وأهل الشام غاية في الجهل والغباوة. ودخل رجل من أهل العراق الشام في أيام عبد الملك في حوائج له، فحجب عنه، فدخل في غمار الناس، فقال عبد الملك لجلسائه: ما معنى قول الشاعر:
إذا ما المواشط باكرنها ... وأتبعن بالظّفر وحفًا طويلا
تخذن القرون فعقّلنها ... كعقل العسيف غرابيب ميلا
يصف شعر امرأة، والوحف: البشام، والعسيف: الأجير، والغرابيب الشديدة السواد؛ يريد عناقيد الكرم. وروي عراجين ميلًا فسكتوا عن آخرهم.
فقال العراقي لرجل من أهل الشام له بزة وهيئة: أرأيتك إن أخبرتك بمعناه وحصل لك الحظ عند أمير المؤمنين أتقربني منه حتى أسأله حاجتي؟ قال: لك ذلك. قال: إنما يصف البطيخ، فوثب الشامي، وقال ذلك، فافتضح وانقلب المجلس ضحكًا. فقال له عبد الملك: من أين لك هذا العلم؟ قال: هذا العراقي ابن اللخناء قال لي ذلك. فقال عبد الملك: ما أدخلك؟ أذكر حاجتك؟ فذكرها فقضاها له وقال: أخرج من الشام لا تفسدها علي بمجاورتك.
مما جمع التصرف في الإحسان
ومما جمع التصرف في الإحسان وبديع الافتنان، قول مسلم بن الوليد الأنصاري:
أجدّك ما تدرين أن ربّ ليلةٍ ... كأنّ دجاها من قرونك ينشر
نصبت لها حتى تجلّت بغرّةٍ ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر
يريد يحيى بن خالد بن برمك وجعفرًا ابنه. وقال ابن المعتز:
سقتني في ليلٍ شبيهٍ بشعرها ... شبيهة خدّيها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى ... وشمسين من خمرٍ وخدّ حبيب
وقال أبو الطيب:
نشرت ثلاث ذوائبٍ من شعرها ... في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقتٍ معا
من أعجب ما قيل في وصف الشعر
ومن أعجب ما قيل في وصف الشعر ما جمع فيه وصف سواده وتمامه، وأتى بالتشبيه الواقع، والوصف الرائع؛ قول أبي الحسن علي بن العباس الرومي:
وفاحمٍ وارد يقبّل مم ... شاه إذا اختال مسبلًا غدره
أقبل كاللّيل من مفارقه ... منحدرًا لا يذمّ منحدره
حتى تناهى إلى مواطئه ... يلثم من كلّ موطىءٍ عفره
كأنّه عاشقٌ دنا شغفًا ... حتّى قضى من حبيبه وطره
يغشى غواشي قرونه قدمًا ... بيضاء للناظرين مقتدره
مثل الثرّيا إذا بدت سحرًا ... بعد غمامٍ وحاسرٍ حسره
وقد أخذه منه بعض أهل العصر وهو محمد بن مطران فقاربه في الإحسان:
ظباءٌ أعارتها المها حسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر
فمن حسن ذاك المشي جاءت فقبّلت ... مواطىء من أقدامهنّ الضفائر
بنو أمية وأهل العراق
وكان بنو أمية يكرهون أهل العراق لفطنتهم ورقتهم؛ إذ سياسة الأغبياء أسهل عليهم؛ فقد قال الإسكندر لأرسطا طاليس: قد أعياني أهل العراق، ما أجري عليهم حيلةً إلا وجدتهم قد سبقوني إلى الخلاص، فتخلصوا قبل إيقاعها بهم؛ وقد عزمت على قتلهم عن آخرهم. فقال: إذا قتلتهم فهل تقدر على قتل الهواء الذي غذى طباعهم وخصهم بهذا الذكاء؟ فإن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم. فقال: ما الرأي؟ قال: من كان فيه هذا العقل كانت فيه أنفة وحمية وشراسة خلق، وقلة رضًا بالضيم؛ فاقسمها طوائف، وول على كل طائفة أميرًا، فإنهم يختلفون، فإذا اختلفوا فلت شوكتهم فغفلوا. فأقاموا مختلفين أربعمائة عام حتى جمعهم أردشير بن بابك وقال: إن كلمةً فرقت بيننا أربعمائة سنة لمشؤومة.
إياس بن معاوية أمام القاضي
ودخل إياس بن معاوية بن قرة الشام وهو صغير؛ فخاصم شيخًا إلى القاضي وأقبل يصول عليه، فقال القاضي: اسكت يا صبي. فقال: فمن ينطق بحجتي؟ قال: إنه شيخ كبير، قال: إن الحق أكبر منه. قال القاضي: ما أراك تقول حقًا؛ فقال: لا إله إلا الله. فركب القاضي من وقته إلى عبد الملك فأخبره فقال: عجل بقضاء حاجته وأخرجه من الشام لئلا يفسدها.
وبإياس يضرب المثل في الذكاء قال الطائي:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ ... في حلم أحنفي في ذكاء إياس
أحزم الملوك
1 / 33