مسألة فأما الدليل على كون كلام الله قديما غير مخلوق، فمن الكتاب قوله تعالى " ألا له الخلق والأمر " فصل بين الخلق والأمر، فدل على أن المر غير مخلوق لأن كلامه أمر ونهي وخبر. وأيضا قوله تعالى: " والله يقول الحق " ويدل عليه أيضا قوله تعالى: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " ولو أن كلامه مخلوق لاحتاج في خلقه إلى قول يقول به كن واحتاج القول إلى قول ثالث، والثالث إلى رابع، إلى ما لا نهاية له، وهذا محال باطل، فثبت أن القول الذي تكون به الأشياء المخلوقة غير مخلوق، وهو كلامه القديم.
ويدل عليه من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم. فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه. فلما كان فضل الله على خلقه بقدمه ودوامه؛ لأنه غير مخلوق وهم مخلوقون، فكذلك القول في كلامه، فوجب أن يكون غير مخلوق، وكلامهم مخلوقا.
ويدل عليه أيضا: أن أبا الدرداء لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القرآن فقال: " كلام الله غير مخلوق " : ويدل عليه أيضا: إجماع الصحابة، وهو أن عليا عليه السلام لما أنكر عليه التحكيم وكفر الخوارج فقال بحضرة الصحابة: والله ما حكمت مخلوقا، وإنما حكمت القرآن، ولم ينكر ذلك منكر، فدل على أنه إجماع، ولأنه لو كان مخلوقا: لم يخل أن يكون خلقه في نفسه أو في غيره. أو في غير شيء، ولا يجوز أن يكون مخلوقا في نفسه لأن ذاته لا تقوم بها المخلوقات والحوادث يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ولا يجوز أن يكون خلقه في غيره، لأنه لو كان خلقه في غيره لكان ذلك الغير إلها، آمرا، ناهيا قائلا: " يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " وهذا محال باطل، ولا يجوز أن يكون خلقه في غير شيء، لأنه يؤدي إلى وجود كلام من غير متكلم وهذا محال. فإذا ثبت بطلان هذه الثلاثة الأقسام لم يبق إلا أنه غير مخلوق، بل هو صفة من صفات ذاته، قديم بقدمه، موجود بوجوده موصوف به، فيما لم يزل وفيما لا يزال. ولا يجوز أن يباينه، ولا يزايله، ولا يحل في مخلوق، ولا يتصف بالحول رأسا، فاعلم ذلك وتحققه.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " الله خالق كل شيء " وربما قرر عليك هذا السؤال والدليل، كما قرره بشر المريسي علي عبد العزيز المكي وهو: أنه قال له: أتقول إن القرآن شيء أو ليس بشيء ؟ فقال: بل هو شيء، فقال يا أمير المؤمنين سلم أن القرآن مخلوق، لأن الله تعالى قال: " الله خالق كل شيء " والجواب أن يقال: في أول الأمر أي شيء أردت بقولك إنه شيء فإن أردت أنه موجود ثابت فنعم، وإن أردت بقولك إنه شيء كالأشياء من حيث خروجه من العدم إلى الوجود كالأشياء الموجودة بعد العدم فلا نقول ذلك.
والموجود الثابت لا يدل على أنه مخلوق محدث، فإن الله موجود ثابت دائم الوجود ليس بمخلوق. وأما الجواب على جملة خالق كل شيء فالمراد به الخصوص دون العموم فإنه بعضه قطعا وأنه غير داخل في ذلك كما سمى نفسه، فقال: " كتب على نفسه الرحمة " ثم قال: " كل نفس ذائقة الموت " ولا تدخل نفسه في ذلك، وإنما المراد به كل نفس منفوسة مخلوقة، كذلك قوله: " الله خالق كل شيء " يعني مما يصح فيه الخلق والحدث، وصفات ذاته قديمة بقدمه وموجودة بوجوده، فلم تدخل في ذلك. ومثل هذا في القرآن كثير، فإن الله تعالى قال فيما أخبر به عن داود وسليمان عليهما السلام: " يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء " ولم يؤتيا سماء ولا أرضا، ولا شمسا ولا قمرا ولا جنة، ولا نارا، ولا ملائكة، ولا عرشا، ولا غير ذلك، وإنما أراد أوتينا من كل شيء ينبغي لمثلنا. وكذلك قوله في قصة بلقيس: " وأوتيت من كل شيء " : ومعلوم أنها لم تؤت النبوة، ولا تسخير طير، إلى غير ذلك؛ إنما أراد به الخصوص دون العموم، لأنها ما دمرت هودا، ولا السماء، ولا الملائكة، ولا الجبال، إلى غير ذلك.
पृष्ठ 24