تقديم بقلم المترجم
رأي المرحوم الدكتور محمد مندور
جولة سريعة في ربوع الإلياذة
شخصيات الملحمة
هوميروس
القصائد الهومرية
الملخص
التلاوات البان أثيناوية
النصوص الهومرية
لغة شعر البطولة
المقارنة بين الإلياذة والأوديسة
أبطال القصيدتين
كتبت الأوديسة في تاريخ لاحق
هل كان هوميروس في إيثاكا؟
أهو هوميروس أخيرا؟
النقد الإغريقي لهوميروس
نشأة السؤال الهوميري
دارت العجلة في دائرة كاملة
تصوير هوميروس لنفسه
الإيحاء الهوميري
الأنشودة الأولى
الأنشودة الثانية
الأنشودة الثالثة
الأنشودة الرابعة
الأنشودة الخامسة
الأنشودة السادسة
الأنشودة السابعة
الأنشودة الثامنة
الأنشودة التاسعة
الأنشودة العاشرة
الأنشودة الحادية عشرة
الأنشودة الثانية عشرة
الأنشودة الثالثة عشرة
الأنشودة الرابعة عشرة
الأنشودة الخامسة عشرة
الأنشودة السادسة عشرة
الأنشودة السابعة عشرة
الأنشودة الثامنة عشرة
الأنشودة التاسعة عشرة
الأنشودة العشرون
الأنشودة الحادية والعشرون
الأنشودة الثانية والعشرون
الأنشودة الثالثة والعشرون
الأنشودة الرابعة والعشرون
تقديم بقلم المترجم
رأي المرحوم الدكتور محمد مندور
جولة سريعة في ربوع الإلياذة
شخصيات الملحمة
هوميروس
القصائد الهومرية
الملخص
التلاوات البان أثيناوية
النصوص الهومرية
لغة شعر البطولة
المقارنة بين الإلياذة والأوديسة
أبطال القصيدتين
كتبت الأوديسة في تاريخ لاحق
هل كان هوميروس في إيثاكا؟
أهو هوميروس أخيرا؟
النقد الإغريقي لهوميروس
نشأة السؤال الهوميري
دارت العجلة في دائرة كاملة
تصوير هوميروس لنفسه
الإيحاء الهوميري
الأنشودة الأولى
الأنشودة الثانية
الأنشودة الثالثة
الأنشودة الرابعة
الأنشودة الخامسة
الأنشودة السادسة
الأنشودة السابعة
الأنشودة الثامنة
الأنشودة التاسعة
الأنشودة العاشرة
الأنشودة الحادية عشرة
الأنشودة الثانية عشرة
الأنشودة الثالثة عشرة
الأنشودة الرابعة عشرة
الأنشودة الخامسة عشرة
الأنشودة السادسة عشرة
الأنشودة السابعة عشرة
الأنشودة الثامنة عشرة
الأنشودة التاسعة عشرة
الأنشودة العشرون
الأنشودة الحادية والعشرون
الأنشودة الثانية والعشرون
الأنشودة الثالثة والعشرون
الأنشودة الرابعة والعشرون
الإلياذة
الإلياذة
تأليف
هوميروس
ترجمة
أمين سلامة
تقديم بقلم المترجم
راودتني فكرة ترجمة إلياذة هوميروس منذ أن كنت طالبا بقسم الدراسات القديمة بجامعة القاهرة؛ فقد استهوتني وداعبت خيالي ووجداني، ونزلت من نفسي مكانة عظمى، وأحسست بأن رباطا قويا يربطني بمؤلف هذه الملحمة الفذة الفريدة.
أخذت أقضي الليالي وأنا أقرأ سطورها اليونانية الصعبة، وكلما قطعت منها شوطا ازددت التصاقا بالنص وبالأفكار الواردة بين سطور هذا العمل الجليل الجبار الفائق الروعة والجمال.
وكان لا بد لي، في هذه الفترة المتقدمة من سني حياتي، وفي مرحلة الاستيعاب والإلمام والتعليم، أن أستعين بالترجمات المختلفة، سواء كانت إنجليزية أو فرنسية ... وكنت لا أترك كلمة كتبت بالعربية عن هذا العمل الأدبي الأول، الذي عرفته البشرية جمعاء في صورته الشعرية البارعة وفي متانة سبكه وطلاوة عباراته وقوة موضوعه، وسلاسة أسلوبه، وجبروت مؤلفه حتى أحاول فهم كافة معانيها واتجاهاتها، وما يرمي إليه كاتبها، حتى وجدتني عاجزا عن تفهم كل ما كتب، وتضاربت الآراء أمامي، وتعددت وجهات النظر، واختلط علي النص اليوناني اختلاطا خطيرا.
أشار علي أساتذتي الأجلاء بأن أعود إلى الترجمة العربية التي وضعها البستاني وصاغها في قالب شعري يستحق التقدير والثناء، غير أنني صدمت لأنني وجدت ترجمة البستاني قد شردت عن النص اليوناني الأصلي، وتركت فجوات، وأضافت من عندها زيادات لا وجود لها في ملحمة هوميروس، التزاما منها بالقافية والوزن الشعري. كما وجدت أن الشعر نفسه غامض كل الغموض، ولا يشجع بحال ما على القراءة الممتعة، كما يضفي على الإلياذة حالة من السرية والتعقيد تنفر منهما النفس والروح والعقل، فاكتأبت نفسي وحزن فؤادي، ونحيت البستاني جانبا، وآليت على نفسي ألا أعود إليه أبدا حتى لا تتأذى نفسي وتتأزم بصورة أشد وأنكى، وحتى لا تتولد عندي نحو هوميروس كراهية لا يستحقها، ونفور لا أشتهيه لشخصي نحوه.
لم تهدأ نفسي الصغيرة، وهي في طور التعلم والدرس إلا عندما استقر في فؤادي، أن تكون إلياذة هوميروس هي شاغلي الأول بعد تخرجي، أعطيها روحي وشبابي، وأهبها حيويتي ووقتي حتى أترجمها ترجمة صحيحة يفيد منها القراء، وأجعلهم يحبونها كما أحببتها، ويحبون صاحبها قدر حبي له بل أكثر، وحتى تتزود المكتبة العربية بأول ترجمة نافعة، وصادقة، مجدية، ودقيقة وافية، وكاملة شاملة، مذيلة بصورة يقرؤها الناس فيفهمونها، ويقصدها الخاصة والعامة فيتلذذون منها، ويخلد إليها الهاوون فيذكرونها بالخير والشكر والتقدير.
لذلك أستطيع أن أقول - بصراحتي المعهودة - أنني شرعت في ترجمة هذا الشعر الجليل، وأنا بعد طالب في السنة الثالثة من حياتي الجامعية، نعم، شرعت في صمت الراهب، ولم أكن واثقا آنذاك، من أنني سأتمكن في يوم ما، من أن أنجزه أو أصل به إلى حد الكمال والتمام، ثم شغلت في السنين الأولى بعد تخريجي، في أعمال أخرى برزت أهميتها، كالإعداد للحصول على درجة الماجستير، وتأليف أول كتاب عرفته مصر في تعليم مبادئ اللغة اليونانية القديمة، وآخر في تعليم مبادئ اللغة اللاتينية. وكاد تيار التأليف يجرفني فينسيني تماما ذلك العهد الذي قطعته على نفسي وأنا طالب، والذي كنت قد بدأت فيه فعلا، ولم أفق إلى نفسي وأصح لعهدي القوي الصادق إلا بعد أن اهتز مركزي في الجامعة واهتزت حياتي هزة شديدة، فوجدت نفسي - بلا جريرة - في الطريق العام، لا أفيد ولا أستفيد، وتوقف عمري وضاقت الدنيا أمام ناظري، وأظلمت الحياة من حولي، وصرت في حيرة من أمري، وكاد اليأس يدب في أوصالي ويفقدني حبي للحياة والدنيا وذاتي.
تذكرت الإلياذة الحلوة، ووجدت نفسي معها، أنا وهي ولا ثالث لنا إلا الله سبحانه وتعالى، فاستعنت به واستغثت برضوانه كي يساعدني ويشد من أزري ويقويني على نسيان مأساتي، وشعرت أنكب على العمل الذي طالما شغلني وداعب فكري وخيالي، وكانت المعجزة، كان الوقت عندي واسعا فسيحا، فليس لدي عمل يستنفد طاقتي أو يستهلك وقتي الثمين، ولست مرتبطا بأي رباط أو مسئوليات تستوجب مني إنفاق الوقت وتبديده، وعشت على الكفاف، وكنت كلما أنجزت صفحة من الترجمة أشبع وأرتوي وأرتاح قليلا كأنني أكلت وجبة شهية مبتغاة منتقاة.
حملت الترجمة معي إلى السودان حيث جاد الله علي بعمل هناك في التدريس، ولم يكن العمل هناك مرهقا بقدر ما كان الحر معوقا، وبعد أن تعرضت لأزمتين صحيتين شديدتين كدت أموت خلالهما، تأقلم الجسد وتعود جو السودان، وزالت الغمة، فتفرغت تماما للترجمة بالساعات الطوال أقضيها عصر كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل، وساعدني جو العزلة والتفرغ كثيرا، وكأن الله، جلت قدرته، قد أراد لي كل ذلك حتى يتحقق حلم التلمذة، فأقدم للعالم العربي أول ترجمة مستساغة لا يمجها القارئ، لا تصد نفسه عن الإقبال عليها ومواصلة قراءتها بارتياح واشتياق واستمتاع.
وانتهى العمل بعد خمس سنوات كاملة لم أنشغل فيها بأي عمل أدبي آخر، ولكن فرحتي لم تكتمل إذ تعذر علي العثور على الناشر الذي يستطيع أن يقدم على نشر هذا العمل الكبير الجديد في موضوعه، القديم في فكرته، العتيق في قيمته، العظيم في مكانته.
صدمت إذ بقيت الترجمة حبيسة مكتبي وأسيرة حجرتي سنتين كاملتين، ظللت طوالهما أراجع وأصحح وأنقح وأجود وأمحص وأدقق وأتفنن، وفجأة أشرقت الشمس الدافئة على الإلياذة الكسيرة الأسيرة، فاشتراها مني من كان يعلم حق قدرها وقيمتها ومكانتها وصلاحيتها. ولم أدقق معه في السعر، وقبلت أن يشتريها مني لقاء حفنة صغيرة من الدريهمات؛ إذ كان جل همي وأملي أن ترى إلياذتي النور، وتخرج بسطورها من قمقمها وسجنها المظلم الأبدي، وزنزانتها الكئيبة الموحشة، وتشع بنورها الساطع على العالم. ولا يمكنني أن أنكر بأية حال أن الأستاذ الكبير حلمي مراد صاحب مطبوعات «كتابي» الشهيرة، قد وفى هذا العمل البالغ الأهمية كل حقه، فطبعه طبعة أنيقة شيقة طيبة جيدة في حدود إمكانياته المتاحة، ولم يبخل عليها بالدعاية اللازمة حتى أصبح رجل الشارع يعرف الإلياذة، أو بالأصح يسمع عنها ويتحدث بما تتضمنه من أحداث وروائع، إن جاز لي هذا الافتراض.
نفدت أعداد الإلياذة المطبوعة في ثلاثة أجزاء، نعم، نفدت كلها، وكان المطبوع منها بالآلاف، واعتبر كل من حظي بنسخة منها، أنه قد فاز بكنز ثمين، وغنم غنما هائلا، وزود مكتبته بكتاب نافع جدا، هو الأصل، بل هو جذور الأدب في العالم كله.
وراحت الأيام تجري، والسنون تعدو عدوها السريع، والناس لا ينسون أبدا إلياذة هوميروس ولا اسم ناشرها أو اسم مترجمها. وهكذا اقترن اسمي بهذا العمل الجليل الكبير الخطير، وكنت بعد ذلك قد عكفت على ترجمة الملحمة زميلتها، وهي «أوديسة هوميروس»، التي شاء سوء حظها أيضا أن يظهر منها الجزء الأول أما الجزء الثاني، فقد ظل سنوات دون أن يظهر أو ينشر، إلى أن رأت دار الفكر العربي لصاحبها الأستاذ محمد محمود الخضري، ضرورة ظهور الأوديسة كاملة في مجلد واحد يليق بمكانتها ومكانة مؤلفها، وقد كان. وكان لظهورها وقع كبير في جميع الأوساط الأدبية، وتناولها النقاد بالحمد والثناء والتقدير.
واليوم تعود دار الفكر العربي من جديد، وبإصرار شديد، تريد العودة إلى نشر إلياذة هوميروس في مجلد واحد، وبصورة محترمة فذة جليلة تخدم النص، وتحفظ للإلياذة هيبتها ومكانتها في دنيا الفكر والأدب العريق، ولكي يكون لها فضل احتضان أعمال هوميروس، أول شاعر عرفته البشرية، وأول من عرف الناس بالأدب الملحمي ووضع بذور فن الأدب والإنتاج الأدبي، على أرقى صوره وأشكاله، موضع التنفيذ، فولد على يديه عملاقا شامخا بصورة لم تشهد البشرية له ضريبا حتى يومنا هذا، وهيهات.
والملحمة التي بين يديك أيها القارئ العزيز، قديمة المضمون عتيقة الفكر والفحوى والمكنون، ولكنها زاخرة بالروعة والجمال، وبالمعاني الراقية والمفاهيم السامية والتعاليم النادرة، والغريب، أنها تدور كلها في ساحة القتال بين جيشين، ومع ذلك فإنها تشدك وتشدوك معا؛ لأنها ترسم لك صورا نادرة من البطولة الفذة الرائعة، وتجسم لك خيالا أشد واقعية من الواقع، وأقسى إيلاما من الألم ذاته، وأروع جمالا من الجمال نفسه.
كل من يقرأ شيئا عن أبطال هذه الملحمة القوية، يزدد إعجابا بقدرة هوميروس، ذلك الكاتب الأعمى، الذي راحت البلاد تتنافس وتتشاحن ... كل تريد أن يكون لها شرف انتسابه إليها، نعم إن قدرته على خلق هذه الأفكار العميقة المثيرة، وتصويرها بما صورها به من إبداع خلاق يفوق الإبداع نفسه، وبجدارة حسدته عليها البشرية جميعا، جعلته يستحق بجدارة أن يكنى بأبي الشعراء والأدباء والكتاب والمفكرين أجمعين.
ولسوف أتركك لنهمك كي تعب من الإلياذة ما طاب لك أن تعب، بقدر ما يتحمله عقلك وفكرك وصبرك، وكلي ثقة بأنك إذا ما ذقت بعض طعمها ما كففت أبدا عن الاستمرار في أن تنهل منها وتتزود بزادها، ولن ألبث حتى أراك قد التهمتها التهاما، إلى أن شبعت نفسك وفاض منها، وأتخم عقلك، وسمنت روحك، ثم أحسست بعد ذلك بحاجتك الملحة إلى ضرب من الراحة والاستجمام الطويل، كي تجتر وتهضم ما امتلأ به جوفك وكيانك وجنانك، من وجبة غذائية دسمة، قد يتحملها جهازك الهضمي، وقد لا يتحملها ويرهق.
وأبطال الإلياذة من البشر، أحيانا، ومن أنصاف الآلهة أحيانا أخرى، ومن الآلهة الأوليمبيين تارة ثالثة، وهذه الحرب التي نقرأ عنها، رغم كونها استمرت تسع سنوات طوال، إلا أن هوميروس لا يسجل منها في إلياذته إلا أحداث العام التاسع وحده، والحمد لله على أنه فعل ذلك؛ لأنه استعرض أحداث هذه المدة المحدودة القصيرة في خمسة وعشرين ألفا من أبيات الشعر الأيوني الوزن والقافية واللهجة، وهذه لهجة يونانية قاسية تختلف عن اللهجة الأتيكية السليمة، التي تدرس بها اللغة اليونانية القديمة في جميع أنحاء الدنيا، مما ضاعف من تعقيد النص وصعوبته أمام القارئ والمترجم والدارسين بصفة خاصة.
لعل أبرز الأسماء الجديرة بالذكر والتي تستحق الالتفات والاهتمام معا هي أسماء كل من الأبطال: أجاممنون وأخيل (أو أشيل) وهكتور وباريس وبريام (أو برياموس). فمن يتابع أعمال هؤلاء الأبطال، وتحركاتهم وتصرفاتهم في ساحة الوغى، لا يسعه إلا أن يشيد بعظمتهم وقدرتهم وقوتهم، وهائل إرادتهم وعزيمتهم وصبرهم وجلدهم وصمودهم بصورة لم يسمع عنها من قبل، ولم نقرأ عن أمثالها في أية حقبة من الأحقاب القديمة أو الحديثة على حد سواء.
ورغم خلو هذه الملحمة الجبروتية من عنصر النساء، فإنها قامت بسبب امرأة كان الأغارقة يعتبرونها أجمل نساء العالم طرا، كانوا يرونها غادة هيفاء، بديعة الحسن والتكوين، فريدة المثال والجمال لها وجه يخجل الأقمار، ويشتهي ندى الصباح أن يستقي منه نقاوته، ذاته عينين دعجاوين غارقتين في السواد، نجلاوين بالغتي الاتساع ... في وجهها هدوء، وفي عينيها صفاء، ولصورتها رواء ... حسناء متناسبة الطول، متناسقة العرض، مرفوعة الرأس، وضاحة الجبين ... تسير في طريقها فلا تنحرف ولا تميل ... ثيابها غالية وحليها ثمينة وعطرها زكي، وصوتها عذب ساحر، كأنه أنغام فرقة موسيقية كاملة بارعة تعزف لحنا شجيا حلوا ... تجتذب بظاهر فتنتها قلبا بعد قلب وتوردها موارد المنون ... طلقة المحيا، وادعة الأسارير، يزهو وجهها في إطار من خمار أسود قشيب، قد نصبته شركا لألوان من الإيذاء ... جبينها ناصع كالصراحة، ونظرتها باترة كالعزيمة، ضحكتها مدوية كالحرية، ولمعة تفكيرها العبقري تجثم في عمق عينيها كما يجثم سر الحياة الكبرى في مركز بدنها الغض الجميل، فمها ينبوع ماء حي يود أن يعب منه كل ظمآن، وأسنانها بيض كياسمين منضد، صقيلة لامعة كأندر وأغلى اللآلئ ... خدها آنية من فضة يحف بها إطار من مرمر وورد. أنوثتها خالصة ناضجة لا يلطفها الخفر، بل يضاعفها إغراء وفتنة ... ممشوقة القوام في شموخ ساطع، جريئة الروح في نقاء ناضر، مشبوبة القلب مضطرمة العاطفة، هي أروع في التألق والتحدي من الشمس في كبد السماء ... لها فم شتيت حلو أودعت فيه السماء أسرارها، وصبغته عرائس الفنون بحمرة القبل؛ فهو دائم الابتسام، كل ابتسامة منه تحيي وتميت ... لها عنق طويل بلوري شفاف، وجسد رخص مرمري، وساقان ملتفتان، يختلط في بشرتها بياض الندف بحمرة الورد ... أهدابها كحيلة طويلة سوداء، ذات وطف ... وباختصار، كانت أنثى جميلة فائقة الحسن فاتكة اللحظات، رائعة القسمات، لم تطلع الشمس على أنضر منها وجها، ولا أملد عودا، ولا أشد إغراء وفتنة ... جرى حديث جمالها الفاتن من فم إلى فم، وتنقل من دار إلى دار، حتى أصبحت مضرب المثل بين فتيات المدينة، ومقياس الجمال كلما عرض ذكر الجمال، إذ كان لها وجه كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر، أو تبلج الحق بين ظلمات الشكوك ... به عينان حوراوان امتزجت فيهما صولة السحر بنشوة الخمر، فكانتا شباك الفتنة لصيد القلوب ... وأنف أحسن الله تقويمه وأبدع تكوينه فزاد وجهها جمالا ... وثغر دري ياقوتي، تهيم به الشفاه، وتحوم حوله القلوب عطاشا كما تحوم طيور الصحراء حول معين الماء العذب النمير ... لها صدر صافي البياض ممتلئ بالأنوثة الملتهبة، يعبث بالعقول، كأنما قد صيغ من لجين براق، استعارت من الزنبق لينه فظهرت ناصعة رجراجة ... قد فرع عودها، وبرز نهداها، وترنح خصرها تحت الثوب الفضفاض الذي يستتر فيه جسدها الفتي المتفجر أنوثة وحياة، كما استدار وجهها وأناره جبين مشرق وضاء كأنه الهلال الوليد يطل من الأفق على عينين سوداوين كأن أهدابهما الطويلة الساجية غلائل ليل حالك السواد ... إذا تقدمت ترنو وتبتسم وتهتز، وتشد ثديا مثمرا فتجلب نعيما، وتثني ذراعا ملتفة عبلة، وتميل برأسها الذي كله خدود وعيون وأصداغ وأهداب كظلال الخلد ... تطل عليك بوجه صبوح جميل كالأماني، فاتن كوريقات الورد، مشرق كالضحى ... لها شعر طويل ناعم، وأنفاس كعطر تشتاقه الروح، وصوت كنغم من السماء، أو كاللحن الهادئ ينساب في خفوت، وبسمة يخشع لها القلب، ونظرات كأوتار الجيتار الناعمة الحنون ... كان منظرها، بحق، من أبهج المناظر وأشهاها وأظرفها وأحلاها، يوحي لمن يراها أن في دمه نورا، وفي كيانه سحرا، وفي حياته رجاء وأملا.
ورغم أن هذه المرأة ذات الوجه السابح في هالة الجمال والبهاء قد تزوجت مينيلاوس المحظوظ حاكم البلاد، وعاشت معه تحت سقف واحد، إلا أنها نكثت العهد وخانت زوجها الشريف النبيل، وهربت مع الضيف الطروادي الخسيس الذي استضافه زوجها المسكين، فغواها الضيف وزين لها الحرام بمعسول الألفاظ المضللة، فاستجابت لغزله، وضعفت أمام إغرائه، وهكذا هربت هيلينا الحلوة مع باريس اللئيم الخائن، فاعتبرت اليونان أن شرفها قد تلوث وصيتها قد تدنس، وأن سمعتها وسمعة حاكمها قد تلطخت بالوحل والقار، ولحقها العار والشنار، فهب رجال اليونان البواسل هبة رجل واحد، وقاموا يدا واحدة تاركين بيوتهم وزوجاتهم وعيالهم، وركبوا البحر الصاخب العريض، واتجهوا إلى حيث تعيش هيلينا مع خاطفها الدنيء في بلده طروادة. كان الشرف اليوناني يحتم عليهم استرداد الزوجة الهاربة العاصية، والقبض عليها، وأخذها بالقوة من بين أحضان عاشقها الوضيع الذي خان واجبات الضيافة المصونة، واعتدى على عرض أشرف الرجال وأعظم الحكام، وطعنه طعنة نجلاء في أعز ما يمتلك، ودنس فراشه، وانتهك حرمته، وأصابه في الصميم إصابة لا يمحوها إلا الدم والقتال إلى آخر رجل في اليونان.
ظل الأغارقة البواسل مدة تسع سنوات طوال كلها عذاب وشقاء، وقتال وحرمان، يحيطون بأسوار طروادة المنيعة البنيان، والقوية التشييد، والعالية السامقة، والمبنية بالحجر الصلد الصوان، معرضين عن الدنيا وما فيها، ونسوا نساءهم ومضاجعهم وشرابهم وحياة النعيم والرفاهية التي كانوا ينعمون بها في بلادهم ووسط أولادهم وبناتهم وزوجاتهم، ولم ينشغل بالهم إلا بالثأر من ذلك الخائن الغدار، ومحو ما لحق بسيدهم العزيز وحاكمهم المفدى من عار أي عار، والانتقام بالدم من ذلك النذل الذي أتى فعلة شنعاء متسللا إلى عقر دار حاكمهم ليسرق قلب مليكة فؤاده وشريكة فراشه، بفاتن كلماته، ومنمق عباراته، وعذب منطوقه وأحاديثه، حتى زين لها الخيانة وكساها أمام سمعها بحلة قشيبة مزركشة، خلبت لبها وخدعت فؤادها فانساقت وراء الذئب الخسيس، وهي لا تدري مغبة جريمتها النكراء، والعواقب الوخيمة التي سوف يتعرض لها زوجها المخدوع، ووطنها المنكوب، وكل شعبها المكلوم، رجالا وشبابا.
خرجت تشق عباب اليم ألف سفينة إغريقية محملة بالرجال والسلاح والمؤن والمعدات، ميممة شطر طروادة حيث يحتمي باريس اللعين مع معشوقته هيلينا المارقة، وقد ظن الوغد الداعر، والفاسق السادر، أنه فاز بمراده، وحظي بأجمل ما في الكون من أنوثة وجمال وفتنة، لقمة سائغة، فإذا ببلاده تتعرض لأقسى حصار عرفته أمة على وجه الأرض، ولأفظع حرب حنظلية مريرة مات فيها الألوف المؤلفة من المحاربين الشجعان والأبطال المغاوير.
ولولا الحصان الخشبي - وقصته معروفة شائعة - لما عرفت هذه الحرب الضروس لها نهاية وما أسدل الستار عليها في يوم ما، ولظلت الجيوش تحارب إلى ما شاء الله، كان لا بد للإغريق من خدعة كبرى مبتكرة وجديدة في نوعها، ولم يكن ليتقنها ويبتكرها، وينسج خيوطها، ويحكم حلقاتها، سوى الداهية العفرية أوديسيوس الكثير الحيل المحبوكة، والذي اعتبره العالم كله أمكر البشر جميعا، وأعظمهم براعة في دنيا الحيل والأحابيل والخدع ونصب الشراك. يا لها من فكرة مدهشة تلك التي فكر فيها أوديسيوس، وهي فكرة الحصان الخشبي الذي صنعه الأغارقة بأمره، وحسب تعليماته، وبإرشاده وإشرافه، كان جوادا جميل الشكل من خشب الأبنوس الأسود اللامع، مهيب الصورة والمنظر، بل قل هو تحفة فنية فائقة الجمال رائعة الهيئة، تود أي نفس أن تقتنيها وتستحوذ عليها وتستأثر بها، وهذا عين ما حدث، فما كادت عساكر طروادة وجنودها يرون ذلك الحصان الضخم الجذاب واقفا في الساحة خارج الأسوار، وقد انفض عنه أصحابه حتى سحبوه وأدخلوه وراء أسوارهم المنيفة الشامخة وسط التهليل وأهازيج الفرح والغبطة والسعادة الفائقة، دون أن يعلموا أن جوف ذلك الحصان يضم أبطالا مدججين بالسلاح البتار الفتاك، فخرج هؤلاء المقاتلون البواسل في جنح الظلام ومع عتمة الليل بعد أن تأكدوا من أن الطرواديين قد أذهلتهم نشوة الفرح، فراحوا يعبون كئوس الخمر مترعة وهم يهللون من فرحة الظفر، ظانين أن الأغارقة قد انصرفوا إلى حال سبيلهم دون رجعة، تاركين خارج الأسوار أشلاء قتلاهم وحصانهم الخشبي الذي كانوا يتباركون به، وارتمى على الأرض من ارتمى، ونام من نام، فإذا في الساعة المحدودة تعود سفن الإغريق المحملة بآلاف الجنود بعد أن تظاهروا بالانصراف متقهقرين مدحورين، وكان أوديسيوس وزملاؤه قد فتحوا لهم أبواب طروادة فتدفق الأغارقة منها إلى الداخل وتجرع الجنود الطرواديون السكارى الموت السريع برماح وسيوف الإغريق العطاش الموتورين، فكانت الهزيمة الجسيمة النكراء لأهل طروادة، فترنحت من شدة وطأتها البلاد، واستسلمت في سهولة ويسر وراح الأغارقة الظافرون يعيثون في البلاد فسادا بعد أن نهبوها وقتلوا باريسها وهكتورها واستعادوا هيلينا وأرجعوها إلى بلادهم، رافعين أعلام النصر فوق ساريات وأشرعة سفنهم المكينة، وهكذا استعادت اليونان شرفها الرفيع وسمعتها الغالية، وثأرت لحاكمها من ذلك الضعيف الجبان الغادر الذي اعتدى على بيته وزوجه في غفلة منه، وجازاه على إكرامه إياه وعدم تقصيره في واجبات الضيافة، ولم يؤذه من بعيد أو قريب، جازاه بالغدر والخيانة. •••
لعلني، أيها القارئ العزيز أكون في هذه العجالة قد أجملت بعض الأحداث الرئيسية في سطور قليلة، وهي، كما ترى، أحداث تهز المشاعر الإنسانية، وتمس الكيان البشري في صميم حياته، فكم من زوجة خانت بعلها، وهربت مع عاشقها، ولكن المفهوم الإغريقي للعلاقات الإنسانية قد خبا واندثر، وتطور مع تعاقب الأعوام واختلاف العصور والظروف، فما عدنا نحارب حرب الإغريق وإن كان الثأر لا يزال يمارس في بطاح كثيرة من المعمورة الغبراء لأمثال هذه الجريمة النكراء.
بعد كل هذا الذي كتبته من تقديم شخصي، يسعدني أن أقدم لكم إلياذة هوميروس نفسه في كلمات لم يسبقني إليها أحد من الذين تعرضوا لهذه الشخصية الأدبية، وهي امتداد لتلك المقدمة الطويلة التي صدرت بها ترجمتي لأوديسة هوميروس؛ فالمقدمتان نسيج واحد لثوب واحد، وتعالجان شخصية واحدة لا أحسب أن الدارسين قد فرغوا تماما من معالجتها العلاج الشافي، فمما لا شك فيه أن هوميروس بقرونه الثمانية السابقة لميلاد السيد المسيح، ما زال يحيط به غموض كثيف يحتاج إلى مزيد من الدرس والتمحيص والإضافة، للوقوف حقيقة على أبعاد وأعماق شخصيته ومكانته الأدبية الشامخة شموخ الأهرام في عصرنا الحديث.
وإني لأحمد الله - عز وجل - إذ مكنني وساعدني وألهمني، ووهبني القدرة على إخراج هذا الكتاب الذي بين يديك، يا قارئي العزيز، بالصورة التي هو عليها، في ظروف للنشر، تعتبر غاية في القسوة من حيث الغلاء، وارتفاع أسعار الورق والطباعة ارتفاعا فاحشا، علاوة على كل ما يتصل بهذه المهنة الشريفة من شتى نواحيها، وما بالكتاب من صور وكليشيهات كثيرة أضافت إلى تكاليف الطباعة مبالغ باهظة فوق طاقة الناشر.
لذا، لا يسعني إلا أن أقدم لدار الفكر العربي والعاملين بها، وعلى رأسهم الأستاذ محمد محمود الخضري، أجزل الشكر ووافر الامتنان والعرفان، لما أبدوه نحو الإلياذة من اهتمام بالغ، ولما بذلوه في إخراجها بهذا الثوب الجميل الذي ظهرت به. مع شكري الخاص للأستاذ محمد عبد الغني السيد، الذي تفضل بمراجعة البروفات الأولى، وهيمن على الطباعة بكفاءة عالية.
وفقنا الله جميعا إلى ما فيه خير المكتبة العربية بصفة عامة، والمكتبة الكلاسيكية بصفة خاصة، إنه على كل شيء قدير.
أمين سلامة
جاردن سيتي في 1 / 1 / 1981م
رأي المرحوم الدكتور محمد مندور
أستاذ النقد الأدبي والمتخصص في الآداب
اليونانية اللاتينية
كتب سيادته في العدد الثالث والأربعين من مجلة «المجلة» بتاريخ يوليو سنة 1960م رأيه في إلياذة هوميروس فقال: «يعتبر عمل الدكتور حسن عثمان في حقل الترجمة تجديدا، أو استمرارا للعمل الكبير الذي قام به من قبل الأديب العربي الضخم سليمان البستاني بترجمته لإلياذة هوميروس إلى العربية، وإن كنا نعتقد أن ترجمة الدكتور حسن عثمان للكوميديا الإلهية ستظل دائمة الحياة والنفع والتأثير في أجيالنا المتعاقبة؛ وذلك لأن ما بقي حيا مقروءا من ترجمة سليمان البستاني للإلياذة، إنما هو المقدمة الضخمة التي كتبها لتلك الترجمة، وتناول فيها الكثير من قضايا الشعر عامة والملحمي بخاصة، وأوزان الشعر وقوافيه عند الغربيين وعند العرب على السواء، وأما الترجمة في ذاتها، فبالرغم من أن البستاني قد اختار لها الشعر وعاء، إلا أن شعره جاء عسيرا مصنوعا لا ماء فيه، وكأنه منحوت من صخر، فذهب ببساطة شعر هوميروس وخفته وسذاجته الساحرة؛ ولهذا نعتقد مخلصين أن الترجمة النثرية التي نشرها الأستاذ أمين سلامة أخيرا باللغة العربية في ثلاثة أجزاء من مطبوعات «كتابي» أفضل بكثير من ترجمة البستاني الشعرية المبهمة. ومن المؤكد أنه لو شفع الأستاذ أمين سلامة ترجمته للإلياذة بدراسته لها ولهوميروس وعصره كما فعل الدكتور حسن عثمان بالنسبة للكوميديا الإلهية، وأعاد طبعها في المظهر اللائق بمثل هذا العمل الضخم على نحو ما فعلت دار المعارف في طبعها للجزء الأول من الكوميديا الإلهية، لحظيت ترجمة الأستاذ أمين سلامة للإلياذة بكل ما تستحق من شكر وإقبال.»
وكتب الدكتور محمد مندور هذا المقال بجريدة الجمهورية في باب «دراسات في الأدب والنقد» تحت عنوان «أوديسة هوميروس ... ملحمة جواب الآفاق» وقد تعرض سيادته في هذا المقال للإلياذة أيضا فقال:
حفلت مكتبتنا العربية في هذه الأيام الأخيرة بكسب جديد بالغ الأهمية وهو ترجمة الأستاذ أمين سلامة لأوديسة هوميروس ونشر الجزء الأول من هذه الترجمة، وهو يشمل مقدمة يعرف فيها المترجم القراء بهوميروس وملحمته الأولى «الإلياذة» التي ترجمها في العام الماضي أيضا الأستاذ أمين ونشرها في ثلاثة أجزاء ضمن مطبوعات كتابي، ثم يعرفهم بالأوديسا ملحمة هوميروس الثانية ويلخص - كما فعل في حديثه عن الإلياذة كل أغنية من الأغاني الأربع والعشرين التي يتكون منها كل من الإلياذة والأوديسا.
ويلي المقدمة النص الكامل للأغاني الاثنتي عشرة الأولى من الأوديسا على أن يتضمن الجزء الثاني الذي لا نزال ننتظره - الأغاني الاثنتي عشرة الأخيرة وقد نقل المترجم كل هذه النصوص عن اللغة اليونانية أي لغتها الأصلية التي تخصص فيها الأستاذ أمين سلامة وحصل فيها على درجة الماجستير من جامعة القاهرة، واستعان طبعا بالترجمات الأوروبية الحديثة وبخاصة الترجمات الإنجليزية. وإن كان ذلك لا يمس قيمة عمله من حيث إن ترجمته قد اعتمدت أصلا على النص اليوناني القديم مما يعطي هذه الترجمة كل قيمتها من حيث أمانة النقل ودقته، وإن كنا لا نستطيع أن نزعم أن هذه الترجمة العربية تصل في مستوى التعبير الشعري وجماله إلى مستوى الأصل اليوناني أو مستوى بعض الترجمات الأوروبية الحديثة التي تصل إلى حد كبير من الجمال دون أية تضحية بالدقة والأمانة.
ومن المعلوم أن الإلياذة كان قد قام بترجمتها منذ أواخر القرن الماضي المرحوم سليمان البستاني شعرا في أسلوب جهم لا يغري بالقراءة ثم قام في السنوات الأخيرة أديبنا الأستاذ دريني خشبة بتقديم الملحمتين إلى قراء العربية، كل ملحمة في مجلد واحد بعد أن قام - كما يقول هو نفسه - بكثير من التعديلات في القصتين وفي الأسلوب تيسيرا على شباب القراء حتى نشط الأستاذ أمين سلامة في السنوات الأخيرة إلى ترجمة الملحمتين ترجمة دقيقة عن اليونانية، دون أن يحذف أو يضيف أو يعدل شيئا في نصهما الأصلي. وبذلك أدى إلى قراء العربية وأدبائها خدمة رائعة لأن هاتين الملحمتين هما الأساس ومصدر الوحي والإلهام للأدب اليوناني كله والروماني من بعده، ثم للآداب الأوروبية كلها بحيث لا يمكن لأي أديب أن يجيد فهم كل هذه الآداب ما لم يبدأ بفهم أساسها ومصدر وحيها الأول وهو هوميروس وملحمتاه الخالدتان.
ومن المعلوم أن هوميروس قد استمد موضوع ملحمتيه معا من حرب طروادة، وهي تلك الحرب التي اشتعلت قبل الألف عام السابقة على ميلاد المسيح بين أهل طروادة سكان آسيا الصغرى واليونان نتيجة لخطف باريس أمير طروادة الجميل الطلعة لهيلانة زوجة مينيلاوس أحد ملوك المدن اليونانية؛ إذ رآها تلهو مع صاحباتها على الشاطئ الذي رست عليه سفينته فوقعت في قلبه كما وقع في قلبها ونجح في إغرائها على الهرب معه، وبذلك يكون سبب تلك الحرب الضروس في نظر شاعر الجمال هوميروس هو الصراع بين اليونان والطرواديين على هيلانة رمز الجمال المطلق، ولا غرابة في أن يقتتل اليونان هذا القتال المر الذي دام أكثر من عشر سنوات في سبيل رمز الجمال؛ فهم شعب لم يعشق شيئا كما عشق الجمال. ولقد يرى المؤرخون أن هذه الحرب كانت لها دوافع أخرى كالتنافس على التجارة وارتياد البحار، ولكن هوميروس آثر بحق الرواية الشعبية التي ترجع تلك الحرب إلى الصراع من أجل هيلانة رمز الجمال المطلق.
وإذا كان هوميروس قد كتب الإلياذة ومعناها في اللغة اليونانية: أغنية إليون، وإليون هو الاسم الذي كان يطلقه اليونان الأقدمون على طروادة بحيث يصبح معنى الإلياذة هو أغنية طروادة، وخصص تلك الأغنية، لحادثة واحدة من أحداث تلك الحرب وقعت في السنة الأخيرة من العشر السنوات التي دامتها تلك الحرب وهي حادثة غضب بطل الإغريق الأكبر أخيل لأن ملك الملوك أي القائد الأعلى للجيش اليوناني أجاممنون استولى غصبا على أسيرة أخيل الجميلة بريزيس وحرمه منها، فغضب البطل واعتزل القتال حتى دارت الدائرة على اليونان وأوشكوا أن ينهزموا لولا أن تدارك البطل الآخر أوليس الأمر بحكمته فاسترضى أخيل ورجاه أن يعود إلى القتال لينقذ قومه، وقبل أخيل أن يعود وبخاصة بعد أن علم بقتل صديقه العزيز باتروكلوس في المعركة، فهزه الوفاء لصديقه لكي ينتقم له ويقتل قاتله بطل طروادة هكتور. وتنتهي الإلياذة بانتصار أخيل على هكتور وقتله له وجر جثته مشدودة إلى عربة نصره، ثم تأثره بحزن بريام ملك طروادة ووالد هكتور عندما جاءه باكيا ضارعا طالبا إليه أن يرد جثة ابنه إليه فردها.
وأما الأوديسا فمعناها اللغوي مأخوذ من اسم بطلها أوديسيوس أي جواب الآفاق الذي كان اليونان يسمونه أوليسيوس أو أوليس، وسماه الشرقيون القدماء عولس. فهي إذن أغنية أوليس. وقد اختار هوميروس هذا البطل لملحمته الثانية كما اختار أخيل وغضبه للإلياذة؛ وذلك لأن أوليس يتجسم فيه جانب من الخلق اليوناني القديم يكمل الجانب الذي يمثله أخيل؛ فأوليس يمثل الحكمة والذكاء واتساع الحيلة في هذه الملحمة، بينما يمثل في الملحمة الأخرى الشجاعة المتهورة والكبرياء العالي والعناد الصلب إن لم نقل خشونة البداوة الأولى. والذي لا شك فيه أن الأدب وبخاصة أدب شاعر واقعي كهوميروس أدل على عقلية الشعب اليوناني من أي تراث روحي آخر؛ فالفلاسفة كأفلاطون أو الرواقيين قد يحدثوننا عن المثل الأعلى في الأخلاق ويراه أفلاطون في أن نعيش وفقا لطبيعتنا البشرية فلا نقاوم غرائزنا ولا نحاول قتلها بل نتركها تنمو نموا طبيعيا حتى لا نفسد حياتنا بكبتها مكتفين بأن نتخذ العقل رقيبا يحد من إسرافها ويلائم بين تنافرها. ولقد يدعونا الرواقيون ألا نتأثر بالأحداث فلا تنخلع قلوبنا للحزن ولا تخف أحلامنا للطرب، ولكن هذه كلها مثل عليا. والمثل الأعلى موضع رغبة ونحن لا نرغب إلا فيما يعوزنا، وأما الأدب وبخاصة أدب هوميروس الواقعي فهو الذي يبصرنا بحقيقة العقلية اليونانية التي لا تزال حتى اليوم معتبرة معجزة البشرية. ومن خلال تصوير هوميروس للبطلين أخيل وأوليس نستطيع أن نرسم الصورة الكاملة لهذه العقلية الفذة.
والأوديسا أو أغنية أوليس يرى فيها العالم الفرنسي الكبير فيكتور جيرار أغنية البحر الذي كان اليونان القدماء يعيشون معظم حياتهم على متنه ويجوبون آفاقه بحثا عن وسائل العيش التي تضن بها أرضهم الجرداء في معظم بقاعها الجبلية، وهذه الملحمة تقص علينا مؤامرات أوليس وما لاقاه من أهوال في طريق عودته من طروادة إلى وطنه ومقر ملكه، ومأوى زوجته الوفية الحبيبة بينيلوب، وهي جزيرة إيثاكا التي تقع على الشاطئ الغربي لبلاد اليونان أي عند شاطئ الماسيا وقد دامت رحلته هذه عشر سنوات أي أنه قد تغيب عن وطنه وأهله عشرين عاما قضى منها عشر سنوات في مقاتلة أهل طروادة وقضى العشر الأخرى في مغالبة الأهوال ومقاتلة الوحوش ومقاومة إغراء الساحرات والفاتنات اللائي التقى بهن عند بعض الشواطئ أو الجزر التي ساقته إليها الأمواج والعواصف وبخاصة أن إله البحار بوسايدون كان يناصبه العداء ولولا رعاية الإلهة منيرفا التي كان اليونان القدماء يسمونها بالاس أثينا ويزعمون أنها قد خرجت من رأس كبير الآلهة زيوس مدججة بحربة القتال رمزا إلى أن الحكمة لا تخرج إلا من عقل الآلهة، وأنها تخرج مدججة بأقوى سلاح - لولا عطف هذه الآلهة على ربيبها أوليس الحكيم لهلك البطل في رحلته الشاقة ولما استطاع أن يعود إلى وطنه وإلى زوجته الحبيبة الوفية بينيلوب وإلى ابنه العزيز تليماك بعدما لاقى من أهوال يفصل الحديث عنها هوميروس في ملحمته الخالدة، وكلما اشتدت بأوليس المحن تذكر وطنه وأهله فاشتد عزمه وتفتقت حيله حتى كتب له الخلاص في النهاية، وعاد في الوقت المناسب لينقذ وطنه وملكه وزوجته من الطامعين والمتربصين الأشرار، ولا نرى خاتمة لهذا الحديث الموجز السريع خيرا من أن نثبت جزءا من تغني أوليس بوطنه حيث يقول «بلدي إيثاكا الشهيرة التي تنظر إليها الشمس وقت الغروب، فيها ترف الأوراق الكثيفة على سطح جبل النيريت عند الظهيرة، وأما الفجر فينثر حولها عددا وفيرا من الجزر الخصبة الخضراء. بلدي تقع على مقربة من أرض اليونان جزيرة تقطعها الصخور ولكنها موطن فتية بواسل. لا، ليس في الأرض مكان أحب إلى قلبي منها - عبثا حاولت كالبسو أن تستهويني بكهفها لتخصني بشرف الزواج منها، عبثا حاولت سيرسيه العالمة بكل ما يعرف السحر من حيل أن تعرض علي العرض نفسه فتحتفظ بي موثقا بحبائل الزواج. لقد تبدلت جهودهن هباء فعجزن عن إمالة قلبي؛ وذلك لأن أرض الوطن وما تقل من أهل وهبونا الحياة واتصلت قلوبنا بقلوبهم؛ قد أوحت إلي بحب رقيق لا يستطيع كل ما في الأرض من مجد وخيرات أن يصرفني عنه.»
وبعد فأرجو أن يكون في هذا الحديث الموجز ما يغري بقراءة هذه الملحمة الرائعة وزميلتها الإلياذة أكبر مصدرين للأدب العالمي كله.
محمد مندور
جولة سريعة في ربوع الإلياذة
إيضاحات لا بد منها
قبل أن نبدأ مطالعتنا معا لهذه الملحمة الخالدة، أحب أن أنبهك إلى عدة أمور قد تثير حيرتك إذا لم تعرفها سلفا: (1)
من هذه الأمور أنك ستصادف في «الإلياذة» أسلوبا يختلف عن الأسلوب الذي ألفته في سائر الأعمال الأدبية الأخرى، ستصادف أسلوبا فيه الكثير من التكرار، والتعبيرات الشاذة، والتفكير البدائي الساذج الذي يتناسب وعقلية عصر هوميروس، العقلية التي تخلط الحقائق بالخرافات، والواقع بالخيال، فتصور الآلهة في صورة البشر، وتزوج هؤلاء من أولئك، وأولئك من هؤلاء، وتنجب لأبطال الملحمة أطفالا بشريين، وآخرين سماويين! ومن أمثلة التعبيرات الغريبة التي ستقرؤها في الإلياذة، والتي تكاد تتكرر في كل صفحة من صفحاتها، هذه العبارة: «أخيل» السريع القدمين، «أبولو» الذي يضرب من بعيد، «الآخيون» (أي الإغريق) المدرعون جيدا، الربة «هيرا» البيضاء الذراعين، الآخيون ذوو الحلل البرونزية ... إلخ. (2)
ومن الإيضاحات التي أحب أن أنبهك إليها أن الترجمة الإنجليزية للإلياذة أطلقت على كل فصل من فصولها لفظ «كتاب»، فقالت: «الكتاب الأول»، «الكتاب الثاني» ... إلخ. أما الطبعة الفرنسية فقد أطلقت على كل فصل لفظ «أنشودة»، فقالت: «الأنشودة الأولى»، «الأنشودة الثانية» ... وهكذا.
وقد آثرت استعمال التعبير الفرنسي؛ لأن هوميروس حين نظم هذه الملحمة الشعرية منذ ثلاثة آلاف سنة لم ينشرها بالطبع على هيئة كتاب، وإنما راح يتغنى بها و«ينشدها» بمصاحبة القيثارة وهو يتجول في أنحاء اليونان؛ ومن ثم فتعبير «أنشودة» هو التعبير الأدق والأصدق في هذا المجال. (3)
وثمة فارق آخر بين الترجمات اليونانية والفرنسية والإنجليزية، هو أن الترجمة الفرنسية أغفلت أن تضع في بداية كل فصل ذلك التمهيد القصير الذي درجت الكتب القديمة على وضعه، والذي يلخص للقارئ أهم الأحداث التي سيقرأ عنها في الفصل التالي. أما الطبعة الإنجليزية فقد حرصت على هذا التقليد. وقد رأيت أن أضيف إلى الترجمة العربية هذه الديباجة التقليدية. (4)
ومن ناحية أخرى فقد حرصت الطبعة الفرنسية على تقسيم كل فصل إلى موضوعات، يبدأ كل موضوع منها بعنوان، بينما أغفلت الطبعات الأخرى هذه العناوين والتقسيمات. وقد آثرت أن أقتبس من الطبعة الفرنسية هذا التبويب وتلك العنوانات التي تيسر عليك مطالعة فصول الملحمة الطويلة. (5)
والملاحظة الأخيرة، أن الطبعات الثلاث جاءت كلها خلوا من أي رسم لأحداث الملحمة، أو صورة مأخوذة عن لوحة زيتية أو تمثال لإحدى شخصياتها، وأنا أومن بالارتباط و«التعايش» بين الفنون جميعها. أومن مثلا بأن الرسم الجميل أو صورة التمثال المنحوت تضفي على النثر أو الشعر الذي تتخلله جمالا فنيا جديدا، فوق جماله اللغوي أو جرسه الموسيقي؛ ومن ثم حرصت على تزيين هذه الطبعة بأفضل ما استطعت الحصول عليه - من كافة المصادر - من لوحات ورسوم، مستوحاة من حوادث الإلياذة.
تعال نعش مع هؤلاء الأبطال
تصور الإغريق آلهتهم في صورة بشر مثلهم، بعكس المصريين القدماء الذين اتخذوا لأنفسهم آلهة على صورة الحيوانات!
والآن، تعال معي نهجر عالم الذرة والحروب الهيدروجينية، ونغوص في أعماق الماضي إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، لنعيش في ظل حرب طروادة المشهورة (وكأن الإنسانية ما زالت - بعد واحد وثلاثين قرنا من نشوب تلك الحرب القديمة
1 - ما زالت حيث كانت منذ الأزل، لا تؤمن إلا بشريعة الهمجية ووحوش الغاب).
وهناك، على جانبي أسوار تلك المدينة الحصينة، سوف نلتقي بهؤلاء الأبطال الذين لست أشك في أنك تتوق منذ بعيد إلى التعرف عليهم، في موطنهم، وهم: «هيلينا» حسناء طروادة، والأمير الجميل «باريس» الذي اختطفها من زوجها ملك «أسبرطة»، و«أجاممنون» شقيق الملك وقائد جيشه، و«أخيل» أبرز أبطال هذا الجيش، و«هكتور» أشجع محاربي طروادة، والحصان الخشبي المشهور الذي أنهى الحصار الخالد لتلك المدينة الحصينة ... إلخ.
ملحمة الحب والحرب
ولكي تتذوق قصة «الإلياذة» الخالدة، كما أحب لك أن تتذوقها، ينبغي أن أمهد لك أولا الطريق الوعر إلى أغوار هذه الملحمة الإغريقية الشعرية التي تتغنى بها الإنسانية منذ أجيال، والتي ترنم بها اليونان كما ترنم اليهود بمزامير داود! وكادوا يقدسونها كما قدس هؤلاء «التوراة»، فلقنوها لصغارهم، وحفظها كبارهم عن ظهر قلب.
والواقع أن هذه «الأعجوبة» التي ترجع إلى ثلاثين قرنا، ما تزال تحتفظ بكل روعتها وجدتها، بل وخلودها الذي هو خلود الفن الصادق الأصيل، وهي تبهر الأذهان بمثل السناء والتألق اللذين بهرت بهما الأسماع لأول مرة يوم تغنى بها المنشدون في مآدب أمراء أثينا الأقدمين.
ولنقرأ وصف «أفلاطون» للأثر الذي كان يحدثه ترنيمها في المآدب والمحافل يومئذ: «كان المنشدون حين يتغنون بها يهتزون نشوة ، وتجيش نفسهم طربا، لمجرد سماعهم صدى موسيقى الأبيات التي يرددونها!»
تتداولها «الذاكرة» خمسة قرون!
وقد ظلت «الإلياذة» غير مكتوبة أو مسجلة إلا في «ذاكرة» أولئك المنشدين نحوا من خمسة قرون، أو على وجه التحديد منذ نظمها الشاعر الضرير «هوميروس» في القرن العاشر قبل الميلاد، حتى سجلتها البعثة التي ألفها «بيزيستراتوس»، في القرن الخامس قبل الميلاد، خصوصا لهذا الغرض، وقد تقصت أبياتها من مختلف حفاظها ومنشديها وحققتها تحقيقا دقيقا ثم سجلتها في صورتها الرسمية الراهنة التي يعرفها بها العالم الحديث، وأنشدتها على الملأ في احتفال وطني كبير.
حياة مؤلفها، أسطورة!
رسم يمثل حصان طروادة المشهور، الذي يعتبر أعظم خدعة في تاريخ الحروب، وأقدم أمثلة «الطابور الخامس»، كما سترى.
الربة أثينا في كامل هيبتها وعدتها.
وإلى ما قبل القرن الثامن عشر كان المجمع عليه أن ناظم «الإلياذة» منشد ضرير من شعراء الإغريق يدعى هوميروس، عاش في فترة اختلف المؤرخون في تحديدها فتأرجحت رواياتهم بصدد ذلك بين عام 1200 وعام 850 قبل الميلاد، وكما اختلفوا بشأن تحديد العصر الذي عاش فيه هوميروس اختلفوا بشأن تحديد موطنه ومسقط رأسه، فقال البعض إنه مدينة من مدن آسيا الصغرى، وقال آخرون إنه جزيرة من جزر بحر إيجه! وقد بلغ من تنافس مختلف المدن والجزر على الاستئثار بفخر إنجاب «هوميروس» أن سبعا منها تنازعت فيما بينها هذا الشرف! وما يزال اللغز قائما بغير حل إلى اليوم.
ولكن في ختام القرن الثامن عشر نادى بعض الباحثين بنظرية جديدة مؤداها أن هوميروس ليس سوى «أسطورة لم يكن لها في الحقيقة وجود! ... أو - إن كان لها وجود - لم تكن لها غير أهمية ضئيلة تافهة، وينسب أصحاب هذه النظرية ملحمة الإلياذة، لا إلى هوميروس، وإنما إلى مجموعة من الشعراء المجهولين الذين كانوا ينظمون القصائد الحماسية للعامة أثناء حصار اليونانيين لمدينة «طروادة» خلال الحرب القديمة المشهورة بهذا الاسم.
على أن أكثر الباحثين المحدثين ينبذون هذه النظرية، جازمين بأن الإلياذة من خلق ذهن واحد، استنادا إلى الوحدة الملحوظة في بنائها الفني، وطابعها، وسياقها!
والخلاصة، أنه برغم أن اسم «هوميروس» بات من أشهر الأسماء في تاريخ الآداب العالمية قاطبة، فإن العالم لا يكاد يعرف عنه حتى اليوم سوى النزر اليسير، بل لا يكاد يقطع بما إذا كان رجلا واحدا أم مجموعة من الرجال! كل ما نخرج به من الروايات التقليدية المتداولة عنه - والتي تفتقر إلى دليل أكيد - أنه كان شاعرا ضريرا، فقيرا، مسنا، يجول من بلد إلى بلد منشدا أشعاره كلما وجد مستمعا يدفع الثمن!
أبطالها خليط من الآلهة والبشر!
ومهما يكن من شيء، فالمتفق عليه أن «الإلياذة» كانت، وما تزال - وستظل أبد الدهر - صرحا ضخما من صروح الأدب الإنساني، ومرجعا فريدا من مراجع المعرفة، وأساسا راسخا من أسس الأخلاق، وديوانا خالدا من دواوين الحماسة والبطولة، كان له على التربية، والأدب، والثقافة - الإغريقية والعالمية - أبلغ الآثار وأعظمها على مر الأجيال.
و«الإلياذة» مدينة بخلودها إلى قوة موضوعها، و«حرارة» أبياتها، وسلاسة أسلوبها البسيط الوقور الرائع! وأخيرا إلى تصويرها الناطق الحي لنفسيات الإغريق - رجالا ونساء - في ذلك العصر من عصورهم الحافل بصور بطولتهم النادرة في الحرب، وفي الحب!
وتتألف «الإلياذة» من خمسة عشر ألفا وخمسمائة من أبيات الشعر، وهي تصور حوادث واحد وخمسين يوما من أيام السنة العاشرة والأخيرة من حصار الإغريق لطروادة؛ ومن ثم فأنت لكي تقرأها وتستمتع بها على الوجه الأكمل، لا بد أن تعرف أولا قصة حرب طروادة، والغرام العارم الذي كان السبب المباشر لاشتعالها، والأبطال الذين اكتووا بنارها، سواء من بشر، أو الآلهة!
ذلك أن أبطال الإلياذة خليط من البشر والآلهة، فمن أبطالها البشريين: باريس وهكتور، ابنا ملك طروادة، وعدوهما مينيلاوس ملك أسبرطة، وشقيقه أجاممنون قائد جيشه، أما أبطال الملحمة من الآلهة فمنهم: «زوس» كبير الآلهة، ويطلق عليه الرومان جوبيتر؛ وابنته «أثينا» إلهة الفكر، ويطلق عليها الرومان «منيرفا»؛ ثم أخيل - أو «أشيل» - أبرز أبطال جيش أجاممنون؛ وهيلينا، زوجة ملك أسبرطة الفاتنة، التي نشبت بسببها الحرب مع طروادة ... إلخ.
فدعني أقص عليك طرفا من أساطير هؤلاء الأبطال، ومغامراتهم الشائقة في الحب والحرب، قبل أن أقدمهم إليك في قصتهم الكبرى «الإلياذة»، كي يتهيأ لك الجو المناسب لفهم هذه الملحمة على أكمل وجه.
يغار من ابنه!
كانت لإله البحر «بوسايدون» حورية تدعى «ثيتيس»، وقعت عليها عين «زوس» كبير الآلهة، فأحبته، لكنه علم من «الأقدار» أن الحورية سوف تلد ابنا يصير أعظم من أبيه، فأبى أن يكون هو ذلك الأب! ومن ثم قرر ألا يضيفها إلى قائمة عشيقاته العديدات، بل يزوجها إلى ملك بلد مجاور، ولكي يضفي على الزواج رونقا وبهاء، رأى أن يحضر بنفسه حفلة العرس، مصحوبا بزوجته «هيرا» إلهة الزواج، وغيرهما من آلهة جبل الأوليمب.
التفاحة دائما!
غضب الإله «أبولو» على الإغريق بسبب أسر قائدهم «أجاممنون» للحسناء «كرايسيس»، وهذه لوحة للفنانة «هنرييتا راي» تمثل أبولو يستعطف محبوبته «دافني»!
وكان إله البحر - والد العروس - قد تعمد أن يغفل دعوة إلهة «الشقاق» الكريهة إلى عرس ابنته، لكن اللعينة ذهبت إلى ذلك الحفل متطفلة، وهناك ألقت وسط المدعوين الصاخبين «تفاحة» كتبت عليها هذا الإهداء الماكر: إلى «أجمل الحاضرات»! فتنازعت عليها ثلاث منهن: «هيرا» إلهة الزواج، وابنتها «أثينا» إلهة الفكر، ثم «أفروديت» إلهة الحب، كل تزعم أنها أحق بها من سواها! وتشيع لكل ربة من الثلاث فريق من أنصارها والمعجبين بها، حتى كاد العرس يتحول إلى ميدان قتال! لولا أن استقر رأي الحاضرين على أن يحتكموا في النزاع إلى راع وسيم الطلعة يدعى «باريس»، يرعى قطيع ماشيته على سفح جبل «أيدا» القريب.
معشوق النساء!
ورغم أن الراعي الشاب «باريس» كان يكسب عيشه من هذه الحرفة المتواضعة، فإنه كان سليل ملكين من أعظم ملوك ذلك الزمان: هما «بريام» ملك طروادة، و«هيكوبا» ملكتها! وكان عراف قد تنبأ له في طفولته بأنه سوف يجلب الخراب والكوارث على وطنه، فآثر والداه أن يضحيا به في سبيل طروادة، فتركاه على سفح تل ليموت، لكن الأقدار هيأت له راعيا فقيرا عثر عليه فأنقذه، وتبناه! وشب «باريس» فاتن الطلعة رائع الجمال، إلى حد أوقع جميع الحوريات والراعيات في هواه، أما هو فوقع في هوى حورية تدعى «أوينون »، وعاش الاثنان في سفوح جبل «أيدا» حياة مترعة بالسعادة.
الفتنة تسعى إليه!
تمثال لإله البحر «بوسايدون»، والد الحورية «ثيتيس» - والدة «أخيل» - وهو من نحت الفنان «آدم»، ومعروض بمتحف «اللوفر» بباريس.
وذات يوم، جاءته الربات الثلاث المتنازعات على التفاحة: أفروديت، وهيرا، وأثينا، فألقين بالتفاحة الذهبية بين يديه، وسألته أن يحكم بينهن بالعدل، فيمنحها لمن يراها أحقهن بها!
ثم شرعت كل واحدة تحاول أن ترشوه - بغير استحياء - كي ينحاز إلى صفها، فوعدته «هيرا» بالسلطان والثراء، ومنته «أثينا» بالشهرة والمجد الحربي، أما «أفروديت» فقد عرضت أن تزوجه من أجمل نساء الأرض!
وراقت له الأمنية الأخيرة أكثر من سابقتيها، فمنح تفاحة «الجمال» الذهبية لإلهة الحب!
ولم تمض أيام حتى هجر «باريس» زوجته، وماشيته، وأبحر في ركاب أفروديت، إلى شواطئ اليونان.
أجمل نساء الأرض!
في تلك الأيام كان لملك «أسبرطة» زوجة تدعى «ليدا» راقت في عيني كبير الآلهة «زوس» فأنجبت منه طفلا وطفلة من الآلهة، بعد أن أنجبت من زوجها طفلا وطفلة من البشر، فلما كبر الأربعة زوجت الابنة «البشرية» من «أجاممنون» ملك «مسينا» فجلبت عليه الكوارث - كما سنرى - أما الطفلة «الإلهية» - وكانت تدعى «هيلينا» - فقد خطبها شقيقه «مينيلاوس» فظفر بها وصار وريثا لعرش أسبرطة في آن واحد!
الراعي الوسيم «باريس» وقد احتكمت إليه الربات الثلاث: «هيرا» و«أفروديت» و«أثينا» حين تنازعن على تفاحة الجمال!
وكان ملك أسبرطة الشيخ قد أدرك بفطنته أن زوج هيلينا - التي كانت تعتبر أجمل نساء الأرض قاطبة - لا بد أن يتعرض بسبب جمالها لكثير من الأخطار والأحقاد؛ فاقترح على جميع خاطبي ود هيلينا - قبل أن يزوجها من أحدهم - أن يقسم كل منهم قسما لا حنث فيه على أن يرضخ لحكمه فلا يحاول التعرض لها فيما لو صارت من نصيب سواه، بل وأن يخف لمساعدة الزوج الذي يظفر بها على استردادها، فيما لو خطفها عاشق حسود!
وسنرى أن ذلك القسم كان السبب في نشوب حرب طروادة!
أفروديت تفي بوعدها!
وتم زواج هيلينا من «مينيلاوس»، الذي صار الآن ملكا لأسبرطة، وعاش الزوجان أعواما سعيدين، وذات يوم نزل ضيفا عليهما في قصرهما أمير شاب من أمراء طروادة، ولم يكن الأمير سوى الراعي الوسيم «باريس» الذي منح أفروديت تفاحة «الجمال» الذهبية فوعدته بأن تمنحه بدورها أجمل نساء الأرض. وتنفيذا لوعدها نصحته بأن يعود إلى قصر أبيه ملك طروادة فيعرفه بنفسه ويحصل منه على السفن اللازمة كي يقوم برحلة إلى بلاد اليونان حيث تقيم هيلينا «أجمل نساء الأرض»! فقد كان من سوء المصادفة أن الفاتنة التي وعدته بها أفروديت كانت زوجة لسواه! لكن عقبة «تافهة» كهذه ما كانت تعوق إلهة عن الوفاء بوعد قطعته على نفسها! وهكذا، بتأثير تحريض ربة الحب والجمال، انتهز الشاب «باريس» فرصة غياب مضيفه «مينيلاوس» عن القصر، فاختطف زوجته «هيلينا» وفر بها إلى طروادة!
رأس تمثال «أفروديت» ربة الحب والجمال، الذي يزين متحف «الكابيتول» بمدينة روما.
وكانت خيانة وضيعة من جانب الضيف، فإن مضيفه كان قد استقبله بكل مظاهر الترحيب اللائق بالأمير الشاب، وأكرم وفادته كأعظم ما يكون الإكرام! فلما عاد من غيبته فوقف على نبأ فرار زوجته مع ضيفهما، بادر فأرسل رسله على عجل إلى جميع طالبي يد «هيلينا» السابقين، مذكرا إياهم بقسمهم القديم على نجدته في مثل هذا الظرف بالذات!
وهرع الجميع من فورهم إليه، ودعي رؤساء العشائر لإبداء رأيهم في الموقف الحربي الذي قد يتطور إليه النزاع، فوقع اختيار المجتمعين على «أجاممنون» - زوج شقيقة هيلينا، وشقيق زوجها - كي يكون قائدا لهم في عراكهم المقبل، وبفضل دهاء أحد الحاضرين - وهو «أوديسيوس» ملك أحد الأقاليم المجاورة - ضم إلى صفوفهم البطل الصنديد «أخيل» ابن الحورية «ثيتيس» (التي حضرنا زفافها في بداية القصة) وهو الذي كانت الأقدار قد تنبأت له بأنه سوف يصير أعظم من أبيه! «أخيل» ونبوءة الآلهة
ويقترن اسم «أخيل» في أدب القدماء - الإغريق والرومان - بأكثر من أسطورة، ويتوج بأكثر من هالة من هالات المجد، حتى ليعتبر من أعظم أبطال القصص الخيالية وأحبهم إلى الأذهان.
وتقول تلك الأساطير إن «الأقدار» حين حضرت زفاف أبويه، تنبأت لهما بأن ابنهما الذي سيرزقان به يحارب مملكة طروادة فيتساقط أبناؤها تحت ضربات سلاحه الفاتك البتار، كما تتساقط سنابل الحنطة تحت ضربات منجل الحصاد! وأن حصون المدينة سوف تتداعى أخيرا أمام هجماته، فيدخلها دخول الفاتحين، لكنه سيفقد حياته آخر الأمر عند أسوارها!
ورسخت هذه النبوءة المفجعة في ذهن الحورية العروس «ثيتيس»، فلما رزقت بابنها «أخيل» جعلت همها الأوحد أن تحميه بكل وسيلة من عدوان الأقدار، وتكفل له الخلود على قيد الحياة، فلما شب عن الطوق حملته إلى نهر «ستيكس» المقدس، الذي يكسب ماؤه كل جسم يبلله مناعة أبدية ضد الموت! وهناك أمسكت بالصبي من عقب - كعب - قدمه وألقت به تحت الماء، فاكتسب جسمه تلك المناعة ضد جميع قوى الفناء، ولم يبق للموت منفذ إليه إلا عن طريق عقب قدمه الذي لم يبلله ماء النهر!
امرأة تعاند الأقدار!
وحين ترعرع الغلام تولى أحد العمالقة تدريبه على القتال وصار يغذيه بنخاع أقوى الأسود المفترسة! لكن ذلك كله لم يطامن من مخاوف الأم، التي ما فتئ يقض مضجعها القلق على ابنها الحبيب من مخاطر حرب طروادة العتيدة أن تنشب يوما فتقضي على حياته! وبتأثير هذا القلق ألبسته أمه ثياب النساء وألحقته بسلك «وصيفات» البلاط الملكي! لكن تنكره هذا لم يخف على عين الملك الماكر «أوديسيوس» فتنكر بدوره في زي بائع متجول وذهب يعرض على وصيفات القصر بضاعته من الأساور والأقراط، بعد أن دس بينها سيفا وخنجرا، فلم يكد بصر الشاب المتنكر «أخيل» يقع على الأسلحة حتى بدرت منه حركة نمت عن خبرته بفنون القتال! وهكذا انكشف أمره، فأخذه أوديسيوس معه ليشترك في مقاتلة أهل طروادة بغية استرداد ملكة أسبرطة - «هيلينا» - من أسرهم، والاقتصاص لها من آسريها!
العذراء التي افتدت وطنها!
خريطة توضح مكان مدينة «طروادة» القديمة - في آسيا الصغرى - التي يفصلها «بحر إيجه» عن شواطئ عدوتها اللدودة بلاد اليونان. وترى في الخريطة مواقع: جبل الأوليمب - أو «أوليمبوس» - مقر الآلهة عند الإغريق، ثم مدينة «أسبرطة» المشهورة ببسالة نسائها ورجالها على السواء، ومدينة أثينا (عاصمة اليونان الآن )، ثم مدينة «طيبة» - الإغريقية لا المصرية - وأخيرا جزيرة رودس، حيث كان يوجد تمثال ضخم للإله «أبولو» هدمه زلزال مروع، وقد كان التمثال يعتبر من «عجائب الدنيا السبع» القديمة.
وهكذا التأم شمل جيش الإغريق، بقيادة «أجاممنون»، وأخذ أهبته للإبحار إلى شاطئ آسيا الصغرى - حيث تقع طروادة - لمهاجمتها وكسر شوكتها، ولكن في هذه اللحظة الأخيرة هبت رياح مضادة عاقت تحرك السفن التي تحمل الجيش المهاجم، واستمر هبوب تلك الرياح أياما طويلة، بحيث لجأ القوم آخر الأمر إلى استشارة عراف في صدد ما ينبغي فعله لإرضاء الآلهة التي تصب عليهم جام غضبها على هذا النحو! فأفتى العراف بأن لا سبيل إلى إرضاء الآلهة غير التضحية بابنة «أجاممنون» الكبرى على مذابح الفداء لوطنها! ولم يكن بد من الرضوخ لحكم الأقدار، فأرسل الأب التعس إلى زوجته يطلب حضورها وبصحبتها ابنتهما الكبرى، دون أن يصارحها بالسبب!
وحضرت الاثنتان، وكانت الابنة مخطوبة للبطل الشاب «أخيل» فلما علم بفتوى العراف حاول عبثا إنقاذ خطيبته من مصيرها المفجع، لكن القوم هاجوا عليه، وفي مقدمتهم أخلص أنصاره، واتهموه بخيانة وطنه! وكادت تنشب في صفوفهم فتنة عمياء، لولا أن حسمت الفتاة الموقف، هاتفة بأمها - والتعبير هنا للشاعر اليوناني «يوريبيدس» في مسرحيته الخالدة التي استوحاها من الأسطورة: «أماه، لقد أمعنت الفكر في الأمر، أصغي إلي: إني سأختار الموت، وسأختاره راضية، فلقد محوت الخوف من قلبي محوا، إن الآلهة تطلب حياتي، فهل أملك لطلبها رفضا؟ إذن فلتكن حياتي فداء لوطني، ولتنطلقوا لغزو طروادة!»
ثم تمضي العذراء إلى حتفها!
ويتغير اتجاه الريح، فتنطلق «الألف سفينة» التي تحمل جيش الإغريق نحو غايتها، تمخر عباب بحر قاتم، أكسبت الظلمة ماءه لون النبيذ!
وبذلك تبدأ حرب طروادة المشهورة!
والآن، وقد هيأت لك بهذه المقدمة - فيما أرجو - الجو المناسب لمطالعة «الإلياذة»، فلننتقل معا إلى حيث نطالع النص الكامل لهذه الملحمة الأدبية الخالدة، التي تبدأ وقد انقضت تسع سنوات على محاصرة الإغريق لطروادة، دون أن يستطيعوا اقتحام أسوارها!
شخصيات الملحمة
(1) من الإغريق
أو «الآخيين» أو «الأرجوسيين» أو «الدانيين»
أترايديس أو «ابن أتريوس»:
اسم العائلة أطلقه هوميروس على كل من أجاممنون ومينيلاوس.
كان أتريوس
Atreus
ابن بيلوس وهيبوداميا وحفيد تانتالوس. قتل أخاه غير الشقيق خروسيبوس
Chrysippus
بمساعدة شقيقه ثويسيتيس
Thyestes . ولكي يتحاشى هذان الأخوان غضب والدهما، هربا إلى زوج أختهما سثينيلوس
Sthenelus
ملك موكيناي الذي أعطاهما ميديا ليقيما فيها. ظل أتريوس ملكا على موكيناي التي أعطاه إياها يوروسثيوس، وبقي محتفظا بها بفضل امتلاكه حملا ذهبيا أخذه من هرميس لغرض إثارة الشقاق في بيت بيلوبس والانتقام لموت ابنه مورتيلوس
Myrtilus
بيد أن ثويستيس ارتكب الفحشاء مع أيروبي
Aerope
زوجة أخيه وابنة ملك كريت، وبمساعدتها حصل على الحمل الذهبي وعرش المملكة.
أجاممنون
Agamemnon :
الأتريدي، أي ابن أتريوس، وشقيق مينيلاوس. وإذ طرد ثويستيس هذين الأميرين الشابين من موكيناي بعد مقتل أتريوس، فرا إلى أسبرطة حيث زوجهما الملك توانداريوس
Tyndareus
بابنتيه، كلوتايمنسترا زوجة لأجاممنون، وهيلينا لمينيلاوس، وبينما ورث هذا الأخير مملكة حمية، لم يطرد أجاممنون عمه من موكيناي فحسب، بل ووسع ممتلكاته حتى إنه في الحرب ضد طروادة لاستعادة هيلينا، عهد إليه بالقيادة العامة كأقوى ملك في بلاد الإغريق طرا. قدم مائة سفينة مزودة بالمحاربين، علاوة على ستين سفينة أعارها للأركاديين. وهو في هوميروس، واحد من أشجع المقاتلين أمام طروادة. ومع ذلك فلم يسمح لخروسيس
Chryses ، كاهن أبولو، بأن يفتدي ابنته بريسايس التي كانت من نصيب أجاممنون كجائزة حرب، فيجلب وباء على الجيش الإغريقي، الذي كاد أن يدمره بعد ذلك بأخذه بريسايس جائزة أخيل الذي جلس، منذ ذلك، في خيامه غاضبا، ورفض أن يقاتل. وبعد سقوط طروادة عاد أجاممنون إلى وطنه بأسيرته الأميرة كاساندرا
Cassandra
غير أن أيجيسثيوس، عاشق زوجته يقتله عند العشاء، هو ورفقاءه، بينما قتلت الملكة ابنتها كاساندرا.
أخيل
Achilles :
ابن بيليوس
ملك المورميدون
Myrmidons
بفثيا التسالية
Tessalian Phathia
من الحورية ثيتيس
Thetis
وحفيد أياكوس
Aeacus ، ابن حفيد زوس. وتبعا لهوميروس ربته والدته حتى بلغ مبالغ الرجال، وكان صديقا حميما لابن عمه الأكبر باتروكلوس
، ابن مينويتيوس
Menoetius
الأخ غير الشقيق لأياكوس. تعلم أخيل فنون الحرب والفصاحة على يد فوينيكس
، كما تعلم فن العلاج على يد القنطور خيرون
Chiron
جد أمه . بيد أن الأساطير اللاحقة لهذه تضيف أشياء أخرى لقصة شبابه. ولكي تجعله أمه خالدا كانت تدهنه بالأمبروسيا نهارا وتضعه فوق النار ليلا لتتلف أي عنصر بشري ورثه عن أبيه. حتى إذا كان ذات ليلة جاء بيليوس فوجد ابنه يشوى فوق النار فأقام الدنيا وأقعدها. فغضبت الربة لإحباط خطتها، فهجرت الزوج والابن وعادت إلى بيتها مع النيريديات
Nereïds .
أوديسيوس، أو «عولس» أو «أوليس» أو «أولوسيس»:
ويسميه الرومان أوليكسيس
Ulixes ، ابن لايرتيس ملك إيثاكا وأنتيكليا. تزوج بينيلوبي وأنجب منها ابنا اسمه تيليماخوس. كان أوديسيوس أشهر أبطال الإغريق إذ فاقهم في الصيت وبعد الشهرة.
وقد قتل في شبابه خنزيرا أثناء الصيد الذي اشترك فيه عند زيارة جديه في بارناسوس فجرحه الخنزير في ركبته أثناء صراعه معه فترك أثرا في جسمه.
