فتبسم وقال: أما هذا فلا، ولكن نخلعها عليك صحيحةً فهي خير لك. ثم دعا بثياب فلبسها ونبذ ثيابه، وأمر له بعشرين ألف درهم ولصاحبه بعشرة آلاف درهم. وقال: لا تعودن لهذا. فقال صاحبه: إلا أن يحج أمير المؤمنين ثانية. فضحك وقال: ألحقوه بصاحبه في الجائزة.
في سوق القسي
قال إبراهيم الحراني: ثم قدمنا مكة فإني لفي سوق القسي أساوم بقوس عربية بكنانتها، إذ بإنسان عن يميني يقول: نعم القوس في يدك. قلت: أريد أبسط منها قليلًا؟ قال: فعندي بغيتك إئت المنزل، فصرت إليه، فأخرج إلي قوسًا جيدةً لينةً حسنة الصنعة، قلت: نعم! هذه أريد، فكم ثمنها؟ قال: عشرة دنانير، قلت: يا هذا، أغرقت في النزع، قال: هذا سومي، فهات سومك أنت. قلت بدينارين. فأحد النظر، وقال: وآتيك؛ فالذي كان يجب للطبيعة أن تأتي به تحول فصار ضحكًا. فقلت: غضب الله عليك، تطلق لسانك في حرم الله وأمنه في أيام عظيمة؛ فأنت بمثل هذه السن تتكلم بهذا الكلام!! فقال: هو ما قلت لك، إنما هو بيع وشراء، فلا تغضب؛ فإني لم أغضب من عطيتك.
قال: ففارقته، ودخلت على أمير المؤمنين، فقلت: يا سيدي؛ ههنا خبر أعجب من خبر ابن جريج! وحدثته الحديث، فقال: ارجع وجئني به، فوجهت غلامًا كان معي وأنا أساومه ومعه أعوان؛ فجاءوا به، فلما دخل عليه قال: هذا صاحبك يا إبراهيم؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! فقال الرشيد: ماذا قلت لهذا حين ساومك بالقوس؟ قال: قد دار بيني وبينه كلام. قال: أخبرني به. قال: لست مني على سوم فأخبرك. قال: فماذا قال لك؟ قال: هو أعلم بما قال. فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين؛ أخرج إلي قوسًا عربية بكنانتها، فقلت: بكم هذه؟ قال: بعشرة دنانير. قلت: أسرفت فخذ مني دينارين. قال: وآتيك. قال الرشيد: كذا كان؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنما هذا شراء وبيع ولم يتم لي بيعها بما أعطاني، وظننت أن بضاعته قليلة فقلت: آخذ دينارين وعروضًا بالباقي.
فضحك الرشيد حتى تبسط. ثم قال: قاتلك الله! فما أقبح مجونك! ووصله.
قال إبراهيم: فلما انصرفنا خارجين عن مكة مررت به، فوقفت عليه وسلمت عليه. فقال: ما ترى في تيك القوس؟ ألك فيها رأي؟ قلت: أما على شريطتك الأولى فلا. قال: فلا بأس فخذها مني بدينارين وغن لي ثلاثة أصوات، أو خذها بخمسة وأغنيك أربعة أصوات، ثلاثة لمعبد، وواحد لابن عائشة كان يفعل فيه ما أحل الله وحرم، قلت: هذا وحده. فاندفع يغني:
وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي ... وردّا على عيني فضل ردائيا
الشعر لمالك بن الريب المازني فأجاده ما شاء وحسنه. فقلت: لولا أن أمير المؤمنين قد قدمت له دابته لوقفت عليك. فقال: امض عليك السلام وإن كان في القلب ما فيه؛ إذ بخلت على أخيك بضمة أو ضمتين. قلت: ما لك لعنك الله! وفارقته، وحدثت أمير المؤمنين بما قال فقال: يا إبراهيم، تجد بالعراق طولًا وعرضًا واحدًا له ما لأهل الحرمين من الذكاء والظرف؟ قلت: لا أعرف موضعه.
الأشراف تعجبهم الملح
وقال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة وكان أعقل من رأيته:
يأيها السائل عن منزلي ... نزلت بالخان على نفسي
يغدو عليّ الخبز من خابزٍ ... لا يقبل الرهن ولا ينسي
آكل من كيسي ومن كسوتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: اكتب لي الأبيات. فقلت: أصلحك الله؛ هذا لا يشبه مثلك، إنما يروي مثل هذا الأحداث، قال: اكتبها لي، فالأشراف تعجبهم الملح.
وقد قال الطائي في عمرو بن طوق التغلبي:
الجد شيمته وفيه فكاهة ... سمحٌ ولا جدٌّ لمن لم يلعب
شرسٌ ويتبع ذاك لين خليقةٍ ... لا خير في الصهباء ما لم تقطب
وقال في الحسن بن وهب:
لله أيامٌ خطبنا لينها ... في ظله بالخندريس السلسل
بمدامةٍ نغم السماع خفيرها ... لا خير في المعلول غير معلّل
يعشو عليها وهو يجلو مقلتي ... بازٍ ويغفل وهو غير مغفل
لا طائشٌ تهفو خلائقه ولا ... خشن الوقار كأنه في محفل
فكهٌ يجمّ الجدّ أحيانًا وقد ... ينضى ويهزل عيش من لم يهزل
وقال أبو الفتح علي بن محمد البستي:
1 / 24