إذا خفيت كانت لعينك قرّةً ... وإن تبد يومًا لم يعمّك عارها
فقلت له: مثلك أصلحك الله يتغنى؟ أما والله لأحدون بها ركبان نجد، فعاود يتغنى:
فما ظبيةٌ أدماء خفّاقة الحشا ... تجوب بطفليها متون الخمائل
بأحسن منها إذ تقول تدلّلًا ... وأدمعها يجرين حشو المكاحل
تمتّع بذا اليوم القصير فإنّه ... رهينٌ بأيام الشهور الأطاول
فندمت على قولي وقلت: أتحدثني في هذا بشيء؟ قال: نعم! حدثني أبي أنه دخل على سالم بن عبد الله وأشعب الطماع يغنيه:
مغيريّة كالبدر سنة وجهها ... مطهرة الأثواب والدين وافر
من الخفرات البيض لم تلق ريبةً ... ولم يستزلها عن تقى الله شاعر
لها حسبٌ زاكٍ وعرض مهذّب ... وعن كل مكروهٍ من الأمر زاجر
فقال سالم: زدني، فغنى:
ألّمت به والليل داجٍ كأنه ... جناح غرابٍ عندما نفض القطرا
فقلت أعطّار ثوى في رحالنا ... وما حملت ليلى نشرها عطرا
فقال له سالم: أما والله لولا أن تداوله الرواة لأحسنت جائزتك؛ لأنك من هذا الأمر بمكان.
غناء ومزاح في مسجد رسول الله ﷺ
وقال إبراهيم الحراني: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد فدخلت مسجد رسول الله ﷺ؛ فبينا أنا بين القبر والمنبر إذ أنا برجل حسن الهيئة خاضب، ومعه رجل في مثل حاله؛ فحانت مني التفاتة فإذا هو يقوس حاجبه ويفتح فاه، ويلوي عنقه ويشير بعينه، فتجوزت في صلاتي ثم سلمت فقلت: أفي مسجد رسول الله ﷺ تتغنى؟! فقال: قنعك الله خزية، ما أجهلك! أما في الجنة غناء؟ قلت: بلى لعمري فيها ما تشتهي النفس وتلذ الأعين، قال: أما نحن في روضة من رياض الجنة؟ قلت: لا! قال: واحرباه! أترد على رسول الله ﷺ قوله: بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة! فنحن في تلك الروضة. قلت: قبح الله شيخًا ما أسفهه! قال: بالقبر والمنبر لما أنصت إلي؟ فتخوفت ألا أنصت؛ فاندفع يغني بصوت يخفيه:
فليست عشيات الحمى برواجعٍ ... إليك، ولكن خلّ عينيك تدمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
الشعر للصمة بن عبد الله القشيري.
فوالله إن قمت إلى الصلاة لما دخل قلبي؛ فلما رأى ما نزل بي قال: يا بن أم، أرى نفسك قد استجابت وطابت، فهل لك في زيادة؟ قلت: ويحك! في مسجد رسول الله ﷺ!! قال: أنا والله أعرف بالله ورسوله منك، فدعنا من جهلك؛ ثم تغنى:
فلو كان واشٍ بالمدينة داره ... وداري بأقصى حضرموت اهتدى ليا
وماذا لهم لا أحسن الله حفظهم ... من الشأن في تصريم ليلى حباليا
الشعر لمجنون بني عامر الملوح.
فقال له صاحبه: يا بن أم؛ أحسنت والله، وعتق أهلك، لو كان أمير المؤمنين الرشيد في هذا الموضع لخلع عليك ثيابه طربًا. قال: فقمت وهما لا يعلمان من أنا، فدخلت على أمير المؤمنين فأعلمته الخبر؛ فقال: أدركهما لا يفوتانك.
فوجهت من جاء بهما، فلما دخلا عليه دخلا بوجوه قد ذهب ماؤها، وأنا قائم على رأسه، فقال: يا إبراهيم؛ هذان هما؟ قلت: نعم. فنظر إلي المغني منهما وقال: سعاية في جوار رسول الله ﷺ؟ فسري عن أمير المؤمنين بعض غضبه، وتبسم فقال: ما كنتما فيه؟ قالا: في خير. قال: فماذا الخير؟ فسكتا. فقال للمغني منهما: من أنت؟ فابتدره جماعة فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا ابن جريج فقيه مكة، فقال: فقيه مكة يتغنى في مسجد رسول الله ﷺ!! قال: يا أمير المؤمنين؛ لم يكن ذلك مني بالقصد للغناء ولكني كنت أسمعت هذا المخزومي يعني صاحبه صوتين، فلم يزالا في قلبي حتى التقينا، فأحببت أن يأخذهما عني، فأخذهما، وحلف أني قد أحسنت، وأنه لو كان في الموضع أمير المؤمنين لخلع علي وسكت.
فقال الرشيد: تركت من الحديث شيئًا؟ قال: ما تركت شيئًا يا أمير المؤمنين. قال: والله لتقولن. قال: يا أمير المؤمنين، زعم أنك لو كنت في موضعه لخلعت علي ثيابًا مشقوقةً طربًا.
1 / 23