जवहर इंसानिया
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
शैलियों
15
وفي وقتنا الحالي، بعد 10 آلاف سنة من العصر الجليدي، ما زال شمال كندا مكانا موحشا في الشتاء؛ لذا من غير المفاجئ أن المستوطنين هناك، الذين سأشير إليهم الآن باسم الهنود الأمريكان، سرعان ما بدءوا في التوسع جنوبا. أما الذين ظلوا في الشمال فهم الإنويت الحاليين (الإسكيمو) والأليوتيون الذين يعيشون في ألاسكا وكندا وجرينلاند. انتشر آخرون من النوع نفسه في كل منطقة مما يعرف حاليا باسم الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه المناطق اصطادوا حيوان الماموث الصوفي (حتى انقراضه)؛ فقد عثر على أعداد كبيرة من رءوس الرماح الصخرية القادرة على إصابة الماموث إصابة مميتة في كثير من المواقع. استمر التوسع على يد هؤلاء المستكشفين، الذين أطلق عليهم علماء الآثار شعب كلوفيس،
16
في وسط أمريكا وجنوبها، وفي غضون ألف سنة وصلوا إلى باتاجونيا.
ليست هذه الهجرة وحدها التي طرحت كتفسير لظهور الإنسان في الأمريكتين؛ فقد طرحت ثلاث طرق أخرى، يقتضي كل منها إجراء رحلات بالقوارب.
17
كان أحدها من شرق آسيا إلى غرب كندا، مع التزام الإبحار بجوار الخط الساحلي قدر المستطاع، ربما تكون هذه الهجرة استمرت إلى الجنوب حتى الطرف الغربي من أمريكا الجنوبية. ثمة رحلة أخرى مقترحة من شبه الجزيرة الإيبيرية شمالا، بتتبع الصفيحة الجليدية ووصولا إلى الحافة الشرقية لكندا. أما الرحلة الثالثة (وهي الرحلة الأبعد عن الاحتمال؛ إذ تشتمل على أطول رحلة في المياه المفتوحة) فهي من السواحل الشرقية لأستراليا، عبر جنوب المحيط الهادئ مباشرة حتى الساحل الجنوبي الغربي لأمريكا الجنوبية. تتمثل الحجج المؤيدة لهذه الهجرات فيما يلي؛ أولا: أن الأدوات الحجرية التي عثر عليها في بعض المواقع لها شكل مختلف عن تلك التي عثر عليها في مواقع أخرى؛ يشير هذا - على الأقل لبعض علماء الآثار - إلى أن شعوبا غير صيادي الكلوفيس سكنوا أجزاء معينة من العالم الجديد. ثانيا: عثر على بعض المصنوعات في موقع تخييم يرجع تاريخه إلى نحو 15 ألف سنة في مونتي فيردي جنوبي تشيلي، هل توافر بالفعل لشعب كلوفيس الوقت ليشقوا طريقهم نزولا من كندا إلى باتاجونيا في أقل من ألف سنة؟ من غير المحتمل أن يكونوا عبروا جسر يابسة بيرنجيا قبل 15 ألف سنة أو 16 ألف سنة مضت؛ إذ كان لا يزال مغطى بصفيحة جليدية. ثالثا: تظهر حقيقة تمكن المهاجرين من غينيا الجديدة من الوصول إلى أستراليا بالقوارب منذ 50 ألف سنة أو 40 ألف سنة مضت، أن الإنسان أتقن فن بناء القوارب البسيطة في هذا الوقت.
