات يجدون من يتذكرهم. - كم تردين على خاطري يا خالتي، ولكن الدنيا شواغل. - نسوني تماما يا بثينة.

لاذت بثينة بالصمت، فقالت عيون: إني خالتهم الوحيدة الباقية على قيد الحياة، ولو تركتني عدلية لمت جوعا فوق فراشي.

وزفرت لوعة، ثم قالت: كنا - أنا وأمك وخالتك - أخوات سعيدات، وكانت أياما سعيدة. - رحمهما الله! - كنت الصغرى، ولم يكن يعجبني العجب! - ربنا يشفيك يا خالتي. - يا له من دعاء لن يتحقق يا بثينة، إني وحيدة مهجورة، وقد وكلت عني أحد الجيران لتسلم معاشي.

وجففت دمعة بيدها النحيلة المعروقة الزرقاء، وقالت: إني خائفة يا بثينة، وأعمل ألف حساب لليوم الذي تذهب فيه عدلية. - هيهات أن تجد بيتا كبيتك يا خالتي. - إن خدمتي الشخصية شاقة وغير سارة؛ لذلك لا يفارقني القلق. - إنها في الواقع تهيمن على بيتك ومعاشك، فكيف يهون عليها أن تهجرك؟ - ولكنني قلقة، دائما قلقة، لا يتخلى عني الوسواس، وخوفي منها لا يقل عن خوفي عليها.

وسكتت بثينة؛ إما لأنها لا تجد ما تقوله، وإما لأنها ملت تكرار الأكليشيهات، فقالت عيون: آسفة يا بثينة، نفد رصيدي من الكلام الطيب، ولكن لا يصح أن أضايق أكثر من ذلك، الإنسانة الوحيدة التي حافظت على الوفاء لي.

وغيرت لهجتها من التشكي إلى الحياد أو الإشفاق، ثم سألت: خبريني الآن عن العلاقة بينك وبين زوجك؟

فتنهدت بثينة، وقالت بإيجاز: بين بين يا خالتي. - كيف، وأنت شابة ولا كل الشابات؟!

ثم مستدركة، وابتسامة باهتة ترف على شفتيها الجافتين الممتعضتين: أنت جميلة يا بثينة، وكما قالوا، فأنت أشبه نساء الأسرة بخالتك عندما كنت في سنك!

أحنت بثينة رأسها بالإيجاب وهي تبتسم أيضا. - عندما كنت أسير في الطريق أو أطل من نافذة، كانت الأعين تلتهمني التهاما!

فضحكت بثينة، وهي ترنو إليها بعطف. - وتقولين إن حالك مع زوجك بين بين؟! .. متى يشعر بنعمة الله التي نعمه بها؟! - هكذا هي الدنيا يا خالتي. - دنيا لعينة يا بثينة. - ولا أمان لها يا خالتي.

ها هي عدلية قادمة بصينية الغداء، أجلستها مسندة ظهرها إلى وسادة، ثم شرعت في إطعامها.

وأرادت هي أن تتودد إليها، فقالت: طعامك لذيذ يا عدلية.

لم تبتسم ولم تشكر، وكأنها لم تسمع، وكالعادة تبدد ثناء الضعيف في الهواء. - ما لك يا عدلية؟

أجابت بنبرة لم تخل من خشونة: أفكر في بنتي. - ربنا يسعدها يا عدلية. - ولكنها شقية مع الرجل. - مهما يكن من أمره، فهو لن يفرط في أم أبنائه السبعة. - إنك لا تعرفينه يا ستي. - عليك دائما أن تعقليها وتصبريها! - ولكن ما العمل إذا طلقها؟

أجل ما العمل؟ ما العمل لو جاءتها بابنتها وعيالها؟ لو أرادت ذلك ما وسعها هي الاعتراض، إنها تحت رحمتها تماما؛ سيضيق المسكن الصغير بهم، وسينقلب سوقا، كيف تتحمل الضوضاء والشقاوة، ومن أين لها أن تطعمهم وتكسوهم! تهديد جديد يا عيون، ترى كيف قال لك الشيخ طه وهو يباركك ليلة دخلتك: «العز قدامك والسعد خدامك.» ولم كانت أمها مزهوة بها لحد الهوس؟ وقد بادأها الحظ بزيجة سعيدة حقا، من قاض أصيل تزوجت، رآها ذات يوم مع والديها في بنوار بسينما كوزمو جراف. كانت زوجة مدللة وأما سعيدة، وكان يتأبط ذراعها إلى الأوبرا متباهيا بجمالها، وغازلها مرة أحد الباشوات، فكادت تنشب معركة من أجلها، وقد انتهى ذلك التاريخ كله فوق هذا الفراش الكئيب، وتحت رحمة هذه المرأة الصلبة التعيسة، التي تأبى أن تجود عليها بابتسامة. ودق جرس الباب الخارجي، فاختلج جفناها بلهفة، هل من زائر جديد؟ - من يا عدلية؟ - السباك يا ستي.

السباك أيضا! دائما السباك، لصنبور المطبخ جاء أو الحمام، أو لعلها الماسورة أو البالوعة، فلتتجنب السؤال فضلا عن الاستجواب؛ اتقاء للعواقب الوخيمة. سيجيء السباك مرة ثانية وثالثة ورابعة، كلما طاب له المجيء أو دعته الخنزيرة!

وأغلقت عدلية باب حجرتها كيلا تقع عيناه عليها! من قديم والشكوك تساورها، ولكن ما الحيلة؟ هكذا تقع الحوادث في مسكنها الصغير، خارج الباب المغلق، الذي يغلق بلا إذنها أو إرادتها باسم حمايتها، وهي لا حيلة لها ولا قوة ولا معين. ولو طمع الرجل في أكثر مما بين يديه، لو ظن يوما أنها عقبة في سبيله، لو خطر له أي خاطر شيطاني، فمن ذا يدفع عنها الأذى؟! أرهفت السمع وهي في غاية من الكدر، وغلى الدم في عروقها، لا شك أن وحيدها الفقيد قد عانى انفعالا كانفعالها هذا، هو الذي دفعه إلى الموقف الذي أودى بعمره اليافع، ولكنها نصف ميتة وطريحة الفراش.

وفتحت عدلية الباب، وهي تقول: ذهب.

ألم يستغرق من الوقت أكثر مما يتصور العقل! وسألتها دون أن تشير إلى ذلك: ماذا فعل؟ - ماسورة الحوض.

غالبت الغيظ حتى غلبته، ثم قالت : ولكن ماسورة الحوض ...

فقاطعتها بحدة: إنها قديمة وبحاجة إلى إصلاح متواصل!

لن تنتهي حاجتها إلى الإصلاح، ولو استبدلت بها أخرى جديدة، فسيوجد دائما ما يستدعي حضوره من أسبوع لأسبوع. فليأت كلما شاء هواه أو شاء هواها، وليقنع بذلك. على أي حال، فعدلية بمثابة يديها وقدميها وحواسها جميعا، ومهمتها في هذا البيت ليست بالمريحة ولا السهلة ولا السعيدة، وإلى ذلك كله، فالشقاء لا يعفيها من ضريبته، ولن يخلو رأسها من أسباب الأرق.

وذات يوم طرق الباب طارق غريب، وقالت عدلية لسيدتها: شيخ ضرير يا ستي، يدعي أنك تعرفينه من قديم.

وقبل أن تضيف كلمة، جاء من الخارج صوت الغريب وهو يهتف: الشيخ طه الشريف يا ست عيون هانم!

ذلك الصوت، ذلك الاسم، فلتسعفها الذاكرة المحتضرة. وتلقى قلبها رعشة، ثم انساب من شغافه المهزوز فيض من الذكريات، كدفقة نسيم عطرة، فاجتاحها إحساس بالسعادة غامر: تعال يا شيخ طه، خذي بيده يا عدلية.

أقبل مقودا، يتحسس الأرض بطرف عصاه، قد انحسرت عمامته البالية عن جبين بارز، وغار جفناه في محجريهما. منحني الظهر من الكبر، تطوق جبته الباهتة المنجردة الأطراف جسدا مهزولا، وقالت له عيون بعد أن اتخذ مجلسه: هاك يدي ممدودة يا شيخ طه، ولكن لا تشد عليها فهي ضعيفة.

صافحها برقة وحنان وهو يقول: سلامتك يا ست عيون! - حمدا لله على سلامتك يا شيخ طه، متى رأيتك آخر مرة؟

هز رأسه يمنة ويسرة، وقال: يا له من عمر! - تلك الأيام الحلوة يا شيخ طه. - ربنا يجعل أيامك كلها حلوة. - ولكن كيف؟ إني طريحة الفراش، وحيدة تماما يا شيخ طه.

فأشار إلى فوق وتمتم: عنده الرحمة. - وكيف اهتديت إلى مسكني؟ - صادفني عم آدم بواب البيت القديم.

رنت بعينيها الكليلتين إلى أخاديد وجهه، وهو يقتعد الكرسي كتمثال للفاقة، كم كان قويا ممتلئا أيام كان مقرئ البيت القديم، يزورهم كل صباح، فيشرب القهوة، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويفتي أمها فيما تستفتيه فيه، وهو الذي قال لها ليلة دخلتها: «العز قدامك والسعد خدامك.» ومن حنايا الماضي تدفق شعور ودود أليف، ممزوجا بالحنين والدمع، وإذا به يسلت من قدميه الحذاء المتهرئ، فيتربع فوق الكرسي، ثم يتلو:

والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى .

ولما شرب القهوة وخلت لهما الحجرة، راحت تقول له: إني وحيدة يا شيخ طه.

فقال كالمحتج: لكن الله موجود يا عيون هانم. - دائما قلقة وخائفة. - الله موجود يا ست عيون. - ليتك تزورني بقدر ما تستطيع! - هي أمنية الأماني عندي. - وكيف تسير الأمور يا شيخ طه؟ - جرت مشيئة الله بأن يقطع الراديو أرزاقنا، ولكن الله لا ينسى عبده، المهم ألا تستسلمي للحزن ولا لليأس. - إنه القلق، لا أحد لي إلا عدلية، وإذا تخلت عني ... - لن يتخلى الله عنك. - ولكني وحيدة بكل معنى الكلمة.

فلوح بيده آسفا، وقال: يا للخسارة! - أأنا مخطئة يا شيخ طه؟ - كلا، ولكنك غير مؤمنة! - ولكني مؤمنة، لقد فقدت ابني وزوجي في عامين متعاقبين، ولكني ما زلت مؤمنة. - لست مؤمنة يا عيون هانم.

غلبها الكدر، فلاذت بالصمت، فعاد يقول: لا تغضبي، المؤمن حقا لا يعرف الخوف ولا القلق ولا اليأس قلبه. - إني مؤمنة، ولكني طريحة الفراش، وتحت رحمة عدلية. - المؤمن لا يكون تحت رحمة أحد إلا ربه. - ما أسهل الكلام، ولكن ما أصعب العمل.

فاهتز رأسه يمنة ويسرة، وقال بصوت ينم عن النصر: أجل .. ما أسهل الكلام! ولكن ما أصعب العمل! - لم أعد أفهم شيئا. - اسمحي لي بزيارتك كل يوم! - أستحلفك بالله أن تفعل. - ولكن بغير الإيمان لن تجدي خيرا في عجوز ضرير مثلي.

ترددت قليلا، ثم قالت بجزع: أخشى أن تضيق بك، أعني عدلية؟ - ولكني سأجيء. - وإذا ... وإذا ... هبها ... - صدقيني، سأزورك كل يوم، وإذا لم يعجبها ذلك فلتنطح الجدار!

فتمتمت بإشفاق: اخفض صوتك يا شيخ طه، فعلينا ألا نغضبها. - انسي يا ست عيون أنك تحت رحمتها، أنت تحت رحمة الله وحده. - أجل .. أجل .. كلنا تحت رحمة الله وحده، ولكن تصور ما سيحيق بي لو غضبت مني! - لن يصيبك إلا ما كتب الله لك. - هذا حق يا شيخ طه ، ولكن تصور بالله وحدتي إذا هجرتني! - لن تهجرك يا ست عيون، فهي تعتمد عليك أضعاف ما تعتمدين عليها! - إني عاجزة، أما هي فقوية ويمكن أن تعمل في أي بيت! - يمكن أن تعمل في أي بيت، ولكن كخادمة، أما هنا فهي ربة البيت! - كلامك جميل ومعقول، ولكن الحقيقة مرة جدا، فأنا عاجزة تماما.

فضرب الأرض بعصاه الغليظة، وقال: إن نصف عجزك راجع إلى اعتمادك الكلي عليها! - ولكن مرضي حقيقة، حقيقة واقعة بشهادة الأطباء. - أنا لا أومن بالأمراض ولا بالأطباء، ولكني سأجاريك في أفكارك إلى حين، إذا هجرتك يا ست عيون كما تتوهمين، فسوف أجيئك بابنتي الكبرى المطلقة.

شع من عينها الغائمتين نور طارئ، وتساءلت بلهفة: حقا؟! - سأستغني عنها من أجل خاطرك.

فشعرت بخجل من نفسها، وقالت: ولكنك لا تستطيع العيش بمفردك!

فضحك لأول مرة، وقال: عجوز ضرير، فكيف يعيش بمفرده؟! طالما عشت بمفردي قبل طلاقها! - لا أريد أن أثقل عليك. - إنما تثقلين على نفسك، كان الله في عونك.

وساد الصمت مليا؛ صمت مشبع بالطمأنينة والسلام.

وتنحنح، ثم راح يتلو:

تبارك الذي بيده الملك

وآن له أن يذهب، فصافحها بحنان ثم ودعها وانصرف.

