قال الجاحظ: سألت وراقًا عن حاله؟ فقال: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس أشد سوادًا من الحبر بالزاج، وحظي أخفى من شق القلم، وجسمي أضعف من قصبة، وطعامي أمض من الحبر، وشرابي أمر من العفص؛ وسوء الحال ألزم بي من الصمغ. فقلت: لقد عبرت ببلاء عن بلاء.
وللجاحظ في هذا النوع رسالة كتب بها إلى المعتصم، وقيل إلى المتوكل في الحض على تعليم أولاده ضروب العلوم وأنواع الأدب وهي: يا أمير المؤمنين: علم بنيك من أنواع الأدب ما أمكن؛ فإنك إن أفردتهم بشيء واحد ثم سئلوا عن غيره لم يعرفوه؛ وذلك أن حزامًا صاحب خيلك حين سألته عن الوقعة ببلاد الروم، قال: لقيناهم في مقدار الإصطبل، فما كان إلا بمقدار ما يحس الرجل دابته حتى قتلناهم؛ فتركناهم في مثل نثير السرجين، فلو طرحت روثة لما سقطت إلا على ذنب برذون.
وكان قد أنشد في الغزل:
غن يهدم الصدّ عن قلبي مذاوده ... فإنّ قلبي بقتّ الصبر معمور
ويح امرىءٍ في وثاق الحبّ يكبحه ... لجام هجرٍ على الأسقام مقرور
أنل خليلك نيلًا من وصالك أو ... حسن الرقاد فإنّ النوم مأسور
أمنت فتل شكالي حين ودّعني ... ومبضع الحب في كفيه مطرور
لبست برقع هجر بعد ذلك في ... إصطبل ودّ فروث الحبّ منثور
وسألت بختيشوع الطبيب عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار ساحة البيمارستان؛ فما كان إلا بمقدار ما يختلف الرجل مقعدين حتى تركناهم في محقنة ثم قتلناهم، فلو طرحت مبضعًا لما وقع إلا على أكحل رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شرب الوصل بجنح الهجر فاستط ... لق بطن الوصال بالإسهال
ففؤاد المحبّ ينحله السّه ... د وقلبي معلّقٌ بالمطال
وفؤادي مبرسمٌ ذو زحيرٍ ... يابن ماسويه ضاق احتيالي
لو ببقراط بعض ما بي وجالي ... نوس ماتا منه بأسوأ حال
وسألت جعفر الخياط عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مثل سوق الخلقان؛ فما كان إلا بقدر ما يخيط الرجل درزًا، حتى تركناهم في أضيق من جربان، فلو طرحت إبرة لما وقعت إلا على درز رجل.
وكان قد قال في الغزل:
فتقت بالهجران درز الهوى ... بإبرة من إبر الصدّ
فالقلب من ضيق سراويله ... يعثر بي في تكّة الجهد
حسدتني يا طيلسان الهوى ... منه على سوءٍ شقا جدّي
أزرار عيني فيك موصولةٌ ... بعروة الدّمع على خدّي
يادستبان القلب يا زيقه ... عذّبني الدركنز بالوعد
قد قصّ ما أعرف من وصله ... مقراض بين مرهف الحدّ
يا حجزة النفس ويا ذيلها ... ما لي من وصلك من بدّ
ويا جرّبان سروري ويا ... جيب غرامي حلت عن عهدي
وسألت إسحاق بن إبراهيم عن ذلك وكان زارعًا فقال: لقيناهم في مثل جريب من الأرض؛ فما كان إلا بقدر ما يسقي الرجل مشارة حتى قتلناهم عن آخرهم، فلو طرحت منجلًا لما سقط إلا على رأس رجل؛ فصاروا مثل أكوام التبن إذا خرج عن الحب.
وكان قد قال في الغزل:
زرعت هواه في جريبٍ مثلّثٍ ... وأسقيته ماء الدوام على العهد
فلما تعالى النبت واخضرّ يانعًا ... وأفرك حبّ الحبّ في سنبل الودّ
أتته أكفّ الهجر فيها مناجلٌ ... فأسرعن فيه حين أدرك بالحصد
فيا شؤم مالي إذ يعطل للشقا ... ويا ويح ثوري صار معلفه كبدي
وسألت فرجًا الرخجي عن مثل ذلك وكان خبازًا فقال: لقيناهم في مثل مقدار جفنة، فما كان إلا بقدر ما يعجن الرجل قفيزًا أو يخبز أرغفة، حتى صيرناهم في أضيق من جحر التنور، فلو طرحت جردقًا لما وقع إلا في خوان الخبز على كثرة القتلى.
وقد كان أنشد في الغزل:
قد عجن الهجر دقيق الهوى ... في جفنةٍ من خشب الصدّ
فاختمر البين فنار الهوى ... تزجي بشوك الهجر من بعدي
وأقبل الصدّ بهجرانه ... يفحص عن أرغفة الوجد
جرادقًا للوعد مسمومةً ... مثرودةً في قصعة الجهد
1 / 54