وما إن قال هذا، حتى لبس عدته الحربية الجميلة. والآن، هل تحين خاتمة حياتك يا مينيلاوس، على يدي هكتور - نظرا لأنه يفوقك قوة بمراحل - إذ لم يتقدم ملوك الآخيين فيمسكوا بك؟ لقد أمسك أجاممنون، الواسع الملك، باليد اليمنى لأخيه ابن أتريوس، قائلا له: «إنك لمجنون، يا مينيلاوس، يا من انحدرت من زوس، ولا يليق بك هذا الجنون، تراجع إلى الوراء، مهما يكن حزنك، ولا تصمم في حمية المنافسة على أن تنازل من يفضلك - وأقصد هكتور بن بريام، الذي يرهبه غيرك! - إن أخيل نفسه ليرتجف من لقاء هذا الرجل في حرب يفوز فيها الرجال بالمجد، رغم أنه يفضلك كثيرا. هيا، الآن، واجلس في زمرة أترابك، وسيقدم الآخيون بطلا آخر ضد هذا الرجل. ومهما يكن هكتور بعيدا عن الخوف، متعطشا إلى القتال، فإنني أعتقد أنه سيغتبط بأن يثني ركبتيه للراحة، ولو فعل لنجا من وطيس الحرب والقتال المفزع.»
هكذا تكلم ذلك المحارب، فثنى عزم أخيه؛ إذ كان سديد النصح. وحين أطاعه مينيلاوس، ابتهج خدمه بأن ينزعوا عن كتفيه عدته الحربية، ونهض «نسطور» يتحدث وسط الأرجوسيين، فقال: «ويحكم! فما أعظم الحزن الذي يجثم بحق على أرض آخيا. ولكم سيعلو أنين الشيخ «بيليوس»، سائق العربات هذا، والمستشار العظيم، وخطيب المورميدون، الذي استجوبني ذات مرة في بيته، وسر كثيرا إذ علم بسلسلة نسب الأجوسيين جميعا ومولدهم. إنه لو سمع بأن هؤلاء قد جبنوا اليوم جميعا أمام هكتور، لرفع يديه في ضراعة عاجلة إلى الخالدين، لتفارق روحه جسده وتذهب إلى بيت هاديس. أي أبتاه زوس، ويا أثينا، ويا أبولو، ليتني كنت صغيرا عندما اجتمع «البوليون» و«الأركاديون» - الذين يثورون بالرماح - بجوار كيلادون، وقاتلوا تحت أسوار فيا وحول روافد نهر أياردانوس. فلقد وقف إلى جانبهم «أريوثاليون» كبطل، وكان رجلا يشبه الآلهة، يحمل على كتفيه عدة الملك «أرايثوس» الحربية، أرايثوس العظيم الذي كان الرجال والنساء ذوات الزنانير الجميلة، يتوقون إلى تسميته برجل الصولجان؛ لأنه لم يكن يقاتل بالقوس أو الرمح الطويل وإنما بصولجان من الحديد كان يفرق الكتائب. وهذا الرجل قتله «لوكورجوس» بالمكر - وليس بالقوة إطلاقا - في ممر ضيق، حيث لم ينقذه صولجانه من الهلاك؛ إذ انقض عليه «لوكورجوس»، وهو غير منتبه، وطعنه برمحه في وسطه، فارتد إلى الوراء وسقط على الأرض ثم جرده من عدته الحربية - التي كان «أريس» البرونزي قد أعطاه إياها - وارتدى هو تلك العدة، حتى إذا أدرك الكبر لوكورجوس - في عقر قصره - خلعها على خادمه العزيز «أريوثاليون» كي يرتديها. فلما ارتداها «أريوثاليون»، تحدى خيرة الشجعان جميعا، غير أنهم ارتجفوا وذعروا، ولم يجد أي رجل منهم الشجاعة التي تمكنه من الصمود أمامه ، ولكن قلبي الجسور عزم على قتاله بكل بسالتي، رغم أنني كنت أصغر الجميع سنا. وهكذا قاتلته، ومنحتني أثينا المجد. وكان أطول وأقوى رجل صرعته طول حياتي ، فارتمى على الأرض ككتلة ضخمة، وتمدد في هذا الاتجاه وذاك. ليتني كنت الآن في ذلك الشباب، وليت قوتي كانت في شدتها الأولى، إذن لوجد هكتور - ذو الخوذة البراقة - من يواجهه، في حين أنكم يا رؤساء جيش الآخيين جميعا، لم تبدوا أية نية على لقاء هكتور وجها لوجه!»