شعرت عيون بأنس لم تشعر به منذ دهر طويل، ونادت عدلية ثم قالت لها: عدلية، إذا جاء الشيخ طه فاستقبليه بلطف وإنسانية.

قطبت عدلية ساخطة، وقالت بتأفف: لكنه رجل قذر يا ستي! - إنه مقرئ بيتنا القديم، وقد ورثت صداقته عن أمي وأبي. - لقد رأيت قملة على جبته يا ستي.

فقالت بحنق: لا يهمني ذلك، إنه رجل مبارك.

فقالت المرأة بنبرة وشت بوعيد: ولكنني لا تنقصني المتاعب!

فقالت عيون بإلحاح: صبرك بالله، إنها رغبتي وأنتظر أن تحترميها! - قلت إنني رأيت ...

فقاطعتها بتصميم: إنه رجل مبارك، وعليك أن تنفذي مشيئتي.

تجهم وجه عدلية وهمت بالكلام، ولكن بادرتها عيون بإصرار: عليك أن تنفذي مشيئتي دون مناقشة!

تراجع وجه عدلية إلى صورته العادية في دهشة أو ذهول، ورمقتها بنظرة قلقة مستطلعة، ترامقتا طويلا فلم تجفل عيون تحت نظرتها النافذة. وجدت نفسها تصر على التحديق أو التحدي، واستهانت بعجزها ومخاوفها، وتمادت في التحدي. وارتعدت في باطنها، ولكن بحمى النصر، فتهيأ لها أنها تتعملق.

واختلج جفنا عدلية مليا، ثم غضت البصر، وغادرت الحجرة وهي ترطن بكلام غير مفهوم، ولكن عيون طمحت إلى مزيد من الطمأنينة والثقة، فنادتها مرة أخرى، وجاءت عدلية وهي تقول بتذمر وضيق: الأكل فوق النار.

فسألتها بإصرار وتحد:

خبريني عما ستفعلين إذا جاء الشيخ طه؟

حدجتها المرأة بنظرة متسائلة، ثم سألت: من هو الشيخ طه؟

اجتاحها الغيظ، فقالت: تعبثين بي يا عدلية؟! - ماذا أغضبك؟ إني أسألك من هو الشيخ طه؟ - ألا تعرفين من هو الشيخ طه؟ - ما سمعت باسمه من قبل!

فقالت وهي تجمع عزيمتها على نضال مرير: ألم تري الشيخ الذي كان يجالسني منذ دقائق؟ ألم تقدمي له القهوة بنفسك؟

تفرست المرأة في وجهها بريبة وقلق، وقالت: لم يدخل بيتنا اليوم أحد، لا شيخ ولا أفندي، عم تتحدثين؟

هتفت بغضب: عم أتحدث؟! ما شاء الله، أتبلغ بك القحة ...؟! - إنك ترعبينني، من هو الشيخ طه؟ - جننت أم تريدين أن تجننيني؟

قالت عدلية، وهي تزداد قلقا: أقسم بالله، برأس بنتي، ما رأيت الشيخ طه ولا سمعت عنه.

ارتفع صوت عيون كما لم يرتفع منذ سنوات، وهتفت: تقسمين أيضا، إذن فأنت تتآمرين على عقلي، توهمينني بأنني أرى أشياء لا وجود لها، بأنني مجنونة، أهذا هو غرضك؟ أهذا هو تدبيرك الأخير لسد الطريق في وجه الصديق الوحيد؟!

اتسعت عينا عدلية من فزع، تهاوى صلفها فتبدد، وهتفت بصوت متهدج: اسم الله على عقلك يا ستي! - اخرسي، أنا لا أخشاك، لست تحت رحمتك، سيزورني كل يوم، هذه هي مشيئتي وعليك أن تنفذيها بلا مناقشة، إياك وأن تعترضي سبيله، سأقطع عيشك!

اصفر وجه عدلية وجحظت عيناها، وقالت بضراعة: لا ترهقي نفسك، ليهدأ خاطرك، سأنفذ مشيئتك على العين والرأس!

صاحت بها: كذابة، مجرمة، لصة، زانية، تحملتك سنين بلا ضرورة، لست في حاجة إلى وجهك المطين، وأنت بدوني لا تساوين مليما خردة، لا أريدك، اذهبي في داهية، في ستين داهية ، بطرتك النعمة، لم تقنعي بامتلاك كل شيء في بيتي، فعملت ليل نهار على إذلالي وتخويفي وتعذيبي، إني أطردك، لا تريني وجهك بعد اليوم، اذهبي، في ألف داهية، في ألف مليون داهية.

تراجعت عدلية خطوات، ركبها الذعر حتى زعزع جذور عقلها، استدارت وهي تتلفت، ثم اندفعت كريح هوجاء وهي تصرخ بأعلى صوتها.

حلم

شجرة طويلة عريضة من الألقاب والأوصاف، ولكن بلا ثمرة؛ فهو عامل ميكانيكي بشركة الشرق للمعادن، وله من الأولاد سبعة، ولكن يوميته ثلاثون قرشا، وهو لا يطلق لحيته توفيرا لتكاليف حلقها فحسب، ولكن لأنه أيضا من رجال الطريق، ومريدي الشيخ. عند انطواء نهار العناء، يهرع إلى زاوية الكومي ويجلس بين يدي الشيخ، ما أنبله! وما أطيبه ذلك البحر الذي يزخر بعلم الله، إنه يلقنه آداب الدنيا والدين، ولكن برجوعه آخر الليل إلى البدروم، يجد في انتظاره المتاعب، هناك المرأة التي أحدها الدهر؛ أحد لسانها وأطرافها ومزاجها. - طبعا لا تعرف ما فعل الأولاد، وما حصل؟ - يا سيدي يا كومي، أكان الأولاد يكدرون صفاء روحك؟ لماذا لا يحدث الشيخ عن الأولياء في بيوتهم؟! - إني أعطيك جميع ما أملك، فلا تبقى معي إلا اللعنات.

ويجمح به الغضب، فيزل اللسان وينحرف عن أدب الدنيا والدين، ويتبدد جهاد الليل سدى.

وذات صباح، وجد نفسه أمام المدير وجها لوجه في الجراج الكبير، حياه بخير ما يجود به الولاء، وهتف بالدعاء له، وقال: يا سعادة المدير، رأيت لك حلما يجب أن تسمعه.

لكنه لم يوله أي اهتمام، ومضى في سبيله. •••

أي حلم رآه ذلك الأحمق!

لم يعد للأحلام معنى، لم يعد للطمأنينة مستقر، الشركة وحديقة الموز بالشرقية وعمارة الخازندار، انقلبت تهما موروثة، وتبخر الطموح السياسي، أي حلم أيها السني القذر! والشائعات تنتشر في الجو مخلفة وراءها ذيلا طويلا من القلق. أليس عجيبا بعد ذلك أن يقول له صديق إن الغد هو الأمل؟ أي أمل يا صاحبي؟! وقال له: لنكن واقعيين.

فقال صاحبه: الأمل واقعي أيضا. - إن كل شيء مهدد بالزوال. - إنك متشائم. - كلا، ولكني لا أدري ماذا أفعل؟ - افعل ما يفعله المطارد. - وما ذاك؟ - لا تعتمد كل الاعتماد على الحديقة أو العمارة أو الشركة، لا بد من خزانة في البيت، واحرص على الحلي والجواهر. - وماذا عن جو القحة الذي يحاصرنا؟ - ضع أعصابك في ثلاجة!

تذكر السني بحنق، الخبيث الذي يحترف الطيبة، على حين تقدح عيناه شرا متأصلا، ثم يزعم أنه رأى له حلما! وإذا بصاحبه يقول: دعني أحدثك عن حلم رأيته ليلة أمس!

فضحك ضحكة عالية، لم يفطن الآخر بطبيعة الحال إلى مغزاها أو سببها! •••

أصبح يؤمن بأن المدير يتجنب النظر نحوه بازدراء صامت كلما مر به في طريقه إلى السيارة، ولا شك أنه يضيق به ويلعن وجوده، وأفضى بهواجسه إلى زميله في الجراج، فقال الرجل: إنك تخلق أوهاما لا أساس لها، وأقسم لك إنه لم يدر بك قط.

وحمل نفسه على تصديق ذلك. أجل، فإن العدم الكامل خير من أن يكون مثار سخطه، وأراد أن يعترف بمخاوفه للشيخ، ولكنه وجد نفسه يقول: حلت بركتك بابني فهد، فهو يتقدم نحو الشفاء.

فقال الشيخ: لو أصاب مرضه أحد أبناء الأغنياء لحشد له الأطباء، فالله جل جلاله مع الفقراء.

فسأله: لماذا كان المؤمن مصابا؟

فأجاب بثقة وإيمان: ذلك أنه لا يرتضي عن الجنة بديلا.

إن جلسات الليل في الزاوية أو في منظرة البيت، شفاء للقلوب الجريحة، وكلمات الشيخ أثمن من أشياء كثيرة يعدها أهل الدنيا سعادة وزينة، والجوزة التي يستعملها الضالون لإشباع الأهواء، تعتبر هنا بحق وعاء للنور والحكمة الإلهية، وما أجمل أن تكون محبوبا كالشيخ، أن يهبك الناس - حتى أغنياؤهم - القلوب. لذلك تتهادى إليه العطايا الطيبات، وهو يقبلها بسماحة نفس؛ إكراما لهم، لا حرصا عليها أو ولعا بها، وقد سأله ذات يوم أخ في الطريقة: لم لا يعطينا مما أعطاه الله؟

فغضب وقال له: يا أخي، إنه يعطينا ما لا يقدر بمال. •••

قوانين يوليو .. قوانين يوليو، الكل يردد: قوانين يوليو. وجعل يذهب ويجيء وهو كالمجنون، وقالت له زوجه: الصحة أغلى من أي شيء! - أتدركين حقا ما الخسارة التي حلت بنا؟ - نعم، لست غرة ولا جاهلة، ولكن ما زال عندك الشركة والعمارة والحديقة. - والضرائب الجديدة؟ - الصحة وحدها هي التي لا تعوض!

وتأمل شحوب وجهها الذي يشهد بعكس ما ينطق به لسانها، وتمتم: لا أحد يدري أين يقف الطوفان. - ربنا موجود.

لم ينتبه إلى قولها إلا بعد مرور وقت، والحق قد أذهله، وكاد رغم الكرب يبتسم، وتخيل مرحها الطويل فشعر بأسى، وتمتم: ربنا موجود، ولكن أهو معنا أم علينا؟

فقالت بقوة: ليس في أموالنا مليم حرام.

حتى ذلك لم يعد يصدقه بلا تحفظ، الأصوات التي ترتفع كل يوم وتؤكد أننا شر لصوص سعوا فوق ظهر الأرض؛ ذكاؤنا خبث، اجتهادنا انتهازية، سعينا أنانية، ربحنا سرقة، وجودنا شر واستغلال. كيف يصدق؟! الوجوه تبتسم، لا للتودد ولكن لتداري الشماتة، وأحيانا يتسلل إليه صوت وهو يدخل السيارة: «على الباغي تدور الدوائر»، وإنه لشر أن يغضب أو أن يجادل، وشر منه أن يفكر في رد الاعتداء بمثله. البوليس الذي كان درعه أمسى مطارده، ومعبد القانون تتهاوى أركانه فوق رأسه، ولكن هل يسعه إلا أن يردد مع زوجه: ربنا موجود. •••

قال للشيخ بصوت متهدج من الفرح: يا له من يوم!

فقال له الشيخ بود: لنبدأ الدرس. - ولكن النفس ... أعني أنه يجب أن نتكلم. - لندع الخلق للخالق، ولنمض في طريقنا. - الدنيا تتغير يا مولانا .. من كان يظن ... - ألا تود أن تسمع شيئا عن سيدنا الخضر؟

ولكنه وجد عند زوجه أذنا تسمعه، فقال لها: أخذوا أموال الأغنياء!

لم تفهمني الغبية، وتساءلت: أليست هي رزق الله لهم؟

لوح بيده مغيظا، فعادت تسأل: ماذا أعطوا للفقراء؟

لا تريد المرأة أن تشاركه فرحه، رأته مسرورا فصممت - كالعادة - على تكدير صفوه، وقد ترامى إليه نبأ عن حال المدير التي رئي بها، وهو يستقل سيارته، ولكن فاته أن يراه بنفسه، ولم يغب الرجل عن ذهنه طويلا، ووجد زميله يصخب بالحماس، ولما رآه أقبل عليه قائلا:

إذا زلزلت الأرض زلزالها . - ماذا تقول يا ابن والدي؟ - أقول:

إذا زلزلت الأرض زلزالها !

وأوشك أن يسأله عما أعطوه للفقراء مرددا كلام زوجه، ولكنه لم يجد من نفسه مشجعا، وسرعان ما انهلت من السماء قرارات التحسين. أجل يا ابن والدي، إننا نخلق من جديد.

وقال له الشيخ: أصغ إلي.

وأراد أن يصغي، ولكنه كان مكتظا بالمشاعر، فقال له الشيخ: احذر الشماتة.

فقال إنه لا يشمت بأحد، ولا عدو له في الحقيقة، ولكنه بدا رغم قوله كالثمل، فقال الشيخ: إنك تتقهقر في الطريق.

فأغمض عينيه ليحجب عن بصره الدنيا التي تثيره، فقال الشيخ: استغفر الله.

