قال الشافعي: رأيت بالعراق أربعة أشياء لم أر مثلها؛ رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيت قلنسوة قاض وسعت ثمانية نوى، ورأيت شيخًا ابن نيف وتسعين سنة يمشي على القيان يعلمهن الغناء وضرب العود، وإذا صلى صلى قاعدًا، ورأيت واليًا سأل بعض من يلم به: لم لا يجتمع الناس على بابي؟ فقال: لأنك عدل لا تضرب أحدًا؛ فوجه إلى إمام مسجد الجامع، فأمر بضربه بالسياط؛ فاجتمع الناس على بابه وأقبلوا يتزاحمون، والرجل يقول: ما ذنبي، أيها الأمير؟ والأمير يقول له: جملني بنفسك قليلًا يا شيخ.
وولى الحجاج أعرابيًا على تبالة فجمع أهلها وقال: إن الأمير أوصاني عليكم؛ ووالله لا أحسن أن أقضي بين خصمين مرتين، وواله لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا وضربته حتى أقتله، فتناصف الناس بينهم.
من ملح أبي الأسود
قال المدائني: كان لأبي الأسود الدؤلي دكان إلى صدر الرجل يجلس فيه وحده، ويضع بين يديه مائدة ويدعو إليها كل من يمر به، وليس لأحد أن يجلس؛ فينصرفون عنه.
وكان أبخل الناس، فمر به صبي من الأنصار؛ فقال له أبو الأسود: هلم إلى الغداء يا فتى؛ فأتى إليه، فلم ير موضعًا يجلس فيه، فتناول المائدة فوضعها في الأرض ثم قال: يا أبا الأسود، إن كان لك في الغداء حاجة فانزل؛ وأقبل الفتى يأكل حتى أتى على جميع ما في المائدة، وسقطت آخر الطعام من يده لقمة على الأرض فأخذها وقال: لا أدعها للشيطان. فقال أبو الأسود: والله ما تدعها للملائكة المقربين، فكيف تدعها للشياطين! ثم قال له: ما اسمك؟ قال: لقمان. فقال أبو الأسود: أهلك كانوا أعلم زمانهم إذ سموك بهذا الاسم، ولم يعد بعد إلى ما كان يصنع.
واسم أبي الأسود ظالم بن عمرو من بني الدئل من كنانة، وكان قد أدرك حياة النبي ﷺ، وسافر إلى البصرة على عهد عمر ﵁، واستعمله علي بن أبي طالب ﵁ على البصرة وكان شيعيًا، وهو أول من وضع العربية وهو القائل:
أمنت على السرّ امرءًا غير حازم ... ولكنه في الودّ غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار آذنت بثقوب
وما كلّ ذي لبٍ بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب
ولكن متى ما جمعا عند واحدٍ ... فحقّ له من طاعة بنصيب
وكان مجاورًا لبني قشير وهم عثمانية وكانوا يرجمونه، فإذا أصبح شكاهم؛ فيقولون: ما نحن رجمناك، الله تعالى رجمك. فيقول: كذبتم يا فعلاء، أنتم ترمون فتخطئون ولو كان الله رماني ما أخطأني؛ ثم باع داره وانتقل عنهم. فقيل له: أبعت دارك؟ فقال: بل بعت جاري، وفيهم يقول:
يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر ما تنسى عليّا
أحب محمدًا حبًّا شديدًا ... وعبّاسًا وحمزة والوصيّا
فإن يك حبّهم رشدًا أصبه ... ولست بمخطىءٍ إن كان غيّا
فقالوا له: أشككت؟ فقال: مما شك الله تعالى إذ يقول: " وإنا أو إياكم لعلى هُدَّى أو في ضلالٍ مبين ".
وقال عمر بن شبة: لما وقعت الفتنة أيام ابن الزبير بالبصرة مر أبو الأسود على مجلس ابن قشير، فقال: على ماذا أجمع أمركم في هذه الفتنة؟ قالوا: لم تسألنا يا أبا الأسود؟ قال: لأخالفكم، فإن الله لم يجمعكم على حق.
وأنشد ابن شبة في هذا المعنى لبعض المحدثين:
إذا أشبه الأمران يومًا وأشكلا ... عليّ فلم أعرف صوابًا ولم أدر
سألت أبا بكر خليل محمّدٍ ... فقلت له ما تستحبّ من الأمر؟
فإن قال قولًا قلت شيئًا خلافه ... لأنّ خلاف الحقّ قول أبي بكر
رسالة أبي العيناء في أحمد بن الخصيب
ومن هنا أخذ أبو العيناء قوله في أحمد بن الخصيب: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب يطلبها.
1 / 77