انضم أوديسيوس إلى جماعة خطاب هيلينا الذين وافقوا جميعا على فكرة أوديسيوس بأن يتركوا لهيلينا حرية اختيار زوجها وأن يحموها في المستقبل وقت الحاجة. لم يكن أوديسيوس موفقا من بين المتقدمين للزواج منها ولكنه عزى نفسه بزواجه السابق من بنيلوبي اللبيبة الغنية. كان سعيدا وملكا قادرا شهيرا معروفا بكرمه واحترامه للآلهة وخاصة زوس وأثينا.
أيدومينيوس
Idomeneus :
ابن ديوكاليون الكريتي، وحفيد مينوس. وإذ كان من عشاق هيلينا ذهب هو ومريونيس ابن أخيه غير الشقيق، ومعهما ثمانون سفينة إلى طروادة حيث يصوره هوميروس، من أشجع الأبطال، وممن عادوا إلى وطنهم بسلام. وتبعا لرواية أخرى، أطبقت عليه عاصفة وهو في طريقه إلى الوطن، فنذر إلى بوسايدون أنه، إذا رجع سالما فإنه سيذبح له أول ما يقابله عند نزوله إلى البر. فذهب ابنه لملاقاته، وعلى ذلك ذبحه، فاجتاح البلاد طاعون، فنفاه الكريتيون، فذهب إلى كالابريا. ثم انسحب فيما بعد إلى قولوفون بآسيا حيث يقال إنه دفن. ومع ذلك فقد عرف الكريتيون مكان قبره في كنوسوس
Cnossus ، حيث عبد كبطل.
مينيلاوس
Menelaus :
ابن أثريوس، وشقيق أجاممنون، وعندما قتل ثويستيس أتريوس، هرب الشابان إلى تونداريوس في أسبرطة الذي زوج ابنته كلوتا يمنيسترا إلى أجاممنون، كما أنه انتخب مينيلاوس لهيلينا من بين المتقدمين للزواج منها بعد أن قبل المتنافسون على الزواج منها تعضيد من يقع عليه الاختيار. وأنجب مينيلاوس هيرميوني
Hermione
من هيلينا.
هيلينا
Helena :
ابنة زوس وليدا ذات جمال الربات، وزوجة تونداريوس
Tyndareos
ملك أسبرطة وشقيقة الديوسكوري
Dioscuri
وكلوتمنسترا
Clytaemnestra . طلب يدها كثير من العشاق، وأخيرا تزوجها مينيلاوس الذي ولدت له طفلة واحدة هي هيرميوني. وفي أثناء غياب زوجها خطفها باريس
ابن برياموس، إلى طروادة، وأخذت معها كثيرا من الكنزوز. كانت هذه نشأة الحرب الطروادية، ورغم المصائب التي جرتها على الطرواديين، فإنهم أحبوها لجمالها ورفضوا إعادتها إلى زوجها. ومع ذلك فقد بكت لطيش شبابها، وتاقت إلى بيتها وزوجها وابنتها. وبعد موت باريس غازلها دايفوبوس
Deiphobus ، وساعدت الأغارقة على الاستيلاء على طروادة، وخانت دايفوبوس وسلمته إلى يدي مينيلاوس. وأخيرا عادت مع مينيلاوس إلى أسبرطة بعد تجوال ثماني سنوات، وعاشت معه هناك منذ ذلك الوقت في سعادة ووفاق. (2) من الطرواديين
أندروماخي
Andromache :
ابنة إيتيون
Eetion
ملك طيبة الكيليكية. وهي من أنبل الشخصيات النسائية في هوميروس. تتميز بحظها السيئ وحبها المخلص الرقيق لزوجها هكتور. وعندما استولى أخيل على المدينة التي كانت موطنها، قتل والدها وإخوتها السبعة وإذ استعيدت أمها من الأسر، ماتت بالمرض. وسقط والدها على يد أخيل. وعندما سقطت طروادة، شاهدت ابنها الوحيد أستواناكس
Astyanax (أو سكاماندر
Scamander ) يقذف من فوق الأسوار. وقعت، كجائزة حرب، من نصيب نيوبتوليموس ابن أعظم أعدائها، الذي أخذها أولا إلى إبيروس
Epirus
ثم سلمها إلى هيلينوس شقيق هكتور. وبعد موته، عادت إلى آسيا مع بيرجاموس
، ابنها من نيوبتوليموس، وماتت هناك.
باريس
أو «ألكساندر»:
هو ابن برياموس وهيكوبا من طروادة، ولقد حلمت هيكوبا قبل أن تلده أنها ولدت جذوة نار مشتعلة أضرمت النيران في المدينة كلها. ففسر أيساكوس حلمها بأنها ستضع طفلا يتم على يديه خراب طروادة. فأعطى برياموس الطفل إلى عبد يدعى أجيلاوس كي يقذف به من فوق جبل أيدا. فأرضعته هناك دبة مدة خمسة أيام حتى عثر عليه راع تبناه ورباه. فلما نما وترعرع أحب الحورية أوينوبي ابنة رب النهر كيبيرنوس
Cibernus
وتزوجها. ولقد تألق نجمه كمدافع يمتاز بالمهارة والشجاعة يحمي الرعاة والماشية من اللصوص، ويعيد ما سرق منها إلى أصحابها، وذات يوم جاء رسل الملك يبحثون عن ثور يقدمونه هدية إلى إحدى المباريات، فوقع اختيارهم على ثور يحبه باريس، ولكن باريس ذهب إلى المدينة واشترك في المباراة وتفوق على جميع المتنافسين ومن بينهم إخوته ففاز بالثور.
اختار زوس باريس ليفض النزاع القائم بين هيرا وأثينا وأفروديت على أيهن أجمل من الأخريين. ولقد أوجدت أريس هذا النزاع لغضبها الشديد عندما تناسين دعوتها لحضور حفلة زفاف بيليوس وثيتيس، فألقت بين الجموع تفاحة الشقاق بعد أن كتبت عليها «إلى أجمل الموجودات.» فقاد هيرميس الربات الثلاث إلى باريس في جبل أيدا حيث حاولت كل منهن أن ترشو باريس، فقدمت هيرا القوة، وقدمت أثينا النصر في القتال، وأما أفروديت فقدمت له أجمل نساء العالم، فحكم لها باريس. وتعرف هذه القصة بحكم باريس. واستمع باريس إلى تعليمات أفروديت فعبر البحر إلى أسبرطة حيث استقبله مينيلاوس وهيلينا أحسن استقبال. واستطاع بهداياه وجاذبيته أن يكسب بسرعة حب هيلينا، فانتهز فرصة غياب مينيلاوس في كريت وأبحر ليلا مع هيلينا يحمل مالا وفيرا. ولما كان لا بد من الانتقام لهذا العمل، فقد اتحد زعماء بلاد الإغريق جميعا وجمعوا أسطولا في أوليس
Aulis
وأبحروا إلى طروادة، وهكذا بدأت الحرب الطروادية. وهنا ظهر باريس في دورين؛ أولهما دور الجبان الذي يسعى إلى الاختفاء في حجرته فيلام على ذلك كثيرا ويحثه هكتور وغيره مرارا على القتال. وثانيهما دور المحارب الصنديد البارع في الرماية بالقوس والنشاب. فحارب وهزمه مينيلاوس، ولكن أفروديت أنقذته. قتل باريس أخيل بأن أصابه بسهم في عقبه.
برياموس
:
كان برياموس بن لاوميدون ملك طروادة العجوز إبان الحرب الطروادية. تهدمت طروادة أول ما تهدمت على يد هرقل وهو صبي فأسر هو وأخته هيسيوني. فقدمت هيسيوني هدية إلى تيلامون وسمح لها أن تشتري أي سجين تختاره من العبودية، فاشترت بوداركيس الذي سمي فيما بعد برياموس أي المفتدى.
أعاد برياموس بناء طروادة ووسع حدود مملكته ليضم لواء كثيرين كي يصبحوا رعايا له. تزوج أولا أريسبي ابنة ميروبس فأنجب منها أيساكوس. ثم أسرع فأعطى أريسبي لهورتايوس
Hyrtaeus
وتزوج هيكوبا فأنجبت أولا هكتور، ثم حلمت قبل أن تلد ابنها الثاني باريس أنها ولدت جذوة نار، ففسر أيساكوس الحلم بأن باريس سيكون سببا في دمار طروادة، فأرسله برياموس إلى هلاكه، ولكن باريس اكتشف فيما بعد أصل أبويه وعاد ليعيش من جديد مع عائلته.
هكتور
Hector :
أكبر أبناء برياموس وهيكابي
Hecabe ، وزوج أندروماخي ووالد أستواناكس. ونجده في هوميروس أبرز شخصية بين الطرواديين مثلما كان أخيل بين الإغريق. ومن الجلي أنه كان شخصية محبوبة لدى ذلك الشاعر. ويتمتع هكتور بأسمى صفات البطولة الروحية التي لا تعرف التقهقر وشجاعته الذاتية وسداد رأيه. وهو كذلك أكثر ابن محبوب وأرق أب وزوج. تتجلى هذه الصفات بأعظم المظاهر المؤثرة في المنظر الشهير في الأنشودة السادسة من الإلياذة حيث يودع أندروماخي، وزيادة على ذلك كان محبوبا لدى الآلهة وخصوصا أبولو. ويتنبأ بموته في وضوح، وكذلك بتدمير مسقط رأسه، ولكنه لم يسمح لهذه الفكرة أن تثبط من عزيمته أو تفت من عضده لحظة واحدة. ويحبه الطرواديون ويبجلونه راعيا لشعبه، ويخافه أعداؤه ويحترمونه، حتى أخيل نفسه لا يستطيع ملاقاته دون بعض الاستعداد. وكان يوجد دائما حيث توجد المعركة على أشدها. ولا يتوانى قط عن ملاقاة أبرز الأبطال الأغارقة في قتال فردي. وألد أعدائه هو أجاكس
Ajax
ابن تيلامون. وقد وضع الأغارقة في غياب أخيل، في أحرج المواقف، واقتحم وسائل دفاعاتهم وأحرق سفنهم. وبمساعدة أبولو قتل باتروكلوس الذي كان يعارضه ولكنه لقي حتفه أخيرا. ورغم توسلات والديه وزوجته، خرج للقاء أخيل في سورة غضبه، فتملكته آلام الرعب فجأة، فطارده عدوه الفظيع ثلاث مرات حول أسوار المدينة. وقد حزن لمقتله روس، ولكن عندما وضعت حياته وحياة خصمه في الميزان، هبطت كفة هكتور، فتركه أبولو، فسقط برمح أخيل أمام بصر شعبه. فطرح أخيل جثته في التراب أمام نعش باتروكلوس ليكون طعمة للكلاب والطيور. غير أن أفروديت دهنت جثته بالأمبروسيا فحفظتها من التعفن. وجرها أخيل ثلاث مرات خلف عربته حول قبر باتروكلوس، ولكن أبولو حفظها من التهتك. وأخيرا أمر زوس أخيل بأن يسلم جثة هكتور إلى أبيه العجوز ليضعها في فناء قصره، وبعد ذلك تحرق فوق كومة. وقد عبد هكتور في الأزمنة اللاحقة كبطل بواسطة سكان إيليوم
Ilium
الذين كانوا يقدمون الذبائح عند قبره. (3) من الآلهة
أبولو
Apollo :
ابن زوس من ليتو
Leto ، التي تبعا للأسطورة الأكثر شيوعا، ولدته هو وأخته التوءم أرتيميس (ديانا) في جزيرة ديلوس. يظهر أبولو أولا كرب للضوء في كل من تأثيره النافع وأثره المدمر، ورب الضوء عموما، ليس ضوء الشمس وحده؛ لأن أوائل الإغريق كانوا يعتبرون الرب جالب ضوء النهار هو هيليوس
Helios
الذي لم يعترف بأنه هو أبولو إلا بعد مضي شيء من الزمن. ورغم أن معنى اسمه أبولو غير محقق فإن لقبيه فويبوس
ولوكيوس
Lycius
يفسران معناه بوضوح، على أنه الساطع معطي الحياة. واللقب الأول يعني أيضا التقي المقدس، لأنه كرب للضوء النقي، عدو للظلام بكل ذريته غير النظيفة والفظة وغير المقدسة. وهو أيضا رب النبوءات والشعر والموسيقى. وقد اشتهر ببراعته في رمي السهام من بعيد.
أثينا
Athene
أو بالاس أثينا
:
ربة إغريقية، هي مينيرفا الرومانية. هي ابنة زوس الذي كان قد ابتلع أولى زوجاته ميتيس
Metis (النصيحة) ابنة أوقيانوس خشية أن تلد له ابنا أقوى منه. فشق هيفايستوس (أو تبعا لرواية أخرى بروميثيوس) رأس زوس بفأس فقفزت منه أثينا بكامل عدتها الحربية، وهي الربة العذراء إلى الأبد.
منذ البدء، تحتل مكانة سامية في الديانة الشعبية لدى الإغريق. وتصورها التراتيل الهومرية محبوبة والدها الذي لم يرفض لها طلبا. إذا أراد الإغريق أن يحلفوا يمينا مغلظة، قرنوا اسم أثينا مع اسمي زوس وأبولو بطريقة تدل على أن هؤلاء الأرباب الثلاثة يمثلون كامل السلطة الإلهية.
كانت أثينا في الأصل، ابنة رب السماء العذراء، الأثير الرائق الشفاف، التي يبدو صفاؤها في تألق غير مقنع خلال السحب المحيطة بها. وكربة للجو، هي سيدة الرعد والبرق مع زوس. وتحمل، مثل زوس، ترس البروق المسمى «أيجيس» وبوسطه رأس الجورجونة رمزا للعاصفة وأهوالها. وعلى ذلك صورت في كثير من التماثيل وهي تقذف الصاعقة .
اعتبرت أثينا أيضا ربة الحرب. وبهذا المعنى تظهر في القصص كصديقة لجميع المحاربين الجريئين، مثل بيرسيوس وبلليروفون وجاسون وهرقل وديوميديس وأوديسيوس.
أريس
Ares
أو مارس
Mars :
ابن زوس وهيرا، الذي اعتقد هوميروس أنه ورث حب المشاغبة من والدته، واشتد ولعه بالعراك حتى إنه لم يعد يسره شيء ما غير القتال وسفك الدماء. ويجعله تعطشه للدماء مكروها من والده وسائر الآلهة الآخرين وخصوصا أثينا. ومأواه المفضل هو أرض التراقيين المحبين للحرب. كان المثل الأعلى للأبطال المحاربين في الصورة والمعدات. وتبعا لهوميروس، يتقدم أريس، تارة سائرا على قدميه، وتارة أخرى راكبا عربة حربية تجرها الجياد الجميلة وتصحبه شقيقته المتعطشة للدماء مثله إريس
Eris (النزاع) وأبناؤه ديموس
Deimos
وفوبوس
(الخوف والفزع) وأنيو
Enyo (ربة المعارك ومخربة المدن)، مندفعا في غضب أعمى فيقتل بغير تمييز. ورغم أنه كان يقاتل إلى جانب الطرواديين، فإن سفك الدماء محبب إلى قلبه. غير أن قوته الجامحة وشجاعته العمياء تنقلب ضد صالحه وتجلب عليه الهزيمة دائما في حضرة أثينا ربة الكتائب المنظمة، كما أنه يغلب أيضا على يد الأبطال الذين تحت قيادتها، مثال ذلك عندما هزمه هرقل في المباراة مع كوكنوس
Cycnus ، وديوميديس أمام طروادة.
أفروديت
Aphrodite
أو «فينوس
Venus » عند الرومان:
ربة الحب الإغريقية. وتضم اختصاصاتها، مع الفكرة الهيلينية، كثيرا جدا من المظاهر الشرقية، ولا سيما الفينيقية الأصل التي لا بد أن يكون الإغريق قد خلطوها مع آرائهم القومية في غابر العصور المتغلغلة في القدم. تظهر منذ عصر قديم جدا باسم
Aphro-geneia
أي «المولودة من الزبد»، و«أناديوميني» أي «التي صعدت» من البحر. وخطت إلى شاطئ قبرص التي كان الفينيقيون قد استعمروها في زمن لا يعلمه إلا الله.
تبدي أفروديت قوتها في حياة الآلهة والبشر بصفتها الربة الذهبية ذات الابتسامة الحلوة، للجمال والحب اللذين تعرف كيف تحتفظ بهما أو تطردهما. تتألف حاشيتها من أيروس (كيوبيد) والساعات والجراكيات وبيثو
(الإغراء)، وبوثوس
وهيميروس
Hemeros (تمثيل للشوق والحنين). وإذ ربطت بين الأجيال برباط الحب، صارت ربة الزواج والحياة العائلية، ونتيجة لهذا كانت ربة قرابة المجتمع كله.
بوسايدون
:
ابن كرونوس وريا، ورب البحر له سلطان على العواصف والرياح، ويرسل الخراب أو يهب السلامة للملاحين، ويشرف على جميع العمليات البحرية كالصيد والتجارة البحرية. كان له قصر ذهبي بجوار أيجاي في يوبويا
Euboea
في أعماق البحر وعلى سطح المياه حيث كان يسود الهدوء عند قدومه. وكان يركب عربة عسجدية تجرها جياد سريعة العدو ذات حوافر برنزية وعروف ذهبية يخبط بها الأرض فتتزلزل أركانها والصخور فتنشق رواسيها.
ثيتيس
Thetis :
ابنة نيريوس ودوريس، ربة البحر، قامت هيرا بتربيتها وتزوجت بيليوس الذي كان بشرا، وصارت والدة أخيل العتيد. وإذ كان أخيل فانيا أرادت أمه أن تجعله غير قابل للجراح فحملته من عقبيه وغطسته في نهر الستوكي فصار الفتى غير قابل للجراح بالحراب ما عدا عقبيه.
زوس
Zeus
أو جوبيتر
Jupiter
عند الرومان:
حاكم العالم ورئيس سائر الآلهة والبشر. كان ابن كرونوس وريا، وشقيق بوسايدون وهيستيا وديميتير وبلوتو وهيرا التي صارت زوجته وأنجبت له أريس وهيفا يستوس وهيبي.
رأس زوس.
اختص زوس بأن يشرف على مجالس آلهة أوليمبوس العظام وهو يتأثر أحيانا بآرائهم وبنصائح ومطالب الأفراد، ولكنه كان في الوقت نفسه يستطيع أن يصرف الأمور دون الاستعانة بهم إذ كان يفوقهم جميعا قوة، وكانت إيماءة واحدة من رأسه تكفي لتحقيق رغبته وتزلزل جوانب أوليمبوس، وكانت سائر الأشياء كذلك تحت سلطانه، حتى الحظ نفسه؛ فقد كان يظن أنه يخضع لإمرته ولو أنه كان يبدو في بعض الأحايين مستقلا عنه.
وقد صور زوس في هيئة ذات رهبة وجلال، له خصلات مناسبة ولحية كثة، وكانت هيبي من خدمه وكذلك جانوميديس وكانا حاملي الكئوس، وهيرميس رسوله الأمين ينقل أحكامه وأوامره في لمح البصر إلى أقاصي الأرض. وكان النسر من الأشياء الملتصقة به، وهو طائر زوس الذي يصور دائما ممسكا بالصاعقة.
كرونوس
Cronus :
في الميثولوجيا الإغريقية، أصغر أبناء أورانوس وجيا، الذي تغلب على والده ومثل به، ثم جعل نفسه ملكا على العالم، وبمساعدة أقاربه تغلب على التيتان. تزوج من أخته ريا، فأنجبت منه هستيا وديميتير وهيرا وهاديس وبوسايدون وزوس الذي أنقذته ريا بالخداع. عندما كبر زوس، حصل على مساعدة حورية المحيط ثيتيس في إجبار كرونوس على أن يتقيأ أولاده، ثم تغلب على كرونوس والتيتان بمساعدة أقاربه.
ليتو
Leto :
ابنة التيتان كويوس
Coeus
وفويبي
، وتبعا لهسيود، كانت ليتو هذه زوجة زوس ذات «الثوب الداكن» والدائمة الرقة، قبل أن يزف إلى هيرا، وهي والدة أبولو وأرتيميس.
هاديس
Hades :
ابن كرونوس وريا
Rhea ، الذي تسلم مملكة العالم السفلي عند تقسيم الكون بعد سقوط كرونوس، بينما صار شقيقاه زوس وبوسايدون سيدي السماء والبحر على التوالي. كان يحكم مع ملكته برسيفوني
على قوى مناطق الجحيم الأخرى وعلى أشباح الموتى. وكان رمز إمبراطوريته غير المرئية خوذة تجعله غير مرئي أعطاه إياها الكوكلوبس
Cyclopes
لتساعده في معركة الآلهة والعمالقة. كان المعتقد أولا أنه يحمل الموتى بنفسه في عربته إلى العالم السفلي، أو يسوقهم بعصاه، ولكن المعتقد في الأزمنة اللاحقة هو أن هذه المهمة وكلت إلى هيرميس. وهاديس عدو كل حياة، وكان قاسي القلب لا يرحم؛ ولذلك كان ممقوتا من الآلهة والبشر.
هيرا
Hera :
هي ملكة السماء وكبرى بنات كرونوس وريا، وشقيقة زوس وزوجته الشرعية. وتبعا لهوميروس، رباها في شبابها أوقيانوس وثيتيس. بيد أن كل مكان تعبد فيه يؤكد أنها ولدت به وربتها حوريات منطقته. ويقال إنها عاشت مدة طويلة في علاقة سرية مع زوس قبل أن يعلن أنها رفيقته الشرعية. وكان عبادها يحتفلون بعيد زواجها في الربيع.
كانت هيرا تمثل أصلا المظاهر الأنثوية للقوى الطبيعية التي يمثل زوس مظاهرها الذكرية أي أنها كانت تمثل الأمومة. وتقاسم زوس سلطته وأمجاده.
هوميروس
هوميروس كاتب نظم شعر الأبطال، نظم ملحمة بالغة الطول، تناولت مغامرات أبطال فجر التاريخ. وكثيرا ما نرى شعر البطولة كأول صور الأدب التي تظهر في أية لغة. وللغة الفرنسية شعر أبطالها
Chansons de geste
كما أن للأيرلنديين منظومتي «القصة
Saga » و«الفردوس المفقود
paradisi Lost ». وهما من شعر البطولة نظمهما ملتون
Milton ، ولكنهما ليستا من النوع الذي نعنيه هنا؛ إذ حدثتا في وقت متأخر. كذلك في بلاد الإغريق، نجد أول شاعر ذي شعر خالد، وهو هوميروس
Homer . ومن الجلي أن عدة شعراء آخرين سبقوا هوميروس. وقد كانت أشعار الأخير بالغة الروعة والعظمة لدرجة جعلتها لا يمكن أن تنشأ من لا شيء. ولذلك، كان من المؤكد قطعا أنه لا بد أن تقدم هوميروس عدة شعراء بالغي القدم (
Saga
أي القصص التاريخية الخيالية).
لا تتناول منظومة هوميروس تاريخ حرب طروادة
Troy ، كما قد نظن، ولكنها تتناول السنة الأخيرة من تلك الحرب، وتتضمن قضية وهدف غضب أخيل
Achiles
جزءا كبيرا من هذه القصيدة البطولية الخالدة، وكان الغرض من الحرب ضد طروادة التي استمرت عشر سنوات تقريبا، كما قد نظن، هو تحرير بلاد الإغريق من طروادة، التي اعتادت أن تفرض الضرائب على السفن التي كانت تمخر عباب اليم هناك قرب الساحل الشمالي لآسيا الصغرى. •••
كان هوميروس هو الشاعر الإغريقي الذي تحمل اسمه ملحمتان من أقدم الملاحم وأضخمها في تاريخ الأدب الإغريقي، وهما الإلياذة والأوديسة. أما فيما يختص بهذا الشاعر من حيث شخصيته وبلده، فليس لدينا معلومات موثوق بها. وحتى وجوده الشخصي محل نزاع. وكثيرا ما حاول المختصون البرهنة، من معاني اسمه، على أنه لم يكن فردا، بل نموذجا، فاستقر الرأي على أن معنى اسمه، إما «المنظم» وإما «الرفيق». وفي الحالة الأولى يدل الاسم على أنه الممثل النموذجي لشعر البطولة والملحمة في صورتها الموحدة والمتكاملة فنيا، بينما يوحي المعنى الثاني على أنه سلف نموذجي وإمام طائفة فذة من الشعراء المنشدين. غير أنه لما كان هوميروس علما، ويعني ببساطة «وديعة» بغير ما صلة بالشعر. فلا شيء في الاسم نفسه يوجب الشك في وجود هوميروس كشخصية تاريخية. وقد تنازعت سبعة أماكن، في العصر القديم، لتكون مسقط رأسه: أزمير، ورودس، وتولوفون، وسالاميس (في قبرص)، وخيوس، وأرجوس، وأثينا، ولكن ليس هناك أي شك في أن الملاحم الهومرية نشأت على الساحل الغربي لآسيا الصغرى. والتقاليد القديمة صحيحة في تحديد مسقط رأسه بمدينة أزمير الأيولية، وتحديد المكان الذي نظم فيه الشعر بمدينة خيوس. ومما يتفق مع هذا، اختلاط اللهجة الأيونية بشيء من الأيولية فيتكون منهما صورة هي أساس الأشعار الهومرية، وكذلك أنه كان في خيوس أسرة تسمى الهوميريداي ظلت عدة قرون تدعي نسبها إليه، وشغل أفرادها أنفسهم بتلاوة أشعاره.
أما عن الوقت الذي عاش فيه هذا الشاعر، فإن جميع آراء التحقيقات التي تمت على أساس الاعتبارات التاريخية تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا. ومع ذلك فيبدو من المؤكد أن المدة التي بلغ فيها شعر البطولة الهوميري درجة الكمال لا تقع قبل سنة 950ق.م. ولا بعد سنة 900 ومن جميع التقاليد الخاصة بهوميروس، نستخلص أن اسم والده هو ميليس
Meles
وأصيب هوميروس بالعمى في شيخوخته ومات في جزيرة أيوس
Ios
الصغيرة حيث كان قبره ظاهرا، وتذبح فوقه سنويا عنزة في الشهر المسمى باسم ذلك الشاعر هوميريون
Homereon ، وعبد هوميروس لفترة ما في تلك الجزيرة كبطل. وربما نشأت قصة إصابته بالعمى من تخيل أن المغني الأعمى منشد الأوديسة ديمودوكوس
Demodocus
كان النموذج الأصلي لهوميروس، ومن الأمور الموثوق بها التي تدعم هذا الاعتقاد، أن مؤلف تراتيل أبولوديلوس
Apollodelus
الذي وصفه صوت العصور القديمة لهوميروس، صور هوميروس أعمى وقال إنه كان يعيش في جزيرة خيوس. وتعتمد أهمية هوميروس على أنه بينما يستخدم الصور الثابتة للوزن الشعري الذي وضعه سابقوه، استطاع أن يرفع أناشيد البطولة إلى مستوى شعر الملاحم البطولية في نظام رتيب وعرض فني.
تتناول الملحمتان اللتان تحملان اسمه، وهما الإلياذة والأوديسة، واللتان قسمت كل منهما في عصر لاحق إلى أربعة وعشرين كتابا، تتناولان أساطير طروادة. استغرقت الإلياذة مدة واحد وخمسين يوما من السنة العاشرة للحرب الطروادية تبعا لخطة بسيطة مع سرد لأحداث ذلك العصر. فتبدأ بغضب أخيل الذي أخذت منه أسيرته الفتاة العذراء بريسايس
Briseis
بأمر أجاممنون فتروي المحن التي جلبها انسحاب ذلك البطل الغاضب من المعركة، على الإغريق في قتالهم في السهل الطروادي حول الأسوار وبقرب المعسكر البحري. فيعطي هذا فرصة مناسبة لوصف الأبطال الآخرين إلى أن يسقط باتروكلوس صريعا، الحادث الذي يعتبر نقطة التحول في هذه الملحمة. ويأتي بعد ذلك استرضاء أخيل وانتقامه لمقتل صديقه فصرع هكتور، والألعاب الجنائزية تكريما لباتروكلوس. وتنتهي هذه الملحمة بنهاية محزنة من تسليم جثة هكتور ودفنه. وكذلك الأوديسة، تتناول عددا كبيرا من الأحداث الخاصة بعودة أوديسيوس إلى وطنه، تستغرق كلها المدة البسيطة لأربعين يوما، ولكنها تتم تبعا لخطة فنية معقدة. وعلى نقيض الجزأين الرئيسيين للإلياذة، تتكون الأوديسة من أربعة أجزاء. يصف الجزء الأول منها مغامرات تيليماخوس
Telemachus
الذي ظلمه عشاق والدته بنيلوبي
، فيخرج مرتحلا إلى نستور
Nestor
في «بولوس»
ومينيلاوس
Menelaus
في أسبرطة، بحثا عن والده. وهكذا يجد هذا الشاعر فرصة ليروي شتى الأحداث التي أصابت الأبطال الأغارقة أثناء عودتهم إلى وطنهم. ويصف الجزء الثاني مغامرات أوديسيوس في رحلته إلى أوجيجيا
Ogygia
جزيرة كاليبسو
Calypso
وبقاءه مع الفياكيين
(وتتصل بها رواية ذلك البطل لتجوالاته في رحلته من طروادة إلى أوجيجيا) وأخيرا وصوله إلى إيثاكا
Ithaca
ويصف الجزء الثالث زيارة أوديسيوس لكوخ راعي الخنازير إيومايوس
Eumaeus ، وتعرف تيليماخوس عليه (بعد أن عاد إلى وطنه) كما تعرفت عليه خادمته الوفية، ووضع خطة الانتقام من العشاق.
ويشمل الجزء الرابع تنفيذ الانتقام، ويتم كل شيء في سلام بعودة البطل إلى زوجته بنيلوبي ووالده العجوز لايرتيس
Laertes .
وبواسطة الرواة المحترفين، الذين كانوا ينتقلون من مدينة إلى مدينة وأطلق عليهم «المنشدون الجائلون» وجدت أشعار هوميروس تداولا سريعا، ليس في وطنها الأسيوي فحسب، بل وكذلك في بلاد الإغريق وفي مستعمراتها الغربية، ودخلت أسبرطة بواسطة ليكورجوس
Lycurgus
الذي علم بوجودها من رحلاته إلى ساموس. ومن بين ذرية كريوفولوس
Creophylus ، ظهر شاعر ذائع الصيت اشتهر بأنه صديق هوميروس ومن أقاربه. وقد صارت هذه الأشعار، في سنة 753ق.م. أي بعد بدء الأوليمبياد بثلاث وعشرين سنة، ملكا عاما لجميع الأغارقة.
لما كان المنشدون الجائلون ينشدون أشعار هاتين الملحمتين في الحفلات والأعياد، فإن الجزء الأكبر منهما اقتضى تقسيما منتظما منذ بدايتهما، إلى أقسام مناسبة تسمح بفترات راحة، ليس للمنشدين وحدهم، بل وللمستمعين أيضا، ومن هنا نشأ تقسيم هاتين الملحمتين إلى أقسام منفصلة تسمى بالأناشيد، ووضعت لها عناوين ملائمة، وظلت مستعملة بهذه الصورة إلى تاريخ متأخر؛ إذ قسمت الملحمتان إلى أربعة وعشرين كتابا. وسرعان ما جرت العادة بتلاوة الأناشيد الفردية، بعضها محبوب بنوع خاص واعتبر أكثر ملاءمة من غيره لإظهار مواهب بعض المنشدين. وهكذا حدث أن بعض الأجزاء ألقي في حيز النسيان ، ونشأت فجوات بين الرواية الشفوية لتلك الأشعار. ومن ناحية أخرى، لم يسع المنشدين إلا أن يضيفوا إلى أنشوداتهم المحببة، خاتمات مناسبة وتكملات تتفق وأذواقهم، ولم يتورعوا، بطبيعة الحال، عن التغيير والتبديل والإضافة حيثما رأوا هذا مناسبا. ويرجع إلى مدينة أثينا شرف إيقاف مثل هذه الفوضى المتزايدة الناجمة عن تلك الأعمال. وكان صولون
Solon
أول من أمر بالتزام المنشدين بالنص الأصلي. وقام بيزيستراتوس
(في حوالي سنة 535ق.م.) بتكوين لجنة من عدة شعراء يرأسهم أونوماكريتوس
Onomacritus
لجمع الأقسام والأناشيد المتناثرة هنا وهناك، ومراجعة نصوصها على أساس النسخ الأصلية الموجودة وقتذاك وعلى التلاوة الشفوية للمنشدين والرواة.
أما أن يكون بيزيستراتوس أو ابنه هيبارخوس
Hipparchus
هو الذي أصدر قرارا يكرم الشعراء المنشدين الجائلين عندما يتسابقون في الإنشاد في عيد البان أثينايا بأن ينشدوا أشعار هوميروس بترتيبها الصحيح وكاملة حسبما جمعت في صورتها الأصلية. أفادت هذه المراجعة لتقف في طريق التشويه المتزايد لنصوص ذلك التراث القيم. وبوسعنا أن نتتبع نسخا من ملحمتي هوميروس موجودة في شتى أنحاء بلاد الإغريق. وبمرور الزمن، تعرضت هذه النسخ أيضا للتغييرات العرفية ولا سيما على أيدي العلماء الذين أرادوا تحسين النص. وأول من فعل ذلك هم العلماء السكندريون الذين وجدوا في هوميروس محورا لدراساتهم اللغوية، وتناولوها بالنقد المنظم لنصوصها. وقد واتتهم فرصة العثور على المخطوطات القديمة لذلك الشاعر في مكتبة الإسكندرية. وكان أول من بدأ هذا العمل هو زينودوتوس
Zenodotus
الإفسوسي، الذى خلفه أريستوفانيس
Aristophanes
البيزنطي، الذى بلغ تلميذه أريستارخوس
Aristarchos
أسمى درجة وصل إليها الأقدمون في النقد اللغوي، وذلك بدراسة أشعار هوميروس. بنيت النسخ التي أخرجها أولئك النقاد السكندريون على الترتيب الذي قام به بيزيستراتوس، وهي نفسها النسخ الأصلية لما لدينا الآن من نصوص أشعار هوميروس.
ومنذ ذلك الوقت حتى آخر العصور الإغريقية القديمة، لم يكف العلماء عن جعل هوميروس نموذجهم في الأعمال التي ما زالت باقية لنا. وحتى في العصور القديمة شغل العلماء أنفسهم بالسؤال عما إذا كانت الإلياذة والأوديسة من إنتاج شاعر واحد. أجيب على هذا السؤال إجابة كاملة بأن اسم هوميروس ظل مدة طويلة يدل على «اسم جمع» ويضم سلسلة طويلة من قصائد البطولة منظومة على نهج نموذجه، اكتشف حقيقتها تدريجيا فيما بعد. ولم يخف على الملاحظة أن الأوديسة في صورتها الفنية العالمية وعلاقتها بالحياة الاجتماعية والأخلاقية والدينية تتبع مرحلة أكثر تقدما مما تتبعها الإلياذة. وهكذا حدث في العصور القديمة أن قررت الطائفة المعروفة باسم الخورنزونتيس
Chorizontes (أو العلماء المصنفين) وعلى رأسهم العالمان بقواعد اللغة إكسينون
Xenon
وهيلانيكوس
Hellanicus ، الذين يحتمل أن كانوا من بداية الحقبة السكندرية، قررت أن الأوديسة من نظم شاعر لاحق، وحتى العلماء المحدثون شاركوهم في هذا الرأي، بينما قرر آخرون، معتمدين على المطابقة الأساسية للنغمة واللغة والوزن، وغير ملقين أهمية كبيرة إلى مواضع الاختلاف مفسرين إياها بأنها نتجت عن اختلاف الهدف في الملحمتين وإلى مرحلة نظمها من حياة ذلك الشاعر، فقرروا أنها من نظم الشاعر نفسه. ومع كل إعجابنا بفن وجمال الملحمتين الهومريتين، لا ننكر أنهما لا تتصفان بنفس مستوى الكمال في جميع أجزائهما. فإلى جانب الفقرات البالغة الروعة توجد فقرات أخرى ركيكة وغير جذابة، ونقط توقف في السرد، كما توجد بهما بعض المتناقضات. لم تفت هذه العيوب ملاحظة العلماء السكندريين، الذين نسبوا أية اعتراضات من هذا النوع إلى التذييلات الكثيرة، ليس في سطور فردية فحسب، بل وفي فقرات بأكملها. فمثلا، قرروا أن النصف الثاني من الكتاب قبل الأخير، وجميع الكتاب الأخير من الأوديسة، زائف.
قدمت عدة تفسيرات لهذه العيوب في العصور الحديثة؛ فأولا لاحظ ف. أ. ولف
Wolf (1795م) أن فن الكتابة في عصر هوميروس لم يمارس على نطاق واسع يسمح باستعماله في الأغراض الأدبية، وأنه يستحيل، حتى على أعظم نابغة أن يخرج كل هذه الكمية الضخمة باستخدام الذاكرة وحدها، وينقلها إلى غيره. وعلى هذا الأساس قرر أن الإلياذة والأوديسة اتخذتا صورتيهما الحاليتين لأول مرة، في عصر بيزيستراتوس، عندما حددت الأناشيد القديمة، المحفوظة بالتقاليد الشفوية وحدها، حددت بالكتابة وجمعت وأدمجت في منظومتين ضخمتين. تبع ولف آخرون، حاولوا تقسيم الإلياذة بنوع خاص إلى أناشيد منفصلة ومستقلة، وقرر آخرون أن ملحمتي هوميروس تتكونان من إنشادات متوسطة الطول هي: غضب أخيل، وعودة أوديسيوس، تناولهما التطويل والتحسين والتغيير حتى نتج منها الأوديسة والإلياذة الحاليتان. وتقدم آخرون ففرضوا أنهما تكونتا من عدد من القصائد البطولية الصغيرة، بدلا من عدد ضخم من الأناشيد الفردية. وهكذا أدمجت قصيدة أخيلية وإلياذة فنتج عنهما الإلياذة الحالية. وكذلك الأوديسة الحالية نتجت عن إدماج قصيدة تيليماخية وقصيدة عن عودة أوديسيوس. ومن ناحية أخرى تقرر هيئات موثوق بها أنه، مع التسليم جدلا بإمكان الانتفاع بالأناشيد التي كانت موجودة من قبل، فإن الأوديسة والإلياذة، كونتا منذ بدايتيهما منظومة موحدة، ولكن سرعان ما تناولهما عدد كبير من المراجعات والتطويل حتى أخذتا، قبل بداية الأوليمبياد، الصورة الأساسية التي تحتفظان بها. ومن المؤكد أنه بعد أول أوليمبياد، نظمت قصائد بطولية على غرار الإلياذة والأوديسة، وأطول منهما، وإكمالا لهما. ولا يمكن إنكار أنه قبل هذه الحقبة بفترة طويلة، انتشر استخدام فن الكتابة على نطاق واسع في بلاد الإغريق. ومما لا يقبل الاعتراض، أنه علاوة على التشويهات الحادثة من التغييرات التي أصابت هاتين الملحمتين في عصور لاحقة، فقد يجوز حدوث بعض التعديلات غير المتشابهة في مختلف الأجزاء، وكذلك الكثير من عدم التطابق في هاتين القصيدتين، وحتى في صورتهما البدائية. ورغم عيوب التفاصيل هذه، فقد بقيت القصيدتان الهومريتان فذتين كأعمال فنية لم يتفوق عليهما أي عمل آخر، بما لهما من تأثير عظيم ليس فقط على تقدم الأدب والفن، بل وعلى الحياة الإغريقية كلها، حياة الأغارقة الذين اعتبروهما ملكية عامة للأمة واستخدموهما كأساس لجميع التعاليم والثقافة. وحتى الآن، بعد ما يقرب من 3000 سنة، ظل تأثيرهما باقي المفعول لم ينل منه القدم.
وعلاوة على الإلياذة والأوديسة، لدينا باسم هوميروس: (أ) مجموعة أناشيد، خمس طوال، عن أبولو البوثي والدلفاوي، وهيرميس، وأفروديت، وديميتير، وتسع وعشرون قصيدة قصيرة عن آلهة شتى. وهذه، في الحقيقة، مقدمات يستهل بها المنشدون الجائلون أية أنشودة من أناشيدهم. وموضوع كل قصيدة منها مدح للإله الذي تنشد الأناشيد في عيده، أو في البلد الذي يكرم فيه بنوع خاص. وربما كان اختيار القصيدة الاستهلالية خاضعا لمضمون القصيدة التالية، وإذا لم يكن هوميروس هو ناظم هذه القصائد، فإنها من نظم المنشدين التابعين للمدرسة الهومرية. وهكذا اعتبر المنشد كونايثوس
Cynaethus
ناظم أنشودة أبولو الدلفاوي. ويبدو أن هذه المجموعة قد أعدت لاستعمال المنشدين الجائلين في أتيكا، على أساس إمكان الاختيار منها تبعا لرغبة المنشد. (ب) ست عشرة قصيدة قصيرة أطلق عليها
Epigrammata ، من الشعر الأقدم. اثنتان منها أناشيد بالأسلوب العامي، والكامينوس
Kaminos
أو «أتون الفخاري» (تطلب منها البركة من أثينا عند وضع «طريحة» من الأواني الفخارية في الأتون)، ونوع من أناشيد التسول تسمى
Eirestone (حرفيا: إكليل حصاد ملفوف بالصوف). (ج) قصيدة:
Batrachomyomachia
أو معركة الضفادع والفئران وهي قصيدة تهكمية على الإلياذة، وتنسب عموما إلى بجريس
شقيق أرتيمسيا
Artimesia
ملكة كاريا
Caria
المعروف جيدا فيما يختص بالحروف الفارسية. والقصيدة البطولية القديمة المسماة «الحمقاء» وهي مفقودة.
القصائد الهومرية
الإلياذة
الإلياذة
Iliad
والأوديسة
Odyssey
أقدم الآثار الأدبية. ليس في الأدب اللاتيني فحسب، بل وفي أدب أوروبا كله. يجب أن ننظر إليها كمفتاح يوصلنا إلى الشعر الذي هما باكورته ونخبته. وقبل أن نبدأ في ذكر تقدير العالم كله للإلياذة، علينا أن نقول: إن الآلهة في علم الأساطير الإغريقية لا تعتبر مختلفة كثيرا عن بقية الناس. فلهم مراكزهم وغضبهم وأفراحهم. وأهم مميزاتهم هي أنهم أقوى من البشر العاديين. ومع ذلك يمكن أن يهزمهم أنصاف الآلهة أو أحد الأبطال من البشر.
لكي نثق في قوة هوميروس الخلاقة، وبلاغته الفائقة، ونعجب به كأحسن قصاص، يمكننا أن نصور النضال بين شخصين كل منهما على حق. فنجد أجاممنون
Agamemnon ، في الأنشودة الأولى، مخطئا بسبب عجرفته وصلفه؛ إذ انتزع هيبوداميا
Hippodameia
من بين يدي أخيل
Achilles ، فقد اضطر إلى إعادة ابنة خروسيس
Chrysis
إلى خروسيس نفسه. وفي الأنشودة التاسعة نجد أنه بناء على نصيحة نستور
Nestor ، أرسل أجاممنون كلا من أولوسيس
Ulysses
وفوينكس
وأجاكس
Ajax ، إلى فسطاط أخيل سعيا وراء مصالحته. ورغم توسلات فونيكس الجادة، لم يكلل مسعاهم بالنجاح، أي أن يعتذر أجاممنون لأخيل المزهو المغرور والمعتد بجرأته وبسالته. فقد رفض هذا الأخير أن ينضم إلى المعركة دفاعا عن الوطن، ثم تواجهنا في الأنشودة الثانية والعشرين فاجعة عاطفة بالغة الشدة، عندما يصر هكتور
Hector
على البقاء خارج الأسوار رغم توسلات أبيه. فيطوف عدوا حول طروادة ثلاث مرات، ويحارب، فيقتله أخيل ويجر جثته إلى الأسطول مربوطة إلى عجلات عربته الحربية متبوعا بعويل ونحيب زوجة هكتور ووالديه.
وهكذا نرى أن بعض الأحداث يسبب التردد، بينما يسبب البعض الآخر نتائج غير متوقعة. لا يتناول شعر البطولة الحرب، وإنما يتناول، بنوع خاص، مغامرات أخيل وكبرياءه وغضبه وانتقامه وجرأته، ونتائج كل هذه.
وهناك أحداث أخرى لا تنتمي إلى الفكرة الأصلية، ويمكننا أن نصفها بأنها تفسيرية، بينما تساعد أحداث أخرى في إلقاء الضوء على الشخصيات.
الأوديسة
الأوديسة ثاني منظومة بطولية لهوميروس الخالد وتتلخص فيما يلي: ساعد بوسايدن
، إله البحر، بناء على نفوذ جونو
Juno ، ساعد الطرواديين في حرب طروادة. وهكذا كان على أوديسيوس
Odysseus
أن يضل طريقه في البحر وهو عائد إلى وطنه، يبدأ أول أعماله في إيثاكا
Ithaca ، مملكة أوديسيوس. فقد اجتمع الآلهة وعقدوا مجلسا قرروا فيه ضرورة إرسال أولوسيس إلى إيثاكا، من جزيرة كالوبسو
Calypso . وعندئذ ذهبت مينرفا
Minerva
إلى إيثاكا حيث ظهرت أمام تيليماخوس
Telemachus ، ابن أوديسيوس، متخذة صورة منتيس
Mentes
ملك التافيين
Taphians ، الذي كان صديقا لأوديسيوس. فدخلت في حوار مع تيليماخوس وأوعزت إليه بأن يذهب إلى «بولوس»
حيث يقابل نستور
Nestor ، كما يذهب إلى مينيلاوس
Menelaus
في أسبرطة
Sparta ، ليتنسم الأخبار عن والده، وما إذا كان لا يزال على قيد الحياة. ثم انصرفت بعد أن برهنت على ألوهيتها. فوبخ تيليماخوس والدته بنيلوبي
وأمرها بأن تصعد إلى الطابق العلوي. وفي أثناء الوليمة هدد تيليماخوس العشاق بأنه سوف ينتقم منهم جزاء مسلكهم الشائن، فنسمع في الأنشودة الخامسة أولوسيس يصف مغامراته البحرية طوال مدة سنة كاملة، ثم يستعد للذهاب إلى منطقة الجحيم. ويمكننا أن نقرأ في هذه الأنشودة أول قصيدة نظمت في العالم كله.
لغة الإلياذة
لغة هوميروس خليط من عدة لهجات تسودها اللهجتان الأيونية
Ionic
والأيولية
Aeolic . وقد نظمت هذه الأشعار بمهارة فنية بالغة السمو. كما أن الموضوع سامي الصياغة. وهنا استطرادات كثيرة طوال القصة برمتها، ولكنها، في الحقيقة ، لا تتعلق بالخطة الرئيسية. ومن عادة جميع كتاب القصص أن يدخلوا فيها شيئا غير ضروري جدا؛ ولذا يعتبر هوميروس كاتبا فائقا للأدب ذا خيال لا يخطئ إطلاقا، كان كتاب هوميروس هو الذي عانقه الناس في الحرب الأخيرة عندما كانوا على وشك أن يصيروا آلات بسبب القسوة والقتال والنفعية.
لم كان هوميروس أعظم فنان؟
أولا:
لجمال لغته وحداثة أسلوبه وسلاسة عباراته. فإذا ما قرأت لهوميروس، وقعت على ما يخلبك ويوقعك تحت تأثيره، ومن السهل أن نلاحظ ضوءا غريبا في أسلوب شاعر البطولة الخالد هذا.
ثانيا:
هوميروس قصاص رائع ممتاز. وقصته ممتعة جدا وإنسانية؛ فهي تحظى بإعجابك إلى النهاية. ونحن نقرؤه لأننا نريد أن نعرف ماذا يحدث، كل شيء ممتع، ونريد أن نصل إلى نهاية القصة، ونتلهف إلى أن نعرف ماذا ستكون النتيجة.
ثالثا:
خصائصه صادقة كأي شيء كتب؛ فهي في أساسها إنسانية. ولهذا السبب فإنك تجد نفسك، وأنت تقرأ الإلياذة، تتساءل عن سبب حدوث هذه الحادثة أو تلك بالأمس. إنها نفس ما يحدث في هذه الأيام. مثال ذلك: توديع هكتور لزوجته وأولاده؛ إذ ينحني ليقبل ابنه ولكن الابن يخجل ويذعر لمنظر الخوذة. فتريك هذه اللمسات البسيطة: المشاعر الإنسانية والخصائص الإنسانية والانفعالات الإنسانية. وهناك مثل آخر في حالة نستور، فقد صور مطابقا للحياة تمام المطابقة، حقيقة، نحن عندما نقرأ خصائص هوميروس، نقرأ عن أناس يعملون ويتكلمون كما يحدث عندنا في كل يوم. فنستور، صورة جميلة للشخص الثرثار، لا يفعل شيئا غير الكلام: «عندما كنا صغارا، كنا نفعل كذا كذا وكذا ...» وأخيل مثل ثالث واضح جلي. صوره هوميروس بعدة صور كل صورة منها تختلف عن الأخرى. فصوره وفيا، وجريئا ومرحا عندما لا يكون غاضبا. وبالاختصار، كل أشخاص هوميروس بشر أولا وقبل كل شيء، يمكنك أن تصدق بسهولة أن كل ما يفعلونه هو نتيجة لمشاعرهم ولما يختلج في نفوسها. فأبطاله، وحتى آلهته ورباته، يعملون ما يعمل البشر، صور هوميروس كل إحساس حتى غير المنظور، ووضحه كما لو كان حقيقيا في الحياة. ومما لا جدال فيه، أن مؤلفات هوميروس تتصف بصفة الخلود. ستقرأ الأجيال الحاضرة والقادمة هذه المؤلفات الرائعة إلى الأبد. وهذا ناشئ عن تصويره الرقيق لأشخاصه، كما يمكنك تقدير قيمة وروعة هذه المؤلفات، حتى عندما تقرأ الإلياذة المترجمة إلى لغات أخرى غير الإغريقية، ولو أن إعجابك لن يصل إلى الذروة التي يصل إليها عندما تقرؤها بالإغريقية. وما نخشاه هو أن تضيع خفتها وسرعتها في الإنجليزية (لاحظ المجازات والكنايات والاستعارات والتوريات والجرس السمعي، ومختلف صور المحسنات البديعية).
يمكننا أن نضيف إلى ما سبق أن هوميروس لم يخلق شعر البطولة من لا شيء، وأن مؤلفاته كانت ذروة تراث قديم طويل من الشعر الغنائي للشعراء المتجولين، وأنه يدين إلى ذلك التراث بقصصه ولغته وأوزانه.
ربما تضمن شعر هوميروس، أيضا، كسرا من أشعار العصور السابقة، مع احتمال أن يكون غيرها في عملية اقتباسها. والواقع أن هوميروس وضع أساس الاقتباس الأدبي، وكان الأغارقة يرجعون إليه دائما في الاستلهام والاقتداء. كان أبا الكوميديا والتراجيديا. ورغم عدم إمكان محاكاة طريقته بنجاح، في شعر البطولة، فإن غيره من الشعراء تعلموا منه كيف يشكلون مادتهم، وكيف يصوغون لغتهم. كما تعلموا منه أيضا أن الاقتصاد في عرض الخبرة التي تجعلنا نعجب من أنه أمكن التعبير عن كل تلك المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة. وما يكاد يختص به هو وحده. وما حققه من نجاح باهر في شعر البطولة هو المدى الواسع في الابتكار. وقد انحصر عالمه بمعارف عصره. ولكنه ملأه بالأحياء من الرجال والنساء، وصاغ من القصص القديمة (الساجا
Saga ) شخصيات القصص الشعبي والأحداث، ما جعلها حية عندما أظهرها إلى حيز الوجود. ومن بين جميع كتب الحكمة البشرية، نجد كتب هوميروس هي الوحيدة التي لها الصدارة في الفن والجودة.
تكلمنا عن حداثة لغة هوميروس وخفة جوها العجيب وجمالها وسرعتها. وهي كذلك ذات معنى صناعي. لم يتكلم بها قط في الحياة العادية، واتخذت الحرية في القواعد. إنها كلام شعري قصد به موضوعات أكثر عظمة من الحياة العامة، مليء بالمترادفات والصور المتبادلة الزاخرة بألفاظ المغامرة والمأخوذة من عدة مصادر .
ولما كان هوميروس رجلا ذا موهبة قصصية فائقة، فإنه يعرف كيف يحتفظ بالقارئ - رغم وصفه الطويل للقتال - بصورة حية وعلى وتيرة واحدة، فإنه سيعوض عن وصفه الطويل للقتال بتلك الابتسامات التي هي سلف كل الابتسامات والصور القصيرة المرسومة بتألق عظيم من عالم ذلك الشاعر نفسه، ويشبه أجاكس العظيم في لزومه داره العنيد، حمارا استقر في حقل ورفض الخروج منه غير عابئ بما ينهال عليه من ضرب مبرح. ويشبه جريان باريس
إلى المعركة، حصانا غذي بالشعير فيجري إلى مرعى الأفراس. ويحطم أبولو
Apollo
سور المعسكر الآخي
Achean ، كما يحطم الطفل قصرا بناه من الرمل. ويسطع الضوء فوق رأس أخيل كالنار الموقدة داخل مدينة محاصرة ليراها الجيران فيسرعوا إليها بالنجدة. هذا، وإن المنظر يتغير باستمرار.
وعلى الرغم من أن شعر هوميروس هو أقدم الأشعار، فإنه ليس بدائيا؛ لأن هوميروس لم يسع وراء تفوق بعيد الشأو من حيث الوزن والأفكار واللغة كما أن الموضوع تجارب، وإنما هو سيطرة كاملة على وزن من أصعب الأوزان، ومن أصعب قواعد علم الصرف المعقدة، ومن أضخم مجموعة ألفاظ استعملها أي شاعر إغريقي.
مقدمة الموضوعات الهومرية
هوميروس هو الممثل الأدبي الوحيد لعصر البطولة الذي خلد شعره بينما لم يخلد أي شعر لأي شاعر سابق أو معاصر. وقد انضمت مصائر أسماء أولئك الشعراء إلى مصير أشعارهم. وهناك قليل من الشك في أن أناشيد كل من موزايوس
Musaeus
ولينوس
Linus
وأورفيوس
Orpheus
لم تنشد إطلاقا، وأن هذه الأسماء لا تمثل شيئا أكثر من أن أصحابها شعراء شعبيون. من الحقائق العجيبة أن الإلياذة والأوديسة، ويبلغ مجموع طوليهما حوالي 28000 بيت شعري قد خلدتا خلال القرون المظلمة الواقعة بين هوميروس والسيادة الأثينية. وقلما تكون هذه أعجب من الحقيقة الثانية وهي أن الشعر الهوميري هو الشعر الوحيد الذي بقي سليما طوال تلك القرون المظلمة الواقعة بين أريسطو
Aristotle
وإحياء العلوم الحديث. وقلما تكون الأسماء الشهيرة، أمثال: أرخيلوخوس
Archilochus
وصافو
Sappho
وألكايوس
Alcaeus
وسيمونيدس
Simonides
أكثر من أسماء لأنها لم تعرف إلا بمحض الصدفة السعيدة أو حسن الحظ لذكرها ، أو للعثور على أوراق البردي الممزقة التي اعتبرها كثير من شعراء الدراما الناجحين، في الأيام التي ازدهر فيها المسرح، مجرد أسماء ولا أكثر من ذلك، وحتى سوفوكليس
Sophocles
الذي كان محبوبا في ذلك العصر، على الرغم من أنه كتب أكثر من مائة مسرحية، لم يبق منها سوى سبع مسرحيات، وفقد الباقي أو بقيت منه بضع كسر. وإن هوميروس الذي كان معروفا تماما لكل من أفلاطون
وأريسطو ومشاهير علماء الإسكندرية، هو من الناحية العملية، نفس هوميروس المعروف لنا. وليس هذا صحيحا مع أي شاعر آخر في اليونان القديمة أو الكلاسيكية.
يوصف هوميروس أحيانا بأنه شاعر قصائد البطولة المبكرة الثانية. كما يوصف بأنه شاعر الإلياذة والأوديسة. بيد أن كتاب خير العصور لا يذكرونه بهذه الصفات. فدائما ما عمل أريسطو وعلماء الإسكندرية تفرقة بين شعر هوميروس والأشعار الأخرى لدورة شعر البطولة المبكر. وقد أقام شعب كولوفون
Colophon
تمثالا لهوميروس ونقشوا عليه هذه العبارة: «لم يلد هؤلاء مع روحك المقدسة ابنتين، بل قصيدتين تكريما للأبطال. إحداهما تحكي عودة أوديسيوس والأخرى تروي قصة حرب إيليوم
Ilium ». وهكذا تكون الإشارة إلى هوميروس كمؤلف قصائد البطولة غير الإلياذة والأوديسة، وهي غامضة وتعتمد على تفسيرات صعبة لفقرات يحوطها الشك. وبذا تختلف عن الإثباتات الواضحة للمصادر القديمة الموثوق بها. حتى قلما يمكن لاسم هوميروس أن يتصل بأشعار البطولة هذه إلا بعد العصور المتأخرة نسبيا، وقد نسبت إلى هوميروس العظيم قصيدة اسمها «المارجيتيس
Margites »، وهي قصيدة هزلية أو انتقادية، نظمت في أوائل ربيع حياته، وكذلك قصيدته «معركة الضفادع والفئران
Batrachomyomachia ». كما تنسب إليه الأناشيد الهوميرية المكتوبة بلهجة هوميروس وأوزانه الشعرية. ويذكر ثوكيديدس
Thucydides
أنشودة من هذه الأناشيد الأربع والثلاثين كما لو كانت من نظم هوميروس. غير أن لغتها تبدو بوضوح أنها من عصر متأخر كثيرا عن عصر كل من الإلياذة والأوديسة.
السؤال الهومري
ومع ذلك، ففي يوم ما، قدم سؤال يطلب ردا مقنعا عما إذا كان كل من الإلياذة والأوديسة وحدة واحدة، وأن كلتيهما من تأليف العبقرية ذاتها، أو هل هي من إنتاج عدة شعراء خرجوا من عدة أجيال؟
ما زال موضوع الجدل بغير حل. وأن من يؤمنون بأنهما من نظم هوميروس وحده. ومن يؤمنون بأنهما من نظم كثير من الشعراء، على حد سواء، مضطرون إلى الاعتماد على أمور متشابهة: هل من المعقول أكثر من غيره، افتراض وجود عبقرية سامية واحدة، أبدعت مثل هذين المؤلفين الفنيين العجيبين والمتشابهين، أم أن هناك شعراء كثيرين من أمثال هوميروس، كل واحد منهم أستاذ في نفس ذلك الأسلوب العظيم، ولكل منهم نفس الأهداف الشاعرية، وكل واحد منهم مسيطر على فنه بنفس القوة الشاعرية؟
لم يشك اليونانيون إطلاقا في أن هاتين القصيدتين من نظم رجل واحد، ويبدو من الأفضل جدا لنا، مع كل ذلك التراث القديم، أن نعتقد أنه كان لهيلاس
Hellas
القديمة شاعر واحد قادر على نظم هاتين القصيدتين بدلا من أن يعتقد بأنه كان لها عدة رجال موهوبين بأمثال تلك القوات، ثم ننساهم.
وما يزيد الموضوع تعقيدا، هو أننا لا نعرف سوى القليل عن هذا الشاعر نفسه، لم يكن هناك نقد أدبي حتى ذلك الوقت، ورغم بقاء قصيدتي هوميروس، فقد نسي الناس شخصيته والمعلومات التي ذكرها المؤرخون أمثال بلوطارخ
وثوكيديديس، من وقت متأخر، وعديمة الفائدة. فإن أقدم تاريخ هو منتصف القرن الحادي عشر ق.م. ولم يعرف الأغارقة أنفسهم شيئا عن الوقت الذي نظم فيه هوميروس قصيدتيه هاتين، ولا المكان الذي ولد فيه هذا الشاعر بالضبط. فقد ذكرت سبعة أماكن على أنها مسقط رأسه، فيقال إن منها: أزمير
Smyrna ، وخيوس
Chios ، ورودس
Rhodes
وأرجوس
Argos ، وكولوفون
Colophon ، وأثينا
Athen . ولا تستند هذه المعلومات على أي شيء سوى الرغبة في الاتصال بذلك الرجل الشهير. ولسوء الحظ، لم يوجد اسمه في أية مخطوطات قديمة، ولا على أية نقوش مبكرة، وأول ذكر له على أنه هوميروس جاء فيما كتبه اكسينوفون
Xenophones
الكولوفوني. وكان هذا قرب نهاية القرن السادس ق.م.، بينما ظهرت الأسماء: الإلياذة والأوديسة، لأول مرة في تاريخ هيرودوت
Herodotus ، أي في النصف الثاني من القرن التالي (486ق.م.). ورغم مجيء اسم هوميروس متأخرا في الأدب الباقي، فلم يبد أي كاتب إغريقي قديم أي شك في وجود شاعر حقيقي، أو في أن ذلك الشاعر هو مؤلف الإلياذة والأوديسة. لقد آمن بوجود هوميروس جميع الأغارقة القدماء كقضية مسلمة، مثل وجود جبالهم ومجاري مياههم، حتى ليبدو أنهم لم يشعروا بأي غموض فيما يختص به. ومن النادر جدا، أن خامرهم أي شك أو تخمين حول عصره وموطنه وعبقريته. كما أن هوميروس نفسه لم يذكر اسمه ولا المكان الذي ولد فيه، ولا أية معلومات حول نفسه أو عن مؤلفاته، وقد أدى عدم وجود أوصاف محلية أكيدة ومحددة عن مسقط رأسه، والشهرة العظيمة التي تحظى بها أشعاره، إلى أن ادعت مدن كثيرة أنه من أبنائها. ومن بين شتى المدن التي ادعت لنفسها هذا الشرف، أزمير التي اعترف لها به كثير من البلاد؛ إذ يبدو أن أول معرفة لقصائده تمركزت في تلك المدينة، وقد أطلق على هوميروس اسم آخر هو ميليسجينيس
Melesigeness . ومن الجلي أنه اسم مشتق من اسم نهر ميليس
Meles
الذي يجري في أزمير حيث يقال إن مولده كان على ضفتي النهر. ومما يؤسف له أنه سمي بالاسم ماكونيديس
Maconides
المشتق من ماكونيا
Maconia
وهو الاسم القديم للوديا
Lydia . وهناك نزاع حول تاريخ ميلاده، ولكن تبعا لهيرودوت، هو سنة 830ق.م. ورغم كل هذا، يشك العلماء المحدثون في وجود هوميروس وأنكروه تماما. كما يقولون: إن الإلياذة والأوديسة من نظم عدة شعراء، وكذلك يقولون إن اسمه مكون من
O m e r o s ، أي الرجل الذي يضم بعض القصص إلى بعض آخر. ويقول آخرون إنه
Omeros
ومعناه «أعمى» أو «رهينة» مستندين في ذلك إلى أن الشعر الذي قاله المنشدون القصصيون ضم معا وكون منه ما يسمى الآن بالإلياذة والأوديسة. وعلى أية حال، هذا محض اقتراح، وهناك آخرون، أكثر فضولا، يقولون إن مؤلفات هوميروس ذات أصل بابلي
Babylonian ، وإن معنى كلمة
Omeros
هو «شخص منشد».
ولندرس الآن النقد الحديث القائل بأن هوميروس لم يكن موجودا. وقد بدأ هذا القول العالم الألماني وولف
Wolf ، في القرن الثامن عشر في مؤلفه
ويتحدث هذا الكتاب عن الهوميوريداي
Homeoridae ،
1
فقال: إن تلك المنظومة جمعت في عصر لم يعرف الإغريق فيه ماذا يكتبون. وقال : إنهم لم يهتموا بهوميروس كما يعتقد أفلاطون، ولكنهم قد يكونون أمناء في تفسير
Omeros
بأبناء الرهائن. وقد نشر وولف كتابه الشهير
، يعرض فيه نظرياته القائلة بأن الإلياذة عبارة عن مجموعة من الكسر تدين بشكلها الخاص إلى بيزيستراتوس
، ويعزز قوله بحقيقة أن الكتابة الأدبية لم تكن معروفة في الوقت الذي نظمت فيه الإلياذة. ولذلك لم يكن هناك جمهور قارئ، ولكن إلياذتنا لا بد أن وضعت لجمهور مولع بالقراءة، رأى وولف هذه النقطة حيوية فقام بتجاربه بدون الاستعانة بعلم النقوش ولا بعلم الآثار. وقد فقدت نظرياته كثيرا من قوتها لدى العلماء المحدثين الذين ناقشوا هذه المسألة في ضوء عصر (قرن) الحفائر، حقيقة، ليس لدينا نقوش تدل على تاريخ قبل النصف الأول من القرن السابع ق.م.، والأمارات التي يرسلها لنا برويتوس
كحكم بالإعدام على بيليروفون
Bellerophon ، لا تعني شيئا أكثر تقدما من بعض صور قائمة مقاطع الحروف مثل القائمة الكريتية، لم يكن هناك ذكر لأية كتابة في الأدب الإغريقي قبل أرخيلوخوس
Archilochus ، ولكن الأغارقة أخذوا حروف الهجاء عن الشرقيين، وربما أخذوها من مصادر فينيقية
. وليس هذا بعد القرن العاشر ق.م.
لا بد أن هوميروس كان يعرف الكتابة، ولكنه لم يستخدمها في عصر كانت فيه اختراعا حديثا لا يفوق استخدام الذاكرة.
وتبعا لاعتراض وولف، فإن التركيب الأصلي للإلياذة يختلف عما لدينا اليوم، وهذا بسبب: (1)
بما أن الأغارقة لم يعرفوا الكتابة، فمن المستحيل تماما لرجل واحد أن ينظم مثل هذه الملحمة الطويلة دون أن يكتبها، إلا إذا كانت ذاكرته فوق مستوى ذاكرة البشر. (2)
من الصعب الوصول إلى نتيجة فيما يختص بأغراض هذا الشاعر من مؤلفاته - إذا كان هو صاحبها - إذ ليس هناك ما يغريه أو يحثه على تأليفها، أو يكون له دافع يجعله ينظم مثل هاتين القصيدتين الطويلتين (حوالي 28000 سطر) إلا إذا كان هناك قراء يقرءون الكتب أو يشترونها. (3)
لم تكن هناك إلياذة قبل عصر بيزيستراتوس، وما حدث هو أن ذلك الطاغية أمر رواة الشعر بأن ينظموا ملحمة مطولة، من الشعر الكثير المخزون في الذاكرة. (4)
بما أن هذه الأشعار لم تكتب في عصر واحد بواسطة مؤلف واحد، فهناك آثار وتذييلات كثيرة أدخلت في الملحمة. ونتيجة لذلك نلاحظ وجود كثير من المتناقضات والعبارات غير المترابطة. وهذا يعني أن كلا من الإلياذة والأوديسة، كانت تتكون من قصائد قصيرة نظمت في أجيال متعاقبة بواسطة عدة شعراء وأن هذه القصائد أو القصص، وجدت قبل عصر هوميروس، وانتقلت شفويا إلى الخلف. ثم جاء هوميروس، أو جامع الأشعار، كما يمكننا أن نسميه، وضمها معا. ثم أمر بيزيستراتوس بأن يراجع النقاد هذه المنظومات القصيرة ويضمها معا. في ملحمة طويلة. وفي سنة 160ق.م.: رتب أريستارخوس
Aristarchus
المنظومات في الصورتين اللتين بقيتا عليهما حتى عصرنا هذا. (5)
هناك اعتراض آخر لوجود 18 نوعا من الشعر في الإلياذة، فعندما ينشدها الرواة يطيلونها. وهكذا لا يكون الشعر سوى إطالات نمت. ويقال إن بيزيستراتوس وضع هذه المطولات في شكلها النهائي.
ويتقدم معارضو هذه النظرية بأوجه اعتراضاتهم مدافعين عن هوميروس: (1)
لا بد أن كانت الكتابة موجودة. وإذا لم تكن موجودة، فإننا نعرف أن كثيرا من الناس كانت لهم أشعار تتناقل شفويا (مثال ذلك القبائل الروسية) بالذاكرة القوية رغم أن الحفاظ أو الرواة كانوا أميين. فإن الجهل يساعد الذاكرة أو يجبرها على أن تتذكر. (2)
هناك عدة نصوص كتبها مختلف المؤلفين الأغارقة قبل بيزيستراتوس الذي كان يحفظ أشعار هوميروس. وعلى هذا، فمن المؤكد أن ذلك الطاغية وحده هو الذي أعاد ترتيب النصوص والفقرات غير المؤتلفة، فغالبا ما توجد في كل المؤلفات، حتى مؤلفات عظام الكتاب، فنجد نفس هذه العيوب، مثلا، في مؤلفات شكسبير
Shakespeare ، ودانتي
Dante . والحقيقة أن جميع الأشعار الهوميرية ليست بنفس درجة الجودة، ومن السهل استخراج بعض المناظر تتضمن قليلا من الحماس والإيحاء، ولكن لا توجد ثلاثة أجزاء من هذه القصائد يوجد بها هذا التنوع كما يوجد في منظومة «سيدان من فيرونا
Two Gentlemen of Verona » أو هامليت
Hamlet » أو «حلم ليلة صيف
Midsummer Nights’s Dream ». وأخيرا، وكما قلنا، تسلم الأغارقة الإلياذة والأوديسة لقصيدة واحدة، وإن هناك وحدة فنية معينة لا تبدي طابع جمع الأشعار البطولية، أما فيما يختص بوطنية هوميروس، فنقول إن الاحتمال الأكبر هو أن هوميروس كان من مواطني أيونيا
Ionia ؛ فلغته خليط من لهجات شتى تغلب بينها الأيونية والأيولية. والأماكن السبعة المحتمل أن يكون أحدها مسقط رأسه، هي في أساسها أيولية ثم استوطنها شعب أيوني. وتحظى كل من أزمير وخيوس بالأفضلية على المدن الخمس الأخرى في أن تكون مسقط رأس ذلك الشاعر.
أما عن مراجعة بيزيستراتوس لمؤلفات هوميروس، فيقال إنه جمع الأشعار وأدخل فيها مقطوعة لصالح الأثينيين. «كل ما هو بطولي فهو هوميري.» هكذا يقول الأثينيون. غير أن أرستارخوس
Aristarchus
وحده هو الذي قبل القصيدتين؛ أي الإلياذة والأوديسة على أنهما من تأليف هوميروس. لماذا كان بيزيستراتوس، دون سواه، هو المهتم بهوميروس؟ هذا سؤال الإجابة عليه في منتهى السهولة؛ فقد ألقيت في عيد البان أثينايا
تلاوات من شعر هوميروس البطولي وتليت هذه بطريقة منظمة. وهذا يدل على أن الإلياذة والأوديسة وحدهما هما القصيدتان اللتان سمح بتلاوتهما في الاحتفال بذلك العيد. والسبب في ذلك هو أنهما كانتا تفوقان على ما عداهما في الجودة ورقة الصياغة والترابط، وفي روحهما الدرامية، فضلا عن تفوقهما في الصور البلاغية وشتى المحسنات البديعية التي تجعلهما جذابتين أكثر من غيرهما، كما أنهما تتفوقان في جودة الإكمال والجمال الفني والناحية الإنسانية، أكثر من غيرهما من أشعار البطولة. كانتا من إنتاج عبقرية ممتازة خاصة. «فالإلياذة والأوديسة، ببساطة، زاخرتان بالخيال والإثارة والابتكارات الشعرية، ولا تتقيدان بأية أغراض متطرفة، سواء كانت تلك الأغراض أخلاقية أو تاريخية أو فلسفية.» أما القصائد الأخرى فلم تعادل هاتين الملحمتين في القيمة، وبالطبع، لم يسمح بتلاوة أشعار طيبة
Thebes
في أثينا بسبب العداوة بين هاتين المدينتين.
ومن الجلي أيضا أن اسم هوميروس كان مستقرا وراسخا في العصور الكلاسيكية، وأن الإلياذة والأوديسة قد نسبتا إليه.
ويقول الأغارقة أنفسهم إنه كانت هناك أربع لهجات هي: الدورية
Doric
والأيولية
Aiolic
والأيونية
Ionic
والإبيكية
Epic . وتختلف طريقة اللهجة التي كتبت بها قصائد البطولة عن طريقة اللهجات الأخرى. فكان هناك فرق واضح بطريقة ما بين تلك اللهجات. كما أن هناك اختلاطا بينها.
هذه القصائد الهوميرية خليط عجيب من عدة صور تجعلها لغة خاصة بنفسها. إنها ليست دورية ولا أيولية أو أيونية أو أتيكية
Attic ، ولكنها خليط من هذه جميعا.
نجد صورا أتيكية في اللهجة الإبيكية
ews
قصيرة وطويلة. والصورة الأيونية
eos
طويلة وقصيرة. ومن الممكن أن هذه جاءت إلى هاتين القصيدتين على أرض أتيكية. ومن النادر أنها كانت قبل سنة 500ق.م. بزمن كبير. أما عن الأغراض، فيجب أن نميز بينها. فهناك أولا الطريقة الأتيكية المقابلة للنزع. ولن تفهم عدة سطور تبدأ ب
ews
حتى نعيد إليها الصورة الأيونية الوقع
eos . أي إنها سطور أيونية جيدة، وليست الصورة الأتيكية سوى خطأ من الناسخ الأتيكي. ولكن هناك أيضا سطور أتيكية ثابتة تفهم حيث هي، ويتعذر فهمها إذا حولت إلى الأيونية. وهذه، بالمعنى الحرفي، سطور متأخرة نظمت على أرض أتيكية بعد أن استولت أثينا على شعر الملاحم.
الملخص
إذا حاولنا أن نعرف بالضبط أي الأشعار يعتبر من تأليف هوميروس بصفة قاطعة عند بداية أول تراثنا الأدبي، فإن الجواب لا بد أن يكون - كل ما هو «هوميري وبطولي». وبمعنى آخر: كل ما يعبر، في شعر بطولي، عن المجموعتين الرئيسيتين للأسطورة التي تدور حول طروادة وطيبة على التوالي. وكان أول ذكر لهوميروس بواسطة الشاعر كالينياس
Callineas (حوالي سنة 660ق.م.) الذي يشير إلى المنظومة الطيبية
Thebais
على أنها من تأليف هوميروس. ويحتمل أن يكون ثاني من ذكر هوميروس هو سيمونيديس الأمورجوسي
Semonides of Amorgos (حوالي سنة 660ق.م.) ذلك الذي يتلو مثلا على أنه من قول «رجل من خيوس». وذلك المثل موجود في إلياذتنا: «ينقضي الإنسان بنفس الطريقة التي تنقضي بها أوراق الأشجار.» ومن الممكن أنه يشير إلى رجل معين من مواطني خيوس، وأن السطر الموجود في إلياذتنا مجرد مثل شائع تتضمنه الملحمة، ولكن الملفت للانتباه هو أنه يتلو نفس ذلك المثل، ويتكلم سيمونيديس الخيوسي
Simonides of Xeos (من 556-488ق.م.)، بعد ذلك بقرن، يتكلم عن هوميروس وستيزيخوروس
Stesichorus ، ذاكرا كيف أن ميل-أرجوس
Mele-Argos
قد هزمت كل الشباب حاملي الرماح، المارين خلال أناوروس
Anauros
البرية، ليس هذا في إلياذتنا ولا في أوديستنا. ولا نستطيع بإصرار شديد، اقتفاء أثر المنظومة التي جاء منها ذلك المثل، ويذكر بندار
اسم هوميروس عدة مرات، ويلومه على تبجيله أوديسيوس، وفي هذا إشارة إلى الأوديسة - ثم يعود فيعفو عنه لأنه روى «بالتفصيل كل ما يبرهن على شجاعة أياس
Aias ». وخصوصا منظر إنقاذه جثة أخيل الذي وصف في ملحمتين مفقودتين؛ هما الإلياذة الصغرى وأيثيوبيس
Aethiopis ، ويأمرنا بأن نتذكر قول هوميروس: «الرسول الطيب يجلب الشرف لأية معاملة». وهذه عبارة لا يقولها هوميروس إطلاقا. ويذكر الهوميريداي، أو منشدي الأشعار.