فقال متشكيا: لم أذنب يا مولاي، والمال والبنون؟

واعتدل استعدادا للاستماع، ولكن الشيخ قال: ما أبعدك عن مجلسي! •••

ذلك السني لا أمر به حتى يصر على الترحيب بي بصوت كأصوات المنشدين! لا يختلف باطنه عن الآخرين، ولكن له طريقته الشريرة الخاصة به، ولا يبعد أن يفاجئني ذات يوم بحلم جديد. لم أشغل نفسي به، كأنه المكروه الأوحد في هذه الدنيا؟ إن أمراض الأحزان تزحف على أصحابنا، وعلي أن أقاوم، ألا أبالي، وغير ذلك من الكلمات التي لم يعد لها أي معنى البتة. وزوجه تبالغ في إعلان المرح، وخاصة في النادي. جدران النادي تضج بالضحك كل ليلة، ضحك المجانين. ويقولون - رغم ذلك - إننا وقعنا في شرك كبير، ما زال به متسع للحركة، ولكنه قد من صلب لا ينكسر ولا يلين. وإذا به يقع في شرك آخر من صنع يده. أجل، قرر أن يعشق الراقصة الألمانية بملهى الكونتننتال الليلي. أسرته كبرياؤها قبل شقرتها، عندما قالت له خلال حوار طويل: كنا وما زلنا الأسياد!

فقال لها بتأثر: إني أعشق حزنك كما أعشقك.

وهي حادة كالنصل، ولكنها مستكنة في غطاء حريري، أما زوجه فقد تدهور بها الحال رغم المرح التمثيلي، وقد رثى لها، ولكن حبها مضى سريعا نحو موت غير متوقع، وعندما أممت الشركة، جرى كل شيء نحو الموت، وقالت زوجه إنه يجب الإسراع ببيع الحديقة والعمارة. هذا رأي، ولكن أين الشاري؟ وأين يضعون الأموال؟ وقال: خير ما نفعل ألا نفعل شيئا.

واستسلم بكليته إلى غرامه، وقال إن عناصر بيولوجية وفسيولوجية تتعاون على تحطيمه من الداخل، فلا يجوز أن يقويها بتعاسة إرادية في سلوكه الخارجي.

وخطر السني على باله، وهو يحلق ذقنه ذات صباح، فغمغم: أي حلم يا فاجر؟! •••

سأله الشيخ: أتصغي إلي حقا؟

فأجاب بارتباك وحياء: نعم يا مولاي.

رمقه بأسف، وقال: إنك لا تواظب على الحضور. - الحق. - شغلتك الدنيا. - أبدا، ولكنني أبحث عن شقة فوق سطح الأرض.

بدا الشيخ فاترا على غير عادة، فتمنى الرجل ألا يكون انقطاع العطايا - نتيجة لتغير الظروف - وراء ذاك الفتور. وعاد الشيخ يقول: علاوات ومشاركة في الأرباح، ماذا تفعل بما من الله به عليك من نعم؟ - ما يفعل العطشان إذا وجد فنجال ماء. - ولكن الدنيا لم تشبع طالبا لها. - ما طلبت إلا الستر. - لقد غرتك الحياة الدنيا. - أبدا، والله شهيد. - أقول لقد غرتك الحياة الدنيا.

وفصل بينهما الصمت مليا، ثم قال الرجل بحذر: هل من بأس في أن أرشح نفسي لمجلس الإدارة؟ - الإدارة؟! - عمل نافع، وأنا رجل محبوب بين الزملاء. - لا تسل أهل الطريق عن ذلك. - قال رجل صادق إن الحياة في عبادة كما في الخلوة.

فغض الشيخ بصره وهو يقول: لم يبق إلا أن تحلق لحيتك.

وفرق الصمت بينهما. ••• - بلوانا أخف إذا قيست ببلوى الآخرين.

فسأل صاحبه عما يعني، فقال باقتضاب: الحراسة، على سبيل المثال. - لا يدري أحد شيئا عما يقع غدا.

وتبادلا نظرة طويلة، ثم سأل صاحبه: ماذا جنينا؟ - التاريخ حافل بالأحداث الدامية. - إني أكاد أصدق أحيانا ما يقال عن إجرامنا!

فرنا إليه صاحبه بنظرة متسائلة، فقال: إذا لم يكن ذلك كذلك، فلم قد تخلى الله عنا؟

وغرق في الغرام حتى أذنيه، وتدهورت حال زوجه من سيئ إلى أسوأ، وقرأ ذات صباح اسم السني بين أسماء الناجحين في انتخابات مجلس الإدارة، فهتف بحنق شديد: صاحب الحلم الفاجر!

وأضرب عن قراءة الصحف.

وأثار دهشته صديق بمرحه المتزايد، رغم ما حاق به من خسائر مذهلة، وقال له: إنك تمثل دورا غير لائق.

فضحك الرجل عاليا، وقال: حق أن أموالنا قد اغتصبت، ولكن هل أدلك على رجل، قد تنازل عن أموال لا تعد ولا تحصى بلا اغتصاب؟

وراح يستعرض في ذاكرته الصحاب من الباشوات والبكوات، ولكن صاحبه عاجله قائلا: اسمه الجوتاما بوذا!

وحثه على السماع بإشارة من غليونه، وقال: سأقص عليك قصته العجيبة.

رحلة

لفت الأنظار، كان لا بد أن يلفت الأنظار، فرجل طاعن في السن وغاية في الوقار - إذا جلس في قهوة بلدية صغيرة مزدحمة بالصعاليك - لا بد أن يلفت الأنظار، ولما زالت الدهشة عنهم، رجعوا إلى ما كانوا فيه، وراح هو ينظر إلى الحارة من مجلسه، ويلامس قدح الشاي بأنملته دون أن يفكر في تناول رشفة منه، لا شك أنهم يظنونه ضيفا غريبا طارئا لا تفسير له، أو عابر سبيل أقعده التعب، كلا .. إنهم هم الضيوف، هم الطارئون، أما هو ...

أما هو فقد كان في ذلك الموضع مولده.

لقد زال البيت القديم تماما، وقامت القهوة في مقدم الخرابة التي حلت محله، قامت مكان مدخل البيت القديم ودهليزه، وتحت موضع حجرة الجلوس التي كانت حجرة جلوس منذ سبعين سنة، وقد جاء لأن شيئا ما نزع به إلى رؤية الحي القديم، وها هي الحارة لم تكد تتغير. كلا، لقد تغيرت كثيرا، فعند مدخلها ترتفع عمارة جديدة، كذلك مهدت أرضها بالبلاط. ودكاكين كثيرة فتحت مكان الأدوار التحتانية من البيوت القديمة؛ لذلك اجتاحتها ضوضاء غريبة، بعد أن لم يكن يسمع بها إلا أصوات الغلمان وهم يلعبون ويغنون ويتشاجرون. لقد تغيرت كثيرا، ولم يكد يبقى من ذكراها المستكنة في النفس إلا القليل.

شيء ما نزع به إلى زيارة الحي القديم، ورغم اختفاء بيته، فها هي البيوت الأخرى، قديمة كما كانت وازدادت قدما، أما سكانها ...

لا أهمية للسؤال عنهم، تمزقت العلاقات القديمة وفنيت صلاتها الحميمة، كابدت جميعها تجربة صارمة حادة كالموت تماما. إن الشيء الذي نزع به إلى هنا لا يبحث عن الآخرين، ومع ذلك، أو رغم ذلك، فإنه استوقف صاحب القهوة وهو يمر أمامه، وسأله: من يقيم في ذلك البيت؟ - إنه وكالة خشب. - وذلك البيت؟ - عائلات كثيرة، كل عائلة في حجرة. - وذلك البيت؟ - آيل للسقوط.

كان لأرباب البيوت هيبة، فإذا ظهر أحدهم في الحارة سكت ضجيج الغلمان، وتوقفوا عن اللعب أو تواروا عن الأنظار. - وأين الكتاب والسبيل؟ - لا يوجد، ولم يوجد. - كان هناك كتاب وسبيل. - ولكني أعمل هنا منذ عشرين سنة!

يحسب أنه ملك التاريخ! وابتسم ابتسامة لم يرتسم منها شيء على تجاعيد وجهه، وسأله الرجل باهتمام: أتريد شراء أرض؟

فشكره وهو يعجب لغرابة الفكرة، ولحظه - وهو يبتعد - بجانب عينه كما ينظر الأصيل إلى المحدث.

لماذا جاء؟ لقد مات كل شيء أو أصبح في حكم الميت، وبعدت الذكريات لدرجة لم يعد يخفق القلب لها إلا قليلا، ومن الخير له ألا يخفق فوق ما يحتمل. أما ذلك الغلام الذي مات في صباه، فلأمر ما لم يمحه النسيان، حتى اسمه - رفاعة - لم ينعدم. كان يقيم في البيت الآيل للسقوط، ينتعل التراب توفيرا لصندله، وينظر إليك بعينين واسعتين ناعمتين لا أثر فيهما للعنف أو الشقاوة، ويلعب الحجلة في ذاك المكان تحت النافذة؛ نافذة زينب. لتهنأ الذاكرة بما حفظت من أسماء قليلة نادرة، ولكن مفعمة بحيوية خارقة تتحدى الزمن. لا يذكر من زينب إلا اسمها، ولا يذكر من جمالها إلا سحره الباقي كعبير مستحيل الوصف، وأنها كانت «كبيرة» بالقياس إلى أعمارهم وقتذاك، وكانت تطل من فرجة في شيش الشباك وهم يلعبون تحتها، وأحيانا تناديه بنبرة دسمة مؤثرة، قد تغير مع الزمن حتى جهاز السمع الذي كان يطرب لها، عشقها في العاشرة كما يعشق ابن العاشرة، عندما يرفع عينيه ليرى وجهها! أجل عندما يرى وجهها. وقالت له ذات يوم: «يا ولد، إنك تثير الغبار، فاحتشم.» يا له من يوم ذلك اليوم! ولعلها اليوم في الثمانين من العمر، إن تكن معدودة من الأحياء، أو لعل النباتات والهواء امتصت مخلفاتها من النيتروجين وثاني أكسيد الكربون والماء وبرادة الحديد والنحاس والكالسيوم. أجل، لا يبعد أن يكون - هو - قد استنشق بعضها، أو أكل البعض الآخر وهو لا يدري. كان يغسل وجهه ويمشط شعره ويتأنق في جلبابه وينتعل حذاءه المطاطي، ويبدي أقصى ما عنده من مهارة في اللعب والقفز والشقلبة تحت عينيها؛ ليسرها ويحظى بإعجابها، ويتيه زهوا إذا سمع همسها الضاحك: «أنت بهلوان يا ولد!» فيضاعف من الشطارة والعفرتة. وقد لازمته تلك العادة في أطوار متأخرة من حياته، وهو يعرض ألاعيبه في ركاب الوزراء والحفلات العامة؛ ليستجلب التصفيق الحاد من الجنسين. حدث ذلك تحت النافذة التي لم يعد يطل منها أحد، والتي تنتظر بين حين وآخر من يقتلعها ويرمي بها فوق ركام من الأخشاب والحجارة والتراب. ولم تكن هذه القهوة قائمة، ولم يكن أحد يحلم بها، وهي الآن خلية للشبان الذين لا يرحمون عجوزا من زعقاتهم وضحكاتهم، وضرب الموائد الخشبية بقبضاتهم.

وذات صباح، فتح عينيه فرأى جدته تنظر إليه باستغراب، وتسأله: من هي زينب؟

فدعك عينيه ولم يجب، أو بالأحرى لم يفهم، فقالت: تنادي زينب وأنت نائم، فمن هي زينب؟

ولما لم يجب، حركت يدها برثاء: تسقط في الحساب والديانة وتحلم بزينب! .. يا خيبتك القوية!

ولما قرأ

يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه

في وصف القيامة، أرعبته الصورة، وبخاصة ما يتعلق بإمكان الفرار من زينب وتركها لشأنها، واستقرت الصورة في قلبه طويلا كمأساة لا شفاء منها. ومن عجب أنه جاء الحارة وهو لا يذكر زينب البتة، حتى رأى النافذة! أما رفاعة فكان يلعب تحت النافذة، وكان نحيلا لدرجة تستثير الضحك، فكان يبتسم لضحكاتنا ولا يحنق أو يغضب. لا يذكره حانقا أو غاضبا قط، ولكنه كان يذعر إذا تحرش به الشربيني. ولم يكن الشربيني يتحرش به لسبب محدد، ولكن لأنه كان من طبعه أن يتحرش بالجميع، وبخاصة الضعفاء منهم، كان باختصار فتوة العصابة. وقلت له مرة: «حرام عليك .. يجب أن تخاف ربنا.» فأعاد كلماتي بصوت كالنهيق، وكان ذا قدرة غريبة على الاستهزاء بكافة القيم، رغم أنه لم يجاوز العاشرة، ولم يكن التحدي ليجدي معه ولو اجتمعنا عليه كلنا؛ فقوته وجرأته كانتا كالإعصار الذي يطيح بأي شيء يعترض سبيله. كان رئيسنا بالانتخاب الطبيعي ، ولكن بلا خلق ولا مبادئ ولا يهاب أبا ولا أما، ولا أذكره إلا ضاحكا أو غاضبا، أما العواطف الرقيقة فلم تعرف مكانا في قسمات وجهه، ولكنه كان رجلنا عند الشدائد، عند أي اقتحام لحارتنا، أو اعتداء على أحد منا، وكان أيضا كريما لا يستأثر بمليم وحده، وكان أمامنا في التجارب الجديدة، يشدنا إليها واحدة بعد أخرى، والآخرون يلهثون وراءه مشدوهين. - هل سمعتم عن السيرك؟ - وما السيرك يا شربيني؟

فيمضي بنا إليه، ونكتشف بفضله دنياه الساحرة، أو يقول باستعلاء: طبعا أنتم لا تعرفون الجبل!

