وكان أبو العباس السفاح مولعًا بأبي دلامة، لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا لكثرة نوادره وجودةً شعره، ومعرفته بأيام الناس وأخبارهم؛ وكان أبو دلامة يهرب منه جهده، ويأتي حانات الخمارين فيشرب مع إخوانه من الشعراء، وكان يحب مجالستهم وتهرب من مؤانستنا؟ فقال: والله يا أمر المؤمنين؛ إن الفضل والشرف والعز والخير كله في الوقوف ببابك ولزوم خدمتك، ولكن نكره كما ذكرت، ولا مللتك قط، وإنك لتعلم ذلك، ولكنك قد اعتدت حانات الخمارين، ومجالسة أهل المجون. ثم أمره بلزوم قصره، ووكل به من يمنعه الخروج، وأمره بملازمة المسجد الذي يصلي فيه السفاح، حتى أضر به فقال:
ألم تعلموا أنّ الخليفة لزّني ... بمسجده والقصر، ما لي وللقصر!
أُصلّي به الأولى مع العصر آيسًا ... فويلي من الأولى وويلي من العصر
ويحبسني عن مجلسٍ أستلذّه ... أعلّل فيه بالسماع وبالخمر
ووالله ما لي نيّةٌ في صلاته ... ولا البرّ والإحسان والخير من أمري
وما ضرّه، والله يصلح أمره ... لو أنّ ذنوب العالمين على ظهري
فلما بلغت الأبيات السفاح قال: دعوه وشأنه، فوالله ما أفلح قط.
وشرب أبو دلامة مع حماد عجرد، فأتى المهدي بأبي دلامة فقال: استنكهوه؛ ففعلوا فوجدوا رائحة الخمر، فأحب أن يعبث به؛ فأمر الربيع أن يحبسه في بيت الدجاج ويطين عليه الباب، ففعل؛ ثم أمر بعد يومين فأخرج ملببًا بطيلسانه، فأقيم بين يديه، فقال: يا عدو الله؛ أتشرب الخمر؟ أما إني لأقيمن عليك الحد، ولا تأخذني فيك لومة لائم، فأنشأ أبو دلامة:
أمير المؤمنين، فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أُقاد إلى السجون بغير جرمٍ ... كأني بعض عمّال الخراج
ولو معهم حبست لكان خيرًا ... ولكني حبست مع الدّجاج
أمن صهباء! ريح المسك فيها ... ترقرق في الإناء لدى المزاج
عقار مثل عين الديك صرفٌ ... كأنّ شعاعها لهب السّراج
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النّطف النّضاج
وقد كانت تحدّثني ذنوبي ... بأنّي من عقابك غير ناجي
على أني وإن لاقيت شرًّا ... لخيرك، بعد ذاك الشر، راجي
فأمر به فأقيم عليه الحد، ثم أمر له بأربعة آلاف درهم، فلما ولى قال الربيع: يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله:
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النّطف النّضاج
قال: بلى، فما يعني بذلك؟ قال: يعني به الشمس. قال: ردوه نسأله عن ذلك. فلما حضر قال له المهدي: ما تعني بنار الله؟ أتعني بها الشمس؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكن: نار الله الموقدة، التي تطلع على فؤاد الربيع مؤصدة، وعلى من أخبرك أني عنيت بها الشمس مطبقة؛ فضح المهدي وجلساؤه وعفا عنه، فذهب.
وخرج الربيع إلى أصحاب المنصور وهم بالباب، وقد هرب منه سلم غلامه، فقال لهم: أمير المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: إن غلامي سلمًا قد هرب، ومحال أن يهرب أحد من غلماني إلا وقد أسند أمره إلى واحد منكم.
فقام أبو دلامة فقال: بلغ عنا أمير المؤمنين كما بلغتنا عنه. قال: نعم! قال: أما سلم فلا نعرف خبره ولا قصته، ولكن هذا بديع يريد الهروب، فرأي أمير المؤمنين في أخذه، وكان بينه وبين بديع تباعد، فبلغ ذاك المنصور فهرب.
وماتت حمادة بنت علي بن عبد الله بن عباس، فصار المنصور إلى شفير قبرها ينتظر الجنازة، وكان أبو دلامة حاضرًا فقال: ما أعددت لهذه الحفرة يا أبا دلامة؟ فقال: عمة أمير المؤمنين يؤتى بها الساعة.
أخذت امرأة في زنا وطيف بها على جمل، فمرت ببعض المجان فقال لها: كيف خلفت الحاج؟ قالت: بخير، وقد كانت أمك معنا، فخرجت في النفر الأول.
من ملح الجماز
وقال رجل للجماز: أشتهي أن أرى الشيطان. فقال له: انظر في المرآة فإنك تراه.
وقال له رجل: أنا وجع من دمل فيّ. قال له: وأين هي؟ قال: في أخس موضع مني. قال: كذبت؛ لأني لا أرى في وجهك شيئًا.
1 / 43