وقف هربغوس أمام هذا الحصن العظيم الذي لم يستطع النفوذ منه إلى داخل المدينة، وبقي محاصرا لها حتى أرهق أهلها إرهاقا، ثم عرض عليهم عرضا يوافقهم، وهو أن يهدموا جزءا من الحصن الأمامي تحتله الفرس إشارة إلى أن أهل المدينة أطاعوا؛ فطلب إليه الفوكيون الذين أعياهم الحصار جوابا على هذا العرض هدنة يوم واحد، وأن يبتعد الجيش الفارسي عن مراكزه، فأجابهم هربغوس إلى ذلك مع توقعه ما سيحصل؛ فاغتنم الفوكيون هذه الهدنة وحملوا على السفن نساءهم وأولادهم وجميع ما يستطيعون حمله خصوصا الأمتعة المقدسة التي جمعوها من المعابد، وسافروا إلى شيوز، فلما جاء الفرس في اليوم التالي وجدوا المدينة خلوا ليس فيها أحد من أهلها.
كان الفوكيون قد رغبوا بادئ ذي بدء في أن يشتروا من أهل شيوز الجزر التي تسمى إينوزوس، لكن هؤلاء قد رفضوا الصفقة حتى لا يخلقوا لأنفسهم مزاحمين لا يستهان بأمرهم على مرافق التجارة، فاضطر الفوكيون إلى أن يوجهوا سفنهم نحو جزيرة قورسقة (المسماة وقتئذ سيرني)، حيث أسسوا فيها قبل ذلك منذ عشرين عاما مدينة «علالية» بإشارة الهاتف، ولكنهم قبل أن يذهبوا إلى هذا المنفى النهائي رجعوا إلى فوكاية على غرة من حرسها الفارسي وذبحوهم، ومع ذلك فإن هذا العمل الجريء لم يمكنهم من البقاء في وطنهم القديم، بل ارتدوا إلى أسطولهم. وليثبتوا أنهم لن يتركوه ألقوا في البحر كتلة من الحديد، وأقسموا ألا يعودوا قبل أن تطفو هذه الكتلة الثقيلة على سطح الماء.
وعلى رغم هذا القسم زين لنصف النازحين أن ينزلوا إلى البر ويدخلوا فوكاية، وأما النصف الآخر الذي بر بقسمه فقد اعتمد على ألا يبقى تحت نير المتوحشين الذي لا يطاق، وأبحروا إلى قورسقة، فدخلوها آمنين وأقاموا كما يشتهون في سكينة مدة خمسة أعوام مع مواطنيهم الذين سبقوهم إليها قبل ذلك بسنين طوال. ولكن أهل طرهينيا وقرطجنة هاجموا الفوكيين، إما حسدا من عند أنفسهم، وإما اضطرارا للكسب وحبا في السلب والنهب. ولم يكن لدى الفوكيين إلا ستون سفينة ضد مائة وعشرين لخصومهم، ولم يبرر لهم ذلك التردد في منازلتهم، بل ذهبوا يبحثون عن عمارات خصومهم في بحر سردينيا، وتحرشوا بهم وطلبوهم للقتال، ولكنهم خسروا في هذا الظفر ثلثي سفنهم؛ فرجعوا عجلين إلى «علالية»، واحتملوا عائلاتهم وأموالهم ليلجئوا إلى موئل آخر آمن من هذا.
والظاهر أن جزءا من هؤلاء المهاجرين قد وقع في يد الطرهينيين والقرطجنيين فقبضوا عليهم وذبحوهم، وذهب الجزء الآخر إلى رغبوم في صقلية، ومن هناك اتجهوا إلى الشمال، وأسسوا على أرض أونتري مدينة إيليا الشهيرة بمدرستها الفلسفية التي شيدت فيها بعد تأسيسها بقليل.
في نحو هذا الحين لجأ إكسينوفان إلى إيليا هاربا من كولوفون التي وقعت في قبضة الفرس، وانضم إلى الفوكيين الشجعان الذين كانوا مثله يكرهون العبودية. من الواضح أن ما ورد في شعر إكسينوفان خاصا بإغارة الفرس الذين ما زال يسميهم الميديين، إنما يراد به واقعة هربغوس تلك لا حرب الميديين،
11
كما ظن ذلك أحيانا. وقد يظهر أن تأسيس إيليا الذي شدا به إكسينوفان كما شدا بتأسيس كولوفون كان في سنة خمسمائة وست وثلاثين أو خمسمائة واثنين وثلاثين قبل الميلاد، بل قد يكون أدنى من ذلك، على كل حال فإنه قبل إغارة مردونيوس وداتيس على بلاد الإغريق بثلاثين سنة على الأقل، وليس عندنا ما يفيد أن إكسينوفان عاش إلى ذلك الوقت.
ولسنا نرى فيما حفظ لنا التاريخ من التفاصيل ماذا جرى على كولوفون بخصوصها، وهي من ليديا كمدينة فوكاية، ولكن المفهوم ضمنا هو أنها وقعت فيما وقعت فيه فوكاية، وأن أهلها الذين لم يقبلوا حكم المتوحشين ركبوا البحر ليلجئوا إلى جهات أكثر طمأنينة. حق أن هيرودوت لم يذكر بعد أخبار الفوكيين إلا أخبار أهل طيوس الذين فعلوا مثل ما فعل أولئك، فحملوا ما قدروا عليه في سفنهم وقصدوا تراقيا حيث أسسوا مدينة أبدير، وقد كان سبقهم في الهجرة إلى تلك البلاد أحد مواطنيهم المدعو كلازومين.
أضاف هيرودوت إلى هذا أن بقية مدن يونيا خضعت لحكم الفرس بعد مقاومة عنيفة، ولا مانع من افتراض أن إكسينوفان كان أحد هؤلاء الأبطال الذين أثنى عليهم المؤرخ، والذين لم يلقوا قيادهم إلى الفرس إلا بحكم الضرورة، إلا الملطيين وحدهم فإنهم اتفقوا مع قيروش كما ذكر آنفا، وبذلك احترم هربغوس حيادهم اكتفاء بما شتت وأذل من سائر يونان القارة. وأما أهل الجزائر فإنهم بوضعهم كانوا في مأمن من الغارة؛ لأن الفرس لم يكن لديهم بعد أسطول يطولون به الجزائر ويلقون على أهلها نير العبودية.
وأما يونيا وأيولس فإنهما أطاعتا غاية الطاعة حتى جند منهم هربغوس حين مشى إلى قاريا التي وقعت في قبضته بعد قليل. وأما الكنيديون فإنهم حاولوا الدفاع بالإسراع في قطع البرزخ الذي يصلهم بالقارة، ثم بدا لهم أن يستسلموا إلى الفرس أخذا بنصيحة كاهنة دلفوس. وأما البيدازيون من ضواحي هاليكارناس فإنهم قاوموا حتى حين، ولكنهم قهروا كما قهر الليقيون الذين أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن وطنهم. وبذلك تم النصر لقيروش، وكان يستطيع أن يغتبط وهو سائر إلى إخضاع بابل بأن كل آسيا الدنيا ملك له إلى البحر.
अज्ञात पृष्ठ