إذا أطلق أيسخولوس
Aeschylus
على مسرحياته: «شرائح من ولائم هوميروس العظيمة»، فلا بد أن الولائم التي أشار إليها، كانت أعظم بكثير من تلك الولائم التي ندعى إليها. ومن بين جميع مسرحيات أيسخولوس التسعين، قلما نجد أكثر من سبع مسرحيات أخذ موضوعها من شاعرنا هوميروس. ومن بين هذه المسرحيات: أجاممنون
Agamemnon
وخويفوروي
Choephoroi . ومن الصعب أن نطلب من أحد النقاد أن يصف هاتين المسرحيتين على أنهما شرائح من الأوديسة. وما كان يعنيه أيسخولوس بقوله إن هوميروس، في مجموعه، هو قصة البطولة. هو نفس ما قاله سوفوكليس
Sophocles
الذي يسمى: «أكثر هوميرية»، وما يقوله الأثينيون ليبتهجوا في دورة الشعر البطولي، ويصنعوا منه دراميات كاملة. وهذا يعني أنه عالج تلك الأساطير البطولية التي عرفها أثينايوس
Athenaeus
فقط في دوائر النثر أو الكتب الصغيرة التي ألفها ديونيايوس
Dionyaius
في القرن الثاني ق.م. وأبولودوروس
Apollodorus
في القرن الأول. ويعتبر كسينوفانيس
Xenophanes (القرن السادس) «هوميروس وهسيود
Hesiod » كل قصص التراث البطولي والآلام على حد سواء، كما يعتبرهما هيرودوت تماما عندما يقول إنهما كليهما «صنعا الديانة الإغريقية، ووزعا على الآلهة ألقابهم ودرجاتهم الشرفية وصناعاتهم، ووصفا ما كان يشبه الآلهة».
وفي هذا يستعمل هيرودوت اللغة العرفية، ولكنه كان قد اتخذ مستوى للنقد الذي يناقض قوله؛ لأنه يدرك تماما أن هوميروس هو مؤلف الإلياذة والأوديسة. وإنه ليرتاب في أن يكون نظام ذلك الشعر المتأخر شعره. وهو على يقين من أن المنظومة القبرصية
Cypria
لا يمكن أن تكون له لأنها تناقض الإلياذة، هذا هو الأثر الأدل للميل الذي ساد أخيرا. ويعترف ثوميديديس في صراحة تامة، بأن الإلياذة والأوديسة وأنشودة أبولو، من نظم هوميروس. ولا ينسب إليه أريسطو شيئا غير الإلياذة والأوديسة والشعر البطولي الدعابي
Margîtes . أما الفقرات التي ذكرها أفلاطون، فلا تذهب إلى أكثر من الإلياذة والأوديسة. وهاتان المنظومتان وحدهما هما اللتان اعترف بهما لهوميروس العالم السكندري العظيم أريستارخوس
Aristarchus (160ق.م.) فبقيتا هوميريتين منذ ذلك الوقت.
كيف حدث أن اختيرت هاتان المنظومتان أصلا، على أنهما من تأليف هوميروس بدرجة خاصة؟ وكيف حدث، على الرغم من الاختلافات الأساسية بينهما، أنهما حظيتا معا بأنهما القصيدتان الحقيقيتان اللتان من تأليف هوميروس، بينما هناك أشعار مطولة كثيرة، سحبت منه تدريجيا؟ ومن المدهش جدا عندما نتأمل الفرق وعدم التشابه بينهما اللذين أوضحا في العصور السكندرية بواسطة الفاصلين أكسينون
Xenon
وهيلينيوس
Hellenieus .
التلاوات البان أثيناوية
رأينا فيما سبق أن آثار تلك التلاوات قد ثبتت الإلياذة والأوديسة على أنهما من تأليف هوميروس دون ما شك، ولتثبت فيها نوعا من الحوادث، وبالطبع لتجعلها ملكا مقدسا لأثينا. ولنحاول الآن أن ننظر في هذا الأمر أكثر من ذلك. متى ثبتت؟ هل كان هناك قانون حقيقة، أو كانت هناك عملية تدريجية صنعتها التقاليد، كعادتها، فأنشأت قانونا واحدا محددا؟ أما عن التاريخ، فمن المؤكد أنه لم يكن قبل آخر شخص ينسب إليه تثبيت العادات، أي أنه ليس قبل حكم هيبرخوس
Hipperchus . ومن المحتمل أن يكون بعده. والآن لكي نجعل مؤلفات هذا الشاعر الأيوني جزءا متكاملا من أعظم احتفال ديني في أثينا، وهذا شيء لم يسبق حدوثه إلا في عصر النشاط الأخوي مع أيونيا، تبدأ هذه الحركة بالنسبة لأثينا منذ عهد التمرد الأيوني قبل عام 500ق.م. الذي كان يخجل من رجالها المفترضين. فحتى كلايسثينيس
Cleisthenes ، نبذ أسماء القبائل الأيونية. ويفتتح العام 499ق.م. العصر الأيوني البان أثيناوي العظيم للسياسة الأثينية، الذي تقبل فيه أثينا مركز العاصمة الرئيسية
metropolis ، وحامية أيونيا، وتنتهج الثقافة الأيونية، وتسمو إلى مركز المدينة ذات السيادة والمسيطرة على بلاد الإغريق.
لا بد أن العلوم والآداب قد انتقلت من ميليتوس
Miletus
عند انقلاب القرن السادس ق .م. كما انتقلت القسطنطينية
Constantinople
في القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت أثينا ملجأهما الطبيعي. وسنرى فيما بعد كثيرا من مختلف الرجال والحركات العظمى التي انتقلت في ذلك العصر من آسيا إلى أثينا. ومن الحقائق المثالية، اتخاذ أثينا حروف الهجاء الأيونية للاستعمال الشخصي والأدبي، كانت حروف الهجاء الأثينية الوطنية بائدة ومبتذلة ليس فيها حروف ساكنة مزدوجة ولا تمييز كاف بين حروف المد. أما حروف الهجاء الأيونية، فهي التي نستعملها اليوم، ولم تستعمل رسميا في أثينا حتى عام 404. فقد أرادت المستندات العامة أن تحتفظ بعظمتها البائدة، ولكنها كانت مستعملة هناك في الشئون الخاصة إبان الحروب الفارسية، أي أنها جاءت في العصر الذي قبلت فيه أثينا وأكدت جدارتها لمركزها كعاصمة أيونيا، واعتنقت الشعر الأيوني كجزء من ممتلكاتها المقدسة، ولكن جاءت صعوبة غريبة أظهرت نفسها؛ فقد كتبت أشعار هوميروس في أيونيا، من قبل، باللهجة الأيونية، ما في هذا شك. ومع ذلك، فإن تراثنا يؤكد، وتؤيده في هذا كثير من الحقائق الواضحة التي أبانها السكندريون، واعتبارات نقد النصوص، تؤكد أن نصوص أشعار هوميروس القديمة كانت مكتوبة بحروف الهجاء الأتيكية. فإذا كان هوميروس قد جاء إلى البان أثينايا في نفس الوقت الذي جاءت فيه حروف الهجاء الأيونية الجديدة، إلى أثينا، فكيف أعاد الناس كتابة هذه الأشعار من الحروف الأحسن إلى الأردأ؟ ليس الجواب على هذا السؤال صعبا، وهو نفس الجواب على سؤال آخر لم نستطع حله من قبل. كتبت نسخ من شعر هوميروس باللهجة الأتيكية الرسمية؛ لأن إلقاء هذه الأشعار في البان أثينايا، كان احتفالا رسميا فرضه أمر قانوني.
النصوص الهومرية
لم يعرف الأغارقة، كما سبق أن قلنا، من هو هوميروس. وبالتدريج، قرر الناس أن القصيدتين وحدهما من تأليفه. أما بقية الأشعار فليست كذلك. ورغم هذه الحقيقة، فإن النص الفعلي لكل من الإلياذة والأوديسة، لم يكن شيئا مسلما به. كانت الإلياذة والأوديسة إنجيل الأغارقة.
حفظ وتلا، قدامى المؤلفين والكتاب نصوصا من هوميروس وصار كلا الكتابين، كتابا واحدا بالغ التقديس. ورغم هذا، فبعض هذه النصوص المقتبسة، لا يوجد في الكتب التي لدينا. وبعضها مختلف بعض الشيء. وبالاختصار، ليس هناك نص رسمي معترف به. وحتى أريستارخوس لم يتفق على النصوص إلى عصره. وهذا راجع إلى الشعراء المنشدين، نعلم أن شعر الملاحم في أيونيا، كان في حوزة الهوميريداي، أو الشعراء المنشدين. ويحق لنا أن نفترض أن هؤلاء الشعراء المنشدين قد انتظموا في نقابات أو مدارس. ونعرف إجمالا كيف يعمل الشاعر المنشد؛ فهو يختار نصه الأدبي. من أية أسطورة يمكنه الحصول عليها، كما يفعل الشعراء المتجولون، في الأوديسة. فإنه ينتقي بعض السطور كمقدمة، كما يخبرنا بندار، وتدلنا الأناشيد الهوميرية، أو المقدمة، عما يعنيه ذلك المنشد. وربما بعض سطور من الخاتمة. فإن أنشد أنشودة عادية، فإنه يتلو بعض فقرات قوية (وأية قطعة لإصلاح لهجة ما)، وحلقة (قصة يضعها في السرد أو في القصيدة ليضفي عليها بعض التنوع) ليجعل أنشودته جذابة قدر المستطاع كغيرها. وهو يعترض على النص الثابت، ويمقت إضافة الأجزاء الفرعية إلى الكل. والآن نجد قصائد مليئة بآثار من نظم الشعراء المنشدين. وهي تطور للقصة التاريخية المتلوة أو المحفوظة، وحيث لا تتفق وحدتها أو انسجامها، عندئذ يقع معظم الذنب على القصة التاريخية المحفوظة، وقد فعل الشاعر المنشد الكثير، كما فعل القصاص، فيبدأ بمخاطبة المستمع، ثم ينشد ويتلو أو يحكي الأنشودة القصيرة، ثم يختمها بكلمة وداع. ومن المحتمل أن يتلو المقدمة والخاتمة من نص أدبي مختار، وخصوصا من هوميروس. أما الأحداث فيتلوها من شيء يتعلق بالشخص المكرم. ومع ذلك فإن الحقيقة الواقعية لقصائدنا الهوميرية ليست دلالتها على أمارات من تنميق الشعراء المنشدين، ولكن لأنها لا تدل على شيء أكثر، إنها، كما هي، لا تلائم الشاعر المنشد؛ فهي طويلة جدا لا يمكنه تلاوتها كلها إلا في حفل عظيم فريد، كالحفل الذي فكر القانون في إقامته بنظام سامي التنسيق. عندئذ يقسمها إلى أجزاء مفككة. ومن غير المعقول أن يكون القانون هو الذي اختصرها إلى شكلها الحالي بضربة واحدة. فكل ما أصر عليه هو الحصول على التاريخ الحقيقي بنتائجه الصحيحة. فإذا سمح للشعراء المنشدين بشيء ما، فإنه لم يسمح لهم إلا بحرية معينة في اختيارهم للزخارف. ولم يصر على أن يقيدهم بألفاظ محددة.
ويدل كل تاريخ النصر في القرن الرابع على هذا الجدل. والحقيقة في أساسها، هي أن القصائد كما هي لدينا، أساسية وغير قابلة للتقسيم، وملائمة لما يطلبه الجمهور القارئ. وفي سنة 470، لم يكن هناك جمهور قارئ، سواء في أثينا أو في أيونيا. وقد كتب أناكسيماندر
Anaximander ، عبارات حكمته لبعض الطلبة المجتهدين ليحفظوها عن ظهر قلب، بحيث يسر جرسها السمعي الأذن، وظل الأمر هكذا حتى جاء هيرودوت بعد ذلك بأربعين سنة، في عام 630ق.م.، فحول ما كان يحفظه وجعله على صورة كتاب للمتعلمين من الناس ليقرءوه لأنفسهم، وبدأ يوريبيديس
Euripides
بجمع مكتبة، وهذا يساعدنا على تكوين فكرة عن أشعار الملاحم الأيونية كما كانت موجودة وكيف نمت قبل نقلها، كانت هذه الملاحم تحفظ وتقرأ، وكانت الإلياذة والأوديسة، في معظم الأحوال، في شكلهما الحالي. ومما لا ريب فيه هو أنهما كانتا في حجمهما الحالي، قد يكون من المؤكد أنهما كانتا إلياذة بدون
K
وأوديسة بدون خاتمة، بينما أنهى أريستارخوس قصيدته بالحرف
بعد أن حذف الأنشودة والنصف الأخيرين.
من الأمور الأكثر أهمية أن الإلياذة لم يكن من الضروري أن تتوقف عند مجرد جنازة هكتور؛ إذ نعرف ترجمة استمرت بعد آخر سطر لدينا، «وبذا تناولت دفن هكتور. ثم جاءت الأمازونة ابنة أريس
Ares ، قاتلة الرجال العظمى.» كما روت عن حب أخيل لأميرة الأمازونيات، وعن قتله إياها. ومن المحتمل أيضا أن تكون روت موته، وموت أخيل، كما أحس به جوته
Goethe
هو الخاتمة الحقيقية التي تفتقر إليها إلياذتنا.
استمر هذا النوع من التلاوة الذي تكلمنا عنه، استمر في بلاد الإغريق لزمن طويل. وعندما يريد الشاعر المنشد تكريم بطل ما، أو رجل كريم المحتد، فإنه يحاول أن يغير قليلا في نص الأشعار الأصلية طمعا في زيادة المكافأة، ويقدم مثلا واضحا للأعمال الخارقة التي قام بها ديوميديس
Diomedes ، ويرمي أخيل في الظل ويقلب خطة الإلياذة، ربما حدث هذا الانحراف لأن الشاعر المنشد تصادف أن أنشد أمام شخص عظيم من سلالة ديوميديس نفسه. وفي مقدورنا أن نتصور بسهولة ظاهرة أخرى في التكرار. فمثلا، إذا أشرنا إلى بداية اليوم ووصف الفجر، نجده يقول: «وهكذا استيقظ الفجر من الفراش» و«هكذا صلوا عندئذ.» قام الشاعر المنشد بهذا التكرار المستمر لينتقل من أحد أجزاء القصيدة إلى جزء آخر، في محاولة نقل سطر جيد من مكان إلى مكان آخر.
لغة شعر البطولة
هناك قسم قديم من اللهجات الإغريقية، سخر منه كثيرا، تحدث عن اللهجات الأيونية والأيولية والدورية والبطولية، وتدل اللهجات الثلاث الأولى، أو تقصد أن تدل، على اختلافات وطنية حقيقية. والأخيرة منها اسم صناعي، ولكن الشيء الذي تدل عليه صناعي أيضا - هو لغة لم يتكلمها أي شخص أيوني أو أيولي أو دورياني. إنه لغة ضخمة ذات إيقاع وعاطفية تشبه آلة معقدة للتعبير عن القصص البطولية التاريخية، كما سبق أن أوضحنا، إنها لهجة معدلة عند كل مقطع بالوزن البطولي، تجري ألقابها الثابتة وتراكيب عباراتها وحلقات اتصالها، إلى الوزن السداسي من تلقاء نفسها. ولما كانت صناعية، بأحد المعاني، فإنها تعطي طابع الطبيعة نفسها تتكلم. نجد بها العبارات العادية، والعبارات التي تخرج كيفما اتفق، مثل: «يأتي السيل الوابل نازلا على رءوسهم من الجبال» و«تصبح الريح الغربية العالية، فوق بحر ذي وجه شبيه بالخمر» و«الجزيرة الشرقية حيث يقيم إيوس
EOS ، الفجر الطفل، وسط أماكنها وأراضيها الراقصة، وأماكن الشمس المرتفعة.» تبدو هذه الألفاظ في اللغة الإغريقية لشعر البطولة حية. إنها تنادي، ليس تماما بالمنظر أو الصوت، ولكن بالطابع العاطفي المضبوط للصباح وللريح وللبحر. أما التعبير عن المشاعر البشرية فغالبا ما تكون سحرية: «غضب ماذا، ولو أن يديه تكونان كالنار، وروحه كالحديد المحمي.» وهكذا لا يوجد عدم تنسيق في اللهجة البطولية في القول بأنها كما هي؛ فهي ليست لغة وإنما هي خليط من أشعار غير منسجمة لغويا، متأخرة ومبكرة ووسطى.
هناك أولا الصور الأتيكية مثل
EWS
و
VLKWVTES
التي لم يمكن أن تأتي إلى القصائد إلا فوق أرض أتيكية. ثم هناك الصور الزائفة بالمئات - وقد جرت محاولات من جانب المنشد أو الكاتب الأثيني للتوفيق بين صورة أيونية غريبة وصورته الأتيكية الطبيعية عندما لا تلائم الأخيرة الوزن. فالأيونية ترى
OPEOVTES
بينما ترى الأتيكية
OPWVTES
المقاطع بدلا من أربعة. وتعطي نصوصا
OPOWVTES
الزائفة، أي أنها حورت الصورة الأتيكية إلى أربعة مقاطع بالتشديد على ال
W ، ولكن لكي نتخلص من الصور الأتيكية لا بد لنا من أن نذهب شوطا بعيدا. وهناك تحريف غير أيوني في اللغة الهوميرية ظل معروفا باستمرار، ولكنه قدر بطرق شتى منذ العصور القديمة وما بعدها، ويبدو أنه خاص بمجموعة اللهجات التي يتكلمون بها في تساليا
Thessaly
ولسبوس
Lesbos
والشاطئ الأيولي لآسيا بما فيه طروادة
Troad . فالصور، أمثال الصورة الأيولية
Kev
بدلا من
A U
و
pisures
بدلا من
tessares
وهذا يعني أن بعضا من الأشعار الهوميرية قد كتب في عصر متأخر عن العصر الذي كتبت فيه بعض الأشعار الأخرى.
وهناك صور أيولية زائفة أخرى (استعملت عندما كانت الأيولية هي اللغة) مثل
Keklegwtes . ليست هذه صورة، وصورتها الأيونية هي
Keklegetes ، وصورتها الأيولية هي
Keklegoutes . أما النص الهوميري ففيه الصورة
Keklegwtes . ونعتقد أن هذه الصورة الأخيرة قد أدخلها شخص ما لأجل الوزن. وهذه صورة أيولية زائفة. وبالمثل نرى في بعض السطور بعض كلمات تفتقر إلى
F
حتى يمكننا إدراك معنى السطر. وفي بعض السطور كتبت بعض الكلمات بدون
F
و
idein
كتبت في بعض اللهجات
Fidein . وسمي في العصور القديمة بالحرف الأيولي. ويوجد في القصائد 3354 موضعا تصر على إعادة هذا الحرف
F ، أو
uau ، كما قد ننطقه. أي إن السطور لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا إذا وجد فيها الحرف
F . وهذا يدل على أن هذه إلى 3354 موضعا التي كتبت سطورها أصلا بالحرف
F ، كانت نفس ألفاظها مناسبة للوزن بغير الحرف
F . أي إن هذه الحروف كتبت حيث اختفى الحرف
F ، وهذا يعني أن بعض الحروف كتبت في زمن مبكر قبل سطور أخرى، كتبت بعض السطور بالأيولية وبعض آخر فيما بعد (وهو الغالبية العظمى) بالأيونية، وبعض ثالث به الأتيكية. أي إن الأشعار الهوميرية جرت بثلاثة عصور مختلفة. ومن ناحية أخرى، هناك 617 موضعا كان يجب أن تكون بالأيولية القديمة، ولكن الوزن لم يسمح بذلك. أي إنه طوال الكمية الضخمة لهذه الأشعار تحتفظ الألفاظ بعادة وتقاليد النطق الأيولي. وفي جزء صغير تظهر الأيونية نفسها (مثال ذلك:
On eidon-onfidon ).
وهذا يعني أن السطر الذي كان مكتوبا في عصر كان الحرف
F
مستعملا فيه. وبمعنى آخر، كان بعض الأجزاء مكتوبا بالأيولية (وهذا أقدم من العنصر الأيوني والأتيكي)، وبعض في تاريخ لاحق أيوني، وبعض أتيكي (متأخر عن الآخرين).
لم يتفق على نظم السطور، ولا على النص، ليس هذا فحسب، بل وهناك سطور كثيرة كتبت في تواريخ متعددة. وهذا يدل على أنه ناشئ عن اعتبار الموضوع. فدليل اللغة غير كامل بدون اعتبار ما لموضوع القصيدتين. فمثلا، ما هي المواطن التي يمكن أن تهتم، أكثر من غيرها، بالإلياذة؟ والمنظر في طروادة على أرض أيولية والبطل أخيل من تساليا الأيولية، والملك الرئيسي وهو أجاممنون سليل ملوك كومي
Kymé
الأيولية. أما الأبطال الآخرون فقد أتوا من شمال بلاد الإغريق ووسطها، ومن كريت
Crete ، ومن لوريك
Lyric . ولا يمثل الأيونيين غير نستور فقط، وهو بطل من الدرجة الثانية، وليس وجوده ضروريا للخطة.
يحط هذا الدليل من قدر الأصل الأيوني للخيط الرئيسي للإلياذة، ولكنه لا يفعل نفس الشيء بالجدل. وإذا استمرت مناقشته دل على شيء أكثر غرابة. أي يدل على الأصل البيلوبونيزي
. وأجاممون ملك أرجوس وموكيناي
Mycenae ، ومينيلاوس
Menelaus
ملك أسبرطة
Sparta ، وديوميديس، مع قليل من الشك، ملك أرجوس أيضا. ونستور ملك «بولوس»
في مسينيا
Myssenia . تلقي الإجابة على هذه الصعوبات ضوءا بالغ القوة على تاريخ القصيدتين، جيء بكل أولئك الأبطال إلى البيلوبونيز من أوطانهم في شمال بلاد الإغريق. وأولا، ليس لديوميديس مكان في أرجوس. هذا بغض النظر عن الصعوبة الخاصة بأجاممنون، فهو ليس في العموميات، وعليه أن يرث عن طريق أمه. وتدل دراسة بسيطة للعادات المحلية على أنه كريتي
Cretolian
أضيفت عليه المثالية. فهو مؤسس مدن في إيطاليا، والرفيق الدائم لأوديسيوس الذي يمثل الجزر الشمالية الغربية. وهو ابن توديوس
Tydeus
الذي أكل رأس عدوه، وقريب أجريوس
Agrios (المتوحش) وأبناء أجريوس، والأسد الوحيد، وبطل القبائل المتوحشة للشمال الغربي. (1)
يأتي أجاممنون نفسه من سهول تساليا وهو ملك أرجوس. وفي قليل من الفقرات فحسب ملك موكيناي. وقد أشار أريستاخورس منذ زمن بعيد إلى أن أرجوس البيلاسجيه
، في هوميروس ، تعني سهل تساليا. ولكن أرجوس الشهيرة بتربية الخيول لا بد أن كانت نفس الشيء؛ لأن أرجوس البيلوبونيزية كانت بدون فرسان، حتى في الصور التاريخية. وإذا درسنا بعناية كلمة «أرجوس»، دلت على توسعها التدريجي في الأشعار، ومن سهل تساليا إلى بلاد الإغريق عموما. ومن ثم موضعها الثاني في البيلوبونيز.
أجاممنون هو الملك الغني لسهل تساليا، وهذا هو سبب اتصاله منذ البداية بأخيل، الرئيس الفقير والشجاع الآتي من الجبال القائمة في ناحية البحر. وهذا هو سبب اختياره أوليس
Aulis
لتكون مكان احتشاد أسطوله. وإلى هنا نأخذ فكرة عن مرحلة أصيلة للقصة التي كان فيها كل الرؤساء من شمال بلاد الإغريق. ويتغير موضوع القصيدة في أرجوس هذه نفسها، التي نعرفها بالإغريقية. إنها مدينة على شاطئ البيبلوبونيز، ويتغير معنى أرجوس في القصيدتين. ويقال إن أجاممنون أتى من أرجوس وموكيناي، ولكن توجد دلالات على أن هناك أرجوس أخرى جاء منها أجاممنون، ليست في البيلوبونيز. وأما السلوك العام للقصائد الهوميرية فهو تربية الخيول. أي أن أرجوس اشتهرت في زمن سباق الخيول، كما اشتهرت تساليا بالخيول. وقيل إن أرجوس كانت في وسط جبل بعيد. هذا يدل على أن أرجوس كانت في تساليا. وهناك إشارة أخرى في هذه الناحية، وهي أن الأسطول الإغريقي لم يحتشد في البيلوبونيز في المكان الذي يعيش فيه القائد (أجاممنون)، وهناك اقتراح عن تغيير معنى أرجوس. أي أرجوس الواقعة في تساليا. وأرجوس الواقعة على ساحل البيلوبونيز. (2)
كان اللفظ هيلاس
Hellas
اسم منطقة صغيرة في تساليا جاء منها أخيل. وفي الإلياذة
Achaeoi = Grecks . وفي الأوديسة،
Hellenes = Greeks
أيضا. فيدل هذا التغيير في المعنى على تغيير في التواريخ. أي أن هيلاس كانت لا تزال منطقة صغيرة في الأوديسة، ولكن اتسع معناها في بعض مواضع القصيدة، فتطلق على جميع الأغارقة. (3)
بوسعنا أن نرى دلالات أخرى في القصائد الهوميرية. صنعت الأسلحة البرنزية في زمن مبكر، قبل الأسلحة الحديدية. والكلمة الدالة على السيف هي تلميحات؛ فقد كتبت في أجزاء شتى من القصيدة حيث صنعت من الحديد أسلحة وفي أجزاء أخرى يذكر صنع الأسلحة من البرنز . ومما لا يقبل الجدل أن هذه الأشعار التي ذكرت فيها الأسلحة البرونزية لا بد أن كتبت قبل الأشعار التي ذكر فيها الحديد. غير أننا نجد التلميح إلى كليهما في الأشعار الهوميرية. (4)
هناك عادتان متبعتان في تقاليد الزواج؛ إحداهما يدفع فيها الرجل صداقا للمرأة، وفي الأخرى يدفع والد العروس بائنة للرجل. وكما نرى، فإن هاتين العادتين متناقضتان ولا يمكن أن تحدثا في نفس الزمن ولا في نفس المكان. كذلك يدل هذا على أن بعض الأشعار الهوميرية كتبت في أزمان مبكرة عن بعضها الآخر. (5)
تمثل الآلهة أحيانا على أنها مقدسة حقيقية، أو على مستوى فوق مستوى البشر. وفي أحيان أخرى الآلهة ممثلة بشخصيات أخرى في القصيدة. ففي إحدى الحالات تجرح فينوس
Venus
بيد مخلوق بشري، هو الرجل الذي كتب أن تلك الربة لا تختلف كثيرا عن شخصية بشرية، جاء ذكر الشخصية البشرية في القصيدة في زمن متأخر جدا. كما يدل هذا على أن بعض أجزاء القصيدة نظم في وقت مبكر قبل غيره.
هل هذا يعني أن تلك القصائد نظمت في تاريخ سابق للتاريخ الذي نظم فيه غيرها؟ وهل يعني هذا أن الذي كتب هذه القصائد شعراء عديدون؟ هذه فكرة وولف؛ لأنه يؤكد وجود عدم انسجام بين موضع وآخر. ويقول: إن بعض هذه الأشعار كتب قبل البعض الآخر، بعضها كتب حيث كانت العادة أن يدفع الرجل الصداق للعروس، بينما كتب بعضها الآخر حيث كان والد العروس هو الذي يدفع البائنة، حسب العادة المتبعة.
والإجابة على السؤال السابق هي أنه يتجلى في معظم الأشعار، تباين لغوي، إن لم يكن في الأشعار كلها. ليس هذا في شعر البطولة فحسب، بل ونرى اختلافا في اللغة في جميع الشعر المبكر. فمثلا: يوجد سطر تحدث فيه كلمة
devenant
قافية بمحض الصدفة مع كلمة
chance (لأن ضغط النطق في كلمة
devenant ، في الفرنسية القديمة هو
devenants “a” ) فتنطق مثل
Ce
لتتفق مع آخر كلمة
chance . وهذا يدل على أن استخدام اللغة الفرنسية كان قائما في اللغة الإنجليزية.
كذلك نجد اختلافا في مادة الموضوع. فنرى الشاعر يذكر أحداثا وقعت في تواريخ مختلفة. وهذا هو ما حدث فعلا مع هوميروس العظيم، لا بد أن أحدثت الحرب الطروادية انطباعا لدى جميع الأغارقة فكتبت أشعار كثيرة باللهجة الأيولية تتناول الحرب الطروادية. ثم صارت من التقاليد المحضة؛ لذا نجد هوميروس، عندما كتب عن هذه الحرب، لم يستطع أن يتغاضى عما كتب غيره قبله. كان للشعر المبكر مشاعر دينية وتاريخية أكثر مما كان في عصره الذي يختلف عن العصور المبكرة لأنه ابتكر أصلا. وكما سبق أن قلنا، كان شعر هوميروس إنجيلا في عصور الأغارقة. وبنفس الطريقة، عندما كان هوميروس على وشك أن يكتب الإلياذة والأوديسة، لم يسعه، بحال ما، إلا أن يتعاون مع التقاليد الدينية التي كتبت قبله. فأخذ هوميروس هذه الأشعار السابقة كمادة موضوعة، بالضبط مثلما أخذ شكسبير أقوال بلوطارخ
وأقوال المؤرخين وما دونته المصادر الأخرى، ولكن ليس أي واحد من هذين الاثنين مقلدا ولا سارقا شعريا. وقد نظم شكسبير بعبقريته ما درسه عن غيره، ولكنه نمقه بطريقته الخاصة، وكذلك فعل هوميروس. فأخذ هذه الأشعار المبكرة كمادة موضوع لأشعاره، ولكن للأسف، لم يحاول هوميروس أن يصنف أشعاره. لم يحاول أن يخبرنا أين توجد أرجوس. هل هي في تساليا، أم في البيلوبونيز؟ وهذا ما يحير أفكارنا. لم يكن هوميروس خبيرا بعلم الآثار ولا عالما لغويا ولكنه كان فنانا، وعندما نتناول الفن، فأي شيء يرضينا إذا كان ذا متعة فنية، ولا يهمنا ما إذا كان تاريخيا أو علميا.
ورغم هذا، فإن هذه التناقضات التي يشير إليها وولف لا تثبت أن القصيدتين قد كتبهما عدة شعراء. وموضوع الجدل هو أن القصيدة تحتوي على شيء قيم لا يمكن شرحه شرحا وافيا. بها شيء نسميه الوحدة. كل شيء خططه فنان بارع ليكون وحدة كاملة.
أما وجود هوميروس فلم يتنازع عليه سوى أدعياء العلم الذين لا يتناولون القضايا من ناحية علم الآثار.
كل هذه التناقضات لا تعني أن القصيدتين من تأليف عدة أشخاص. والبرهان الوحيد على أن الذي كتبهما شخص واحد (هوميروس) هو أن المعنى كتابة فنية. فعندما تقرأ القصيدة وأنت تنظر إليها من وجهة نظر فنية، تبدو القصيدة كلها قصة متحدة متصلة الحلقات. وبهذا البرهان نقرر أن الذي كتب الإلياذة شخص واحد، وكذلك الحال في الأوديسة. كان تاريخ هوميروس هو عام 850ق.م.؛ إذ قال هيرودوت، أبو التاريخ: «عاش هوميروس وهسيود قبلي بأربعمائة سنة.» كان هوميروس في القرن التاسع ق.م.، ونظم قصيدتين بعد ذلك، عرفهما الشعراء المنشدون الذين جعلوهما شعبيتين، والذين نظموا بعض سطور معينة، وربما سببوا فيها بعض الأخطاء.
وإبان هجرة المسابقات، نظمت شتى القصائد عن الحروب الطروادية. فاستعمل هوميروس هذه القصائد مادة لموضوعه. فانتشرت القصيدتان اللتان كتبهما هوميروس، نقول انتشرتا في الخارج بواسطة الشعراء المنشدين أو الحفاظ المحترفين. فأطال هؤلاء في الأحداث بسبب نشرهم إياها شفويا. وفي عصر بيزيستراتوس، حدث التباس ما، جعل من الضروري العمل على استقرار النص الحقيقي. عمل هذا التنقيح من أجل أثينا وحدها. أما المدن الأخرى فكانت لها قصائدها الخاصة. وحتى بعض الأفراد كانت لهم نصوصهم الخاصة التي تختلف عن النصوص الأصلية الحقيقية. ولا بد أنهم ابتكروا بعض الأحداث ودسوها بين السطور. وقد أنهى أريستاخوس ذلك العصر، وثبت النص كما هو عندنا الآن؛ فقد جمع كل ما أمكنه أن يجمعه من الأشعار، ونخلها جميعها إلى أقصى ما يستطاع، وما اعتقد أنه مناسب وصحيح.
هل كتب الإلياذة والأوديسة رجل واحد؟ هذا سؤال أثاره الأغارقة أنفسهم في سنة 100ق.م. وقد قرر اثنان من علماء الإسكندرية هما كسينوفون كسينون، وهيلانيكوس
Hellanicus ، أن القصيدتين مختلفتان تماما، من حيث النغمة. وأنهما من نظم عدة أشخاص.
المقارنة بين الإلياذة والأوديسة
يذكر بعض العلماء الاختلافات الآتية بين هاتين القصيدتين: (1)
في الإلياذة، أعطيت زوجة هيفايستوس
Hephaestus
إلى خاريس
Chares .
بينما نرى في الأوديسة أن زوجة هيفايستوس أعطيت إلى شخص آخر. (2)
أوليمبوس
Olympus
هو المقر الرئيسي للآلهة، بينما نجد في الأوديسة أن المقر الرئيسي للآلهة هو أورانوس
Auranus . (3)
نجد في الإلياذة نظام الإقطاع، بينما نجد في الأوديسة ما يبدو نظاما ديمقراطيا محددا ومتقدما. (4)
خطوة نحو الديمقراطية؛ صار الرؤساء تجارا في الإلياذة، أما في الأوديسة فهم أمراء.
في الإلياذة، الأبطال الوحيدون هم الرؤساء، وفي الإلياذة تتناول الأشعار حقدهم وغضبهم وحبهم وعداوتهم ومغامراتهم، ولا نحصل على أي شيء يخص عامة الشعب. وفي الإلياذة، عندما قام ثيسيتيس
Thessites
في ∝yopd
يعارض الأريستوقراطيين، فيسكت ويحنق. غير أن هذا التركيز على الرؤساء لا يوجد في الأوديسة. وقد يقوم رجل عادي من عامة الشعب بدور هام، يدل تغير الشخصيات هذا في كل من الإلياذة والأوديسة على تغييرات كثيرة في المشاعر. (5)
هناك فرق واضح في أن الإلياذة محترمة في معارفها الجغرافية؛ فتنحصر في بحر إيجه
Aigean Sea
والأراضي المتاخمة له في العصور الماضية. في حين أنه من الواضح جدا في الأوديسة أنها تذهب إلى أبعد من البحر الأبيض المتوسط؛ فنجد فيها معارف جغرافية أوسع، هي في الواقع خريطة جغرافية للبحر الأبيض المتوسط كله.
يقول بعض العلماء: إن الأوديسة لم تكتب إلا لتكون خريطة سرية لا يعرفها سوى الأغارقة وحدهم. ومع ذلك، فقد يدحض هذا التخمين بسبب سخافته. وعلى العكس، تحتوي الإلياذة على معلومات جغرافية. إذن، فقد تسير الأوديسة إلى بداية السيادة البحرية الإغريقية. ولدى شاعر الأوديسة مجال أوسع في الجغرافيا. ومن الأمور الملحوظة معرفته الخاصة بمصر، وبالمعادن والأشجار والأودية. إنه مدرك لكل ما يحدث في مصر وفي جزيرة صقلية وإيطاليا، ويعرف الشاطئ الشمالي لأفريقيا. والشاعر الذي كتب الأوديسة سمع عن جبل طارق. وتبدي الأوديسة معرفة جغرافية أوسع بكثير مما في الإلياذة، كما تبدي اهتماما أقل بالوحوش الضارية التي تزخر بها الإلياذة البدائية التي هي مصدر رعب وفزع دائمين في الحياة الرعوية. نجد الناس في الأوديسة تستشير الوحي، فيذهب أوديسيوس إلى دودونا
Dodona ، ويذهب أجاممنون إلى بوثو
. وهذه نقطة من خصائص الأناشيد الهوميرية، ولا توجد في الإلياذة أية إشارة إلى ملكية الأراضي كما هو واضح في الأوديسة. ومن حيث قواعد اللغة، فهي في الأوديسة نفس ما يدور في لغة الأغارقة في وقت متأخر من عصرها؛ فطريقة نظم أشعارها أقرب إلى لغة هسيود منها إلى لغة الإلياذة. ويشعر العلماء الأكثر تحفظا بعدم وضوح الخطة وبأن الصور مضطربة. وتنحصر الوحدة الأساسية للأوديسة في إعجاب أريسطو بها. وحتى وولف تأثر بالكامل الذي رفعها إلى درجة أعلى إنشاء من الإلياذة. والحقيقة أن تحليلها أكثر تعقيدا. (6)
وضع أريستاخوس وأريستوفانيس
Aristophanes
السكندريان، القدوة لمن بعدهما من النقاد، بأن رفضا أكثر من جزء كامل في آخر القصيدة. ولكنهما أنهيا الأوديسة 23-29 عندما تتعرف بنيلوبي على زوجها، ليتخلصا من الخاتمة المضادة للذروة التي لا تتضمن أي خطأ موضعي، ولكن ليس من السهل حذف أجزاء كاملة ومعزولة من الأوديسة دون الإخلال بتناسبها، كذلك يمكنك أن تحذف الدولونيا
Doloneia
أو السفارة
Embassy
من الإلياذة. (7)
وزيادة على ذلك، ففي الإلياذة، عندما كانت الحياة لا تزال بدائية وبسيطة يمكنك أن تحصل على أسماء للأشياء. وهذا فرق آخر، أن تستخدم الأوديسة مزيدا من الألفاظ المعنوية.
مؤلف الأوديسة مستعد لأن يبحث عن عاهة الشعب، بينما يبحث مؤلف الإلياذة عن الأمراء. وفي الإلياذة يبرهن الأمراء على أنهم رجال قتال؛ فإن
aretè
الأمراء هي
aretè
الرجال المقاتلون، أي الأجرأ والأمهر في القتال من بقية الناس. ولا تسمع إلا عن واحد فقط لم يكن أميرا وليس من الأريستوقراطية العسكرية، ذلك ثيسياتيس
Thessiates ، الذي دخل مجلسا عاما، وعارض في إسناد مقاليد الحكم إلى أجاممنون. ومن الجلي أن هوميروس لم يكن بحاجة إلى أن يستخدم ثيسياتيس الديمقراطي هذا. وقد حطم أوديسيوس ثيسياتيس. ويقول هوميروس: إن الحكم أفضل. وعلى هذا، فالإلياذة قصيدة للأريستوقراطية العسكرية تهتم بالرؤساء والشخصيات العظمى. أما الأوديسة، فتختلف عنها تماما؛ فبدلا من أن تتناول الأريستوقراطية العسكرية والرجال المقاتلين، نراها تتناول الناس العاديين. ومن الجلي أنها تهتم بأمراء التجارة والرجال المشتغلين بالتجارة وال
areté
الذين تتناولهم الأوديسة ليسوا هم ال
areté
الشجعان، بل المتصفون بالمكر والدهاء.
أبطال القصيدتين
بطل الإلياذة هو أخيل (وهو رجل مقاتل) وبطل الأوديسة هو أوديسيوس الواسع الدهاء الذي لا يحقق أغراضه بالقتال وإنما يحققها بالمكر والدهاء. كما أن بعض الشخصيات الهامة في الأوديسة ليسوا من الأريستوقراطيين.
كتبت الأوديسة في تاريخ لاحق
يقول أحد العلماء المحدثين: لا يمكن تصديق وجود فرصة للعثور على رجلين متساويين تماما في الكفاءة وبنفس العبقرية البارزة. وهذا موضوع يمكن تركه جانبا؛ إذ لم يبت فيه أحد، أو يجد له حلا. ويقرر علماء آخرون أن الفرق في الجو عظيم، حتى لا يمكن أن تكون كل من الإلياذة والأوديسة من تأليف رجل واحد.
والتاريخ الحقيقي لهوميروس موضع نزاع، وكما نعرف، كتبت القصيدتان باللهجة الأيونية، وكتب بعضها من قبل باللهجة الأيولية، وهذا يعني أنهما كتبتا عندما تغلبت القبيلة الأيونية على الشعب الأيولي. ويقول هيرودوت: «إن هوميروس وجد قبله بأربعمائة سنة.» وهذا يعني سنة 850ق.م.
إذا لاحظت جميع الفروق بين الإلياذة والأوديسة، بدا أن الأوديسة كتبت في وقت لاحق للوقت الذي كتبت فيه الإلياذة؛ إذ نجد أنه استعملت فيها ألفاظ معنوية في وقت متأخر، كما أن المعلومات الجغرافية لم تعرف إلا بعد الوقت الذي كتبت فيه الإلياذة. وكانت ديمقراطية الأوديسة في وقت لاحق لأريستوقراطية الإلياذة. وإذا تعرضت للسؤال الذي يطلب أن يعرف كم سنة بعد الإلياذة، وجدت من العسير تحديد هذه الفترة. ويقول روز
Rose
إن الأوديسة كتبت في وقت لاحق، ولكن لا يمكنك أن تعثر على عبقريتين عظيمتين على قيد الحياة في وقت واحد؛ فالذي كتب القصيدتين رجل واحد. ولكن الإلياذة كتبت في فترة مبكرة من حياته، بينما كتبت الأوديسة في فترة شيخوخته. وكل ما نستطيع قوله هو أن الأوديسة كتبت في وقت لاحق للوقت الذي كتبت فيه الإلياذة؛ ولذا أحس الناس منذ ألفي سنة بأن هاتين القصيدتين من تأليف رجلين مختلفين.
هل كان هوميروس في إيثاكا؟
كان موضوع الإلياذة كله على المستوى البشري، ويتناسب مع طبيعة البشر. كان الآلهة أنفسهم يسلكون مسلك البشر، وكذلك فعل الأبطال. وقبل هوميروس، كان الآلهة وأولاد الآلهة والملوك أنصاف الآلهة، يكونون كتلة وحشية لا إنسانية من الكائنات العليا. وكان هدف الإلياذة إظهارهم كمخلوقات بشرية عادية. أما في الأوديسة، فيتخذ هذا الهدف اتجاها مضادا تبدو فيه جزيرة إيثاكا
Ithaca
المتواضعة نفسها من أمثلته. ويؤكد الشاعر تواضعها، ولو أنه يمكن أن يقال هذا فقط عند مقارنتها بكيفالونيا
Cephalonia
أوليوكاس
Leucas . ولا تشبه الأوديسة أولوسيس
Ulysses
إطلاقا بأبطال الإلياذة، ولا الطريقة التي كان عليها أولوسيس في الإلياذة. لقد وصف منذ الإلياذة بأنه «الرجل العظيم القلب
Megalator » والرجل المملوء فخرا وجرأة، ولكن أول شيء قيل عنه في الأوديسة، هو أنه كان يتوق كثيرا إلى أن يرى دخان وطنه، ويتمنى لو كان ميتا. ومن خصائصه اليأس والقنوط، حتى بلغ به الأمر أنه لم يصدق الربة عندما أخبرته بأنه في وطنه. لم يصدقها إلا عندما أبصر إيثاكا على حقيقتها. رآها حقيقة واقعة، ورمزا زاخرا بالمعاني. كان هذا هو الهدف الذي يرمي إليه هوميروس في الاتجاه العالي المضاد.
عندما نظم هوميروس الأوديسة، جاء إلى العالم نوع من الأدب لم يكن موجودا فيه من قبل. ويمكن السؤال عما إذا كانت تلك الجزيرة الأسطورية الموصوفة هنا، هي في الحقيقة إيثاكا نفسها التي زارها كل من جيل
Gell
ودودويل
Dodwell . كما زارها شليمان
Schliemann
في سنة 1868 قبل زيارته لطروادة، فقام هناك بعدة حفائر مثلما فعل كثيرون بعد. وأظهرت أعمال علماء الآثار البريطانيين، فيما يبن سنتي 1931 و1953 كثيرا من آثار الحياة بتلك الجزيرة في عصور ما قبل التاريخ وفي العصور التاريخية مما يمكن معه الآن الإجابة على ذلك السؤال. وجدت آثار خاصة بإيثاكا في عهد الأوديسة أكثر عددا ونوعية مما كان يتوقع، ولو أنها لم تكن ثمينة كالتي وجدت في «بولوس»
، من أجل «بولوس» هوميروس. فأظهرت الحفائر أسوار الأساسات وبقايا من العصور الموكينائية
Mycenean
حوالي سنة 1300-1200ق.م.، كثيرة تكفي لتحديد «قصر أولوسيس» المتواضع بشمال الجزيرة. واكتشف في خليج بوليس
ثلاثة عشر مرجلا من البرونز، في كهف مكرس للحوريات ولكن من الجلي أنه كان مكرسا لأولوسيس أيضا.
أكد ستانلي كاسون
Stanley Casson
الذي مات وهو يقاتل من أجل بلاد الإغريق، والعالم الذي كان يعرف جيدا الحياة في منطقة البحر الأبيض المتوسط كما لم تتغير منذ آلاف السنين. وقد أكد بجرأة أن هوميروس لا بد أن زار إيثاكا بنفسه في وقت ما، وبذا أمكنه أن يقول: إن الفياكيين
خلفوا نفس العدد بالضبط من هذه الهدايا نفسها لدى أولوسيس. وقد وصف هوميروس في الجزء الثالث عشر، كهف الحوريات، بأن له مدخلا واحدا للآلهة، وآخر للبشر، ليضم مظاهر كهفين بتلك الجزيرة، أدمجهما الشاعر في كهف واحد. عرف أساطير الأماكن في كل موضع. كان مكانه هو أسطورته، فأخذ الأسطورة القديمة، وجعلها بشرية وشاملة، لتضم ليس الآلهة وحدهم بل وأيضا رجلا يبدو أن الآلهة هجرته وتخلت عنه، وحول الرجل والجزيرة الصغيرة التي تاق إلى رؤيتها، حولهما إلى شيء بالغ التألق.
أهو هوميروس أخيرا؟
إذا، فهل يصح لنا أن نقول أخيرا، إنه هوميروس؟ هل نعتبر من المؤكد تاريخيا أن لدينا في الأوديسة عملا من يد ذلك الشاعر الفذ، الذي لا يمكن أن يذكر معه بنفس الدرجة غير دانتي
Dante
وشكسبير
Shakespeare ؟ وهل لنا أن نقيس عمله بقصيدتيه كلتيهما؛ الإلياذة والأوديسة؟ يظهر أن الجواب قد يبدو عديم الأهمية، ولكنه في الحقيقة مهم جدا، وأفاد منذ أن حدث الشك لأول مرة، ونشأ ما يسمى ب «السؤال الهوميري»، ودار في كل مكان، وهناك عالم ناقد إنجليزي غير معروف الاسم، قام بالبحث في موضوع هوميروس فقال إن أبحاثه لم تكن ذات نتائج كبيرة أكثر من «جنونيات عظيمة»، ولكن عمله أيضا عمل أقل عظمة، هو العلمية غير المشوبة بالجنون. إنه عمل مضن وشاق ذلك الذي كرس لدراسة خصائص الشعر الهوميري. وبغض النظر عن كونه فريدا في نوعه، فإنه قد خلق جوا أهملت فيه مؤلفات هوميروس، وبخست بطريقة ما، ولم تقدر التقدير السامي اللائق بها.
ما كان هوميروس ليقدر ذلك الجدل الكثير لو كان عمله الوحيد هو وضع خطة ملحمة عظيمة ثم تنفيذ تلك الخطة. وإن العلماء الكلاسيكيين الذين يقررون أن رجلا واحدا كتب الإلياذة أو الأوديسة أو كلتيهما، يقصرون، عموما، براهينهم على وحدة الخطة والتنفيذ، تلك الوحدة التي شك فيها كثير منهم. ولا ريب في أن التنفيذ كان عملا عظيما حقا. ولو كان هذا عمل منشد واحد، فلا بد أنه كان منشدا موهوبا، ولكن لا يمكن قصر عمل هوميروس على الخطة وعلى تنفيذها. لقد حدث إلهام في داخل ذلك الشاعر تغير به عالم الآلهة والبشر: كيف تغير هذا العالم تغيرا جذريا من قبل الإلياذة إلى ما بعدها؟ لا يمكننا أن نحس بذلك التغير إلا إحساسا غامضا. كانت هي الربة الموزية
Muse ، التي جاءته بذلك «الإلهام الداخلي» الذي يظهر نفسه في العمل المتواصل الفعال طوال كلتا الملحمتين.
يظهر النجاح الذي حققه هوميروس أولا في مؤلفاته، ثم عن طريق مؤلفاته، يظهر مجهوده. فإذا حاولنا أن نرى مجهود هوميروس، كمجهود عادي لكثير من الشعراء، كان علينا أيضا أن نؤمن بحدوث إلهام داخلي عام لكل واحد منهم، وأن نؤمن بوجود ربة واحدة لجميعهم، هي نفس الموزية الملهمة لهم جميعا، بدلا من عدة ربات وعدة موزيات تناسب كل منهن كل شاعر من هؤلاء. فإذا ووجهنا بأعمال شاعر، كان علينا أن نتبصر في الإلهام المسمى «موزية»، بصفة جدية، كعنصر من عناصر الحياة البشرية. ولن نستطيع أن نذهب إلى أكثر من هذا، ولكن الإلهام الداخلي، مهما يكن مصدره عميقا، لا يمكن تجزئته، لا يمكننا أن نفكر فيه مقسما وموزعا على عدة شعراء. ففكرة وجود موزية عامة لجميعهم تتضارب مع طريقة نظرتنا إلى الإنسان تبعا للفردية الأصيلة للشعراء. لم يكن لدى الأغارقة، في الحقيقة، مثل هذه الصعوبة. فإنهم فكروا في الموزية كربة عامة لجميع الشعراء. وإذا كانت لجميعهم، فلماذا لا تكون لعدة شعراء متفرقين، في وقت واحد؟ بوسع تلك الربة أن تظهر نفسها في عدة صور، وعدة فنون، وعدة كفاءات روحية. ومع ذلك، فلم يعتبر الأغارقة إطلاقا، الإلياذة والأوديسة من تأليف عدة شعراء.
يؤكد لنا الأغارقة أننا لا نتحرك في دائرة مفرغة عندما نقول: «هوميروس، نعم هوميروس حقيقة!» ولكننا، في الواقع، لا بد أن نكون نتحرك في دائرة مفرغة إذا ما أخذنا المجهود المزدوج لهوميروس في ملحمتيه، فنضفي صفة البشرية على الآلهة، ونضفي صفة الألوهية على البشر في الأوديسة، ونعتمد فقط على هذا في تأليفه لكلتا القصيدتين. لم يكن لدى الأغارقة شك حول هوميروس، أكثر مما كان لدى الإيطاليين حول دانتي. كان هوميروس مؤلف القصيدتين. وإذا كان الأغارقة مخطئين، فإنما كان خطؤهم في كونهم نسبوا مؤلفات شعراء آخرين إلى هوميروس، في وقت طمست فيه كفاءات النقد. صار اسم هوميروس توصية عندما سادت مؤلفاته. وإن كل الأدب الحديث، تقريبا، المهتم بالمسألة الهوميرية، يغفل النقطة الفاصلة، وهي أن اسم هوميروس يعني ذهبا: ذهب الإلياذة والأوديسة. فإن لهاتين المنظومتين صفة الحسم. هذا وإن علماء العصور اللاحقة الذين لم يستطيعوا رؤية الذهب، كان يجب عليهم، على الأقل، أن يصغوا إلى الإغريق، إذ لديهم الدليل عليه.
يعرف العصر الذي نسب فيه كل شعراء البطولة، المعروف ب «الدائرة البطولية»، نسب إلى هوميروس، تلاه عصر قوة فنية أعظم جاء معه بمقدرة انتقادية أكثر دقة. ومن المحتمل أنه كان في القرن السادس ق.م.، ومن المؤكد أنه كان في القرن الخامس ق.م.، أن نسب بقية شعر هوميروس إلى مؤلفين آخرين غير هوميروس - ولكن هذا لم يكن كل الإلياذة والأوديسة. وعلى العموم، ما من شاعر، في كل التراث القديم، قد ذكر اسمه كمؤلف لهاتين القصيدتين، فيما عدا هوميروس؛ وهذا جدل قوي في حد ذاته، وصحيح، خصوصا في حالة الأوديسة الحديثة، إذا ما قورنت بالإلياذة، كما يقارن يوريبيديس
Euripides
بأيسخولوس
Aeschylus
وسوفوكليس
Sophocles . فإن شاعر الأوديسة يبدي وعيا فائقا في عمله. يأتي بمنشدين في المنظر: فيميوس
في إيثاكا، وديمودوكوس
Demodocus
بين الفياكيين، وهو نفسه المنشد الثالث - هوميروس، وقد رغب جميع الأقدمين في الاعتراف بهوميروس نفسه، في ديمودوكوس. لم يطرأ على بال أي فرد أن يفكر في شاعر آخر.
النقد الإغريقي لهوميروس
جاء النقد العظيم لهوميروس من لدن الفلاسفة، لم يتناول ذلك النقد صفة الإلياذة ولا الأوديسة ولم ير أي فرق في التأليف أو في الصفة بينهما. وإلى هذا الحد يبدي دعما إيجابيا ومباشرا لوحدة التأليف. وكان حكمه، بالاختصار، في صالح الحقيقة ولخير الدولة. وحتى ذهب شعر هوميروس يجب أن ينكر. والمشاكل التي يثيرها أفلاطون
ضد هوميروس في رسالته التي عنوانها «الجمهورية
Republic » حيث يصف أساس الدولة السقراطية
Socratic . تلك المشاكل مأخوذة من كلتا الملحمتين البطوليتين. والنتائج التي يصل إليها، رغم كونها تنتقد هوميروس، فإنها صفة حميدة، وتقريظ للموهبة الشعرية لشاعر من درجة هوميروس. فنقرأ، في الباب الثالث من الجمهورية، أنه إذا جاء مثل ذلك الشاعر إلى المدينة المؤسسة حديثا، «فلا شك في أنه لا بد لنا من أن نعيده كمخلوق مقدس مثير للإعجاب ومبهج، ولكن يجب أن نخبره بأنه ليس لدينا رجال على شاكلته في مدينتنا، وإنما لمما يخالف القانون أن نسمح بدخول شاعر، يجب أن نعطر رأسه بالزيوت الغالية ونتوجه بإكليل من الصوف، ثم نقوده إلى مدينة أخرى ...» ومن وجهات النظر عندما نعتبر مسلك ذلك الفيلسوف نحو منافسة الشاعر، الذي يريد أن يلغي أعماله، نجد لدينا وصف أفلاطون لهوميروس أكثر قيمة من الصور العادية المقفرة ل «الشاعر المنشد المتجول». وهذا الأخير، تبعا لكتاب قصص شهير صدر في حوالي القرن الأول الميلادي، جمعت فيه عدة قصص عن هوميروس، بعضها غير مقرظ له.
يتكلم أريسطو عن محامد هوميروس في رسالته «الأشعار
»، ويفحصها بعناية وبدقة، فنجدها من أعمال فحل من فحول الشعراء الأفذاذ «إنه شاعر عظيم في عدة نواح، وخصوصا أنه كان الشاعر الوحيد الذي يعرف متى يجب عليه أن يتكلم بشخصه وبشعره. وهذا الشاعر، نفسه، يجب أن يتكلم أقل ما يمكن لأن الكاتب المسرحي ليس هناك ليقاطع أشخاصه، يتقدم معظم الشعراء إلى الأمام باستمرار، ومن النادر أن يسمحوا بالكلام لأشخاص آخرين. وإن حدث وسمحوا لهم، فإن ذلك لفترة قصيرة فحسب، يقدم هوميروس رجلا أو امرأة، أو شخصا آخر، وكل ما يقولونه مناسب جدا لهم، وليس غير ملائم للمتكلم». وحكم أريسطو الفاصل على هوميروس، الذي يجب كذلك أن يكون حقيقيا ومناسبا لكل من دانتي وشكسبير، ينطبق على كل من الإلياذة والأوديسة. ومن النادر جدا أن يقال إنه معادل لغيره من الشعراء والمنشدين الآخرين، فإن هوميروس أريسطو هو شاعر الإلياذة والأوديسة الذي يراه متصلا حقا بخصائصهما البالغة العمق. فيقول إن أية واحدة منهما يمكن أن تمدنا بمأساة واحدة، أو على الأكثر بمأساتين. بينما بوسع القصائد الأخرى كالقبرصية
Cypris
أو الإلياذة الصغرى أن تمدنا بعدة مآس. ومما لا يمكن إنكاره أن ملاحظات أريسطو هذه من بين الملاحظات الأكثر تعمقا، التي قيلت عن هوميروس.
ليست هذه الملاحظات آخر ما قيل عن هوميروس في العصور القديمة، ولا يختلف مسلك العلماء السكندريين في أساسه عن تلك عندما فحصوا نصوص هوميروس سطرا سطرا، لتخليصها من الزوائد الدخيلة فيؤيدونها دائما بقولهم إنها صادرة عن مؤلف عظيم، رغم أنه كان هناك بعض منهم راغبون في «فصل» الإلياذة عن الأوديسة.
ومنذ عصور الإمبراطورية الرومانية المبكرة، لدينا كتيب جيد عن مظاهر الجمال الفني ينسب إلى لونجينوس
Longinus
أو إلى ديونيسيوس
Dionysius
وهي رسالة عن الذروات التي حققت في الأدب (
Hypsos
هي الكلمة الإغريقية التي بمعنى «الذروات»، المستعملة في الأدب الحديث ولكنها قلما تفيه حقه)، وتتضمن هذه الرسالة ملاحظة عن تاريخ حياة هوميروس، وهي على الأقل موثوق بها كأي شيء آخر ذكر في الكتيب الذي تكلمنا عنه، والذي قد يحتمل أنه كان معاصرا للونجينوس، وليس لونجينوس، مؤلفه هذا، ناقدا لهوميروس. إنه ذو عين فاحصة للسمات البائدة التي تضمنها مؤلفه هذا. وقد مكنته روحيته من العثور على أمثال الذروات الأدبية البحتة، حتى في «صانع قانون اليهود»، وفي سفر التكوين
Genesis
الذي قرأه في الترجمة الإغريقية، فماذا قال؟ قال: «ليكن النور، فكان النور، ولتكن هناك أرض، فكانت الأرض.» فيجد هذا التعبير ذروة
hypsos .
كذلك كان لونجينوس هو الذي أكد ما هو أساسي في أعمال هوميروس، وليس مجرد ناحية من نواحي الجمال الفني فيها، وذلك في سرده لأحداث الحرب الطروادية، فعل هوميروس كل ما أمكنه فعله ليحول الرجال إلى آلهة، ويحول الآلهة إلى بشر. وسرعان ما نراه يصف، بعد ذلك، الملحمة الثانية هكذا: «ولكن هوميروس يبين في الأوديسة (كما يجب أن يراعى، لعدة أسباب) أنه عندما يكون عقل عظيم في طور تضاؤله، فإنه يجد متعة في رواية القصص إبان شيخوخته. وهناك عدة أسباب تجعلنا نؤمن بأن الأوديسة هي العمل الثاني لهوميروس. ومن أهم هذه الأسباب، أنه ذكر في الأوديسة إشارات إلى المتاعب التي كوبدت في طروادة . تبدو هذه، في الأوديسة، كصدى للحرب الطروادية. والحقيقة أنه يروي، مع الشكوى والأنين، ما يعتقد أن أبطاله قد ذاقوه وعرفوه: «مات أشجعنا
أياس
Aias ، سيد المعركة، يرقد هناك:
وأخيل
Achilles
نفسه، وباتروكلوس
الذي كانت حكمته في المجلس كأنها من عند الآلهة.
وهناك أيضا مات ابني الجميل.» (الأوديسة 3: 108-110)
والحقيقة أن الأوديسة ليست سوى خاتمة للإلياذة.»
وبعد هذا التعليق على خطبة نستور
Nestor
في الأوديسة بالباب الثالث. يستطرد لونجينوس، فيقول «ولنفس السبب، لا شك في أن الإلياذة مليئة بالعمل والنضال طوال القصيدة كلها. وهكذا كتبت فعلا في دورات الإلهام، بينما معظم الأوديسة مكون من السرد. وهذا هو أسلوب الشيوخ من الرجال، وهكذا يمكن تشبيه هوميروس في الأوديسة، بالشمس الغاربة التي فقدت حرارتها اللافحة واحتفظت بحجمها، لم يعد يحتفظ بالقوة الشهيرة لهاتين القصيدتين اللتين نظمهما عن طروادة. ولم يعد يحتفظ بذلك الأسلوب السامي غير المتأرجح. ولا يوجد نفس ارتباك العواطف المتنازعة ونفتقد التنوع السريع والفصاحة وبلاغة المجازات المأخوذة من الحياة الواقعية، ولكنه كالمحيط المتراجع على نفسه يترك شواطئه فلا يرى منه سوى التيارات المنحسرة لتلك العبقرية العظيمة التي تتمدد على قصص خرافية لا يصدقها العقل.
عندما أقول هذا، فإني لا أنسى عواطف الأوديسة، ولا قصة الكوكلوبس
Cyclops
وبعض أشياء معينة أخرى، ولكني أتكلم طبعا عن شيخوخة هوميروس.
نشأة السؤال الهوميري
وهكذا تأكد لنا أن هوميروس كتب الأوديسة وأنه هو الذي كتبها. لم يتزعزع أبدا اعتقاد العصور القديمة في حقيقة التأليف التاريخية. ومن هذه النقطة لا بد أن جميع المجادلات حول المسألة الهوميرية، قد نشأت. والحكم هو أنه لم تكن هناك مؤلفات مكتوبة في بلاد الإغريق، يعرف أنها أقدم من منظومتي هوميروس. كما ثبت أيضا أنه لم يترك الشعر خلفه مكتوبا، وإنما تركه في صورة ملائمة للحفظ عن ظهر قلب. وقد ضمت أجزاء الأوديسة بعضها إلى بعض، فيما بعد، عندما جمع مختلف الأناشيد؛ ومن ثم نشأ بها عدة تناقضات، تأثرت بها.
هذا هو رأي المؤرخ اليهودي جوزيفوس
Josephus ، الذي كتب في العصر الأول الميلادي، ولكن هذا كان قد ثبت من قبل في القرن الأول ق.م. حيث قال شيشيرون
Cicero : إن الأناشيد ضمت معا في عهد الطاغية الإغريقي بيزيستراتوس
، تتفق مع الملاحظات التي أخذت من لونجينوس، مع وجهة النظر هذه، وهي: أن الشيخوخة أو الانتقال شفويا، يمكن أن تحدث تلك التناقضات. وليست هذه فكرة كاهن فرنسي من القرن السابع عشر - «لم يوجد هوميروس أبدا» - هي النتيجة المنطقية التي يمكن استخلاصها من تلك التناقضات طالما كان للناس عيون لما ذهب الشعر الهوميري ذاك. وماذا تهم الاختلافات البسيطة التي لاحظها علماء الإسكندرية من قبل، ثم زالت إلى حد ما؟ صاغ هوراس
Horaçe
هذه هكذا: «وحتى «هوميروس» الطيب، يطأطئ رأسه أحيانا. ما أغرب تلك الفكرة، أن تشك في وجوده لأنه كان يتنفس أحيانا!»
قد يسجل المرء، ويذكر السبب في وجود تلك الاختلافات في النص، ولكن العلماء ذهبوا إلى أبعد من هذا، وإما أنهم خدعوا هوميروس، أو نسبوا الإلياذة والأوديسة إلى مؤلفين آخرين، أو أنهم وجدوا عدة مؤلفين وناشرين وجامعيين يعملون على شتى أجزاء القصيدتين، ولكن ما من أحد من هذه الحلول الجانبية، كان هو نتيجة الاكتشافات التاريخية الحديثة. كان العصر التاريخي الجديد الوحيد نوعا من الخسوف. هل كانت صفة هوميروس ضعيفة لدرجة أن يصيبه الخسوف، أم هي الاستجابة لصفات هوميروس السامية التي أخفقت؟ هل فقدت أعمال الفن الهندسي الأثيني قيمتها لمجرد أن أول شخص حفر وجدها متناقضة فحكم خطأ؟ أم أن الأذواق فقط هي التي تغيرت، مثلما حدث في بلاد الإغريق نفسها في القرن التالي بالنسبة إلى الفن الهندسي - وليس بالنسبة إلى هوميروس، حتى بعد ثمانية قرون لاحقة؟ يتميز القرن السابع عشر، وهو العصر الكلاسيكي الفرنسي، بتغير مماثل في الذوق جعله أقرب إلى فرجيل
Virgil
منه إلى هوميروس، اشتهر فرجيل بأنه أشهر شعراء البطولة. وبالطبع، لو اعتقد أن فرجيل نال بريق الذهب، فإن هوميروس يبدو من معدن أدنى.
يؤكدون لنا في ألمانيا أن هوميروس كان في القرن الثامن عشر «إله الأدب الكلاسيكي»، وأن إنكار وجوده الذي ذاع بصورة خطيرة، كما ظهر في طبعة علمية من الإلياذة، وكما كان فيما بعد موضع نقد الأناجيل، لا بد أن إنكاره ذاك كان أشبه بالتجديف على المقدسات. غير أن ما نبذ أخيرا هو إله نمق بدقة ليتخذ صورته ويصور تبعا للنماذج الكلاسيكية الكاذبة. كانت الصورة عرفية ولذا أثارت إحساسا من الشك ونوعا من الوعي المذنب لا سيما وأن العقول لم تستقر بعد بالمناظر الجديدة وبمؤلفات جوهان جوتفريد هيردر
Johann Gottfried Herder ، وبموجة الميل إلى «أصوات الشعب». وقد انفتحت الاتصالات بالشرق الأدنى وبآراء الممكنات إن لم تكن بآراء حقيقة أناشيد شعر البطولة الأصيل. انفتحت هذه بواسطة كتاب روبرت وود
Robert Wood
عن «العبقرية الأصلية» لهوميروس، الذي كان نفوذه في ألمانيا أقوى منه في إنجلترا. ومن ناحية أخرى، أصدر جون فلاكسمان
John Flaxman
كتابا صور فيه الإلياذة والأوديسة، كان ذا نفوذ على الشعب المتعلم في إنجلترا وفي كل مكان. كان تصوير فلاكسمان هذا شيئا أشبه بتصوير جوتيه
Goethe
في مؤلفه «إيفيجينيا
Iphigenia » وقد حاكى جوتيه فجعل الأغارقة مثلا عاليا. هذا، ويجب أن يتذكر المرء أن آخر تاريخ ممكن لهوميروس هو عصر الفن الهندسي في القرن التاسع إلى القرن الثامن ق.م. ولكن العلماء الكلاسيكيين عقدوا اجتماعا لمناقشة موضوع وجود تعليم أدبي في عصري جوتيه وفلاكسمان.
ليس أسلوب هوميروس هندسيا ولكن عمله أضاف اتساعا لعالم بسطه الفن الهندسي. وأضاف إلى عالم الحرب اللاإنساني، إمكان الشفقة الإنسانية، كما أضاف إلى عالم الآلهة المتعجرف والمتكبر، رحمة الآلهة، ونصيبا في معاناة الإنسان. وقدم إلى حقيقة وجود الإنسان إمكان أن تأخذ الآلهة نصيبا منه. لقد أزيحت الحواجز وحركت الأشياء غير المتحركة، ويمكن قياس مدى أعماله ونفوذها المحرر، بمقارنتها التناقضية بالفن الهندسي، وليس بمقدور فن فلاكسمان أن يتخذ كمعيار للحكم عليها، وإذ تأثر جوتيه بالتأكيد الصحيح لعالم كلاسيكي ذي شهرة علمية، لم يخالجه أي شك في كل هذا. وإذ خلص نفسه من شبح «هوميروس المقدس»، بقراءة ذلك الكلام العلني رغم كونه غير أصلي، فإنه، وهو الخبير، قنع بأن يكون آخر أتباع «هوميروس
Homerids »، بمؤلفه «هيرمان ودوروثيا
Hermann und Dorothea » ومن المحتمل أن يكون قد عرف أخيرا، عن طريق مؤلف عن أخيلياته
Achilleis ، عرف مؤلف الإلياذة بصورة أحسن، واقتنع، أكثر مما كان في أي وقت مضى، بوحدة تلك القصيدة وعدم قابليتها للتجزئة. لم يحاول أن يصدر حكما موضوعيا على المسألة الهومرية؛ إذ سيطرت عليه بقوة انفعالاته الموضوعية. وذات مرة، ذهب إلى ما هو أبعد من المسرح. تذكر «الشعور بالألم» الذي عم كل أصدقاء الشعر وأفسد بهجته. وعندما دعيت شخصية هوميروس، ووحدة مؤلف أشعاره البطولية ذي الشهرة العالمية، فبرهنت على الجرأة والكفاءة، حدث هذا في سنة 1821م، واستمر الجدل أكثر من عشرين سنة. اعتقد أنه من الضروري حدوث انقلاب تام في «الرأي العالمي» - وإنه ليقصد، دون أقل شك، ميول القارئ المثقف، أن تؤمن بهوميروس - ليسمح للمدافعين عن وجهة النظر القديمة بفسحة من الحرية مرة أخرى.
دارت العجلة في دائرة كاملة
منذ ذلك الوقت، مضى حوالي 150 سنة في هذه المناقشات السطحية، فيما عدا أنها تساعد المرء على فهم نصوص هوميروس بصورة أفضل. كان هذا نقطة البداية الخاصة بهم التي حددت من قبل في العصور القديمة، وهي أن شعر هوميروس نظم أولا في صورة أناشيد للتلاوة الشفوية، اشتملت على بعض التناقضات، ولكن هذا لم يكن ليذهب إلى الإجراءات المتطرفة التي تقرر أن هوميروس لم يوجد إطلاقا؛ فقد تأكد بصفة قوية، بالتقاليد الموروثة، أنه كان موجودا، وأنه كان شاعرا عظيما. وفي مجال آخر من العلمية الكلاسيكية، كان السبب الوحيد اعتبار فيدياس
، لمدة طويلة، نحاتا عظيما، هو التقاليد الموروثة. ومن العسير القيام بأبحاث علمية عن فيدياس إذا لم تأخذ في الاعتبار صفة فنه السامية، وحتى إذا لم تؤيدها الاكتشافات. وقد بنيت مناقشات الاكتشافات على حكم العصور القديمة. كان من الخطأ تجربة صفة شعر هوميروس وتركها جانبا، ولو للحظة واحدة، وعدم اعتبارها جزءا من الحقيقة عن هوميروس منذ البداية الأولى، مثلما حدث في الحقيقة عن فيدياس عندما تتضمن كمال فنه. وفي علم الآثار، منذ عهد جوهان ج ونكلمان
Johann J. Wincklemann ، درب الطلبة أنفسهم على تقدير الفن، بيد أن الأمر كان مخالفا في حالة دراسة الأدب القديم، عندما نظر إلى هذه الهيئة نظرة بسيطة. كما أنه من غير المنطقي أن يتبع العلماء الكلاسيكيون أذواقهم الخاصة في النقد الهوميري، يوجد معنى أكثر في البحث عن النقد، يدل على الحقيقة دون حكم على صفة المؤلفات، ولكن مثل هذه الحقيقة التي ما زالت جديرة بالبحث، غير موجودة في حالات الفن والشعر، والفنانين والشعراء، وفوق كل شيء، في حالة فحول الشعراء.
والحقيقة عن شعر هوميروس، هي أن شاعرا بهذه الصفة يمكن أن يكون قد نظم شعره في صورة أناشيد، وأنه، كشعر شفوي، لا بد أن اشتمل على بعض المتناقضات. عادت الأبحاث الهوميرية الآن، إلى هذا الفرض الابتدائي بعد أن احتفظت بالجماعية باستمرار، أو على الأقل بازدواج التأليف، وكذلك الوحدة. لقد دارت العجلة دورة كاملة. والجديد في هذا الأمر هو الاهتمام الحديث بالظروف التي نشأت فيها هاتان القصيدتان اللتان لم تغيبا عن الأنظار إطلاقا، ولكنهما تدرسان الآن بعناية ودقة أكثر مما حدث في أي وقت آخر. ومن المعترف به أن لمنشدي شعر البطولة ذاكرة قوية قلما يمكن إغفالها وتقديرها، ولكنها ما زالت غير طيبة حتى يمكن حذف جميع أخطاء التفاصيل. وكان بعض العبارات الشعرية المتفق عليها وغيرها من الصيغ المتكررة اللازمة لتكوين الأشعار، كان غير ملائم عند تطبيقه على مادة الموضوع الجديدة. وقد حقق العالم الأمريكي ميلمان باري
Milman Parry
هذا أولا في نصوص هوميروس، ثم في نصوص أناشيد البطولة السلافية الجنوبية
South Slavonic ، التي ما زالت تتلى من الذاكرة حتى الآن، والتي سجلها على الفور بالوسائل التكنولوجية الحديثة.
كانت القيود المفروضة على التعبير الهوميري بواسطة تكرار الصيغ الثابتة، كانت بالطبع معروفة من قبل كما كان وجود أناشيد البطولة في دالماشيا
Dalmatia
ونوفيباسار
Novipasar . وهناك عالم كلاسيكي ألماني لم يلق نجاحا في بلده، وعمل في بلاد الأراضي المنخفضة
Netherlands ، وهو من المؤمنين بوحدة هوميروس، صمم كتابا خاصا بعنوان: «أشعار هوميروس» تناول فيه غرائب مؤلف الإلياذة والأوديسة، كما وضع كتابا عنوانه: «الدراسة المقارنة لشعر البطولة»، تناول فيه شعر البطولة لشعوب فنلندة
Finns
وإستونيا
Esthonians
والسلاف الجنوبيين والروس
Russians
والكيركاسيين
Circassians
والتارتاريين
Tartars
والمالايين
Malayans . وكان هناك اثنان من المتحمسين لوحدة التأليف في الولايات المتحدة الأمريكية، بنيا مركزهما على التناول العرفي القديم لنصوص هوميروس وهما: جون أ. سكوت
John A. Scott
وصامويل إليوت باسيت
Samuel Eliot Basset
وقارن هذا الأخير انتقال هوميروس من الإلياذة إلى الأوديسة، بانتقال أفلاطون من الجمهورية إلى القوانين
Laws
كمثل نموذجي.