ويقودنا إلى المقطم، فنرقى في معارجه فوق العالم كله، حتى يئن رفاعة متشكيا: كفاية .. تعبت.

فيقول له بازدراء: تقدم يا بنت!

ويوم جاءنا قابضا على ذيل قط ميت، وسألنا: ما فائدة هذا؟

فأجاب رفاعة: ندفنه فنكسب ثوابا! - يا تربي يا حقير!

وأمرنا أن نتبعه، فسرنا وراءه والمغيب يهبط فوق المآذن والقباب، حتى وقفنا في عطفة تنحدر إلى شارع الخليج. وقف مخفيا القط وراء ظهره، حتى رأى الترام قادما من بعيد. انتظر حتى مر الترام أمام العطفة، ثم رمى القط في مقصورة الدرجة الأولى، فارتطم بالرءوس وأسقط الطرابيش، ثم انطلقت العصابة بأقصى سرعة في الظلام، وما زال يقودنا من فتح إلى فتح، حتى قال لنا ذات يوم: إنكم لا ترون المرأة إلا وراء الشيش، أو في ملاءة مثل زكيبة الفحم!

تطلعنا إليه باهتمام - عدا رفاعة الذي لم يبق منه وقتذاك إلا ذكرى - أجل، تطلعنا إليه باهتمام، فقال: سترونهن بلا حجاب ولا حاجز ولا تمنع!

تجلى الشك في الأعين، فقال بمباهاة: موعدنا يوم السينما، وليرتد كل منكم جاكتة فوق جلبابه.

وقد غاب الشربيني عني دهرا، حتى كنت في جولة تفتيشية بجرجا، فصادفته على غير انتظار، عرفته من أول نظرة كما عرفني، كان معتما بعمامة خضراء مطلق اللحية، يدعى «عبد الله المدني»، ويزعم أنه مهاجر من جيرة رسول الله، ويبيع للبسطاء ترابا في لفافات من الورق، قال إنه من تراب القبر النبوي، وإنه يشفي من جميع الأمراض. رآه وسط حلقة من مريديه فترامقا مليا، ثم لحق به في نادي الموظفين، وما كاد يخلو إليه حتى صاح: بالأحضان!

فتعانقا، وتساءل الرجل عن صناعته الغريبة، فقال الشربيني: الرزق له أحكام! - ولكن ... - طول عمرك تقول «لكن» .. الحق أن كل شيء سخيف.

وجعل الرجل يضحك، حتى قال الشربيني: لي زوجة وأولاد في القاهرة، ولكن ضاق بي الحال مذ ولت أيام الفتونة، فهاجرت إلى البلاد أعمل طبيب أسنان أو وليا من أولياء الله .. وهو خير على أي حال من القتل! - ومستقبل أولادك؟

فضحك كأيام زمان، وقال: لا خوف عليهم، ما دام أولاد الكلب يرتفعون إلى أعلى المناصب.

وعندما تصافحنا للوداع، بسط لي يده دون أن ينبس، فدسست يدي في جيبي وأنا أقول: لك في ذلك حق، فطالما جدت علينا بسخاء.

ترى ماذا لقي من الحياة بعد ذلك اللقاء الذي مضى عليه ربع قرن من الزمان؟ ماذا لقي يا زينب؟ كلا .. لقد تغيرت الحارة تماما، أين الحوض الذي كانت تسقى منه بغال عربات الرش؟ أين كشك الحنفية العمومية؟ وهؤلاء الزبائن المزعجون ألا يريدون أن يسكتوا؟ وكيف تشعر أنت بهذه الغربة وأنت جالس في مسقط رأسك، وبين ذكرياتك الحميمة؟

ورفاعة يخجل مؤثرا السلامة على أي شيء، إنه يخاف الشربيني ويضاعف من تودده إليه. وزرنا القرافة في أحد المواسم قبيل وفاة رفاعة بأيام، كنا نفرح كثيرا بزيارة القرافة في المواسم، ونلعب في الحوش. أما إذا ترامى إلينا نبأ ميت جديد، فنهرع إلى القبر لنشهد الدفن ولو من بعيد، ووقفنا عند قبر أم رفاعة نتبادل الأحاديث، وسأل سائل لم أعد أذكره: ماذا يفعل الأموات في القبور؟

فأجاب رفاعة بإيمان: إنهم يروننا ويسمعوننا، أمي تراني الآن وتسمعني، كانت تقول لي ذلك، وهي صادقة. - والظلام؟ - يذهب بتلاوة القرآن، وتوزيع الرحمة على المساكين.

وتلا الصمدية. - والحساب؟ - يكون في أول ليلة فقط. - والمرزبة؟ - فظيعة! ولأنها تركتني صغيرا يتيما، فذلك خفف من الحساب، هكذا قال أبي. - وكلنا سنموت!

فتساءل الشربيني بارتياب: كلنا؟ - نعم كلنا، حتى سيدنا النبي مات.

وهز الشربيني رأسه هزة غامضة. - وهي الآن في الجنة؟ - الجنة لا توجد قبل يوم القيامة. - ويعاد الحساب مرة أخرى؟ - قال سيدنا ذلك في الكتاب وأكده.

وتمتم الشربيني باسما: عليه العوض.

كم كان مؤثرا محزنا مذهلا أن نقف في نفس المكان بعد ذلك بأيام، لنشهد دفن صديقنا الرقيق المهذب العزيز رفاعة، رأيناه في كفنه وهو يحمل من النعش، وهم يختفون به في القبر ليضعوه إلى جانب أمه، لم أصدق وبكيت طويلا، وعدت أنا والشربيني وآخرون ونحن لا نمسك عن الكلام، وقلت إنه لن يحاسب لصغر سنه، فقال لي أحدهم إن الحساب يبدأ من العاشرة، واختلفنا في ذلك، وطال الشد والجذب. - على أي حال، فحسابه يسير. - وسيكون من السقاة في الجنة.

عكفنا على ذلك حتى رجعنا إلى الحارة، والظاهر أني بكيت أكثر مما احتمل الشربيني، فقال وهو يرمقني بحدة: أنت خائف!

فقلت: إنني حزين.

فعاد يقول: أنت خائف.

فغضبت، فقال: يجب على أي حال أن نلعب!

ووقفنا في المكان الذي ألف أن يلعب فيه، ومربعات الحجلة ما تزال مرسومة على سطح الأرض، وشيء جعلني أرفع رأسي، فرأيت زينب في النافذة، تطل بوجه غير باسم، وتلاقت عينانا ولكنها لم تبتسم، وحولت عني وجهها. تمنيت أن أجري إليها لأبكي بين يديها، وأقول لها إني حزين يا حبيبتي!

ولكن الصحاب كانوا كثيرين، كانوا عصابة تملأ الحارة، لكنهم ضاعوا من الذاكرة فلم يعد لهم وجود، ولم يعد من المهم أن أسأل عن مصائرهم، ولا أدري إن كنت ما أزال حيا في بعضهم، أم أنني ميت أكثر مما أتصور. على أي حال عشنا في الحارة حياة الحضور الكامل، وهي أقصى ما نستطيع أن نمارس من الخلود؛ حياة حاضرة تبدو عادة راسخة ممتدة ممتنعة عن التغيير أو الاضمحلال فضلا عن الزوال، ولم تخل من مقومات الحياة الجوهرية بين طرفي العبث والغيبيات. وامتلأت بالحب ولكني آمنت بأنه بلا ثمرة .. وعرفت الموت كفراق مروع فظيع لا يخفف من بلواه شيء، ولا الإيمان نفسه، ولم أشعر بما بين أبعاد دنياي من تناقضات، ولكنني عشت السرور بلا حدود ، كما عشت الحزن بلا عزاء. •••

وتثاءب.

ولفت الأنظار مرة أخرى بتثاؤبه.

وخلع النظارة الذهبية فجلاها ببفرتين ثم لبسها. وغامت السماء فحجبت شمس الظهيرة عن أرض الحارة، وتمتم صاحب القهوة: «لا إله إلا الله.» والرحلة، وإن تكن عبثا، إلا أنها أيقظت القلب دقائق، وقرر - فيما يشبه نشوة الانتصار - أن يزور الحي القديم من حين لآخر، ولكنه عندما غادر الحارة، ومضت به السيارة إلى المدينة، استيقظ من غفوته، من سطوة الماضي، وتذكر مواعيده، واسترد اهتماماته اليومية.

تحرر تماما، وتمتم: بعيد أن تتكرر.

وتثاءب للمرة الثانية، ثم تمتم مرة أخرى: النافذة لم تكد تتغير.

المسطول والقنبلة

ليس الطريق هو الطريق، ولا الدنيا هي الدنيا. الناس في عجلة ولهوجة، الطوار مزدحم، والشارع يموج بحركة لا تنقطع، والجنود يرمون بنظرات جهنمية من تحت الخوذات. ما الخبر؟! وكلما رغب أن يركز ذاكرته تطايرت كغبار الأعاصير، كل ما يذكره أنه ذاهب إلى دكان صديقه محسن الكواء. يا عم محسن، أين أنت؟ .. الطريق لا نهاية له؛ كأنه يسير إلى القمر، وهو ثقيل جدا، تكاد تخذله قدماه. والشمس ترسل أشعة سوداء، ورغم حيرته ابتسم. وندت عنه ضحكة، ونظر إلى الناس باستغراب. أي شيء يستحق هذه العجلة؟! وتساءل، ترى هل لبس طربوشه؟ إنه يشعر بقشعريرة في دماغه، ولكنه ليس متأكدا من الطربوش، ولم يجد لا القدرة ولا العزيمة ليرفع يده ليتأكد من وجود الطربوش، ولكنه صادف دكان أثاث قديم، فمال إليه ونظر في مرآة مسنودة إلى ضلفة بابه، فرأى طربوشه منطرحا إلى الوراء كاشفا عن مقدم شعره الأسود. وسوى رباط رقبته وهو ينظر، وخيل إليه أن عينيه منتفختان وأنهما شبه مغلقتين، واشتدت الحركة بالطريق وانتشرت الضوضاء. ما الخبر؟ وفتح فاه ليدندن أغنية، ولكنه سرعان ما نسيها، وساءه ذلك جدا ونغص صفوه، ولكن حركة زئبقية رقصت في باطنه فانبسط وابتسم، وقال إنه بما يملك من قوة يمكنه أن يطير، وأن يغوص في الأرض، وأن يخاطب ساكني القطب، وها هو أخيرا دكان محسن الكواء، ونسي تماما أسئلة الطريق وحيرته، ولما صار أمام عم محسن، انحنى تحية كأنه حيال ملك، ولبث منحنيا إعرابا عن امتنانه وكسلا، وابتسم الكواء، فقال ويده لا تكف عن العمل: أستغفر الله يا أيوب أفندي. - أنت تستحق أكثر من ذلك.

ووضع له الصبي كرسيا عند باب الدكان، فاعتدل في موقفه، وكرر التحية برفع اليد، ثم مضى إلى الكرسي فانحط عليه، وأشار إلى رأسه وهو ينظر إلى الكواء، وقال: ليس بالإمكان خير مما كان.

فقال الكواء بفخار: ألم أقل لك؟ - صنف لا مثيل له. - وقلت لك خذ أوقية قبل أن ينفد، ولكنك لم تصدقني.

وبالجلوس في الشارع، عاد مرة أخرى إلى الحيرة والأسئلة، وتساءل عن معنى ذلك، فقال الكواء: عما قليل ستشهد الموكب. - الموكب؟! - هووه .. عاد الرجل من لندن، وها هم الجنود ينتشرون للصيد الحرام!

ودارت عينا أيوب بلا إرادة، واشتد شعاع الشمس إظلاما، واكتظ الطريق تماما، وتساءل: لماذا؟

لم يفهم الكواء المقصود بالسؤال، ولكنه قال: عودة مظفرة سيعقبها سقوط الوزارة.

ونظر أيوب إلى السماء، فانطرح رأسه على ظهر الكرسي بلا حراك، فابتسم الكواء، وتساءل: ألا يسرك أن تغور الوزارة؟

لم يبد أيوب حركة أو اهتماما، فكتم الكواء ضحكة وسأله: خبرني، من الذي يحكمنا الآن؟

أرجع رأسه إلى وضعه الطبيعي وكأنه لم يسمع، فعاد الآخر يتساءل: ألا يسرك أن يعود الدستور؟

فراح يدندن بنغمة غامضة، فضحك الكواء قائلا: يا بختك!

وترامى هتاف من بعيد، فانطلقت شرارة الحماس في الطريق، وصاح المأمور بصوت ملؤه الوعيد: «النظام.» وخرج الكواء من الدكان واندفع يهتف مع الهاتفين. وضحك أيوب دون أن يبرح مجلسه، ومر الموكب كزلزال، وجرى في إثره ألوف وألوف، ولم يبق قاعدا في الطريق كله إلا أيوب، وتراجع لصق الجدار ليتفادى من الراكضين، وراح يغني بصوت لم يسمعه أحد:

البخت لو مال حتعمل إيه بشطارتك.

ووقف المأمور ببدلته البيضاء وشريطه الأحمر في وسط الطريق، والتيار المندفع يتجنبه فينحرف إلى يمينه أو إلى يساره. ولم يحدث من الجنود اعتداء إلا حوادث شبه فردية، وإذا بشاب ينقض على المأمور فجأة، ويوجه إلى بطنه لكمة ضارية. ترنح المأمور ثم سقط، وفر الشاب كالريح، ووقفت النغمة في حلق أيوب، وحملق وهو يداري إغراء بالضحك، ورأى الجنود وهم ينفجرون، فيهوون بهراواتهم على الناس جزافا، وطارد المخبرون الشاب، ولكن فصلت بينهم وبينه موجات متلاطمة من البشر، وتتابعت الأحداث بسرعة جنونية؛ دوت طلقات نارية، وفي ثوان تفرق الناس في كل عطفة حتى خلا الطريق، وأغلقت الدكاكين، ونهض المأمور معتمدا على ذراع ملازم، وصاح برئيس المخبرين: الويل لك إذا لم تأت به.