هكذا وبخهم الرجل الكهل «نسطور»، فإذا كل من نهض منهم تسعة؛ أولهم ملك البشر «أجاممنون»، ثم ابن توديوس «ديوميديس» القوي، وبعدهما الأيانتيس - المتسربلان بالحماسة الجياشة - ثم «إيدمينيوس»، ورفيقه «ميريونيس»، نظير «إينوليوس» قاتل البشر ومن بعدهم «يوروبولوس»، ابن يوايمون المجيد، كما نهض ثواس بن أندرايمون، و«أوديسيوس» العظيم. كل هؤلاء عقدوا العزم على مقاتلة هكتور العظيم. عندئذ وقف في وسطهم ثانية الفارس «نسطور» الجيريني وقال: «ألقوا الأزلام الآن - بالقرعة - لمعرفة من الذي يقع عليه الاختيار؛ لأنه حقا سيفيد الآخيين المدرعين جيدا، كما أنه سوف ينتفع هو شخصيا، إن قيض له أن ينجو من صراع القتال والنزال المخيف!»
وإذ قال هذا، عينوا لكل واحد زلمه، وألقوا الأزلام في خوذة أجاممنون ابن أتريوس، وصلى كل الجيش، رافعين أكفهم للآلهة. وهكذا اتجه كل فرد ببصره نحو السماء الفسيحة الأجواء، وراح يردد: «أبتاه زوس، ليخرج زلم أياس أو ابن تيديوس أو ملك موكيني الغنية بذهبها.»
هكذا قالوا، وهز الفارس «نسطور الجيريني» الخوذة، فظهر زلم الشخص الذي كانوا يريدونه هم أنفسهم: «أياس». ثم حمل المنادي الزلم وجاس به خلال الجيش - من اليسار إلى اليمين - وأراه لجميع رؤساء الآخيين، ولكنهم لم يعرفوه، وأنكره كل واحد منهم. حتى إذا بلغ المنادي - في طوافه بالجيش - الرجل الذي كان قد علم الزلم وألقاه في الخوذة، «أياس» المجيد، مد «أياس» يده، فاقترب المنادي ووضع فيها الزلم، فتعرف عليه «أياس» لأول وهلة من العلامة التي عليه. فاغتبط في قرارة نفسه. ثم ألقى بالزلم على الأرض بجانب قدمه، قائلا: «أيها الأصدقاء، ما من شك في أن هذا زلمي، وإن قلبي ليبتهج؛ لأنني أوقن بأنني سأقتل هكتور العظيم، ولكن هيا الآن، وبينما أرتدي عدتي الحربية، صلوا في صمت - وفي سرائركم - للملك زوس بن كرونوس، كي لا يعرف الطرواديون شيئا من هذا. أو صلوا جهرا - إن شئتم - إذ إننا لا نخشى أحدا على أية حال، فلن يقسرني أي فرد على الفرار بإرادته، رغم إرادتي بل ولا بمهارته، فلست أعتقد أن أية مهارة تعدل أنني ولدت ونشأت في سالاميس!»
هكذا قال، فصلى القوم للملك زوس بن كرونوس، وهم يرفعون أبصارهم نحو السماء الواسعة، قائلين: «أبانا زوس، يا من تحكم من «أيدا»، أيها الأمجد، وأيها الأعظم، امنح «أياس» النصر حتى يفوز بالصيت الأمجد. أما إذا كنت تحب هكتور أيضا، وتهتم به، فامنح كليهما بأسا ومجدا متساويين.»
