كان معاوية بن مروان أخو عبد الملك بن مروان مغفلًا؛ فبينا هو واقف بباب دمشق ينتظر عبد الملك على باب طحان إذ نظر إلى حمار يدور بالرحى، وفي عنقه جلجل. فقال للطحان: لم جعلت في عنق الحمار جلجلًا. قال: لربما أدركتني سآمة أو نعسة، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت بأنه قد قام فصحت به. فقال له معاوية: أرأيت إن قام ومال برأسه هكذا وهكذا وحرك رأسه ما علمك أنه قائم؟ فقال الطحان: ومن لحماري بمثل عقل الأمير أعزه الله تعالى!
في مرض الجاحظ
قال بعض البرامكة: كنت بالسند، فاتصل بي أني صرفت عنها، وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار؛ فخفت أن يجفوني الصارف ويسعى إليه بالمال، فصغته عشرة آلاف إهليلجة، كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل، وجعلتها في حمل إهليلج، ولم أبعد أن جاء الصارف، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة؛ فأخبرت أن بها الجاحظ وأنه عليل؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته؛ فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف؛ فقرعته، فخرجت إلي جارية صفراء، فقالت: من أنت؟ قلت: شيخ غريب؛ أحب أن أدخل إلى الشيخ فأسر بالنظر إليه؛ فأدت الجارية ما قلت، وكانت المسافة قريبةً لقصر الدهليز والحجرة؛ فسمعته يقول: ما يصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل؟ فأخبرتني، فقلت: لا بد من الوصول إليه. فقال: هذا رجل اجتاز بالبصرة، فسمع بي وبعلتي، فقال: أراه قبل موته لأقول قد رأيت الجاحظ.
فدخلت فسلمت، فرد ردًا جميلًا، واستدناني وقال: من تكون أعزك الله؟ فانتسبت إليه، فقال: رحم الله آباءك وقومك السمحاء الأجواد، الفصحاء الأمجاد، فلقد كانت أيامهم روض الأزمنة، ولقد انجبر بهم قوم كثير، فسقيًا لهم ورعيًا. فدعوت له وقلت: أنا أسأل الشيخ أن ينشدني شيئًا من ألذ الشعر أذكره به، فأنشدني:
لئن قدّمت قبلي رجالٌ لطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدّما
ولكن رأيت الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضًا وتنفض مبرما
ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز صاح بي: يا فتى، أرأيت مفلوجًا ينفعه الإهليلج؟ قلت: لا! قال: أنا ينفعني الإهليلج الذي معك فأهد لنا منه. فقلت: السمع والطاعة. وخرجت مفرط التعجب من وقوفه على خبري حتى كأن بعض أحبابي كاتبه بحالي وقت أن صغته، فأنفذت إليه مائة إهليلجة.
وهذا يدل على كثرة بحثه وتنقيره؛ إذ كان وهو في هذه السن العالية والفالج الشديد تنشر عنده الأخبار، ولا تطوى عنه الأسرار، فكيف كان قبل هذا؟ ومن إحدى عجائبه أنه ألف كتاب الحيوان وهو على تلك الحال.
وقيل لأبي العيناء: ليت شعري؛ أي شيء كان الجاحظ يحسن؟ فقال: ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن؟ وفيه يقول الشاعر:
ولقد رأيت العلم يو ... مًا ما حواه اللاّفظ
حتى أقام طريقه ... عمرو بن بحر الجاحظ
وأتى أبو العيناء الجاحظ يسأله في رجل أن يكتب له كتاب عناية إلى صاحب البصرة. فقال: نعم! لا تنصرف إلا به، وكتب له الجاحظ الكتاب وختمه ودفعه إليه، فأتى إلى أبي العيناء بالكتاب؛ فقال: افضضه واقرأه علي؛ لأرى ما كتب وأعيده إليه ليختمه، ففتحه فإذا فيه: كتابي إليك سألني فيه من أخافه لمن لا أعرفهن فافعل في أمره ما تراه، والسلام. فغضب ونهض إلى الجاحظ، فقال: أعرفك باعتنائي بهذا الرجل فكتبت له مثل هذا! فقال: لا تنكر ذلك فإنها أمارة بيني وبينه إذا عنيت برجل. فقال: بل أنت ولد زنا لم تك قط لرشدة. قال: أتشتمني؟ قال: لا، إنها أمارة لي عند الثناء على إنسان.
ومن نوادر المتنبئين
ادعى رجل النبوة في زمن المهدي وأدخل عليه. فقال: أنت نبي؟ قال: نعم! قال: إلى من بعثت. قال: أوتركتموني أن أبعث إلى أحد؟ بعثت بالغداة وحبست بالعشي. فقال: صدقت، أعجلناك! وضحك منه ووصله وأطلقه.
طمع أشعب
قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما رأيت عروسًا تزف إلا وظننتها لي، ولا رأيت جنازة إلا وظننت أن صاحبها أوصى لي بشيء. ولقد أطاف بي مرة صبيان فنادوا: يا أشعب! يا أشعب! فأضجروني، فدفعتهم عني بأن قلت لهم: دار فلان تهب، فبادروا. فلما ولوا ظننت أني صادق، فتبعتهم.
من نوادر الولاة
1 / 76