ولكن باري كان أول «عامل حقل» يكد في إدارة «المسألة الهوميرية»، واعترف به كمبدع أسباب جديدة لا يمكن تحديه في الأساسيات. وقد نشرت نظرياته ونتائج أبحاثه بعد موته المبكر (في سنة 1935م)، نشرت في كتاب عنوانه «منشد القصص» يمتاز بأنه النوع الأول لمنشد أشعار البطولة، وهي صورة يمكن استعمالها الآن لتصوير هوميروس، وهوميروس هو أعظم ناظم لهذا النوع من الشعر، ويضفي على مؤلفه أكمل تعبير للأفكار البطولية التي وجدت قبله، في صورة أشعار ونماذج بطولية. جاءت نتائج أبحاث باري إلى دنيا العلم كنسمة جديدة من الهواء المنعش اكتسحت كل ما قبلها. وعندما يتكلم مؤلف علمي في سنة 1962م عن «الأناشيد الهوميرية»، ويقصد الإلياذة والأوديسة، فإنه لا يحاول إحياء نظرة رومانتيكية، وإنما ليذكر الحقائق بالضبط. وقد اعتقدت العصور القديمة، من قبل، أن هوميروس قدم نفسه كمنشد. وماذا يعتقد في تصوير هوميروس لنفسه؟
تصوير هوميروس لنفسه
كلما كان القصاص ماهرا عظم الخطر الذي يتعرض له؛ إذ يفهمه الناس بصورة أكثر حرفية مما قصد أن يتصورها قراؤه، وقد قرأت سيدة بريئة مذكرات النصاب الأعظم كرول
Krull
فظنت أن أمامها تاريخ حياة توماس مان
Thomas Mann
يتكلم عن نفسه، يأتي هوميروس بمنشدين في الأوديسة، واختارت العصور القديمة العلمية لكليهما. فهذا ديمودوكوس، الذي صور الشاعر نفسه فيه. ووضعت القيثارة في يد فيميوس
، المغني في قصر أولوسيس، كما وضعت في يد ديمودوكوس؛ لأنه لن يغني للعشاق بطريقة غير هذه. إنه مغن يرتدي حلته الرسمية، ولكن ديمودوكوس يعطي القيثارة بواسطة المنادي في قصر ألكينوس
Alcinous
لسبب آخر. كذلك أحضره المنادي إلى هناك. ويخبرنا الجزء الثامن من الأوديسة، أن «الموزية أحبت ديمودوكوس لدرجة الجنون حتى إنها ضربته، فمنحته موهبة الغناء، ولكنها في الوقت ذاته أفقدته بصره»، كان الفياكيون قريبين جدا من الآلهة، حتى إن حب الموزية لذلك المغني، قلما يمكن فهمه، إلا على أنه شبيه بحب أفروديت
Aphrodite
لأنخيسيس. فعندما أحبت تلك الربة ذلك الراعي، فربما كلف هذا الحب فقد بصره .
كذلك أنجبت الموزيات أولادا، ولكنه كان من الخطر على الرجل أن يرى إلها أو ربة وجها لوجه، كما يخبرنا هوميروس نفسه. لم يقدم قرابته إلى الموزية بهذه الصورة. ومع ذلك، فقد صور دائما كمغن أعمى، ولكن عندما جيء بصورته في القرن الخامس، أثارت مسألة لعلماء الآثار. جعل رأس هوميروس، الذي هو أجمل رأس، جعله بعينيه المغمضتين، وليس بعيني رجل أعمى. واقترح أنه من الممكن أن تلك كانت صورة العراف تايريسياس
Teiresias . وتقول إحدى القصص: إن الربة أثينا
Athene
ضربته بالعمى لأنه أبصرها وهي عارية الجسم. ولو أنها أعطته موهبة التنبؤ في الوقت نفسه. والحقيقة أن عمى ديمودوكوس معشوق الموزية، كان من الممكن تصويره بهذه الطريقة، ثم ينقل إلى هوميروس، ذلك النحات، الذي صنع الرأس، أعطى الفن الكلاسيكي ذلك الشاعر الإغريقي الأعظم، ملامح الرؤية الداخلية لحكيم يشتهر باتصاله بالآلهة. ويعبر عنه بواسطة ذلك، بنفس التقدير السامي الخاص به كما سمعنا من أريسطو ولونجينوس.
عندما يتكلم هوميروس في الأوديسة عن أغاني البطولة، ويقدم المغنين، فليس هذا تصويرا للنفس، ولكن ليؤكد الفرق بينه وبين المغنين من شاكلة ديمودوكوس وفيبيوس. فهما يختلفان عنه في طريقة الإلقاء التي كانت إنشادا بمصاحبة قيثارة ضخمة وليست بنوع من الإلهام ولكن بالدرجة والأهمية اللتين كان هوميروس يشعر بهما بتفوقه على غيره. أما في الإلياذة، فلا يظهر أي
aoidos
ولا أي مغن محترف، رغم أنه كان من السهل على الشاعر تعيين مغن للمحاربين مثلما كان أورفيوس يصحب أجاممنون. وقد اتجه أخيل نفسه إلى الأغاني عندما ترك المعركة في مدة غضبه؛ ولذا كان أعظم بطل في الإلياذة هو الذي يتغنى «بمحامد الرجال»، وهذا بالاختصار هو خطة الأغاني البطولية. فيصغي باتروكلوس إلى أخيل دون أن يجرؤ على مقاطعته. وبهذه الطريقة يستمر أخيل يفعل ما بدأه في ساحة القتال. لم يكن كل المقاتلين في طروادة قادرين على أن يحاكموه فيما يفعله، يغني أخيل، فيلائم هوميروس وجهة نظره في الإلياذة. فعل هذا مع تيليماخوس ومع أولوسيس في الأوديسة. فيدل هذا التركيب المكون من المغني والبطل، على سمو تقدير هوميروس للإلياذة كقصيدة. كان هذا من أجله، وليس لمجرد أن يقدم للعالم صورة جديدة من الحرب الطروادية، ولكن كان هذا وسيلة جعلت الأغنية تحل محل العمل وتخلد ذكراه. ويقال نفس الشيء في قصة قيثارة جراسير
Grassire
وهي أنشودة بطولية عرفت عن طريق ليو فروبينيوس
Leo Frobinius ، قيثارة المغني الأفريقي الذي كان محاربا هو نفسه، وأنشد لأول مرة عندما دمرت مدينة واجادو
Wagadu
القوية وغذيت القيثارة بما يكفي من الدم والمعاناة. وقبل ذلك كانت صامتة لا يسمع لها صوت.
بالاختصار، يمكننا أن نقول: إن هوميروس استعمل الحرب الطروادية، في الإلياذة، ليبين معاناة الآلهة والبشر، وخصوصا معاناة نصف إله مثل أخيل، واستعمل رحلة العودة إلى الوطن، في الأوديسة، ليوضح متاعب رجل بالغ الحزم مثل أولوسيس. كان يطمح إلى أن يضفي عليها رنينا قلما كان لها من قبل. وإذ كان يعيش في عصور متأخرة، فلم يكن بوسعه أن يطالب بالطرافة. خذ تلك المرافعة التي دافع بها تيليماخوس عن فيميوس، في الجزء الأول من الأوديسة، كان فيميوس ينشد متغنيا بأحداث رحلة العودة إلى الوطن، تلك الرحلة الشاقة المليئة بالعذاب والآلام، رحلة الأغارقة وبنيلوبي التي وجدوها مؤلمة ومؤثرة، فقاطعوه طالبين منه أن يكف عن الاسترسال في ذكر تلك الآلام، وأن ينشد أغنية أخرى تختلف عما يردده. فتدخل تيليماخوس، وأمر فيميوس بأن يستمر في الغناء الذي كان ينشده؛ لأن الناس يرغبون دائما في أن يسمعوا أحدث الأغاني، لدينا هنا ما لاقاه مغن عجوز، سجله ببساطة ذلك الشاعر، كما هو، دون تنميق أو تزويق لذكر فضائله. إنه دفاع عن فيميوس، وليس عن هوميروس. نجده يميز نفسه بوضوح عن المنشدين المحترفين السابقين، الذين يأتي بهم على مسرح القصيدة. كما أن فيميوس يزود هوميروس بفرصة إخبارنا بشيء يختص به هو نفسه، دون أي شك.
الإيحاء الهوميري
ليس هوميروس عاطفيا عندما يتوسل إلى الموزية فلا يتناول سوى كسرة واحدة من بيت شعري في السطر الذي يستهل به كل مقطوعة بطولية، ويضع بدلها «أنا أنشد» أو «سأروي أخبار ذلك الرجل» بواسطة «ربة الغناء » أو «أيتها الموزية، حافظي لي على هذه الأغنية التي أنشدها عن ذلك الرجل ذي العقل الزاخر بالتنوع.» ما من شيء آخر يمكن أن يكون أكثر طبيعية في اللغة الإغريقية رغم كونه يبدو مبتذلا في الترجمة إلى لغة أخرى. إنه يستدعي إلى ذاكرته شيئا حدث من قبل الوقت الذي يستدعيه فيه. إنه شيء بسيط على مستوى شبح مقدس، كما يجب أن يفكر فيه في حالة ديمودوكوس. ومع ذلك، فإن كلمة
، ومعناها «روح»، استعملت فيما بعد، في هذه العلاقة.
هذه العبارة التي اقتبسناها من لونجينوس، عندما تتحدث عن «ذروة الإلهام»، في هوميروس، فإن النص الإغريقي يشتمل على ذروة الروح. هذا هو الإلهام الذي حدث في داخل ذلك الشاعر، والذي يفسر جهده لنا، ويبدو كما لو كان له أصل فوق مستوى البشر. ويتوقع أن نلحظه حيث يوجد في شعرائنا الملهمين، في التعبير الخاص في شعرهم. قد يتحدث المرء عن «الألفاظ الموحى بها» ويتوقع أن يكون مفهوما. غير أن التعبير لا يكون في موضعه عندما نتحدث عن هوميروس.
لا بد أن نخفق إن حاولنا أن نبحث عن «الألفاظ الموحى بها» في هوميروس، بنفس المعنى الذي نجدها به في فرجيل، أو في دانتي، اللذين كان بحثهما العظيم عن إمكانيات الموسيقى وترتيب الألفاظ، معادلا للاكتشافات والغزوات الجديدة. لم يكن تأثير ذلك الإلهام الداخلي في هوميروس هو إعادة خلق اللغة من جديد. كان عليه أن يعتمد على المنشدين السابقين بطريقة لم يتخذها أحد غيره من قبله، ولم يفعلها شاعر مجيد بعده. بيد أن هذا جعل مجهوده ممكنا. وليست عظمته ناتجة عن طول الإلياذة والأوديسة، بل لاتساع نطاق روحه التي كشف عنها وسيطر عليها. كان التعبير الشاعري الذي يمكن صياغته بسهولة وتحويله إلى أناشيد، وتراث الشعراء، وليس لغة الكلام الدارج اليومي، كانت كل هذه موجودة قبل هوميروس، كان، تحت تصرف الشاعر، تحوير الجمل وصياغتها لتلائم شعر البطولة، وتشكل تبعا لذوق الشاعر، وجاءت هذه الجمل بينه وبين اللغة نفسها. كان هذا، بالطبع، ربحا له، ولكن من الممكن أيضا أن تكون عقبة أمام تقدمه. كانت العناصر الجاهزة مثل درجات السلم بالنسبة لذلك الشاعر، تساعده على أن يرتقي ويشيد صرح بنائه، فبواسطتها يمكنه الاستمرار في أغنيته، ولكن لا يمكنه أن يستمر بواسطتها وحدها.
نرى، في الجزء الثاني والعشرين، من الأوديسة، نرى فيه فيميوس يتوسل بكل ما لديه من حول وطول، لكي ينقذ حياته، قائلا إنه علم نفسه بنفسه
autodidaktos ، وإنه مدين لله بموهبته الغنائية المتعددة الاتجاهات، وليس التأكيدان متناقضين، مهما تكن الظروف التي أعدت لها. يعتبر فيميوس أن تعليم نفسه ذلك الفن، بنفسه، من الأفضال البالغة المنسوبة إليه. وهنا يتقدم الشعراء، لأول مرة في الأدب العالمي، طالبين نسبة حق المطالبة بالطرافة لأنفسهم. والكلمة الإغريقية التي بمعنى أغنية هي «طرق»، فيصنعها المغني ويستعملها، ولكنه لا يزال بحاجة إلى الإرشاد ليسير فيها، وذلك بسبب المطالبة بالطرافة. كما أنه يتقدم بنفس الطلب إلى الإرشاد الإلهي، يمكن تعلم كل شيء في أناشيد البطولة، ويجب تعلمه: النغمة والألفاظ، وفي عصر هوميروس، المواضيع أيضا، ووصف المواقف المشهورة. وإذا كان هذا المجهود واجب العمل، فلا بد أن يكون طريفا، ولكن الطرافة لم تكن في اللغة أو الخطط أو الفكرة أو المواقف المعروفة جيدا، وإنما كانت الطرافة في خلق موحى بها لعالم الآلهة والبشر. وفي الأوديسة، في جدة أولوسيس وعالمه، قبل كل شيء.
جاء الإيحاء الهوميري مع المادة الموضوعية من جميع أناشيد البطولة وموضوعاتها. وكانت تلك الموضوعات موجودة فعلا. ومن المحتمل أنها كانت شائعة منذ عهد القصور الكريتية
Cretan
حيث كانوا يتكلمون الإغريقية أيضا فيما مضى، وفي عهد مقار آلهة موكيناي وكان هذا لمدة خمسمائة أو ستمائة عام؛ ولذا كان من الضروري وضعه في حوالي سنة 800ق.م. وهذا تاريخ يشير إليه كل شيء. وربما زود هوميروس بمادة الموضوع اللازمة للأوديسية، بواسطة السرد النثري، والمغامرات التي يرويها الملاحون، والقصص التي يحكيها القصاصون المحترفون الذين لم يكن إنتاجهم، بحال ما، عديم الفن. وجو الموانئ الإغريقية الشرقية في الجزر الشرقية لبحر إيجه وسواحل آسيا الصغرى، هو الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد منه لمعرفة تاريخ حياة هوميروس. كانت فكرة رائعة من جانب العالم الكلاسيكي الألماني كارل راينهاردت
Kal Reinhardt ، الذي ندين له بأدق تحليل لتكنية السرد في الأوديسة نقرؤه في آن واحد مع مغامرات سندباد
Sinbad . وتقع جميع الفروق التي وجدها في اتجاه الكتابة الروائية العظمى، ولكنه أوضح وحدة شعر البطولة بالمقارنة. ومع ذلك، فقد كان لدى إيحاء هوميروس مادة أخرى يعمل عليها، أكثر أساسية لها لأنها أكثر قرابة لها؛ ألا وهي الأسطورة نفسها التي ليست ألفاظا وسردا فحسب ولكنها بعد ورؤية. وكذلك عالم البحر الأبيض المتوسط المتماسك، وسواحله الحقيقية وجزره. وقعت هذه، فيما مضى، أمام بصر هوميروس، وأمام عينيه الفاحصتين. وإذا كانت العيون موحى إليها، فإنها تبصر الرؤيا.
الأنشودة الأولى
«... فجلست أمامه، وأمسكت بيدها اليسرى ركبتيه، بينما أمسكته بيمناها من أسفل ذقنه ... وخاطبت «زوس» في توسل قائلة ...»
كيف اشتبك «أجاممنون» و«أخيل» في شجار أثناء حصار «طروادة»، فانسحب «أخيل» من القتال، وظفر من كبير الآلهة «زوس» بوعد بالاقتصاص له من «أجاممنون» وجيش «الآخيين» ... إلخ.
دعاء
تغني أيتها الربة بغضب «أخيل
Achilles » بن «بيليوس
» ذلك الغضب المدمر الذي نكب الآخيين
Achaeans
1
بآلام لا تحصى، وبعث إلى «هاديس
Hades »
2
بكثير من أرواح المحاربين الباسلة، وجعلها غنيمة للكلاب وشتى أنواع الطير، وبذا تحققت مشيئة زوس
Zeus ،
3
ولتبدئي الغناء بقصة الشجار الذي اشتبك فيه ابن أتريوس
Atreus
4
ملك البشر مع أخيل الطيب.
الحرب والوباء، انتقاما للأسيرة
من أذن من الآلهة دفع هذين إلى العراك؟ إنه ابن ليتو
Leto
5
وزوس، فبسبب غضبه على الملك نشر في الجيش وباء وبيلا، وكان القوم يهلكون؛ لأن ابن أتريوس جلب العار على كاهنه «خروسيس
Chryses »
6
الذي جاء إلى سفن الآخيين السريعة ليحرر ابنته. وكان يحمل معه فدية تفوق الحصر، ويمسك في يديه قوس أبولو
Apollo
الذي يصيب عن بعد، فوق عصا ذهبية، وتضرع إلى جميع الآخيين، وبخاصة إلى ابني أتريوس
7
قائدي الجيش، قائلا: «أي ولدي أتريوس ويا أيها الآخيون الآخرون، المدرعون جيدا، لعل الآلهة الساكنة في بيوت فوق أوليمبوس
Olympus
8
تمنحكم أن تغزوا مدينة الملك «بريام»،
9
وتعودوا سالمين إلى بيوتكم، إن أطلقتم سراح ابنتي العزيزة ، وقبلتم الفدية، احتراما ومهابة لابن زوس، أبولو، الذي يضرب من بعيد ...»
رسم خيالي يمثل مقر الآلهة فوق قمة جبل «أوليمبوس» حيث كان يقطن «زوس» كبير الآلهة وبقية آلهة الإغريق ورباتهم.
عندئذ صاح جميع الآخيين الباقين بالموافقة، آمرين باحترام الكاهن وقبول الفدية الماجدة. غير أن الأمر لم يسر قلب أجاممنون
Agamemnon
ابن أتريوس فطرده شر طردة، وأصدر إليه أمرا صارما: «دعني لا أجدك، أيها العجوز، تتلكأ الآن بجانب السفن الخاوية، أو تعود بعد ذلك، وإلا فلن تحميك عصاك ولا قوس الرب. أما ابنتك فلن أطلق سراحها قبل أن توافيها الشيخوخة في بيتنا، في «أرجوس
Arges »،
10
بعيدا عن وطنها، وهي تمارس عملها أمام «النول»، وتشاطرني مخدعي، كلا، إليك عني، لا تغضبني، حتى تستطيع الذهاب آمنا.»
وإذ قال هذا، استولى الذعر على الرجل العجوز، فأطاع قوله، وانصرف صامتا يسير على شاطئ البحر الصاخب، وما إن ابتعد، حتى راح يصلي ويبتهل ضارعا إلى الأمير أبولو، الذي أنجبته ليتو ذات الشعر الجميل، قائلا: «استمع إلي، يا ذا القوس الفضية، يا من تقف فوق «خروسي
Chryse »
11
و«كيلا»
12
المقدسة
Cilla ، وتحكم «تينيدوس
Tenedos »
13
بسطوة. أيها السمينثي
Sminthian ،
14
إذا كنت قد انحنيت فوق محراب لإرضائك، أو إذا كنت قد أحرقت لك قطعا دسمة من أفخاذ الثيران أو الماعز، فحقق لي هذا الرجاء. دع الدانيين
Danaans
15
يدفعون ثمن دموعي بسهامك.»
هكذا قال في صلاته، وسمعه الإله «أبولو»
16
فهبط بخطى واسعة من فوق قمم «أوليمبوس» بقلب حانق يحمل فوق كتفيه قوسه وجعبته المغطاة. وكانت السهام تصلصل فوق كتفي الرب الغاضب، وهو يتحرك متسللا في مجيئه كالليل، ثم جلس بعيدا عن السفن وأطلق سهما، وكان دوي القوس الفضية فظيعا. هاجم أولا البغال والكلاب السريعة، ولكنه بعد ذلك أطلق سهامه الحادة على الرجال أنفسهم، وأعمل فيهم الضرب، فإذا بأكوام حطب حرق الموتى تشتعل فيها النيران كثيفة.
ظلت قذائف الرب تنطلق في كل مكان وسط الجيش، ولكن أخيل وجه نداءه إلى القوم، في اليوم العاشر، أن يجتمعوا في السوق العامة، كما أوحت إلى قلبه بذلك الربة «هيرا»
17
البيضاء الذراعين ؛ حيث إنها أشفقت على «الدانيين» لأنها أبصرتهم يموتون؛ ومن ثم فلما اجتمعوا والتقوا سويا، قام من بينهم أخيل السريع القدمين، وقال: «يا ابن أتريوس،
18
الآن أعتقد أننا سنتقهقر، ونعود بخيبة الأمل - إذا استطعنا أن نفر من الموت! - ما دامت الحرب والطاعون قد تحالفا معا ضد الآخيين. كلا، تعال، دعنا نسأل عرافا أو كاهنا ما، نعم، أو بعض مفسري الأحلام - لأن الحلم كذلك قد يكون رسالة من عند زوس - فقد يستطيع أن يخبرنا عن السبب الذي أثار حنق الإله أبولو: هل ذلك بسبب نذر يعنفنا عليه، أو من أجل ذبيحة مائة ثور مجتمعة؟ وهل يرغب - كي يبعد الطاعون عنا - في أن يحظى بمذاق الحملان والماعز الطاهرة؟»
رسم رمزي يمثل ابتهال الإغريق لآلهتهم الذين كانوا يتصورونهم يقطنون فوق جبل «أوليمبوس».
وما إن قال هذا حتى جلس، وقام في وسطهم «كالخاس
Calchas »،
19
ابن «تيستور
Thestor »، الذي يفوق أبرع العرافين، ويعرف كل الأشياء الموجودة، والتي ستكون، والتي كانت من قبل ... وهو الذي قاد سفن الآخيين إلى «إليوس
Ilios »
20
بقوة العرافة التي منحه إياها الإله «أبولو» وبنية حسنة خاطب حشدهم، وقال في وسطهم: «أي أخيل، يا حبيب زوس، إنك تأمرني بأن أعلن سبب غضب أبولو، الذي يضرب من بعيد. وعلى ذلك سأتكلم، ولكن هل لك أن تفكر، وتقسم بأنك مستعد بقلبك أن تحميني بالكلام وبقوة اليد؛ لأنني أعتقد أنني سوف أغضب رجلا يحكم ببأس على جميع سكان «أرجوس»، ويطيعه الآخيون؛ لأن الملك يصبح أشد بطشا عندما يغضب من رجل أشد ضعة. ولو حدث أنه عن غضبه يوما واحدا، فإنه سيكتم غله في قلبه حتى ينفذ كل شيء. إذن فكر، إذا كنت ستحميني.»
رأس تمثال مشهور للإله «أبولو»، من صنع الفنان الإيطالي «برنيني».
فأجابه أخيل، السريع القدمين، قائلا: تشجع، وأفصح بما تعرفه من نبوءة مهما كانت، لأنه - وعمر أبولو، حبيب زوس، الذي تصلي إليه يا «كالخاس»، وتعلن النبوءات للدانيين - لا أحد، طيلة حياتي وتمتعي بالبصر على الأرض، سوف يمسك بسوء بجانب السفن الخاوية. لا أحد من جميع جيش الدانيين ، حتى ولو كنت تعني أجاممنون، الذي يعلن الآن أنه يفوق أفضل الآخيين.
عندئذ تشجع العراف البريء وتكلم قائلا: «إذن، فليس الأمر من جراء نذر يوبخنا عليه، ولا ذبيحة مائة ثور، ولكن بسبب الكاهن الذي أهانه أجاممنون، والذي لم يطلق سراح ابنته ولم يقبل الفدية. لهذا السبب، فإن الرب الذي يضرب من بعيد، قد صب عليكم ويلاته. وسيظل يصبها، ولن يوقف الطاعون المقيت عن الدانيين إلا إذا رددنا الفتاة البراقة العينين إلى أبيها، دون ثمن، ولا فدية، وقدنا ذبيحة مقدسة من مائة ثور إلى «خروسي»، عندئذ يمكننا أن نهدئ من غضبه ونرضيه!»
وجلس العراف بعد أن قال هذا، فنهض في وسطهم المحارب ابن أتريوس، أجاممنون الواسع السلطان، يتميز غيظا، ويفيض قلبه الأسود حنقا، وتتقد عيناه كالنار المتأججة، وبادر فوجه كلامه إلى «كالخاس»، وكانت ملامحه تنذر بالخطر، فقال: «يا عراف السوء، لم يحدث قط أن أخبرتني بشيء حسن؛ فالتنبؤ بالشر دائما حبيب إلى قلبك. ولم يسبق أبدا أن نطقت بكلمة طيبة، ولا قمت بتنفيذها. والآن وسط حشد الدانيين تنطق بنبوءاتك، وتعلن مؤكدا أنه لهذا السبب يصب الرب الذي يضرب من بعيد ويلاته عليهم؛ ولهذا فلن أقبل الفدية العظيمة من أجل الفتاة، ابنة خروسيس، أنا أشد إصرارا على الاحتفاظ بها في بيتي؛ لأنني، كما تعلم، أفضلها على «كلوتمنسترا
Clytemnestra »، زوجتي الشرعية، حيث إنها لا تقل عنها في شيء، لا في الشكل ولا في القوام، ولا في العقل، ولا بأية حال في الأعمال اليدوية، ولكنني، بالرغم من ذلك، سأعيدها، إذا كان الخير في ذلك، فإني أوثر سلامة القوم على هلاكهم، ولكن هل لك أن تعد لي فورا غنيمة أخرى بدلا منها، حتى لا أكون الوحيد بين أهل أرجوس بدون غنيمة، حيث إنه لا يليق، وأنتم جميعا ترون هذا، أن تؤخذ غنيمتي مني!»
وردا على ذلك، قال أخيل العظيم السريع القدمين: «يا ابن أتريوس الأمجد، يا من تفوق جميع الناس جشعا، كيف يعطيك الآخيون الطيبو الروح غنيمة؟ ليست هذه ثروة موجودة في الخزانة العامة، ولكن كل ما أخذناه بالسلب من المدن قد قسم إلى أنصبة، ولا يليق استردادها ثانية من القوم إطلاقا. فهل لك أن تعيد الفتاة بأمر الرب، ولسوف نعوضك عنها، نحن الآخيين، ثلاثة أضعاف وأربعة، إذا منحنا زوس أن نظفر بأسلاب مدينة طروادة المتينة الأسوار»؟ «كلوتمنسترا» زوجة أجاممنون، كما صورها الفنان «جون كوليير» في هذه اللوحة المعروضة بمتحف «جيلدهول».
عندئذ تكلم السيد أجاممنون للرد عليه، قال: «ليس بهذه الطريقة. رغم شجاعتك، يا أخيل يا شبيه الإله، تسعى إلى خداعي بفطنتك؛ لأنك لن تضطرني ولن تحثني. ألأنك تريد أن تحتفظ بغنيمتك، وتود أن أظل محتاجا، تأمرني بردها؟ كلا، إلا إذا أعطاني الآخيون ذوو النفوس الطيبة غنيمة يقنع بها ضميري، ويعدها عقلي معادلة! أما إذا لم يعطوني إياها، فسأحضر بنفسي وآخذ غنيمتك أو غنيمة «أياس
Aias »،
21
أو غنيمة «أوديسيوس
Odysseus »،
22
وأحملها بعيدا. وسوف يحل الغضب على من أذهب إليه. وعلى أية حال، فلنفكر في هذه الأشياء فيما بعد، ودعونا الآن نسير سفينة سوداء في البحر اللامع، ونجمع فيها العدد اللازم من المجدفين، ونضع على ظهرها ذبيحة من مائة ثور، ونشيع فيها ابنة خروسيس الجميلة الخدين نفسها، وليتول القيادة رجل ذو مشورة، مثل «أياس» أو «أدومينيوس
Idomeneus » أو «أوديسيوس» العظيم، أو أنت، يا ابن بيليوس
23
أشد الرجال فزعا، حتى يمكنك أن تقدم الذبيحة وتسترضي ذلك الذي يرمي بالسهام من بعيد.»
عندئذ حدجه أخيل بنظرة غاضبة من تحت حاجبيه، وخاطبه قائلا: «يا لي منك أيها المتدثر بعدم الحياء، يا ذا العقل الداهية، كيف يمكن لأي رجل من الآخيين أن يطيع أمرك بصدر رحب، سواء في القيام بالرحلة أو في مقاتلة الأعداء بحمية؟ أنا مثلا لم آت إلى هنا بدافع البغض للطرواديين؛ فإنهم لم يخطئوا معي قط. لم يسبق لهم بأية حال من الأحوال أن سلبوني أبقاري أو جيادي، كما لم يسبق لهم في «فثيا
»
24
العميقة التربة، مهد الرجال، أن بددوا المحصول؛ إذ تفصل بيننا حوائل كثيرة - جبال ذات ظلال، وبحر صاخب - أما أنت، يا من لا تستحي، فقد تبعناك إلى هنا لكي تكون مسرورا، وتسعى إلى كسب النصر لمينيلاوس
Menelaus
25
ولنفسك، يا وجه الكلب، والثأر من الطرواديين، لكنك لا تعمل لهذا حسابا، ولا تفكر فيه إطلاقا، ومع ذلك فإنك تهدد بأن تأخذ بنفسك الغنيمة التي تعبت أنا من أجلها كثيرا، والتي أعطانيها أبناء الآخيين! إني لم أحصل قط على غنيمة كغنيمتك، عندما كان الآخيون ينهبون حصنا طرواديا مزدحما بالسكان. كلا، وإن يدي قد حملتا عبء الحرب الطاحنة، حتى إذا ما جاء وقت تقسيم الغنائم كانت غنيمتك أعظم بكثير، بينما أعود أنا إلى سفني بشيء يسير ولكنه يصبح ملكا لي بحق، عندما أمل القتال. والآن سأرجع إلى «فثيا»؛ إذ أرى من الخير أن أعود بسفني المدببة إلى الوطن، فأنا لم أقصد المجيء إلى هنا لينالني العار، بأن أشبع جشعك بالبضائع والأموال!»
وعندئذ أجاب ملك البشر، أجاممنون: «إذن، فاهرب، إن كان قلبك يأمرك، فلست أنا الذي يناشدك البقاء إكراما لخاطري. فإن معي آخرين سيشرفونني، وفوق كل شيء «زوس» سيد المشورة. إنك في نظري أبغض الملوك جميعا يا من نشأ على منوال زوس؛ لأنك دائما ميال إلى المشاحنات والحروب والقتال. ومهما بلغت قوتك وشجاعتك، فإني أعتقد أن الآلهة هي التي منحتك هذه الصفات، فاذهب إلى وطنك مع سفنك ورجالك، وسيطر على جماعتك من «المورميدون
Myrmidons »
26
فلست أهتم بك، ولن أكترث لغضبك، وليكن هذا وعيدي لك: ما دام الإله «أبولو» يأخذ مني ابنة خروسيس، فإني سأعيدها في سفينة من سفني ومع رجال من رجالي، بيد أنني سأحضر بنفسي إلى كوخك وآخذ «بريسيس
Briseis » الفاتنة الوجنتين، غنيمتك، حتى تعرف تماما أنني أشد منك بأسا، ويحجم غيرك فلا يعلن أنه ند لي ويشبه نفسه بي في مواجهتي!»
هكذا تكلم أجاممنون، فاستولى الحزن على ابن بيليوس - أخيل - وفي قرارة صدره الأشعث انقسم فؤاده إلى رأيين: أيستل حسامه البتار من غمده، ويقتحم الجمع ويقتل بنفسه ابن أتريوس، أم يملك زمام غضبه، ويكبح جماح نفسه؟ وبينما هو يفكر في ذلك بعقله وقلبه، ويستل سيفه العظيم من غمده، هبطت الربة «أثينا»
27
من السماء، موفدة من لدن الربة «هيرا» البيضاء الذراعين، التي كانت في قلبها تحب كلا من أخيل وأجاممنون على السواء وترعاهما بعنايتها. فاتخذت موقفها وراء ابن بيليوس وأمسكته من شعره الذهبي، وتجلت له وحده، فلم يرها أحد من الباقين. فامتلأ أخيل بالزهو، وما إن استدار حتى عرف أثينا على الفور، وكانت عيناها تتألقان بشكل مخيف. عندئذ تحدث إليها بكلمات مجنحة فقال: «لم أتيت الآن ثانية، يا ابنة زوس، يا حاملة الدرع؟ ألكي تري وقاحة أجاممنون بن أتريوس؟ دعيني أخبرك ما أعتقد أنه سيحدث فعلا: فبسبب كبريائه المتعاظمة، سيفقد حياته الآن!»
عندئذ أجابت الربة أثينا ذات العينين البراقتين: «جئت من السماء كي أهدئ من غضبك، لو أصغيت إلي، وقد أرسلتني الربة «هيرا» البيضاء الذراعين؛ لأن حبكما في قلبها سواء، وهي تهتم بأمركما. هيا، تعال، وكف عن نزاعك، ولا تدع يدك تستل السيف. فلك أن تعنفه بالألفاظ، وتواجهه بالواقع؛ لأنني هكذا سأتكلم، وهذا الشيء سيتم حقا: ستأتيك الهدايا الرائعة، فيما بعد، ثلاثة وأربعة أضعاف، من جراء هذا النزاع. فاضبط زمام نفسك إذن واستمع إلينا.»
الربة «أثينا»، ربة الحكمة كما بدت من خلال السحب لاثنين من رعاياها.
بعد ذلك تكلم أخيل، السريع القدمين، ردا على كلامها: «على المرء، أيتها الربة، أن يتأمل في كلامك مرتين مهما كان في قلبه من غضب، فهذا أفضل. وكل من يطيع الآلهة يحظى منهم بآذان صاغية عن طيب خاطر.»
تكلم وخلى يده الثقيلة من المقبض الفضي، وأعاد الحسام العظيم ثانية إلى غمده ولم يعص كلمة أثينا، التي كانت قد صعدت في الحال إلى «أوليمبوس»، إلى قصر «زوس» الذي يحمل الدرع، لتنضم إلى الآلهة الآخرين.
ولكن «أخيل» عاد يخاطب «أجاممنون» بلهجة شديدة، ولم يكف بأية حال عن غضبه فقال: أيها المثقل بالخمر، يا من له وجه الكلب وقلب الغزال، لم يسبق أن واتتك الشجاعة قط لتسلح نفسك للقتال مع قومك، أو الذهاب إلى كمين مع رؤساء الآخيين. كنت تخشى ذلك خشية الموت. وإن أردت الحق، فمن الأفضل أن تمر بجميع أرجاء معسكر الآخيين الفسيح، وتستولي على غنيمة من يتكلم ضدك. أيها الملك الملتهم حقوق قومه، أرى أنه لا يطيعك غير رجال من سقط المتاع، وإلا فما استخدمت سفاهتك الآن، للمرة الأخيرة. بيد أنني سأعلن إليك كلمتي، وسوف أقسم عليها قسما لا حنث فيه. بحق هذا الصولجان الذي لن يورق أو ينبت براعم بعد ذلك؛ لأنه انفصل عن جذعه في الغابة منذ مدة، كما أنه لن يعاود خضرته بأية حال؛ لأن النصل البرونزي قد جرده من أوراقه ولحائه، والآن يحمله أبناء الآخيين في أيديهم، أولئك الذين يصدرون الأحكام ويسهرون على الحقوق والتقاليد بأمر زوس.
بحق ذلك كله سيشتاق أبناء الآخيين، واحدا واحدا، ذات يوم، إلى أخيل، وعندئذ لن تستطيع بأية حال من الأحوال أن تساعدهم، وسوف تحزن أعمق الحزن، عندما يخر الكثيرون موتى أمام هكتور
Hector
28
قاتل البشر، ولكنك سوف تقضم قلبك في داخلك، حزنا على عدم تقديرك لأقدر محارب بين الآخيين على الإطلاق!»
هكذا تكلم «أخيل»، وألقى بالصولجان المرصع بالمسامير الذهبية إلى الأرض، ثم استوى جالسا، بينما راح «أجاممنون» يصب عليه جام غضبه. ثم قام وسط الجمع نسطور
Nostor
29
العذب الحديث، الخطيب الواضح النبرات بين رجال ««بولوس»
»، الذي يتدفق الكلام من لسانه أحلى من الشهد. الذي شهد جيلين من البشر يندثران، وقد ولد من زمن بعيد وترعرع في «بولوس» المقدسة، وكان ملك الجيل الثالث. فخاطب جمعهم بنية سليمة وقال في وسطهم: «ويحكم! الحق أن الحزن العظيم قد حل بأرض آخيا
Achaea ،
30
ما من شك في أن بريام
31
سوف يغتبط وكذلك سوف تمتلئ قلوب أبناء بريام وبقية الطرواديين بالفرح لو سمعوا كل هذه القصة عن النزاع القائم بينكما، يا رئيسي جميع الدانيين وأرجحهم رأيا، وأعظمهم في القتال، لا يصح هذا، أصغيا إلي؛ فكلاكما أصغر مني. لقد اشتركت قبل الآن مع محاربين كانوا أفضل منكما، ولم يحدث قط أن احتقروني. ولم أر حتى الآن أمثال هؤلاء المحاربين، ولن أرى أمثال «بايريثوس» و«درواس» راعي الجيش، و«كاينيوس» و«أكساديوس» وشبيه الآلهة «بولوفيموس» و«ثيسيوس بن أيجيوس»، نظير الخالدين. كان هؤلاء أعتى جميع الرجال الذين نشئوا على وجه البسيطة، كانوا الأعتى وتقاتلوا مع الأعتى، حتى مع متوحشي القنطور
Centaurs
32
الذين جعلوا عرائنهم وسط الجبال، وأبادوهم بطريقة رائعة. كنت زميلا لهؤلاء الرجال، يوم أن جئت من «بولوس»، من بلاد نائية قصية؛ لأنهم استدعوني من تلقاء أنفسهم. فقمت بدوري في القتال كمحارب مستقل، وما كان في مقدور أحد من جميع البشر الموجودين على الأرض حاليا أن يتقاتل معهم. ومع ذلك، كانوا يستمعون إلى مشورتي ويعيرون كلامي آذانا صاغية. وكذلك أنتما يجب أن تصغيا. ومن الخير أن تصغيا: يجب عليك يا ابن أتريوس، رغم قوتك، ألا تسعى لتأخذ منه الفتاة، ولكن اتركها له غنيمة، كما أعطاه إياها أبناء الآخيين. وإياك، يا ابن بيليوس، أن تبيت العزم على النزاع مع ملك، قوة ضد قوة؛ لأن المجد الذي يهبه زوس الملك ذا صولجان ليس مجدا عاديا. فبالرغم من شجاعتك، وأن أما من الربات قد ولدتك، فإنه هو الأقوى، حيث إنه يملك على عدد أكبر. وأنت يا ابن أتريوس، اكبح جماح غضبك. لا يصح هذا، إنني أتوسل إليك أن تصرف عنك غضبك على أخيل، الذي هو لجميع الآخيين ملاذ قوي من الحرب الشريرة.»
عندئذ نهض للرد عليه أجاممنون فقال: نعم، حقا، أيها السيد العجوز، إن كل ما قلته ليتفق مع الصواب، ولكن هذا الرجل يعقد النية على أن يكون فوق جميع الآخرين. إنه يعتزم أن يتولى قيادة الجميع ويصبح ملكا على الجميع ويصدر أوامره للجميع، في حين أن هناك واحدا، على ما اعتقد، لن يطيعه، فإذا كانت الآلهة هي التي جعلته محاربا إلى الأبد، فهل تدفعه إلى التفوه بالسباب؟ ...»
عند ذلك قاطعه أخيل العظيم قائلا: «نعم لأنني سوف أحمل لقب الجبان، غير النافع، لو كنت أرضخ لك في كل أمر تأمرني به. أصدر أوامرك هذه لغيري، ولكن لا توجه إلي أي أمر، لأنني أعتقد أنني لن أطيعك بعد الآن. وسأخبرك بشيء آخر، وعليك أن تحتفظ به في قلبك: لن أتعارك بقوة الأيدي من أجل الفتاة ، معك أو مع أي شخص آخر، فإني لا أراك إلا آخذا ما سبق أن أعطيت، ولكنك لن تأخذ شيئا آخر مما أملك في سفينتي السريعة السوداء، ولن تحمله بعيدا بالرغم مني. حقا، تعال وجرب، حتى يعرف هؤلاء أيضا أن دمك القاتم سوف يسيل في الحال حول رمحي!»
ولما انتهى الخصمان من تشاحنهما بالألفاظ العنيفة، نهضا وفضا الحشد المجتمع بجوار سفن الآخيين. فذهب ابن بيليوس - أخيل - في طريقه إلى خيامه وإلى سفنه الجميلة يصحبه ابن «مينويتيوس»،
33
كما يصحبه رجاله، أما ابن أتريوس - أجاممنون - فأنزل إلى البحر سفينة سريعة واختار لها عشرين مجذفا، وساق إلى ظهورها ذبيحة للإله من مائة ثور، وأحضر ابنة خروسيس الفاتنة الخدين ووضعها في السفينة، وصعد على ظهرها «أوديسيوس» الكثير الحيل ليتولى قيادتها.
وهكذا اعتلى هؤلاء ظهر السفينة وأبحروا عبر المسالك المائية، ولكن ابن أتريوس أمر القوم بتطهير أنفسهم. فطهروا أنفسهم، وألقوا بالرجس في البحر، وقدموا لأبولو ذبائح مقبولة من مئات الثيران والماعز، بجوار شاطئ البحر المضطرب، فارتفعت نكهتها صاعدة خلال الدخان.
اختطاف الحسناء «بريسيس»
وهكذا انهمك الجميع في سائر أنحاء المعسكر، ومع ذلك فلم يكف أجاممنون عن المشاحنة التي هدد بها أخيل في بادئ الأمر، بل استدعى إليه رسوليه وخادميه المطيعين «تالثوبيوس» و«يوروباتيس»، وقال لهما: «اذهبا إلى خيمة أخيل، ابن بيليوس، واختطفا «بريسيس» الجميلة الخدين، وأحضراها إلى هنا، وإذا لم يعطكما إياها، فسأذهب بنفسي بصحبة عدد أكبر من الرجال وآخذها، ويكون هذا شرا له.»
قال هذا، وأرسلهما لتوه، وشدد عليهما الأمر، فذهبا على كره منهما يسيران بمحاذاة شاطئ البحر القاحل، ووصلا إلى مخيمات «المورميدون» وسفنهم. فوجدوا أخيل جالسا بجوار خيمته وسفينته السوداء، ولم يظهر ابتهاجا برؤيتهما. وإذ سيطر عليهما الخوف والفزع من الملك، وقفا لا ينبسان ببنت شفة أو يطلبان شيئا، غير أنه أدرك الأمر، فتكلم قائلا: «مرحبا، أيها الرسولان ، يا رسولي زوس والبشر، اقتربا. لستما الآثمين في نظري، ولكنه أجاممنون الذي بعث بكما من أجل الفتاة «بريسيس»، ومع كل فهيا، يا باتروكلوس، يا سليل زوس ، أحضر الفتاة، وسلمها إليهما ليذهبا بها. وعلى ذلك فليكن هذان نفساهما شاهدين أمام الآلهة المباركة والبشر المعرضين للموت، نعم، وأمام ذلك الملك المتهور، لو احتاج الأمر إلي بعد ذلك لأدفع الهلاك المزري عن الجيش. الحق أنه ليثور بعقل مخرب، ولا يعرف إطلاقا أن يستشف المستقبل على ضوء الماضي، حتى يمكن لأتباعه الآخيين أن يشنوا الحرب في أمان بجوار سفنهم.»
المحارب الباسل «أوديسيوس» يباهي بقوته أمام الحسناء «كيركي». وأوديسيوس من أبرز أبطال «الإلياذة» والبطل الرئيسي «للأوديسة» - التي سميت باسمه - ويطلق عليه في بعض اللغات «أوليس» و«عولس».
وإذ قال هذا، أطاع باتروكلوس قول زميله العزيز، فأخذ «بريسيس» الفاتنة الخدين، وسلمها إليهما ليذهبا بها. وهكذا عاد الرسولان أدراجهما يسيران بجوار سفن الآخيين، ومعهما، على مضض منهما، سارت المرأة. بيد أن أخيل استسلم من فوره إلى البكاء وانتحى بعيدا عن رفاقه، وجلس على شاطئ البحر الرمادي اللون، واتجه ببصره نحو اليم ذي اللون النبيذي القاتم، وبشوق جارف راح يتضرع إلى أمه العزيزة باسطا يديه: «أماه، بما أنك قد ولدتني - ولو أن ذلك لفترة قصيرة من الحياة - فمن المؤكد أنه كان يجب على الأوليمبي، زوس الذي يرعد في علاه، أن يضع المجد في يدي، ولكنه الآن لم يخصني بشيء ما من المجد. هذا حق، فإن ابن أتريوس، أجاممنون الواسع الملك، قد نال من كرامتي؛ لأنه اغتصب غنيمتي بواسطة عمله المتغطرس.»
قال هذا وهو يبكي، وسمعته أمه الملكة وهي جالسة في أعماق البحر بجانب الشيخ المسن، أبيها. وسرعان ما خرجت من البحر الرمادي كسحابة من الضباب، وجلست أمام وجهه وهو يبكي، وضربته بيدها، وكلمته ونادته باسمه قائلة: «أي بني، لم تبكي؟ أي حزن استولى على فؤادك أفصح، لا تخف الأمر في بالك، كي يعرفه كلانا.»
عندئذ تحدث إليها أخيل وهو يتأوه تأوها ثقيلا فقال: «إنك لتعرفينه. لماذا، في الحقيقة ، يجب علي أن أخبرك بالقصة يا من تعرفين كل شيء؟ لقد ذهبنا إلى «طيبة
Thebe »، مدينة «إيتيون
Eetion »
34
المقدسة، وخربناها، ثم أحضرنا إلى هنا جميع الأسلاب. وهذه قسمها أبناء الآخيين فيما بينهم بالعدل، ولكنهم اختاروا ابنة خروسيس الجميلة الخدين لابن أتريوس. غير أن خروسيس، كاهن أبولو الذي يضرب من بعيد، جاء إلى السفن السريعة التي للآخيين ذوي الحلل البرونزية، ليحظى بالحرية لابنته، وأحضر فدية تفوق الحصر، حاملا في يديه سهام أبولو، الذي يضرب من بعيد، فوق صولجان من الذهب، وتضرع إلى جميع الآخيين، وبصفة خاصة لولدي أتريوس، قائد الجيش، وعندئذ صاح سائر الآخيين الباقين بالموافقة، آمرين باحترام الكاهن وقبول الفدية العظيمة. بيد أن الأمر لم يسر قلب أجاممنون، ابن أتريوس، فطرده بغلظة وأصدر إليه أمرا صارما؛ ومن ثم عاد الرجل العجوز غاضبا، وسمع أبولو صلاته، لأنه كان عزيزا جدا عليه، فأرسل سهما شريرا صوب أهل أرجوس. وعندئذ بدأ الناس يموتون جماعات وبسرعة، وراحت سهام الرب تزمجر في كل مكان خلال معسكر الآخيين الواسع. فأعلن لنا العراف جازما نبوءات الرب الذي يضرب من بعيد، وعلى ذلك، كنت أنا أول من أمر على الفور بمهادنة الرب، غير أن الغضب تملك ابن أتريوس من جراء ذلك، فنهض في الحال ونطق بكلمة تهديد، كان لها أن تنفذ الآن. لأن الآخيين ذوي العيون المتألقة يأخذون الفتاة في سفينة سريعة إلى خروسي
Chryse ، حاملين الهدايا للرب، بينما الأخرى أخذها الرسل الآن من خيمتي. وذهبوا بها، ب «بريسيس» التي أعطانيها أبناء الآخيين. فلو كان لك قدرة، حقا. فصوني ابنك، أسرعي إلى أوليمبوس وتوسلي إلى زوس، إذا كنت قد أدخلت السرور إلى قلبه بالقول أو بالفعل. فكثيرا جدا ما سمعتك تتباهين في ساحات أبي، معلنة أنك وحدك من دون الخالدين التي ذدت الخراب المشين عن «ابن كرونوس»،
35
سيد السحب الدكناء، في اليوم الذي عزم فيه الأوليمبيون الآخرون أن يكبلوه بالأصفاد، وكانت من بينهم «هيرا» و«بوسايدون»
36
و«أثينا»، ولكنك أتيت، أيتها الربة، وخلصته من قيوده، عندما استدعيت بسرعة إلى جبل أوليمبوس الشامخ ذلك الذي له مائة يد، الذي يسميه الآلهة برياروس
Briareus ،
37
ويسميه سائر البشر «أيجايون
Aegaeon »
38
لأنه كان أقوى من أبيه «بوسايدون»، فجلس إلى جانب «زوس»، تحيط به هالة مجده، فذعر منه الآلهة المباركون ولم يكبلوا زوس. عليك أن تذكريه بهذا وتجلسي إلى جانبه، وتمسكي بركبتيه عسى أن يقرر نجدة الطرواديين، وحبس أولئك الآخرين، الآخيين، بين مؤخرات سفنهم وحول البحر وهم قتلى، لعلهم يفيدون جميعا من مليكهم، وحتى يعرف ابن أتريوس، أجاممنون الواسع السلطان، أن العمى قد غشيه يوم لم يحترم بأية حال صالح الآخيين.»
عندئذ أجابت «ثيتيس
Thetis »
39
على تضرعه وهو ما زال يذرف الدموع: «ويحي، يا بني، لماذا نشأتك، واللعنة تلحقني إبان حملي؟ ليت حظك كان أن تمكث بجوار سفنك بلا دموع وبلا حزن، حيث إن حياتك قصيرة المدى ولن تتحمل مزيدا من الطول، ولكنك الآن مهدد بميتة سريعة، فوق أنك محوط بالحزن أكثر من سائر البشر، إذن فقد أنجبتك في ساحاتنا لتلقى مصيرا مؤلما. ومع كل فلكي أروي هذا الذي تقول لزوس الذي يقذف الصاعقة، سأذهب لأضرع إليه فوق قمة أوليمبوس الجليدي، أملا في أن يصغي إلي، ولكن هل لك أن تتلكأ بجوار سفنك السريعة، ماخرة البحار، وتمضي في غضبك على الآخيين وتحجم بتاتا عن القتال؛ لأن زوس توجه بالأمس إلى أوقيانوس
Oceanus ،
40
إلى الأثيوبيين النبلاء، من أجل وليمة، فتبعته جميع الآلهة، لكنه سيعود إلى أوليمبوس في اليوم الثاني عشر، وعندئذ أذهب إلى بيته ذي العتبة البرونزية وأمسك بركبتيه متوسلة، إنني لأعتقد أنني سوف أحظى برضاه.»
وما إن قالت هذا، حتى انصرفت وتركته حيث كان، يملأ الغضب قلبه من أجل الفتاة الجميلة الإزار التي أخذوها منه عنوة بالرغم منه!
استرداد الحسناء «بريسيس»
في تلك الأثناء كان «أوديسيوس» وجماعته وابنة الكاهن قد بلغوا «خروسي» ومعهم الذبيحة المقدسة من مائة ثور. فلما صاروا الآن داخل المرفأ العميق، طووا الشراع، وحفظوه في السفينة السوداء، وخفضوا الصاري إلى قاع المركب وجعلوه بسرعة في مستوى الدعامة، وجذفوا بالسفينة بواسطة المجاذيف إلى مكان الرسو. وبعد ذلك ألقوا أحجار المرساة وثبتوا حبال كوثلها، وذهبوا هم أنفسهم إلى شاطئ البحر. وفي الحال أحضروا ذبيحة المائة ثور لأبولو، الذي يضرب من بعيد، كما أسرعوا بإنزال ابنة خروسيس من السفينة ماخرة البحار. ثم قادها أوديسيوس الكثير الحيل إلى المذبح، ووضعها بين ذراعي أبيها العزيز، وقال له: «أي خروسيس، إن أجاممنون، ملك البشر، قد أوفدني إليك لأحضر لك ابنتك، أقدم لأبولو ذبيحة مقدسة من مائة ثور بالنيابة عن «الدانيين»، حتى يمكننا بواسطتها أن نسترضي الرب الذي جلب على أهل «أرجوس» الويلات والأحزان.»
قال هذا ووضعها بين ذراعيه، فأمسك الكاهن بابنته العزيزة فرحا، ولكنهم أسرعوا ليقدموا الذبيحة المقدسة من مائة ثور حول المذبح الراسخ البنيان، من أجل الرب، وبعد ذلك غسلوا أيديهم، والتقطوا حبات الشعير. عندئذ رفع خروسيس يديه وصلى بصوت مرتفع من أجلهم قائلا: «استمع لي، يا صاحب القوس الفضية، يا من تشرف على «خروسي» و«كيلا المقدسة»، ومن تحكم جزيرة «تينيدوس». كما سبق أن أصغيت إلي عندما صليت، وشرفتني، وأنزلت ضرباتك شديدة على جيش الآخيين، الآن أيضا حقق لي رغبتي هذه: أبعد الوباء البغيض عن الدانيين.»
تكلم هكذا في صلاته فسمعه الإله أبولو. وبعد أن صلى القوم ونثروا حبات الشعير، شدوا أولا رءوس الذبائح إلى الوراء، وذبحوها وسلخوها، ثم قطعوا الأفخاذ وغطوها بطبقتين من الدهن، ووضعوا عليها لحما نيئا. فأحرقها الرجل العجوز فوق أعواد من الخشب، وسكب عليها سكيبة من الخمر الملتهبة، وإلى جواره كان الشبان يمسكون في أيديهم المذاري ذات الشعب الخمس. غير أنه عندما احترقت قطع الأفخاذ عن آخرها، وتذوقوا الأجزاء الداخلية، قطعوا الباقي وشووه في السفود بعناية ثم أخرجوه كله من السفود. ولما انتهوا من عملهم وأعدوا الوليمة، أكلوا كفايتهم من المائدة الحافلة، ولكن عندما ولت عنهم الرغبة في الطعام والشراب، ملأ الشبان الكئوس حتى حافتها بالشراب وداروا بها على الجميع، ساكبين أولا قطرات في كئوسهم كسكيبة. وهكذا سعوا اليوم كله إلى إرضاء الرب بالغناء، منشدين أغنية النصر الجميلة، ورتل الآخيون مديح الرب الذي يضرب من بعيد، فابتهج قلبه وهو يستمع إليهم.
بيد أنه عندما غربت الشمس وساد الظلام، رقدوا ليستريحوا إلى جوار حبال كوثل السفينة، وما كاد الفجر الباكر ذو الأنامل الوردية يظهر ، حتى أقلعوا صوب معسكر الآخيين الواسع. فأرسل إليهم أبولو، الذي يضرب من بعيد، ريحا مواتية، فأقاموا الصاري ونشروا الشراع الأبيض؛ ومن ثم ملأت الريح بطن الشراع، وراحت الموجة الدكناء تغني عاليا حول جؤجؤ السفينة، وهي تشق طريقها بسرعة فوق الموج. ولما بلغوا معسكر الآخيين الفسيح، سحبوا السفينة السوداء فوق الشاطئ، إلى علو فوق الرمال، ووضعوا تحتها صفا من الدعامات الطويلة، وتفرقوا هم وسط الأكواخ والسفن.
ولكن ابن بيليوس المنحدر من السماء، أخيل، السريع القدمين، ظل يجتر غضبه بجوار سفنه السريعة، ولم يتقدم على الإطلاق إلى مكان الحشد، حيث يفوز الرجال بالمجد، ولا إلى الحرب قط، بل اعتزم في نفسه أن يظل عاطلا، يتلكأ حيث هو، رغم أنه كان يتوق إلى صيحة الحرب وإلى القتال.
فوق جبل أوليمبوس
ولما أقبل الصباح الثاني عشر، سار الآلهة الخالدون، جميعهم في زمرة واحدة، إلى أوليمبوس، يتقدمهم زوس. ولم تنس «ثيتيس» رجاء ابنها، فخرجت من موجة البحر، في الصباح الباكر، وصعدت إلى السماء العظيمة وإلى أوليمبوس. وهناك وجدت ابن كرونوس، ذا الصوت الجهوري، جالسا في عزلة عن الباقين فوق أعلى قمة «الأوليمبوس» الكثير المرتفعات. فجلست أمامه، وأمسكت بيدها اليسرى ركبتيه، بينما أمسكته بيمناها من أسفل ذقنه، وخاطبت في توسل رب الأرباب زوس، ابن كرونوس، قائلة: «أبي زوس، إذا كنت قد ساعدتك وسط الخالدين، بالقول أو بالفعل، فلتحقق لي هذا الرجاء: اخلع المجد على ابني المحكوم عليه بالموت السريع من دون سائر الرجال الآخرين، والذي ألحق به أجاممنون، ملك البشر، العار، فأخذ غنيمته واحتفظ بها لنفسه بقوة وغطرسة، ولكن هل لك أن تريه المجد، يا زوس الأوليمبي، يا سيد المشورة، فتهب القوة للطرواديين، لأطول مدة ممكنة، حتى يبجل الآخيون ابني، ويكافئوه بقدر ما يستحق؟»
هكذا قالت، لكن زوس، جامع السحب، لم يفه لها بكلمة واحدة، بل جلس صامتا مدة طويلة ، ولكن ثيتيس تعلقت به، وهي ما زالت تمسك بركبتيه، واقتربت منه، سألته من جديد مرة أخرى، قائلة: «عدني الآن بهذا الأمر، وأحن رأسك علامة الموافقة، وإلا فابخل به علي - لأنه لا شيء يخيفك - وعندئذ أعرف أي احتقار قدر لي بين الآلهة!»
عندئذ تحدث إليها زوس، حاشد الغمام، وهو مهموم أعظم هم، فقال: «سيكون هذا عملا مؤسفا حقا، فإنك سوف تدفعينني إلى الاشتباك في صراع مع «هيرا»، وعندئذ ستغضبني بألفاظ جارحة، فإنها حتى الآن تتحرق شوقا باستمرار إلى إثارتي أمام الآلهة الخالدين، بإعلانها أنني أقدم المعونة للطرواديين في القتال، ولكن هل لك أن ترحلي ثانية، من أجل هذا، حتى لا تلحظ هيرا شيئا، ولسوف أفكر أنا في هذا الأمر وأخرجه إلى حيز التنفيذ. نعم، تعالي، وسأحني لك رأسي، حتى تكوني على يقين؛ لأن هذا مني يعتبر أكثر الأدلة توكيدا لنفوذي بين الخالدين، فما من كلمة من كلماتي يمكن أن تكون باطلة، أو كاذبة، أو غير نافذة!»
تكلم ابن كرونوس، وأحنى جبينه القائم موافقا، وتموجت خصلات الشعر الإلهية على رأس الملك الخالد، فتزلزل جبل أوليمبوس العظيم.
وبعد أن تشاور الاثنان معا في هذا الأمر، افترقا، فقفزت هي إلى البحر العميق من أوليمبوس المتألق، وذهب زوس إلى قصره. ثم نهض جميع الآلهة دفعة واحدة من مقاعدهم أمام طلعة أبيهم، ولم يجرؤ أحد أن ينتظر اقترابه، بل وقفوا جميعا مقدما. فلما وصل استوى هناك فوق عرشه. ولم تكن زوجته غبية، فلم يفتها أن تلاحظ كيف تشاورت معه «ثيتيس» الفضية القدمين، ابنة عجوز البحر؛ ومن ثم تحدثت إلى زوس، ابن كرونوس، بكلمات تهكمية قائلة: «من من الآلهة، أيها الماكر، قد تبادل معك الرأي الآن ثانية؟ إن سرورك الأعظم هو أن تنأى عني دائما وأنت تفكر وتدبر في سرية وتكتم. ولم يحدث قط أن جئتني بقلب خالص لتطلعني على مشروعاتك!»
عندئذ أجابها أبو البشر والآلهة بقوله: «أي هيرا، لا يتطرق إلى ذهنك أنك سوف تقفين على كل نواياي، فلسوف ترين أنها ثقيلة عليك، بالرغم من كونك زوجتي. نعم، إن ما يحق لك أن تسمعيه لن يعرفه قبلك أي فرد آخر، سواء من الآلهة أو من البشر، أما ما أعتزم عمله بعيدا عن الآلهة، فليس لك، بأية حال من الأحوال، أن تسألي أو تتحري عنه.»
عند ذلك ردت عليه هيرا الجليلة، ذات عيون المها، قائلة: «يا ابن كرونوس المرهوب، أي كلام هذا الذي تحدثت به؟ نعم، حقيقة، فيما مضى، لم تكن لي رغبة في سؤالك أو الاستفهام منك عن شيء، بل كنت تدبر كل الأمور التي تريدها في سهولة. أما الآن، فإن قلبي ليشعر بخوف عجيب خشية أن تكون «ثيتيس» الفضية القدمين، ابنة عجوز البحر، قد خدعتك؛ لأنها في الفجر الباكر قد جلست إلى جوارك وأمسكت ركبتيك. ولها، كما أعتقد أحنيت رأسك كدليل أكيد على أنك سوف تبجل أخيل، وتجلب الموت على كثيرين بجانب سفن الآخيين.»
عندئذ رد عليها زوس جامع السحب فقال: «أيتها الملكة المسكينة إنك دائما تتوهمين، ولست بجاهل ما يدور بخلدك ومع ذلك فلن تستطيعي عمل شيء، بأية حال، ولكنك ستصبحين أبعد عن قلبي، كما أن هذا سيكون وبالا عليك. ولو كان الأمر كما تقولين، فإنه لا بد أن يكون سلوتي المفضلة. والآن، اجلسي في صمت، وأصغي إلى كلمتي فلن ينقذك جميع آلهة أوليمبوس من ضرباتي، عندما أقترب لأضع عليك يدي اللتين لا تقاومان!»
وإذ قال ذلك، استولى الخوف على هيرا الجليلة ذات عيني المها، فجلست ساكنة، تكبح جماح قلبها. وعندئذ اضطربت جميع أرجاء قصر زوس، وكان «هيفايستوس»
41 - الصانع المشهور - أول من تكلم منهم، فقال محاولا التسرية عن أمه العزيزة؛ هيرا البيضاء الذراعين: «حقا أنه يكون أمرا يؤسف له، ولا يمكن احتماله، إذا تشاجرتما هكذا من أجل أمور البشر، وأشعتما الفوضى بين الآلهة، ولن يكون للوليمة العظيمة أية متعة، طالما تجري هناك أمور أسوأ. وإنني لأقدم النصح لأمي، رغم ما هي عليه من حكمة، لتدخل السرور على نفس أبينا العزيز زوس، حتى لا يفسد وليمتنا بالمشاجرات. ولنحذر من أن يكون الأوليمبي، سيد البرق، قد عقد النية على إزاحتنا من مقاعدنا! لأنه يفوقنا في القوة. إذن، فليكن حديثك معه رقيقا، كي يصبح الأوليمبي في الحال رحيما بنا.»
لوحة للفنان «ج. ف . واتس»، تمثل كبير الآلهة «زوس» في طفولته.
قال ذلك، ثم قفز واقفا، ووضع الكأس المزدوجة في يد أمه العزيزة، وقال لها: «انشرحي صدرا يا أماه، وتحملي حزنك بصبر، لئلا تبصرك عيناي مضروبة، وأنت العزيزة على نفسي، وعندئذ لن أستطيع بحال ما أن أمد لك يد المساعدة، رغم حزني العميق، فإن الأوليمبي خصم قوي في العراك. حقا، فإني أذكر أنني عندما أردت إنقاذك مرة قبل الآن، أمسك بي من قدمي، وقذف بي من العتبة السماوية، فبقيت طول اليوم معلقا! وعند غروب الشمس وقعت في «ليمنوس»
42
وليس بي سوى رمق ضئيل من الحياة. وهناك أسرع قوم من «السنتيس»
43
للعناية بي في سقطتي.»
وإذ قال ذلك، ابتسمت الربة هيرا، الناصعة الذراعين وتناولت بيدها الكأس من ابنها وهي تبتسم. ثم صب الابن الخمر لجميع الآلهة الآخرين من اليسار إلى اليمين، وسكب شراب الآلهة العذب من الطاس. وفجأة علا الضحك الجارف بين صفوف الآلهة «المباركين»، عندما أبصروا «هيفايستوس» يلهث في أرجاء القصر.
وهكذا ظلوا في وليمتهم طوال اليوم كله حتى غروب الشمس، لم ينقصهم شيء من عناصر الوليمة الفاخرة، ولا القيثارة الجميلة التي كان يمسك بها أبولو، ولا حتى ربات الشعر اللواتي أخذن ينشدن، مجيبات الواحدة على الأخرى بأنغام رخيمة.
بيد أنه عندما غاب ضوء الشمس المتألق، انصرف كل منهم إلى بيته طلبا للراحة، وكان «هيفايستوس» الشهير، الرب ذو الذراعين القويتين، قد شيد لكل منهم قصرا بمهارة فائقة. وذهب «زوس» الأوليمبي، سيد البرق، إلى مخدعه؛ إذ كان يتوق منذ أمد إلى الراحة، بعد أن داعب النوم الحلو جفونه. فصعد إلى هناك ونام، وإلى جواره رقدت «هيرا» ذات العرش الذهبي.
الأنشودة الثانية
«... وتكلم الحلم السماوي قائلا: أصغ إلي يا ابن أتريوس، إنني موفد إليك من قبل «زوس» وهو يأمرك بأن تسلح الآخيين ذوي الشعر المسترسل بأقصى سرعة؛ لأنه يمكنك الآن أن تستولي على مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات!»
كيف خدع «زوس» أجاممنون في الحلم! ... وما تلا ذلك من احتشاد «الآخيين» ومضيهم إلى المعركة، وأسماء قادتهم وقادة الطرواديين وتعداد كلا الجيشين، إلخ.
الحلم!
نام جميع الآلهة الآخرين والمحاربين قادة العربات، طوال الليل كله، ولكن زوس لم يحظ بالنوم الهنيء؛ لأنه كان مشغولا بالتفكير في كيفية الانتصار لأخيل وإنزال الهلاك بالكثيرين من الآخيين بجوار سفنهم، وأخيرا هداه تفكيره إلى أن خير طريقة هي أن يرسل حلما خبيثا إلى أجاممنون بن أتريوس؛ ومن ثم نادى الحلم وخاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «قم أيها الحلم الخبيث، وتوجه إلى سفن الآخيين السريعة، وعندما تبلغ خيمة أجاممنون بن أتريوس، أخبره بكل كلمة من كلماتي بحق، وكما آمرك. مره بأن يسلح الآخيين ذوي الشعر المسترسل بمنتهى السرعة، حيث إنه قد حانت فرصته لأن يستولي الآن على مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات؛ لأن الآلهة الخالدين، الذين يقطنون فوق أليمبوس، ما عادوا منقسمين في الرأي بعد الآن؛ حيث إن هيرا قد حولت آراء الجميع بتوسلها، وستحل الكوارث فوق رءوس الطرواديين.»
وإذ قال ذلك، انطلق الحلم في طريقه بمجرد سماعه هذا الكلام، ووصل من فوره إلى سفن الآخيين السريعة، وهناك شق طريقه إلى أجاممنون بن أتريوس، فوجده نائما في خيمته، مستغرقا في النعاس الإلهي. فوقف فوق رأسه في صورة ابن «نيليوس
Neleus »
1
نسطور، الذي كان يحترمه أجاممنون احتراما بالغا، دون سائر الكهول. وبعد أن تقمص هيئته، تكلم الحلم السماوي قائلا: «إنك تنام يا ابن أتريوس الحكيم القلب، ومروض الخيول، يبدو أن النوم طوال الليل ليس عمل رجل مثلك يشغل منصب المستشار، وفي عهدته جيش، وعليه تتوقف مصالح عديدة. أصغ إلي، الآن، بسرعة، فإنني موفد إليك من قبل زوس، الذي رغم بعده، يوليك اهتماما بالغا. إنه يأمرك بأن تسلح الآخيين ذوي الشعر المسترسل بأقصى سرعة ممكنة؛ لأنه يمكنك الآن أن تستولي على مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات، حيث إن الآلهة الخالدين الساكنين فوق أوليمبوس، ما عادوا منقسمين في الرأي بعد الآن؛ لأن هيرا قد حولت آراء الجميع بتوسلها، وفوق الطرواديين ستحل الكوارث بإرادة زوس. احتفظ بهذا الأمر في قلبك، ولا تدع النسيان يتملكك عندما يطلق النوم العذب سراحك!»
هكذا تكلم الحلم وانصرف ، وتركه هناك، منشغلا بالتفكير في أمور ليس لها أن تخرج إلى حيز الوجود؛ لأنه ظن حقيقة أنه سيستولي على مدينة «بريام» في نفس ذلك اليوم، فما أحمقه! إنه لم يعلم ما يدبره زوس من أعمال كفيلة بأن تجلب الكوارث والأنين على كل من الطرواديين والدانيين على السواء، في قتالهم العنيد. ثم استيقظ من نومه، وكان الصوت السماوي لا يزال يرن في أذنيه. فاعتدل جالسا، وارتدى عباءته الناعمة الجميلة الجديدة، وألقى حول جسمه معطفه الكبير، وربط صندله الجميل تحت قدميه البراقتين، وعلى كتفيه علق سيفه المطعم بالفضة، وأمسك صولجان آبائه، الذي لا يتحطم أبدا، ثم شق طريقه بمحاذاة سفن الآخيين البرونزية الطلاء.
وصعدت ربة الفجر إلى جبل أوليمبوس الشاهق لتعلن مشرق النهار لزوس والخالدين الآخرين، غير أن أجاممنون أمر المنادين ذوي الصوت الجهوري بأن يدعوا الآخيين ذوي الشعر المسترسل إلى مكان الاجتماع. فقاموا بالدعوة، وسرعان ما تجمع سائر الرجال.
المحنة!
والتأم شمل الشيوخ ذوي النفوس الكبيرة بجانب سفينة «نسطور»، الملك المولود في «بولوس»، وبعد أن اكتمل جمعهم دبر أجاممنون خطة حكيمة، فقال: «أصغوا إلي يا أصدقائي، لقد جاءني من السماء في نومي إبان الليلة القدسية، وكان الرسول شبيها جدا بنسطور العظيم، في الشكل والقوام والبنية، وقد اتخذ وقفته فوق رأسي، وتكلم إلي قائلا: «إنك تنام، يا ابن أتريوس، الحكيم القلب، ومروض الخيول، لكن النوم طوال الليل ليس عمل رجل يشغل منصب المستشار، وفي عهدته جيش، وعليه تتوقف مصالح خطيرة، فأصغ إلي الآن بسرعة؛ لأنني موفد إليك من لدن زوس، الذي رغم بعده، يوليك اهتماما بالغا، وشفقة زائدة. إنه يأمرك بأن تسلح الآخيين ذوي الشعر المسترسل بمنتهى السرعة، حيث إنه يمكنك الآن أن تستولي على مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات؛ لأن الخالدين الساكنين فوق أليمبوس ما عادوا منقسمين في الرأي؛ فقد حولت «هيرا» آراء الجميع بتوسلها، وستحل الكوارث فوق الطرواديين بإرادة زوس. فاحتفظ جيدا بهذا الأمر في قلبك. قال هذا ثم ابتعد طائرا واختفى، وإذا بالنوم العذب يهجرني. والآن هيا بنا، فلعلنا نستطيع تسليح أبناء الآخيين، ولكن هل لي أولا أن أحاول التحدث إليهم - كي أجربهم! - فآمرهم بالهروب في سفنهم ذات المجاذيف المتعددة، وهل لكم أن تتحدثوا إليهم بعد ذلك من هذا الجانب وذاك حتى تردوهم على أعقابهم»؟»
لوحة رائعة للفنان «جيدو ريني»، تمثل الإله «أبولو» يقود عربته التي تجرها الخيول الإلهية تتقدمه «أورورا» ربة الفجر، وحوله سبع حسان يمثلن الساعات التي انصرمت من الليل قبل شروق الفجر!
وبعد أن قال هذا استوى جالسا، ثم نهض في وسطهم «نسطور»، الذي كان ملكا على «بولوس» الرملية، وبحسن طوية خاطب حشدهم قائلا: «أصدقائي، قادة وحكام «أرجوس»، لو قص علينا هذا الحلم شخص آخر من الآخيين، لحق لنا أن نرتاب في صدقه، ولازددنا ابتعادا عنه، أما وقد رآه من يعلن عن نفسه أنه يفوق الآخيين بأسا، فالأمر يختلف، والآن، هيا بنا نسلح أبناء الآخيين!»
قال هذا وشق طريقه منصرفا من المجلس فورا، ونهض الملوك الآخرون ذوو الصولجانات، في نفس اللحظة، فأطاعوا راعي القوم، وعندئذ هرعت الجماهير نحوهم. وكما تتدفق أسراب النحل من بعض الصخور الجوفاء، مجددة تدفقها باستمرار، وتحط جماعات منها فوق أزهار الربيع، البعض هنا والبعض هناك هكذا سارت جحافلهم، متدفقة في زرافات عديدة من السفن والأكواخ، أمام ساحل البحر المنخفض، إلى الاجتماع. وكانت تتألق في وسطهم كالشعلة «رومور
Rumour »، رسولة زوس، تحثهم على الذهاب. وإذا اجتمعوا، سادت الفوضى مكان الاجتماع، واهتزت الأرض تحت أقدام المحاربين حين جلسوا، وعلا صخبهم. وقام تسعة منادين يصيحون، محاولين إسكاتهم، بقدر المستطاع، حتى يصغوا بآذانهم إلى الملوك الذين أقامهم زوس. وفي النهاية، وبصعوبة، جلس الناس ولبثوا في أماكنهم هادئين، وعندئذ قام أجاممنون في وسطهم، يحمل في يديه الصولجان الذي أتقن «هيفايستوس» صنعه، والذي كان قد أعطاه لابن كرونوس، فأعطاه زوس للرسول «أرجايفونتيس» وأعطاه السيد «هيرميس»،
2
للفارس بيلوبس
3
فأعطاه بيلوبس بدوره إلى أتريوس، راعي القوم ، وتركه أتريوس بعد موته إلى «ثويستيس
Thyestes »،
4
الغني بقطعانه ثم تركه ثويستيس لأجاممنون ليحمله، حتى يمكنه بذلك أن يصير سيدا على جزر كثيرة وعلى جميع أرجوس، فاتكأ هذا عليه، وقال كلمته في أهل أرجوس: «يا أصدقائي، يا أيها المحاربون الدانيون، يا خدم «أريس»،
5
إن زوس العظيم ابن كرونوس، قد أوقعني في شرك أسى محزن، فما أقساه من رب! فقد وعدني منذ زمن طويل - وأحنى رأسه علامة الموافقة على ذلك - بأنني لن أعود إلى وطني قبل أن أنهب طروادة المحكمة التحصين، بيد أنه قد حاك خدعة قاسية؛ إذ يأمرني الآن بالهجوم دون تدبر؛ كي أعود إلى أرجوس محتقرا ذليلا، بعد أن أكون قد فقدت كثيرا من رجالي. هذه، حسب اعتقادي، هي الخطة التي تدخل السرور على قلب زوس الجبار، ذي البأس، الذي أذل كثيرا من البلدان. نعم، ولا تزال بلدان أخرى تنتظر نفس المصير لأن قوته تفوق الجميع. إن هذا لعار، حتى على سمع من سيأتي بعدنا من الأقوام؛ كيف أن جيشا عظيما هكذا، وضخما بهذه الدرجة، يحارب عبثا، في حرب لا طائل منها، ضد أعداء يقلون عنه عددا، ومع ذلك فلا تبدو لهذه الحرب نهاية! نعم، فلو عقدنا النية، آخيين وطرواديين، وأقسمنا قسما لا حنث فيه، على أن نحصي أنفسنا، وجعلنا نحن الآخيين أنفسنا صفوفا من عشرات، واختارت كل جماعة منا رجلا من الطرواديين ليسكب خمرها، إذن لاحتاجت عشرات كثيرة منا إلى حامل كأس! وهكذا، أعتقد أن أبناء الآخيين يفوقون الطرواديين الذين يقطنون في المدينة، عددا. غير أن حلفاء كثيرين خفوا إليهم من عدة بلدان ورماحهم في أيديهم، وهم يعوقونني بشدة عن تحقيق هدفي، ولا يدعونني أبلغ غايتي من تحطيم أسوار قلعة طروادة الآهلة بالسكان. لقد انصرمت تسع سنوات على وعد زوس العظيم، وإنا لنرى أخشاب سفننا يصيبها السوس، وحبالها قد تآكلت، وزوجاتنا وأطفالنا، على ما أظن، يجلسون في بيوتنا ينتظروننا، ومع ذلك فلم ننجز المهمة التي من أجلها قدمنا إلى هنا! ولكن هيا نذعن جميعا للنصيحة التي سأنصحكم بها: هلم بنا نهرب بسفننا إلى وطننا العزيز، لأنه لم يبق هناك أمل في استيلائنا على طروادة الفسيحة الطرقات!» «هيرميس» رسول الآلهة، كما صوره فنان مجهول في تمثال رائع من البرونز، معروض الآن في المتحف الأهلي بمدينة «نابولي» بإيطاليا.
