انذعر العجوز من عنف صوته، فتوسل إليه قائلا: هون عليك ووحد الله.
هم بالتحول إلى أصحابه في حركة متهاوية، ولكنه توقف في فتور، وعاد يسأل: وماذا تعرف عن زينب؟
تساءل العجوز في حيرة: زينب؟! - يا عجوز، أنسيت العروس التي أجبرني على تطليقها ليلة دخلتها؟ - آه .. نعم .. هي اليوم بياعة بيض في عطفة الجحش!
نظر إلى رجاله في انكسار وهزيمة، العصابة التي استنفدت عمره وماله وصبره، ها هو العمى يهبها للعدم، وقال بضجر: انتظروني عند الجبل.
تجمد نظره تجاههم وهم يختفون داخل القبو رجلا في إثر رجل، هل سيلحق بهم؟ متى يلحق بهم، ولماذا؟! وهل يرجع من طريق الجوالة أو من طريق الخلاء؟ ولكن زينب، أجل زينب. من أجلها احترقت عشرون عاما من العمر، أمن أجلها حقا؟! لن تصل إليها فوق جبار منهزم كما رسمت، مات ولا جدوى من نبش القبور، ما أفظع الفراغ! وها هي في دكانها. هي هي دون غيرها، من كان يتصور لقاء كهذا اللقاء الفاتر الغامض الخجلان! وجلس على مقعد في قهوة صغيرة في حجم زنزانة، وراح يرقب الدكان الغاص بالزبائن، ها هي امرأة غريبة ممتلئة لحما وخبرة، وقد أنضجت الأعوام قسماتها الساذجة، ملتفة بالسواد من الرأس حتى القدمين، ولكن وجهها متشبث بقسط وافر من الوسامة، وهي تساوم وتناضل، وتلاطف وتخاصم، كامرأة سوق لا يمكن أن يستهان بها، ها هي إن أردت، وبلا معركة، بلا كرامة أيضا. فاتك إلى الأبد أن تقف فوق صدر لهلوبة وأن تأمره بالطلاق. ما أفظع الفراغ! ولم يحول عينيه عنها لحظة واحدة، وانهمرت عليه الذكريات في غرابة وحزن وحيرة قاتلة، ولا فكرة عنده عما سيفعل، كم آمن بأنها كل شيء في الحياة، ولكن أين هي؟!
وهبط المغيب كآخر العمر، وذهب الزبائن تباعا، وجلست في النهاية على مقعد قصير من القش المجدول، وراحت تدخن سيجارة، قرر أن يلقي بنفسه بين يديها هربا من حيرته، وقف حيالها وهو يقول: مساء الخير يا معلمة.
فرفعت إليه عينين مكحولتين مستطلعة، ولم تعرفه، فتابعت دخان سيجارتها متمتمة: طلباتك؟ - لا طلب لي.
أعادت النظر بشيء من الاهتمام المفاجئ، فتلاقيا في نظرة ثابتة، ارتفع حاجباها وانحرف جانب فيها في شبه ابتسامة. - هو أنا! - شرشارة! - هو نفسه، ولكن بعد عشرين سنة! - عمر طويل. - كالمرض. - حمدا لله على سلامتك، أين كنت؟ - في بلاد الله. - عمل وأهل وأبناء؟ - لا شيء. - وأخيرا رجعت إلى شرداحة. - عودة الخيبة.
التمعت في عينيها نظرة ارتياب وتساؤل، فقال بغضب: سبقني الموت!
تمتمت في غير ما ارتياح: كل شيء مضى وانقضى. - دفن معه الأمل. - كل شيء مضى وانقضى.
अज्ञात पृष्ठ