"السعادة العظمى" التي أنشأها زميلُه وصديقُه الشيخ محمد الخضر حسين في تونس، ومنها ما عُمر لسنوات عدة شبَّ فيها وما اكتهل مثل مجلة "الهداية الإِسلامية" التي أسسها كذلك الشيخ الخضر في القاهرة و"المجلة الزيتونية" التي أسسها بعضُ تلاميذ ابن عاشور في تونس، ومنها ما عُمر طويلًا واكتهل وما زال يصدر حتى يوم الناس هذا مثل مجلتي مجمع دمشق ومجمع القاهرة.
إلا أنه لم يكن في خاطري حينذاك أن أنتهض يومًا لجمع تلك المقالات والرسائل وأن أنشغل بها قراءة وضبطًا وتوثيقًا و"تحقيقًا"، بل لم يكن من "خارطة طريقي" عندها أن أجعل الفكرَ المقاصدي الاجتماعي عند ابن عاشور موضوعًا لأطروحتي في الدكتوراه. ولكن يبدو أن جاذبًا خفيًّا ودافعًا قويًّا كانا يتملكانني فلا أملك منهما فكاكًا، فكما عكفتُ من قبلُ على أعمال المفكر الجزائري اللامع مالك بن نبي دراسة وتأليفًا وترجمة، ألفيتني منغمسًا في تراث علامة تونس الزيتونة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بالقدر ذاته إن لم يكن على نحو أكبر. على أن لي مع ابن عاشور صلةً أقدم من تلك التي تربطني بمالك بن نبي (١)، أرى من المناسب الكشفَ عنها هنا لما فيها من بعض الغرابة، ولعلها تفيد مَنْ يروم التبصر بالأبعاد النفسية
_________
(١) كان أول تعرفي على مالك بن نبي حوالي منتصف العقد السابع من القرن العشرين الميلادي - أو بعده بقليل - قبل مرحلة الدراسة الجامعية، وذلك من خلال مقال كتبه عنه الشيخ راشد الغنوشي ونُشر في أحد أعداد مجلة "المعرفة" لا أتذكر الآن تاريخه، ثم تجددت صلتي به خلال السنة الأولى (١٩٧٧/ ١٩٧٨) من دراستي الجامعية بدار المعلمين العليا بمدينة تونس عندما اقتنيتُ نسخةً من الطبعة الفرنسية لكتابه "الظاهرة القرآنية" الذي لا يبدو أني فهمت وقتها كثيرٌ من مضمونه الفكري أو أدركت شيئًا مهمًّا من مغزاه المنهجي، ولكني أذكر جيّدًا أني قرأت طرفًا منه على بعض زملاء الدراسة والسكنى - منهم الأساتذة زهير بن يوسف ومصباح الباشا وتوفيق عبد الكافي حفظهم الله - وجرى بيننا بعضُ النقاش حول ذلك، وخاصة الفصل الخاص بالظاهرة الدينية الذي تكلم فيه ابن نبي على "المذهب المادي" و"المذهب الغيبي" اللذين يتنازعان تفسير علاقة الإنسان بالدين.
1 / 12