وإذ قالوا هذا، تهيأ أياس في حلته البرونزية البراقة. وبعد أن ارتدى كامل عدته الحربية، أسرع على هذه الصورة وكأنه «أريس» الضخم يتقدم إلى المعركة وسط المحاربين الذين جمعهم ابن كرونوس ليتقاتلوا في معمعة القتال «ملتهم النفوس».
وعلى هذه الصورة قفز أياس الضخم - حصن الآخيين - تعلو وجهه الصارم ابتسامة عريضة، وخطا بقدميه خطوات واسعة، ملوحا برمحه الطويل الظل. فما إن رآه الأرجوسيون حتى عم السرور أفرادهم، بينما زحفت على الطرواديين رجفة سرت في أعضاء كل رجل، وأسرعت دقات قلب هكتور في صدره. ومع ذلك فإنه لم يستطع - بأية حال - أن يفر أو يتقهقر عائدا إلى حشد الجيش؛ نظرا لأنه هو الذي دعا للنزال. فاقترب «أياس» يحمل ترسه الشبيه بسور مدينة، ترسا من البرونز تكسوه سبع طبقات من جلد الثور، جهد في صنعه «توخيوس» أمهر المشتغلين بصناعة الجلود، وكان يقيم في هولي. ولقد صنع له الترس اللامع ذا الطبقات السبع من جلود الثيران القوية، ثم كساها بطبقة ثامنة من البرونز. وحمل «أياس التيلاموني» ذلك الترس أمام صدره وأقبل يقف دانيا من هكتور، وهدده بقوله: «أي هكتور، ستعرف الآن قطعا أي نوع من الرؤساء يوجد بين الدانيين، حتى بعد اعتزال «أخيل»، مشتت صفوف الرجال، وذي قلب الأسد. إنه يقبع الآن وسط سفنه ماخرة البحار - ذات الأطراف المدببة - وقد طوى نفسه على غضب شديد من أجاممنون بن أتريوس - راعي الجيش - ومع ذلك فإننا لقادرون على مواجهتك. نعم، ما أكثر القادرين منا، والآن فلتبدأ الحرب والقتال!»
فأجابه هكتور العظيم، ذو الخوذة البراقة قائلا: «يا أياس، يا سليل زوس، يا ابن تيلامون، قائد الجيش، ليس لك أن تستدرجني، كما لو كنت غلاما ضعيفا أو امرأة لا تعرف أعمال الحرب. بلى، إني لأعرف تمام المعرفة شئون المعارك ومذابح الرجال. وأعرف تمام المعرفة كيف أميل يمينا، وكيف أميل يسارا بترسي المصنوع من الجلد المجفف، الذي أعتقد أنه خير ما يستعمل في القتال، كما أعرف كيف أهجم في وسط العربات التي تجرها الأفراس السريعة، وأعرف كيف أسلك في الالتحامات مسلك أريس المهتاج. ومع ذلك فلست مزمعا أن أنزل بك ضربتي في غفلة منك - وأنت من أنت بين الرجال - وإنما سأنزل بك ضربتي جهارا، عسى أن أطيح بك.»
وإذ تكلم هكتور هكذا، رفع رمحه الطويل الظل، وقذف به، فأصاب ترس «أياس» الهائل ذا الطبقات السبع من جلد الثور التي يعلوها البرونز الخارجي مكونا الطبقة الثامنة، فمرق البرونز من خلال ست طبقات، وتوقف عند الطبقة السابعة للجلد. وإذ ذاك أطلق «أياس» - سليل الإله - رمحه الطويل الظل، فأصاب ترس ابن بريام، المتزن جيدا من كل جانب. فمرق الرمح القوي خلال الدرقة المرصعة بسخاء، وشق طريقه مباشرة بجوار جنبه، ونفذ من عباءته، ولكن هكتور انحرف جانبا، فنجا من الموت الأسود.
अज्ञात पृष्ठ