وإذ قال هذا أثار الحمية في صدور جميع الحشد، الكبير العدد، وكان الكثيرون منهم لم يحضروا المجلس. وأثير الجمع، كما تثير الريح الشرقية أو الجنوبية أمواج البحر الإيكاري
6
العالية وهي تهب عليها من سحب الأب زوس، أو كما تثير الريح الغربية، في هبوبها، حقل قمح غزير بقوتها العنيفة، فتحني السنابل تحتها، هكذا أيضا أثير جميع حشدهم، فهجموا على السفن وهم يصيحون صياحا عاليا، وارتفع الغبار من تحت أقدامهم إلى أعلى، وراح كل واحد ينادي زميله كي يمسك بالسفن ويجرها إلى البحر المتألق، وأخذوا يفسحون طرق إنزال السفن إلى البحر، وقد ارتفع صياحهم إلى عنان السماء، وكانوا شديدي الرغبة في العودة إلى وطنهم، وشرعوا ينزعون الدعامات من أسفل السفن.
إذن فقد كاد أهل أرجوس ينفذون عودتهم إلى وطنهم، رغم إرادة الأقدار، لولا أن هيرا قالت لأثينا: «عليك بهذا، يا ابنة زوس حامل الترس، يا من لا تتعبين! أحقا أن أهل أرجوس يعتزمون الفرار إلى وطنهم العزيز فوق سطح البحر العريض، وأنهم بذلك سيتركون فخرهم لبريام والطرواديين يتركون هيلينا الأرجوسية، التي من أجلها هلك كثير من الآخيين في طروادة، بعيدا عن وطنهم المحبوب؟ اذهبي الآن وسط جيش الآخيين ذوي الحلل البرونزية، وبكلماتك الرقيقة حاولي أن توقفي كل رجل، ولا تحمليهم عناء جر سفنهم المقوسة إلى البحر.»
قالت ذلك، بينما لم تكف الربة «أثينا»، ذات العينين النجلاوين، عن الإصغاء، ثم هبطت مندفعة من قمم أوليمبوس، وسرعان ما بلغت سفن الآخيين السريعة. وهناك وجدت «أوديسيوس»، نظير زوس في رجاحة الرأي، واقفا. ولم يكن قد وضع يده بعد على سفينته السوداء؛ إذ قد عصف ذلك الحزن بقلبه وروحه، فوقفت أثينا البراقة العينين بالقرب منه، وقالت: «أي ابن «لايرتيس
Laertes »،
7
سليل زوس، أي «أوديسيوس» يا كثير الحيل، أحقا أنكم سوف تعتلون ظهور سفنكم ذات المجاذيف الكثيرة لتهربوا إلى وطنكم العزيز؟ وأنكم ستتركون لبريام والطرواديين «هيلينا» الأرجوسية، موضع فخرهم، التي هلك من أجلها كثير من الآخيين في طروادة، بعيدا عن وطنهم المحبوب؟ ألا اذهب الآن وسط جيش الآخيين، ولا تكبح جماح نفسك أكثر من هذا، وبكلماتك العذبة حاول أن تمنع كل رجل، ولا تحملهم عناء جر سفنهم المقوسة إلى البحر.»
تمثال للربة «أثينا» ربة الحكمة، معروض بالمتحف الأهلي بمدينة «أثينا» وهو منقول منذ زمن بعيد عن تمثال «الربة أثينا» للمثال الخالد «فيدياس».
وإذ قالت هذا، عرف هو صوت الربة وهي تكلمه فانطلق يجري، وخلع عنه عباءته فالتقطها سائقه «يوروباتيس الإيثاكي»، الذي كان يقوم بخدمته. وذهب هو بنفسه مباشرة إلى أجاممنون بن أتريوس، فتسلم من يده صولجان آبائه، الذي لا يبلى قط، وشق به طريقه بمحاذاة سفن الآخيين ذوي الحلل البرونزية. وكان كلما قابل أحدا - سواء أكان رئيسا، أم صاحب مكانة - يذهب إلى جانبه ويحاول إيقافه بألفاظ رقيقة، قائلا: «سيدي، يبدو أنه لا داعي لفزعك كما لو كنت جبانا، فهل لك أن تجلس أنت نفسك وتدع باقي شعبك يجلس. فإنك لست تعرف بوضوح ماذا يدور في عقل ابن أتريوس. إنه الآن يجرب فقط، وسرعان ما سيضرب أبناء الآخيين. ألم نسمع جميعا ما قاله في المجلس؟ حذار، خشية أن يدبر في غضبه شرا لأبناء الآخيين، فإن قلب الملوك يزهو؛ لأن لهم حظوة عند السماء، ومجدهم من لدن زوس. وزوس، رب المشورة، يحبهم!»
بيد أنه كان لا يرى أحدا من الناس يزمجر، إلا ويضربه بصولجانه، ويعنفه بقوله: «اجلس هادئا، أيها الزميل، وأصغ إلى كلام من هو أفضل منك إذ إنك جبان وضعيف، لا يعتمد عليك في حرب أو مشورة، إننا لا نستطيع جميعا أن نصبح ملوكا هنا، بأية حال من الأحوال. فما كثرة السادة بالشيء الحسن، ولم يمنح ابن كرونوس، ذو المشورة الملتوية، الصولجان والأحكام إلا لملك واحد، كي يستطيع أن يسدي النصح لقومه.»
هكذا طاف في أرجاء الجيش مسيطرا، وأسرعوا هم عائدين من سفنهم وأكواخهم إلى مكان الاجتماع، محدثين جلبة كدوي موجة البحر الصاخب عندما ترتطم بالساحل الطويل، والبحر يزمجر. وكان الآخرون قد جلسوا الآن واستقروا في أماكنهم، ولم يمض في ثرثرته غير «ثيريستيس
Theristes »
8
الذي لا ينتهي له كلام، والذي ملئ عقله بذخيرة كبيرة من الكلمات السقيمة الترتيب؛ ولذا كان ينطق دائما بالسباب ضد الملوك في إهمال، وبلا ترتيب، بل بما يعتقد أنه يثير الضحك بين أهل أرجوس، وكان أقبح خلقة من جميع الرجال الذين قدموا إلى طروادة: كان معوج الساق، يعرج بإحدى قدميه، وكانت كتفاه مقوستين، تنحدران معا فوق صدره، ومن فوقهما يميل رأسه، وعليه ينمو قدر ضئيل من الشعر. كان أمقت الجميع لدى أخيل وأوديسيوس؛ لأنه كان دائم السباب لكليهما، ولكنه الآن كان يصيح بالشتائم ضد أجاممنون العظيم! ... كان الآخيون غاضبين عليه أشد الغضب، ويكنون له الاحتقار في قلوبهم. ومع ذلك فقد صاح بصوت مرتفع، ينحي باللائمة على أجاممنون: «يا ابن أتريوس، ماذا يغضبك الآن، وماذا ينقصك؟ خيامك عامرة بالبرونز، وفي أكواخك نساء كثيرات، غنائم منتقاة نقدمها نحن الآخيين إليك - قبل أي شيء آخر - كلما استولينا على قلعة. أما زلت بعد ذلك تريد مزيدا من الذهب الذي سوف يحضره لك أحد الطرواديين مروضي الجياد من طروادة، فدية عن ابنه الذي ربما أكون قد كبلته وأسرته، أنا أو أي شخص آخر من الآخيين؟ أم تريد أن يجلبوا إليك أسيرة حسناء كي تنعم بحبها، وتستأثر بها وحدك؟ ولكن كلا؛ إذ لا يعقل أن يكون قائد الآخيين هو الذي يجلب على أبنائهم الشر والكوارث بنفسه! أيها الحمقى! أيها الأنذال، يا مجلبة العار، يا نساء «آخيا»، يا من لم تعودوا رجالا. هيا نعود إلى الوطن بسفننا ونترك هذا الزميل هنا في أرض طروادة ليجتر غنائمه ويكلل جبينه بأكاليل الغار؛ كي يعرف هل كنا نبغي مساعدته أم لا، إنه لم يحترم أخيل، ذلك الرجل الذي يفوقه بكثير؛ فقد أخذ منه غنيمته واستأثر بها، مقترفا بنفسه هذا العمل المتعجرف. ومن المؤكد أنه لا توجد في قلب أخيل ذرة من الغضب، نعم، إنه لم يكترث قط، والآن يا ابن أتريوس، أتريد أن تقوم بوقاحة أخرى لآخر مرة؟»
هكذا تكلم «ثيريستيس» زاجرا أجاممنون، راعي الجيش . بيد أن «أوديسيوس» العظيم أسرع إلى أولهما، وإذ نظر إليه بغضب من تحت حاجبيه، زجره بقوله: «أي ثيريستيس، يا طائش الحديث - رغم أنك متكلم فصيح - صه ولا تحاول النضال وحدك ضد الملوك. لأنني أعتقد أنه لا يوجد شر منك بين سائر من جاءوا من أبناء أتريوس إلى طروادة؛ لذا أجد من الخير أن تمسك لسانك عن الملوك، ولا تنحي عليهم باللائمة أو تراقب الرحيل إلى الوطن. فلسنا نعلم بعد كيف ستكون هذه الأوضاع: أمن صالحنا أمن ضررنا أن نعود نحن أبناء الآخيين. إنك دائم التلفظ بالسباب ضد ابن أتريوس، أجاممنون، راعي الجيش؛ لأن المحاربين الدانيين يقدمون إليه كثيرا من الهدايا، بينما تصب أنت عليه الشتائم باستمرار. غير أنني أنذرك، وسأنفذ كلامي: لو وجدتك هنا ثانية تتظاهر بالبلاهة، كما تفعل الآن، لحق لرأس أوديسيوس ألا يبقى بعد اليوم فوق كتفيه، ولما استحققت بعدئذ أن أدعى والدا لتيليماخوس، إن لم أقبض عليك وأجردك من ثوبك وعباءتك، وردائك الذي يستر جسدك، ثم أرسلك إلى السفن السريعة، بعد أن أضربك في مكان الاجتماع ضربا مخزيا!»
قال أوديسيوس هذا، وضربه بعصاه على ظهره وكتفيه، فخر ثيريستيس، وانحدرت منه دمعة كبيرة، وبان أثر الدم على ظهره تحت العصا الذهبية. ثم جلس وقد تملكه الذعر، ومسح دمعته والألم يخزه وخزا شديدا والعجز يبدو في ملامحه، ولكن الآخيين، رغم حنقهم عليه في قلوبهم، انفجروا ضاحكين منه، وقال أحدهم وهو ينظر إلى جاره: «ويحي! حقا قام أوديسيوس قبل الآن بأعمال جليلة لا تحصى، كقائد للرأي السديد وكمثير للهيجاء، غير أن هذا هو خير ما أتاه بين أهل أرجوس؛ إذ جعل هذا الثرثار السفيه يكف عن شتائمه. وإني لأعتقد أن روحه المتغطرسة لن تغريه بعد الآن على سب الملوك»!
سرت هذه العبارات بين الحشد، بيد أن أوديسيوس، فاتح المدن. قام والصولجان في يده، وإلى جانبه أثينا ذات العينين المتألقتين، في هيئة مناد، وأمر الجيش بأن يلزم الصمت، حتى يستطيع أبناء الآخيين، الداني منهم والقاصي، أن يسمعوا كلامه، ويحفظوا في قلوبهم مشورته. وبقصد حسن خاطب جمعهم قائلا: «يا ابن أتريوس، الآن حقا ينوي الآخيون أن يجعلوك، أيها الملك، أبغض البشر طرا وأجدرهم بالازدراء، ولن يبروا بالوعد الذي عاهدوك عليه - عند سيرهم إلى هنا من أرجوس، مرعى الخيول - بألا تعود إلى الوطن قبل أن تقتحم طروادة المنيعة التحصين؛ لأنهم كالأطفال الصغار أو كالأرامل يولول بعضهم إلى بعض تواقين للعودة إلى الوطن. وإنها الخيبة المريرة والإرهاق الشديد، اللذان يدفعاننا إلى العودة؛ لأن من يمكث بعيدا عن زوجته شهرا واحدا في سفينته ذات المجاذيف، يثور الغيظ في قلبه حين يرى نفسه سجينا وسط البحر الصاخب بفعل عواصف الشتاء وأعاصيره، فما بالك وهذه هي السنة التاسعة، تحل بنا، ونحن هنا! ومن ثم فلا أعتبر من العار أن يحقد الآخيون في قلوبهم وهم بجانب سفنهم المدببة، ومع ذلك فإنه لمن المخجل أن نظل هنا طويلا ونعود بخفي حنين. إذن فلتتحملوا، أيها الأصدقاء، ولتمكثوا بعض الوقت، حتى نعلم ما إذا كانت نبوءات كالخاس
Calchas
9
صادقة، أم كاذبة؛ لأن هناك حقيقة نعرفها جيدا في قلوبنا، وأنتم جميعا شهود عليها، أنتم الذين لم تفتك بكم شياطين الموت: لقد كان بالأمس فقط، أو أول أمس، أن احتشدت سفن الآخيين في أوليس
Aulis ،
10
كي تحمل الدمار لبريام والطرواديين، وكنا نحن مجتمعين حول نبع، نقدم الذبائح المئوية للآلهة فوق المذابح المقدسة، تحت شجرة دلب جميلة، والماء الصافي يتدفق رقراقا من النبع، وإذا بعلامة عظيمة تتجلى؛ فقد زحف من تحت المذبح أفعوان، ظهره في حمرة الدم، مفزع، أرسله إله جبل أوليمبوس نفسه - زوس - إلى ضوء النهار. وقد اتجه صوب شجرة الدلب. وكانت على تلك الشجرة عندئذ أفراخ عصفور دوري، زغب الحواصل، فوق أعلى غصن، قابعة تحت الأوراق، عددها ثمانية، والأم التي أنجبتها هي التاسعة. فابتلعها الأفعوان وهي تزقزق بصوت يثير الشفقة، ومن حولها كانت الأم ترفرف وهي تبكي صغارها الأعزاء! ثم استدار وأمسك بها من جناحها وهي تصيح مولولة، ولكنه بعد أن التهم الأفراخ والأم، إذا الرب الذي أخرجه إلى النور، يحوله إلى رمز، غير منظور، فإن ابن كرنوس - ذا المشورة الملتوية - قد مسخه حجرا! فوقفنا هناك نتعجب مما حدث، من هذه الظاهرة الخارقة المثيرة للفزع، التي تخللت تقديم ذبائح الآلهة المئوية، وعندئذ أطلق «كالخاس» نبوءته في الحال؛ إذ خاطب جمعنا قائلا: «لم هذا السكوت، أيها الآخيون ذوو الشعر المسترسل! لقد أبان لنا زوس المستشار هذه العلامة العظيمة، فجاءت متأخرة، وتأخر تحقيقها، ولكن لن يندثر صيتها بأية حال. فكما التهم هذا الثعبان أفراخ العصفور - وأمها كذلك - وكانت ثمانية والأم التاسعة، هكذا أيضا سنحارب نحن هناك سنين عديدة، ولكننا في السنة العاشرة سنستولي على المدينة الفسيحة الطرقات! بهذا قالت النبوءة، فهيا تعالوا، امكثوا كلكم حيث أنتم، أيها الآخيون المدرعون جيدا، إلى أن نستولي على مدينة بريام العظمى!»
وإذ قال هذا، صاح أهل أرجوس عاليا، ومن حولهم رددت السفن الأصداء بصورة عجيبة من وراء صيحات الآخيين، وهم يمتدحون كلمات أوديسيوس شبيه الإله. ثم تكلم في حشدهم الفارس «نسطور» الجيريني
Gerenian
11
قائلا: «والآن انظروا إنكم في الحقيقة تعقدون اجتماعا على طريقة الصبيان الحمقى، الذين لا يعيرون أعمال الحرب أقل اهتمام، ماذا ستكون نهاية عهودنا وأيماننا؟ إذن، هيا بنا نقذف إلى النار بجميع نصائح وخطط المحاربين، وتقدمات الشراب من الخمر الصافية، والمواثيق التي سجلناها بمصافحات الأيدي ووضعنا فيها ثقتنا؛ لأننا عبثا نتقاذف بالألفاظ، ما دمنا عاجزين عن إيجاد أية حيلة للفراغ من مهمتنا هنا. يا ابن أتريوس، هل لك كسابق عهدك أن تحتفظ بهدفك الذي لا انثناء عنه، وتصبح قائدا لأهل أرجوس إبان المعارك الطاحنة؟ ولتدع الآخرين يهلكون، أولئك الواحد أو الاثنين من الآخيين الذين يتشاورون سرا فيما بينهم - تشاورا عقيما - للعودة إلى أرجوس، قبل أن نعرف هل يصدق أم يخيب وعد زوس، حامل الترس! ذلك أن ابن كرونوس، الفائق القوة، قد بذل لنا وعدا، بإيماءة من رأسه، في ذلك اليوم الذي اعتلى فيه أهل أرجوس ظهور سفنهم السريعة، كي يجلبوا على الطرواديين الموت والهلاك - فلقد أضاء يومئذ البرق عن يميننا مبديا لنا بذلك علامات الخير - لذلك، ينبغي ألا يسرع أحد منكم في الرحيل إلى الوطن إلا بعد أن يضطجع كل واحد منا مع زوجة رجل من الطرواديين، فننتقم بذلك لأنفسنا مما أذاقوه لنا من مذلة وأنين من أجل هيلينا! ومع ذلك، فإن كان هناك من برح به الشوق للرحيل إلى الوطن، فليضع يده على سفينته السوداء، حتى يلقى الموت والهلاك قبل سواه! ولكن، هل لك، أيها الملك، أن تقبل المشورة الحسنة، وتصغي إلى ما يقوله الآخرون، فمهما كانت كلماتي، فلا تطرحها جانبا: فلتقسم رجالك، يا أجاممنون، إلى قبائل، وإلى عشائر، كي تساعد العشيرة زميلتها، والقبيلة جارتها. وسوف تريك مثل هذه التنسيقات، إذا تمسكت بها القوات، كم من الجبناء يوجد بين الضباط أو في صفوف الجنود، وكم من الأخيار؛ لأن كل رجل سيقاتل بجانب أخيه، وسرعان ما ستعلم إذا كانت إرادة الرب هي التي تقف حائلا بينك وبين اجتياح طروادة، أم هو جبن جنودك وعدم كفاءتهم في الحرب!»
وردا عليه تكلم الملك أجاممنون، قائلا: «حقيقة، مرة أخرى، أيها السيد العجوز، إنك لتفوق أبناء الآخيين وتبزهم في الخطابة. أي أبي زوس، ويا أثينا، ويا أبولو، ليت عندي عشرة من أمثال هذا المستشار، آنئذ كانت مدينة الملك «بريام» تحني رأسها على الفور، وكنا نستولي عليها ونخربها بأيدينا، ولكن ابن كرونوس، حتى زوس حامل الترس، قد جلب علي الأحزان، بأن ألقى بي في خضم من المخاصمات والمشاحنات غير المجدية؛ لأنني، والحق يقال، تقابلت و«أخيل» بقارس الألفاظ من أجل فتاة، وكنت أنا البادئ بإثارة الغضب، ولكن إذا قيض لنا أن نتحد في المشورة، فلن يؤجل مرة أخرى ما سيحيق بالطرواديين من شر، كلا، ولا لحظة واحدة! أما الآن، فهيا انصرفوا إلى طعامكم، حتى يمكننا أن نمضي إلى المعركة. ليشحذ كل رجل رمحه جيدا، ويصلح درعه، ويعلف بسخاء خيوله السريعة الأقدام، ويفحص عربته من كل جانب فحصا دقيقا ، ويستعد للقتال؛ فقد نشغل طوال اليوم كله في حرب مقيتة. لن يكون هناك تسويف، أي تسويف البتة، إلى أن يفصل بيننا مجيء الليل ونحن في حمى القتال. ولسوف تتبلل سيور الدروع فوق صدوركم بالعرق، وتتعب أيديكم من القبض على الرماح، كما سوف تتبلل بالعرق الخيول المثبتة إلى عرباتكم اللامعة، ولكني إن رأيت أحدكم مبيتا النية على التخلف عن القتال إلى جوار السفن المدببة، فلن يكون له أمل بعد ذلك في اجتناب نهش الكلاب والطيور!»
الاستعداد للمعركة!
هكذا تكلم القائد، فصاح أهل أرجوس عاليا، كما لو كانوا موجة ترتطم بشاطئ مرتفع عندما تهب الريح الجنوبية وتقذف بالأمواج على ربوة صخرية لا تني المياه تلاطمها من كل جانب، مدفوعة بكل ريح. ثم قاموا مسرعين ينتشرون بين السفن، وأشعلوا النيران في الخيام، وتناولوا طعامهم. وقدموا الذبائح للآلهة واحدا واحدا، وسألوهم النجاة من الموت ومن ويلات الحرب. أما أجاممنون قائد الجيش، فقد نحر ثورا سمينا في الخامسة من عمره لابن كرونوس الفائق القوة، ثم استدعى الكهول، رؤساء الجيش الآخي، وعلى رأسهم «نسطور» والملك «أيدومينيوس».
12
ثم أياس،
13
وسيمه، وابن توديوس
Tydeus ،
14
وسادسهم أوديسيوس، نظير زوس في الرأي والمشورة، ولم يكن في حاجة إلى استدعاء أخيه «مينيلاوس»، صاحب صيحة الحرب المدوية، الذي كان يعلم كم كان الحمل ثقيلا على أجاممنون فجاء من تلقاء نفسه! ولما التفوا حول الذبيحة، والتقطوا حبات الشعير، قام الملك أجاممنون يصلي وسطهم قائلا: «أي زوس، أيها الأمجد، أيها الأعظم، يا ملك السحب القاتمة، يا ساكن السماء، فلتمن علينا بألا تغيب الشمس، ولا يخيم الظلام علينا، قبل أن أهدم قصر بريام - الذي صبغه الدخان باللون الأسود - وأضرم النيران في أبوابه، وأشق عباءة هكتور من فوق صدره برمحي البرونزي، ويتجندل حوله زملاؤه جماعات فيسقطون صرعى في التراب ويعضون الأرض بأسنانهم.»
هذا ما قاله، ولكن ابن كرونوس لم يكن راغبا بعد في أن يمنحه ما تمناه. حقا، لقد قبل ذبيحته، ولكنه في نظير ذلك بعث إليه بالكوارث مضاعفة؟ وبعد أن صلوا ونثروا حبات الشعير، سحبوا رءوس الضحايا إلى الوراء أولا، ثم قطعوا رقابها، وسلخوها، ثم قطعوا أجزاء الأفخاذ وكسوها بطبقة مضاعفة من الدهن، ووضعوا فوقها لحما نيئا. ثم أحرقوا هذه فوق قطع من أغصان الكروم نزعت أوراقها، أما الأجزاء الداخلية فقد وضعوها في السفافيد وحملوها فوق لهب هيفايستوس. وعندما تم احتراق قطع الأفخاذ وتذوقوا من الأجزاء الداخلية، قطعوا الباقي وسفدوه، وشووه بعناية، ثم نزعوا الجميع من السفافيد. وعندما كفوا عن العمل وانتهوا من إعداد الطعام، أكلوا. ولم يشك أحد من نصيبه من الوليمة العادلة. وعندما أطفئوا رغبتهم في الطعام والشراب، وقف في وسطهم الفارس «نسطور» الجيريني، وكان أول المتكلمين فقال: «يا ابن أتريوس الأمجد، يا أجاممنون، يا ملك البشر، هيا، فلا نظل محتشدين هنا بعد ذلك، ولا نسوف أكثر من ذلك في العمل الذي وهبنا الله إياه بحق. هيا، ودع منادي الآخيين ذوي الحلل البرونزية يعلنون على الملأ، ويجمعون الجيش داخل السفن. وهيا بنا ننقض هكذا في حشد واحد عبر معسكر الآخيين الفسيح، حتى يمكننا بسرعة أكثر أن نشن معركة طاحنة!»
هكذا تكلم، ولم يفت ملك البشر، أجاممنون، أن يصغي. ومن فوره أمر المنادين ذوي الأصوات الواضحة أن يستدعوا الآخيين ذوي الشعر المسترسل إلى المعركة. فأخذوا ينادون، وسرعان ما احتشد الجيش كله. وأسرع الملوك المنحدرون من زوس، الذين كانوا حول ابن أتريوس، يقودون الجيش، وفي وسطهم «أثينا» البراقة العينين، حاملة الترس الذي لا يقدر بثمن، والذي لا يعرف القدم ولا الموت، والذي يتدلى من مائة هدب من الذهب الخالص، منسوجة كلها بمهارة، وكل هدب منها قيمته مائة ثور. بهذه الصورة كانت الربة تعدو متأنقة وسط جيش الآخيين، تحثهم على المضي قدما إلى الأمام، وتثير الحمية في قلب كل رجل إلى الحرب وإلى القتال دون هوادة، حتى أضحت الحرب بالنسبة إليهم خيرا من العودة في سفنهم الجوفاء إلى وطنهم المحبوب!
وكما تشتعل النار الآكلة اللهب في غابة مترامية الأطراف على قمة جبل، فيرى وهجها من بعيد، هكذا أيضا تألق البريق الذي يبهر الأنظار من أسلحتهم البرونزية التي لا حصر لها، وهم يسيرون إلى الأمام، حتى بلغ عنان السماء، مخترقا الفضاء.
وكما تطير فصائل الطير المجنحة: الأوز البري، أو الكراكي، أو البجعات الطويلة الأعناق ، فوق المروج الآسيوية بالقرب من مجاري كاوستريوس المائية، تارة هنا وطورا هناك، مزهوة بقوة أجنحتها، تستقر على الأرض ولا يزال بعضها يتقدم إلى الأمام، وهي تصيح عاليا، بينما المرح يدوي بالأصداء. هكذا أيضا راحت قبائلهم العديدة تتدفق من السفن والأكواخ إلى سهل سكاماندر
Scamander ، فدوت الأرض دويا عجيبا تحت أقدام الرجال والخيل. واتخذوا أماكنهم في مرج سكاماندر المزهر، في أعداد لا تحصى، بقدر عدد أوراق الأشجار وأزهارها في موسمها!
وكما تطن أسراب الذباب الكثيرة المتجمعة هنا وهناك خلال حظيرة الراعي في فصل الربيع، عندما يبلل اللبن الدلاء، هكذا وقف الآخيون ذوو الشعر المسترسل، في أعداد غفيرة، فوق السهل في مواجهة رجال طروادة، يتحفزون إلى تمزيقهم إربا!
وكما يفرق رعاة الماعز، في سهولة، قطعان الماعز المنتشرة في مساحات واسعة، عندما تنزل إلى المرعى، هكذا وزعهم قادتهم في هذا الجانب أو ذاك ليدخلوا إلى المعركة، ومن بينهم الملك أجاممنون، الذي يشبه زوس قاذف الصواعق، في عينيه ورأسه، أما خصره فشبيه بخصر أريس، وصدره كصدر بوسايدون. وكما يقف الثور وسط القطيع كرئيس أكبر للجميع، لأنه أبرز ما في القطيع، كذلك جعل زوس أجاممنون في ذلك اليوم، أبرز الجميع، وأكبر زعيم بين المحاربين!
قائمة قواد الآخيين
أي ربات الشعر، أخبرنني الآن، يا من لكن مساكن فوق جبل أوليمبوس - لأنكن ربات وحاضرات وتعرفن كل شيء، بينما لا نسمع نحن غير الشائعات ولا نعرف شيئا! - من هم قادة الدانيين وسادتهم؟ أما القوم العاديون فلست قادرا على إحصائهم أو تسميتهم، حتى ولو كانت لي عشرة ألسن وعشرة أفواه وصوت لا يكل، ولو كان القلب الذي في صدري من البرونز، إلا إذا أعادت ربات الشعر الأوليمبيات، بنات زوس حامل الترس، إلى ذاكرتي كل من قدموا إلى طروادة، والآن، اسمحن لي بذكر ربابنة السفن حسب ترتيبهم، وكذلك السفن: فمن البيوتيين كان «بينيلوس» و«لايتوس » ربانين. وكذا «أركيسيلاوس» و«وبروثونيور» و«كلونيوس»، وكان هؤلاء يعيشون في هوريا، وأوليس الصخرية، وسخوينوس وسكولوس وأيتيونوس بأخاديدها الكثيرة، وثيسبيا وجريا وموكاليسوس الفسيحة. وكان معهم من يعيشون حول هارما وهولي وبيتيون وأوكاليا وثيسبي موطن اليمام. وكان معهم من يقطنون في كورونيا وهاليارتوس المعشوشبة، ومن احتلوا بلاتيا وعاشوا في جليساس، ومن احتلوا طيبة المنخفضة، القلعة الحصينة البناء، وأونخيستوس المقدسة، غيضة «بوسايدون» اللامعة، ومن احتلوا أرنى، الغنية بالكروم، وميديا ونيسا المقدسة وأنثيدون على شاطئ البحر، جاء كل هؤلاء في خمسين سفينة، وعلى ظهر كل منها صعد شبان يافعون من البيوتيين يبلغون مائة وعشرين.
والذين كانوا يعيشون في أسبيليدون وأورخومينوس المينيوية، قادهم «أسكالافوس» و«أيالمينوس» ابنا «أريس»، اللذان أعدا ثلاثين سفينة جوفاء مع «استيوخي» العذراء المبجلة، في قصر «أكتور»، ابن «أزيوس»، التي حملت من «أريس» العتيد، عندما دخلت حجرتها.
ومن بين «الفوكيين» كان القائدان «سخيديوس» و«أبيستروفوس» وهما ابنا «إيفاتوس» العظيم النفس، ابن «ناوبولوس» وهما اللذان احتلا كوباريسوس وأبوتو الصخرية، وكريسا المقدسة، وداوليس ويانوبيوس. وعاشا حول أنيموريا وهوامبوليس؛ واللذان سكنا بجانب نهر كيفيسوس العظيم، واللذان احتلا كذلك ليلايا القريبة من ينابيع كيفيسوس. وكان يتبع هؤلاء أربعون سفينة سوداء. وقد شغل قادتها بالسيطرة على صفوف الفوكيين، والاستعداد للقتال المرير بالقرب من البيوتين على الميسرة.
وكان «أياس» الصغير ابن «أويليوس» قائدا للوكريين
Locrians
ولم يكن بأية حال في عظمة «أياس التيلاموني»، بل يقل عنه كثيرا. لقد كان ضئيل الحجم، ذا درع من الكتان، ولكنه، في استخدام الرمح، كان يفوق بمراحل جيش الهيلينيين والآخيين، وكان يعيش هؤلاء في كونوس وأوبوس وكالياروس وبيسا وسكارفي وأوجايا الجميلة وتارفي وثرونيوم حول مجاري بواجريوس المائية. وتبع أياس أربعون سفينة سوداء من سفن اللوكريين الذين يعيشون في مواجهة يوبويا المقدسة.
أما «الأبانتيس» الذين يبثون الذعر في القلوب، والذين احتلوا يوبويا وخالكيس وأريتريا وهيستيايا، ذات الكروم الوفيرة، وكيرينثوس الساحلية وقلعة ديوس الشامخة، والذين كانوا يحتلون كاروستوس ويعيشون في ستيرا - فكان قائدهم «إيليفينور»، سليل «أريس»، وابن «خالكودون»، أي قائد الأبانتيس ذوي الهمم العالية. وقد تبعه الأبانتيس السريعو الحركة. بشعرهم الطويل المرسل على ظهورهم، وكانوا رماحين ماهرين يتوقون إلى تمزيق الدروع حول صدور أعدائهم برماحهم العالية ذات القناة البلوطية. وكانت مع هذا القائد أربعون سفينة سوداء.
أما الذين احتلوا أثينا، القلعة المكينة التحصين، أرض «اليخثيوس» الجسور، الذي أرضعته أثينا، ابنة زوس، في غابر الأزمنة، يوم أنجبته الأرض مانحة الحب، ثم جعلته يعيش في أثينا، في محرابها الفاخر، وكلما مضت السنون في انصرامها، كان شباب أثينا يسعون لكسب رضاه بذبائح من الثيران والكباش، أما هؤلاء الذين احتلوا أثينا، فكان قائدهم «مينيسثيوس»، ابن «بيتيوس». وكان معدوم النظير في قيادة العربات، ولن يستطيع مواجهته أي محارب من حاملي الدروع، على وجه الأرض أبدا! ولكن «نسطور» وحده هو الذي كان ندا له ويستطيع أن يتحداه؛ إذ يكبره سنا، وكانت تتبع هذا القائد خمسون سفينة سواء.
وقاد «أياس» اثنتي عشرة سفينة من سالاميس وأرساها حيث كانت تقف كتائب الأثينيين.
وأما الذين كانوا يحتلون أرجوس وتيرونس ذات الأسوار المشهورة، وهيرميوني وأسيني، التي تحتضن الخليج العميق، وطرويزن وأيوناي وأبيداوروس المكسوة بالكروم، وشباب الآخيين الذين احتلوا أيجينا وماسيس، فكان قادتهم «ديوميديس»، البارع في صيحة الحرب، و«سثينيلوس» الابن العزيز لكابانيوس المجيد. وجاء قائد ثالث مع هذين، هو «يوروالوس»، المحارب الشبيه بالإله، ابن الملك «ميكيستيوس»، ابن «تالاوس». بيد أن «ديوميديس»، البارع في صيحة الحرب، كان قائد هؤلاء جميعا. وتبعت هؤلاء ثمانون سفينة سوداء.
وأولئك الذين يحتلون موكيناي، القلعة المنيعة، وكورنثة الغنية، وكليوناي المتينة التحصين، وكانوا يعيشون في أورناياي وأرايثوريا الجميلة وسيكيون التي كان ملكها «أدراستوس»، ومن احتلوا هوبيريسيا وجونويسا المنخفضة وبيليني، وعاشوا حول أيجيوم وفي جميع أنحاء أيجيالوس وحول هيليكي الفسيحة - فكان أجاممنون بن أتريوس قائدهم وتحت إمرته مائة سفينة. وتبعه معظم الأخيار من الناس وأكثرهم عددا. فوقف وسط جموعهم في حلته البرونزية المتألقة ملكا كامل المجد، بارزا من بين جميع المحاربين؛ لأنه كان أكثر نبلا، ويقود شعبا غفيرا.
كذلك من احتلوا أرض لاكيدايمون الجوفاء بوهادها العديدة، وفاريس وأسبرطة وميسي، موطن اليمام، ومن عاشوا في بروساياي وأوجاياي الجميلة، والذين يحتلون أموكلاي وهيلوس، الحصن المشرف على البحر، والذين كانوا يحتلون لاس، ويعيشون حول أويثولوس، وكان يقود هؤلاء شقيق أجاممنون، «مينيلاوس» البارع في صيحة الحرب، ومعه ستون سفينة، وكان يقودهم بعيدا ويتنقل وسطهم بنفسه، واثقا من كفاءته. يحث رجاله على القتال، وكان قلبه - دون الجميع - تواقا إلى نيل الجزاء لقاء نضاله وأناته من أجل زوجته المخطوفة هيلينا!
وأولئك الذين كانوا يعيشون في «بولوس» وأريني الجميلة وثريوم، مخاضة «ألفايوس»، وأيبي الجميلة المنبت، ومن كانت مساكنهم في كوباريساس وأمفيجينيا وبتيليوس وهيلوس ودوريوم. وفي الأخيرة قابلت ربات الشعر «ثاموريس» التراقي ووضعن خاتمة لغنائه، وهو في رحلته من أويخاليا، من بيت «يوروتوس» الأويخالي وكان قد تباهى مزهوا بأنه سيفوز حتى لو غنت أمامه ربات الشعر أنفسهن، بنات زوس حامل الترس، وفي فورة غضبهن شوهن خلقته، وسلبنه غناءه العجيب وجعلنه ينسى صناعة الغناء - كل هؤلاء كان يقودهم الفارس «نسطور» الجيريني، واصطفت معه تسعون سفينة سوداء.
وكذلك من احتلوا أركارديا تحت جبل كوليني المنحدر، بجانب قبر «أيبوتوس» حيث يوجد محاربون ماهرون في القتال بالأيدي. ومن كانوا يعيشون في فينيوس وأورخومينوس الغنية بقطعان الأغنام وريبي وستراتيا وأنيسبي التي تكتسحها الرياح، وأولئك الذين يحتلون نيجيا ومانتينيا الجميلة، ومن يحتلون ستومفالوس ويعيشون في باراسيا - كل هؤلاء كان يقودهم ابن «أنكايوس» السيد «أجاممنون» ومعه ستون سفينة، على ظهر كل منها عدد كبير من المحاربين الأركاديين الماهرين في القتال؛ إذ أعطاهم ملك البشر، من تلقاء نفسه، سفنا ذات مجاديف ليعبروا بها البحر القاتم بلون الخمر. فعل ذلك ابن أتريوس، لأنهم لم يكونوا على دراية بشئون البحر.
ومن كانوا يعيشون في بوبراسيوم وأليس العظيمة، وكل القطاع الذي تضمه هورميني ومورسينوس على ساحل البحر، صخرة أولين وأليسيوم. وكان لهؤلاء أربعة قواد، لكل منهم عشر سفن على ظهر كل منها كثير من الأيبيين: فكان يقود بعضهم «أمفيماخوس» و«ثالبيوس»، وقد ولدا من دم «أكتور»، أحدهما ابن «كتياتوس» والآخر ابن «يوروتوس». وكان يقود بعضا آخر، «ديوريس» العتيد، ابن «أمارونكيوس». أما الفريق الرابع فكان يقوده «بولوكسانيوس» شبيه الإله، ابن الملك «أجاشينيس»، ابن «أوجياس».
ومن قدم من دوليخيوم وأخيناي، الجزيرتين المقدستين اللتين تقعان في عرض البحر، تجاه أليس، وكان يقود هؤلاء «فيجيس»، نظير «أريس»، وابن «فوليوس» الذي أنجبه الفارس «فيليوس»، حبيب زوس - وهو الذي غضب من أبيه قديما ورحل ليقيم في دوليخيوم - ومع «ميجيس» جاءت أربعون سفينة سوداء.
أما «أوديسيوس»، فقاد الكيفالينيين ذوي الهمم العالية، الذين كانوا يحتلون إيثاكا ونيريتوم التي تكسوها الغابات المائجة، ومن كانوا يسكنون في كروكولايا وإيجيليبس الوعرة والذين كانوا يحتلون زاكونثوس، ومن كانوا يقيمون حول ساموس، ويحتلون الأرض الرئيسية، ويعيشون فوق الشواطئ المواجهة للجزر. وكان قائد هؤلاء «أوديسيوس» نظير زوس في الرأي. وقدمت معه اثنتا عشرة سفينة ذات حيزوم قرمزي اللون.
وكان «ثواس» بن «أندرايمون» يقود الأيتوليين، ومن يقطنون في بليورون وأولينوس وبوليني وخاليكس، المشرفة على البحر، وكالودون الصخرية؛ لأن أبناء «أوينيوس» القوي القلب كانوا في عداد الأموات، ولم يكن هو على قيد الحياة كذلك، كما كان «ميلياجر» الجميل الشعر ميتا، وهو الذي صدرت إليه الأوامر بأن يتولى قيادة الأيتوليين، وكانت تتبع «ثواس» أربعون سفينة سوداء.
أما الكريتيون فكان قائدهم «أيدومينيوس» الشهير برمحه، كما كان قائد الذين يحتلون كنوسوس وجورتوس، ذات الحوائط الشهيرة، ولوكتوس وميليتوس ولوكاستوس، البيضاء بأرضها الطباشيرية، وفايستوس وروتيوم تلك المدن الآهلة بالسكان، بالإضافة إلى جزيرة كريت ذات المائة مدينة، كان يقود هؤلاء جميعا «أيدومينيوس» الشهير برمحه، و«ميريونيس»، نظير «أنيواليوس»، قاتل الرجال، وجاءت مع هؤلاء ثمانون سفينة سوداء.
رسم لعملاق جبار، يرمز لقوة «هرقل» إله القوة، ابن «زوس».
أما «تيليبوليموس»، ابن «هرقل»، وهو بطل شجاع فارع الطول، فقاد من رودس تسع سفن من الرودسيين الأمجاد الذين عاشوا في رودس، وكانت منقسمة إلى ثلاثة أقسام: لندوس وأيالوسوس وكامايروس البيضاء بأديمها الطباشيري. وكان قائد هؤلاء - «تيليبوليموس»، الشهير برمحه - قد ولد لهرقل العتيد من «أستيوخيا» التي سباها من أيفوري الواقعة على نهر سيليس بينما كان يخرب مدنا كثيرة كان يدافع عنها محاربون يحتضنهم زوس. وعندما شب «تليبوليموس» وبلغ مبلغ الرجال في القصر المنيع التحصين، قتل عمه «ليكومنيوس»، سليل «أريس»، وكان عندئذ شيخا هرما؛ ومن ثم بنى له في الحال عدة سفن، وبعد أن جمع كثيرا من الأتباع، هرب عبر البحر؛ لأن أبناء وأحفاد هرقل الآخرين هددوه. غير أنه وصل إلى رودس بعد رحلات عدة تكبد في أثنائها المشاق والمحن، وهناك أقام شعبه واستقروا في ثلاثة أقسام على هيئة قبائل، فأحبهم زوس ملك الآلهة والبشر، وأغدق عليهم ابن كرونوس ثروات طائلة. «هرقل» يحمل الوحش ليلقي به من حالق.
وفضلا عن ذلك فقد تولى «نيريوس» قيادة ثلاث سفن كبيرة من سومي. وكان «نيريوس» ابن «أجلايا» والملك «خاروبس» وقد امتاز باللباقة أكثر من جميع الدانيين القادمين إلى طروادة بعد ابن بيليوس المنقطع النظير. ومع ذلك فقد كان ضعيفا؛ ولذا لم يتبعه سوى عدد قليل من الرجال.
أما الذين كانوا يحتلون نيسوروس وكراباتوس وكاسوس وكوس مدينة «يوروبولوس»، والجزر الكالودنية، فكان يقودهم «فايديبوس» و«أنتيفس»، ابنا الملك «ثيسالوس»، ابن هرقل. واصطفت مع هؤلاء ثلاثون سفينة واسعة.
كذلك جميع من كانوا يسكنون أرجوس البيلاسجية وألوس وألوبي وتراخيس، ومن كانوا يحتلون فثيا وهيلاس - أرض الغيد الفاتنات اللواتي أطلق عليهن اسم «المورميدون» و«الهيلينيس» و«الآخيين» - كان «أخيل» ربان الخمسين سفينة التي يمتلكها هؤلاء. وبالرغم من ذلك فقد كانوا يشعرون بعدم ميل إلى القتال المرير، حيث لم يكن هناك من يقودهم إلى صفوف المحاربين. لأن أخيل العظيم، السريع القدمين، كان يقبع في تراخ وسط السفن، غاضبا بسبب «بريسيس»، الفتاة ذات الشعر الجميل، التي سباها من لورنيسوس بعد عناء شاق، عندما خرب لورنيسوس وحوائط طيبة، وألحق العار ب «مونيس» و«أبيستروفوس» المحاربين اللذين كانا يثوران بالرماح، ابني الملك «أيفينوس» بن «سيليبوس». ومن فرط حزن أخيل عليها، بقي فاتر الهمة، بيد أنه سرعان ما كان عليه أن ينهض من جديد.
والذين كانوا يحتلون فولاكي وبوراسوس المزهرة، محراب «ديميتير»، وأيتون، الكثيرة القطعان، وأنترون، المشرفة على البحر، وبتيليوس، المكسوة بالحشائش، كان قائدهم «بروتيسيلاوس» الشجاع، أيام أن كان في عداد الأحياء، غير أن التربة السوداء طوته بين أحضانها. وتركت زوجته، في فولاكي، وقد مزقت خديها بنحيبها، بينما كان بيته لم يتم غير نصف مراحل تأسيسه. وكان قد قتله رجل دارداني وهو يقفز من سفينته قبل جميع الآخيين. ومع ذلك فلم يبق رجاله بدون قائد، رغم أنهم كانوا يتوقون إلى قائدهم؛ لأن «بوداركيس» من نسل «أريس» صار يقودهم، وكان حفيد «فولاكوس» من ابنة «أفيكلوس»، الثري بأغنامه، شقيق «بروتيسيلاوس» العظيم النفس، والأصغر مولدا. ولكن الآخر كان أكبر سنا وأكثر رجولة؛ لذلك لم يفتقر الجيش بحال ما إلى قائد، رغم أنه كان يتوق إلى الرجل النبيل الذي فقده. وجاءت معه أربعون سفينة سوداء.
ومن كانوا يقطنون في فيراي بالقرب من بحيرة بويبيس، وفي بويبي وجلافوراي وأبولكوس المتينة البناء، كان يقودهم الابن العزيز لأدمينوس، وهو يوميلوس الذي أنجبته له «ألكيستيس»، الملكة بين النساء، وكانت أرق بنات بيلياس. وكانت مع «يوميلوس» إحدى عشرة سفينة.
ومن كانوا يسكنون ميثوني وثاوماكيا، ومن كانوا يحتلون ميليبويا وأوليزون الوعرة، كان يقودهم، وسفنهم السبع، «فيلوكتيتيس» البارع في فن الرماية. وقد اعتلى كل سفينة خمسون مجذفا محنكون جدا في القتال بالقوس. بيد أن «فيلوكتيتيس» كان يرقد بإحدى الجزر يعاني آلاما مبرحة، في ليمونس المقدسة، حيث قد تركه أبناء الآخيين مصابا بجرح خبيث من ثعبان مائي قاتل، بقي هناك يعاني آلامه، بينما أسرع أهل أرجوس إلى جانب سفنهم يفكرون في الملك «فيلوكتيتيس». ومع ذلك فلم يكن أولئك القوم بلا قائد رغم أنهم كانوا يتوقون إلى قائدهم، فقادهم «ميدون» الابن السفاح لأويليوس، سلاب المدن، الذي أنجبته له «ريني».
ومن كانوا يحتلون تريكا وأيثومي ذات المرتفعات وأويخاليا، مدينة «يوروتوس» الأويخالي، كان يقودهم ابنا «إسكليبيوس»، الطبيبان النطاسيان، «بودالايروس» و«ماخاون» ومع هؤلاء انتظمت ثلاثون سفينة واسعة.
أما الذين كانوا يحتلون أورمينيوس والنافورة هوبيرايا، ومن يحتلون إستيرديوم ومرتفعات تيتانوس البيضاء، فكان يقودهم «يوروبولوس»، ابن «يوايمون» المجيد، وجاءت تتبعه أربعون سفينة سوداء.
ومن كانوا يحتلون أرجيسا، ويعيشون في جورتوني وأورثي، وأيلوني ومدينة أولوسون البيضاء، كان يقودهم «بولوبويتيس»، الماهر في القتال، ابن «بابريثوس» الذي أنجبه زوس الخالد - وهو الذي حملت فيه «هيبوراميا» «بابريثوس» في اليوم الذي انتقم فيه من جماعة القنطور وطردهم من بيليوم، وساقهم إلى الإيثيكيس. ولم يكن وحده، بل كان معه «ليونتيوس»، من نسل «أريس»، حفيد «كانيوس»، من ابنه «كورونوس»، ذي الهمة العالية، وكانت تتبع هؤلاء أربعون سفينة سوداء.
وقاد «جونيوس» من كوفوس اثنتين وعشرين سفينة، فتبعه «الأينينيس» و«البيرايبي»، البارعون في القتال، والذين أقاموا مساكنهم حول دودونا الشتوية، وعاشوا في الأراضي الزراعية حول نهر تيتاريسوس الجميل، الذي تصب مجاريه الهادئة الجريان في بينايوس، ومع ذلك فلا تختلط بدوامات بينايوس الفضية، ولكنها تطفو فوق مياهه كأنها زيت الزيتون؛ لأنه أحد فروع مياه ستوكس، نهر القسم المخيف.
وكان «بروتوس» بن «تينثريدون»، قائد «الماجينيتيس» الذين يقطنون حول بينايوس وبيليون المكسوة بالغابات المتموجة. وجاءت تتبعه أربعون سفينة سوداء.
كان هؤلاء هم قادة الدانيين وسادتهم، ولكن خبريني، يا ربة الشعر، من كان يبز هؤلاء جميعا؟ خبريني عن المحاربين والجياد التي جاءت تتبع أبناء أتريوس؟
أما الجياد، فكانت خيرها جياد ابن «فيريس»، تلك الجياد التي كان يسوقها «يوميلوس»، سريعة كالطير، متشابهة في اللون والسن، وظهورها مستوية كالخط المستقيم. وكان أبولو ذو القوس الفضية قد ربى هذه الجياد في بيرايا، ومن بينها فرسان تحملتا هول الحرب. أما من بين المحاربين، فقد كان «أياس التيلاموني» هو خيرهم، أثناء اغتصاب «أخيل» وانطوائه على غضبه؛ لأن أخيل يفوقه بمراحل في القوة، هو والجياد التي كانت تحمل ابن بيليوس المنقطع النظير. ومع ذلك فقد كان أخيل يمكث وسط سفنه العديدة المدببة، في غضب شديد من أجاممنون بن أتريوس، راعي الجيش، بينما يرتع شعبه ويلهو على طول شاطئ البحر، يقذفون الجلة والحراب والسهام، وتقف جيادهم، كل بجانب عربته، تأكل «البشنين» ومقدونس المستنقع، في كسل. وقد وضعت العربات، بعد أن أحكمت تغطيتها، في أكواخ أصحابها. أما الرجال، التواقون إلى قائدهم، حبيب «أريس»، فراحوا يجولون هنا وهناك خلال المعسكر، دون أن يقاتلوا.
وهكذا تقدم الجيش، كما تستشري النيران في رقعة الأرض كلها. وأنت الأرض تحت أقدام الجنود، كما تئن تحت زوس الذي يقذف بالصاعقة في ثورة غضبه، يوم ألهب الأرض بالسياط حول الوحش «توفويوس» في بلاد الأريمي ، حيث يقول الناس إن عربة توفويوس توجد هناك. هكذا أنت الأرض أنينا عاليا، تحت وطأة أقدامهم وهم يسيرون بسرعة خلال السهل.
قائمة قواد طروادة
وذهبت «أيريس» الربة ذات القدمين السريعتين كالريح، إلى الطرواديين، موفدة من لدن زوس، حامل الترس، تحمل رسالة محزنة. وكان هؤلاء يعقدون اجتماعا عند باب قصر ملكهم «بريام» وقد احتشد الجميع في كتلة واحدة، شيوخا وشبانا على حد سواء. فوقفت أيريس السريعة القدمين بقربهم، وتحدثت إليهم، محاكية صوت «بوليتيس»، ابن بريام، الذي اعتاد الجلوس كحارس للطرواديين، مطمئنا إلى سرعة قدميه، فوق أعلى جزء من «أيسوبيتيس» العجوز ينتظر هجوم الآخرين من سفنهم، وقفت أيريس السريعة القدمين في صورته، وخاطبت بريام بقولها: «سيدي العجوز، إنك ما زلت شغوفا بالكلام الكثير، كما كنت في زمن السلم، لكننا أمام حرب محتدمة لا هوادة فيها. ولقد خضت قبل الآن غمار معارك مع المحاربين، بيد أنه لم يسبق لي أن رأيت جيشا عظيما كهذا، حتى ليبدو في عداد أوراق الشجر، وحبات الرمال، وهو يسير خلال السهل ليقاتل ضد المدينة. إليك يا «هكتور»، دون غيرك أصدر أمري، لتفعل حسب أقوالي. فبقدر ما هنالك من حلفاء عديدين في شتى أنحاء مدينة «بريام» العظيمة، من بلاد مختلفة، ولغات مختلفة، ينبغي على كل قائد أن يعطي الأمر لمن هم تحت إمرته، ويقودهم إلى الأمام، فيكون بذلك قد قاد رجال مدينته.»
هكذا قالت. ولم يخف قط على أن يعرف صوت الربة. ففض الحشد في الحال، فانطلقوا إلى الأسلحة. وفتحت جميع الأبواب على مصاريعها. فأسرعت الجموع قدما، المشاة وسائقو العربات، فارتفع ضجيج عظيم. وكانت هناك أمام المدينة أكمة عالية، على مسافة بعيدة في السهل، حولها رقعة من الخلاء على هذا الجانب وذاك، وهذه يسميها الناس باتيبا بينما تسميها الآلهة مثوى «ميريني» الخفيفة الخطى. فوزع الطرواديون وحلفاؤهم رجالهم هناك في ذلك اليوم.
وكان يقود الطرواديين «هكتور» العظيم ذو الخوذة البراقة، ابن بريام، وكان يسير معه خير جيش بين الجيوش وأعظمها مهارة في أساليب القتال.
أما الدردانيون فكان يقودهم «أينياس» الشجاع ، ابن «أنخسيس» وقد أنجبته له «أفروديت» الفاتنة، وسط منحدرات أيدا، وهي ربة اضطجع معها إنسان من البشر. ولم يكن «أينياس» بمفرده، بل كان ابنا «أنتينور»: «أرخيليوخوس» و«أكاماس»، البارعان في أفانين القتال.
أما من كانوا يعيشون في زيليا وراء السفح الأدنى لأيدا، أولئك الأثرياء الذين يشربون مياه أيسيبوس القاتمة، والترويس، فكان يقودهم «أنداروس» ابن «لوكادون» المجيد، وهو الذي حباه أبولو نفسه بالقوس.
ومن كانوا يحتلون أدراستيا وبلاد البايسوس، ومن احتلوا بيوتويا وأكمة تيريا الشاهقة، فكان يقودهم «أدراستوس» و«أمفيوس» ذو الدرع الكتانية، ابنا «ميرويس البيركوتي»، الذي كان يفضل الرجال جميعا في العرافة، ولم يكن راغبا في أن يحمل ولديه مشقة الذهاب إلى الحرب، جالبة الخراب للبشر، ولكن الوالدين لم يصغيا قط إلى نصحه؛ لأن الموت الأسود كان يدفعهما إلى حتفهما دفعا.
ومن كانوا يقطنون حول بيركوتي وبراكتيوس، ومن كانوا يحتلون سيستوس وأبودوس وأريسبي العظيمة، كان يقودهم ابن «هورتاكوس»؛ «أسيوس»، قائد البشر - «أسيوس» بن «هورتاكوس» الذي حملته جياده الأصيلة العالية من أريسبي، من نهر سيليس.
وقاد «هيبوثوس» قبائل «البيلاسجي» التي تقاتل برماحها، وأيضا أولئك الذين كانوا يقيمون في لاريسا العميقة التربة. هؤلاء كان يقودهم «هيبوثوس» و«بيلايوس»، من نسل «أريس»، ابنا «ليثوس» البيلاسجي، ابن «تيوتاموس».
أما التراقيون فقادهم «أكاماس» و«بايروس»، المحارب، وكذلك جميع الذين يحتضنهم مجرى الهيليسبونت العتيد.
وكان «يوفيموس» قائدا للرماحين الكيكونيين. وهو ابن الملك «ترويزينوس» بن «كياس»، وربيب زوس.
أما «بورايخميس»، فقاد البيونيين ذوي الأقواس المقوسة، من بعيد، خارج أمودون، من نهر أكسيوس المتدفق باتساع، أكسيوس الذي تتدفق فيه مياهه كأجمل ما يكون على وجه الأرض.
و«البافلاجونيون»، قادهم «بولايمينيس» الجريء القلب من بلاد الأينينتي التي هي موطن سلالة إناث البغال الوحشية. وكان هؤلاء يحتلون كوتوروس ويقيمون حول سيسامون، وكانت مساكنهم الذائعة الصيت حول نهر بارثينيوس وكرومنا وأليجيالوس وأروثيني السامقة.
ومن بين «الموسيين»، كان «خروميس» و«أنوموس» العراف، قائدين، ورغم عرافة هذا فإنها لم تدفع عنه القدر المشئوم؛ إذ قتل بيد ابن «أياكوس»، السريع القدمين، بقرب النهر حيث كان أخيل ينزل الخراب بالطرواديين وحلفائهم.
وقاد «ناستيس»، «الكاريين»، الغلاظ الألفاظ، الذين كانوا يحتلون ميليتوس وجبل فثيريس، الغزير الأوراق، ومجاري مياندر المائية، ومرتفعات موكالي الشاهقة. وكان يقود هؤلاء القائدان «أميفماخوس» و«ناستيس»، ابنا «نوميون» المجيدان. وجاء «ناستيس» إلى الحرب يتحلى كله بالذهب، كما لو كان فتاة، فيا له من أحمق! بيد أن ذهبه لم يغنه شيئا، ولم يدفع عنه الحتف الأليم. فقد قتل في النهر بيد ابن أياكوس، السريع الأقدام، وقام أخيل الحكيم القلب بتجريده من الذهب!
وكان «ساربيدون»، و«جلاوكوس» عديم النظير، قائدين على «اللوكيين» - من الجهات النائية من لوكيا - ومن كسانثوس الزاخرة بالدوامات.
الأنشودة الثالثة
«... تعالي، هيا نأخذ حظنا من المتعة، فنضطجع معا ونرتوي من لذات الحب، فلم يسبق لي أن اجتاحتني مثل هذه الرغبة، ولا حين قاسمتك فراش الحب في جزيرة «كراناي».»
كيف اشتبك «مينيلاوس» و«باريس» في مبارزة فردية، وكيف أنقذت «أفروديت» باريس، وكيف أطلت «هيلينا» والملك «بريام» من فوق أسوار طروادة على جيوش الآخيين ... إلخ. «باريس» يتحدى الإغريق!
وعندما اصطفت جموعهم، كل فرقة مع قائدها، تقدم الطرواديون بصخبهم يصيحون كالطيور، كما تعلو صيحات الكراكي - حتى تبلغ عنان السماء - وهي تفر أمام زوابع الشتاء والأمطار الغزيرة، ثم تطير صارخة صوب مجاري الأوقيانوس، حاملة الفتك والموت لرجال «البيجيميس»، وعند مطلع الفجر الباكر تقوم بمعركة رهيبة.
أما الآخيون - من الجهة الأخرى - فقد أقبلوا في صمت، يتنفسون البسالة، وقد عقدوا العزم في قلوبهم على التعاون ومساعدة كل رجل لزميله. وكما تنشر الريح الجنوبية الضباب فوق قمم الجبال، ذلك الضباب الذي لا يحبه الراعي، ويعده اللص خيرا من الليل؛ إذ لا يستطيع المرء أن يرى فيه إلا بالقدر الذي يمسك به حجرا، هكذا كانت كثافة سحب الغبار التي أثارتها أقدامهم وهم يسيرون، وقد انطلقوا يعبرون السهل بأقصى سرعة.
وعندما اقتربوا، وتقدم كل جيش في مواجهة الآخر، نهض من بين الطرواديين بطل يشبه الإله، هو «ألكساندر»، يحمل فوق كتفيه جلد نمر أرقط، وقوسه المعقوفة وحسامه، ولوح برمحين لهما سنان من البرونز ، وتحدى خيرة الآخيين أن يقاتلوه وجها لوجه في عراك دموي!
1
بيد أنه عندما رآه «مينيلاوس»، العزيز لدى «أريس»، وهو يتقدم أمام الجميع بخطوات واسعة، انتابته فرحة الضرغام الذي عثر على جثة ضخمة، أو ظفر بقطامي ذي قرون، أو عنزة وحشية، وكان الجوع قد قضم أحشاءه، فانقض يلتهمها في نهم، مهما انبرت له الكلاب السريعة والشباب الجامح. هكذا كان سرور «مينيلاوس» حين وقعت عيناه على «ألكساندر» شبيه الإله؛ إذ اعتقد أن ستتاح له فرصة الانتقام من غريمه. وفي الحال، وثب من عربته إلى الأرض وهو في حلته الحربية.
وما إن أبصر به «ألكساندر» المجيد، عندما برز وسط الأبطال حتى أصيب في قلبه، وعاد أدراجه وسط حشد زملائه، اجتنابا للموت! وكما يجفل المرء متراجعا مذعورا حين يرى ثعبانا بين أخاديد جبل، وترتعد فرائصه وأعضاؤه فيعود من حيث أتى، ويمتقع لون خديه، هكذا تراجع ألكساندر المجيد خوفا من ابن أتريوس، وعاد أدراجه إلى جموع الطرواديين الأمجاد.
ولكن «هكتور» شاهده، فزجره بعبارات الخزي قائلا: أيها الشرير «باريس» يا أجمل من تقع عليه العيون، أيها السادر في مطادرة النساء، أيها المخادع، ليتك لم تولد قط، ومت دون زواج. نعم كنت أتمنى ذلك؛ فهذا خير بكثير من أن تكون هكذا مجلبة للعار، ينظر إليك الرجال بازدراء! حقيقة، أعتقد أن الآخيين ذوي الشعر المسترسل سوف يقهقهون عاليا، وهم يظنون أن بطلنا أمير، اخترناه بسبب جمال خلقته، بينما لا توجد ذرة من القوة أو الشجاعة في قلبه! أبمثل هذه القوة سافرت عبر البحر في سفنك الماخرة، يوم أن جمعت الثقات من زملائك، حتى إذا ما بلغت قوما غرباء، عدت حاملا غادة فاتنة من بلاد نائية، هي ابنة محاربين يجيدون استخدام الرمح، لتكون لأبيك ولمدينتك ولكل الشعب مجلبة للدمار المحزن، ومسرة لأعدائك، ومشنقة لرأسك أنت نفسك؟ أحقا لن تواجه «مينيلاوس»، العزيز لدى «أريس »، على الأقل كي تعلم أي نوع من المحاربين ذاك الذي اقتنيت زوجته الحسناء؟ إن قيثارتك لن تنفعك، ولا حتى هدايا أفروديت، ولا جدائل شعرك، ولا جمالك ، عندما تفترش الثرى صريعا. حقيقة، إن الطرواديين لجبناء أي جبناء، وإلا لألبسوك منذ زمن بعيد ثوبا من الأحجار
2
بسبب ما جنيته من آثام!»
فرد عليه ألكساندر المجيد قائلا: «أي هكتور، ما أراك إلا تؤنبني بما أستحق، ولم تقل شيئا أكثر مما أستحق. إن قلبك لا تلين قناته أبدا، كالفأس التي غرست في جذع شجرة بيد رجل ماهر في تشكيل الأخشاب لصنع السفن، تزداد قوة ضربته باضطراد. هكذا أيضا حال القلب الذي في صدرك القوي. فلا تقذف في وجهي بالهدايا الجميلة التي منحتها أفروديت الذهبية. حذار، فإن هدايا الآلهة الرائعة ليست مما يلقى جانبا، وخاصة ما تهبه من تلقاء نفسها، حتى ولو لم يكن في مقدور أحد أن يحصل عليها مختارا. أما الآن، فإن كنت تصر على أن أحارب وأقاتل، فدع الطرواديين الآخرين يجلسون هم وجميع الآخيين، واجعلني في الوسط مع مينيلاوس، العزيز لدى «أريس»، لنتعارك من أجل «هيلينا» وكل ممتلكاتها. وأينا يغلب، ويبرهن على تفوقه، فإنه يستولي على المرأة والثروة جميعا، ويحملهما إلى منزله. أما أنتم، فلتقسموا على الصداقة وفروض الإخلاص بذبيحة، وهكذا تستطيعون الإقامة في بلاد طروادة العميقة التربة. ودعهم هم يعودون إلى أرجوس، مرعى الخيول، وإلى آخيا أرض الحسان الفاتنات.»
وإذ قال هذا، سر هكتور سرورا بالغا حين سمع قوله، فتقدم إلى الوسط، وأمسك رمحه من منتصفه، وأرجع به فريق الطرواديين إلى الوراء، فجلس الجميع. غير أن الآخيين ذوي الشعر المسترسل حاولوا عندئذ أن يصوبوا إليه سهامهم، ويضربوه، ويقذفوه بالأحجار، ولكن أجاممنون، ملك البشر، صاح عاليا: «كفوا يا أهل «أرجوس»، ولا تقذفوا السهام يا شباب الآخيين؛ لأنه يبدو أن لدى هكتور، ذي الخوذة البراقة، شيئا ما يريد أن يقوله.»
وإذ قال ذلك، أمسكوا عن القتال، ولزموا الصمت في الحال. ثم تكلم هكتور بين الجيشين، فقال: «اسمعوا مني أيها الطرواديون والآخيون المدرعون جيدا ، ما قاله «ألكساندر» الذي من أجله قام النزاع على قدم وساق. لقد أمر غيره من الطرواديين وجميع الآخيين، بأن يخلعوا عنهم عدتهم الحربية ويضعوها فوق الأرض الفسيحة، وسيقف هو نفسه في الوسط مع «مينيلاوس»، العزيز لدى «أريس»، ليشتبكا في عراك من أجل «هيلينا» وما تملك. وأيهما ينتصر ويثبت تفوقه، سيأخذ المرأة والثروة جميعا، ويحملهما إلى منزله. أما نحن الآخرون، فهيا نقسم على الصداقة وفروض الإخلاص بذبيحة.»
وخيم السكوت عليهم أجمعين، ومن وسطهم نهض مينيلاوس، الماهر في صيحة الحرب، وقال: «أصغوا الآن إلي أنا أيضا، فقد تملك الحزن قلبي من دونكم جميعا، وإني لأرى أنه لم يعد مفر من أن يفترق أهل أرجوس والطرواديون، بعدما رأيته من تكبدكم للمحن الكثيرة بسبب النزاع القائم بيني وبين باريس الذي بدأه. يجب أن يموت أحدنا - لقد كتب القضاء له الموت فعلا - وبعد ذلك سرعان ما سيعم السلام بينكم. فلتحضروا كبشين: كبشا أبيض للشمس، ونعجة سوداء للأرض، وسوف نحضر واحدا لزوس، وليحضر إلى هنا الملك بريام القوي، حتى يبرم العهود بنفسه، لا بواسطة أبنائه المتعجرفين المستهترين؛ فنحن لا نريد أن نرى معاهدة مقدسة لزوس تنفصم بالخيانة. إن الشباب غالبا ما يكون متسرعا، ولكن عندما يتولى شيخ أمثال هذه الأمور، فإنه يعمل حسابا للمستقبل والماضي حتى يكون قراره في صالح الطرفين.»
وإذ قال ذلك، شعر الآخيون والطرواديون بالغبطة؛ لاعتقادهم أنه قد كفاهم شر القتال المقيت، وعلى ذلك تركوا عرباتهم في الصفوف، وهبطوا منها، ثم خلعوا عنهم عددهم الحربية فوضعوها على الأرض، كلا منها بجانب الأخرى، لا تفصلها عنها سوى مسافة بسيطة، ثم أرسل هكتور رسولين إلى المدينة، يجدان في السير لإحضار الحملين واستدعاء بريام، كما أرسل أجاممنون «تالثوبيوس» إلى السفن العميقة القاع، لإحضار حمل، فلم يتردد في إطاعة أجاممنون العظيم. «هيلينا» عند سور الحصن
بيد أن «أيريس» ذهبت إلى «هيلينا» البيضاء الذراعين، كرسول، متخذة هيئة شقيقة زوجها، تلك التي اتخذها الملك «هيليكاون» ابن أنتينور، زوجة له، وكانت تدعى «لاوديكي» وتعتبر أجمل بنات «بريام»، فوجدت هيلينا في البهو تنسج نسجا أرجوانيا كبيرا ذا عرضين، وقد وشته بصور معارك كثيرة للطرواديين، مستأنسي الجياد، والآخيين ذوي الحلل البرونزية، أولئك الذين قاسوا الأهوال من أجلها على أيدي «أيريس». عندئذ اقتربت منها أيريس، السريعة القدمين، وتحدثت إليها قائلة: «تعالي هنا، يا سيدتي العزيزة، لتري روائع أعمال الطرواديين مستأنسي الخيول، والآخيين ذوي الحلل البرونزية. فمنذ زمن وجيز، كان يهدد بعضهم البعض بحرب طاحنة في السهل، كأنما يعتزمون القتال حتى الموت. أما الآن، فقد كفوا عن القتال، وهم يجلسون في هدوء، متكئين على تروسهم، ورماحهم الطويلة مغروسة من أطرافها إلى جوارهم، ولكن باريس ومينيلاوس الجبار، العزيز لدى «أريس»، يجب أن يتقاتلا من أجلك برماحهما الطويلة، ومن ينتصر منهما تكوني زوجة له!»
هكذا تكلمت الربة، فأحيت في قلب محدثتها الشوق العذب نحو زوجها السابق، ووطنها وأبويها، وفي الحال حجبت هيلينا نفسها بكتان أبيض براق، وخرجت من غرفتها، والدموع تنهمر من مآقيها. ولم تكن وحدها، بل معها وصيفتان؛ «أثيرا» ابنة «بيتثيوس»، و«كلوميني» ذات عيون المها. وسرعان ما بلغن مكان أبواب سكاي.
ومن كانوا يجلسون حول «بريام» و«بانثوس» و«ثومريتيس» و«لامبوس» و«كلوتيوس» و«هيكيتاون»، نسل أريس، و«أوكاليجون» و«أنتينور»، الحازمين، جلسوا عند أبواب سكاي، ككبار القوم. وبسبب شيخوختهم لم يشتركوا في القتال، بيد أنهم كانوا يتحدثون بفصاحة وطلاقة. ومثل «حشرات النطاط» الجالسة في الغابة فوق شجرة، ترسل صوتها المقبول، هكذا جلس قادة الطرواديين على الحائط. فلما أبصروا بهيلينا مقبلة بمحاذاة الحائط، راحوا يتهامسون بكلمات مجنحة قائلين: «لا لوم على الطرواديين والآخيين المدرعين تماما، أن يعانوا الآلام مدة طويلة من أجل مثل هذه المرأة! من العجب أنها تبدو للناظرين وكأنها إحدى الربات الخالدات! ومع ذلك، فبالرغم من كل ما هي عليه من فتنة، دعوها ترحل على ظهر السفن، ولا تترك ها هنا لتكون عارا علينا وعلى أطفالنا من بعدنا!»
هكذا قالوا، غير أن بريام استدعى هيلينا إليه، قائلا: «تعالي إلى هنا، يا طفلتي العزيزة، واجلسي أمامي، لكي تري بعلك السابق وأقاربك وشعبك . فإني أرى أن لا لوم عليك بأية حال من الأحوال، ولكني أرى أن الملوم هم الآلهة، الذين أشعلوا حرب الآخيين المفجعة ضدي. تعالي، لعلك تستطيعين أن تخبريني من يكون هذا المقاتل الضخم، ذلك الآخي البطل الصنديد، الفارع الطول؟! حقيقة، هناك آخرون أطول منه بقدر الرأس، ولكن عيني لم تريا بعد رجلا في مثل هذا الجمال، ولا بمثل هذه المهابة. إنه أشبه ما يكون بملك!»
فأجابته هيلينا، الفاتنة بين النساء قائلة: «مبجل أنت في عيني، يا والد زوجي العزيز، ومهيب. ليت الموت الشرير كان نصيبي يوم تبعت ابنك إلى هنا، وتركت حجرة عرسي وأقاربي وابنتي العزيزة، ورفيقات صباي الجميلات. غير أنه قدر لهذا ألا يكون؛ ولذلك تجدني أذوي من البكاء. ومع ذلك، فسأخبرك عمن تسألني: ذلك الرجل هو ابن أتريوس، أجاممنون الحاكم المطلق، وهو ملك نبيل، ورماح مقدام. وكان في يوم ما شقيق زوجي، أنا التي طرحت عنها الحياء، إذا كان كل هذا قد حدث حقا. إني لأرتاب في ذلك!»
قالت ذلك، فتملك العجب الرجل العجوز، وقال: «يا لك من سعيد يا ابن أتريوس، محظوظ من الآلهة والأقدار! أرى الكثير من شبان الآخيين قد خضعوا لك الآن. أقول هذا لأني سافرت إلى بلاد فروجيا، الكثيرة الكروم، وأبصرت المقاتلين الفروجيين هناك في جموع غفيرة، أولئك الفرسان البواسل أتباع «أوتريوس» وشبيه الإله «موجدون»، الذين كانوا يعسكرون بمحاذاة شواطئ سنجاريوس. ولما كنت أنا حليفهم، فقد حاربت في صفوفهم يوم هجمت المحاربات «الآمازونيس»،
3
نظيرات الرجال. ومع ذلك فإن «الفيروجيين» أنفسهم لم يكونوا في كثرة الآخيين ذوي العيون البراقة!»
وبعد ذلك أبصر الرجل العجوز «أوديسيوس»، فسألها: «والآن أخبريني كذلك عن هذا الرجل، يا طفلتي العزيزة، من هو؟ إنه أقصر من أجاممنون بقدر رأس، ولكنه أعرض منه أكتافا وصدرا. إن عدته الحربية موضوعة على الأرض الواسعة، ولكنه يصول ويجول، ككبش القطيع، في صفوف المحاربين. إنه ليبدو أشبه بالكبش الكث الفراء، يجول خلال قطيع ضخم من النعاج البيضاوات!»
فردت عليه هيلينا، المنحدرة من زوس، قائلة: «هذا أيضا ابن «لايرتيس»؛ «أوديسيوس» الكثير الحيل، الذي شب وترعرع في أرض إيثاكا رغم وعورتها، وهو يعرف كل شيء عن الدهاء والخطط الماكرة!»
فقال «أنتينور» العاقل، يسألها: «سيدتي، لقد تكلمت بالصدق؛ إذ حدث فيما مضى أن جاء «أوديسيوس» العظيم إلى هنا، موفدا بشأنك، يرافقه مينيلاوس، العزيز لدى «أريس»، وكنت أنا الذي استقبلتهما ورحبت بهما في بيتي، فاستطعت أن أعرف شكل وحجم كل منهما وأساليبهما الماكرة. والآن عندما اختلطا بالطرواديين، وهم مجتمعون سويا، ما إن وقف الرجال حتى علا عليهم مينيلاوس بمنكبيه العريضين.
ومع ذلك، فلما جلس كلاهما كان أوديسيوس أكثر جلالا، بيد أنهما عندما شرعا يحيكان نسيج الكلام والمشورة في حضرة الجميع، راح مينيلاوس، والحق يقال، يتكلم بطلاقة، بألفاظ قليلة، ولكنها تامة الوضوح؛ لأنه لم يكن بالرجل المحب للحديث المطول ولا المراوغة، ولو أنه كان في الحقيقة، الأصغر سنا، ولكن عندما نهض أوديسيوس، الكثير الحيل، كان خافضا بصره إلى الأرض، لا يحرك عصاه إلى الخلف أو الأمام، بل يمسك بها بشدة، كما لو كان رجلا لا إدراك له، فكنت تظنه رجلا من سقط المتاع، بل وأحمق. بيد أنه إذا ما انطلقت الكلمات من شفتيه، وخرج صوته العظيم من صدره، كانت الألفاظ تتساقط كالزوابع الثلجية فلا يستطيع أحد من البشر أن يباري أوديسيوس، وعندئذ لم نتعجب من رؤية طلعة أوديسيوس».
