قالت الخادم بصوت منكسر: يا سيدي، إنها لا تسمع!
بذهول أشد: تعنين ...؟ - نعم يا سيدي، إنها لا تسمع.
لطمه الفهم لطمة مفزعة أدارت رأسه: كلية؟ - نعم. - أئذا صرخت ...؟ - لا فائدة يا سيدي. - لا بصر ولا سمع؟ - لا بصر ولا سمع. - يا ألطاف الله، متى حدث ذلك؟ - من أعوام يا سيدي، بدأ أمر الله بالعينين، ثم تلاه السمع، ولم ينفع طب الأطباء.
تردد مليا ثم تساءل في حرج واضح: ألم تكن هناك طريقة للاتصال بي؟ - أردت ذلك عقب إصابة العينين ولكنها منعتني، منعتني بشدة ورجاء معا، فاحترمت رغبتها إلى النهاية.
لم يكن الموقف كما تصورت، ولكنه في الحقيقة أفظع، وأنت شريك في الجناية لا مفر، جئت تتخفف من أثقالك فضاعفتها أضعافا مضاعفة، وها هي أنفاسها تتردد على يدك، ولكنها أبعد من نجم، كالموت، غير أنه ينضح بالعذاب. وها هو الصمت، وها هو السد، وعليك أن تؤول حلمك بنفسك، أو سوف يبقى الحلم بلا تأويل.
الخلاء
لتكن معركة حامية وحشية، ولتشف غليل عشرين عاما من التصبر والتربص والانتظار. قدح وجه الرجل شررا وهو يحيط به الأعوان، وامتدت جموعهم خلفه قابضين على العصي ذوات العقد، كل عقدة تنذر بحفر ثغرة في العظام، وقد انخرط في أحضان الموكب حملة المقاطف المملوءة أحجارا وزلطا. تقدم الرجال في طريق الجبل المقفر بعزائم متوثبة للقتال، جاءك الويل يا شرداحة. وبين آونة وأخرى يتطلع زبال أو ترابي إلى الموكب الغريب مركزا بصره على الرجل الذي يحتل القلب في استطلاع ودهشة وإنكار، يتساءلون عن الفتوة الذي لم يره من قبل أحد، سوف تعرفونه وتحفظونه عن ظهر قلب يا ذباب الخليقة. وألقت الشمس المائلة على اللاثات المزركشة أشعة حارة، ودار هواء خماسيني مجنون، فلفح الوجوه، ونفخ في الجو اكفهرارا ومقتا، ومال أحد الأعوان إلى أذن الرجل، وسأله: معلم شرشارة، هل تقع شرداحة على طريق الجبل؟ - كلا، علينا أن نخترق إليها حي الجوالة. - سيطير خبرنا إليها فيستعد عدوك.
عبس وجه شرشارة، وهو يقول: عز المطلوب، فالغدر يحقق النصر، ولكنه لا يشفي الغليل.
غليل عشرين عاما في المنفى، بعيدا عن القاهرة الساهرة، وفي مجاهل الميناء بالإسكندرية، ولا أمل لك في الحياة إلا الانتقام. الأكل والشرب والنقود والنساء والسماء والأرض غرقت في عماء، وانحصر الإحساس في التحفز الأليم، ولا فكرة تخطر إلا عن الانتقام، لا حب ولا استقرار ولا إبقاء على ثروة، ضاع كل شيء في الاستعداد لليوم الرهيب. هكذا ذابت زهرة العمر في أتون الحنق والحقد والألم، لم تهنأ بتفوقك المتمهل الأكيد بين عمال الميناء، لم تجن ثمرة حقيقية من انتصارك على الجعافرة في معارك كوم الدكة. ما كان أسهل أن تعيش فتوة مهابا، وأن تتخذ من الإسكندرية موطنا يدوي تحت سمائه اسم شرشارة، ولكن عينك الدامية لم تر من الوجود إلا شرداحة بطرقها الضيقة، وحاراتها المتفرعة الصاعدة، وفتوتها الجبار البغيض لهلوبة. الويل .. الويل.
انتهى طريق الجبل المقفر عند البوابة، فمرق منها الموكب إلى حي الجوالة المزدحم، وصاح شرشارة بلهجة آمرة حادة كضرب الفأس في الحجر: لا كلام مع أحد ولا جواب.
अज्ञात पृष्ठ