وأرهقت الأحداث عيني أيوب، ولم يبق في الطريق أحد سواه، حتى الجنود ركضوا في أعقاب الهاربين، وأغمض عينيه ليستريح، وأخذته نوبة من الضحك في الطريق الخالي، والتفت إلى دكان الكواء فوجده مغلقا، ورغب في تذكر الأغنية ولكنه لم يفلح، وأغلق عينيه مرة أخرى، غير أن وقع حذاء ثقيل دعاه إلى فتحهما، رأى المخبر يقبل نحوه بنظرة صلدة. كيف انشقت عنه الأرض؟ ومضى يقترب منه حتى أخفى عنه الطريق والسماء، وحملق أيوب فيه دون أن ينبس وهو يعاني قساوة الوحدة، وصاح المخبر بصوت كالسوط: ماذا يضحكك يا مجرم؟

فانكمش أيوب فوق الكرسي مغمغما: لم أضحك.

فصاح وهو يقرب منه وجهه: تضرب المأمور ثم تضحك؟

فمد أيوب ذراعيه، كأنما ليتقي الشر، وقال: معاذ الله .. أنا لم أبرح مكاني. - فاهمني أعمى يا ابن الحية؟

ولطمه لطمة شديدة طرحته أرضا، وأطاحت بطربوشه عشرين مترا. تأوه أيوب دون أن يحاول النهوض، ولكن المخبر شده من رباط رقبته حتى احتقن وجهه، ثم قام وهو يترنح، وقال بصوت منكسر: حرام .. والله ما تركت مكاني طول الوقت. - اخرس .. عيني لم تتحول عنك لحظة.

وصفعه مرة أخرى، وأخرج صفارته ونفخ فيها، وجاءت قوة من الجنود، فأشار إلى أيوب قائلا: اقبضوا على المجرم الذي ضرب مأموركم.

ودوى انفجار شديد فتجمدوا في أماكنهم، وقال جندي: صوت قنبلة.

وأرهفوا السمع صامتين، ثم أفاقوا من دهشتهم، فقبضوا على أيوب وهو يصيح بأعلى صوته: أنا بريء .. لم أضرب أحدا، ولم أتحرك من مكاني.

وساقوه إلى القسم، ثم أدخلوه حجرة المأمور، وأدى المخبر التحية، وقال: الجاني يا فندم.

وهتف أيوب: حرام عليك، أنا بريء.

وسأل المأمور المخبر، وهو يحدج أيوب بنظرة قاسية: أين قبضت عليه؟ - لحقت به في ميدان عابدين، جريت وراءه دون أن أرفع عيني عنه، قاوم مقاومة شديدة، ولكنني ارتميت عليه حتى أسعفني الجنود.

واستمر المأمور في طعنه بنظرته، ثم قال بحنق: تضربني يا كلب!

وهتف أيوب يائسا: أقسم بالله ...

ولكنه لطمه لطمة أسكتته، ثم أشار إلى المخبر إشارة خاصة، وهو يقول: لا تترك به أثرا يمكن أن تراه النيابة.

أحنى المخبر رأسه إحناءة الفاهم، ودفع أيوب إلى الخارج، ودعا بمعاونيه فأوثقوا يديه وراء ظهره، وانهالوا على وجهه بأكفهم وهو يصرخ من العذاب، حتى سقط مغشيا عليه.

وأفاق، فوجد نفسه مطروحا على أريكة خشبية في نطاق من الجنود، وجذبه المخبر من ذراعه، فاستجاب في إعياء وذهول، وسيق إلى حجرة المأمور، وأجلس هذه المرة أمام مجموعة من الرسميين في ملابس مدنية، وهو يشعر بأن وجهه منتفخ حتى ليوشك أن يملأ الحجرة، وكل موضع في جسده وروحه انهار انهيارا، وسأله من ظنه رئيسهم: أنت مستعد للتحقيق؟

فقال باستسلام: أنا بريء.

وطلب أن يشرب، فجيء له بكوب، وسأله المحقق عن اسمه، فأجاب: أيوب حسن طمارة. - عملك؟ - كاتب بالدفترخانة. - عمرك؟ - ثلاثون عاما. - رآك الجنود والمخبرون.

فصاح مقاطعا: أنا بريء، وحق كتاب الله بريء.

قال الرجل بحزم: أجب على أسئلتي دون ضوضاء. - لم أفعل شيئا، ولا أدري لماذا جيء بي إلى هنا. - أجمع الشهود على أنك أنت الذي ألقيت القنبلة أمام المحكمة المختلطة!

لم يفقه شيئا، إنهم مجانين أو مساطيل، وقال مكذبا أذنيه: لم أغادر الكرسي أمام دكان محسن الكواء، ولم ألمس المأمور. - إنك تهذي، وهذا سيعقد الأمور في وجهك. - ولم أفعل شيئا. - أنت الذي ألقيت القنبلة!

قنبلة! .. حضرتك تقول قنبلة؟! - عشرات من الجنود والمخبرين رأوك بأعينهم.

ضرب جبهته بكفه، وصاح: لا أفهم شيئا مما تقول. - كلامي واضح جدا، مثل فعلتك الشنعاء. - يا حضرة البك، أنا لم يقبض علي بتهمة إلقاء قنبلة، لقد قبض المخبر علي بلا سبب، ثم ألصق بي ظلما وعدوانا تهمة الاعتداء على حضرة المأمور. - اعترف، فالاعتراف في صالحك، وإذا اعترفت بمن دفعك إلى الجريمة، فلن تندم.

فهتف أيوب بصوت محشرج: يا ناس حرام عليكم، أنا رجل مسكين لم أعتد في حياتي على أحد، اسألوا عم محسن الكواء. - اعترف ولن تندم.

وقال رجل يجلس إلى يمين المحقق: نحن نعرف الذين وراءك، سنذكر لك أسماءهم ونطلعك على صورهم لتتأكد من صدق كلامنا، وأنت مسكين حقا، ولا شك أنهم غرروا بك، لم تكن في أيديهم سوى لعبة لعبوا بها بسفالة، وسوف يخفف ذلك من ذنبك، سيجعله لا شيء، ولكن يجب أن تعترف. - أعترف! .. ولكنني لم أضرب المأمور. - من أين أتيت بالقنبلة؟ - يا رب السموات والأرض ... - إذن، فأنت لا تريد أن تعترف! - أعترف بماذا؟ .. ألا تخافون الله؟ - احذر العناد العقيم.

نظر إلى الوجوه المحدقة فيه، فرآها سورا صلدا يسد أبواب الرحمة والأمل، وخطر له خاطر يأس في أعماق محنته، فقال: أتريدون حقا أن أعترف؟

فعكست أعينهم اهتماما كاد أن يكون ودا، وقال المحقق: تكلم يا أيوب.

فقال بصوت منخفض: أعترف بأنني مسطول.

فحل محل الاهتمام غيظ وحنق: أتهزأ بنا؟ - ربع قرش في معدتي، وبيني وبينكم الطبيب الشرعي. - إنك تحرق مستقبلك. - أنا مسطول، ككل يوم، هل سمعتم عن مسطول ألقى قنبلة؟ - حيلة صبيانية للهرب. - أنا أيضا مدمن، ولم أضرب المأمور أو ألقي قنبلة؟! - حذار يا أيوب. - لماذا؟! .. لماذا؟! .. عمري ما شغلت نفسي بسياسة، ولا بدستور 930 أو دستور 923، ولا هتفت مرة واحدة، هاتوا الطبيب الشرعي. - طاوعني واعترف، والأسماء تحت يدك والصور. - صدقوني لا عمل لي في الدنيا إلا حفظ الوثائق القديمة، واستحلاب ربع قرش كل يوم. هاتوا الطبيب الشرعي، واسألوا الناس جميعا. •••

وانقضى عام قبل أن يرجع أيوب مرة أخرى إلى دكان عم محسن الكواء، وجهت إليه تهمة إلقاء قنبلة أمام المحكمة المختلطة، نشرت صورته في الجرائد، عده الشعب بطلا فدائيا. تقدم للدفاع عنه نخبة من كبار المحامين. حكمت المحكمة ببراءته، ودوت القاعة بالهتاف، ولما عاد إلى دكان الكواء تعانقا عناقا حارا طويلا، ثم اتخذ مجلسه المعتاد أمام الدكان، وقال محسن تحية ومودة: عندي صنف يا هوه!

فضحك أيوب، وقال: مضى عام بلا كيف حتى نسيته. - آن لك أن تتذكر.

فلم ينبس بكلمة، فقال محسن بدهشة: الله يجحمهم! .. لقد تغيرت حتى ما أكاد أعرفك يا أيوب أفندي.

فابتسم دون أن يتكلم، فقال الآخر مشجعا: ولكن كثيرين يحبونك اليوم ويعظمونك!

فضحك ضحكة بريئة سعيدة، فاستطرد عم محسن: ولا يصدق أحد بأنك مدمن، ولكنهم يؤمنون بأنك ضربت المأمور وألقيت القنبلة.

فقال بفخار: كانت المحاكمة قنبلة!

فتساءل محسن بارتياب: وماذا تنوي بعد ذلك؟

فتفكر الرجل قليلا، ثم قال: أشار علي بعضهم بأن أرشح نفسي في الانتخابات القادمة!

نظر محسن نحوه بذهول، وقال: لكنهم يعرفون صاحب القنبلة! - ولو! .. قالوا إنني رفضت أن أشترك في تلفيق تهمة ضد أحد منهم. - ولكنك لا تهتم بشيء في هذه الدنيا؟!

فقال وهو يبتسم: لقد تزوجت الاهتمام في المجلس الاحتياطي والمحكمة.

صورة

يسري عبد المطلب يتناول فطوره المكون من قطعة من الجبن القريش والخبز المحمص وفنجال قهوة، وفي قبالته جلست زوجته منهمكة في مطالعة الجريدة، وتنفس جو الشقة هدوءا كهدوء الشيخوخة، هو طابعها دائما أبدا، عدا أيام الزيارات التي يحييها الأبناء. وقربت المرأة الجريدة من عينيها في اهتمام طارئ، ولكن الرجل رمقها في غير اكتراث، ونادرا ما يثير اهتمامه شيء مذ أحيل إلى المعاش، وتمتمت المرأة في رثاء: مسكينة!

وقال لنفسه: دائما صفحة الحوادث أو صفحة الوفيات! ومدت له يدها بالجريدة، وهي تقول في حسرة: شابة، وجميلة .. انظر.

يا فتاح يا عليم! جثة ملقاة على الرمال، الوجه واضح المعالم، وسيم يافع، مغمض العينين إلى الأبد. ونظر في الجريدة دون أن يتناولها، وتساءل: قتيلة؟ - في الصحراء، وراء الهرم، مؤخر الرأس مهشم، لم يسرق منها شيء، مجهولة.

فقضم لقمة وهو يقول: قصة قديمة معادة. - لكنها لم تسرق! - حب، زفت، أي شيء، لم تقتل طبعا بلا سبب. - جميلة وشباب، المسكينة!

وأمعنت النظر في الصورة، وقالت: يا قلب أمها!

ووضعت الجريدة على السفرة، واستطردت: إني أعجب كيف يقدم إنسان على قتل إنسان!

فقال باسما: لا تنكري أنك عاصرت حربين عالميتين، وعشرات الحروب المحلية. - الحرب شيء آخر، ليس كأن تقتل إنسانا وجها لوجه، بقصد وغدر وقسوة، والمسكينة - ولا شك - ذهبت مع القاتل وهي مطمئنة. - اللعنة، ولماذا ذهبت معه؟

تنهدت المرأة قائلة: الله أعلم، والله غفور. •••

وفي شقة بالعمارة رقم 50 بشبرا، كانت فتاة تنظر إلى صورة القتيلة بذهول، لا تكاد تصدق عينيها، ثم هرعت إلى أمها بالجريدة هاتفة: ماما .. انظري!

نظرت الأم إلى الصورة، وقرأت الخبر، ثم رفعت عينيها إلى ابنتها متسائلة، فقالت هذه بانفعال: شلبية يا ماما، ألا تذكرين شلبية؟!

أعادت المرأة النظر إلى الصورة بإمعان، حتى اتسعت عيناها دهشة وانزعاجا، وصاحت: يا ربي! هي هي شلبية، شلبية دون غيرها.

قالت الفتاة برثاء وتأثر: كانت عندنا منذ خمس سنوات. - أجل، ترى كيف ولم قتلت؟!

غمغمت الأم بكلام غير مفهوم، ولم يسكن انفعال الفتاة، فقالت: كانت طيبة جدا يا ماما، تتلقى أي أمر بصبر وابتسام، وكانت تغني في الحمام أغاني ريفية بصوت ساذج لطيف.

ثم بنبرة كالعتاب: وقد طردناها بلا سبب! - هي مسكينة، ربنا يرحمها، ولكنا لم نظلمها. - كانت لطيفة وساذجة ومؤدبة، ولكني لم أدر لأي سبب طردت!

فقالت الأم بوجوم: لم تطرد بلا سبب، وكل شيء قسمة ونصيب.

فتنهدت الفتاة قائلة: لعلها لو بقيت عندنا لما ...