يصعب تفنيد أو إقرار هذه الافتراضات؛ ببساطة بسبب عدم وجود أدلة كافية. تؤكد الدراسات الجزيئية بالتأكيد الأصل المنغولي لكثير من الهنود الأمريكان الحاليين، لكن بسبب التزاوج الداخلي على مر السنين، لا يمكننا إغفال خليط من مجموعات صغيرة منفصلة من الأفراد ربما نشأت في غرب أوروبا أو شرق أستراليا. وبما أن البقايا الأثرية تقتصر إلى حد كبير على أدوات مصنوعة من الحجارة، يصعب تتبع الأنماط البديلة لحياة المجموعات المختلفة، مثل صيد الأسماك بدلا من صيد الطرائد. عثر قطعا على بعض الأدلة على الاستيطان في جنوب جرينلاند، لكن يبدو أن هذه المجموعة من المستوطنين على وجه التحديد انقرضت ولم تصل إلى أمريكا قط. يستمر الجدل حول سرعة الهجرة؛ فيعتبر جارد دايموند ألف سنة أكثر من كافية لإجراء رحلة من ألاسكا إلى باتاجونيا. على أي حال، بما أن السفر على طول الساحل بالزوارق الطويلة أسرع من شق المرء طريقه عبر الغابات المطيرة الكثيفة وعلى طول جبال وسط أمريكا وجنوبها، لماذا لا يمكن أن يكون بعض المهاجرين الأصليين من سيبيريا فعلوا الأمر عينه بأنفسهم؟ فلا بد أنهم صنعوا زوارق؛ إذ توجد إشارات على كون كثير من الأنهار الكبرى في أمريكا الشمالية مأهولة بالسكان على الضفتين. فيما يخص فكرة حجتي الأساسية، فإن هذه التوقعات من شأنها تقويتها فحسب؛ فأينما وجد الإنسان نفسه نتج عن فضوله بشأن ما يوجد بعيدا عنه وبحثه عن التقنية التي توصله إلى هناك ؛ هجرات في جميع أنحاء العالم.
في النهاية الأخرى من العالم، في جنوب شرق آسيا ، كان البحارة يتحركون مرة أخرى؛ فقد بدأت جزر المحيط الهادئ تحتل من أناس من أصل آسيوي. منذ 3600 وصلوا إلى فيجي (على بعد ألفي ميل جنوب شرق غينيا الجديدة)، ووصلوا بعد ألفي عام أخرى إلى هاواي (على بعد 3 آلاف ميل شمال شرق فيجي)، ووصلوا منذ ألف سنة إلى نيوزيلندا (على بعد 1500 ميل جنوب فيجي). لا تعتبر بضعة آلاف من السنوات فترة طويلة لتغير صفات عرقية، فسكان هاواي والفيجيون والماوري في نيوزيلندا تجمعهم جميعا صلة قرابة وطيدة. وحتى الانتهاء من تحليل الدليل الجزيئي للدي إن إيه الميتوكوندري، كان ثمة اعتقاد بأن سكان جزر كوك في تاهيتي، الموجودة شرق فيجي، ناهيك عن سكان جزيرة القيامة التي تقع أبعد حتى من هذا جهة الشرق، وصلوا إليها من أمريكا الجنوبية، وليس من جنوب شرق آسيا. وإن جزيرة الفصح، التي أطلق هذا الاسم عليها مستكشف هولندي يدعى روجيفين لأنه عثر عليها في يوم عيد الفصح في عام 1722، على بعد 2500 ميل فقط من الساحل الغربي لتشيلي، بينما تبعد ضعف هذه المسافة من فيجي وخمسة أضعافها من البر الرئيسي لجنوب شرق آسيا. وبما أن عالم الأنثروبولوجيا النرويجي ثور هايردال أظهر إمكانية الإبحار بطوف صغير، الكونتيكي، نحو 6 آلاف ميل في الاتجاه الغربي من الساحل الغربي للبر الرئيسي لأمريكا الجنوبية (من بيرو إلى تاهيتي)، كان من الطبيعي افتراض أن هذا هو الاتجاه الذي جاء منه سكان جزيرة الفصح.
لم يعتقد أحد أن هؤلاء البشر كانوا أذكياء بالقدر الكافي للإبحار أكثر من 10 آلاف ميل ضد الرياح السائدة، فكان هذا بالتأكيد دليلا كافيا على حماقتهم في استنزاف كل مواردهم الطبيعية، بما في ذلك الأشجار التي اعتمدوا عليها في بناء القوارب، التي ربما تركوا على متنها الجزيرة للبحث عن حياة جديدة في مكان آخر (أو على الأقل كانت تستخدم في توفير الطعام من خلال الصيد)، وهو ما قضى على أعدادهم تقريبا إلى حد الانقراض بحلول القرن الثامن عشر. غير أنهم أبحروا بالفعل عبر المحيط الهادئ؛ إذ حلل المتخصص في علم الوراثة في جامعة أوكسفورد براين سايكس الدي إن إيه الميتوكوندري لسكان الجزيرة، مثل دي إن إيه المستوطنين البولينيزيين الآخرين، ووجد أنه يشبه ذلك الخاص بسكان جنوب شرق آسيا، وليس الخاص بالهنود الأمريكان الحاليين الموجودين في أمريكا الجنوبية (أو أمريكا الوسطى والشمالية أيضا).
अज्ञात पृष्ठ