ثم رأى الملك العجوز «أياس»، فسأل قائلا: «ومن، إذن، هذا المحارب الآخي، الشجاع الفارع الطول، الذي يعلو أهل أرجوس برأسه وكتفيه العريضتين»؟
فردت عليه هيلينا ذات الثوب الطويل، الفاتنة بين النساء: «هذا، «أياس» الضخم، حصن الآخيين. وهناك يقف أمامه «أيدومينيوس» في وسط أهل كريت، أشبه بإله. ويجتمع حوله قادة الكريتيين. وكثيرا ما كان يتوق مينيلاوس، العزيز لدى «أريس»، إلى تكريمه في بيتنا كلما جاء من كريت. والآن أرى باقي الآخيين المتألقي العيون، الذين أستطيع أن أميزهم بوضوح، وأذكر أسماءهم، ولكن هناك اثنين من قواد الجيش لا يمكنني أن أتبينهما؛ «كاستور» مستأنس الخيول، والملاكم العظيم، «بولوديوكيس»، وهما أخواي اللذان أنجبتهما نفس الأم. فإما أنهما لم يتبعا الجيش من لاكيدايمون الجميلة، وإما أنهما قدما إلى هنا في سفنهما ماخرة البحار، ولكنهما لم يجسرا على خوض غمار معركة المحاربين، خوفا من الألفاظ المخزية ، وكلمات العار التي يرميني الشعب بها.»
هكذا قالت، لكن الرجلين اللذين تعنيهما كانت الأرض واهبة الحياة قد احتضنتهما - قبل ذلك - في لاكيدايمون، في وطنهما العزيز.
ذبائح النذور
وفي ذلك الوقت، كان الرسل يحملون الذبائح خلال المدينة لأجل نذور الآلهة المقدسة، وهي حملان، وزق من جلد الماعز، مملوء خمرا من ثمرة الأرض، تدخل السرور على القلب. وكان الرسول «أيدايوس» يحمل طاسا لامعا وكئوسا ذهبية، فجاء إلى جوار الملك وأيقظه قائلا: «انهض، يا ابن لاوميدون، فإن رؤساء الطرواديين، مستأنسي الخيول، والآخيين المدثرين بالبرونز، يستدعونك لتنزل إلى السهل كي تقسم بأيمان الثقة بالذبائح؛ لأن ألكساندر ومينيلاوس، العزيز لدى «أريس»، سيتبارزان بالرماح الطويلة، من أجل تلك السيدة ومن ينتصر منهما، تتبعه المرأة وكنوزها! أما نحن، فنقسم على الصداقة وأيمان الثقة بالذبائح، ونعيش في طروادة العميقة الخصب. أما هما فسيرحلان إلى أرجوس، مرعى الخيول، وآخيا، أرض النساء الفاتنات.»
وإذ قال هذا، ارتعد الرجل العجوز، ورغم ذلك فقد أمر رفقاءه أن يضعوا النير فوق الجياد، فأطاعوا لتوهم. صعد بريام، وسحب الأعنة إلى الخلف، كما صعد «أنتينور» إلى جانبه في العربة الفاخرة، وساق كلاهما الخيول عبر أبواب سكاي إلى السهل.
بيد أنهما وصلا إلى الطرواديين والآخيين، حتى نزلا من العربة إلى الأرض الفسيحة، وذهبا إلى وسط الطرواديين والآخيين. عندئذ قام أجاممنون، ملك البشر، وأوديسيوس الكثير الحيل، وجمع الرسل الملكيون الذبائح للأيمان المقدسة للآلهة، ومزجوا الخمر في الطاس، وسكبوا الماء على أيدي الملوك، واستل ابن أتريوس السكين المعلقة باستمرار إلى جانب غمد حسامه العظيم، ونزع الشعر من رأس الحملين؛ فوزعه الرسل على رؤساء الطرواديين والآخيين. ثم قام أجاممنون في وسطهم، ورفع يديه يصلي بصوت مرتفع، قائلا: «أبانا زوس، يا من تحكم من أيدا،
4
أيها الأمجد، أيها الأعظم، ويا أيتها الشمس ويا أيتها الأرض، وأنت يا من تنتقم في العالم السفلي من البشر الذين انتهوا من الحياة، وكل من أقسم حانثا، كونوا شاهدين، وراقبوا أيمان الثقة. فلو قتل ألكساندر مينيلاوس، فدعوه يأخذ هيلينا وكل أموالها، أما نحن فسنرحل في سفننا الماخرة. وإذا قتل مينيلاوس، الجميل الشعر، ألكساندر، فدعوا الطرواديين يردون هيلينا وسائر أموالها، ويدفعون تعويضا مناسبا لأهل أرجوس، حتى تستطيع الأجيال القادمة أن تتذكره. أما إذا لم يعتزم «بريام» وأبناؤه دفع التعويض لي، عندما يخفق ألكساندر، فإنني سأمضي في القتال حتى أحصل على التعويض، وأظل هنا إلى أن أضع حدا للحرب.»
وبعد أن قال هذا، ذبح الحملين بسكينه البرونزية العديمة الرحمة، ثم تركهما فوق الأرض يلهثان ويتنفسان بصعوبة، لأن السكين سلبتهما القوة، ثم صب القوم الخمر من الطاس في الكئوس، وسكبوها على الأرض، وصلوا للآلهة الخالدة. فأخذ كل من الآخيين والطرواديين يردد: «أي زوس، أيها الأمجد، أيها الأعظم، ويا أيتها الآلهة الأخرى الخالدة. أي الجيشين يبدأ بالعدوان حانثا في الأيمان، فلتسكب أمخاخ جنوده - هم وأطفالهم - فوق الأرض انسكاب هذه الخمر، ولتصبح زوجاتهم جواري وإماء للآخرين.»
هكذا قالوا - ولكن الوقت لم يكن قد حان بعد لابن نرونوس كي يحقق لهم دعاءهم - ثم قام بريام وسط الجموع، بريام ابن «دار دانوس»،
5
وقال: «أصغوا إلي أيها الطرواديون والآخيون المدرعون جيدا. الحق أنني سأعود ثانية إلى طروادة الكثيرة الزوابع؛ إذ لا يمكنني بأية حال أن أحتمل أن تشهد عيناي ابني العزيز يتقاتل مع مينيلاوس، العزيز لدى «أريس»، ولكن هذا، على ما أعتقد، يعرفه زوس والآلهة الآخرون الخالدون، ويعرفون أيهما كتب له الموت.»
هكذا تكلم الرجل الشبيه بالإله، ثم وضع الحملين في عربته، وصعد هو نفسه وجذب أعنة الخيل، وركب «أنتينور»
6
العربة الفاخرة إلى جواره، وانصرف كلاهما عائدين إلى طروادة.
مبارزة «باريس» و«مينيلاوس»!
وحين وصلا، لم يلبث هكتور بن بريام، وأوديسيوس العظيم، أن قاسا مسافة أولا، ثم تناولا الأزلام وأخذا يهزانها في خوذة من البرونز، ليعرفا أي المتبارزين يبدأ بقذف رمحه البرونزي. وصلى الناس ورفعوا أيديهم إلى الآلهة، فارتفعت أصوات الآخيين والطرواديين ضارعين: «أبانا زوس، يا من تحكم من أيدا، أيها الأمجد، أيها الأعظم، من كان من هذين سببا في جلب المتاعب لكلا الشعبين، فاحكم عليه بالموت والدخول إلى بيت هاديس، بينما دعنا نحن نرتع في الصداقة ومواثيق الإخلاص.»
وجعل هكتور العظيم، ذو الخوذة البراقة، يهز الخوذة، وهو ينظر خلفه لفترة من الوقت، وسرعان ما وثب «باريس» خارجا. عندئذ اصطف القوم جلوسا، كل واحد حيث يوجد حصانه الواسع الخطى، وحيث توجد درعه المطعمة، وارتدى ألكساندر العظيم، زوج هيلينا ذات الشعر الجميل، دروعه الفاخرة حول منكبيه، ثم غطى ساقيه بدرعيهما الجميلين المطعمين بقطع من الفضة عند الركبتين. وبعد ذلك ارتدى درع شقيقه «لوكاون» حول صدره، وثبتها جيدا، وألقى حسامه البرونزي المطعم بالفضة على كتفه، ثم درعه الكبيرة المتينة ووضع فوق رأسه خوذة قوية الصنع ذات خصلة من ذيل حصان - فكانت الخصلة تطل من الأمام بشكل مخيف - ثم تناول رمحا صلبا ملائما لقبضته. وبنفس هذه الطريقة لبس «مينيلاوس» الجسور عدة الحرب.
وبعد أن سلحا نفسيهما، على جانبي الحشد، سارا نحو الشقة الحرام الفاصلة بين الطرواديين والآخيين، والشرر يتطاير من أعينهما، فاستولت الدهشة على الناظرين من الطرواديين مستأنسي الخيول، والآخيين المدرعين جيدا، ثم اتخذ كل منهما وقفته متقاربين في المسافة، يلوحان برمحيهما كل إلى الآخر في غضب. فقفز ألكساندر برمحه أولا، مصوبا ضربة إلى درع ابن أتريوس، تلك الدرع المستديرة المتزنة من كل جانب، فلم يخترقها الرمح الطويل، ولكن طرفه انثنى فوق الترس القوي. وإذ ذاك هجم ابن أتريوس، مينيلاوس، برمحه، وهو يصلي لأبيه زوس قائلا: «أي زوس، مليكنا، هب لي أن أنتقم منه جزاء ما اقترفت يداه في حقي، أنتقم من ألكساندر العظيم، وأن تخضعه تحت قبضة يدي، كي ترتجف الأجيال القادمة لمجرد التفكير في الإساءة إلى المضيف الذي أظهر للضيف صداقته!»
وما إن تكلم، وأصلح من اتزان رمحه الطويل الظل، حتى قذف به مصوبا الضربة إلى ترس ابن بريام المتزن جيدا من كل جانب. فنفذ الرمح من الترس اللامع، ثم خلال درع صدره المرصعة بالأحجار الثمينة، ومرق إلى عباءته المدرعة عند جانبه، ولكنه انتحى مسرعا إلى جنب، فنجا من المصير الأسود! عندئذ شهر ابن أتريوس سيفه المرصع بالفضة، ورفع نفسه إلى فوق، كي يضرب حافة خوذته، غير أن السيف تحطم فوقها إلى ثلاث قطع، لا، بل إلى أربع، ثم سقط من يده. وإذ ذاك، صاح ابن أتريوس صيحة مريرة، ناظرا إلى السماء المنبسطة إلى بعيد، قائلا: «أبي زوس! ليس هناك إله آخر أشد منك إيذاء. حقا لقد خيل إلي أنني انتقمت لنفسي من ألكساندر بسبب فجوره، ولكن ها هو سيفي يتحطم الآن في يدي، وقد طار من قبضتي دون جدوى، دون أن أجهز عليه!»
وما إن قال هذا، حتى وثب عليه وأمسك به من خوذته ذات خصلة شعر الخيل الغليظة، وألقى به إلى الأرض وشرع يجره صوب الآخيين المدرعين جيدا، فاختنق باريس بواسطة سير الخوذة الفاخر التطريز. المربوط بإحكام أسفل ذقنه الناعمة، والملتف حول عنقه البض. وكان مينيلاوس يسحبه بعيدا، ويحظى بانتصار لا يوصف، لولا أن أفروديت ابنة زوس، أبصرت به في الحال، ولكي تنقذ «باريس»، قطعت السير المصنوع من جلد الثور إلى نصفين، فبقيت الخوذة خاوية في يد «مينيلاوس» القوية، وعندئذ طوح بها إلى جموع الآخيين المدرعين جيدا، فالتقطها زملاؤه المخلصون. أما هو نفسه فقفز إلى الوراء من جديد، تواقا إلى قتل عدوه بالرمح البرونزي. ولكن أفروديت اختطفته بسرعة بقدرة الربة، وأخفته في غمامة كثيفة من الضباب، ثم وضعته في غرفته المعطرة، ذات القبو.
هيلينا وباريس!
وذهبت أفروديت بنفسها لتستدعي هيلينا. فألفتها فوق الحائط المرتفع، ومن حولها نساء طروادة جماعات. فأمسكت الربة بثوبها العبق، وجذبته، وتكلمت إليها متخذة صورة امرأة عجوز ممن يغزلن الصوف كانت تهيئ لها الصوف الناعم إبان وجودها في لاكيدايمون، وكانت تحبها حبا جما. وفي صورتها تكلمت أفروديت الفاتنة، فقالت: «تعالي إلى هنا إن ألكساندر يدعوك لتذهبي إلى بيتك. إنه هناك في غرفته، مستلقيا فوق سريره المطعم، يتألق جمالا وبهاء. لم تكوني لتصدقي أنه سيعود بحال ما من قتال عدوه، ولكنك سوف تجدينه كما لو كان ذاهبا إلى المرقص، أو عائدا لتوه بعد أن كف عن الرقص».
وإذ قالت هذا، حركت قلب هيلينا في صدرها، فلما أبصرت جيد الربة الأتلع ، وصدرها الجميل، وعينيها البراقتين، استولى عليها الذعر فخاطبتها بقولها: «أيتها الربة الغريبة الأطوار، لماذا عولت على خداعي بهذه الكيفية؟ - بعد أن رأيت كيف هزم مينيلاوس ألكساندر العظيم، واعتزم أن يصحبني، أنا البغيضة، إلى بيته - لن تتردي في أن تقوديني إلى مكان ناء بإحدى المدن المكتظة بالسكان، في فروجيا أو مايونيا الجميلة، لو وجدت لي هناك عاشقا عزيزا عليك من البشر! ... لهذا جئت الآن بنية سيئة! فاذهبي إذن اجلسي إلى جوار «باريس» واتركي طريق الآلهة، ولا تجعلي قدميك تحملانك بعد الآن إلى أوليمبوس بل احملي الهموم من أجل «باريس»، واحرسيه إلى أن يتخذك زوجته، أو ربما جاريته، ولكني لن أذهب إلى هناك، فقد كان من العار أن أرتب فراش ذلك الرجل، ولسوف تنحي نساء طروادة جميعا علي باللائمة، فضلا عن أن آلام قلبي لا حد لها.»
ثارت ثائرة أفروديت، فقالت: «لا تستفزيني، أيتها المرأة الطائشة، لئلا يتملكني الغضب فأهجرك، وأبغضك بقدر فرط حبي لك الآن، أو أدبر الكراهية المحزنة بين الطرواديين والدانيين على السواء، وعندئذ تلاقين شر ميتة تعسة.»
وإذ قالت هذا، استبد الخوف بهيلينا المنحدرة من زوس، فمضت صامتة وراء الربة، وقد التفت بعباءتها اللامعة المتألقة، فلم تبصرها النساء الطرواديات والربة تقودها إلى الطريق.
وعندما بلغتا الآن قصر ألكساندر الجميل، انهمكت الخادمات فورا في أعمالهن. أما هي، الغادة الحسناء، فصعدت إلى الحجرة ذات السقف المرتفع، حيث أحضرت لها الربة، أفروديت المحبة للضحك، مقعدا ووضعته تجاه ألكساندر. فجلست هيلينا، ابنة زوس حامل الترس، ونظرت إلى ألكساندر شزرا بعينيها، وأنبت زوجها قائلة: «لقد عدت من الحرب! ليتك هلكت هناك. وصرعك الرجل الشجاع، الذي كان سيدي السابق، إنك كنت تزهو فيما مضى بأنك أفضل من مينيلاوس، العزيز لدى «أريس»، بقوة يديك، وبرمحك، ولكن أتجرؤ الآن على الذهاب، لتتحدى من جديد «مينيلاوس» العزيز لدى «أريس»، كي يشتبك معك في قتال، رجل لرجل؟ لا، إنني، من تلقاء نفسي، آمرك بالإحجام، وألا تتعجل بمحاربة مينيلاوس الجميل الشعر، ولا تتقاتل معه بحماقتك، خشية أن تلقى حتفك سريعا برمحه!»
عندئذ تحدث إليها باريس، قائلا: «سيدتي، رفقا بقلبي، من التأنيب بكلمات التعبير القاسية، فلقد هزمني مينيلاوس، بمساعدة أثينا، ولكني سوف أقضي عليه في فرصة أخرى؛ لأن هناك آلهة تقف إلى جانبي. تعالي، هيا نأخذ حظنا من المتعة، فنضطجع معا ونرتوي من لذات الحب، فلم يسبق لي أن اجتاحتني مثل هذه الرغبة، كلا، ولا حتى عندما خطفتك أولا من «لاكيدايمون» الجميلة، في سفني ماخرة البحار، وفي جزيرة «كراناي» نعمت بمقاسمتك فراش الحب، والآن، تتملكني نفس الرغبة الجامحة والغرام الجارف.»
وإذ قال ذلك، سار أمامها إلى الفراش فتبعته.
إنذار «أجاممنون» لطروادة!
وهكذا اضطجع كلاهما فوق الفراش المصنوع من الحبال، بينما كان ابن أتريوس يجوس خلال الجموع كوحش ضار، يود أن يقع بصره على ألكساندر الجميل في أي مكان! ولكن ما من أحد من الطرواديين أو حلفائهم المشهورين استطاع أن يدل مينيلاوس، العزيز لدى «أريس»، على مكان ألكساندر - والحق أنهم لم يرغبوا في إخفائه لو استطاع أحدهم أن يراه؛ لأن الجميع كانوا يمقتونه مقتهم للموت الأسود! - وعندئذ تكلم أجاممنون، ملك البشر، وسط حشدهم، قائلا: «اسمعوا ما أقول أيها الطرواديون، والدردانيون، ويا أيها الحلفاء، إنما النصر الآن من نصيب مينيلاوس، دون شك. فهل لكم إذن أن تسلموا هيلينا الأرجوسية، وما معها من أموال، وتدفعوا التعويض المناسب، بالقدر الذي لن تنساه الأجيال المقبلة؟!»
تمثال رائع بمتحف «الفاتيكان» من صنع الفنان الإيطالي «كونوفا» وهو يمثل برسيوس، أحد أبناء كبير الآلهة زوس.
هكذا تكلم ابن أتريوس، فصاح جميع الآخيين مؤمنين على قوله.
الأنشودة الرابعة
«بهذه الكيفية اندفعت «أثينا» إلى الأرض، وقفزت هابطة بين الجيشين فتملكت الدهشة جميع من رأوها من الطرواديين والآخيين ...»
كيف جرح «بانداروس» الملك «مينيلاوس» بالغدر والخديعة! وكيف استحث «أجاممنون» كبار ضباط جيشه على القتال ... إلخ.
اجتماع الآلهة
جلس الآلهة الآن بجانب زوس، يعقدون اجتماعا فوق أرض قصرهم الذهبية، وكانت «هيبي»
1
الجليلة في وسطهم تصب لهم النكتار، وهم يشربون في أقداحهم الذهبية. كل واحد نخب الآخر، وينظرون إلى مدينة الطرواديين. وسرعان ما تكلم ابن كورنوس ليثير غضب «هيرا» بعبارات التهكم، فقال بخبث: هناك اثنتان من الربات يحظى «مينيلاوس» بمساعدتهما: «هيرا» الأرجوسية، «وأثينا» الألالكومينية.
2
ومع ذلك فإنهما بمنأى عن المعمعة، وتتمتعان بمشاهدة ما يجري. بينما تقف أفروديت، محبة الضحك دائما، لتبعد عن باريس حتفه؛ فقد أنقذته عندما اعتقد أنه لا بد هالك.
وهكذا، في كل مرة، كان النصر حليف مينيلاوس، العزيز لدى «أريس». وإذن فعلينا أن نقرر كيف ينبغي أن تسير الأمور: «هل نثير من جديد الحرب الشريرة وصخر القتال المفزع، أم نقيم الصداقة بين الجيشين؟ فإذا راق هذا الحل الأخير في عين الجميع، واغتبطوا به، تعين أن تبقى مدينة الملك بريام قائمة كموطن، وأن يسترد مينيلاوس هيلينا الأرجوسية.»
وإذ قال هذا، تهامست «أثينا» و«هيرا» اللتان كانتا تجلسان متجاورتين، وكانتا تحيكان السوء للطرواديين. والحقيقة أن أثينا لاذت بالصمت فلم تنبس ببنت شفة، رغم غضبها من الأب زوس غضبا شديدا سرى بين حناياها. ومع أنه لم يكن بصدر هيرا ما يعادل غضبها، إلا أنها تحدثت إليه قائلة: «يا ابن كرونوس، المهيب للغاية، ما هذا الذي تقول؟ كيف تعتزم أن تتسبب في ضياع تعبي هباء منثورا فلا يكون له أدنى أثر، هو والعرق الذي أفرزته في كدي؟ نعم، بل وتعب جوادي اللذين وهنت قوتهما حين أخذت على عاتقي مهمة حشد الجيش لجلب الهلاك على «بريام» وأبنائه؟ إن لك أن تفعل ما تشاء، ولكن لتثق بأننا، نحن الآلهة الآخرين، لا نوافقك على هذا ألبتة!»
عند ذلك استشاط زوس غضبا، فخاطبها قائلا: «أيتها الملكة الغريبة الأطوار، ماذا جلب عليك بريام وأبناء بريام من أضرار حتى تثوري وتضطربي، وتوطدي العزم على تخريب قلعة طروادة المتينة البناء؟ لو قدر لك أن تدخلي من الأبواب والحوائط العالية، وتأكلي بريام نيئا، وأبناء بريام، وجميع الطرواديين إلى جانب هؤلاء، إذن لأمكنك أن تشفي غليلك وتطفئي من غضبك . فافعلي ما يحلو لك ولا تجعلي هذا النزاع يصبح على مر الزمن سببا للعراك بيننا. كما أنني أود أن أقول لك شيئا، وأرجو أن تحفظيه دائما في قلبك: فلو اجتاحني شوق جارف إلى تخريب إحدى المدن، واخترت مدينة يسكنها أناس أعزاء لديك، فحذار أن تقفي في طريق غضبي قط، بل لتتحملي هذا الغضب؛ لأنني بدوري قد رضخت لرغبتك بمحض إرادتي، ولكن بنفس غير راضية. ذلك أن طروادة، هي من دون جميع المدن الواقعة تحت الشمس أو تحت السماء الزاخرة بالنجوم، والتي يقطنها البشر على ظهر الأرض، أقول إن طروادة المقدسة هي أكثر هذه المدن حظوة بالتبجيل في قلبي، وكذا بريام، وقوم بريام، ذوو السهام الجيدة المصنوعة من خشب الدردار؛ لأن مذبحي لم يفتقر قط إلى وليمة فاخرة من التقدمات والشراب، ونكهة الذبائح المحترقة، ولا حتى إلى طقوس العبادة المفروضة لي.»
عندئذ تحدثت هيرا الجليلة، ذات عيون المها، فأجابته بقولها: «الحق أن لي ثلاث مدن أعزها أكثر من غيرها، وهي أرجوس وأسبرطة وموكيناي الفسيحة الطرقات، فلك أن تخرب هذه المدن إن أصبحت بغيضة إلى نفسك ولن أقف للدفاع عنها أو أحسب لها حسابا كبيرا؛ فرغم أنني عندئذ سوف أحقد عليك، وأهم بالاعتراض على تخريبها، إلا أن حقدي لن يجديني نفعا، فإنك أنت الأقوى بمراحل. كما أنه يبدو لي أنه لا يجب أن يذهب تعبي هباء فلا تكون له نتيجة؛ لأنني بدوري ربة، ومولدي من نسبك؛ إذ أنجبني كرونوس ذو المشورة الملتوية كأمجد بناته في الحكمة المزدوجة، لأنني كبراهن سنا، كما أنني زوجتك أنت يا ملك جميع الخالدين. إذن هيا نعقد هدنة فيما بيننا بشأن هذا الأمر: أنا أذعن لك وأنت تذعن لي، ومن ثم يحذو حذونا غيرنا من سائر الآلهة الخالدين. فلتأمر الآن «أثينا» بأن تشق طريقها وسط الصخب المفزع للمعركة الدائرة بين الطرواديين والآخيين، وتدبر وسيلة ليكون الطرواديون هم البادئين بنكث عهودهم وإيذاء الآخيين الفرحين بظفرهم!»
هكذا قالت، ولم يفت أبا البشر والآلهة أن يصغي إليها، وفي الحال خاطب أثينا بكلمات مجنحة قائلا: «اذهبي، بكل ما أوتيت من سرعة، إلى الجيش - بين الطرواديين والآخيين - ودبري وسيلة كي يبدأ الطرواديون بنكث عهودهم وإنزال الأذى بالآخيين المنغمسين في نشوة ظفرهم.»
نقض الهدنة!
وما إن قال هذا حتى حث أثينا التي كانت تتوق إلى القيام بهذه المهمة، فانطلقت هابطة من قمم أوليمبوس، بالسرعة التي يرسل بها ابن كرونوس ذو المشورة الملتوية، نجما منذرا للبحارة أو لجيش جرار من المقاتلين، نجما متلألئا ينبعث منه الشرر غزيرا، فبهذه الكيفية اندفعت «أثينا» إلى الأرض، وقفزت هابطة بين الجيشين، فتملكت الدهشة جميع من رأوها من الطرواديين مستأنسي الخيول والآخيين المدرعين جيدا، فنظر كل واحد إلى جاره وكأنه يقول: «أحقا سنشتبك معا من جديد في حرب فظيعة وقتال مروع، أم أن الصداقة ستقوم بين الجيشين وزوس، الذي يعتبره البشر مدبر القتال؟»
هكذا راح الكثيرون من الآخيين والطرواديين يتحدثون. بيد أن أثينا دخلت بين جموع الطرواديين في صورة «لاودكوس»، ابن «أنتينور»، حامل الرمح الصنديد، تطلب «بانداروس»، شبيه الآلهة، ولكنها وجدت ابن «لوكاون» الشجاع المنقطع النظير، واقفا، ومن حوله الصفوف المتراصة من المقاتلين حاملي التروس، الذين تبعوه من مجاري نلر «إيسييوس» المائية؛ فاقتربت منه ووجهت إليه هذه الكلمات المجنحة: «أيمكن أن تصغي إلي الآن يا ابن «لوكاون» الحكيم القلب؟ وهل تجرؤ على إطلاق سهم سريع على «مينيلاوس»، فتحظى بالتقدير والشهرة في عيون سائر الطرواديين، ولا سيما في عيون الملك «ألكساندر»، الذي ستنال منه، بل تأكيد، هدايا رائعة أمام جميع الآخرين، إذا أبصر مينيلاوس بن أتريوس المحب للقتال، مجندلا بسهمك، وموضوعا فوق كومة الحطب الجنائزية؟ نعم، هيا، وصوب سهمك نحو مينيلاوس المجيد، وتعهد لأبولو، المولود في «لوكيا»، والمشهور بقوسه، بأنك سوف تقدم ذبيحة مئوية عظيمة من الحملان الصغيرة عندما تعود إلى وطنك، مدينة «زيلايا المقدسة».»
هكذا تكلمت أثينا، فأثارت قلب «ابن لوكاون» في حماقته، وفي الحال نزع الغطاء عن قوسه اللامعة المصنوعة من قرن وعل بري، كان قد ضربه تحت صدره وهو مقبل من وراء صخرة، بعد أن كمن له حتى ظهر، فصوب الضربة إلى صدره، وإذ ذاك سقط إلى الوراء داخل شق في الصخرة، وقد ظهرت من رأسه قرون طولها ست عشرة راحة. فتناول القرون رجل ماهر في صناعة الأقواس، وثبتها معا وصقلها وكسا أطرافها بالذهب، وأمسك ابن لوكاون بالقوس، ولواها وهو متكئ على الأرض وأمسك رفاقه الشجعان بتروسهم ووقفوا أمامه، حتى لا يثب أبناء الآخيين المحاربون على أقدامهم لنجدة مينيلاوس كي لا يصاب ابن أتريوس المقاتل. وبعدئذ فتح غطاء جعبته وأخرج سهما، سهما مجنحا لم يسبق إطلاقة قط، سهما مشحونا بالآلام القاتمة، وفي الحال ثبت السهم القاسي إلى الوتر، ونذر نذرا لأبولو، الرب الذئبي المولد، الشهير بقوسه؛ أنه سوف يقدم ذبيحة مئوية عظيمة من الحملان الصغار، عندما يعود إلى وطنه، مدينة زيلايا المقدسة. ثم جذب القوس، ممسكا في الوقت نفسه بالسهم المشحوذ، وبالوتر المصنوع من عروق الثور. جذب الوتر حتى بلغ صدره، ووضع رأس السهم الحديدي في القوس. بيد أنه ما إن لوى القوس العظيمة في شكل دائرة، حتى رنت القوس، وترنم الوتر عاليا، وقفز السهم الحاد، تواقا إلى أن يشق طريقه وسط الحشد!
عندئذ، وا مينيلاوساه! لم يكن الآلهة المباركون، الخالدون، لينسوك. وأمام الجميع هبت ابنة زوس، التي تسوق الغنيمة، والتي كانت تقف أمامك، وأبعدت السهم النافذ. لقد أبعدته عن اللحم، كما تطرد الأم ذبابة عن عيني طفلها الغارق في نوم عذب. وساقته بنفسها إلى حيث كانت خطاطيف الحزام الذهبية مثبتة، والدرع الصدرية تغطي طرف الدرع السفلي، فتلألأ السهم المميت فوق الحزام المثبت بإحكام، وانغرس داخل الحزام الفاخر الترصيع، ثم شق طريقه بقوة إلى الدرع العجيبة الصنع، ثم إلى الدرقة التي كان يلبسها وقاية لجسمه، وحاجزا ضد الرماح، لتكون أهم وسائل دفاعه. ورغم ذلك، فقد نفذ السهم داخل تلك الدرقة واخترق لحم المحارب الخارجي، فتدفق الدم القاتم في الحال من الجرح.
وكما تصبغ السيدة العاج باللون الأحمر القاني، أي سيدة من مايونيا أو كاريا، لتصنع وقاية لأصداغ الخيل، تترك بمخزن المهمات، بينما يتوسل كثير من الفرسان لارتدائها، ولكنها تترك هناك لتكون حلية لجواد ملك، وزهوا لسائقه، هكذا كانت فخذاك، يا مينيلاوس، ملطختين بالدماء، فخذاك المفتولتان وساقاك وعقباك في أسفلهما!
عندئذ ارتجف ملك البشر، أجاممنون ؛ إذ رأى الدم القاتم يتدفق من الجرح، وكذلك اضطرب مينيلاوس نفسه، العزيز لدى «أريس». غير أنه عندما أبصر طرف السهم بلا لحم، عادت روحه ثانية إلى صدره. فأمسك أجاممنون مينيلاوس بيده وتكلم وسط الجموع، وصوته يتهدج ثقيلا، كما كان رفقاؤه يئنون، فقال: «أخي العزيز، يبدو لي أنني نذرت تلك الذبيحة من أجل موتك، وعرضتك وحدك في مقدمة الآخيين لتقاتل الطرواديين، الذين أصابوك بهذه الطريقة، وداسوا بأقدامهم عهود الإخلاص. ومع ذلك فلا يوجد نذر قط بغير أثر، وكذلك دماء الحملان وسكائب الشراب من الخمر الصافية، ومصافحة الأكف التي بمقتضاها ضمنا ثقتنا فيهم؛ فإنه حتى إذا كان الأوليمبي لم يحقق الرجاء حتى الآن، إلا أنه سوف يحققه فيما بعد، وسيكفر الناس غاليا، إما برءوسهم أو بزوجاتهم أو بأطفالهم! لأنني متأكد من هذا في قلبي وروحي، سيأتي اليوم الذي تسقط فيه طروادة، وكذا بريام وشعب بريام، ذوو الرماح الجيدة المصنوعة من خشب الدردار. وسوف يقوم زوس بن كرونوس، الجالس فوق عرشه عاليا، والساكن في السموات، وينثر بنفسه فوقهم كل مصائبه القائمة، غاضبا من هذه الخديعة. حقا، لا بد أن تتحقق هذه الأمور. ومع ذلك، فإذا قدر لك أن تموت وينقضي أجلك من الحياة، فإن حزنك العميق سيكون حزني، يا مينيلاوس، وأعود كأحقر إنسان إلى أرجوس الظامئة؛ لأن الآخيين سرعان ما سوف يتذكرون وطنهم، وعندئذ يجب علينا أن نترك لبريام والطرواديين فخرهم، وكذا هيلينا الأرجوسية. أما عظامك فسوف تبليها التربة وأنت راقد في أرض طروادة دون أن تتم رسالتك، وعلى ذلك سوف يقول كثير من الطرواديين المتغطرسين وهم يقفزون فوق قبر مينيلاوس المجيد: «ليت الأمر يكون هكذا في كل شأن حتى يتحقق لأجاممنون غضبه، كما حدث أن قاد إلى هنا جيشا من الآخيين لغير ما هدف، وا حسرتاه! لقد رحل إلى وطنه العزيز بسفن خاوية، تاركا هنا مينيلاوس النبيل.» هكذا سيتقول بعض الناس فيما بعد، عندئذ أتمنى أن تنشق الأرض الفسيحة وتبتلعني.»
ولكن مينيلاوس الجميل الشعر تكلم وشجعه قائلا: «ليكن فرحك عظيما، ولا تفرغ جيش الآخيين بأية حال، فإن السهم لم ينفذ في موضع قاتل؛ إذ أوقفه حزامي المتألق، وكذا طرف الدرقة تحته، والدرع التي صنعها النحاسون.»
عندئذ رد عليه الملك أجاممنون بقوله: «ليت الأمر كذلك يا عزيزي مينيلاوس، ولكن الطبيب سوف يفحص الجرح ويضع فوقه الحشائش الطبية التي تشفيه، فتكف بذلك آلامك الممضة.»
ثم تحدث إلى «تالثوبيوس»، الرسول الشبيه بالآلهة، قائلا: «أي تالثوبيوس، عجل باستدعاء «ماخاون»، ابن إسكليبيوس، ذلك الطبيب العظيم، ليرى المحارب مينيلاوس بن أتريوس، الذي أصابه سهم شخص متمرن على الرماية، طروادي أو لوكي، فنال المجد لنفسه، وجر علينا الأحزان.»
هكذا قال أجاممنون، ولم يحجم الرسول عن الإصغاء وهو يستمع، فانطلق في طريقه عبر جيش الآخيين ذوي الحلل البرونزية، يطل هنا وهناك، باحثا عن المحارب ماخاون، فأبصر به واقفا، ومن حوله الصفوف المتراصة من الجيوش حاملة التروس التي تبعته من تريكا، مرعى الخيول، فتقدم إليه وخاطبه بكلمات سريعة قائلا: «انهض يا ابن إسكليبيوس، إن الملك أجاممنون يستدعيك لترى مينيلاوس المحارب، قائد الآخيين، الذي أصابه بسهم رجل ما، بارع في الرماية، طروادي أو لوكي، فنال بذلك المجد، وجر علينا الآلام.»
وإذ قال ذلك، حرك قلبه في صدره، ثم انطلقا في طريقهما بين الجموع وسط جيش الآخيين، العريض، فلما بلغا مكان مينيلاوس الجميل الشعر، الجريح، وقد احتشد حوله جميع القادة في دائرة، أقبل البطل شبيه الإله ووقف في وسطهم، وفي الحال جذب السهم من الحزام المربوط، وبينما كان السهم يجذب، تحطمت الأشواك الحادة الخلفية لسن الرمح. ثم فك الحزام اللامع والدرقة التي تحته والدرع الواقي الذي صنعه النحاسون. وما إن رأى الجرح الذي كان به السهم الحاد، حتى مص الدم، وبخبرة أكيدة نثر عليه العقاقير الملطفة، التي كان «خايرون» قد أعطاها لوالده، بنية طيبة منذ زمن بعيد.
وبينما هم مشغولون هكذا مع مينيلاوس، البارع في صيحة الحرب ، إذ أقبلت صفوف الطرواديين حاملي الدروع فأسرع الآخيون يرتدون عدتهم الحربية ثانية، ووطدوا العزم على الحرب.
أجاممنون يستعرض جيوشه!
عندئذ، ما كنت ترى الملك أجاممنون نائما ، أو مستلقيا، أو عديم الاهتمام بالقتال، بل كان متقد الحماس للقتال الذي ينال به الرجال أكاليل الغار. لقد خلى عنه جياده وعربته المزخرفة بالبرونز، وتركها في عهدة خادمه «يوروميرون»، ابن بطليموس بن بيرايوس، الذي فصل كلا من الجوادين المزمجرين عن الآخر، وأمره أجاممنون بأن يحتفظ بهما قريبا منه، حتى يلجأ إليهما إن تعبت قدماه وهو يصدر أوامره في جميع جهات الجيش، ويطوف على قدميه خلال صوف المحاربين. وكلما رأى أحدا من الدانيين مع جياده السريعة تواقا إلى القتال. كان يقترب منه، ويشجعه بحماس قائلا: «أي أهل أرجوس، حذار أن تفتر عزيمتكم المتوقدة قيد شعرة، فلن يكون أبوكم زوس معينا للمنافقين، كلا فإن من يبدءون باقتراف العنف إنما ينكثون عهودهم، ولسوف تنهش جوارح الطير لحمهم الغض، بكل تأكيد، كما أننا سوف نحمل زوجاتهم العزيزات وأطفالهم، في سفننا، بعد أن نستولي على حصنهم.»
وكل من كان يراه محجما عن الحرب الكريهة، كان يوبخه بعبارات غاضبة قائلا: «يا أهل أرجوس، يا من تحاربون بالقوس يا رجال الخزي والعار، ألا تخجلون؟ ما وقوفكم هكذا، زائغي الأبصار، كالظباء التي عندما ينهكها العدو فوق السهل الفسيح تقف في مكانها، مجردة من الشجاعة؟ هكذا تقفون زائغي الأبصار لا تقاتلون. أتنتظرون الطرواديين حتى يقتربوا إلى حيث توجد سفنكم الراسية فوق الشاطئ بمؤخراتها العظيمة، فوق شاطئ البحر السنجابي، كي تعرفوا ما إذا كان ابن كرونوس سيمد لكم يد العون؟»
هكذا كان يطوف، ويصدر أوامره بين صفوف المحاربين، حتى بلغ مكان الكريتيين وهو يجول خلال جموع الرجال. وكان هؤلاء مسلحين أنفسهم للحرب حول «أيدومينيوس» الحكيم القلب، وكان أيدومينيوس يقف وسط أوائل المحاربين، كالخنزير البري في شجاعته، بينما كان «ميريونيس» يتولى قيادة فرق المؤخرة. فلما رآهم أجاممنون، ملك البشر، زاد سروره، وعندئذ تحدث إلى أيدومينيوس بعبارات رقيقة فقال: «أي أيدومينيوس، يا من تفوق جميع الدانيين ذوي الجياد السريعة، إنني أبدي لك إجلالي وتقديري، في الحرب، وفي الأعمال الأخرى، وفي الولائم، عندما يخلط زعماء الأرجوسيين الخمر المتألقة في الطاس. فبينما أرى غيرك من الآخيين ذوي الشعر المسترسل، يشرب قدرا محدودا، فإن كأسك تظل دائما ممتلئة تماما، مثل كأسي أنا، فتشرب كلما تاق قلبك إلى الشراب. هيا، انهض من أجل المعركة، لتكون ذلك الرجل الذي طالما كنت تفخر بأنك هو.»
فرد عليه أيدومينيوس، قائد الكريتيين، قائلا: «يا ابن أتريوس، ما من شك في أنني سأكون لك رفيقا مخلصا، كما وعدتك تماما في أول الأمر، وقدمت لك عهدي، ولكن هل لك أن تحث غيرنا من الآخيين الطويلي الشعر، كي نقاتل بسرعة، طالما لم يحفظ الطرواديون عهودنا؟ لسوف يكون الموت والمحن نصيبهم بعد الآن؛ لأنهم كانوا البادئين بنكث العهود!»
وإذ قال هذا، تركه ابن أتريوس مسرور القلب، وذهب إلى «الأيانتيس»
3
إبان تجواله خلال حشد المقاتلين. وكان هذان يسلحان نفسيهما للمعركة، ويتبعهما جمع كثيف من المشاة. وكما يحدث عندما يبصر راعي المعيز من مكان المراقبة، سحابة آتية فوق وجه البحر العميق قبل هبوب الريح الغربية، فتبدو له، لبعدها، أشد سوادا من القار وهي تعبر وجه اليم جالبة في أثرها ريحا عاتية؛ ومن ثم ترتعد فرائصه لمرآها، فيسوق قطيعه إلى داخل كهف، كذلك حدث الشيء نفسه مع «الأيانتيس». كانت الفرق الضخمة من الشباب الذين نشأهم «زوس» وتألقت حللهم بالتروس والرماح، تتحرك متأهبة للحرب الثائرة. فلما أبصرهم الملك أجاممنون، زادت غبطته، وخاطبهم بعبارات مجنحة، قائلا: «أيها المحاربون، يا قائدي الأرجوسيين ذوي الدروع البرونزية، لن أصدر إلى كليكما أي أمر؛ لأنه يبدو لي أنكما لستما بحاجة إلى الحث فقد أمرتما من تلقاء نفسيكما جميع شعبيكما بالقتال في الحال. أي أبي زوس، ويا أثينا، ويا أبولو، كم كنت أتمنى أن تكون مثل هذه الروح في صدور الجميع، فعندئذ كانت مدينة الملك بريام تطأطئ رأسها، فنستولي عليها ونخربها بأيدينا.»
وما إن قال هذا، حتى تركهما هناك، وذهب إلى غيرهما. فوجد «نسطور» خطيب «البوليين» ذا الصوت الجلي، ينظم رفاقه ويحثهم على القتال، حول «بيلاجون» القوي و«ألاسطور» و«خروميوس» و«هايمون» السيد و«بياس»، راعي الجيش. فنظم سائقي العربات أولا مع جيادهم وعرباتهم، ومن ورائهم المشاة في جموع غفيرة قوية؛ ليكونوا جسم الجيش الذي يصد الأعداء. أما الجبناء فقد وضعهم في الوسط، حتى يضطر كل واحد منهم لأن يقاتل مجبرا. وهكذا كانت المهام الأولى تقع على كاهل سائقي العربات، فأمرهم بأن يحتفظوا بخيولهم بالقرب منهم، وألا يحدثوا ضجيجا وهم يسوقونها وسط الجموع، وقال: «لا تدعوا أحدا ينفرد بالقتال مع الطرواديين، معتمدا على فروسيته وشجاعته، كما لا تدعوه يتقهقر، وإلا ضعفت قوتكم، ولكن من استطاع منكم، وهو في عربته، أن يقترب من عربة للعدو، فله أن يطعن برمحه في الحال؛ لأن هذا في الحقيقة أفضل بكثير؛ فبهذه الطريقة خرب رجال الزمن الغابر المدن والأسوار؛ إذ كانت لهم عقول وأرواح كهذه في صدورهم».
هكذا كان الرجل العجوز يحثهم، وكان على علم بأفانين القتال منذ زمن بعيد. فلما أبصره الملك أجاممنون، اغتبط وخاطبه بعبارات رقيقة قائلا: «سيدي العجوز، أتمنى أن تطيع ساقاك القلب الذي يضمه صدرك، وتبقى لك قوتك، بيد أن الشيخوخة الشريرة تضغط عليك ضغطا شديدا. يا حبذا لو كانت سنو حياتك لأحد غيرك من المحاربين، وكنت أنت في عداد الشبان!»
عندئذ رد عليه الفارس «نسطور» الجيريني قائلا: «يا ابن أتريوس، حقا أنني أنا نفسي كنت أتمنى أن أكون ذلك الرجل الذي كنته يوم قتلت «إيريوثاليون» العظيم، ولكن الآلهة لا تمنح البشر كل شيء في وقت واحد، بأية حال من الأحوال. فيومئذ كنت فتيا، أما الآن فقد أدركتني الشيخوخة. ومع ذلك فسأبقى وسط سائقي العربات، وأحثهم بالنصائح والألفاظ؛ لأن هذه هي مهمة الشيوخ. أما الرماح فسيحملها الشبان الذين هم أغض مني إهابا ويثقون بقوتهم!»
وإذ قال ذلك مضى ابن أتريوس مسرور القلب، ووجد «مينيسثيوس» سائق الجياد، ابن بيتيوس واقفا، وحوله الأثينيون، سادة صرخة الحرب. وقريبا جدا منه وقف أوديسيوس الكثير الحيل، ومعه صفوف «الكيفالينيين»، الأقوام غير الضعفاء، وقد وقفوا مكتوفي الأيدي؛ لأنه لم يسبق لجيشهم أن سمع صيحة الحرب، ورأوا كتائب الطرواديين مستأنسي الخيول، والآخيين، قد بدءوا يتحركون منذ فترة وجيزة، فوقف أولئك، وانتظروا ريثما تتقدم بعض فرق الآخيين الكثيفة الأخرى، فتهجم على الطرواديين، ثم يشرعون في القتال. فلما رآهم أجاممنون، ملك البشر، أنبهم وخاطبهم بعبارات قوية، فقال: «يا ابن بيتيوس، الملك المنحدر من زوس، وأنت يا من تفوق الجميع في الحيل الشريرة، يا ذا العقل الماكر، لم تقفان هكذا في تراخ، وتنتظران الآخرين؟ كان الأجدر بكما أن تتخذا موقفكما بين الصفوف الأولى، وتواجها المعركة المستعرة الأوار؛ لأنكما أول من يلبي دعوتي إلى الوليمة كلما أعددنا، نحن معشر الآخيين، وليمة للشيوخ. عندئذ يلذ لكما أن تأكلا لحما مشويا، وتعبا أقداحا من الخمر الحلوة كيفما طاب لكما أن تنهلا، ولكن هل يطيب لكما الآن أن تقنعا بموقف المتفرج، إذا قاتلت أمامكما عشر فرق كثيفة من الآخيين، بالبرونز الذي لا يرحم؟»
عندئذ خاطبه «أوديسيوس»، وقد حدجه بنظرة غضب من تحت حاجبيه، فقال: «أيا ابن أتريوس، ما هذه الكلمة التي أفلتت من بين شفتيك؟ كيف تقول إننا متراخون في القتال، بينما نحن الآخيين نثيرها حربا ضروسا ضد الطرواديين، مستأنسي الخيول؟ لسوف ترى والد «تيليماخوس» لو طاب لك واهتممت بذلك، وهو مندمج مع أوائل المحاربين الطرواديين، مستأنسي الخيول. إن ما تقوله لأشبه بالرمح الخاوية.»
فلما أدرك الملك أجاممنون أنه غاضب، تحدث إليه معتذرا عن كلامه قائلا: «يا ابن لايرتيس، المولود من زوس، أيا أوديسيوس الكثير الحيل، لست بمعنف لك أكثر مما يجب، ولن أحثك بعد الآن؛ لأنني أعلم أن بين جنبيك قلبا يعي أفكارا طيبة، لأنك تفكر دائما فيما أفكر فيه. هيا، تعال، حتى نصلح فيما بيننا هذه الأمور، فلو أن كلمة صارمة قد قيلت الآن، فإن الآلهة تستطيع أن تمحو أثرها فلا تسفر عن شيء.»
وما إن قال هذا حتى تركهما هناك وذهب إلى آخرين. فوجد ابن توديوس، «ديوميديس» الجريء القلب، واقفا بجوار جياده وعربته المربوطة إليها، وكان يقف إلى جانبه «ستينيلوس»، ابن «كابانيوس». فما إن رآه الملك أجاممنون حتى أنبه بكلمات مجنحة قائلا: «وا حسرتاه، يا بن توديوس الحكيم القلب، مستأنس الجياد، لم تجلس هكذا متراخيا ولا تلقي بنظرة إلى طرقات المعركة؟ إنه لمن المؤكد أن توديوس لم يكن يرغب في أن تظل هكذا متلكئا، بل تهرع في مقدمة الرفاق لمقاتلة العدو، كما يقول من شاهدوه وسط هول الحرب. فإنني لم أتقابل وإياه قط ولم أره، ولكن الناس يقولون إنه كان يبز الجميع. وقد أتى ذات يوم إلى موكيناي، لا كعدو بل كضيف، يصحبه «بولونايكيس» العظيم، ليجمعا جيشا؛ إذ كانا وقتذاك يشنان حربا على أسوار طيبة المقدسة، وكانا يصليان بحرقة عسى أن يمنحا حلفاء أمجادا. وقد بيت رجال «موكيناي» العزم على منحهما ما أرادا، وكانوا يأتمرون بأمرهما، غير أن زوس غير عقولهم بأن أظهر لهم طلائع النحس؛ ومن ثم فلما غادرا البلاد، وانطلقا في طريقهما. وبلغا أسوبوس حيث الغاب العميق الراقد بين الحشائش، أرسل الآخيون «تيديوس» في بعثة. فذهب في طريقه، ووجد أبناء «كادموس» العديدين يقيمون وليمة في بيت إيثيوكليس القوي. وبالرغم من أنه كان غريبا تماما بينهم، فإنه لم يخف، ومع كونه وحيدا وسط جمع الكادموسيين فإنه تحداهم جميعا في أعمال القوة، وبمنتهى السهولة هزم كل واحد منهم، وكانت أثينا تعينه في ذلك. بيد أن الكادموسيين، مستأنسي الخيول، غضبوا. وما إن سافر عائدا، حتى أعدوا له كمينا قويا، من خمسين شابا، ونصبوا عليهم قائدين: «مايون» ابن هايمون، نظير الخالدين. وابن أتوفونوس، «بولوفونتيس» الباسل في القتال، ولكن توديوس أنزل، حتى بهذين، مصيرا مخجلا، وقتل الجميع، باستثناء واحد فقط سمح له بالعودة إلى وطنه، وهو المدعو «مايون» وذلك إرضاء للآلهة. ذلك كان صنيع «توديوس» القادم من أيتوليا. أما الابن الذي أنجبه فهو أقل منه مرتبة في القتال، وإن كان يتفوق عليه في أمور أخرى.»
أصغى «ديوميديس» إلى هذه «الخطبة» من أجاممنون، فلم يعلق بكلمة، بل تقبل تأنيب الملك الوقور، باحترام، ولكن ابن كابانيوس المجيد رد عليه بقوله: «يا ابن أتريوس، لا تنطق بالكذب، حينما تعرف كيف تقول الصدق، إننا نعلن أننا رجال أفضل من آبائنا بكثير؛ فقد استولينا على مدينة طيبة ذات الأبواب السبعة، رغم أن جيشنا كان أقل عددا، وأسوار العدو كانت أقوى وأمنع، وما ذاك إلا لأننا أطعنا رغبات الآلهة، ووثقنا أن زوس سينجدنا، في حين أنهم هلكوا من جراء حماقتهم العمياء؛ لذا آمرك ألا تشبه آباءنا بنا أو تضعنا وإياهم في نفس المستوى.»
فقطب «ديوميديس» حاجبيه غاضبا، ونظر إليه وقال: «أيها الصديق الطيب، الزم الصمت، واستمع إلى كلامي. فلست أعده عارا أن يحث أجاممنون، راعي الجيش، الآخيين المدرعين جيدا، على القتال، فإنه سينال مجدا عظيما إذا قتل الآخيون الطرواديين واستولوا على طروادة المقدسة، كما أن حزنا عظيما سيحل به إذا قتل الآخيون. والآن، هيا نفكر كلانا في قيمتنا وحيويتنا الملتهبة.»
قال هذا ثم قفز من عربته إلى الأرض، في درعه، فأحدث البرونز صليلا مخيفا فوق صدر الأمير وهو يتحرك، صليلا من شأنه أن يثير الرعب في قلب كل جسور!
بدء المعركة
وكما يضرب البحر الثائر الشاطئ الصاخب، موجة بعد موجة. مسوقا بالريح الغربية. فترفع الأمواج رأسها على سطح اليم أولا كالصخرة العالية، ثم تتكسر بعد ذلك على الشاطئ مدوية بصوت كقصف الرعد، ناثرة زبدها من الماء الملح، هكذا تحركت فرق الدانيين في ذلك اليوم، صفا بعد صف، دون توقف، إلى القتال. وأصدر كل قائد أمره إلى رجاله، بينما تقدم الباقون في صمت، وما كان يخيل إليك أن لتلك الجموع المتحركة أي صوت، بل كانوا جميعا صامتين، كأنهم يخافون قادتهم. وكانت الدروع المرصعة تتلألأ على جسم كل رجل، وهم يسيرون. أما الطرواديون، فكما تقف النعاج في جماعات لا تحصى، في ساحة أحد الأثرياء ليحلب لبنها الأبيض، وتثغو دون هوادة كلما سمعت أصوات حملانها. هكذا أيضا ارتفع صياح الطرواديين في جميع صفوف الجيش الفسيح؛ لأنهم لم يكونوا كلهم يتكلمون لغة واحدة، بل خليطا من اللغات، وقد جمعوا من بلاد كثيرة، يدفعهم «أريس»، كما كانت الربة «أثينا» المتألقة العينين تدفع الآخيين الأغارقة، وتدفعهم معها آلهة «الهلع» و«الشغب» و«الشقاق». وكانت الأخيرة - التي لا تهدأ ثائرتها - هي شقيقة ورفيقة «أريس» قاتل البشر. وكانت تبدو قصيرة القامة في أول الأمر، حتى إذا اعتدلت في وقفتها، طاولت رأسها السماء، ووطئت قدماها الأرض في وقت معا! وإنها لتشعل الآن روح البغضاء الشريرة، وهي تطوف بين الجموع؛ لتزيد في أنات الرجال!
فلما التقى الجيشان الآن وأصبحا في مكان واحد، التحما معا بالتروس والرماح، وكان المحاربون جميعا يرتدون دروعا من البرونز، فاصطكت التروس المطعمة بعضها مع بعض، وارتفع رنينها الصاخب. وبعد ذلك سمع صوت الأنين وصيحات النصر، في وقت واحد، من القاتلين والمقتولين وفاضت على الأرض الدماء.
وكما يحدث عندما تتدفق سيول الشتاء هابطة من الجبال من ينابيعها العظيمة إلى مكان يلتقي فيه واديان، فيجتمع فيضها القوي ليصب في مضيق عميق، ويسمع الراعي صخبها من بعيد وسط الجبال، هكذا أيضا ارتفع الصياح والصخب من التحام أولئك وأولئك في القتال.
وكان «أنتيلوخوس»
4
أول من قتل محاربا طرواديا في كامل عدته الحربية، رجلا عظيما من مقاتلي الصفوف الأولى، هو «أنجيبولوس»، ابن ثالوسيوس. وقد ضربه الأول على قرن خوذته المزينة بخصلة من شعر الخيل، فانطلق الرمح إلى داخل جبهته، ونفذت السن البرونزية داخل العظم، فخيم الظلام على عينيه وسقط في الصراع العنيف محطما كالجدار. وإذ ذاك أمسك «إليفينور» بالقتيل من قدميه - وكان هذا ابن «خالكودون»، وقائد «الأيانتيس»
5
ذوي النفوس العالية - وحاول جذبه من تحت السهام، جاعلا همه أن يجرده من درعه بمنتهى السرعة، ولكن لم تلبث محاولته هذه غير فترة وجيزة؛ إذ بينما كان يسحب الجثة أبصر به «أجينور»
6
العظيم النفس، ولما كان جنبه بدون وقاية، وهو منحن، هوى عليه هذا برمحه ذي الطرف البرونزي فقطع أوصال أطرافه. وفي الحال فاضت روحه، وانهال على جثته سيل مرير من الطرواديين والآخيين، وشرعوا كالذئاب يقفزون الواحد فوق الآخر، وراح الرجل منهم يدحرج الرجل على الأرض!
عندئذ ضرب «أياس التيلاموني» - ابن أنثيميون - الشاب المتهور «سيمويسيوس» الذي أنجبته أمه بجوار شواطئ سيمويس إبان رحلتها من جبل أيدا، حيث كانت تتبع أبويها لترى قطعانها؛ لذا سموه «سيمويسيوس»، ومع ذلك فإنه لم يرد لأبويه العزيزين ما أنفقاه على تنشئته؛ لأن عمره كان قصيرا، إذ سقط صريعا برمح «أياس» ذي النفس العالية.
ففيما هو يسير وسط رجال المقدمة، ضرب في صدره الأيمن بجوار حلمة ثديه، فمرق الرمح البرونزي داخل كتفه، فهوى على الأرض في الثرى كأنه شجرة حور كانت نامية في قاع مستنقع عظيم، ملساء الجذع، تتفرع الأغصان من قمتها، ثم قطعها صانع العربات بفأسه اللامعة، كي يصنع لنفسه عجلة لعربة جميلة. فظلت راقدة لتجف في مكانها على شاطئ النهر.
هكذا قتل «أياس» سليل الآلهة «سيمويسيوس»، ابن أنثيميون، وإليه قذف «أنتيفوس»، ابن بريام، ذو الدروع البراقة، رمحه الحاد وسط الجمع، فأخطأه، ولكنه أصاب «ليوكوس» زميل «أوديسيوس» العظيم، في فخذه عندما كان يسحب الجثة إلى الجانب الآخر، فانكفأ عليها، وأفلتت الجثة من قبضته. وقد أثار مقتله حفيظة أوديسيوس في صدره، فسار وسط المحاربين في المقدمة، لابسا حلة برونزية براقة، وتقدم بالقرب من العدو، ثم توقف، وبعد أن ألقى نظرة على كل ما حواليه في حذر، قذف برمحه اللامع، فتقهقر الطرواديون وهو يقذف برمحه، لكن الرمح لم يخب، بل أصاب «ديموكون» السفاح، ابن بريام، الذي قدم من أبودوس، من حظيرته ذات الخيول السريعة، تلبية لندائه، لقد ضربه «أوديسيوس» الغاضب لمصرع زميله، برمحه في صدغه، فنفذ طرفه البرونزي من الصدغ الآخر، وغشيت الظلمة عينيه، فسقط محدثا في سقوطه جلبة، وصلصلت حلته المدرعة من فوقه. عندئذ تقهقر المحاربون الواقفون في المقدمة، وفر «هكتور» المجيد وصاح الأرجوسيون بصوت مرتفع، وهم يسحبون الجثث، وهربوا إلى مسافة بعيدة.
بيد أن «أبولو» الذي كان يطل من بيرجاموس،
7
أحس بالعار، فنادى الطرواديين صائحا بقوله: «هيا، تحمسوا أيها الطرواديون مستأنسو الخيول، لا تطلقوا العنان لأقدامكم فرارا أمام الأرجوسيين. فما لحمهم من الحجر أو الحديد حتى يقاوم البرونز الذي يخترق اللحم حين يصيبهم. سيما وأن «أخيل» - ابن ثيتيس الجميلة الشعر - قد امتنع عن القتال، وظل وسط السفن يرعى غضبه المرير.»
هكذا تكلم الإله المهيب من المدينة، ولكن الآخيين كانت تحثهم ابنة زوس، «تريتوجينيا» المجيدة، التي كانت تطوف بين صفوف الجيش حيث كان الجنود يهربون.
والآن سقط «ديوريس» بن «أمارونكيوس» في شبكة القدر؛ إذ أصيب في ساقه اليمنى عند العقب بحجر مسنن، وكان قائد «التراكيين» - «بايروس»، ابن أمبراسوس الذي قدم من إينوس - هو الذي رماه، فحطم الحجر القاسي اللحم والعظم تحطيما تاما، وترنح هو إلى الوراء، ثم سقط فوق الثرى باسطا كلتا يديه إلى رفقائه الأعزاء، وهو يلفظ أنفاسه. ثم لحق به قاتله «بايروس»، فأحدث به جرحا بطعنة من رمحه اخترقت البطن بجوار السرة، فخرجت جميع أحشائه وسقطت على الأرض، وغشيت الظلمة عينيه.
غير أنه ما إن قفز الآخر إلى الخلف حتى أصابه «ثواس الأيتولي»
8
بطعنة من رمحه في صدره فوق حلمة الثدي، فالتصق البرونز برئته، وعندئذ اقترب منه «ثواس» وأخرج الرمح القوي من صدره، واستل حسامه البتار وضربه به في بطنه فسلب حياته. ومع ذلك فإنه لم يجرده من درعه؛ إذ التف حوله رفقاؤه، رجال تراقيا الذين تغطي رءوسهم شعور طويلة، شاهرين رماحهم، وبالرغم من عظمته وقوته وسؤدده، فقد دفعوه إلى الوراء بعيدا عنهم، فترنح وسقط. وهكذا رقد الاثنان منبطحين في الثرى، كل بجانب الآخر، أحدهما قائد «التراقيين» والآخر قائد «الأيبيين» المتدثرين بالبرونز، ومن حولهما كثير من القتلى الآخرين.
وبعد ذلك لم يستطع أي رجل آخر أن يخوض غمار المعركة ويستهين بها، فكل من لم يجرح بالسهام أو يطعن بالبرونز الحاد، أخذ يتحرك نحو الوسط، تقوده الربة «أثينا» من يده، فتحميه من الإصابة بالسهام، وهكذا رقدت في ذلك اليوم جموع غفيرة من الطرواديين والآخيين، كل بجانب الآخر، وقد دفنت وجوههم في الثرى.
الأنشودة الخامسة
«... فبسطت ذراعيها البيضاوين حول ابنها العزيز، ونشرت أمامه طية من ردائها اللامع لتكون وقاية ضد القذائف، حتى لا يقذفه أحد الدانيين ذوي الجياد السريعة برمح البرونز، فيخترق صدره ويزهق روحه ...»
كيف ألحق «ديوميديس»، بشجاعته الخارقة، أفدح الخسائر بالطرواديين، حتى لقد جرح «أفروديت» و «أريس»، بمساعدة الربة «أثينا» ... إلخ.
مفاخر «ديوميديس»!
ومنحت الربة «أثينا» القوة والشجاعة لابن توديوس. حتى يبرهن على تفوقه أمام جميع الأرجوسيين ويظفر بالصيت والمجد. لقد أشعلت من خوذته وترسه لهبا لا يخبو، أشبه بنجم الحصاد الذي يشرق أشد تألقا من جميع النجوم الأخرى، حين يستحم في مجرى «أوقيانوس». أشعلت بذلك اللهب من رأسه وكتفيه، ثم أرسلته وسط جموع الرجال الكثيفة. وكان بين الطرواديين كاهن هيفايستوس المدعو «داريس». وهو رجل ثري، لا غبار على سلوكه، وكان له ولدان: «فيجيوس» و«أيدايوس»، الماهران في جميع أساليب القتال. وقد فصل هذان الرجلان نفسيهما عن الجيش واندفعا نحو «ديوميديس»، وهما في عربتيهما بينما كان هو يهجم وهو واقف على قدميه فوق الأرض. ولما تقدم ثلاثتهم، واقترب الواحد من الآخر، بدأ «فيجيوس» بقذف رمحه الطويل، فمرق من فوق كتف ابن توديوس الأيسر دون أن يصيبه! فهجم هذا برمحه البرونزي الذي لم ينطلق عبثا من يده. بل أصاب عدوه في صدره بين ثدييه، وطوح به على العربة! فقفز أيدايوس إلى الوراء، تاركا العربة الجميلة، ولم تكن لديه الشجاعة ليخطو فوق جثة أخيه. كما أنه لم يكن لينجو من القدر الأسود، لولا أن هيفايستوس كان يحرسه فأنقذه، ولفه في ظلمة حتى لا يموت كاهنه العجوز - والد الفتى - كمدا! ومع ذلك فقد دفع ابن توديوس المقدام الخيول إلى الأمام، وسلمها إلى زملائه ليأخذوها إلى السفن الخاوية. بيد أن الطرواديين ذوي النفوس العالية، ما إن أبصروا ولدي داريس، يفر أحدهما ويخر الآخر صريعا بجانب العربة، حتى امتلأت قلوبهم جميعا باليأس. فأمسكت أثينا البراقة العينين بأريس الثائر من يده وقالت له: «أي أريس، يا أريس، يا جالب الشقاء على البشر، يا ناسف الحوائط الملطخ بالدماء، أما آن لنا أن نترك الآن الطرواديين والآخيين يتقاتلون، حتى يمنح الأب زوس المجد لمن يشاء منهما؟ هيا بنا نتنحى ونتحاشى غضب زوس!»
قالت ذلك وقادت أريس الهائج بعيدا عن المعركة. ثم جعلته يجلس فوق الشواطئ الرملية لسكاماندر، ففر الطرواديون أمام الدانيين، وقتل كل قائد رجلا من الأعداء، فانقض «أجاممنون» ملك البشر على أوديوس العظيم، قائد «الهاليزونيس»، فرماه بعيدا عن عربته، وكان قد استدار بادئ ذي بدء ليفر، فغرس القائد رمحه في ظهره بين كتفيه ودفعه إلى داخل صدره، فسقط محدثا صوتا، وصلصلت من فوقه عدته الحربية.
وقتل أيدومينيوس «فايستوس»، ابن بوروس، الميوني، الذي قدم من تارني العميقة التربة، بينما كان يعتلي عربته؛ إذ طعنه برمحه الطويل طعنة اخترقت كتفه اليمنى، فسقط من عربته تغشاه ظلمة رهيبة. وبعد ذلك شرع خدم أيدومينيوس يجردونه من حلته الحربية.
وقتل مينيلاوس بن أتريوس - برمحه الحاد - «سكاماندريوس»، ابن ستروفيوس، الماكر في القنص، وكان مشهورا بكونه صيادا عظيما؛ لأن ربة الصيد «أرتيميس» نفسها قد علمته كيف يضرب كل متوحش مما تغذيه الغابة الجبلية. ومع ذلك فلم تنفعه «أرتيميس»، ولا كل تلك المهارة في الرماية التي تفوق فيها منذ القدم، فضربه مينيلاوس بن أتريوس، وهو يطلق العنان لقدميه أمامه، بطعنة من رمحه في ظهره، ما بين كتفيه، انغرس الرمح على أثرها في صدره غرسا، فانكفأ على وجهه وصلصلت فوقه حلته الحربية.
وقتل ميريونيس
1 «فيريكلوس»، ابن تيكتون، ابن هارمون الماهر اليدين في صناعة كل نوع من الأعمال الغريبة؛ لأن الربة أثينا أحبته أكثر من جميع البشر. وكان هو الذي شيد السفن الجميلة لباريس، مصدر الشرور، وجالب الدمار على جميع الطرواديين، وعلى نفسه؛ إذ لم يعلم قط وحي الآلهة. وقد راح ميريونيس يطارده، حتى أدركه، فضربه في عجزه الأيمن، فنفذ طرف الرمح مارقا حتى وصل إلى المثانة تحت العظم، فجثا على ركبتيه صارخا، وهو يتردى.
وقتل «ميجيس» بيدايوس، ابن «أنتينور». وكان، حقا، ابن سفاح، ومع ذلك فقد نشأته «ثيانو»
2
بعناية كأحد أطفالها تماما، كي تبهج زوجها، فاقترب منه ابن فوليوس الشهير برمحه، وعاجله بضربة من الرمح الحاد على قفاه، فنفذ الرمح بين الأسنان وجز اللسان من جذره. وهكذا سقط يتخبط في الثرى، وعض بأسنانه على الرمح البرونزي البارد.
وقتل «يوروبلوس»،
3
ابن يوايمون، «هوبسينور» العظيم، ابن «دولوييون» الجريء القلب، الذي عين كاهنا لسكاماندر، وكان القوم يبجلونه كإله، فانقض عليه يوروبلوس، وهو يفر أمامه، وفي منتصف الطريق هوى على كتفه بسيفه فبتر ذراعه الثقيلة؛ ومن ثم سقطت الذراع الدامية على الأرض ، وخيم الموت القاتم والفضاء العاتي على عينيه.
هكذا كانوا يشقون في الصراع العنيف، أما ابن توديوس، فما كان في مقدورك أن تقول إلى أي الجيشين انضم: هل تبع الطرواديين أم الآخيين! إذ انقض عبر السهل كأنه سيل الشتاء في أقصى قوته، يكتسح بفيضانه السريع الجسور، ولا تستطيع الجسور المتينة أن تقف في طريقه، ولا حتى أسوار بساتين الكروم المثمرة يمكنها أن تصد قدومه المفاجئ عندما تدفعه أمطار زوس دفعا، فتنهار أمامه أعمال البشر الرائعة. محطمة! هكذا اكتسح ابن توديوس أمامه كتائب الطرواديين الكثيفة، في فوضى، وما كان في وسعهم أن يقاوموه رغم كثرة عددهم!
بيد أنه عندما انتبه له ابن لوكاون
4
المجيد، وهو يسير عبر السهل يدفع أمامه الكتائب في فوضى، أسرع في الحال يسدد قوسه المقوسة نحو ابن توديوس، فأحكم التصويب ورماه وهو يهجم إلى الأمام في كتفه اليمنى، على صفحة درقته، فانطلق السهم المرير خلالها لا يحيد عن طريقه حتى تلطخت الدرقة بالدماء. عندئذ صاح ابن لوكاون المجيد قائلا: «فلتنهضوا، أيها الطرواديون ذوو النفوس العالية، يا من تحثون خيولكم. لقد أصيب خير رجل بين الآخيين، وإني لأعتقد أنه لن يقوى طويلا على احتمال ذلك السهم القوي.»
هكذا تكلم مزهوا، ومع ذلك فإن «ديوميديس» لم يصرعه السهم السريع، ولكنه انسحب إلى الوراء، ووقف أمام خيوله وعربته، وقال لسينيلوس، ابن كابانيوس: «هيا، يا ابن كابانيوس الطيب، انزل من العربة، كي يمكنك أن تخرج من كتفي هذا السهم الفظيع.»
وإذ ذاك وثب سثينيلوس من عربته إلى الأرض، ووقف إلى جواره، وجذب السهم المغروس في كتفه فتدفق الدم على الحلة المثناة. وعندئذ تضرع ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، قائلا: «استمعي إلي، يا ابنة زوس حامل الترس،
5
يا دائمة اليقظة دون كلل ولا ملل! لو حدث أنك وقفت، بنية حسنة، إلى جانب أبي وسط معمعة القتال، فاشفقي علي أيضا يا «أثينا». قدري لي أن أقتل هذا الرجل، واجعليه يأتي في مدى مرمى رمحي، ذلك الرجل الذي ضربني ولم أكن منتبها له وهو يفخر علي، ويعلن أنني لن أرى ضوء الشمس الساطع مدة طويلة.»
هكذا قال في تضرعه، وسمعته الربة «أثينا» فجعلت أطرافه خفيفة، ورفعت قدميه ويديه، ثم اقتربت منه وتحدثت إليه بكلمات مجنحة قائلة: «كن شجاعا الآن يا ديوميديس، كي تقاتل الطرواديين؛ لأنني وضعت في صدرك قوة أبيك، تلك القوة التي لا تقهر، كتلك القوة التي كان يتمناها الفارس «توديوس»، حامل الترس. وفضلا عن هذا، فقد رفعت الغمامة من على عينيك، تلك التي كانت عليهما من قبل، حتى يصبح في مقدورك أن تبصر جيدا، على السواء، الآلهة والبشر، وعلى ذلك فإذا جاء إلى هنا أي إله ليجربك، فحذار، بأية حال من الأحوال، أن تقاتل أي إله من الآلهة الخالدين، وجها لوجه، إلا إذا دخلت المعركة الربة «أفروديت»، ابنة زوس، فعندئذ اضربها بطعنة من رمحك البرونزي الحاد.»
وما إن نطقت الربة أثينا البراقة العينين بهذا القول، حتى انصرفت. فعاد ابن توديوس، واختلط من جديد بمحاربي الصفوف الأولى. وبالرغم من أن قلبه كان يتوق من قبل إلى مقاتلة الطرواديين، فقد استولى عليه الآن حماس يوازي ثلاثة أضعاف ما كان يتولاه من قبل. حماس كالذي يعتري أسدا جرحه راع يحرس خرافه الكثة الفراء، وهو يقفز فوق سور حظيرة الخراف، ولكنه لم ينهزم، بل استثيرت قوته، فهو لا يقوم بأي دفاع، وإنما يتسلل وسط مباني المزرعة، فيدب الهرج والمرج بين القطيع غير المحروس، وتجتمع الخراف جماعات، كل قطيع بجانب الآخر، ولكن الأسد الثائر يقفز من فوق الحظيرة العالية. وهكذا، بمثل هذه الثورة هجم ديوميديس القوي على الطرواديين، ثم قتل بعد ذلك كلا من «إستونوس» و«هوبايرون»، راعيي الجيش؛ إذ ضرب أحدهما فوق ثديه بطعنة من رمحه المطعم بالبرونز، بينما هوى على الآخر بحسامه العظيم فوق عظم الترقوة من جانب الكتف ففصل الكتف عن العنق وعن الظهر. ثم ترك هذين ومضى في طريقه يقتفي أثر «أباس» و«بولودوس»، ابني العجوز «يوروداماس» مفسر الأحلام، فلم يعودا بعد ذلك ليفسر لهما أبوهما العجوز الأحلام، بل قتلهما ديوميديس المغوار، ثم استمر يتعقب «كسانثوس» و«ثوون»، ابني «فاينويس» المحبوبين، وقد هدت الشيخوخة المؤلمة قوى أبيهما، فلم ينجب ولدا آخر يتولى رعاية ممتلكاته. قتلهما ديوميديس هناك وسلبهما الحياة الغالية، وخلف لأبيهما البكاء والحزن الممض؛ إذ لم يعيشا له ليرحب بعودتهما، فاقتسم أقرب أقربائه الممتلكات فيما بينهم!
وبعد ذلك انبرى «ديوميديس لولدي بريام بن داردانوس»: «أيخيمون» و«خروميوس»، وكانا في عربة واحدة. وكما يثب الهزبر وسط الأبقار ويكسر عنق عجل أو بقرة وهي ترعى في مرج الغابة، هكذا أيضا طعن ابن توديوس هذين بوحشية، فأوقعهما من عربتهما على الرغم منهما، ثم جردهما من حلتيهما الحربيتين، وأعطى الخيول لرفقائه ليسوقوها إلى السفن.
مصرع «بانداروس» وإصابة أفروديت!
وإذ رأى «أينياس»
6
كيف أشاع ديوميديس الفوضى بين صفوف المحاربين، مضى خلال أرض المعركة بين قذف الرماح يبحث عن «بانداروس»
7
بن لوكاون شبيه الإله، عسى أن يجده في مكان ما. فلما التقى بهذا المحارب المقدام، وقف أمامه وتحدث إليه قائلا: «أي بانداروس، أين قوسك الآن، وسهامك المجنحة، وصيتك؟ ما من أحد في هذه البلاد يستطيع الوقوف أمامك، ولا يسع أي فرد في لوكيا أن يعلن تفوقه عليك، فتعال الآن، وارفع يديك بالصلاة لزوس. ثم أطلق رمحا على ذلك الرجل - مهما كانت له الغلبة بهذا الشكل - فإنه قد سبب للطرواديين كثيرا من الآلام؛ إذ كم من رجل عظيم فكك له ركبتيه، إلا إذا كان هو في الحقيقة أحد الآلهة الغاضبين من الطرواديين. الغاضبين بسبب الذبائح، فإن غضب الآلهة ينزل ثقيلا على العالمين!»