فقاطعتها بحدة: أنت مجنونة؟! .. أليس كل شيء بإرادة الله؟

فانخفض صوتها وهي تقول: مسكينة، كنت أحبها، وبابا لم يرغب أبدا في طردها.

وقطبت الأم عند ذكر «بابا»، وغامت عيناها بذكريات مقلقة فيما بدا، وقالت بصوت جاف: كفى، الله يرحمها، وكفى.

وأعادت النظر إلى الصورة، وتمتمت: ليست الملابس بملابس خادمة. - لعلها ...

فقاطعتها قائلة: ليكن السبب ما يكون، ولكنني لم أظلمها، والله يرحمها.

وساد صمت، ثم قالت الفتاة: البوليس يناشد من يتعرف على الصورة أن يتقدم للإدلاء بمعلوماته.

فقالت الأم بحزم: لقد انقطعت صلتها بنا منذ خمسة أعوام، ولن نفيد التحقيق شيئا، وأنت لا تتصورين المتاعب التي يتعرض لها من يذهب إلى البوليس.

ورمت بالجريدة بعيدا، وهي تقول: أي صباح هذا يا ربي؟! •••

ووقع بصر السيد أنور حامد على الصورة، وهو يتصفح الجريدة في فترة استراحة قصيرة في أثناء عمله بإدارة التفتيش. حملق فيها بانزعاج لم يخف عن زميله في الحجرة، فسأله: خيرا إن شاء الله!

فطوى الجريدة وهو يتمالك نفسه، قائلا: صديق توفي.

ولكن اجتاحه اضطراب لم يفارقه طوال الوقت، شلبية العاملة بالمشغل، الجميلة العذراء، التي اضطر آخر الأمر إلى أن يتزوج منها زواجا عرفيا، وبسوء نية اشترط عليها ألا تنقطع عن العمل، ولما حملت اغتصب منها موافقة على الإجهاض، وقالت وهي تبكي: أنت لا تحبني، ولا تعدني زوجة!

فقال ملاطفا: بل أنت زوجتي، ولكني لا أريد خلفا!

ولما تنغص العيش في الأيام التالية، حزم أمره وسرحها، وصديقه عبيد رئيس الحسابات كان الشاهد وحافظ السر، ومن شدة اضطرابه انتقل إلى حجرته، فأطلعه على الصورة، وهز الرجل رأسه وتمتم: مسكينة، ترى كيف قتلت؟ - سنعرف غدا أو بعد غد، وليس من العسير تخيل ذلك.

وتبادلا نظرة لم يرتح لها أنور حامد كثيرا، فقال: كانت عنيدة، فماذا كان يمكن أن أفعل؟!

فقال المدير بنبرة مخففة: كانت تحبك جدا، ورغبت في الأمومة. - ولكن الناس والأهل! .. لا يخفى عليك ذلك. - طبعا، فليغفر الله لنا جميعا!

امتعض مليا، ثم تساءل: هل أذهب إلى البوليس؟! - أظن هذا. - ولكن، ألا يجر ذلك إلى متاعب، وأنا شارع في الزواج؟

فتفكر الرجل قليلا، ثم قال: إذن لا تذهب، وإذا جاء ذكرك في التحقيق مستقبلا، فادع أنك لم تر الصورة. •••

ولم يطلع حسونة المغربي على الصورة إلا حوالي العصر، وهو موعد استيقاظه من النوم عادة كل يوم، وفرك عينيه كأنما لا يصدق، وقال: درية! .. يا للشيطان!

وأدام النظر إلى الصورة، ثم غمغم: لماذا قتلت؟!

ومضى إلى الحمام وهو يتجشأ حموضة الخبر، وسرعان ما استرد هدوءه، فقال: ولكنك شيطانة مجرمة!

ثم مواصلا، وهو يغسل وجهه: الجزاء من جنس العمل.

وراح يحلق ذقنه، ويقول وكأنه يخاطب صورته في المرآة: عرفتك مطلقة ذليلة، بعد أن جربت شهامة الأفندية، أعطيتك الحب وجعلتك نجمة في هذا البيت، وعشقك أحسن ناس في البلد، وماذا كان الجزاء؟ .. هربت، أجل هربت لكي تقتلي في الصحراء، فإلى الجحيم.

وحوالي التاسعة مساء، جاء الرجال وجلسوا حول مائدة القمار، ودارت عنايات وبهيجة بالويسكي والمزات، وعلموا بالخبر، فقال فهمي رمضان: قد تجر إلى التحقيق يا حسونة.

فقال باستهانة: لكنني لم أرها منذ عام. - ولو!

وقال سعيد الإمام بحذر: من الحكمة أن نمتنع عن الحضور، حتى يقبضوا على القاتل.

فصاح حسونة بقلق: لا شأن لي بالجريمة.

فقال حسني الديناري: اذهب إلى البوليس، وأدل بمعلوماتك.

فتساءل الرجل بذهول: أتريدني على أن أعترف بأنها كانت تعمل هنا؟

فقاطعه: كلا .. قل فقط إنها كانت صديقتك، واختفت منذ عام. - وإذا سئلت عن عملي .. أو بطاقة الشخصية .. أو تحروا عن مسكني؟! - في السكوت خطر أفدح.

فلوح بيده بغضب وسخط، وهتف: كان ضروريا أن تقتل لتربك حياتي!

فقال الرجل في غيظ: ياما نصحتك! .. ولكنك كنت وحشا في معاملتها! كنت وحشا رغم تفانيها في حبك. •••

واستيقظت فتحية السلطاني حوالي المغرب، في الحجرة التي تقيم فيها مع دولت ونعمات وأنيسة وعلية، وكانت درية (شلبية) أول ما خطر ببالها، وانفجر في رأسها بركان من الغضب لم يفارقها طيلة الوقت الذي قضته في الحمام، وهي تغير ريقها، ثم وهي واقفة أمام المرآة تتبرج: الخنزيرة .. الكلبة .. ماذا تظن بنفسها؟!

وتثاءبت دولت، وقد أدركت من تعني، وقالت وكأنما تعتذر عن الأخرى: كانت سكرانة! - ولو! .. إنها تشرب البرميل فلا يدور لها رأس.

ونسيت الموضوع دقائق وهي تروض شعرها المتمرد، ثم عادت تقول: نظرت إلي من فوق! .. العفو .. العفو يا مولاتي! .. أنسيت عرشك تحت الجاموسة؟

وقالت نعمات: كانت سكرانة وهي غير معتادة، ورغبت في مداعبتك، ترى أين باتت ليلتها؟ - في أي داهية مع أي جربوع، وستعرف الليلة من أنا!

وذهبت أول الليل، فتجولت طويلا على كورنيش النيل دون ثمرة، ثم قصدت حلواني كوكب الشرق، فاتخذت مجلسها المعهود بالدور الثاني، وأخذت ترامق الموجودين وتنتظر، ومن آن لآخر تنظر نحو المدخل، وهي تتوثب للقاء غريمتها. ولما مر النادل سألته: ألم تر درية؟

فأجاب دون أن يتوقف: زمانها جاية. •••

وأمضى عادل اليوم متسكعا بين الحدائق على شاطئ النيل، لم يذهب إلى الكلية، ولم ينم ليلة أمس ساعة واحدة، وتأبط الجريدة، وكلما وجد نفسه في خلاء، فتح صفحة الحوادث وأدام إلى الصورة النظر، وقال إنه سيسقط آخر الأمر من شدة الإعياء، وقال إن ريقه جاف ومر، وتنفسه بطيء، وها هي الزوبعة الهوجاء قد سكتت، والأسئلة المندلعة قد خمدت، والنية المبيتة قد نفذت، ومع ذلك فلا يشعر مطلقا بأنه حقق مطلبا، أو بلغ أملا. لا شيء، خواء، انهيار، وقد قضي عليك. ولا مهرب، فإن يكن البقاء خطرا فالهرب أشد، وأين تهرب؟ وكم من راء يحتمل أن يكون رآك وأنت ماض بها؟ وخيل إليك أن صوتا ناداك في المرقى إلى الهرم، وفضلا عن هذا وذاك، فالبوليس كالهواء يملأ الأماكن المغلقة. - إلى أين تسير بي؟ - ما أجمل أن نبتعد في الصحراء!

هم يسألون عنك في الكلية، وينتظرونك حول البيت. ما أعجزنا عن أن نرجع دقيقة واحدة إلى الوراء! - درية .. أنت دائما تكذبين! - أنا لا أكذب، ولكنك لا تصدق. - كم أحببتك من كل قلبي، ولكنك لا قلب لك. - ما أشد الظلام حولنا! - قاسية كالحجر. - عادل .. صوتك متغير .. وأنا لا أحب الظلام. - لن تري بعد الساعة إلا الظلام.

انتهى كل شيء، وها أنت تنكلين بي في موتك كما نكلت بي في حياتك، لم تكوني امرأة، ولا آدمية، ولم ينبض قلبك بالحب أبدا. قوة شريرة خلقت من الشر لتمارس الشر.

صوت مزعج

كان بمجلسه الصباحي بكازينو الشجرة، يحتسي القهوة ويدخن سيجارة، ينظر إلى مياه النيل الساكنة أو ينظر إلى سماء يوليو الصافية والباهتة من حدة إشعاع الشمس، ويفكر بقلق، ويغمض عينيه إمعانا في التفكير، ثم يفتحهما فيرى كراسته المفتوحة على صفحة بيضاء، وقلمه الرصاص مطروحا عليها بالعرض رهن الإشارة. ويجيل بصره في الحديقة، فيرى اثنين هنا واثنين هناك، ولا أحد ثمة غيرهم، والنادل نفسه قعد فوق السور المطل على النيل في شبه عطلة. هو وحده يجيء للعمل، ليستوحي نهار يوليو المشاكس المعاند موضوعا جديدا، يملأ به صفحة «أمس واليوم» بمجلته الأسبوعية، وهو موضوع يجب أن يتجدد أسبوعا بعد أسبوع، وإلى ما لا نهاية، وعلى توفيقه فيه، تعتمد سعادة شقته الأنيقة وزوجته وطفله البالغ عامين وسيارته الأوبل، فضلا عن جرسنييرة بعمارة الشرق معدة للطوارئ. - يا سماء جودي بالأفكار.

وامتد بصره من خلال النظارة إلى قصر قائم قبالته على الشاطئ الآخر، مغلق النوافذ والأبواب، متوهج الجدران بالأشعة المتدفقة، ولا حركة واحدة تدب في ركن من أركانه، حتى أشجاره استكنت وجمدت كأنها تماثيل. - أن تعيش في قصر! غير مطارد بمطالب الرزق، ولا هم لك إلا التأمل!

وتنهد وقال وهو ينظر إلى نفاية القهوة الراسبة في قعر الفنجان: عندي أفكار، عندي مشروعات، ولكنني أبدد العمر في تسجيل ملاحظات فارغة، واقتراح حلول معروفة لمشكلات معروفة .. أف!

وباغته صوت رقيق من فوق رأسه، قائلا: أستاذ أدهم، صباح الخير.

التفت إلى الوراء، مداريا انزعاجه بابتسامة، ثم قال مستخلصا نفسه من أفكاره: نادرة! .. فرصة سعيدة حقا.

تصافحا، ثم جلست تجاهه وهي تضع حقيبتها البيضاء فوق الصفحة البيضاء. - رأيت ظهرك من الطريق فعرفتك. - متى تعرفينني من وجهي كما تعرفينني من ظهري؟

فقالت مازحة: ولكن وجهك مطبوع في صدري!

ورنا طيلة الوقت إلى بنائها الدقيق التكوين، ووجهها المتألق بالصبا، ورغم تلاحم الطفولة بالشباب في عمرها، فإن الزخرف شمل بشرتها والعينين والجفنين والرموش والأظافر والحاجبين، وسألها دون اكتراث لمزاجها: كنت ذاهبة إلى ميعاد أم راجعة؟ - لا أحب مواعيد الصباح، ولكني كنت أتسكع بالسيارة بلا هدف.

بلا هدف! اصطلاح وبائي، غير أنك في الخامسة والثلاثين، وهي في السابعة عشرة، وهي متحررة لدرجة تثير إعجاب أي شخص يملك جرسنيرة، وقارئة مولعة بفرانسوا ساجان، وكم أثارت دهشته ليلة تعرف بها في مجلس من الزملاء بسان سوسي! محدثة بارعة في الفن والحياة، ولا تجد بأسا عند الضرورة من التندر بنكتة مكشوفة، وهي تدرس السيناريو مذ أهملت دراستها الجامعية، ولعلها تتطلع إلى سماء النجوم، ولها محاولات فنية، فشلت رغم جمالها في نشرها بالمجلة أو الإذاعة. وفي آخر لقاء معا، وبحضور بعض الزملاء، أعلنت إعجابها بالوجودية الإلحادية! - ماذا أطلب لك؟

ثم مستدركا بلهجة شبه جدية: أم نؤجل ذلك لحين ذهابنا إلى شقتي الخصوصية؟ - اطلب قهوة، ولا تحلم.

قدم لها سيجارة وأشعلها، وراحت تشرب القهوة غير مكترثة لإلحاح عينيه، حتى سألها مداعبا: كيف حال القلق الوجودي؟! - عال، ولكنني لم أنم أكثر من ساعتين. - فكر وفلسفة؟ - شجار مع ماما وبابا كما تعلم.

تذكر بقلق الموضوع الذي جد في البحث عنه، أما هي فاستطردت مقلدة لهجة الوالدين: كملي تعليمك .. تزوجي .. لا تسهري كالشبان.

