قال الشريف الأجل جمال الإسلام: ووقع لي جواب أخصر من هذا وأجود إن شاء الله وهو: أن يقول: الآية حجة عليكم، وأن القرآن ليس بمخلوق، وذلك أنه سبحانه وتعالى أفرد الخالق من المخلوق، فسمى نفسه خالقا، وسمى كل شيء دونه مخلوقا، فالخالق بجميع صفات الذات، غير مخلوق، لأن الاسم هو المسمى، على ما قررنا، وهذا صحيح، لأن الخالق هو الله العالم، القادر، المريد، المتكلم، وكلامه هو القرآن، فدل على أنه غير مخلوق، ولا داخل في الأشياء المخلوقة، والذي يفهم من ذلك؛ فإن كان عاقل يعلم أنه يصنع كل شيء غير ذاته بصفاتها من قدرته، وحياته، وعلمه، وكلامه. وكذلك إذا قيل آخذ الملك اليوم كل أحد، وصغر كل صفه وحقرها ومعلوم أن ذاته ما دخلت في المفعولين ولا دخلت صفاته في التحقير والتصغير فكذلك قوله: " الله خالق كل شيء " يعني غير ذاته. وذاته قديمة غير مخلوقة بجميع صفاتها، فصح أن الآية حجة عليهم لا لهم.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " فوصفه بالحدث والحدث هو الخلق الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الآية حجة عيهم، لأنها تدل على أن من الذكر ما ليس بمحدث، لأنه لم يقل ما يأتيهم من ذكر إلا كان محدثا. فثبت أن من الذكر ما هو قديم ليس بمحدث، فيجب أن يكون القرآن؛ لأن الإجماع قد وقع على أن كل ذكر غيره مخلوق، فلم يبق ذكر غير مخلوق. غير كلامه، سبحانه وتعالى.
الجواب الثاني: أن الذكر ها هنا يراد به وعظ الرسول صلى الله عليه وسلم لهم وتوعده لهم وتخويفه، لأن وعظ الرسل عليهم السلام يسمى ذكرا. يدل عليه قوله تعالى: " فذكر إنما أنت مذكر " ويقال: فلان في مجلس الذكر، يعني في مجلس الوعظ. الذي يحقق ذلك؛ أن قريشا لم تلعب عند سماع القرآن، ولكنها كانت تفحم عند سماعه، حتى قال عتبة: والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، وإن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة. وفزعوا أيضا أن تفتتن عند سماعه نساؤهم وأولادهم، حين كان يقرأ أبو بكر رضي الله عنه.
الجواب الثالث: أنه أراد ما يأتيهم من نهى محدث مجدد بعد نبي إلا استمعوه وهم يلعبون، هل هذا إلا بشر، وقد سمى الله تعالى رسوله ذكرا بقوله " رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا " .
فإن احتجوا بقوله تعالى: " وكان أمر الله مفعولا " " وكان أمر الله قدرا مقدورا " فالجواب: أنه تعالى أراد عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين، وما حكم به وقدره من أفعاله، وهذا بمنزلة قوله " حتى إذا جاء أمرنا " يعني ما أمرنا به من زيادة الماء وإغراق الكافرين من قوم نوح عليه السلام، ولم يعن قولنا وكذلك أيضا قال: " وما أمر فرعون برشيد " يعني شأنه وأفعاله وطرائقه، ولم يرد قوله وهذا بمنزلة قول القائل:
فقلت لها أمري إلى الله كله ... وإني إليه في الإياب لراجع
يعني سري وأفعالي، ولم يرد بذلك الأمر من القول، وجمع هذا أمور، وجمع الأمر من القول الأوامر، ولولا عجزهم وجهلهم لم يلجئوا إلى مثل هذا التمويه على العوام والجهال مثلهم. ولو نظروا إلى قوله تعالى: " وأفوض أمري إلى الله " تعالى أنه أراد أفعالي وأموري، دون أمره الذي هو قوله: " حتى يتبين لهم أنه الحق " ورجعوا إليه.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا " والمجعول مخلوق، بدليل قوله تعالى: " وجعلنا من الماء كل شيء حي " أي خلقنا؛ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى ذلك: إنما سميناه قرآنا عربيا، والجعل يكون بمعنى التسمية، بدليل قوله عز وجل: " الذين جعلوا القرآن عضين " يعني سموه؛ فبعضهم سماه شعرا، وبعضهم سحرا. وبعضهم كهانة، إلى غير ذلك. ولم يرد أنهم خلقوه. وكذلك قوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون " يعني سموهم وحكموا عليهم بذلك، ولم يرد أنهم خلقوهم. وكذلك قوله تعالى: " وجعلوا لله أندادا " يعني سموا. وكذلك قوله تعالى: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون " وفي القرآن مثل هذا كثير.
पृष्ठ 25