وقال له رجل: يا أبا عبد الله؛ أنا رجل جامد العين، لو مات أبي ما بكيت، ولكن إذا سمعت الصوت الفريح من الوجه المليح، بكيت حتى أغمي علي. فعلام يدل هذا؟ قال: على أنك لا تلفح أبدًا.
وقال له رجل: أردت أن أحمل أمي إلى بغداد، فخفت إن حملتها في البحر أن تعطب، وإن حملتها في البر أن تتعب. قال: فخذها في سفتجة.
قال بعض جلساء المتوكل: كنا نكثر عنده ذكر الجماز حتى اشتاقه، فكتب في حمله من البصرة. فلما دخل عليه أفحم. فقال له المتوكل: تكلم فإني أحب أن أستبرئك. فقال: بحيضة أم بحيضتين يا أمير المؤمنين؟ فضحك المتوكل. ثم قال له الفتح: قد ولاك أمير المؤمنين على الكلاب والقردة. قال: فاسمع لي وأطع، فأنت من رعيتي. فقال له: إذا وهب لك أمير المؤمنين جارية، فما تصنع بها؟ فقال: أنا أعرف من نفسي ما تحتاج والله جارية إلا أن أقود عليها. فضحك المتوكل، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فمات فرحًا ولم يصل إلى البصرة.
وكان الجماز لا يدخل بيته أكثر من ثلاثة لضيقه، فدعا ثلاثةً من إخوانه فأتاه ستة، ووقف كل واحد على رجل وقرعوا الباب، فنظر من كوة أسفل الباب وكذلك كان يعمل فعد ستة أرجل، فلما فتح الباب دخلوا؛ فقال: اخرجوا عني فإني دعوت أناسًا ولم أدع كراكي.
والجماز هو أبو عبد الله محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر، وكانوا يزعمون أنهم من حمير صليبة نالهم سباء في خلافة أبي بكر وهم مواليه، وسلم الخاسر عمه. وكان الجماز صاحبًا لأبي نواس حتى ماتا. ووصف أبا نواس، فقال: كان أظرف الناس منطقًا، وأغزرهم أدبًا، وأقدرهم على الكلام، وأسرعهم جوابًا، وأكثرهم حياءً؛ وكان أبيض اللون، جميل الوجه، مليح النغمة والشارة، ملتف الأعضاء، بين الطويل والقصير، مسنون الوجه، قائم الأنف، حسن العينين والمضحك حلو الصورة، لطيف الكف والأطراف، وكان فصيح اللسان، جيد البيان، كثير النوادر؛ وكان راويةً للأشعار، وعلامة بالأخبار، وكان كلامه شعرًا غير موزون.
وأقبل أبو شراعة والجماز في حديثه وكانت يد أبي شراعة كأنها كربة نخل وكان أقبح الناس وجهًا، فقال الجماز: فلو كانت أطرافه على أبي شراعة لتم حسنه.
فغضب أبو شراعة، فبصق الناس في وجهه.
من أدب أبي شراعة
وأبو شراعة شاعر مجيد وهو القائل:
بني رياح أعاد الله نعمتكم ... خير المعاد وأسقى ربعكم ديما
فكم به من فتىً حلو شمائله ... يكاد ينهلّ من أعطافه كرما
لم يلبسوا نعمةً لله مذ خلقوا ... إلا تلبّسها إخوانهم نعما
قال أبو العباس المبرد: وكان أبو شراعة حليمًا مألوفًا، جميل الخلق، كريم العشرة، وكان يقول من الشعر ما يجانب به مذاهب المحدثين، ويقترف طريق الماضين وأهل البادية؛ فشعره عربي محض، واسمه أحمد بن محمد بن شراعة القيسي ومن شعره:
تقول ابنة البكريّ حين أؤوبها ... هزيلًا وبعض الآيبين سمين
لك الخير لا يدخل لأهلك رحله ... فإنّك في القوم الكرام مكين
ذريني أمت من قبل حلّي محلّة ... لها في وجوه السائلين غضون
وأفدي بمالي ماء وجهي فإنني ... بما فيه من ماء الحياة ضنين
فقالت: لحاك الله لا تنأ جانبًا ... فقلت: لإخواني الكرام عيون
وله يهجو أحمد بن المدبر وأخاه إبراهيم:
حجاب ابن المدبّر كسرويٌّ ... كذاك حجاب كسرى أردشير
شهدت بأنّه من آل كسرى ... سلوه هل شهدت له بزور
كفاك شهادتي بالحقّ لولا ... تضاحك من أرى حول السرير
فإن يكن المدبّر جرمقيًّا ... فلست بذاكرٍ أهل القبور
وكتب إلى سعيد بن موسى بن سيد بن سلم الباهلي، يستهديه نبيذًا، ووجه إليه بقرابة في غلاف:
إليك ابن موسى الخير أعملت ناقتي ... مجلّلةً يضفو عليها جلالها
كتوم الوجى لا تشتكي ألم السرى ... سواء عليها موتها واعتلالها
إذا سقيت أبصرت ما جوف بطنها ... وإن ظمئت لم يبد منها هزالها
وإن حملت حملًا تكلّفت حملها ... وإن حطّ عنها لم أبل كيف حالها
1 / 44