أسطوانة معادة، لكن البنت جميلة والجلسة موحية، ومن يدري؟! غير أنه يجب الانتهاء من الموضوع اليوم، ولو ألغيت مواعيد المساء، وتساءل: من أين لهما أن يفهما فيلسوفة صغيرة؟

حذرته - بتقطيبة - من التمادي في العبث، وقالت: لا يريد أحد أن يعترف بأنني أجاهد لتكوين نفسي، ولكنني أعاشر أهل الكهف!

وتذكر أكثر من حديث لوالدها في التليفزيون، فقال: ولكن والدك رجل عصري. - عصري! - على الأقل بالقياس إلى والدي.

وهي تداري ضحكة: بالقياس إلى العصر الحجري؟

رمى بنظرة إلى بعيد كالحالم، وقال بافتتان: العصر الحجري! .. لو نرجع إليه ساعة واحدة، لحملتك على كتفي دون زاجر، ولمضيت بك إلى كهفي بعمارة الشرق! - قلت لك لا تحلم، ودعني أحدثك فيما جئت من أجله. - آه! .. إذن لم نتقابل مصادفة؟ - أنت تعرف أنني أعرف أنك تكتب هنا كل صباح.

فقال بجدية مازحا: إذن، هيا بنا إلى عمارة الشرق لنجد مكانا مناسبا لحديث هام!

أشعلت سيجارة من سيجارة، وقالت: ألا ترى أنني لا أهزل؟

ثم وهي تحدجه بنظرة ثاقبة من عينيها الصافيتين كالشهد: وعدتني مرة بأن تعرفني بالأستاذ علي الكبير.

فقال باهتمام: أكنت جادة؟ - كل الجد. - لا شك أنك معجبة به كممثل! - طبعا.

وتبادلا نظرة، ثم قال: إنه في الخامسة والأربعين! - مفهوم، ألم تسمع عن سحر الزمن؟ - كلا، ولكنني سمعت كثيرا عن مأساة الزمن. - قد تحتمل كواعظ في صفحة «أمس واليوم»، أما هنا ... - وما دوري أنا في القصة؟ - أنت صديقه الأول. - له بنت في سنك. - أجل، أظنها بكلية الحقوق.

وتفكر مليا، ثم سأل: كاشفيني بأفكارك، هل تفكرين مثلا في تخريب بيته والزواج منه؟

ندت عنها ضحكة، وقالت: لا أفكر بتاتا في الخراب. - مجرد حب؟

فهزت منكبيها دون أن تنبس. - طريق إلى الشاشة؟

فقالت بازدراء: لست انتهازية. - وإذن؟! - عليك أن تفي بوعدك.

وثمل رأسه بفكرة طارئة، فهتف: ألهمتني موضوعا! - ما هو؟

فكر بأناة، ثم قال: حرية الحب بين الأمس واليوم. - زدني.

فقال مدفوعا بعنف لم يحاول هدهدته: إليك مثالا من نقاط الموضوع، قديما عندما كانت تزل فتاة، كان يوصف سلوكها بالسقوط، اليوم يوصف بأنه قلق العصر، أو قلق فلسفي.

فقالت بحدة: أنت متحجر رغم ادعاءاتك المتقدمة. - ماذا تتوقعين من خلف لسلف من العصر الحجري؟ - ألا تستطيع أن تنظر إلي كإنسان مثلك تماما؟ - إذا كنت نرجسيا. - ها أنت تهزل، كما أن أبي يزعق. - وأنت؟ - ما زلت أطالبك بالوفاء بوعدك. - دعيني أعطك فكرة عنه أولا؛ هو فنان كبير، ممثل الشاشة الأول في تقدير الكثيرين، وله سياسة معروفة لا يحيد عنها، فإذا تعرف إلى فتاة مثلك أخذها من فوره إلى مسكنه الخاص بالهرم، ثم يبدأ من حيث ينتهي غيره. - أشكرك على جميل وصايتك. - أما زلت عند طلبك؟ - بلى.

فقال متحديا: حسن، ولكني أطالب بالثمن مقدما!

فتساءلت بحركة من رأسها، اضطربت لها خصلة سوداء من شعرها، معقوصة في دائرة فوق حاجبها. - أن تشفيني بزيارة في عمارة الشرق.

ابتسمت دون تعليق، ودون تصديق. - موافقة؟ - أنا واثقة من أنك أنظف تفكيرا من ذلك. - لكني مصاب بشيء من القلق العصري! - لا .. لا تخلط بين الهزل والجد.

ثم بأسف: بددت وقتك الثمين.

وأشعلت سيجارة ثالثة، وتبادلا نظرة طويلة، وابتسما معا، وعاود التفكير قليلا في موضوعه، وصفا الجو تماما من سوء الظن، ورجع الإحساس المضطهد بالحرارة والرطوبة، وداعبته قائلة: أنت رجعي بقشرة عصرية. - كلا، أنت لا تصدقين نفسك، ولكنك ممتعة وتلذ مداعبتك، سيتم التعارف في مكتبي بالمجلة، فتعالي يوم الأربعاء - مصادفة - الساعة التاسعة مساء. - شكرا. - أنا مدين لك بمقالة الأسبوع القادم. - سأرى كيف تعالجه. - ولكني عند الكتابة أتقمص شخصية جديدة!

فضحكت قائلة: وتراعي حتما ما يجب أن يقال، ولو بالكذب على ضميرك. - ربما، الحق أن خير ما في لم يعبر عن ذاته بعد.

ولما رأته ينظر في الكراسة، أقلعت عن مناقشته، وأخذت حقيبتها إلى كرسي خال، ومد بصره مرة أخرى إلى القصر النائم الغارق في فخامته المغلقة، أعجب بشرفته المتصلة بالحديقة، وأعجب أكثر بشرفة الدور الأعلى القائمة على عمودين كمسلتين. ما أحلى الجلوس في الشرفة في ضوء القمر، والتفكير الحر غير المقيد بمواعيد ولا بتقاليد! أو يخت يطوف بك البحار لتعرف أناسا وبلدانا بلا حدود، وتحت شرط أن تبقى زوجتك في القاهرة! واللعب بالورد في جزر هاواي، ونبذ موضوعات الأمس واليوم، وسائر مشكلات الفقر والجهل والمرض، والتطلع للمجهول وطي التاريخ البشري في لحظة واحدة، وأنت لا تخلو من شك في موهبتك، ولكن الانفجارات تغطي على الشك؛ انفجارات غريبة مثيرة للدهشة، متخطية لأي مسئولية، لا تفهم ولا تسأل، ويتعذر الحكم عليها، ويتطوع المفسرون لتفسيرها من الحانات والغرز! - ما رأيك يا نادرة في اللامعقول؟

فقالت بحماس: معقول جدا! - إنه يلاعبني كحلم. - وأنا أفكر في كتابة مسرحية لا معقولة لمسرح العرائس.

وتنهدت في حسرة، وقالت: لولا أبي، لكتبت قصة جنونية عن تجاربي.

وغلبه المزاح، فقال: ويا حبذا لو تضمينني إلى التجارب! - لا تهزل، وتخيل النجاح الجدير بها.

وانطوت فترة تخيل ممتعة، وغابا في صمت طويل.

وبغتة، انفجر صوت حاد انخلع له قلباهما في لحظة واحدة؛ صوت آدمي صاح: «هو!» ورأيا رجلا يشد مركبا مطوي الشراع، كأنه واقف لا يتحرك، أو يتحرك في بطء شديد ثقيل كالوقوف، يكاد يلتصق بالسور من الخارج، متأخرا عن مجلسهما مترين، ويجذب المركب بحبل طويل ملفوف حول منكبيه، وهو يلقي بنفسه إلى الأمام، شادا على عضلاته بكل قوة وإصرار، والمركب يزحف أبطأ من سلحفاة فوق ماء راكد وفي هواء ميت، وقد نهض في مقدمتها عجوز مجلبب معمم، تابع صراع الآخر ببصر كليل وإشفاق. ذهب الرعب وحل محله في صدريهما حنق وغيظ، ولكنهما لم ينبسا بكلمة، وظل الرجل يهب عمله الشاق جميع حيويته في عناء مضن حتى حاذى مجلسهما. شاب في العشرين، غامق اللون، غليظ القسمات، عاري الرأس حليقه، حافي القدمين، يرتدي جلبابا لا لون له، يكشف عن أعلى الصدر، وينحسر عن ساقين بارزتي العروق من الحزق، وقد جحظت عيناه، وتصلب شدقاه، وأحنى رأسه ليجنب وجهه شمسا حامية، وكلما أعياه الجهد، توقف لحظة ليأخذ نفسا عميقا، فيصيح به العجوز: شد حيلك.

فيصيح بدروه: هو.

ويواصل نضاله القاسي الفظ، وفي الدقائق التي حاذاهما فيها، لفحتهما رائحته الآدمية الملبدة بالعرق والتراب، فتقلص وجهاهما، وأخفت نادرة أنفها الدقيق في منديل معبق بشذا جميل، ولكنهما تجاهلا تقززهما وانزعاجهما وهما يراقبان النضال الأليم، وراقباه خطوة خطوة، حتى أرهقتهما المشاركة، فحولا عنه عينيهما، وتبادلا نظرة، ثم ابتسما في رثاء، وأشعلا سيجارتين.

شهرزاد

1 - ألو! - الأستاذ محمود شكري؟ - نعم يا فندم، من حضرتك؟ - لا تؤاخذني على إزعاجك دون سابق معرفة. - العفو، ممكن أتشرف؟ - الاسم غير مهم، ولكني واحدة من الآلاف اللاتي يعرضن عليك مشاكلهن. - تحت أمرك يا آنسة. - سيدة من فضلك. - تحت أمرك يا سيدتي. - ولكن حكايتي طويلة. - لعل من الأفضل أن تكتبي لي؟ - ولكني لا أحسن الكتابة. - هل تتفضلين بزيارتي في المجلة؟ - لا أجد الشجاعة الكافية، على الأقل الآن.

وقف انتباهه عند «الآن» لحظات. ابتسم وهو يستطعم صوتها الرخيم، ثم تساءل: وإذن؟ - أطمع في أن تأذن لي بدقائق كل يوم، أو كلما سمح وقتك الثمين. - طريقة طريفة، تذكرني بطريقة شهرزاد! - شهرزاد! اسم جذاب، اسمح لي باستعارته اسما لي مؤقتا.

فضحك وقال: ها هو شهريار يصغي إليك.

ضحكت أيضا فوجد ضحكتها ممتعة كصوتها، أما هي فتابعت: لا تتوقع أن أعرض عليك مشكلة معينة محددة، إنها حكاية طويلة كما قلت لك، وهي تعيسة أيضا. - أرجو أن تجديني عند حسن ظنك. - وأرجو أن توقفني بأي طريقة إذا جاوزت الوقت الذي تهبه لي. - تحت أمرك. - ولكني أخذت اليوم من وقتك قدرا لا يستهان به، فلنؤجل الحديث إلى غد، حسبي الآن أن أعترف لك بأن قلمك الإنساني هو الذي جذبني إليك. - شكرا. - ليس قلمك فقط، ولكن صورتك أيضا!

تساءل باهتمام زائد: صورتي؟! - أجل، قرأت في عينيك الواسعتين نظرة ذكية رحيمة إنسانية، جديرة بأن تدعو الملهوفين على العزاء. - أكرر الشكر .. (ثم وهو يضحك) .. كلامك لطيف كأنه غزل. - إنه إعراب عن أمل أن يكون في الدنيا - بعد - أمل.

أعاد السماعة، ابتسم، قطب مفكرا، عاد يبتسم.

