ولقد نصح لهم طاليس بعد ذلك نصيحة في وقت أشد حرجا فلم تقابل إلا بما قوبلت به سابقتها من الإعراض، ثم نصح لهم بعد ذلك بياس البرييني - أحد أعضاء الندوة (البانيونيون) - أن يترك اليونان جميعا آسيا ويتخذوا أسطولا كبيرا يركبونه إلى «سردينيا» حيث يؤسسون جمهورية قوية، وأبان لهم بيأس أنهم إن بقوا في آسيا لا يستطيعون أن يحموا حريتهم. يرى هيرودوت أن اليونان لو كانوا قرروا هذا القرار الباسل لصاروا أسعد الشعوب الإغريقية كلها، ولكنهم قنعوا بمفاوضة الأيوليين ليرسلوا سفراء إلى إسبرطة يطلبون باسمهم وباسم اليونان إعانة الجمهورية إياهم.
لم تشأ جمهورية إسبرطة أن تمدهم بقوة حقيقية، بل أرسلت رجلا ثقة من رجالها يقال له «لقرين» إلى سرديس يطلب إلى الفاتح ألا يسيء إلى أية مدينة إغريقية ويهدده بسخط لقدمونيا، غير أن قيروش الذي ما كان يعرف إلى ذلك الوقت ما هي إسبرطة، أخذ يسأل بها وأعلن - وهو هازئ بهذه الشعوب التي يخالها متأنثة في أمورها - أنه أولى بها أن يشغلها الخطر المحدق ببلادها عن الخطر الذي يتهدد يونيا. في هذا الوقت دعا قيروش اختلاف الأحوال في بابل وبكتريان والساسيين بل وفي مصر أيضا إلى التعجل بالسفر من سرديس إلى أقبطان، وخلف على المدينة فارسيا يدعى طابالوس، وجعل على نقل الكنوز التي جمعها ملوك ليديا منذ عدة قرون ليديا يقال له بكتياس.
انتهز بكتياس غيبة قيروش في حصار بابل، ووضع يده على الكنوز التي اؤتمن على نقلها، وانتبذ بها مكانا بعيدا على الشاطئ، ودعا الليديين إلى الثورة والانتقاض على قيروش، وألف بالمال جندا سار به إلى حصر مدينة سرديس التي كان يحميها طابالوس، ولكن هذه الثورة لم تلبث حينا حتى جاء مزاريس - أحد قواد قيروش - بالمدد، واضطر بكتياس إلى الهرب والاحتماء في «كومة»، فلما طلبه مزاريس هم الكوميون بتسليمه إليه بنصيحة هاتف البرنشيد، لولا رجل شجاع منهم يقال له أرسطوديقوس حمى النزيل ونجاه من الهلك واستحب عصيان الإله على انتهاك حرمات الضيافة في حق مستجير. ونجا بكتياس إلى ميتيلين حيث عادت لأهل كومة نخوتهم وأرادوا هم أيضا حمايته، غير أن هذا السيئ الحظ قد أخذه الشيوزيون بالقوة من معبد مينرفا وسلموه إلى الفرس؛ لأن قيروش أمر بأن يحضر لديه حيا، وقبض الشيوزيون ثمنا لهذا العار مقاطعة أطرنة الواقعة في ميزيا تجاه لسبوس، ولكنهم لم يسعدوا في هذه الأرض التي امتلكوها بذلك الثمن المخجل، فقد أكد هيرودوت أنه مر زمن طويل على أهل شيوز لا يستطيعون أن يقربوا للآلهة قربانا ولا أن يضحوا بشيء مما كان يأتيهم من غلة ذلك البلد الملعون.
قسا مزاريس في التنكيل بالذين خرجوا على الملك في ثورة بكتياس، وكتب الرق على سكان بريينة وباعهم بالمزاد، وخرب بلا رحمة سهول مينادرس جميعها وأباحها لنهب عسكره، ولكن منيته صادفته أثناء هذا الانتقام، ولقد أراد الفرس بهذه الفظائع أن يغلوا أيدي المغلوبين عن الثورة، ولكن إغريق الشاطئ ومستعمرات أيولس ويونيا ودريدا لم يخفهم ذلك، بل أخذوا عدتهم واستجمعوا بأسهم إلى حرب غير متعادلة القوى ولا ملحوظ في نتيجتها إلا الفشل والخذلان.
بذلك يبتدئ العهد الثالث والأخير لتاريخ الإغريق في آسيا الصغرى؛ فإن العهد الأول لبث من وقت نزوحهم إليها إلى حكم جوجيس غاصب ملك ميديا، وهو أطولها؛ لأنه لا يقل عن 500 سنة، والثاني الذي كان مملوءا بالتنازع بين مدائن الإغريق ومملكة ليديا، ويمتد إلى هزيمة كريزوس وسقوط سرديس. ولم تكن قوة ملوك الليديين تلقاء قوة الفرس شيئا مذكورا؛ لأن الفرس كانوا أمة حزب ملكت جزءا عظيما من آسيا، وتقدموا تقدما كبيرا في فنون الحرب بفضل قيادة قيروش.
