وقد روى ابن قتيبة وغيره هذا المقام لأبي حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع، وعليه عول أبو علي محمد بن الحسن المظفر الحاتمي في الحكاية التي وضعها على أستاذه علي بن هارون وأتى فيها بكل مليحة نادرة. وزعم أنه أحس حس برذون في إصطبله فراعه وتوهمه لصًا وهي طويلة في نحو أربعة أجلاد وقال في أولها: هذه حكاية أبي الحسن علي بن هارون مع اللص الذي تخيل أنه دخل داره، أخبرني بها أبو القاسم القنطري وغيره من حاشية أبي الحسن، ولفظ بعضهم يزيد على بعض؛ فجمعت الروايات على اختلافها، ونظمت شتيتها، وهذبت العبارة عنها، وأوردت المعاني مكسوةً من النثر الرائع، والتشبيه الواقع، مما يطرب سامعه، ويروق متصفحه؛ ليكون وروده أغرب وحفظه أقرب. ونحلت أبا الحسن وجماعة ولده قطعًا من بارع الشعر، تناسب قطع الرياض بنت القطر، صنعتها على ألسنتهم، ونسبتها إلى ارتجازاتهم، وتمثلت عنهم بفقر من أشعار العرب أسميت قائلها؛ لئلا تلتبس بما اختصصت في نظمه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقال في آخرها: لقد كان في نبأ هذه الكريمة تبصرة لمستبصر، وتذكرة لمتذكر. هذا ولم تقترح فيها الأقران، ولا تنازلت فيها الفرسان، ولا استبهمت فيها البهم، ولا أريق فيها ملء محجم دم؛ وإنما هو تخييل جبان، وتسويل جنان. ولقد عزونا إلى هذه الطائفة من التشبيهات الباهرة والأمثال النادرة ما يبعد جدًا عن مثلها؛ وإنما بعثنا على ذلك أشر الشبيبة، ومرح الصبا، ولين الغصن، وفضل القدرة، واستجابة لما تدعيه من أفانين الكلام؛ ونستغفر الله من فضول العمل.
من شعر أبي حية النميري
وأبو حية النميري من أحسن الناس شعرًا وأرقهم فيه طبعًا، على لوثة كانت به؛ وهو القائل:
ألا أيّها الربع القواء ألا انطق ... سقتك الغوادي من أهاضيب فوّق
مرابيع وسميّ تسوق نشاطه ... جرار الصّبا في العارض المتألّق
وما أنت إلاّ ما أرى بعد ما أرى ... يد الحي في زي بعيني مونق
غراب ينادي يوم لا القلب عقله ... صحيح ولا الشعب الذي انصاع ملتقي
جزيت غراب البين شرًّا لطالما ... شقيت بتحجال الغراب المنعّق
ورقراقة تفترّ عن متبسّم ... كنور الأقاحي طيّب المتذوّق
إذا امتضغت بعد امتناع من الضحى ... أنابيب من عود الأراك المخلّق
سقت شعث المسواك ماء غمامة ... فضيضًا بخرطوم العراق المصفّق
فإن ذقت فاها بعدما سقط النّدى ... بعطفي بخنداة رداح المنطق
شممت العرار الغضّ غبّ هميمة ... ونور الأقاحي في الندى المترقرق
شرقت بريّا عارضيها كأنما ... شرقت بدار ... العراق المعتق
هذا شعر ظريف الصنعة حسن الوشي والسبك؛ وقد ملح ما شاء في وصف الثغر وطيب النكهة، وهو معنى حسن جميل.
أحسن ما قيل في وصف الثغر
قال أبو العباس بن الفرج الرياشي سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة:
وتجلو بفرعٍ من أراكٍ كأنه ... من العنبر الهندي والمسك يصبح
ذرى أقحوان واجه الليل وارتقى ... إليه الندى من راحة المتروّح
هجان الثنايا مغربٌ لو تبسّمت ... لأخرس عنه كاد بالقول يفصح
وكتب كشاجم إلى بعض القينات وأهدى إليها سواكًا:
قد بعثناه لكي تجلي به ... واضحًا كاللؤلؤ الرطب الأغر
طاب منه العرف حتى خلته ... كان من ريقك يسقى في الشجر
ليتني المهدى فيروي عطشي ... برد أنيابك في كلّ سحر
وأما والله لو يعلم ما ... حظّه منك لأثنى وشكر
وقد أحسن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إذ يقول:
وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي ... أخشى عقوبة مالك الأملاك
ماذا عليك دفعت قبلك للثّرى ... من أن أكون خليفة المسواك
أيجوز عندك أن يكون متيّم ... صبٌّ بحبك دون عود أراك
وقال ابن الرومي:
ألا طالما سؤت الغيور ساءني ... وبات كلانا من أخيه على وحر
1 / 83