فرد عليه ابن لوكاون بقوله: «يا أينياس، يا مستشار الطرواديين ذوي الحلل البرونزية، إنني أعرفه من ترسه وخوذته ذات الخصلة، كما أعرفه عندما أرى جياده، ومع ذلك فلست أعلم على وجه التحقيق ما إذا كان إلها. وأعتقد أنه لا يستطيع الظفر بهذه المفاخر بدون مساعدة أحد الآلهة، ولا بد أن أحد الخالدين يحميه ويقف بالقرب منه، متخفيا في طيات سحابة؛ ومن ثم فقد نحى عنه رمحي السريع بمجرد أن ومض! فلقد أطلقت رمحي بالفعل نحوه، وهويت بضربة على كتفه اليمنى فوق صفحة درقته، وظننت أنني قد أرسلته إلى العالم السفلي، بيد أنني لم أصرعه! حقا أنه ولا بد أحد الآلهة الغاضبين! وأنا لا أملك هنا عربة ولا خيولا أركبها، ومع ذلك فإن لي، في قصر أبي «لوكاون»، إحدى عشرة عربة جميلة، جديدة الصنع والأثاث، نشرت فوقها الأغطية، وإلى جانب كل منها جوادان مكتنزان من أكل الشعير الأبيض والجويدار. وقد حدث قبيل رحيلي من هناك أن ألح علي الرماح العجوز لوكاون في قصره المتين البناء أن أعتلي عربة وجوادا، وأقود الطرواديين إلى معارك طاحنة. غير أنني لم أطعه - وليتني أصغيت إليه! - وإن كنت أبيت استخدام الجياد خشية أن ينقصها العلف في المدينة المحاصرة، وهي التي اعتادت الغذاء الكافي؛ ولذا تركتها وذهبت سائرا على قدمي إلى طروادة، معتمدا على قوسي، لكن القوس، كما بدا لي، لم تنفعني بشيء. فلقد أطلقت بها سهمين صوب القائدين «ابن توديوس»، و«ابن أرثيوس» أصابا كليهما بطعنة نجلاء، وانبثق الدم منهما يقينا، ولكني مع ذلك لم أفعل سوى زيادة إثارتهما؛ ولذا كان أخذي قوسي المعقوفة من على المشجب، مصحوبا بسوء الحظ في ذلك اليوم الذي قدت فيه رجالي من الطرواديين دفاعا عن مدينتنا الجميلة، كي أبهج هكتور. ولكن لو كان لي أن أعود وترى عيناي وطني وزوجتي والقصر المنيف المرتفع السقف، فهل لأحد الأجانب أن يقطع رأسي في الحال إن لم أحطم هذه القوس بيدي وألقها في النار المتأججة، إذ كانت كالريح عديمة النفع لي؟!»
عندئذ تحدث أينياس مجيبا قائد الطرواديين بقوله: «كلا. لا تتكلم هكذا، فلن تستقيم الأمور بحال ما قبل أن نذهب معا بالجياد والعربة لمواجهة هذا الرجل، ونعجم عودة السلاح، هيا، تعال معي، هيا إلى ظهر عربتي حتى ترى من أي نوع هي جياد «تروس»، البارعة في العدو السريع جيئة وذهابا في السهل، وهي تكر وتفر . ولسوف تصل بنا سالمين إلى المدينة وتنقذنا، حتى لو كتب زوس النصر مرة أخرى لديوميديس بن توديوس. تعال إذن وخذ السوط والأعنة اللامعة، بينما أنزل أنا إلى حومة القتال، أو فلتستعد أنت لهجمته، وأعني أنا بالجياد!»
فأجابه ابن لوكاون العظيم قائلا: «احتفظ بالأعنة يا أينياس، وقد جيادك بنفسك، فإنها عندئذ ستتفانى في العدو بالعربة المقوسة تحت قيادة سائقها المعتاد، لو اضطررنا إلى الفرار أمام ابن توديوس. وإلا فقد يتملكهما الذعر وتحرن إذا لم تسمع صوتك فلا تسرع بالابتعاد بنا عن المعركة، وعندئذ يهجم علينا ابن توديوس العظيم النفس، ويصرع كلينا، ويستولي على جيادنا الوحيدة. هيا، قد بنفسك عربتك وجيادك، أما أنا فسأستعد لهجمة هذا الرجل برمحي الحاد.»
وما إن قال هذا حتى اعتليا ظهر العربة المطعمة، وقادا الجياد السريعة بحماس صوب ابن توديوس، فأبصر بهما «سثينيلوس»، الابن المجيد لكابانيوس فأسرع يحذر ابن توديوس بكلمات خاطفة قائلا: «أي ديوميديس، يا ابن توديوس، أيها المحبب إلى نفسي، أرى اثنين من المحاربين المغاوير يتوقان إلى قتالك، وقد زودا بقوة لا حد لها. أحدهما بارع في استخدام القوس. هو بانداروس، الذي يجهر بأنه ابن لوكاون، بينما يدعي أينياس أنه ابن أنخيسيس المنقطع النظير، وأمه أفروديت. هيا، تعال معي نتحصن في العربة، وأرجوك ألا تتهور بالاندفاع وسط مقاتلي الصفوف الأولى، خشية أن تفقد حياتك!»
عندئذ حدجه ديوميديس بنظرة غضب من تحت حاجبيه وقال: «لا تحدثني عن الفرار قط، فلن يجول بخاطري أن تحثني عليه، وما جبلت على القتال الخفي أو الهرب، فما زالت قوتي ثابتة. وليس في نيتي أن أركب عربة، بل سأذهب لمواجهتها كما أنا، وأعتقد أن الربة أثينا لن تحتمل جبني. أما هذان، فلن ترجع بهما جيادهما السريعة من عندنا. حتى ولو قبضت النجاة لأحدهما أو للآخر! وسأقول لك شيئا آخر، فاحفظه عني في قلبك: لو منحتني أثينا، التي تفيض حكمة، شرف قتل كليهما، فهل لك أن تحتفظ هنا بهذه الجياد السريعة، وتربط الأعنة بقوة إلى جانب العربة. ولا تنس أن تهجم على جياد أينياس، وتنطلق بها من عند الطرواديين إلى جيش الآخيين المدرعين جيدا. فإنها من نفس القطيع الذي أعطى منه زوس، الذي يدوي صوته إلى بعيد، بعض الجياد إلى «تروس» تعويضا له عن ابنه «جانوميديس»،
8
لأنها أكرم جميع الجياد التي يضيء فوقها الفجر وتشرق عليها الشمس. ومن هذا القطيع سرق «أنخيسيس»، ملك البشر، السلالة، بأن وضع أفراسه وسطها دون علم «لاوميدون»، فولد له من هذه في قصره ستة جياد، احتفظ لنفسه بأربعة منها، رباها في حظيرته. أما الجوادان الآخران فقد أعطاهما لأينياس، فكانا مثيري الشغب، فلو استطعنا القبض على هذين الرجلين، نلنا شهرة فائقة.»
هكذا كانا يتكلمان في هذا الأمر، أحدهما إلى الآخر، وسرعان ما اقترب منهما الآخران يقودان الجوادين السريعين. فتحدث إليه ابن لوكاون المجيد أولا بقوله: «أيا ابن توديوس الجليل، أيها المقدام الحكيم القلب، حقيقة أن سهمي السريع لم يخضعك، ذلك السهم المرير، لكني سأختبرك الآن برمحي، لعلي أن أصيبك!»
قال هذا، ثم اعتدل وقذف بالرمح الطويل الظل، فأصاب ترس ابن توديوس، وفي الحال اخترق طرف الرمح البرونزي الترس ووصل إلى درقته. فصاح عندئذ ابن لوكاون المجيد قائلا: «لقد أصبتك في صميم أحشائك وأظن أنك لن تتحمل طويلا، ولكنك منحتني مجدا عظيما.»
فرد عليه ديوميديس القوي، غير هباب ولا وجل، قائلا: «لقد أخطأت يا هذا ولم تصب، وأعتقد أن كليكما لن يكف عن القتال حتى يسقط أحدكما أو الآخر، ويعب من دمه «أريس»
9
ذو الترس الصلب المصنوع من الجلد.»
قال هذا ثم قذف، فوجهت أثينا الرمح صوب أنف خصمه بجانب العين، فمرق من بين أسنانه البيضاء. وهكذا اجتث البرونز العنيد لسانه من أصله، ونفذ طرف الرمح بجانب قاعدة الذقن. فسقط ابن لوكاون خارج العربة وصلصلت من فوقه حلته البراقة المتألقة، فانتحت الجياد السريعة الأقدام، جانبا، وانتهت بذلك حياته وصعدت روحه.
وإذ ذاك قفز أينياس من العربة إلى الأرض بالترس والرمح الطويل، وقد اعتراه الخوف من أن يأخذ منه الآخيون القتيل. فوقف فوقه مباعدا ما بين ساقيه كأسد واثق من قوته، وجعل رمحه وترسه المتزن من كل جانب أمام وجهه، تواقا إلى قتل كل من تسول له نفسه أن يمسك بالجثة، وكان يصرخ صرخات مفزعة. غير أن ابن تيديوس أمسك حجرا في يده - وكانت مهمة شاقة - حجرا ينوء بحمله رجلان من رجال اليوم، ومع ذلك فقد شرع يلوح به وحده بخفة، ثم ضرب به أينياس عند الحقو حيث يتصل الفخذ بمفصل الحقو، فحطم الحجر المسنن عظم الحوض، ومزق الجلد، وعندئذ سقط المحارب جاثيا على ركبتيه، وظل هكذا، يرتكز بيديه القويتين على الأرض، ثم خيم الليل المظلم فوق عينيه!
وعندئذ كان لملك البشر، أينياس، أن يموت، لولا أن ابنة زوس، أفروديت، كانت سريعة الملاحظة - ولا عجب فهي أمه التي أنجبته من أنخيسيس حينما كان يرعى قطيعه - فبسطت ذراعيها البيضاوين حول ابنها العزيز، ونشرت أمامه طية من ردائها اللامع لتكون وقاية ضد القذائف، حتى لا يقذفه أحد الدانيين ذوي الجياد السريعة برمح من البرونز، فيخترق صدره ويزهق روحه.
غير أن ابن كابانيوس
10
لم ينس الأوامر التي أصدرها إليه ديوميديس البارع في صيحة الحرب، فأخذ جياده التي غدت وحيدة وأبعدها عن الضوضاء، وشد الأعنة إلى حافة العربة، ثم هجم على جوادي أينياس الجميلي العرف، وقادهما من عند الطرواديين إلى جيش الآخيين المدرعين جيدا، وسلمهما إلى «دايبولوس»، زميله العزيز، الذي كان يبجله أكثر من جميع رفقاء صباه؛ لأنه كان يعدله في العقلية، وأمره بأن يقودهما إلى السفن الخاوية. ثم ركب المحارب عربته وأمسك بالأعنة اللامعة، وفي الحال قاد جواديه القويي الأظلاف، متلهفا للبحث عن ابن توديوس. وكان هذا - في تلك الأثناء - قد ذهب في أعقاب الربة «كوبريس» يحمل رمحه البرونزي القديم الذي لا يرحم، مدركا أنها ربة ضعيفة، وليست واحدة ممن يسيطرون على قتال المحاربين - فإنها لم تكن أثينا، ولا أينيو،
11
مخربة المدن - وما إن لحق بها بعد أن طاردها خلال الحشد العظيم، حتى قذفها ابن توديوس العظيم النفس برمحه الحاد، ووثب عليها فجرح سطح يدها الرقيقة، وفي الحال نفذ السهم خلال الثوب العطري الذي صنعته لها ربات الفتنة أنفسهن، واخترق اللحم عند الرسغ، في أعلى راحة اليد، فتدفق دم الربة الخالد، مثل المصل الذي يجري في عروق الآلهة المباركين ؛ لأنهم لا يأكلون الخبز ولا يشربون الخمر الصهباء، ولذلك فإنهم بلا دماء ويدعون الخالدين.
فصاحت صيحة عالية، سقط في أثرها ابنها، فالتقطه الإله أبولو بين ذراعيه، وأنقذه ولفه في سحابة دكناء خشية أن يقذف أحد الدانيين ذوي الجياد السريعة رمحا من البرونز إلى صدره ويزهق روحه. وعندئذ صاح ديوميديس البارع في صيحة الحرب، بأعلى صوته، قائلا: «ابتعدي، يا ابنة زوس، عن الحرب والقتال. ألا يكفيك أنك تخدعين النساء الضعيفات؟ إنك إذا دخلت المعركة فسوف ترتعدين لمجرد سماع اسمها من مسافة بعيدة!»
وإذ قال هذا، انصرفت هي مذهولة وقد أمضها الحزن البالغ، فأخذتها أيريس السريعة القدمين بعيدا عن الحشد، معذبة بالألم، وقد اسود لحمها البض. وسرعان ما وجدت «أريس» الثائر واقفا عن يسار المعركة، يتكئ برمحه على سحابة، وبقربه جواداه السريعان. عندئذ جثت على ركبتيها. وتوسلت في الحال إلى أخيها العزيز أن يعطيها جواديه ذوي الغرة الذهبية، قائلة: «شقيقي العزيز، أغثني، وأعطني جواديك، حتى أتمكن من الوصول إلى أوليمبوس مسكن الخالدين؛ فقد أصابني رجل من البشر بجرح يؤلمني أشد الألم، إنه ابن تيديوس، الذي يستطيع أن يقاتل الآن حتى مع الأب زوس!»
هكذا قالت، فأعطاها أريس جياده ذات الغرة الذهبية، فاعتلت ظهر العربة، بقلب شارد، وإلى جوارها صعدت أيريس وأمسكت الأعنة بيديها، ثم لمست الجياد بالسوط لتبدأ بالتحرك، وعندئذ لم يمنع أي شيء الجوادين من العدو قدما، وبسرعة وصلت الربتان إلى مسكن الآلهة، إلى أوليمبوس المنحدر، حيث أوقفت أيريس، التي تحاكي قدماها سرعة الريح، الجوادين، ثم فكتهما من العربة، ووضعت أمامهما طعاما إلهيا، ولكن أفروديت الحسناء ألقت بنفسها على ركبتي أمها «ديوني»، فضمت الأم ابنتها بين ذراعيها، وربتت عليها بيدها ثم تحدثت إليها قائلة: «والآن، من من أبناء السماء، يا طفلتي العزيزة، قد عاملك هكذا بطيش، كما لو كنت قد أتيت نكرا أمام الجميع؟»
فردت عليها أفروديت المولعة بالضحك قائلة: «جرحني ابن توديوس، «ديوميديس» الجريء القلب؛ وذلك لأنني كنت أحمل ابني العزيز أينياس، بعيدا عن القتال، ذلك الذي هو أعز في عيني من سائر البشر؛ لأن الحرب الشعواء لم تعد حربا بين الطرواديين والآخيين فحسب؛ إذ أن الدانيين يتقاتلون الآن، حتى مع الخالدين.»
فأجابتها ديوني، الربة الفاتنة، بقولها: «تشجعي، يا طفلتي، واحتملي آلامك؛ لأن كثيرين منا نحن الساكنين فوق أوليمبوس، قد نالهم الأذى على يد البشر، بأن جلب بعضهم المصائب المحزنة على البعض الآخر. وهكذا عانى «أريس» عندما كبله «أوتوس» و«إيفيالتيس» القوي - أبناء ألويوس - بالأصفاد القاسية، فرقد مغلولا في زنزانة من البرونز ثلاثة عشر شهرا، وعندئذ كان لا بد أن يهلك أريس، الذي لا يمل القتال، لولا أن «أيريبويا» الفاتنة، زوجة أبي ولدي ألويوس، أخبرت هيرميس - رسول الآلهة - فسرق أريس، الذي كان وقتئذ مكروبا غاية الكرب؛ إذ كانت تؤلمه قيوده المحزنة. وهكذا تألمت هيرا عندما أصابها ابن أمفتريون القوي بسهم ذي ثلاثة أسنة فوق ثديها الأيمن، فألم بها ألم لا يمكن تخفيفه بأية حال من الأحوال. وهكذا أيضا عانى «هاديس» المتوحش، كما عانى غيره، من سهم مرير، يوم أن ضربه نفس هذا الرجل - ابن زوس حامل الترس - في «بولوس»، وسط الأموات، وتركه نهبا للآلام. بيد أنه ذهب إلى منزل زوس وإلى أوليمبوس الشاهق بقلب مثقل بالحزن، مفعم بالآلام؛ لأن السهم اخترق كتفه القوية، وأزعج روحه، ولكن «بايون» نثر على الجرح عقاقير تقتل الألم، أدت إلى شفائه؛ لأنه لم يكن في الحقيقة من الجنس البشري، بل كان إلها متهورا، يقوم بأعمال العنف، ولا يكف عن الشرور، حتى لقد أثار بسهامه حفيظة الآلهة التي تقطن في أوليمبوس. ذلك هو الشرير الذي سلطته عليك الربة أثينا، ذات العينين النجلاوين. وإنها لحماقة من ابن توديوس ألا يعرف أن من يقاتل الخالدين لا يعمر طويلا، ولا يلتف أطفاله حوله عندما يعود من الحرب والمعارك الطاحنة المفزعة. والآن دعي ابن توديوس، رغم ما هو عليه من قوة، أن يكون على حذر خشية أن يقاتله من هو أقوى منك. وقد لا يمضي وقت طويل حتى توقظ «إيجاليا» ابنة أدراستوس الحكيمة، أهل بيتها من نومهم، بنواحها المتواصل وهي تبكي زوجها الذي اقترنت به، والذي هو خير رجل بين الآخيين، إنه «ديوميديس» مستأنس الخيول.»
قالت هذا، وأخرجت المصل بكلتا يديها من الذراع، فشفيت الذراع، وزالت الآلام المبرحة، ولكن ما إن أبصرتها أثينا وهيرا، حتى انطلقتا تغضبان زوس، ابن كرونوس، بألفاظ السخرية. وكانت الربة ذات العينين البراقتين هي أول من قالت: «أبي زوس، هل تغضب مما سأقوله لك؟ من المؤكد الآن أن «كوبريس» كانت تحث إحدى الآخيات على تعقب الطرواديين الذين تحبهم الآن حبا عجيبا، وبينما هي تعانق إحدى نساء آخيا الجميلات الملبس، خدشت يدها الرقيقة في دبوسها الذهبي.»
وإذ قالت ذلك، ابتسم أبو البشر والآلهة، واستدعى أفروديت الذهبية وقال لها: «لم تجعل أعمال الحرب لك يا طفلتي، كلا، بل عليك أن تسعي وراء شئون الزواج المحبوبة، أما شئون القتال كلها فستكون مهمة أريس السريع وأثينا.»
هجوم مضاد من «طروادة»!
وبينما كانوا يتحدثون هكذا، الواحد إلى الآخر، هجم «ديدميديس»، الماهر في صيحة الحرب، على أينياس، ولما كان يعلم أن أبولو نفسه كان يحميه ويبسط ذراعيه فوقه، كأنه لم يشعر بأي خوف من الإله العظيم، بل كان لا يزال مصمما على قتل أينياس وتجريده من عدته الحربية المجيدة. فهجم عليه ثلاث مرات، يريد في حماس أن يقتله، ولكن في كل مرة، كان أبولو يدفع ترسه اللامع إلى الوراء، غير أنه عندما هجم عليه للمرة الرابعة، صاح فيه أبولو الذي يضرب من بعيد صيحة مفزعة، قائلا: «فكر، يا ابن توديوس، واهرب، لا تضع نصب عينيك أن تكون روحك كروح الآلهة، ما دام عنصر الآلهة لا يشبه بأية حال عنصر البشر الذين يسيرون فوق الأرض!»
فلما قال هذا، تراجع ابن توديوس إلى الوراء قليلا، اجتنابا لغضب أبولو الذي يضرب من بعيد، وبعدئذ أخذ أبولو أينياس بعيدا عن الحشد إلى بيرجاموس المقدسة حيث أقيم معبده، فعالجته هناك الربتان «ليتو» و«أرتيميس» حاملة القوس، في المحراب الكبير، ومجدتاه، غير أن أبولو ذا القوس الفضية صنع شبحا في صورة أينياس، يرتدي حلة مدرعة كحلة أينياس، فراح الطرواديون والآخيون الأماجد يتقاتلون حول الشبح، ويضربون الدرقات المصنوعة من جلود الثيران، والتي تغطي صدر كل منهم. والتروس المستديرة، وخصلات الشعر المدلاة على أكتافهم. ثم تحدث أبولو إلى «أريس» الثائر قائلا: «أي أريس، يا أريس يا جالب الهلاك للبشر، ويا مدمر الأسوار، الملطخ بالدماء، ألا تدخل المعركة الآن وتقصي عنها هذا الرجل، ابن توديوس هذا الذي يستطيع الآن أن يقاتل حتى ضد الأب زوس؟ فقد أصاب كوبرس
12
أولا، وهو يقاتلها وجها لوجه، بجرح في يدها عند الرسغ، ثم هجم علي أنا نفسي كما يهجم على إله.»
قال هذا ثم جلس فوق قمة بيرجاموس، ودخل أريس المخرب وسط صفوف الطرواديين، في صورة «أكاماس»
13
السريع، قائد التراقيين. يحثهم، ويخاطب أبناء بريام، المنحدرين من زوس، قائلا: «أيا أبناء بريام، الملك المنحدر من زوس، إلى متى تتركون جيشكم يعبث فيه الآخيون تقتيلا؟ هل سيظل الأمر هكذا حتى يقاتلوا حول أبوابنا المتينة البناء؟ فها هو أينياس، ابن أنخيسيس، ذلك الرجل الذي كنا نبجله كما نبجل هكتور العظيم، ها هو يرقد صريعا. فهيا، تعالوا ننقذ زميلنا النبيل من أتون المعركة.»
وبقوله هذا أثار حمية وروح كل فرد، وفضلا عن ذلك فقد عنف ساربيدون
14
هكتور الأمجد، بقوله: «أي هكتور، أين ذهبت الآن قوتك القديمة؟ كنت تقول قول الواثق إنك ستحافظ وحدك على المدينة بمساعدة إخوتك وأزواج شقيقاتك، دون حاجة إلى الجيوش أو الحلفاء، ولكني لا أرى الآن أو أتبين واحدا من هؤلاء، وإنما هم يقبعون كالكلاب حول أسد، ولا يقاتل أحد سوانا، نحن الذين لسنا بينكم غير حلفاء؛ لأنني، أنا الذي لست سوى حليف، قد جئت من مسافة نائية، من لوكيا القريبة من كسانثوس البعيدة الغور، حيث تركت زوجتي العزيزة، وطفلي الرضيع، وثروتي العظيمة، التي يطمع فيها كل محتاج. ورغم ذلك فإنني أحث اللوكيين، كما أتوق أنا نفسي إلى مقاتلة أي رجل، ولو أنه ليس لي أي شيء هنا يستطيع الآخيون أخذه مني، بينما تقف أنت بلا حراك، ولا تحث جنودك حتى على الصمود والدفاع عن زوجاتهم . فخذ حذرك حتى لا تقع أنت وإياهم فريسة وغنيمة لأعدائكم، فتصبحوا كمن وقع في شباك الصيد الكتانية، وسرعان ما سيخربون مدينتكم الآهلة بالسكان. على عاتقك تقع كل هذه المهام ليل نهار، فيجب عليك أن تتوسل إلى قواد الحلفاء الذائعي الصيت، أن يصمدوا دون ذعر، وبذلك تتحاشى اللوم العنيف.»
هكذا خاطبه «ساربيدون»، فوخزت كلماته قلب هكتور، فوثب لتوه من عربته إلى الأرض، في حلته المدرعة، يلوح برمحيه الحادين في كل مكان وسط الجيش، حاثا الرجال على القتال، ومثيرا وطيس القتال المفزع.
ومن ثم جمعوا جموعهم، واتخذوا موقفهم في مواجهة الآخيين، وثبت الأرجوسيون في أماكنهم في جموع مكثفة أمام هجماتهم، دون أن يركنوا إلى الفرار. وكما تحمل الريح التبن من الأجران المقدسة عندما يذري الرجال الحصاد، وتفصل «ديميتير»
15
الجميلة الشعر، الغلة عن التبن، وسط عواصف الريح المندفعة، وتصير أكوام التبن بيضاء، هكذا أيضا صار الآخيون الآن بيض الرءوس والأكتاف من سحب العثير التي أثارتها حوافر جيادهم وسط المحاربين فارتفعت إلى عنان السماء البرونزية، عندما اشتبكوا ثانية في القتال، وراح السائقون يدورون بعرباتهم ذات العجلات. كانوا يندفعون قدما بقوة أيديهم، وأنزل «أريس» الثائر ستارا من الظلمة حول المعركة ليساعد الطرواديين، وهو يطوف في كل مكان. وهكذا نفذ أمر أبولو، ذي السيف الذهبي، الذي أمره بأن يوقظ روح الطرواديين بمجرد رؤيته رحيل أثينا؛ إذ كانت هي التي تشد أزر الدانيين. وأرسل أبولو نفسه أينياس بعيدا عن المحراب العظيم، وبث الشجاعة في قلب راعي الجيش. فاحتل أينياس مكانه وسط رفاقه، وابتهج هؤلاء عندما أبصروه ينضم إليهم حيا سليما يفيض جرأة باسلة. ومع ذلك فلم يوجهوا إليه أي سؤال قط، إذ منعهم من ذلك انشغالهم بمتاعب من نوع آخر، تلك المتاعب التي كان يدفعهم إليها ذو القوس الفضية نفسه، وكذا أريس ملك البشر، وآلهة الشقاق الثائرة بغير انقطاع.
أما في الجانب الآخر فقد راح البطلان «أياس» و«أوديسيوس»، «ديوميديس»، يحمسون الدانيين على القتال، ولو أن أولئك، من تلقاء أنفسهم، لم تخر عزيمتهم أمام انقضاض الطرواديين العنيف وهجماتهم، بل ثبتوا في أماكنهم كالضباب الذي ينشره ابن كرونوس في الطقس الراكد فوق قمم الجبال، لا يتحرك، عندما تهبط قوة الريح الشمالية والرياح الثائرة الأخرى التي تهب عنيفة فتبعثر السحب الظليلة هنا وهناك. هكذا أيضا قاوم الطرواديون الدانيين صامدين دون فرار. وطاف ابن أريوس خلال الجيش يصدر أوامر كثيرة قائلا: «أيها الأصدقاء، كونوا رجالا، وامتلئوا جرأة وإقداما، وليخجل كل منكم من زميله في العراك الطاحن؛ فالناجون ممن يخجلون أكثر من القتلى، أما من أطلق العنان لقدميه فلن ينالها منه أي مجد أو نفع!»
وبعد أن تكلم ابن أتريوس، أسرع يقذف رمحه، فأصاب محاربا من الصفوف الأولى كان زميلا لأينياس العظيم النفس، هو «دايكوون»، ابن «بيرجاسوس»، الذي كان يبجله الطرواديون تبجيلهم لأبناء بريام، لسرعة تلبيته للقتال في الصفوف الأولى. لقد ضربه الملك أجاممنون برمحه فوق ترسه، فلم يحجز الترس الرمح، بل انطلق الرمح وسطه، ودفعه خلال الحزام إلى أسفل بطنه، فسقط يتردى محدثا صوتا مكتوما، ومن فوقه صلصلت حلته المدرعة.
بعد ذلك قتل أينياس اثنين من أبطال الدانيين، هما ابنا «ديوكليس»: «كريثون» و«أورسليوخوس»، اللذان كان يعيش والدهما في فيراي المتينة البناء، وهو رجل واسع الثراء من حيث المادة، أما من جهة النسب فإنه ينحدر من نهر الفيوس المتدفق وسط مجرى فسيح خلال بلاد البوليين، وقد أنجب «أورسيلوخوس» ليصير ملكا على كثير من الأقوام، ثم أنجب هذا «ديوكليس» العظيم النفس، فولد للأخير ذكران توأمان هما: كريثون، وأورسيلوخوس، البالغ المهارة في شتى ضروب القتال. فلما بلغ التوءمان مبالغ الرجال، ذهبا مع الأرجوسيين في السفن السوداء إلى طروادة الذائعة الصيت بجيادها؛ كي ينالا تعويضا عن ولدي أتريوس، أجاممنون ومينيلاوس. بيد أن الموت اختطفهما في تلك البلاد. فكانا كأسدين نشأتهما أمهما في أحراش غابة كثيفة فوق قمم الجبال، فكانا يفترسان الماشية والخراف السمينة، ويعيثان فسادا بين جموع البشر، فقتلهما البشر بواسطة الرماح البرونزية الحادة. وهكذا مات هذان التوءمان بيد أينياس، وسقطا كما تسقط أشجار الحور الباسقة.
بيد أنه ما إن سقطا حتى أشفق عليهما مينيلاوس العزيز لدى أريس، فأخذ يجول بين محاربي المقدمة، مرتديا البرونز اللامع، يلوح برمحه، وقد أثار أريس حميته حتى يلقى حتفه على يدي أينياس. ولكن «أنتيلوخوس»، ابن نسطور العظيم النفس، أبصر به، فسار وسط محاربي الصفوف الأمامية؛ لأنه كان يخاف على راعي الجيش خوفا شديدا من أن يلحقه أذى، فراح يعوق جهودهم إعاقة شاملة. وقد رقد أينياس ومينيلاوس يرفعان أيديهما ورمحيهما الواحد في مواجهة الآخر متلهفين على القتال، بينما اقترب «أنتيلوخوس» من راعي الجيش. وعندئذ لم يثبت أينياس، رغم كونه محاربا شديد المراس، لما رأى بطلين يواجهانه جنبا إلى جنب، فانسحب من القتال. أما هما فبعد أن جرا جثتي التعسين نحو جيش الآخيين وضعاهما بين أيدي زملائهما، ثم عادا ليقاتلا بين الصفوف الأمامية.
بعد ذلك قتل الاثنان «بولايمينيس»، غريم أريس، وقائد حاملي التروس العظيمي النفوس البافلاجونيين، ففيما كان يقف ساكنا، إذا بمينيلاوس بن أتريوس، الشهير باستخدام الرمح، يطعنه برمحه فوق عظم الترقوة، بينما صوب أنتيلوخوس ضربة إلى خادمه وسائق عربته «مودون»، أعظم أبناء «أتومنيوس»، بينما كان يدور بخيوله ذات الحوافر الفردية، فأصابه بحجر فوق المرفق تماما، فسقطت الأعنة، التي في بياض العاج، من يديه إلى ثرى الأرض. عندئذ وثب أنتيلوخوس فوقه، وغيب سيفه في صدغه، فسقط من فوق العربة على أم رأسه وكتفيه طريحا في الثرى. وظل على هذا الوضع هناك فترة طويلة - إذ وقع فوق رمل عميق - حتى وطئته خيوله، وألقته على الأرض فوق الثرى، فضربها أنتيلوخوس بالسوط، وساقها إلى جيش الآخيين.
ولكن هكتور أبصر بها بين الصفوف، فهجم عليها وهو يصيح عاليا. وقد تبعته فرق الطرواديين القوية، يقودها «أريس» والملكة أينيو، التي كان يسير في ركابها إله «ضجيج الحرب» العديم الرحمة، بينما راح أريس يلوح برمح عظيم في يديه، ويسير تارة أمام هكتور وتارة أخرى وراءه.
فلما رآه ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، ارتعدت فرائصه وأعضاؤه، وكما يقف من يجتاز سهلا فسيحا، هيابا، أمام نهر سريع الجريان تتدفق مياهه إلى البحر، وقد أبصر الزبد يعلو مياهه الثائرة ، هكذا تراجع ابن تيديوس، وخاطب الجيش بقوله: «أيها الأصدقاء، أرأيتم كيف كنا نعجب دائما بهكتور العظيم، ونعده رجل الرمح والمقاتل المقدام؛ إذ كان إلى جانبه أحد الآلهة يدرأ عنه السوء - كما يقف أريس الآن إلى جانبه في صورة إنسان؟ - هيا إذن تراجعوا إلى الخلف، ووجوهكم شطر الطرواديين، وحذار أن يأخذكم الحماس لتقاتلوا ضد الآلهة.»
وإذ خاطبهم على هذا النحو، واقترب منهم الطرواديون حتى صاروا على قيد خطوات، قتل هكتور اثنين من أبرع المقاتلين والمحاربين الأفذاذ، هما «مينيستيس» و«أنخيالوس»، اللذان كانا في عربة واحدة. وما إن سقطا حتى رثى لهما أياس التيلاموني، فاقترب منهما، وبضربة من رمحه اللامع أصاب «أمفيوس»، ابن «سيلاجوس»، الذي كان يقيم في بايسوس، وكان غنيا في المادة، غنيا في حقول القمح، ولكن القدر ساقه ليمد يد المساعدة لبريام وأولاده. فضرب أياس التيلاموني فوق حزامه في الجزء الأسفل من البطن، فسقط يتخبط. عندئذ اندفع أياس نحوه ليجرده من حلته الحربية، فأمطره الطرواديون وابلا من رماحهم الحادة اللامعة، فتلقى ترسه كثيرا منها، لكنه ثبت عقبه فوق الجثة، وجذب الرمح البرونزي، غير أنه لم يستطع أن ينزع عن الكتفين باقي العدة الحربية الجميلة؛ إذ كان مثخنا بالقذائف. وفضلا عن ذلك، فقد كان يخاف حراب الطرواديين الأمجاد. الذين التفوا حوله في جموع غفيرة وبشجاعة فذة، شاهرين الرماح، ورغم طوله الفارع، وقوته وجلاله، فإنهم دفعوه بعيدا عنهم، فتراجع وهو يترنح.
هكذا أبلي هؤلاء في الصراع العنيف، غير أن «تليبوليموس»، ابن هرقل، الطويل المقدام، ساقه القدر المحتوم ضد «ساربيدون» الشبيه بالآلهة. وبينما كان يتقدم كل منهما نحو الآخر - ابن زوس، جامع السحب، وحفيده - بدأ «تليبوليموس» يتكلم أولا قائلا: «أيا ساربيدون، يا مستشار اللوكيين، ماذا يضطرك إلى الاختفاء هنا، كرجل غير كفء للقتال؟ يكذب من يقول إنك منحدر من زوس حامل الترس، فإني أراك تقل كثيرا عن المحاربين المنحدرين من زوس في عصور قدامى الرجال. يقول الناس إن أبي هرقل القوي، البارع في القتال، كان من نوع آخر، كان ذا قلب أسد، وقدم إلى هنا ذات مرة ليسلب جياد الملك «لايميدون» ولم تكن معه غير ست سفن فقط، وعدد قليل من المحاربين، ومع ذلك فقد خرب مدينة طروادة، وجعل طرقاتها يبابا. إنك لجبان القلب، ورجالك يرتجفون ذعرا. وإني لأعتقد أن مجيئك من لوكيا لن يجدي في الدفاع عن رجال طروادة شيئا، وأنك لست بالقوي أبدا، وأن يدي ستقهرانك، فتجتاز أبواب هاديس.»
فأجابه «ساربيدون»، قائد اللوكيين بقوله: «أي تليبوليموس، لا مراء في أن والدك قد دمر طروادة المقدسة بسبب حمق الرجل العظيم «لايميدون». الذي عنفه بعبارات لاذعة، كانت ذات أثر حميد، لكنه لم يحظ بالجياد التي قدم من أجلها مجتازا الفيافي النائية. أما أنت فسوف تنال الموت والمصير الأسود على يدي، وبعد أن يصرعك رمحي تنيلني المجد، وتذهب روحك إلى هاديس ذات الجياد الكريمة!»
وإذا قال ساربيدون ذلك، رفع تليبوليموس رمحه الدرداري، فانطلقت الرماح الطويلة من أيديهما في لحظة واحدة، فأصابه ساربيدون فوق عنقه تماما، ونفذت السن البغيضة في الحال، وخيمت ظلمة الليل فطوته. أما تليبوليموس فقد أصاب ساربيدون برمحه الطويل، فوق فخذه اليسرى، ونفذت السن بسرعة حتى وصلت إلى العظم، ولكن أباه أنقذه من الهلاك.
بعدئذ جاء الزملاء الأجلاء وحملوا زميلهم ساربيدون شبيه الإله بعيدا عن ميدان القتال، وكان الرمح الطويل يؤلمه غاية الألم وهم يسحبونه، ولكن أحدا منهم لم يلحظ ذلك أو يفكر في أن ينزع الرمح من فخذه، لفرط عجلتهم، كي يستطيع الوقوف على قدميه، إذ كان كل همهم إسعافه.
أما في الجانب الآخر فقد حمل الآخيون، المدرعون جيدا تليبوليموس إلى خارج ساحة الوغى، وأبصر ذلك أوديسيوس العظيم، فغلى مرجل غضبه بين أحنائه، وأخذ يسائل نفسه: هل يطارد بعد ذلك ابن زوس الذي يرعد عاليا، أم الأفضل أن يزهق روح عدد آخر من اللوكيين؟ بيد أنه لم يكن مقدرا لأوديسيوس العظيم القلب أن يقتل بالبرونز الحاد ابن زوس الشجاع؛ ولذلك حولت أثينا فكره نحو جيش اللوكيين. فقتل «كوبرانوس» و«الاستور» وخروميوس والكاندروس وهاليوس ونويمون وبروتانيس، ومع ذلك فقد كان في إمكان أوديسيوس العظيم أن يقتل عددا أكثر من اللوكيين لولا أن لمحه هكتور العظيم ذو الخوذة البراقة، فانطلق خلال مقاتلي الصفوف الأمامية، مرتديا البرونز الملتهب، ومسببا فزع الدانيين. فسر لمجيئه ساربيدون، ابن زوس، وتوسل إليه بعبارات الاستعطاف قائلا: «يا ابن بريام، لا تحملني مشقة الرقود هنا فريسة للدانيين، بل مد إلي يد المعونة، وبعد ذلك، إن لزم الأمر، دع روحي تفارق جسدي في مدينتك، إذا كان غير مقدر لي أن أعود إلى بيتي في وطني لأدخل السرور على نفس زوجتي العزيزة وابني الرضيع.»
هكذا قال، ولكن هكتور ذا الخوذة البراقة لم يفتح فاه بكلمة يرد بها عليه، بل سارع، تواقا بمنتهى النشاط، إلى دفع الأرجوسيين إلى الوراء، وإلى إزهاق أرواح كثيرين منهم. وجاء زملاء ساربيدون شبيه الإله، الأجلاء، وأجلسوه تحت شجرة بلوط جميلة، من أشجار زوس حامل الترس، وتقدم بيلاجون الشجاع، وانتزع الرمح الدرداري من فخذه، فخارت قواه، وهبطت على عينيه غمامة، ولكنه لم يلبث أن أفاق، وهبت عليه الريح الشمالية بنسيمها، فأعادت إليه الحياة بعد أن كاد يلفظ روحه بصورة محزنة.
أما الأرجوسيون، فأمام هجوم أريس وهكتور المتدثر بالبرونز، لم يحاولوا الهروب إلى سفنهم السوداء، كما أنهم لم يستطيعوا الصمود في القتال، بل ظلوا يتقهقرون عندما بلغهم أن أريس موجود وسط الطرواديين.
ترى، من كان أول المقتولين، ومن كان آخرهم، على يد هكتور بن بريام، وأريس البرونزي؟ كانوا: تيوثراس، شبيه الآلهة، ثم أوريستيس، سائق الجياد، وتريخوس، رماح أيتوليا، أوينوماوس، وهيلينوس، ابن أينوبيس، وأوريسبيوس ذو الحزام المتألق الذي كان يسكن في هولي على حدود البحيرة الكيفيسية، يرعى ثروته رعاية عظيمة، وكان يقيم بقربه آخرون من البيوتيين ذوي الضياع البالغة الثراء.
إصابة إله الحرب!
غير أنه لما تنبهت الربة «هيرا» ذات الذراعين البيضاوين إليهما وهما يعيثان فسادا بين صفوف الأرجوسيين في الصراع المرير، أسرعت في الحال تقول لأثينا: «ويحي، يا ابنة زوس حامل الترس، الحق أننا وعدنا مينيلاوس دون جدوى، فلن يستطيع العودة إلى وطنه إلا بعد أن يكون قد اجتاح طروادة المتينة الأسوار، إذا تركنا أريس المخرب يعيث بهياجه هكذا. هيا تعالي، كي نفكر سويا في ذلك القتال الطاحن.»
وإذ قالت ذلك، لم تحجم الربة أثينا ذات العينين النجلاوين عن أن تستمع إليها. وعندئذ أخذت هيرا، الربة الجليلة ابنة كرونوس العظيم، تسير جيئة وذهابا، تسرج الجياد ذات القلائد الذهبية، وبسرعة ثبتت «هيبي» العجلات المستديرة البرونزية إلى جانبي العربة، تلك العجلات ذات البرامق الثمانية المتصلة بالسرة الحديدية. وكانت «أباسيط» تلك العجلات من الذهب غير القابل للفناء، ومن فوقها إطار من البرونز، يبهج الناظرين، كما كانت محاور العربة الفضية تدور حول هذا الجانب وذاك. أما هيكل العربة فكان مجدولا بإحكام بشرائط من الذهب والفضة، وينتهي بحافتين تحيطان به. كما كان يخرج من مقدم الهيكل قضيب من الفضة، ربط إلى طرفه النير الذهبي الجميل، وألقت فوقه سيور الصدر الجميلة الذهبية، ثم أمسكت هيرا بالنير، وقادت الجياد السريعة الأقدام، أشد ما تكون اشتياقا إلى النضال وصيحة الحرب.
غير أن أثينا، ابنة زوس حامل الترس، تركت ثوبها الناعم يسقط في حجرة أبيها، ذلك الثوب الفاخر الوشي، الذي نمقته بيديها، وخاطته بنفسها. وارتدت عباءة زوس، حاشد السحب، وتسربلت في حلة مدرعة للحرب، وعلقت حول كتفيها الترس ذا الأهداب، الذي يبعث الرعب والفزع، وقد توج بتاج دائري يتألف من آلهة الشغب، والكفاح، والشجاعة، والمطاردة التي تجمد الدم في العروق، ورأس الوحش المفزع - «الجورجون» - المثير للرعب والذعر، والذي يستخدم بمثابة «طيرة» لزوس حامل الترس. ووضعت فوق رأسها الخوذة ذات القرنين والحليات الأربع، المصنوعة من الذهب الخالص، والمزينة بصور محاربي مائة مدينة.
ثم ركبت العربة الملتهبة، وأمسكت برمحها الثقيل، الضخم، المتين، الذي أبادت به صفوف الرجال - من المحاربين الذين غضبت عليهم، هي نفسها، ابنة الملك القوي - وبسرعة لمست هيرا الجياد بالسوط، وإذ ذاك اصطفت على مفصلاتها - من تلقاء نفسها - أبواب السماء التي كانت تقوم ربات الساعات بحراستها، أولئك الربات اللواتي تعهد إليهن السماء العظيمة وأوليمبوس، بأن يفتحن الأبواب للسحب الكثيفة أو يغلقنها.
وخلال تلك الأبواب ساقت الربتان جيادهما التي تحتمل المناخس بصبر، فوجدتا «زوس» جالسا بعيدا عن الآلهة الآخرين فوق أعلى قمة من ذؤابات أوليمبوس العديد القمم. عندئذ أوقفت الربة هيرا، البيضاء الذراعين، الجياد، وتوجهت بالسؤال إلى زوس الأعلى، ابن كرونوس، قائلة: «أبتاه زوس، ألست حاقدا على أريس بسبب تلك الأعمال العنيفة، ولأنه أباد مثل ذلك الجيش اللجب العظيم من الآخيين، بطيش وبغير سبب معقول، الأمر الذي يحزنني، بينما تطرب «كوبريس» و«أبولو» ذو القوس الفضية، لأنهما أطلقا هذا الرجل المأفون الذي لا يراعي أي قانون؟ أبي زوس، ألا تغضب مني لو أنني ضربت أريس بطريقة محزنة وطردته خارج ميدان القتال؟»
فرد عليها زوس، حاشد السحب: «كلا، هيا الآن، وسلطي عليه أثينا، التي تمنح الغنيمة، والتي طالما تاقت أكثر من غيرها أن تجلب عليه الآلام المريرة!»
وإذ قال ذلك، لم تحجم الربة هيرا الناصعة الذراعين عن الإصغاء. ثم لمست جيادها بالسوط، فانطلقت لا يقف في طريقها شيء، تطير بين الأرض والسماء ذات النجوم. وكانت القفزة الواحدة من جياد الأرباب، العالية الصهيل، تقطع من المسافة بقدر ما يبلغ مرمى بصر المرء الجالس فوق قمة شاهقة يذرع بعينيه أجواز الفضاء القصي، ويجول بناظره عبر أعماق البحر القاتمة كالخمر.
ولما أشرفت الربة على طروادة، والنهرين المتدفقين، حيث يتحد مجريا نهر «سيمويس» ونهر «سكاماندر»، أوقفت هيرا الغراء الساعدين جيادها، وخلتها عن العربة، وسكبت حولها غماما كثيفا، كما أنبت لها نهر سيمويس مرعى إلهيا كي ترعى فيه.
وبعد ذلك انطلقت الربتان في طريقهما معا، تسيران بخطوات اليمام الخجول، تواقتين إلى تقديم المساعدة لمحاربي أرجوس. فوصلتا إلى حيث تقف الأغلبية وأعظم الشجعان مجتمعين حول ديوميديس القوي، مستأنس الخيول، كأنهم الأسود الضارية أو الخنازير البرية التي تفتر قوتها، وقفت هناك الربة هيرا الناصعة الذراعين، في صورة «ستينتور»
16
العظيم القلب، ذي الصوت البرونزي، الشبيه بصوت خمسين رجلا، وصاحت قائلة: «ويحكم أيها الأرجوسيون . يا للخزي والعار، أيها الأخساء، ليس فيكم من شيء جميل سوى المظهر فحسب! لطالما اشتهى أخيل العظيم أن يسير إلى القتال، فما كان الطرواديون يستطيعون التقدم إطلاقا حتى أمام الأبواب الدردانية، من فرط ما كانوا يرهبون رمحه المكين، أما الآن فإنهم يقاتلون بعيدا عن المدينة بالقرب من السفن الخاوية.»
وما إن قالت هذا حتى حفزت قوة وروح كل رجل، ثم قفزت الربة أثينا البراقة العينين إلى جوار ابن توديوس، فوجدت ذلك الباسل إلى جوار خيوله وعربته، يبرد الجرح الذي أنزله به «بانداروس»
17
بسهمه؛ إذ كان يثيره العرق الذي يسيل تحت الحامل العريض لترسه المستدير، وكانت ذراعه متعبة، فكان يرفع الحامل ويمسح الدم القاتم.
ثم أمسكت الربة بأعنة خيوله وقالت: «ما أقل شبه ابن توديوس بالأب الذي أنجبه! كان توديوس صغير الجسم، ولكنه كان محاربا. فحتى عندما كنت لا أكلفه عناء القتال أو إظهار قوته، كنت في أي وقت يأتي فيه في سفارة إلى طيبة، بين كثير من «الكادموسيين»، وليس معه أي آخي، آمره بتناول الطعام في ساحاتهم في سلام، ومع ذلك كان كسابق عهده، يتحدى بروحه الباسلة شباب الكادموسيين ويهزمهم في كل ميدان، بسهولة ويسر. فلقد طالما كنت له حامية. أما أنت، فبرغم أني أقف إلى جوارك وأحرسك، وآمرك بأن تقاتل الطرواديين، بقلب متأهب، فإنك إما قد دب في أوصالك التعب الناجم عن الهجمات الكثيرة، أو أن الفزع الرعديد يستولي على جنانك. وإذن فما أنت من ذرية توديوس، الابن الحكيم القلب لأوينيوس.»
18
فأجابها ديوميديس القوي بقوله: «إنني أعرفك، يا ابنة زوس حامل الترس؛ ولذا سأصرح لك بمكنونات قلبي ولن أخفي عنك شيئا. لا ذعر أو جبن يستولي على جناني، ولا أي تراخ ولكني ما زلت ذاكرا الأمر الذي أصدرته لي. إنك لن تحمليني عناء القتال وجها لوجه مع الآلهة المباركين الآخرين، أما إذا دخلت أفروديت، ابنة زوس، إلى المعركة، فقد أمرتني بأن أضربها بالبرونز الحاد. وعلى ذلك فهذا سبب كوني أتقهقر، وسبب إصداري الأمر لجميع الأرجوسيين الباقين بأن يحتشدوا هنا معي؛ لأنني أرى «أريس» يسيطر على ساحة الوغى.»
فردت عليه أثينا، ذات العينين النجلاوين، بقولها: «أيا ابن توديوس، أيا ديوميديس، العزيز على قلبي، لا تخش أريس ، أو غيره من الخالدين؛ إذ سأكون معينة لك في كل وقت. هيا، تعال، قد جيادك الفردية الحوافر، واضربه أولا وجها لوجه، ولا تخش أريس الثائر، الذي يعيث هنا فسادا وتخريبا، ذلك الخائن الذي كان يتحدث الآن معي ومع هيرا، متظاهرا بأنه سيقاتل ضد الطرواديين، بينما قدم المساعدة للأرجوسيين، ومع ذلك فهو ينحاز الآن إلى الطرواديين، ناسيا هؤلاء!»
وما إن قالت هذا حتى جذبت «ستينيلوس» بيدها، من العربة إلى الأرض فأسرع يقفز من العربة، فركبتها إلى جوار ديوميديس العظيم؛ إذ كانت الربة متلهفة إلى القتال. وبصوت عال طقطق محور العربة البلوطي تحت حمله الثقيل؛ لأنه كان يحمل ربة موهوبة الجانب ومقاتلا منقطع النظير. فأمسكت «أثينا» بالسوط والأعنة، وقادت الجياد الفردية الحوافر بسرعة ضد أريس. وكان عندئذ يجرد «بيريفاس» الضخم من عدته الحربية، ذلك الذي كان يفضل جميع الأيتوليين، الابن العظيم لأوخيسيوس. كان أريس الملطخ بالدماء يجرده من حلته، ولكن أثينا لبست خوذة «هاديس»، حتى لا يبصرها أريس القوي!
والآن عندما تنبه أريس، مدوخ البشر، إلى ديوميديس العظيم، ترك بيريفاس الضخم راقدا حيث هو، حيث كان قد قتله وسلبه حياته، وتقدم مباشرة نحو ديوميديس، مستأنس الجياد. وبينما كانا يقتربان أحدهما من الآخر، قذف أريس رمحه البرونزي، أولا نحو النير وأعنة الجياد، متلهفا إلى إزهاق روح غريمه، غير أن أثينا النجلاء العينين أمسكت بالرمح، وألقت به على العربة، حتى لا يصل إلى الهدف. وبعد ذلك أطلق ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، رمحه البرونزي صوب أريس، فأسرعت أثينا ووجهته بقوة نحو بطنه، حيث كان متمنطقا بدرقاته، فأصابه وجرحه وهو يخترق ويمزق بشرته الرقيقة. ثم سحب الرمح ثانية. وعندئذ زأر أريس بقوة كما يصرخ وسط المعركة تسعة أو عشرة آلاف مقاتل، عندما ينضمون إلى معركة إله الحرب. فاستولت الرجفة على الآخيين والطرواديين على السواء، وشاع بينهم الذعر؛ فقد زأر أريس الذي لا يمل القتال بمثل تلك الشدة!
وكما تبدو الظلمة القاتمة من خلال السحب، عندما تهب ريح لافحة بعد موجة من الحر، هكذا أيضا برز زوس البرونزي لديوميديس، ابن توديوس، وهو يرحل خلال السحب إلى السماء الفسيحة. ووصل بسرعة إلى موطن الآلهة، إلى أوليمبوس الشاهق، وجلس إلى جانب زوس بن كرونوس حزين القلب، وأظهر له دمه الخالد ينبثق من الجرح، وانتحب وهو يقول له: «أبي زوس، ألست ساخطا وأنت ترى هذه الأعمال العنيفة؟ أيجب علينا نحن الآلهة أن نعاني باستمرار خطط القسوة التي يدبرها بعضنا ضد البعض الآخر كلما أراد إظهار وده للبشر؟ هل نحن جميعا في صراع معك؛ لأنك والد تلك الفتاة المجنونة المؤذية، التي يتركز عقلها دائما في الأعمال غير المشروعة؟ إن جميع الآلهة المقيمين في أوليمبوس يطيعونك ويخضعون لك، كل واحد منا، نحن رعاياك، ما عداها هي، فإنها لا تطيعك، لا بالقول ولا بالفعل، بل تطلقها وتترك لها الحبل على الغارب، لا لشيء إلا لأن هذه الفتاة العابثة ابنتك!
والآن قد شجعت ابن توديوس، ديوميديس، المتعجرف، ليصب جام غضبه على الآلهة الخالدين؛ فقد أصاب «كوبريس» بادئ ذي بدء بطعنة، وجرحها في يدها عند الرسغ في قتال دار بينهما وجها لوجه. وبعد ذلك هجم علي أنا نفسي، كما لو كان إلها! ولو لم تحملني قدماي السريعتان بعيدا، لقاسيت الآلام طويلا وسط كومات الموتى البشعة، أو لعشت مجردا من القوة بسبب ضربات الرمح.»
عندئذ أجابه زوس حاشد السحب، وقد قطب حاجبيه، بقوله: «لا تجلس إلى جواري قط، أيها الخائن. ما أبغضك إلى نفسي - من دون جميع الآلهة الذين يقطنون في أوليمبوس - لأن القتال محبب إلى نفسك دائما، وكذا الحروب والمعارك. إن لك نفس الروح التي لا تطاق، والتي لا تعرف الاستسلام، روح أمك هيرا، التي لا أستطيع مطلقا أن أسيطر عليها بكلامي. وإنك لتعاني الآن على ما أظن، من جراء تشجيعها لك. وعلى أية حال فلن أحتمل بعد الآن أن أراك تتألم؛ لأنك من ذريتي، وقد أنجبتك أمك لي، أما لو كنت من نسل أي إله آخر، وكنت عابثا بهذا الشكل، فإنك كنت قمينا بأن تجد نفسك، منذ أمد طويل، أقل في المرتبة من أبناء السماء!»
وبعد أن قال هذا، أمر «بايون»
19
بأن يشفي جرحه، فنثر بايون على الجرح بعض العقاقير التي تبدد الألم، فشفاه - إذ لم يكن في الحقيقة من الجنس البشري بأية حال - وكما يعجل عصير التين بزيادة كثافة اللبن الأبيض السائل، فيتخثر بمجرد أن يحركه المرء، كذلك بمثل هذه السرعة ضمد بايون جراح «أريس» الثائر
20
ثم أعانته هيبي على الاغتسال، وألبسته رداء جميلا، وأجلسته إلى جانب زوس بن كرونوس، متهللا في مجده.
عندئذ رجعت هيرا الأرجوسية، وأثينا الألالكومينية، عائدتين إلى قصر زوس العظيم، بعد أن جعلتا أريس، جالب الشقاء على البشر، يكف عن سفك دماء البشر!
الأنشودة السادسة
«... ولكن هكتور ذا الخوذة البراقة لم يرد عليه ببنت شفة، وإنما تحدثت إليه هيلينا بألفاظ رقيقة، قائلة: «أي أخي، يا أخا الكلبة، المدبرة للأذى والممقوتة من الجميع، كم كنت أتمنى يوم ولدتني أمي، بادئ ذي بدء، لو قد حملتني ريح عاتية شريرة وذهبت بي بعيدا إلى جبل ما، أو إلى لجج البحر الشاهقة الصاخبة».»
كيف تعارف «ديوميديس» و«جلاوكوس» أحدهما على الآخر، بعد إذ أوشكا على التقاتل، فافترقا في ود، وكيف عاد هكتور إلى المدينة فودع زوجته «أندروماك» ... إلخ.
مفاخر أخرى لديوميديس
هكذا استمر الصراع الطاحن بين الطرواديين والآخيين يسير على رسله، وكثيرا ما كان القتال يشتد في هذا الجانب أو ذاك، فوق أديم السهل، وكل فريق يقذف الآخر برماحه ذات الأسنة البرونزية، بين نهر «سيمويس» وروافد نهر «كسانتوس».
وكان إلياس بن تيلامون، حصن الآخيين، أول من أحدث ثغرة في صفوف كتيبة من الطرواديين، وحصل على بصيص من نور الخلاص لزملائه؛ لأنه أصاب رئيس التراقيين، «أكاماس»، ابن يوسوروس، وكان شجاعا فارع الطول؛ فقد ضربه أولا على قمة خوذته ذات الخصلة الغليظة من شعر الخيل، ثم غرس الرمح في جبهته حتى نفذت سنه خلال العظم، فغشت الظلمة على عينيه.
وقتل ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، «أكسولوس»، ابن ثيوثراس
1
الذي كان يقيم في أريسبي المتينة البناء، وكان رجلا واسع الثراء موفور المادة، محبوبا من الجميع ؛ لأن داره كانت على قارعة الطريق مفتوحة لجميع الضيوف. ومع ذلك فلم يخف أحد أولئك الضيوف الآن ليتصدى للعدو، ويدرأ عنه الهلاك المفجع! وقد أزهق ديوميديس روحه وروح خادمه «كاليسيوس» الذي كان يقود عربته في تلك الأثناء، فتردى كلاهما في الثرى.
ثم قتل «يوروالوس» كلا من «دريسوس» و«أوفيلتيوس»، وتعقب «أيسيبوس» و«بيداسوس» الذي حملت به الحورية «أبارباريا» من «بوكوليون» المنقطع النظير. وكان بوكوليون أكبر أولاد الملك «لاوميدون»، لكنه لم يتزوج الأم التي أنجبت بيداسوس، فبينما كان يرعى قطعانه، اضطجع مع الحورية في نوبة غرام، فحملت منه وولدت صبيين توءمين، كانا هما هذان اللذان سلبهما ابن ميكيستوس قوتهما، وعرى أكتافهما من الدروع أما «بولوبويتيس»
2
البارع في القتال، فقد صرع أستوالوس، كما قذف أوديسيوس رمحه البرونزي فقتل بيدوتيس القادم من بيركوتي، كما قتل تيوكير، أريتاون العظيم. وقتل أنتيلوخوس، ابن نسطور، أبليروس برمحه اللامع. وقتل أجاممنون، ملك البشر، أيلاتوس الذي كان يقطن في بيداسوس الوعرة، بالقرب من شواطئ نهر ساتنيويس الهادئ الجريان. وقتل المحارب «لايتوس» فولاكوس، وهو يفر أمامه، كما صرع «يوروبولوس» ميلانتيوس.
وقبض مينيلاوس، البارع في صيحة الحرب، على «أدراستوس» حيا؛ إذ تعثر جواداه وهما يعدوان في السهل، في غصن من الأغصان. ولما تحطمت العربة المقوسة عند طرف العريش، استمر الجوادان في عدوهما صوب المدينة؛ حيث كان الباقون يفرون في هرج ومرج، وتدحرج سيدهما من العربة إلى جانب العجلة، وسقط في الحال فوق الثرى منكفئا على وجهه. فأقبل إليه مينيلاوس، ابن أتريوس، حاملا رمحه الطويل الظل. وعندئذ أمسك أوراستوس بركبتيه وتوسل إليه بقوله: «خذني حيا، يا ابن أتريوس، واقبل فدية عظيمة، فإن في قصر والدي الواسع الثراء كنوزا عظيمة، من برونز، وذهب، وحديد مصنوع بالكد والتعب، ولو سمع والدي أنني حي في سفن الآخيين، لأعطاك فدية تفوق الحصر!»
هكذا قال، محاولا إثارة شفقة الآخر في قلبه، ولكن - للأسف - بينما كان مينيلاوس على وشك أن يسلمه لخادمه كي يقوده إلى سفن الآخيين السريعة، إذ بأجاممنون يهرع لمقابلته، ويعاتبه بقوله: «هيا يا مينيلاوس ، يا طيب القلب، لم تهتم هكذا بالناس؟ هل أحسن الطرواديون معاملتك في بيتك؟ إذن فلا تتركن أحدهم يفر من الهلاك التام على أيدينا، ومن جبروتنا وقتالنا. حتى الطفل الذكر الذي تحمله أمه في أحشائها جنينا، لا تدعه يهرب! أهلك الجميع معا خارج طروادة، دون أن يجدوا من يبكيهم أو يهتم بهم!»
هكذا قال ذلك المحارب، فحول فكر أخيه، إذ كان سديد الرأي؛ ومن ثم دفع مينيلاوس بيده المحارب «أدراستوس» بعيدا عنه، فضربه الملك أجاممنون في جنبه، فترنح إلى الوراء، وداس ابن أتريوس بقدمه على صدره، وجذب الرمح الدرداري.
وعلى أثر ذلك صاح نسطور بأعلى صوته، مخاطبا الأرجوسيين بقوله: «أيها الأصدقاء، أيها المحاربون الدانيون، يا خدم أريس، لا تدعوا الآن أي رجل يتخلف وراءنا طمعا في الغنيمة، كي يعود إلى السفن حاملا أعظم مئونة، كلا، دعونا نصرع الرجال، ثم بعد ذلك تجردون أجسادهم الملقاة على السهل دون حراك، من دروعهم.»
أثار بقوله هذا حمية وقوة كل رجل، وعندئذ كان على الطرواديين أن يتقهقروا ثانية أمام الآخيين، أحباء أريس، إلى طروادة، ويبادوا بسبب ضعفهم، لولا أن ابن بريام، «هيلينوس»، خير جميع العرافين، جاء إلى أينياس وهكتور، وقال لهما: «أي أينياس وهكتور، بما أن مهمة حرب الطرواديين واللوكيين تقع على عاتقكما قبل غيركما؛ لأنكما أفضل الجميع في الحرب والمشورة، بل وفي كل مهمة، فاصمدا، واذهبا في هذا الطريق وذلك وسط الجيش، وأوقفوا الرجال أمام الأبواب، خشية أن يعمدوا في فرارهم إلى إلقاء أنفسهم بين أحضان نسائهم فيصبحوا بذلك أضحوكة أعدائهم. غير أننا، بعد أن تشجعا جميع رجالنا، سنبقى ونقاتل بحق ضد الدانيين، رغم ما نحن عليه من تعب شديد، فإن للضرورة عندنا وزنها الثقيل، ولكن ألا تشق يا هكتور طريقك إلى المدينة، وتتكلم مع أمي، التي هي أمك كذلك، كي تجمع الزوجات المسنات في معبد أثينا البراقة العينين، فوق الأكروبول، وعندما تفتح أبواب البيت المقدس بالمفتاح، خلها تنتقي أجمل وأبهى ثوب في ساحتها، الثوب المحبب إلى نفسها أكثر من غيره، وتضعه فوق ركبتي أثينا ذات الشعر الجميل، وتنذر لها أن تذبح في معبدها اثنتي عشرة بقرة حولية لم تعرف المنخس بعد، إن تولت المدينة برحمتها، ورحمت كذلك زوجات الطرواديين وأطفالهم الصغار، أملا في أن تدرأ عن طروادة المقدسة هجوم ابن توديوس، ذلك الرماح المتوحش، المدبر القوي للمنازعات، الذي أثبت - كما أعتقد - أنه بحق أقوى الآخيين. إننا لم نخش إلى هذه الدرجة حتى أخيل نفسه، قائد الرجال الذي يقولون عنه إنه مولود من ربة. فإن ذلك البطل «ديوميديس» عنيف في غضبه، ولا يمكن لأحد أن يتحداه في قوته.»
ولم يعص هكتور بأية حال كلام أخيه. فقفز في الحال من عربته إلى الأرض، وهو في عدته الحربية، يلوح برمحيه الحادين، وأخذ يجوس في كل مكان خلال الجيش، يحث الجنود على القتال، فأثار وطيس المعركة، فاستجمع الرجال قواهم، واتخذوا مواقفهم في مواجهة الآخيين فتقهقر الأرجوسيون وكفوا عن التقتيل، ظانين أن أحد الخالدين قد نزل من السماء ذات النجوم ليقدم المعونة للطرواديين، بدليل أنهم استجمعوا قواهم هكذا. ثم صاح هكتور مخاطبا الطرواديين بقوله: «أيها الطرواديون، أيها الشجعان، أيها الحلفاء الذائعو الصيت، كونوا رجالا يا أصدقائي، وتذكروا حميتكم الثائرة، بينما أذهب أنا إلى طروادة وآمر الشيوخ الناصحين، وكذا زوجاتنا، بتقديم الصلاة للآلهة، وبذل الوعد لهم بذبائح من مائة ثور.»
وما إن قال هكتور، ذو الخوذة البراقة، هذا القول، حتى انطلق مبتعدا عن أرض المعركة، وقد راحت الحافة الجلدية السوداء لترسه المقوس تضرب عنقه وعقبيه. «ديوميديس» و«جلاوكوس»
وفي تلك اللحظة، التقى في منتصف الشقة بين الجيشين كل من جلاوكوس،
3
ابن هيبولوخوس، وابن توديوس، وقد اتقدت حميتها للقتال. وعندما اقترب كلاهما، وتقدم الواحد في مواجهة الآخر، كان ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، هو أول من تكلم، قائلا: «من أنت، أيها الرجل القوي من دون البشر؟ لم يسبق لي - قبل اليوم - أن أبصرتك في المعارك حيث ينال الرجال المجد، ولكن ها أنت اليوم تبز الجميع في عودك الصلب، باجترائك على أن تتصدى لرمحي الطويل الظل! فيا لهم من تعساء أولئك الذين يفكر أبناؤهم في إقامة العراقيل في وجه سطوتي. أما إذا كنت أنت إلها من الخالدين قد هبطت من السماء، فلن أقاتلك؛ لأني لن أقاتل ضد الآلهة السماوية. كلا، لأن «لوكورجوس»
4
ابن درواس نفسه لم يعش طويلا بعد أن اشتبك في مشاجرات مع الآلهة السماوية. وهو الذي طارد - فيما مضى - الأمهات مرضعات «ديونيسوس» المعتوه، فوق جبل «نوسا» المقدس، وأسقط عصيهن على الأرض، وهو يضربهن بمنخس الثيران! ... أما ديونيسوس فأطلق العنان لقدميه، وغطس تحت أمواج البحر، فاستقبلته «ثيتيس» - أم أخيل - في حضنها، وهو يرتعد هلعا؛ لأن ذعرا قويا قد استولى عليه جراء تهديدات ذلك الرجل. وإذ ذاك ثارت ثائرة الآلهة الذين يعيشون في سعادة، وامتلئوا غضبا ضد «ليكورجوس»، فأصابه ابن كرونوس بالعمى، ولم يعش بعد ذلك طويلا، عندما ألفى أنه مكروه من جميع الآلهة الخالدين! ... لذلك لا أنصح بالقتال ضد الآلهة المباركين. أما إذا كنت من البشر، آكلي ثمار الحقول، فاقترب، حتى تذوق بسرعة كأس الردى!» فأجابه ابن هيبولوخوس، القوي، قائلا: «أيا ابن توديوس الهمام، لماذا تتحرى عن سلسلة نسبي؟ إن نسل البشر لكثيرون كثرة نسل أوراق الأشجار. وإن الرياح لتنثر بعض أوراق الأشجار فوق الأرض، فتنبت الشجرة غيرها عندما تزدهر، في فصل الربيع. هكذا الحال أيضا مع البشر؛ إذ ينشأ جيل، بينما يندثر جيل آخر. ومع ذلك، فلو شئت فاسمع هذا أيضا كي تعرف سلسلة نسبي جيدا، وإن الذين يعرفونها لكثيرون: هناك مدينة تسمى أيفوري في قلب أرجوس، مرعى الخيول، حيث كان يعيش «سيسوفوس» ابن أيولوس، الذي كان أدهى البشر. سيسوفوس الذي أنجب جلاوكوس، ثم أنجب جلاوكوس «بيليروفون» المنقطع النظير، الذي منحته الآلهة جمالا ورجولة فائقة، غير أن «برويتوس» أضمر له الشر، فطرده؛ لأنه كان يبزه قوة في بلاد الأرجوسيين الذين جعلهم زوس يخضعون لصولجانه. والآن اجتاحت «أنتيا» الفاتنة، زوجة برويتوس، رغبة ملحة في الاضطجاع مع «بيليروفون»، في حب محرم، ولكنها لم توفق قط في التغلب على بيليروفون العاقل؛ لأنه كان قويم الخلق والطوية. فاختلقت قصة كاذبة، وقالت لزوجها الملك برويتوس: «أي برويتوس، إما أن تموت أنت نفسك، وإما أن تقتل بيليروفون؛ لأنه أراد أن يغتصبني قسرا!» فلما قالت هذا، حنق الملك لسماع حكايتها، ولكنه تأنى في قتله؛ إذ كانت روحه لا تجرؤ على فعل ذلك، فبعث به إلى لوكيا يحمل ألواحا مشئومة، نحت الملك في لوح مطوي منها علامات كثيرة تتضمن الموت، وأمره بأن يطلع عليها حماه؛ لكي يقوم هذا بقتله! فذهب في طريقه إلى لوكيا برفقة الآلهة البريئة. وعندما بلغ لوكيا ومجرى نهر كسانثوس. استقبله ملكها بصدر رحب وأكرم وفادته مدة تسعة أيام، ذبح له تسعة ثيران، بيد أنه عندما لمع فجر اليوم العاشر في جنبات السماء، طالبه الملك بأن يقدم الدليل على مجيئه من لدن زوج ابنته، برويتوس. فلما أطلع الملك على الدليل الذي أحضره له من عند زوج ابنته، أمره، بادئ ذي بدء، بأن يقتل «الخيمايرا»
5
الثائرة. ولم تكن هذه من البشر، بل من نسل مقدس، وكان نصفها الأمامي جسم أسد، والخلفي لأفعوان، ووسطها وسط عنزة. وكانت أنفاسها تنفث اللهب المستمر في نفثات مفزعة. فقتلها بيليروفون، لثقته بعلامات الآلهة، وبعد ذلك قاتل «سولومي» الماجدة، وكانت هذه على حد قوله أعنف معركة دخلها مع المقاتلين. أما المرة الثالثة فقتل فيها «الأمازونيس» أولئك السيدات المتشبهات بالرجال. وعندما انصرف عائدا - بعد أن نجا من المؤامرات الثلاث - دبر له الملك كمينا آخر. فاختار أشجع أبطال لوكيا الفسيحة، وبثهم في طريقه ليفتكوا به، ولكن لهؤلاء لم يعودوا قط إلى وطنهم، فقد نكل بهم بيليروفون، المنقطع النظير، وأبادهم عن بكرة أبيهم. ولما علم الملك بأنه نسل جريء للآلهة، احتفظ به هناك، وقدم له ابنته، ووهبه نصف مملكته، وفضلا عن ذلك فقد منحه اللوكيون ضيعة تفوق جميع الضياع، ضيعة جميلة من البساتين والحقول. فولدت السيدة لبيليروفون، الحكيم القلب ثلاثة أطفال: «أيساندر» و«هيبولوخوس» و«لاوداميا». فرقد زوس مع لاوداميا، فولدت «ساربيدون»، شبيه الإله، ذلك المحارب المدرع بالبرونز. غير أنه عندما غدا بيليروفون ممقوتا من سائر الآلهة، راح يجوس بمفرده خلال السهل الألياني، منطويا على نفسه متحاشيا طرقات البشر، وقتل ابن «أيساندر» بيد الإله «أريس» المتعطش للقتال. قتله وهو يقاتل ضد السولومي الأمجاد، كما قتلت الربة «أرتيميس»، ذات الأعنة الذهبية، في سورة غضب، ابنته «لاوداميا». أما ابنه الثالث «هيبولوخوس» فقد أنجبني، أنا جلاوكوس؛ ولذا فإني أعلن أنني انحدرت منه، وأرسلني إلى طروادة وكلفني بأن أكون أعظم الجميع شجاعة وأكثرهم تفوقا، وألا أجلب العار على نسل أجداده، الذين كانوا سادة النبلاء في أيفوري وفي لوكيا الواسعة الأرجاء. وهذه هي سلسلة نسبي، والدم الذي أفخر بأنني انحدرت منه.»
وإذ فرغ جلاوكوس من حديثه، اغتبط ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، وغرس رمحه في الأرض الفسيحة، وبعبارات رقيقة تحدث إلي راعي الجيش قائلا: «إذن فأنت حقا صديق بيت أبي منذ القدم؛ إذ أكرم «أوينيوس» العظيم، ذات مرة، وفادة بيليروفون المنقطع النظير، واستبقاه في أبهائه، عشرين يوما. وعلاوة على ذلك فقد أعطى كل منهما الآخر هدايا جميلة، تذكارا للصداقة. فقدم أوينيوس حزاما براقا بلون القرمز، وقدم بيليروفون كأسين ذهبيتين خلفتها ورائي في قصري عندما حضرت إلى هنا. أما توديوس فلا يمكنني أن أتذكره؛ إذ لم أكن سوى طفل صغير أيام أن سافر، في الوقت الذي هلك فيه جيش الآخيين في طيبة. ومن ثم، فأنا الآن ضيفك في أرجوس، وأنت ستكون ضيفي في لوكيا عندما أسافر إليها يوما ما. إذن، هيا نتجنب رماح بعضنا، حتى وسط الجموع، فهناك كثيرون أستطيع أن أصرعهم، من الطرواديين والحلفاء الذائعي الصيت، من سيمنحهم لي الرب، ومن تلحق بهم قدماي. وكذلك الحال بالنسبة لك، فهناك كثيرون من الآخيين لتقتلهم، كل من تقوى على قتلهم. ودعنا نتبادل حللنا الحربية، كل مع الآخر؛ كي يعرف هؤلاء أيضا أننا نعلن عن صداقتنا منذ أيام آبائنا.»
عندما دار هذا الحديث بينهما، قفزا من عربتيهما إلى الأرض، وأمسك كل منهما بيد الآخر وأقسما على الوفاء. فلما رأى زوس، ابن كرونوس، أن جلاوكوس قد استبدل حلته الذهبية بأخرى من البرونز، سلبه عقله؛ إذ أعطى لديوميديس، ابن توديوس، ذهبا قيمته مائة ثور ، مقابل برونز قيمته تسعة ثيران.
هكتور في طروادة
في تلك الأثناء بلغ «هكتور» الأبواب السكايية وشجرة البلوط، فأقبلت زوجات وبنات الطرواديين، يجرين من حوله، ويسألنه عن أبنائهن وإخوتهن وأصدقائهن وأزواجهن. فأمرهن بالصلاة للآلهة، كل إله بدوره، ومع ذلك فقد خيم الحزن على كثيرين منهم.
ثم مضى هكتور إلى قصر أبيه «بريام» الجميل، المزين بالأعمدة المصقولة، وكانت به خمسون حجرة من الحجر المصقول، تشد كل منها الأخرى ببنائها المتين، وفي داخلها كان يتوق أبناء بريام إلى الرقاد بجوار زوجاتهم اللواتي يتوددون إليهن. كما كانت هناك في مواجهتها اثنتا عشرة حجرة من الحجر المصقول، لبناته، كل حجرة مبنية إلى جوار الأخرى، وبداخلها كان ينام أزواج بنات بريام، إلى جوار زوجاتهم، وجاءت والدته الكريمة «هيكوبي» لاستقباله، تصحب معها «لاوديكي»، أجمل بناتها فتنة وإغراء، وأمسكت بيده وقالت: «أي بني، لم تركت القتال العنيف وقدمت إلى هنا؟ لا شك في أن أبناء الآخيين، المشهورين بالشرور، يضغطون عليك ضغطا شديدا، بينما يقاتلون حول مدينتنا، وقد دلك قلبك على المجيء إلى هنا، لترفع يديك متضرعا إلى زوس من القلعة. فلتبق هنا حتى أحضر لك خمرا في حلاوة العسل، لتقديمها سكيبة لزوس والآلهة الخالدين الآخرين أولا، فتنال من هذا نفعا عظيما، لو قدر لك أن تشرب منها. فعندما يشعر المرء بتعب العمل، فإن الخمر تزيد من قوته، وإنك الآن لمتعب من الدفاع عن زملائك.»
فرد عليها هكتور العظيم، ذو الخوذة البراقة، قائلا: «أي والدتي المبجلة، لا تحضري لي أية خمر عسلية، لئلا تعوقيني، فأنسى قوتي وشجاعتي. وعلاوة على ذلك فإنني أخاف أن أصب سكيبة من الخمر المستعرة لزوس، بيدي غير المغسولتين. كما أنه لا يجوز، بأية حال، أن يصلي المرء لابن كرونوس، سيد السحب الدكناء، وهو ملطخ بالدم والأقذار، ولكن اذهبي إلى معبد أثينا، سائقة الغنائم أمامك، ومعك ذبائح محترقة، وبصحبتك الزوجات المسنات، وأجمل ثوب وأوسعه في قصرك، الثوب العزيز لديك أكثر من بقية الثياب، وضعيه فوق ركبتي أثينا ذات الشعر الفاتن، ثم تعهدي لها بأن تذبحي في معبدها اثنتي عشرة بقرة صغيرة لم تتجاوز العام ولم تعرف المنخس بعد، إن أشفقت أثينا على طروادة وزوجات الطرواديين، وأطفالهم الصغار؛ أملا في أن تصد عن مدينتنا المقدسة ذلك الرماح المتوحش، المدبر القوي للشغب، ابن توديوس. إذن فاذهبي إلى معبد أثينا، سائقة أمامك الغنائم، وسأذهب أنا إلى «باريس» كي أستدعيه، إن شاءت الأقدار وأجاب طلبي. ألا ليت الأرض تخسف به! فما رباه الأوليمبي إلا لغرض مفجع، كمصدر أذى للطرواديين وبريام العظيم القلب وأبناء بريام، ولو قيض إلي أن أراه يهبط إلى هاديس لنسي قلبي جميع آلامه.»