2 - ألو. - شهرزاد! - أهلا، أنا في انتظارك. - سأدخل في الموضوع رأسا كيلا أضيع وقتك. - ها أنا مصغ إليك. - نشأت يتيمة الأم، وقد تزوج والدنا - أعني أنا وشقيقة تصغرني بعامين - فأمضينا طفولتنا وصبانا محرومتين من الحنان والعطف، ولم ننل من التعليم إلا القليل، ولما مات والدنا انتقلنا إلى بيت خالنا، وكان لكل منا معاش حوالي الخمسة الجنيهات. - لعله تاريخ قديم؟ - بعض الشيء، ولكنه ضروري لا غنى عنه. لم نكن سعداء في بيت خالنا، كان يعدنا عبئا حقيقيا، شعرنا بغربة وألم، نزلنا عن آخر مليم من معاشنا، وقمنا بخدمة البيت دون اعتراض، المسألة كانت سوء حظ لا أكثر ولا أقل. - مفهوم، ويا للأسف! - ثم كان أن تقدم لطلب يدي ضابط، وكنا ورثنا عن أبينا بيتا قديما، فباعه خالي، وجهزني بنصيبي جهازا عاديا، وقد فهم زوجي من أول الأمر حقيقة وضعنا فلم يتراجع، والواقع أننا عشنا قصة حب كما تقولون، واستمرت حتى فيما بعد الزواج. - ترى، هل ينم حديثك عنها - قصة الحب - على شيء من التحفظ؟ - ما علينا، المصيبة أنه كان مسرفا، ينفق ما في الجيب بسفه ودون تقدير للعواقب، ولم أعرف كيف أعالجه، حاولت وحاولت ولكن بلا نتيجة. - عن هذه النقطة .. أعني .. ألا تتحملين شيئا من المسئولية؟ - كلا، صدقني كنت راغبة في الحياة الزوجية، حريصة عليها بكل قوة حبي، وما قاسيت قبل ذلك من بؤس وذل ويأس. - معقول! - كأنك لا تصدقني! ما زلت أذكر آراءك عن مسئولية الزوجة عن انحراف زوجها، ولكن ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ توسلت إليه بالملاطفة والتحذير والاحتجاج ، طالبته بإعطائي المصروف الضروري للبيت في أول الشهر، وكان جوابه المعتاد أن يجيئني بزمرة من أصدقائه، وهات يا أكل وهات يا شرب حتى مطلع الفجر، نمسي في وليمة ونصبح على الحديدة! - وكيف كانت تمضي الأمور بقية الأيام؟ - يطالبني بأن ألجأ إلى خالي، وكان ذلك مستحيلا، أو أن أقترض من أختي، وكان ذلك مستحيلا أيضا؛ إذ كانت موشكة على الزواج، ومن ناحية أخرى كان هو يقترض من أهله، فانقلبت حياتنا مسخا مزريا يستحق الرثاء! - هذا حق. - فشل الزواج وانتهى إلى مصيره المحتوم وهو الطلاق، فانتقلت إلى بيت أختي، وقد خسرت معاشي لأعاني حياة مريرة ذليلة. - لعل هذه هي المشكلة؟ - صبرك، نحن ما زلنا في الماضي، ولن أطيل عليك، فقد دعاني زوجي - مطلقي - بعد مرور عام على طلاقنا لمقابلته، كاشفني برغبته في استئناف حياتنا الزوجية، مؤكدا لي أن الحياة أدبته وهذبته، ومضى بي إلى بنسيون يقيم به في شارع قصر النيل لنرسم خطة المستقبل، وبمجرد أن رد باب حجرته ضمني إلى صدره مرددا أنه لم يذق للحياة طعما بعد فراقي. - واستسلمت؟ - لم أشعر بأنني أعامل رجلا غريبا، وجعلنا نناقش أكثر الوقت إجراءات زواجنا من جديد، وافترقنا وهو يعدني بزيارة خالي في اليوم التالي مباشرة. - صوتك يهبط ويتغير! - أجل، ثبت لي بعد ذلك أنه دعاني إلى مقابلته وهو كاتب كتابه الثاني، وتمت دخلته بعد لقائنا بأسبوع، وأن المسألة كانت مجرد نزوة أراد أن يتحرر منها قبل أن يبدأ حياته الجديدة. - يا له من وغد! - أجل، ولكني لن أثقل عليك أكثر من ذلك، فإلى اللقاء.

3 - ألو. - شهرزاد! - أهلا. - ترى، هل أضايقك؟ - بالعكس، استمري من فضلك. - أقمت عند أختي زمنا، ولكنني شعرت مع الأيام بأنها إقامة غير مرغوب فيها! - لم؟ - ذاك كان شعوري، وهو لم يخطئ. - كيف، وهي أختك التي قاسمتك في الماضي العذاب؟ - قدر فكان! - زوجها؟! - تقريبا! - ضاق بوجودك في مسكنه؟ - تقريبا، المهم أنني اضطررت إلى مغادرة البيت إبقاء على رابطة الأخوة. - ولكنك لم تذكري السبب صراحة، دعيني أخمن. لعلها الغيرة؟! - وهم الغيرة، وهو الأصح! - ذهبت إلى خالك؟ - كان قد توفي، فاستأجرت شقة صغيرة. - ولكن من أين لك بالنقود؟ - بعت ما يمكن بيعه من جهازي، ورحت أبحث عن عمل، أي عمل، كانت فترة بحث عقيم وجوع، صدقني لقد عرفت وحشية الجوع، كان اليوم يمضي بلا طعام، أو بلا طعام يذكر، ووجدتني سألبي مرة ما إحدى الدعوات - إياها - التي توجه إلي في الطريق، ولكني كنت أؤجل الاستسلام؛ آملة أن تدركني رحمة الله قبل أن أهوي، وكنت أطل من النافذة في سكون الليل، فأنظر إلى السماء وأهتف من أعماقي: «يا إلهي الرحيم، إني جائعة .. إني أموت جوعا!» وكنت أزور أختي كلما خارت قواي؛ لأتناول وجبة متكاملة، ولكن أحدا لم يسألني عن حالي؛ خشية أن يحمله الجواب مسئولية يريد أن يتجاهلها! - فظاعة لا تصدق! - ويوما قرأت إعلانا يطلب مدبرة منزل لرجل عجوز نظير أجر، غير الإقامة والغذاء والكساء. - نجدة من السماء. - سارعت إليه بلا تردد، وأجرت شقتي. - نهاية رحيمة، وبخاصة إذا كان العجوز في حاجة للرعاية وحدها، أعني دون غيرها! - كان طاعنا في السن، فخدمته بإخلاص، وأنا ماهرة بكل معنى الكلمة في شئون البيت، كنت الطاهية والخادمة والممرضة، وحتى الجريدة كنت أقرؤها له. - جميل .. جميل. - شبعت بعد جوع، واطمأننت بعد خوف، ودعوت الله أن يمد في عمره إلى الأبد. - ترى، ماذا جد بعد ذلك؟ - كنت أقرأ له الجريدة عندما وقع بصري على إعلان يطلب مدبرة منزل لرجل عجوز، ويحيل قارئه إلى عنوان منزلنا! - كلا؟!

ندت عنه بدهشة واستنكار. - بلى، وقد ذهلت، تلوت عليه الإعلان فحول عني عينيه، ولكنه لم ينكره، سألته لم يريد الاستغناء عني؟ ماذا ضايقه مني؟ ولكنه لم يفتح فمه. - شيء غريب حقا! ولكن لا بد من سبب؟ - لا سبب من ناحيتي إطلاقا! - ألم يكن بينك وبينه سوى التدبير المنزلي؟! - تقريبا! - ما معنى تقريبا؟! .. صارحيني من فضلك؟ - كان يطلب مني أحيانا أن أقف أمامه عارية! - ورفضت؟ - كلا .. أذعنت لإرادته. - إذن، لماذا يطلب أخرى؟ - من أين لي أن أعلم؟ قال إنه رغب في التجديد، وأيا ما كان أمره فقد توسلت إليه أن يعدل عن رأيه، قلت له إنني وحيدة وفقيرة، وليس لي في الدنيا سواه، ولكنه أصر على الرفض والصمت، بدا لي كريها كالموت، فلم أجد بدا من الذهاب.

4 - ألو! - شهرزاد تحييك يا أستاذ! - أهلا أهلا، حكايتك أصبحت شغلي الشاغل يا شهرزاد. - شكرا يا أستاذ، الحق أن قلبي لم يخدعني عندما دلني عليك، والآن فلنواصل حكايتنا. عدت إلى مسكني وقلت لمستأجره - موظف بسيط في الأربعين - إنني في حاجة إليه، رفض فكرة إخلاء الشقة، ولما وقف على حقيقة حالي، قال لي ببساطة: «أقيمي معي!» فلم أتردد في القبول، الواقع أن إرادتي تحطمت، وهان أي شيء. - أفهمت من دعوته ...؟ - نزل لي عن إحدى الحجرتين اللتين تتكون منهما الشقة، وكان كل شيء مفهوما بعد ذلك! - المرة الأولى؟ - نعم، والحق أنه كان رجلا لطيفا ودودا وإنسانا. - عظيم. - صبرك، فهي السجايا التي بسببها فقدته! - حكايتك حكاية! - قال لي ذات يوم: «أنت متعلقة بي وأنا كذلك، وعليه فيجب أن نفترق!» - نفترق؟! - أجل «نفترق» .. توقعت أن يقول «نتزوج»، ولكنه قال: نفترق. - فوق ما يتصور العقل! - استوضحته عما يعنيه، فقال بلهجة قاطعة: «عندي من الأسباب ما يمنعني من الزواج، وعليه فيجب أن نفترق.» فقلت له بضراعة: «لم أطالبك بالزواج، ولن أطالبك به، فلنبق كما نحن.» فقال: «كلا، إنها حياة شاذة، وستجدين نفسك يوما ما وحيدة طاعنة في السن بلا مورد ولا حقوق، فلا مفر من الافتراق.» - رجل غريب! ظاهره طيب، ولكنه أناني أو ماكر. - المهم، إنه ذهب، فوجدت نفسي مرة أخرى وحيدة مهددة بالجوع. - يا للأسف! - ومررت بتجارب مرة، أنت فاهم طبعا، ولكنني سمعت عن قانون جديد للمعاشات يسمح بإعادة المعاش للمطلقة أول مرة، وتبين أنه ينطبق علي. - حمدا لله! - هو دون الكفاية بلا شك، ولكنني اعتدت التقشف، وقد تعلمت التفصيل، فأصبح لي مورد رزق بسيط، ولكنه - بالإضافة إلى المعاش - حماني من الموت جوعا أو التدهور في الطرقات. - وصلنا أخيرا إلى بر السلامة. - الحمد لله، غير أني وصلت أيضا إلى المشكلة الحقيقية! - المشكلة الحقيقية ؟! - إنها تتلخص في كلمة واحدة: الوحدة. - الوحدة؟ - لا زوج ولا ابن ولا صديق ولا حبيب لي، نهاري وليلي حبيسة شقة صغيرة، محرومة من كافة أنواع التسلية، وقد يمر شهر طويل لا أتبادل فيه كلمة مع مخلوق، دائما كئيبة متململة مقطبة، أخاف أحيانا أن أجن، وأخاف أحيانا أن أنتحر. - لا لا، لقد تحملت ما هو أمر من ذلك بشجاعة، وسوف يرزقك الله يوما بابن الحلال. - لا تكلمني عن ابن الحلال، لقد طلب يدي رجل، أرمل وأبو طفلين، ولكني رفضته بلا تردد، لم تعد لي ثقة في أحد. والطلاق الثاني يعني قطع المعاش، وهو رأسمالي الحقيقي. - ولكن رجلا هو أب لطفلين لا شك يحرص على الزوجة بقدر حاجته إليها. - إني أمقت فكرة الزواج، إنها تقترن في ذهني بالغدر والجوع. - عاودي التفكير. - مستحيل، أي شيء إلا الزواج، لا شجاعة عندي لدخول التجربة من جديد. - وكيف إذن تتخلصين من الوحدة! - هذه هي المشكلة! - ولكنك ترفضين حلا موفقا؟ - أي شيء إلا الزواج!

وتفكر قليلا، ثم سألها: ما رأيك في أن نتقابل؟ - يحصل لي عظيم الشرف!

ابتسم، سرح به الخيال وهو يبتسم، إنها بكل بساطة تدعوه إلى مصادقتها، وتطمئنه في ذات الوقت بأنها لن تطالبه يوما بالزواج. إنه ليس غبيا، وهو في حاجة إلى مغامرة جديدة أيضا. لم لا؟ المهم أن تكون جميلة كصوتها، ولكن ما حقيقة قصتها؟ قد تكون حقيقية، لا شيء بمستحيل، وقد تكون مختلقة من أساسها أو في بعض مضاعفاتها. السينما فجرت القوى الخلاقة في النساء. قد وقد وقد، المهم أن تكون جميلة كصوتها، وعند ذاك سأقدم لها تجربة جديدة تضيفها إلى تجاربها السابقة، لن تخلو من حلاوة، وستنتهي بالمرارة التي لا بد منها لكل شيء في هذه الدنيا. وجعل يبتسم وهو ينقر على سومان مكتبه بإصبعه. •••

وجاءت شهرزاد.

تفحصها بنظر ثاقب وهو يستقبلها، ثم وهو يدعوها للجلوس، في الثلاثين من عمرها، لا بأس بها بصفة عامة، يلفها جو ينضح بالمرارة بطريقة ما، حتى نظرتها الباسمة لا تخلو من حزن ونضج أليم، ولكنها في جملتها لا بأس بها، بل هي مقبولة لدرجة محترمة، ليس ببعيد أن تكون قصتها حقيقية، ولعلها لم تكذب إلا في صياغة رأيها عن الزواج، فهي لا يمكن أن تمقته، ولكنها مضطرة لإعلان ذلك؛ التماسا للصداقة التي تودها بحنين صادق غالبا.

لكن، ما له هو وذلك كله؟ هي ليست بالمرأة التي تليق به، لا شكلا ولا موضوعا، لا فكرة لها - المسكينة - عن الفرص المتاحة له؛ وإذن، فعليه أن يداري خيبة أمله، وأن يعاملها بجدية. - أهلا أهلا، الحق أن قصتك أثرت في أعماقي.

تنهدت قائلة: إني ممتنة يا أستاذ. - ولكن عليك أن تواجهي حياتك بشجاعتك المعهودة. - ولكني ...

فقاطعها قائلا، وقد ألحت عليه رغبة مفاجئة في إنهاء المقابلة بأسرع ما يمكن: أصغي إلي، إنك سيدة عظيمة، من فضل الشقاء علينا أحيانا أن يجعل منا عظماء، إنك سيدة عظيمة، وكنت عظيمة حتى في عثراتك العابرة، وأنت عظيمة في وحدتك، وستتحقق عظمتك أكثر عندما تقضين على وحدتك بضربة شجاعة فائقة. سيدتي، لا قيمة لحياتنا، لا معنى لها، لا جدوى من استمرارها إلا بالإيمان بالناس مهما يصبنا من الناس، والإيمان بالله سبحانه وتعالى إيمانا لا يتزعزع، مهما وكيفما جرت مقاديره!

ونظر في عينيها، فتلقى نظرة مغرورقة بالخيبة والإخفاق، إنها ذكية أيضا، أذكى مما قدر، وها هي تبتسم ابتسامة خفيفة، ولكنها أخجلته لدرجة ما، وتمتمت: إني مؤمنة بالله يا أستاذ.

فلوح بيده في حماس، وقال: كل ما عداه باطل، سبحانه وتعالى.

अज्ञात पृष्ठ