أما الذي خلف مزاريس على التنكيل بالثائرين واستمرار الفتح فهو رجل خليق بكل أنواع الفظائع واقتراف الدنايا يقال له هربغوس، اشتهر بعمل مقطوع النظير في الخسة حتى في معرض دنايا البلاط الفارسي، ذلك أن «أصطياغ» - ملك الميديين - كان قد أزعجته رؤيا، فكلف هربغوس أمينه أن يحتال لقتل الولد الذي ولدته حديثا ابنته مندان من قمبيز، وكان هذا الحفيد المقصود بالوقيعة هو قيروش، فقبل هربغوس هذا الأمر، ولكنه لم يشأ أن يقتل الصبي بيده؛ فوكل ذلك إلى راع أخذته الرحمة من توصيلات زوجته؛ فاستبدل صبيه الذي ولد ميتا بالذي دفع إليه ليقتله، ودخلت هذه الحيلة على هربغوس، فلما استكشف «أصطياغ» خفية الأمر وعلم بكل ما جرى كظم غيظه، ولكنه انتقم من هربغوس شر انتقام، فأمر بقتل ابن هربغوس سرا، ودعاه إلى طعام قدم إليه فيه لحم ابنه فأكله، ثم أمر فأحضر رأس الغلام ويداه وقدمت أثناء المأدبة تحت غطاء إلى هربغوس، فلما كشف عنها الغطاء رأى هذا المنظر الفظيع فلزم السكينة، فسأله «أصطياغ» في ذلك فقال إنه تعرف اللحم الذي أكله، ولا يسعه إلا الثناء على الملك على ما تفضل به.
ومع ذلك فإن هربغوس قد أصر على الانتقام من «أصطياغ» بأن يثل عرشه من تحته؛ فحرض قيروش سرا على العصيان، ولم يصادف هذا الأمير الشاب عناء في حمل الفرس على نبذ نير الميديين الثقيل، ولقد بلغت العماية «بأصطياغ» أنه لما جاء حفيده على رأس الجيش الفارسي أمر على الجند هربغوس الذي كان قد نكل به ذلك التنكيل، فلم يلبث هذا الأخير أن خانه وانخذل بالجيش، وقهر قيروش «أصطياغ» ولم يقتله، بل تركه يعيش في الخزي، وسقطت مملكة الميديين بعد أن أقامت 328 سنة من ديجوسيزبن فراورط، وبقي هذا القسم من آسيا من يومئذ تابعا للفرس الذين لم يحتفظوا به إلا أقل من تلك المدة حتى سقطت مملكتهم بإغارة إسكندر .
ذلك هو هربغوس الذي رمى به قيروش مدائن الإغريق ليخضعها.
ولقد عنيت بذكر هذه التفاصيل على شهرتها لأبين أي الأمم وأي الأخلاق سيكون ليونان الشاطئ علاقة بها.
أخذ هربغوس يبتكر طرائق لفتح المدائن، فكان كلما وصل مدينة أحاط بها ثم حفر حولها خندقا يحصر أهلها فيضطرهم إلى التسليم؛ فبدأ بمدينة فوكاية، تلك المدينة التي كان لها اسم كبير في ذلك العهد، والتي تهمنا بوجه خاص جد الأهمية؛ لأن أحد فلاسفتنا (إكسينوفان) كان بها منذ نفي من كولوفون وهرب مع مواطنيه على الشواطئ البعيدة لبحر طرهينيا، ولقد كان أهل فوكاية أول من أزمع السياحات الكبرى المقرونة بالأخطار من جميع الجنس الهليني؛ فإنهم أول من علم الناس ما هو البحر الإدرياتيكي وبحر طرهينيا وأيبيريا وطورطايس، تلك الأصقاع السحيقة في حدود الأرض وراء عمد هيرقليس، وهم الذين حوروا طريقة صنع السفن فرغبوا عن السفن الغليظة المستديرة إلى سفن ذات خمسين صفا من المجاذيف، وهي المسماة «البانيكونتور». ولما كان لأهل فوكاية صلات مودة ومعاملة ببلاد طورطايس عرض عليهم أرغانتونيوس - ملك هذه الجهة - أن يهاجروا إليه إذا شاءوا أن يتركوا يونيا عندما هدد الفرس مدينتهم. ونظرا إلى أنهم لم يكونوا قد عزموا على الهجرة بعد، أعطاهم حليفهم الملك مبلغا عظيما من النقود ليساعدهم على إقامة سور منيع حول مدينتهم، فأقاموا هذا السور الواسع الامتداد من أحجار كبيرة محكمة الرصف جدا.
अज्ञात पृष्ठ