هكذا قال هكتور، فذهبت أمه إلى القصر ونادت خادماتها فجمعن الزوجات المسنات من جميع أرجاء المدينة، أما الملكة نفسها، فنزلت إلى الخزانة ذات القبو؛ حيث توجد ملابسها الفاخرة الوشي، التي طرزتها أيدي النساء الستدونيات، اللواتي كان ألكساندر - باريس - شبيه الإله، قد جلبهن من سيدون، عندما أبحر على صفحة اليم الفسيح في تلك الرحلة التي جاء فيها بهيلينا العريقة المنبت. فتناولت «هيكوبي»
6
رداء كان أجمل الثياب وشيا، وفضفاضا أكثر من الجميع، يتلألأ كالنجم الساطع، وكان موضوعا أسفل كل الثياب، وحملته كتقدمة لأثينا. ثم سارعت بعد ذلك في طريقها، يتبعها حشد من الزوجات المسنات، يسرعن خلفها.
فلما وصلن إلى معبد أثينا في القلعة، فتحت لهن «ثيانو»
7
الجميلة الخدين، الأبواب، وكانت ابنة «كيسيوس»، وزوجة «أنتينور» مستأنس الخيول؛ إذ كان الطرواديون قد جعلوها كاهنة أثينا. ثم رفع الجميع أيديهن لأثينا، صارخات صرخات مقدسة، وأخذت «ثيانو» الفاتنة الوجنتين الرداء ووضعته فوق ركبتي أثينا ذات الشعر الجميل، وبالنذور صلت لابنة زوس العظيم، قائلة: «أيتها السيدة أثينا، يا حارسة مدينتنا، وأعظم الربات فتنة وإغراء، نتضرع إليك أن تحطمي الآن رمح ديوميديس، وتجعليه يسقط هو نفسه حالا أمام الأبواب السكابية، وعندئذ نذبح لك فورا، في معبدك، اثنتي عشرة بقرة بكرا، لم تعرف المنخس بعد، لو أنك رحمت طروادة وزوجات الطرواديين وأطفالهم الصغار.» هكذا قالت في صلاتها، غير أن أثينا لم تقبل الصلاة!
ومضى هكتور في طريقه إلى قصر ألكساندر، ذلك القصر الجميل الذي شيده ألكساندر نفسه بواسطة أبرع من كان في طروادة حينذاك من البنائين. فبنى له هؤلاء حجرة وبهوا وفناء بالقرب من قصور بريام وهكتور في القلعة. فدخل هكتور، العزيز على زوس، يمسك في يده رمحا طوله أحد عشر ذراعا، تتألق أمامه سن الرمح البرونزية المحوطة بحلقة من الذهب. فوجد باريس في حجرته مشغولا بأسلحته الرائعة، ترسه ودرقته، وممسكا بقوسه المعقوفة، بينما كانت هيلينا الأرجوسية جالسة وسط خادماتها تحدد لهن أعمالهن اليدوية، فلما رآه هكتور وبخه بعبارات الخزي، قائلا: «أيها الرجل الغريب الأطوار إنك لا تحسن صنعا بتنمية هذا الغضب في قلبك. إن قومك يهلكون في المعارك حول المدينة والسور المرتفع، وبسببك تشتد صيحة القتال وتستعر نار الحرب حول هذه المدينة، فلا يحق لك أن تغضب على أي شخص آخر، تراه بمحض المصادفة محجما عن الحرب البغيضة. كلا، انهض إذن، حتى لا تشتعل المدينة بسرعة بالنيران المحرقة.»
فرد عليه ألكساندر، شبيه الإله، بقوله: «أي هكتور، إنك توبخني بحق، وليس بدون حق؛ لذلك سأوضح الأمر لك، وأرجو أن تفكر وتعيرني أذنا صاغية، إني لم ألزم غرفتي بسبب غضبي أو حنقي على الطرواديين، ولكني كنت قد عزمت على الاستسلام للكمد. وحتى زوجتي كانت الآن تسعى إلى تهدئة روعي برقيق الألفاظ، وراحت تحثني على الحرب، وأعتقد أنا شخصيا أن هذا سيكون أفضل أن ينتقل النصر من رجل إلى رجل. تعال الآن. وانتظر قليلا، دعني ألبس عدة القتال، أو انصرف إلى حال سبيلك، وسوف أتبعك، وأعتقد أنني سألحق بك.»
هكذا قال، ولكن هكتور ذا الخوذة البراقة لم يرد عليه ببنت شفة، وإنما تحدثت إليه هيلينا بألفاظ رقيقة، قائلة: «أي أخي، يا أخا الكلبة، المدبرة للأذى والممقوتة من الجميع. كم كنت أتمنى يوم ولدتني أمي، بادئ ذي بدء، لو قد حملتني ريح عاتية شريرة وذهبت بي بعيدا إلى جبل ما ، أو إلى لجج البحر الشاهقة الصاخبة إذ كان في مكنة الأمواج أن تجرفني بعيدا، وألا تكون هذه الأمور قد حدثت. وبما أن الآلهة قد رتبت هذه الشرور بتلك الكيفية، فليتني كنت زوجة رجل أفضل، يستطيع أن يشعر بسخط أتباعه وسبابهم الكثير، ولكن إدراك هذا الرجل ليس بثابت الآن، ولن يصير ثابتا أبدا فيما بعد. وإنني لأعتقد أنه سوف يلقى جزاء رخاوته. تعال الآن، وادخل، واجلس فوق هذا المقعد، يا أخي، ما دام القلق قد استولى على جنانك أكثر من أي فرد آخر، بسببي أنا السيدة العديمة الخجل، وبسبب حماقة ألكساندر، الذي جلب عليه زوس مصيرا شريرا، حتى إن من سيأتون بعدنا من البشر سوف يتغنون بذكرنا في المستقبل.»
فرد عليها هكتور العظيم ذو الخوذة البراقة قائلا: «لا تأمريني بالجلوس يا هيلينا، فبرغم كل حبك لي لا يمكن أن تؤثري علي. وإن قلبي لتواق إلى إسداء المعونة للطرواديين الذين يتلهفون على وجودي بينهم، أنا البعيد عنهم، هيا، وحثي هذا الرجل، ودعيه يسرع بالنهوض، حتى يلحق بي وأنا لا أزال داخل المدينة؛ لأنني سأذهب إلى داري لأرى أهل بيتي، زوجتي العزيزة، وولدي الرضيع، فلا أدري ما إذا كنت سأعود مرة أخرى إليهم، أم أن الآلهة ستقتلني على أيدي الآخيين.»
حديث هكتور وأندروماخي
ما إن قال هكتور، ذو الخوذة البراقة، هذا، حتى انصرف، ولم يلبث أن بلغ منزله المتين البناء، ولكنه لم يجد «أندروماخي» - أندروماك - الناصعة الذراعين في أبهاء داره، إذ كانت تقف مع طفلها تبكي وتنتحب بجوار الحائط، ومعها أمة جميلة الهندام.
فلما لم يجد هكتور زوجته الفريدة في البيت، خرج إلى عتبة الدار وخاطب خادماته بقوله: «هيا، أيتها الإماء، ولتقلن الحق: إلى أين غادرت القصر أندروماخي البيضاء الساعدين؟ هل ذهبت إلى منزل إحدى شقيقاتي أو زوجات إخوتي الجميلات الثياب. أم تراها انطلقت إلى معبد أثينا حيث تهرع سيدات طروادة الأخريات، ذوات الغدائر الجميلة، لاسترضاء الربة المرهوبة؟»
فأجابته خادمة نشطة، على الفور: «بما أنك تلح علينا يا هكتور في أن نصدقك الخبر ، فإن زوجتك لم تذهب إلى أي من شقيقاتك، ولا إلى زوجات إخوتك ذوات الملابس الفاخرة، ولا حتى إلى معبد أثينا الذي تسعى إليه السيدات الطرواديات الأخريات ، الجميلات الغدائر، ليسترضين الربة المرهوبة، وإنما ذهبت إلى سور طروادة العظيم؛ لأنها علمت أن الطرواديين قد ضيق عليهم الخناق، وأن الآخيين على وشك الحصول على نصر عظيم؛ لهذا أسرعت هي إلى الحائط كمن فقدت وعيها، ومعها المربية تحمل لها طفلها.»
هكذا قالت الخادمة، فأسرع هكتور منصرفا من البيت، عائدا من حيث أتى، عبر الشوارع الجميلة. فما إن بلغ البوابة التي اعتزم أن يمر منها إلى السهل - بوابة «سكاي» - مارا خلال المدينة العظيمة، حتى هرعت إلى لقائه زوجته الكريمة، أندروماخي، ابنة أيتيون الكبير القلب. الذي كان يعيش في سفح جبل بلاكوس الكثيف الغابات في طيبة، وكان ملكا على كيليكيا، فلقد كان هكتور ذو الدرع البرونزي متزوجا من ابنته. وها هي ذي الزوجة تقابله الآن ومعها مربية تحمل إلى صدرها الولد الغض الإهاب، الذي لا يعدو أن يكون طفلا رضيعا، ابن هكتور الحبيب. وكأنه نجم ساطع. ولقد اعتاد هكتور أن يسميه «سكاماندريوس». بينما كان الآخرون يسمونه «أستواناكس»؛ لأن هكتور وحده كان يحرس طروادة. عندئذ ابتسم هكتور وهو ينظر إلى ولده في صمت، ولكن أندروماخي اقتربت منه وهي تبكي، وأمسكت بيده، قائلة: «أواه يا زوجي، لسوف توردك جرأتك هذه حتفك. إنك لا تشعر بأي شفقة نحو طفلك الرضيع، ولا نحوي، أنا المسكينة التي أوشك أن أغدو أرملتك؛ إذ لن يلبث الآخيون أن يتكاثروا عليك ويصرعوك. أما أنا، فخير لي أن أحمل إلى القبر إذا فقدتك؛ إذ لن تكون لي - إذا لقيت حتفك - راحة، بل ويلات. أنا التي فقدت أبي وأمي. أما أبي فقد قتله أخيل العظيم؛ لأنه خرب مدينة الكيليكيين الآهلة بالسكان طيبة الشاهقة الأبواب. غير أنه إذا كان قد قتل أيتينون، فإنه لم يجرده من حلته - لأن روحه فزعت من ذلك - بل أحرقه في كامل عدته الحربية، الفاخرة الزينة، وأهال عليه تراب القبر، وزرعت حول القبر أشجار الدردار، زرعتها حوريات الجبل بنات زوس حامل الترس، وفي نفس اليوم دخل إخوتي السبعة الذين كانوا تحت سقفنا إلى دار «هاديس» - الجحيم - لأن أخيل العظيم السريع القدمين، قتلهم جميعا وسط أبقارهم السمينة وأغنامهم الناصعة الفراء. أما والدتي، ملكة سفح جبل بلاكوس المكسو بالغابات، فقد أحضرها إلى هنا مع بقية الغنيمة، ولكنه أطلق سراحها فيما بعد، عندما تسلم عوضا عنها فدية لا تحصى. غير أن «أرتيميس»، حاملة القوس، قتلتها في دار والدها! وها أنت لي الآن يا هكتور، أبي، وأمي، وأخي، وزوجي المقدام. فتعال الآن وارأف بحالي، وابق بجوار الحائط، لئلا تيتم ابنك، وترمل زوجتك. أما جيشك، فأوقفه بجوار شجرة التين البرية، وهو خير مركز تغلق منه المدينة، فالحائط عرضة للهجوم. لقد أقبل إلى هذه البقعة أعظم الشجعان، ثلاث مرات، في صحبة البطلين «أياس»، وأيدومينيوس المجيد، وأبناء أتريوس، وابن توديوس المقدام، وقاموا بمحاولة للدخول: فإما أن يكون أحد مهرة العرافين قد دلهم عليها، وإما أن تكون أرواحهم قد أرشدتهم إلى الهجوم من هناك.»
وإذ ذاك قال هكتور العظيم ذو الخوذة البراقة: «أيتها المرأة، إنني أفكر في كل ذلك أيضا، ولكني أخجل خجلا بالغا من الطرواديين، ومن زوجاتهم ذوات الثياب الجرارة، إن تنحيت بعيدا عن المعركة كالجبناء. كما أن قلبي لا يستطيع احتمال ذلك. فقد تعلمت أن أكون شجاعا دائما، وأن أقاتل بين الطرواديين في الصفوف الأولى، مناضلا للفوز بمجد أبي العظيم، ومجدي أنا. وإنني لأعلم في قرارة نفسي، علم اليقين، وفي روحي كذلك، أن سيأتي اليوم الذي تخضع فيه طروادة المقدسة، وبريام وشعب بريام ذو الرمح العظيم، المصنوعة قناته من خشب الدردار. ومع ذلك، فلست أهتم كثيرا بأحزان الطرواديين المقبلة، وحزن هيكوبي، ولا بحزن الملك بريام، أو حزن إخوتي العديدين الشجعان الذين سوف يتردون في الثرى على أيدي أعدائهم، بقدر ما يؤلمني حزنك يوم يقودك بعيدا أحد الآخيين ذوي الدروع البرونزية، ويسلبك حريتك، وأنت تبكين. وقد يحملك على الانكباب على المغزل في أرجوس أو حمل الماء من ميسيس أو هوبيريا على غير رغبة منك، تحت عبء الحاجة القصوى. وقد يراك امرؤ ما، وأنت تبكين، فيقول: «هاكم زوجة هكتور، الذي فاق جميع الطرواديين مستأنسي الخيول، في جميع فنون القتال، يوم حمي صراع الرجال حول طروادة.» هذا ما سوف يقال، وسيتجدد حزنك عندما تفتقدين رجلا مثلي يدرأ عنك يوم العبودية، فلأمت، وليهل الثرى علي، قبل أن أسمع صراخك وهم يسوقونك إلى الأسر!»
ما إن قال هكتور هذا حتى مد ذراعيه لابنه، ولكن هذا ارتد صارخا إلى صدر مربيته، الجميلة الزنار، وقد أخافه منظر والده العزيز، واستولى عليه الرعب من البرونز وخصلة شعر الخيل، عندما أبصر بها تهتز فوق الخوذة. فقهقه أبوه المحبوب وأمه الجليلة. وفي الحال خلع هكتور المجيد الخوذة من على رأسه، ووضعها تتألق فوق الأرض. ثم قبل ابنه العزيز، وهدهده بين ذراعيه، واتجه بالدعاء إلى زوس وبقية الآلهة، قائلا: «أي زوس، أيها الآلهة الآخرون، هل لولدي هذا أن يشب مثلي، ويبرهن كما برهنت أنا، على أنه قد أصبح مبرزا بين جميع الطرواديين، ومقداما في سطوته، وأن يحكم على طروادة بيد من حديد؟ وهل للناس أن يقولوا عنه ذات يوم عند أوبته من الحرب: «إنه قد بز أباه ...» وهل له أن يحمل الغنائم الملطخة بالدماء، التي ينالها من قتلاه الأعداء، وهل لقلب أمه أن يفرح جذلا؟»
هكتور وباريس يعودان للقتال!
قال هذا، ثم وضع طفله بين ذراعي زوجته العزيزة، فضمته إلى صدرها العطر، مبتسمة ودموعها تتساقط، فتحركت عاطفة زوجها إشفاقا عليها، وربت عليها بيده، قائلا لها: «أي زوجتي العزيزة، أتوسل إليك ألا تتركي نفسك نهبا لأحزان قلبك، فلن يستطيع رجل أن يرسلني إلى حتفي، قبل ساعتي! وليس غير الموت عندي أمرا لا مهرب منه لامرئ، جبانا كان أم شجاعا، ما جاء إلى الدنيا! ... فهيا أسرعي إلى الدار واشغلي نفسك بأعمالك، النول والمغزل، وأصدري أمرك إلى خادماتك بالمثابرة على أعمالهن، أما الحرب فللرجال، للجميع، ولي أنا خاصة، دون كافة رجال طروادة!»
هكذا تكلم هكتور المجيد، وتناول خوذته التي تعلوها خصلة من شعر الحصان، وانطلقت زوجته العزيزة إلى منزلها في الحال، وهي تنظر خلفها بين الحين والآخر، وتذرف دموعها غزيرة. وسرعان ما وصلت إلى القصر المنيف لهكتور قاتل الرجال ، حيث وجدت خادماتها الكثيرات، فأثارت بينهن موجة من البكاء والعويل. وهكذا ندب هكتور في بيته وهو ما زال على قيد الحياة، إذ جال بمخيلتهن أنه لن يعود من المعركة أبدا، ولن يفر من أيدي الآخيين سليما!
وكذلك لم يتلكأ «باريس» طويلا في بيته السامق، بل ارتدى عدته الحربية المجيدة، المصفحة بالبرونز، وأسرع خلال المدينة معتمدا على خفة قدميه. وكجواد كان مربوطا إلى مذوده فأكل كفايته، ونزع الوتد وانطلق يعدو فوق السهل - متلهفا إلى الاستحمام في النهر الرقيق الجريان - مبتهجا شامخا برأسه عاليا، ومن حول كتفيه ينسدل عرفه متموجا، يزهو بعظمته، إذ تحمله قوائمه بسرعة إلى حظائر ومراعي الأفراس، هكذا أيضا كان باريس بن بريام، فهبط من جبل بيرجاموس الشامخ، يتلألأ في حلته كأنه الشمس الساطعة، ضاحكا من فرط سروره، وقد حملته قدماه السريعتان. وعلى ذلك سرعان ما لحق بأخيه هكتور العظيم، وهو يوشك أن يئوب من المكان الذي داعب فيه زوجته. فابتدره ألكساندر شبيه الإله، بقوله: «أخي، ما من شك في أني أعوقك عن إسراعك بتلكئي الطويل؛ إذ لم أحضر إليك في الوقت المناسب كما أمرتني.»
فرد عليه هكتور، ذو الخوذة البراقة، قائلا: «أيها الرجل الغريب الأطوار، ما من رجل سليم العقل يستطيع أن يحط من قدر بلائك الحسن في القتال، فإنك مقدام، ولكنك بمحض إرادتك متراخ لا تعبأ بشيء؛ ولذلك فإن الحزن يحز في قلبي بين جنبي، عندما أسمع عبارات الاحتقار من شفاه الطرواديين الذين يعانون بسببك نصبا مؤلما. هيا ننطلق إلى حال سبيلنا، وسنصلح فيما بعد هذه الأمور لو قيض لنا زوس أن نقيم في قصورنا للآلهة الخالدين ولائم الخلاص، عندما نطرد الآخيين المدرعين جيدا، من أرض طروادة!»
الأنشودة السابعة
وأوشك المتحاربان أن يلتحما بالسيوف. لولا قدوم رسولي «زوس» والبشر؛ أحدهما موفد من الطرواديين، والآخر موفد من الآخيين ...
عن المعركة الفردية بين «أياس» و«هكتور»، وعن دفن الموتى، وبناء سور حول سفن الآخيين.
نزال بين هكتور وأياس!
ما إن قال هكتور المجيد هذا، حتى أسرع بعيدا عن الأبواب ، وذهب معه أخوه «باريس». وكانا يتحرقان شوقا في قرارة نفسيهما إلى الحرب والقتال. وكما يرسل الرب ريحا مواتية للبحارة الطموحين - بعد أن ينتابهم الكلل من مناضلة البحر بمجاديف الصفصاف المصقولة، وبعد أن تتعب أطرافهم غاية التعب - هكذا أيضا ظهر هذان المحاربان للطرواديين الطموحين.
وما لبث أحدهما أن قتل ابن الملك «أرايثوس»: المدعو «مينيسثيوس» الذي كان يقطن في أرنى، والذي أنجبه أرايثوس رجل الصولجان من الحسناء «فولوميدوسا» ذات عيون المها. ثم ضرب «هكتور» برمحه الحاد عنق «أيونيوس»، تحت الخوذة البرونزية المتينة الصنع، فبتر أطرافه. وصوب «جلاوكوس» ابن «هيبولوخوس» - قائد اللوكيين - رمحه، في الصراع العنيف، نحو «أفينوس» ابن «ديكسيوس»، وهو يقفز إلى عربته خلف جياده السريعة، فأصابه في كتفه، فسقط من عربته مترديا فوق الأرض وارتخت أطرافه.
بيد أن الربة «أثينا» - ذات العينين النجلاوين - لم تكد تفطن إليهما، وهما يقتلان الأرجوسيين في الصراع الطاحن، حتى هبطت مندفعة من قمم أوليمبوس إلى طروادة المقدسة. فأسرع «أبولو» لمقابلتها، إذ رآها وهو يطل من بيرجاموس. وكان يتوق إلى جعل النصر في جانب الطرواديين. فالتقيا بجوار شجرة البلوط، وبدأها الملك أبولو بقوله: «لم أتيت بمثل هذه اللهفة من أوليمبوس، يا ابنة زوس العظيم، ولم بعثت بك روحك المتكبرة؟ ألكي تمنحي النصر للدانيين فتحولي نتيجة المعركة؛ لأنك لا تشعرين بأي عطف نحو الطرواديين، الذين يهلكون؟ ولكن، لنوقف المعركة والقتال اليوم، إذا كان لك أن تصغي إلي، فلعل هذا أفضل كثيرا. ولسوف يعود الدانيون إلى القتال - فيما بعد إلى أن يقهروا طروادة، ما دام يبدو لقلوبكن - أيتها الربات الخالدات - أن من الخير تدمير هذه المدينة!»
فردت عليه «أثينا» - البراقة العينين - بقولها: «ليكن ذلك، أيها الإله البعيد المرمى، فلقد أتيت أنا نفسي بهذا القصد، من أوليمبوس إلى وسط الطرواديين والآخيين. ولكن قل لي: «كيف تعتزم وقف القتال بين المحاربين؟»
فرد عليها الملك أبولو - ابن زوس - قائلا: «هيا بنا نستفز حمية هكتور، مستأنس الخيول الجريء، حتى يتحدى واحدا من الدانيين في قتال فردي، فيقاتله رجلا لرجل، في نزال مميت، فإن هذا يثير غيرة الآخيين المدرعين جيدا، ويحملهم على أن يحثوا أحدهم على مقاتلة هكتور العظيم في معركة فردية!»
هكذا قال، فاغتبط هكتور كثيرا حين سمع كلامه، وانطلق إلى الوسط، عن الإصغاء. وأدرك «هيلينوس»، ابن بريام العزيز، هذه الخطة التي اجتمع عليها رأي الإلهين، فوقف إلى جانب هكتور وتحدث إليه قائلا: «أي هكتور، يا ابن بريام، ويا نظير زوس في المشورة، هل لك أن تصغي إلي بأية حال؛ لأنني أخوك؟ ادع الطرواديين وجميع الآخيين إلى الجلوس، وتحد خير الآخيين لينازلك في معركة مروعة، فإن أجلك لم يحن بعد لتموت وتلقى مصيرك، فبهذا سمعت الآلهة يتكلمون، الآلهة الخالدين إلى الأبد!»
هكذا قال، فاغتبط هكتور كثيرا حين سمع كلامه، وانطلق إلى الوسط، فدفع فرق الطرواديين إلى الوراء برمحه، الذي كان يمسك به من منتصفه، فجلسوا جميعا. كما جعل أجاممنون الآخيين - المدرعين جيدا - يجلسون. وجلست أثينا وأبولو - ذو القوس الفضية - في صورة نسرين، فوق بلوطة الأب زوس حامل الترس، الشامخة، وقد سرا من المحاربين. وجلست صفوف المحاربين متقاربة، تلمع بالتروس والخوذات والرماح. وكما تنتشر موجات الريح الغربية فوق سطح البحر - في أول هبوبها - فيكفهر اليم تحتها، هكذا جلست صفوف الآخيين والطرواديين وسط السهل. فخاطب هكتور الجيش قائلا: «اسمعوا، أيها الطرواديون والآخيون المدرعون جيدا، فسأحدثكم بما يأمرني به قلبي الكائن في صدري. إن ابن كرونوس ذا العرش العالي الرفيع، لم يشأ أن يحقق نذورنا، ولكنه يرتب الفرص لكلا الجيشين معا - بسوء نية - بحيث يتم لكم الاستيلاء على طروادة ذات الأسوار المنيعة، أو تهلكوا أنتم أنفسكم بجانب سفنكم ماخرة البحار. وإن معكم الآن رؤساء جيش الآخيين جميعا، فليبرز من هؤلاء من يحدثه قلبه بأن ينازلني، وليتقدم من بينكم جميعا، ليكون بطلكم ضد هكتور العظيم، هكذا أعلن كلمتي، وليكن زوس شهيدا على ذلك: فإن قدر له أن يقتلني بالرمح البرونزي الطويل الطرف، فليجردني من عدتي الحربية ويحملها إلى السفن الخاوية، وليسلم جثتي إلى وطني حتى يستطيع الطرواديون والزوجات الطرواديات أن يشعلوا لي من النار ما أنا جدير به في موتي. أما إذا وهبني أبولو مجد قتله، فسأجرده من عدته الحربية وأحملها إلى طروادة المقدسة، وأعلقها على مذبح أبولو، ذلك الرب الذي يضرب من بعيد، وأما جثته فسأعيدها إلى السفن المتينة المقاعد، ليتسنى للآخيين ذوي الشعور المسترسلة أن يدفنوه، ويرفعوا فوقه كوما بالقرب من الهيليسبونت الفسيح. حتى إذا مر به أحد في سفينته الكثيرة المقاعد - في البحر القاتم قتمة الخمر - قال: «هذا كوم رجل مات في سابق العصور؛ إذ قتله - في وقت ما - وهو في عنفوان شجاعته، هكتور المجيد.» هكذا سيقول شخص ما، فيبقى مجدي قائما، لا يموت أبدا!»
وإذ قال هذا، خيم السكوت على القوم جميعا؛ إذ أحسوا بالعار الذي سوف يصيبهم إذا هم رفضوا تحديه، ولو أنهم كانوا يخشون لقاءه. وأخيرا قام «مينيلاوس» بينهم يقذفهم بعبارات السباب، وكانت أناته تخرج من أعماق قلبه، وهو يقول: «ويحي، أيها الرعاديد، يا نساء، آخيا، يا من هجرتكم رجولتكم! حقا، لسوف يكون عارا مروعا ذريعا، إذ لم يتقدم الآن واحد من الدانيين لمنازلة هكتور. ألا فلتتحولوا إلى تراب وماء، يا من تجلسون هنا، وقد فقد كل رجل منكم قلبه، فغدا مجللا بالخزي. ولسوف أسلح نفسي ضد هذا الرجل، وإن النصر ليأتي من عل، من لدن الآلهة الخالدين!»
وما إن قال هذا، حتى لبس عدته الحربية الجميلة. والآن، هل تحين خاتمة حياتك يا مينيلاوس، على يدي هكتور - نظرا لأنه يفوقك قوة بمراحل - إذ لم يتقدم ملوك الآخيين فيمسكوا بك؟ لقد أمسك أجاممنون، الواسع الملك، باليد اليمنى لأخيه ابن أتريوس، قائلا له: «إنك لمجنون، يا مينيلاوس، يا من انحدرت من زوس، ولا يليق بك هذا الجنون، تراجع إلى الوراء، مهما يكن حزنك، ولا تصمم في حمية المنافسة على أن تنازل من يفضلك - وأقصد هكتور بن بريام، الذي يرهبه غيرك! - إن أخيل نفسه ليرتجف من لقاء هذا الرجل في حرب يفوز فيها الرجال بالمجد، رغم أنه يفضلك كثيرا. هيا، الآن، واجلس في زمرة أترابك، وسيقدم الآخيون بطلا آخر ضد هذا الرجل. ومهما يكن هكتور بعيدا عن الخوف، متعطشا إلى القتال، فإنني أعتقد أنه سيغتبط بأن يثني ركبتيه للراحة، ولو فعل لنجا من وطيس الحرب والقتال المفزع.»
هكذا تكلم ذلك المحارب، فثنى عزم أخيه؛ إذ كان سديد النصح. وحين أطاعه مينيلاوس، ابتهج خدمه بأن ينزعوا عن كتفيه عدته الحربية، ونهض «نسطور» يتحدث وسط الأرجوسيين، فقال: «ويحكم! فما أعظم الحزن الذي يجثم بحق على أرض آخيا. ولكم سيعلو أنين الشيخ «بيليوس»، سائق العربات هذا، والمستشار العظيم، وخطيب المورميدون، الذي استجوبني ذات مرة في بيته، وسر كثيرا إذ علم بسلسلة نسب الأجوسيين جميعا ومولدهم. إنه لو سمع بأن هؤلاء قد جبنوا اليوم جميعا أمام هكتور، لرفع يديه في ضراعة عاجلة إلى الخالدين، لتفارق روحه جسده وتذهب إلى بيت هاديس. أي أبتاه زوس، ويا أثينا، ويا أبولو، ليتني كنت صغيرا عندما اجتمع «البوليون» و«الأركاديون» - الذين يثورون بالرماح - بجوار كيلادون، وقاتلوا تحت أسوار فيا وحول روافد نهر أياردانوس. فلقد وقف إلى جانبهم «أريوثاليون» كبطل، وكان رجلا يشبه الآلهة، يحمل على كتفيه عدة الملك «أرايثوس» الحربية، أرايثوس العظيم الذي كان الرجال والنساء ذوات الزنانير الجميلة، يتوقون إلى تسميته برجل الصولجان؛ لأنه لم يكن يقاتل بالقوس أو الرمح الطويل وإنما بصولجان من الحديد كان يفرق الكتائب. وهذا الرجل قتله «لوكورجوس» بالمكر - وليس بالقوة إطلاقا - في ممر ضيق، حيث لم ينقذه صولجانه من الهلاك؛ إذ انقض عليه «لوكورجوس»، وهو غير منتبه، وطعنه برمحه في وسطه، فارتد إلى الوراء وسقط على الأرض ثم جرده من عدته الحربية - التي كان «أريس» البرونزي قد أعطاه إياها - وارتدى هو تلك العدة، حتى إذا أدرك الكبر لوكورجوس - في عقر قصره - خلعها على خادمه العزيز «أريوثاليون» كي يرتديها. فلما ارتداها «أريوثاليون»، تحدى خيرة الشجعان جميعا، غير أنهم ارتجفوا وذعروا، ولم يجد أي رجل منهم الشجاعة التي تمكنه من الصمود أمامه ، ولكن قلبي الجسور عزم على قتاله بكل بسالتي، رغم أنني كنت أصغر الجميع سنا. وهكذا قاتلته، ومنحتني أثينا المجد. وكان أطول وأقوى رجل صرعته طول حياتي ، فارتمى على الأرض ككتلة ضخمة، وتمدد في هذا الاتجاه وذاك. ليتني كنت الآن في ذلك الشباب، وليت قوتي كانت في شدتها الأولى، إذن لوجد هكتور - ذو الخوذة البراقة - من يواجهه، في حين أنكم يا رؤساء جيش الآخيين جميعا، لم تبدوا أية نية على لقاء هكتور وجها لوجه!»
هكذا وبخهم الرجل الكهل «نسطور»، فإذا كل من نهض منهم تسعة؛ أولهم ملك البشر «أجاممنون»، ثم ابن توديوس «ديوميديس» القوي، وبعدهما الأيانتيس - المتسربلان بالحماسة الجياشة - ثم «إيدمينيوس»، ورفيقه «ميريونيس»، نظير «إينوليوس» قاتل البشر ومن بعدهم «يوروبولوس»، ابن يوايمون المجيد، كما نهض ثواس بن أندرايمون، و«أوديسيوس» العظيم. كل هؤلاء عقدوا العزم على مقاتلة هكتور العظيم. عندئذ وقف في وسطهم ثانية الفارس «نسطور» الجيريني وقال: «ألقوا الأزلام الآن - بالقرعة - لمعرفة من الذي يقع عليه الاختيار؛ لأنه حقا سيفيد الآخيين المدرعين جيدا، كما أنه سوف ينتفع هو شخصيا، إن قيض له أن ينجو من صراع القتال والنزال المخيف!»
وإذ قال هذا، عينوا لكل واحد زلمه، وألقوا الأزلام في خوذة أجاممنون ابن أتريوس، وصلى كل الجيش، رافعين أكفهم للآلهة. وهكذا اتجه كل فرد ببصره نحو السماء الفسيحة الأجواء، وراح يردد: «أبتاه زوس، ليخرج زلم أياس أو ابن تيديوس أو ملك موكيني الغنية بذهبها.»
هكذا قالوا، وهز الفارس «نسطور الجيريني» الخوذة، فظهر زلم الشخص الذي كانوا يريدونه هم أنفسهم: «أياس». ثم حمل المنادي الزلم وجاس به خلال الجيش - من اليسار إلى اليمين - وأراه لجميع رؤساء الآخيين، ولكنهم لم يعرفوه، وأنكره كل واحد منهم. حتى إذا بلغ المنادي - في طوافه بالجيش - الرجل الذي كان قد علم الزلم وألقاه في الخوذة، «أياس» المجيد، مد «أياس» يده، فاقترب المنادي ووضع فيها الزلم، فتعرف عليه «أياس» لأول وهلة من العلامة التي عليه. فاغتبط في قرارة نفسه. ثم ألقى بالزلم على الأرض بجانب قدمه، قائلا: «أيها الأصدقاء، ما من شك في أن هذا زلمي، وإن قلبي ليبتهج؛ لأنني أوقن بأنني سأقتل هكتور العظيم، ولكن هيا الآن، وبينما أرتدي عدتي الحربية، صلوا في صمت - وفي سرائركم - للملك زوس بن كرونوس، كي لا يعرف الطرواديون شيئا من هذا. أو صلوا جهرا - إن شئتم - إذ إننا لا نخشى أحدا على أية حال، فلن يقسرني أي فرد على الفرار بإرادته، رغم إرادتي بل ولا بمهارته، فلست أعتقد أن أية مهارة تعدل أنني ولدت ونشأت في سالاميس!»
هكذا قال، فصلى القوم للملك زوس بن كرونوس، وهم يرفعون أبصارهم نحو السماء الواسعة، قائلين: «أبانا زوس، يا من تحكم من «أيدا»، أيها الأمجد، وأيها الأعظم، امنح «أياس» النصر حتى يفوز بالصيت الأمجد. أما إذا كنت تحب هكتور أيضا، وتهتم به، فامنح كليهما بأسا ومجدا متساويين.»
وإذ قالوا هذا، تهيأ أياس في حلته البرونزية البراقة. وبعد أن ارتدى كامل عدته الحربية، أسرع على هذه الصورة وكأنه «أريس» الضخم يتقدم إلى المعركة وسط المحاربين الذين جمعهم ابن كرونوس ليتقاتلوا في معمعة القتال «ملتهم النفوس».
وعلى هذه الصورة قفز أياس الضخم - حصن الآخيين - تعلو وجهه الصارم ابتسامة عريضة، وخطا بقدميه خطوات واسعة، ملوحا برمحه الطويل الظل. فما إن رآه الأرجوسيون حتى عم السرور أفرادهم، بينما زحفت على الطرواديين رجفة سرت في أعضاء كل رجل، وأسرعت دقات قلب هكتور في صدره. ومع ذلك فإنه لم يستطع - بأية حال - أن يفر أو يتقهقر عائدا إلى حشد الجيش؛ نظرا لأنه هو الذي دعا للنزال. فاقترب «أياس» يحمل ترسه الشبيه بسور مدينة، ترسا من البرونز تكسوه سبع طبقات من جلد الثور، جهد في صنعه «توخيوس» أمهر المشتغلين بصناعة الجلود، وكان يقيم في هولي. ولقد صنع له الترس اللامع ذا الطبقات السبع من جلود الثيران القوية، ثم كساها بطبقة ثامنة من البرونز. وحمل «أياس التيلاموني» ذلك الترس أمام صدره وأقبل يقف دانيا من هكتور، وهدده بقوله: «أي هكتور، ستعرف الآن قطعا أي نوع من الرؤساء يوجد بين الدانيين، حتى بعد اعتزال «أخيل»، مشتت صفوف الرجال، وذي قلب الأسد. إنه يقبع الآن وسط سفنه ماخرة البحار - ذات الأطراف المدببة - وقد طوى نفسه على غضب شديد من أجاممنون بن أتريوس - راعي الجيش - ومع ذلك فإننا لقادرون على مواجهتك. نعم، ما أكثر القادرين منا، والآن فلتبدأ الحرب والقتال!»
فأجابه هكتور العظيم، ذو الخوذة البراقة قائلا: «يا أياس، يا سليل زوس، يا ابن تيلامون، قائد الجيش، ليس لك أن تستدرجني، كما لو كنت غلاما ضعيفا أو امرأة لا تعرف أعمال الحرب. بلى، إني لأعرف تمام المعرفة شئون المعارك ومذابح الرجال. وأعرف تمام المعرفة كيف أميل يمينا، وكيف أميل يسارا بترسي المصنوع من الجلد المجفف، الذي أعتقد أنه خير ما يستعمل في القتال، كما أعرف كيف أهجم في وسط العربات التي تجرها الأفراس السريعة، وأعرف كيف أسلك في الالتحامات مسلك أريس المهتاج. ومع ذلك فلست مزمعا أن أنزل بك ضربتي في غفلة منك - وأنت من أنت بين الرجال - وإنما سأنزل بك ضربتي جهارا، عسى أن أطيح بك.»
وإذ تكلم هكتور هكذا، رفع رمحه الطويل الظل، وقذف به، فأصاب ترس «أياس» الهائل ذا الطبقات السبع من جلد الثور التي يعلوها البرونز الخارجي مكونا الطبقة الثامنة، فمرق البرونز من خلال ست طبقات، وتوقف عند الطبقة السابعة للجلد. وإذ ذاك أطلق «أياس» - سليل الإله - رمحه الطويل الظل، فأصاب ترس ابن بريام، المتزن جيدا من كل جانب. فمرق الرمح القوي خلال الدرقة المرصعة بسخاء، وشق طريقه مباشرة بجوار جنبه، ونفذ من عباءته، ولكن هكتور انحرف جانبا، فنجا من الموت الأسود.
وفي لحظة واحدة سحب كل منهما بيديه رمحه الطويل، وهجما، كأسدين ضاريين، أو كخنزيرين بريين متوحشين، لا تني قواهما. وانقض ابن بريام بكل قواه على أياس برمية من رمحه، بيد أن الرمح البرونزي لم يشق طريقه، إذ التوى طرفه، ولكن «أياس» انقض على غريمه وطعن درقته، فنفذ الرمح خلالها، وجعله يترنح تحت هجمته. ثم بلغ عنقه، وجرحه، فتدفق منه الدم القاتم.
وبالرغم مما حدث فإن هكتور - ذا الخوذة البراقة - لم يكف عن القتال، بل تراجع إلى الخلف، وبيد قوية أمسك بحجر أسود ذي نتوءات - كان ملقى في السهل - وقذف به نحو ترس «أياس» الهائل ذي الطبقات السبع من جلد الثور، التي يحيط بها البرونز. وهنا رفع أياس - بدوره - يده عاليا، ممسكا بحجر أضخم، وقذفه بقوة عظيمة، فشق الحجر - الشبيه بحجر الطاحون - الدرقة من الداخل، وهوى على ركبتي هكتور، فإذا هكتور يستلقي على ظهره مكوما تحت ترسه. بيد أن «أبولو» رفعه في الحال. وأوشك المتحاربان أن يلتحما بالسيوف، لولا قدوم رسولي زوس والبشر - أحدهما موفد من الطرواديين والآخر من الآخيين ذوي المدرعات البرونزية - وهما «تالثوبيوس» و«أيدايوس». وكلاهما من الحكماء. فأقبلا وفرقا بين الطرواديين بصولجانيهما. وخاطبهما الرسول «أيدايوس» ذو الرأي الرشيد، قائلا: «كفا عن القتال يا ولدي العزيزين، ولا تتعاركا؛ لأن كليكما حبيب إلى زوس، جامع السحب، كما أن كلا منكما رماح، وكلنا يعلم ذلك يقينا. وعلاوة على ذلك، فإن الليل مقبل علينا الآن، ومن الخير أن تخضعا لحكم الليل.»
فرد عليه أياس التيلاموني بقوله: «أيا أيدايوس، مر هكتور بأن ينطق هو بهذه الألفاظ؛ إذ إنه هو الذي تحدى خيرنا ودعاه للنزال. فليكن هو البادئ وعندئذ أستمع أنا بدوري لما يقول.»
عندئذ تحدث إليه هكتور العظيم، ذو الخوذة البراقة، فقال: «أياس، أما وقد حباك الرب بالقوة والقامة، والحكمة أيضا، وبرمحك اشتهرت بالتفوق على جميع الآخيين، فلنكف عن القتال والصراع اليوم، على أن نعود إليه فيما بعد، إلى أن يحكم الرب بيننا، ويهب أحد الفريقين النصر. وعلى أية حال، فالليل قد أقبل علينا، ومن الخير أن ننصاع لحكم الليل، حتى تدخل الفرح والسرور على جميع الآخيين بجانب سفنهم، لا سيما الأنساب والأصحاب المنتمين إليك، كما أنني في جميع أرجاء مدينة الملك بريام العظيمة، سأدخل السرور على جميع رجال طروادة ونسائها ذوات الثياب الفضفاضة، اللواتي سيدخلن على جميع الآلهة لتقديم صلاة الشكر من أجلي. والآن تعال، وليقدم كل منا للآخر هدايا عظيمة، حتى يقول الكثيرون من الآخيين والطرواديين، على حد سواء: «لقد تقاتل الاثنان بحق، وتباريا في صراع يلتهم الأنفس، ولكنهما اتفقا فيما بعد وافترقا صديقين»!»
وما إن قال هذا حتى أحضر سيفه المرصع بالفضة، بغمده وحمائله البديعة الصنع ، وقدمه له. فأعطاه «أياس» حزامه اللامع القرمزي. وهكذا افترقا؛ أحدهما في طريقه إلى جيش الآخيين، والآخر ساعيا إلى جموع الطرواديين. فتهلل هؤلاء طربا إذ أبصروا هكتور مقبلا إليهم سليما معافى، على قيد الحياة، وقد نجا من بطش «أياس» ويديه القويتين، فذهبوا به إلى المدينة غير مصدقين أنه قد نجا! ... أما أياس فقاده الآخيون المدرعون جيدا إلى «أجاممنون» العظيم، والفرح يملأ نفوسهم لانتصاره.
فلما بلغوا أكواخ ابن أتريوس، ذبح لهم ملك البشر «أجاممنون» ثورا ذكرا في الخامسة من عمره، من أجل زوس بن كرونوس، المتفوق في القوة. فسلخوه وأعدوه، وبتروا جميع أطرافه. ثم قطعوا لحمه بمهارة إلى شرائح، وضعوها في السفود وشووها بعناية، ثم أخرجوها من السفافيد. وما إن انتهوا من عملهم وأعدوا الطعام، حتى مدوا السماط، وأكلوا كفايتهم من الوليمة الحقة. وتكريما لأياس، أعطاه «أجاممنون» - الواسع الحكم، والابن المحارب لأتريوس - سلسلة الظهر الطويلة.
الهدنة
وبعد أن شبع الجميع، وفترت رغبتهم في الطعام والشراب، أخذ «نسطور» الشيخ يلقي عليهم النصائح، وهو الذي اشتهر بالحكمة منذ القدم، فخاطب جموعهم وتحدث وسطهم قائلا: «يا ابن أتريوس، وأيها الأمراء رؤساء جيوش آخيا، إن الأسف ليحز في نفسي لموت كثير من الآخيين ذوي الشعر المسترسل. وقد سفك «أريس» - الممعن في القتل - دماءهم القاتمة حول نهر سكاماندر المعتدل الجريان، وهبطت أرواحهم إلى بيت هاديس؛ لذا أرى من الأفضل أن توقفوا معركة الآخيين عند بزوغ الفجر. ولسوف نجتمع هنا لننقل الجثث بالعربات التي تجرها الثيران والبغال، ونحرقها على مسافة بسيطة من السفن، حتى يستطيع كل رجل أن يحمل عظامها إلى أطفال الضحايا عندما نعود ثانية إلى وطننا. ولنقم حول كومة الحريق مدفنا واحدا للجميع، ونرفع حوله سورا عاليا. حصنا لنا ولسفننا، ولنجعل فيه أبوابا تغلق بإحكام، كي تكون مسالك نقود خلالها العربات، ولنحفر خندقا عميقا في الخارج ملاصقا للسور، يدرأ عنا العربات والمشاة إذا ما حمي وطيس هجوم الطرواديين ذوي البأس علينا.»
هكذا تكلم، فوافق جميع الملوك على قوله. وكذلك عقد الطرواديون اجتماعا مماثلا في قلعة طروادة ، ضم حشدا صاخبا هاج وماج بجوار أبواب بريام، فقام أنتينور الحكيم خطيبا فيهم، وكان أول من تكلم، فقال: «أيها الطرواديون والداردانيون والحلفاء، استمعوا إلي إذ أحدثكم بما يوحى به إلى قلبي الكائن في صدري. تعالوا الآن، فلنسلم هيلينا الأرجوسية وما معها من كنز، إلى أبناء أتريوس كي يذهبوا بها. إننا نقاتل الآن بعد أن ثبت حنثنا بمواثيق الإخلاص، فإذا لم نفعل ما أشرت به، فلا أمل في أن يتم شيء لصالحنا!»
وما إن قال هذا حتى جلس، فقام في وسطهم «باريس» العظيم، زوج هيلينا ذات الشعر الفاتن، ورد على قوله بألفاظ مجنحة. فقال: «أي أنتينور، إن ما قلته لا يسرني على الإطلاق، فأنت تعرف كيف تدلني بعبارات خير من هذه. أما إذا كنت جادا فعلا فيما تقول، فلا بد إذن من أن تكون الآلهة نفسها قد أتلفت عقلك. وعلى أية حال، فإني سأتكلم وسط حشد الطرواديين مستأنسي الخيول، وأعلن في الحال أنني لن أعيد زوجتي. أما الأموال التي أحضرتها من أرجوس إلى وطننا، فإنني عازم على ردها كلها، بل سأضيف إليها من خزائني.»
وما إن قال هذا حتى جلس، فنهض وسطهم بريام بن داردانوس نظير الآلهة في الرأي، وخاطبهم بنية طيبة، قائلا: «أصغوا إلي أيها الطرواديون والداردانيون والحلفاء، كي أقول لكم ما يأمرني به قلبي الكائن في صدري. تناولوا الآن عشاءكم في المدينة كسابق عهدكم، ولا تغفلوا المراقبة، بل ليكن كل رجل منكم متيقظا. وليذهب «أيدايوس» - عند مطلع الفجر - إلى السفن الخاوية ليعلن لابني أتريوس - «أجاممنون» و«مينيلاوس» - ما قاله «باريس»، الذي من أجله نشب الصراع وحمي وطيس القتال. ثم ليعلن إليهما هذه الكلمة الحكيمة، ويسألهما عما إذا كانا يزمعان الكف عن الحرب التي تفيض بالآلام، حتى ننتهي من دفن موتانا، على أن نستأنف القتال - بعد ذلك - إلى أن يحكم بيننا زوس، ويهب النصر لأحد الجانبين أو للآخر.»
هكذا تكلم، فأصغى الجميع إلى قوله باهتمام، وأطاعوه، فتناولوا عشاءهم في جماعات في سائر أنحاء الجيش. حتى إذا طلع الفجر، ذهب أيدايوس في طريقه إلى السفن الجوفاء، حيث وجد في مكان الاحتشاد «الدانيين» - خدم أريس - بجانب دفة سفينة «أجاممنون». فاتخذ الرسول الجهوري الصوت وقفته في الوسط، وخاطبهم بقوله: «أيا ابن أتريوس، وأيها الأمراء رؤساء جيش آخيا: إن بريام والطرواديين الآخرين الأجلاء قد أمروني بأن أعلن لكم - إذا راق لكم ذلك وسررتم به - قول «باريس»، الذي من أجله نشب الصراع وقام على قدم وساق. إن المال الذي حمله «باريس» إلى طروادة في سفنه الجوفاء - وليته هلك من قبل! - يعتزم أن يرده جميعه، بل وأن يضيف إليه بعضا آخر من خزائنه. أما زوجة «مينيلاوس» المجيد، فإنه يعلن أنه لن يعيدها، رغم أن الطرواديين أنفسهم يأمروننا بإعادتها، كما أمروني بأن أعلن لكم هذه الكلمة أيضا: هل لكم في الكف عن الحرب التي تفيض بالآلام، إلى أن ندفن الموتى، ثم نستأنف القتال من جديد، إلى أن يحكم الرب بيننا ويهب النصر لأحد الجانبين أو للآخر؟»
هكذا كلمهم، فلزموا جميعا الصمت. وأخيرا قام من بينهم «ديوميديس» - البارع في صيحة الحرب - وتكلم وسطهم قائلا: «لا يقبلن أحد منكم المال من «باريس»، كلا، ولا هيلينا! فقد صار معروفا - حتى لمن خلا ذهنه من الإدراك بالمرة - أن شباك الهلاك قد أحكمت خيوطها بسرعة حول الطرواديين!»
وإذ قال هذا، صاح جميع أبناء الآخيين بصوت مرتفع، يهللون لما قاله ديوميديس، مستأنس الخيول. ثم التفت الملك «أجاممنون» إلى «أيدايوس»، وقال له: «أي أيدايوس، لقد سمعت بأذني رأسك كلام الآخيين، وكيف كان جوابهم على ما قلته لهم، وإن ما يسرهم يسرني. أما فيما يتعلق بالقتلى، فلا يسوءني قط أن تدفنوهم؛ إذ ليس لأحد أن يبخل على القتلى - بعد موتهم - بالعزاء السريع بالنار، ولكن فليشهد على عهودنا «زوس»، زوج هيرا هذا الذي يرعد عاليا.»
وما إن قال هذا حتى رفع صولجانه في وجه جميع الآلهة، وعاد أيدايوس قافلا إلى طروادة المقدسة. وكان الطرواديون والداردانيون جميعا يجلسون وقتئذ في حشد واحد، وقد اجتمعوا معا ينتظرون عودة أيدايوس. فأقبل ووقف في وسطهم، وأعلن ما سمعه. عندئذ نشط القوم وأعدوا أنفسهم بمنتهى السرعة لكل من المهتمين؛ بعضهم ليحضر القتلى، والبعض الآخر ليجمع الحطب. بينما أسرع الأرجوسيون في الجانب المقابل إلى السفن ذات المقاعد؛ البعض ليأتي بالموتى، والآخرون، ليبحثوا عن الخشب.
وحين التقى الجيشان، كانت الشمس قد بدأت تسطع بأشعتها فوق الحقول، وقد خرجت أوقيانوس - السلس الجريان، العميق المتدفق - وتسلقت إلى السموات. وكان من العسير إذ ذاك أن تتعرف على أي رجل من القتلى، ومع ذلك فقد غسلوا الدم المتجمد بالماء، وحملوا الجثث فوق العربات، وهم يذرفون في أثناء ذلك دموعا سخينة. بيد أن بريام العظيم لم يكن يحتمل أن يجهش قومه عاليا بالنحيب؛ ومن ثم فقد أخذوا يكومون الجثث في صمت، فوق كومة الحطب، وقد أثقل الحزن قلوبهم. ولما انتهوا من إحراقها بالنار، ذهبوا في طريقهم إلى طروادة المقدسة.
وحذا حذوهم الآخيون المدرعون جيدا، فكوموا الجثث في المقابلة، فوق كومة الحطب، بقلوب يحز فيها الكمد. حتى إذا ما انتهوا من إحراق الجثث بالنيران، اتخذوا طريقهم إلى السفن الخاوية.
إنشاء سور الآخيين
وقبيل أن يبزغ الفجر في جنبات السماء، والليل لا يزال مزيجا من النور والظلمة، احتشدت النخبة المختارة من جيش الآخيين حول كومة الحطب، وحفروا حولها قبرا واحدا في السهل - لجميع الجثث على حد سواء - ثم أقاموا سورا عاليا، للدفع عن سفنهم وعن أنفسهم. وجعلوا فيه أبوابا محكمة الأقفال، لتكون مسالك تقاد خلالها العربات. وحفروا خندقا في الخارج، عميقا وفسيحا وعظيما، ملاصقا للسور، وغرسوا فيه أوتادا.
هكذا كان الآخيون ذوو الشعر المسترسل يعملون جادين، بينما جلست الآلهة إلى جوار زوس - ملك البرق - تعجب للعمل الجبار الذي يقوم به الآخيون ذوو المدرعات البرونزية.
فقال في وسطهم «بوسايدون» - مزلزل الأرض - وتكلم أولا، فقال: «أبتاه زوس، هل يحق بعد ذلك لأي فرد من البشر على وجه الأرض الواسعة الفلا، أن يعلن فكره ورأيه على الخالدين ؟ ألا ترى أن الآخيين ذوي الشعر المسترسل قد عادوا إلى بناء سور لأنفسهم، دفاعا عن سفنهم، ومن حوله حفروا خندقا، ولم يقدموا للآلهة ذبائح مئوية عظيمة ؟ ما من شك في أن صيتهم سيطير إلى حيث ينتشر الفجر، وسوف ينسى الناس السور الذي أقمته أنا وأبولو بالكدح من أجل المحارب لاوميدون.»
فقال له «زوس» - جامع السحب - وقد غضب لذلك كثيرا: «ويحي، يا مزلزل الأرض، وواسع السلطان. أي قول هذا الذي قلت! من حق أي رب آخر، أضعف منك بكثير في القوة، أن يخشى هذا الأمر، في حين أن صيتك بالغ ولا بد إلى حيث ينتشر الفجر. فاذهب - إذا ما رحل الآخيون ذوو الشعر المسترسل بسفنهم إلى وطنهم العزيز - واشطر السور شطران، واجرفه كله إلى البحر، وأعد تغطية الساحل العظيم بالرمال، حتى لا يبقى لسور الآخيين العظيم أي أثر يدل على فعلك.»
بذلك تكلم كل منهما إلى الآخر، حتى غابت الشمس وتم عمل الآخيين، وذبحوا الثيران في جميع الأكواخ، ثم تناولوا طعام العشاء وكانت سفن كثيرة قد وصلت من ليمنوس محملة بالنبيذ، أرسلها ابن جاسون المدعو «يونيوس» - الذي أنجبته «هوبسيبولي» لجاسون، راعي الجيش - وكان يونيوس قد أحضر ألف كيل من ذلك النبيذ خصيصى لولدي أتريوس - أجاممنون ومينيلاوس - فاشترى الآخيون ذوو الشعر المسترسل، النبيذ لأنفسهم من تلك السفن؛ بعضهم مقابل برونز، وبعض آخر مقابل حديد براق، وآخرون مقابل جلود، وغيرهم مقابل ماشية حية، وغير هؤلاء لقاء عبيد. ثم أعدوا لأنفسهم وليمة فاخرة. فقضى الآخيون - ذوو الشعر المسترسل - الليل بطوله يولمون. كما فعل الطرواديون وحلفاؤهم في المدينة مثل ذلك. أما زوس، المستشار، فقد بات الليل بطوله يدبر لهم الشر، مرسلا الرعد بصورة مخيفة. فألم بهم فزع شاحب، وتركوا الخمر تراق من كئوسهم فوق الأرض. ولم يجرؤ أحد منهم على أن يشرب إلا بعد أن يقدم لابن كرونوس تقدمة من الشراب. ثم استقلوا، وحظوا بنعمة النوم.
الأنشودة الثامنة
... رفع الأب كفتي ميزانه الذهبيتين، ووضع فيهما مصيرين من الموت المفجع: واحدا للطرواديين، وآخر للآخيين، ثم أمسك قب الميزان من منتصفه ورفعه.
كيف تذكر «زوس» عهده بأن يقتص من «أجاممنون» لما حاق بأخيل من ظلم؛ ومن ثم دعا الآلهة إلى أن تكف عن الحرب، و... و... للطرواديين النصر.
اجتماع فوق جبل أوليمبوس
أخذ الفجر، ذو الثوب الزعفراني ينتشر على وجه الأرض، فعقد «زوس» - الذي يقذف الصواعق - اجتماعا للآلهة فوق أعلى ذؤابات جبل أوليمبوس الكثير القمم، وأخذ يخطب فيهم - بينما جميع الآلهة يصغون - فقال: «أصغوا إلي أيها الآلهة والربات جميعا، كي أفضي إليكم بما يأمرني به قلبي الكائن في صدري، ولا يعارضن أحدكم قولي - ربة كانت أم إلها - أو يرفضن كلمتي، بل عليكم جميعا بلا استثناء - أن توافقوا على كلامي، حتى يتسنى لي التعجيل بتنفيذ هذه الأمور، إن كل من يقع عليه بصري فأراه مبتعدا عن الآلهة، معتزما السعي لنجدة الطرواديين أو الدانيين - على السواء - سيرجع إلى أوليمبوس مضروبا بلا شفقة، أو فسأقذف به إلى تارتاروس الرازحة تحت الضباب، بعيدا جدا، إلى أعمق هوة تحت الأرض: أبوابها من الحديد، وعتبتها من البرونز، وتبعد عن هاديس - في العمق - بعد السماء عن الأرض في الارتفاع! وعندئذ ستعلمون أنني أقوى الآلهة طرا، هيا تعالوا، جربوا أيها الآلهة، كي تعرفوا جميعا! ... أدلوا من السماء بحبل من ذهب، وأمسكوا جميعا بطرفه - أيها الآلهة والربات - وعندئذ لن تستطيعوا أن تجذبوا «زوس» - المستشار الأعلى - من السماء إلى الأرض، ولو بذلتم أقصى جهد. أما أنا، فمتى عقدت العزم، ففي وسعي أن أجذبكم بسهولة - مع الأرض ذاتها والبحر كذلك - ثم أربط الحبل بعد ذلك حول إحدى ذؤابات أوليمبوس، فتظل كل هذه الأشياء معلقة في الفضاء، بهذه الدرجة أتفوق أنا على جميع الآلهة والبشر!»
هكذا تكلم «زوس»، فخيم الصمت على الجميع؛ إذ أدهشتهم كلماته، لأنه كان يخاطبهم بسيطرة تامة. وأخيرا قامت الربة «أثينا» - ذات العينين النجلاوين - وقالت: «أبانا كلنا، يا ابن كرونوس، يا سيد جميع السادة، إننا أنفسنا نعلم يقينا أن قوتك لا تقهر، غير أننا نشفق على الرماحين «الدانيين» الذين سيفنون الآن ويسوء مصيرهم. ومع ذلك فنحن سنمتنع عن القتال - كما تأمر - غير أننا سنقدم النصح للأرجوسيين بما فيه صالحهم، حتى لا يهلكوا جميعا بسبب غضبك.»
عندئذ ابتسم «زوس»، جامع السحب، وتحدث إليها فقال: «لا تخافي، يا «تريتوجينيا»،
1
يا طفلتي العزيزة، فلست - بأية حال - شديد الإصرار على ما قلت، وإنما أعتزم أن أكون رفيقا بك.»
وما إن قال هذا حتى ربط جياده البرونزية الحوافر، السريعة العدو - ذوات المعرفات الذهبية المتموجة - إلى عربته، ثم لف بالعسجد جسمه، وأمسك بالسوط الذهبي المتين الصنع، واعتلى مركبته، ومس الجياد بالسوط ليحثها على الانطلاق. فعدت - لا تلوي على شيء - بين الأرض والسماء ذات الكواكب. وانطلق بها إلى أيدا - الكثيرة النافورات، أم الحيوانات المفترسة - وإلى جارجاروس حيث يوجد معبده ومذبحة العطر الأريج. وهناك أوقف أبو الآلهة والبشر جياده، وخلاها عن العربة، وسكب عليها غماما كثيفا، ثم جلس هو فوق أعالي قمم الجبل يتلألأ في مجده، ويطل على مدينة الطرواديين وسفن الآخيين.
المعركة في يومها الثاني
تناول الآخيون - ذوو الشعر المسترسل - طعامهم بسرعة في أكواخهم، حتى إذا انتهوا منه، قاموا فارتدوا حللهم الحربية. وحذا الطرواديون حذوهم - من ناحيتهم - فسلحوا أنفسهم في جميع أنحاء المدينة، وكانوا أقل نفرا، ولكنهم كانوا تواقين إلى خوض القتال، تدفعهم الحاجة الماسة، من أجل أطفالهم وزوجاتهم. وكانت جميع الأبواب مفتوحة، فتدفق الجيش بسرعة، مشاة وركبانا، وارتفع الصخب والضجيج.
وما إن التقى الجمعان في صعيد واحد، حتى قرعوا تروسهم ورماحهم، في حماس المقاتلين المدرعين بالبرونز، واصطكت التروس المرصعة بعضها ببعض، وانبعث لها ضجيج مرتفع، وما لبثت الإناث أن سمعت مع صيحات النصر، وأصوات القاتلين والمقتولين معا، وتخضبت الأرض بالدماء.
وطوال الصباح، والنهار المقدس يزداد وضوحا، ظلت القذائف تنطلق من كلا الجانبين نحو أهدافها، وراح الرجال يسقطون. حتى إذا تجاوزت الشمس كبد السماء، رفع الأب كفتي ميزانه الذهبيتين، ووضع فيهما مصيرين من الموت المفجع؛ واحدا للطرواديين مستأنسي الخيول، وآخر للآخيين المتدثرين بالبرونز. ثم أمسك قب الميزان من منتصفه ورفعه فهبطت على الفور الكفة التي حملت يوم موت الآخيين.
وهكذا هوت أقدار الآخيين إلى الأرض الحنون، وارتفعت أقدار الطرواديين عاليا إلى السماء الفسيحة. ثم أرعد الإله عاليا من «أيدا» وأرسل وميضه المستعر وسط جيش الآخيين، فلما رأوه استولى عليهم الذهول وتملكهم الذعر المخيف أجمعين!
ومن ثم لم يجرؤ «أيدومينيوس» على الصمود، ولا أجاممنون، بل ولا البطلان «أياس» - خادما أريس - ولكن نسطور الجيريني، حامي الآخيين ثبت في وقفته، لا عن قصد وإنما لأن جواده كان قد أصيب بجرح بالغ، أحدثه «باريس» العظيم - زوج هيلينا ذات الشعر الفاتن - بسهم فوق الجمجمة - ففي هذه البقعة أهم مقتل للجياد - ومن ثم وثب الجواد عاليا في ألم، فنفذ السهم إلى مخه، وأشاع الفوضى بين جياد العربة وهو يتلوى جامحا.
وبينما قفز الرجل المسن بعيدا، وأخذ يقطع الأعنة بسيفه، أقبلت جياد «هكتور» السريعة وسط الهرج، يقودها سائق جريء، هو «هكتور» نفسه. وكان لا بد للكهل من أن يفقد حياته، لولا أن «ديوميديس» - البارع في صيحة الحرب - بادر إلى الانتباه فأرسل صيحة مفزعة، وحث «أوديسيوس» بقوله: «هيا يا ابن لايرتيس المولود من زوس، يا أوديسيوس، يا كثير الحيل، إلى أين تهرب موليا ظهرك - وسط الحشد - كالجبناء؟ حذار أن يغرس شخص رمحه بين كتفيك أثناء فرارك. كلا، بل قف في مكانك حتى تصد عن الكهل عدوه المهتاج!»
هكذا قال، ولكن «أوديسيوس» العظيم - الشديد الجلد - لم يصغ إليه، بل أسرع إلى سفن الآخيين الخاوية. غير أن ابن «توديوس» اختلط بالمقاتلين في الصفوف الأمامية - رغم أنه كان وحده - واتخذ موقفه أمام جياد الرجل المسن، ابن «نيليوس»، وخاطبه بكلمات مجنحة، قائلا: «يا سيدي الكهل، الحق أن المحاربين الشبان يضيقون عليك الخناق، في حين أن قوتك قد خمدت، وقست عليك الشيخوخة، وخادمك ضعيف، وجيادك بطيئة. فتعال إذن، وامتط عربتي، حتى ترى من أي نوع هي جياد تروس، الماهرة في العدو بسرعة هنا وهناك فوق السهل، سواء في الكر أو في الفرار، فلقد أخذتها من «أينياس» الذي يبث الخوف في النفوس، فدع جيادك لخادمينا يتوليان أمرها، ولنقد نحن هذين الجوادين على الفور ضد الطرواديين مستأنسي الخيول ؛ كي يعرف هكتور كذلك أن رمحي يثور في يدي.»
هكذا قال، فلم يصم الفارس «نسطور الجيريني» أذنيه عن قوله. وقام الخادمان - «ستينيلوس» الشجاع، و«يوروميدون» الطيب ، بالعناية بأفراس نسطور، وامتطى الآخران معا عربة «ديوميديس». فأمسك «نسطور» بالأعنة اللامعة في يديه، وألهب الجياد بالسوط، فاقتربت مسرعة من هكتور. وإذ ذاك صوب إليه ابن «توديوس» ضربة - وهما يطبقان عليه - ولكنه أخطأه. بيد أن خادمه وسائق عربته، «أينيوبيوس» ابن «ثيبايوس»، الجريء القلب، أصيب في صدره، بجانب ثديه، وهو ممسك بالأعنة، فسقط خارج العربة، وانحرفت جياده السريعة الأقدام جانبا، ففاضت روحه ونضبت قوته.
إذ ذاك غشي نفس هكتور حزن أليم على سائق عربته، ولكنه تركه مسجى، وإن أسف على زمالته، وشرع يبحث له عن سائق عربة جسور. ولم تطل حاجة الجياد إلى مسيطر؛ إذ سرعان ما عثر على ابن «إيفيتوس» - «أرخيميتوليموس» المقدام - فأمره بالصعود خلف جياده السريعة الأقدام وأسلمه الأعنة.
عندئذ حل الخراب، ووقعت أحداث لا سبيل إلى علاجها، وهكذا حبسوا في طروادة كالحملان، لولا أن أبا الآلهة والبشر فطن إليهم بسرعة، فأطلق رعودا مروعة، وأرسل صاعقته الناصعة الإبراق، فألقى بها على الأرض أمام جياد ديوميديس، فارتفعت ألسنة لهب الكبريت الحارق، وأجفلت الجياد متراجعة تحت العربة وقد استولى عليها الفزع. فأفلتت الأعنة البراقة من يدي نسطور، وامتلأ قلبه بالخوف، وخاطب ديوميديس قائلا: «أيا ابن توديوس، هيا، استدر بجيادك القوية الحوافر طلبا للفرار. ألا ترى أن النصر لا ينتظرك من لدن زوس؟ ها هو ذا ابن كرونوس، يمنح المجد لذلك الرجل «هكتور» في يومنا هذا، ثم يهبنا إياه فيما بعد، إذا شاء، ولا يملك امرؤ قط أن يصد إرادة زوس، مهما يكن مقداما؛ لأنه أقوى بمراحل، والحق يقال!»
فرد عليه ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، قائلا: «إنك على حق، أيها الشيخ، فبالصواب نطقت، ولكن الحزن الشديد يتسلل إلى قلبي وروحي؛ لأن هكتور سيقول يوما ما، وهو يخطب في جموع الطرواديين: «لقد أجبرت ابن توديوس على الفرار أمامي، موليا الأدبار إلى السفن.» بهذا سيزدهي ويختال، فلتنشق الأرض وتبتلعني في ذلك اليوم!»
فأجابه الفارس «نسطور الجيريني» بقوله: «ويحي، يا ابن توديوس الحكيم القلب، ماذا تقول؟ مهما يرمك هكتور بالجبن والضعف، فإن الطرواديين والداردانيين لن يصغوا إليه، وكذلك زوجات كبار القلوب من أهل طروادة، حاملات التروس، الزوجات اللائي جندلت أزواجهن الأشداء في الثرى!»
هكذا قال، واستدار للفرار بجياده القوية الحوافر - خلال الهرج السائد - فأخذ الطرواديون وهكتور يصبون عليه وابلا من السهام الموجعة، في صخب عجيب. وصاح هكتور العظيم ذو الخوذة البراقة، قائلا بصوت عال: «أيا ابن توديوس، لقد كان الدانيون ذوو الجياد السريعة تواقين إلى تكريمك وإيثارك - دون الآخرين - بأرفع مكان، وباللحوم والكئوس المترعة، ولكنهم الآن سيحتقرونك؛ إذ إنك - رغم كل شيء - لست خيرا من المرأة. اذهب أيها الدمية الجبانة، فلن يكون مني إحجام وتقاعس يمكنانك من تسلق أسوارنا، كما أنك لن تقدر على حمل نسائنا في سفنك، فلسوف أسقيك كأس الحمام قبل هذا!»
هكذا قال هكتور، فتردد ابن «توديوس» فيما يفعل: أيفر بجياده أم يقاتله وجها لوجه؟! ثلاث مرات تردد في قرارة نفسه وروحه، وثلاث مرات أرعد «زوس» الناصع - من جبال «أيدا» - معطيا الطرواديين علامة ونصرا، كي يحول نتيجة المعركة. وصاح هكتور بصوت مرتفع يخاطب الطرواديين بقوله: «أيها الطرواديون واللوكيون والداردانيون، يا من تقاتلون في عراك ملتحم، كونوا رجالا يا أصدقائي، وفكروا في البطولة المستبسلة. أرى أن ابن كرونوس قد أعطاني النصر والمجد العظيم - بنية صادقة - وجعل للدانيين المحن والكروب. يا لهم من حمقى؛ إذ أقاموا هذه الخنادق الضعيفة غير النافعة، فهي لن تقاوم أو تصمد أمام قوتنا، وسوف تقفز خيولنا بسهولة فوقها. وعندما أصبح في النهاية وسط السفن الخاوية، فلا تنسوا تلك النار المهلكة، فربما أضطر إلى أن أحرق السفن بالنار، ثم أقتل الرجال. أما الأرجوسيون فسيظلون تحت الدخان، مذهولين بجانب سفنهم.
وما إن قال هذا، حتى صاح يستحث جياده: «هيا يا كسانثوس، وأنت يا بودارجوس، ويا أيثون، ويا لامبوس العظيم، الآن ردوا لي ما عليكم من دين، فإن «أندروماخي» - ابنة أيتيون الجريء القلب - قد قدمت لكم كميات وفيرة من القمح اللذيذ الطعم، وخلطت لكم الخمر لتشربوا منها ما طاب لكم أن تشربوا، فكان هذا دينا لي عليكم؛ إذ إنني زوجها الصنديد . هيا يا جيادي، أسرعي في المطاردة، كي يمكننا أن نأخذ ترس نسطور، الذي بلغ صيته عنان السماء، ذلك الترس المصنوع من الذهب الخالص كله، حتى قضبانه، وكي نخلع عن كتفي ديوميدس مستأنس الخيول درع صدره الغنية بالزخارف والتي تعب هيفايستوس في صنعها له. فلو أننا استطعنا الحصول على هذين، لكان لي الأمل في أن أجبر الآخيين هذه الليلة على الفرار!»
الآخيون يشنون هجوما مضادا
هكذا قال مزهوا، فحنقت هيرا الجليلة، وهزت نفسها فوق عرشها، فاهتز أوليمبوس الشامخ. وخاطبت الرب بوسايدون القوي، قائلة: «ويحي، يا مزلزل الأرض، يا واسع السلطان، ألم يحس قلبك في صدرك بأي عطف حتى الآن على الدانيين الذين يهلكون؟ ومع ذلك فإنهم يحضرون لك الكثير من القرابين الجميلة في هيلينا وإيجة، تبجيلا لك، ولكنك للآن لم ترد لهم النصر! ... ولو أننا عزمنا جميعا - نحن الذين نساعد الدانيين - على دفع الطرواديين إلى الوراء، وعلى إيقاف زوس ذي الصوت البعيد المدى، إذن لجلس وحده مغيظا فوق أيدا.»
فلما اضطرب قلب السيد، مزلزل الأرض، قال لها: «أي هيرا، أيتها الطائشة الحديث، ما هذه الألفاظ التي تفوهت بها؟ لم يحدث قط أن اشتقت إلى رؤيتنا جميعا في صراع مع زوس، ابن كرونوس، فإنه بحق أقوى منا بمراحل.»
هكذا تكلم كل منهما إلى الآخر، وكان جميع الفضاء الذي يفصله الخندق عن السفن زاخرا بالعربات، حتى الأسوار، كما كان حاملو التروس يتزاحمون، وقد احتشدوا بجانب هكتور بن بريام، نظير «أريس» السريع الذي منحه زوس الآن مجدا، وكاد يحرق السفن الجميلة بالنيران الملتهبة، لولا أن هيرا الجليلة حضت أجاممنون على أن ينهض ويحث الآخيين بسرعة، وعلى ذلك شق طريقه بمحاذاة أكواخ الآخيين وسفنهم، حاملا عباءة أرجوانية كبيرة في يده القوية، واتخذ موقفه بجوار سفينة أوديسيوس السوداء، الضخمة البنيان، والتي كانت في الوسط حتى يتسنى لأية صيحة أن تصل إلى الطرفين؛ إلى أكواخ أياس بن تيلامون، وإلى أكواخ أخيل؛ إذ كان هذان قد سحبا سفنهما الجميلة إلى الطرفين القصيين، معتمدين على شجاعتهما وقوة أيديهما. فوقف هناك وأطلق صيحة مدوية، ينادي بها الدانيين بأعلى صوته قائلا: «سحقا لكم، أيها الأرجوسيون، يا أحقر من أنجب العار، ويا من لم تؤتوا من الشجاعة سوى مظهرها! أين ذهب فخرنا وزهونا يوم أن أعلنا ملء أشداقنا أننا أشجع الناس؟ ذلك الزهو الذي تباهيتم به يوم أن كنتم في ليمنوس، وأنتم تأكلون ملء بطونكم من لحم البقر المستقيم القرون، وتشربون الطاسات المترعة بالخمر حتى حافاتها، قائلين: إن كل امرئ منكم يستطيع أن يواجه مائة مقاتل، بل مائتين من الطرواديين، في حين أننا لا نستطيع الآن أن نواجه فردا واحدا، ولا «هكتور» هذا، الذي لن يلبث حتى يشعل النيران المتأججة في سفننا؟! أبتاه زوس، هل أعميت - من قبل - قلب أي من الملوك العتاة بمثل هذا العمى، وجردته من المجد العظيم؟ ومع ذلك فإنني على يقين من أنني لم أمر قط - في سفينتي ذات المقاعد - بمذبح جميل من مذابحك، خلال طريقي المشئوم إلى هنا، إلا وأحرقت دهن الثيران وأفخاذها، وأنا أتوق إلى تخريب طروادة المحكمة الأسوار. أي زوس، حقق لي هذه الرغبة: اسمح لأرواحنا - على الأقل - بالهروب والنجاة، ولا تسمح للآخيين بأن يبيدوا هكذا على أيدي الطرواديين.»
هكذا تكلم، فأشفق عليه زوس وهو يبكي، ووعده بأن ينقذ شعبه من الهلاك. وفي الحال أرسل نسرا - وهو العلامة الأكيدة بين الطيور المجنحة - يحمل في مخالبه ظبيا، ابن ظبية سريعة. وطار حتى مذبح زوس الجميل، وأسقط الظبي بجواره، في المكان الذي اعتاد الآخيون أن يقدموا فيه الذبائح لزوس الباعث جميع العلامات. فلما أبصروا الطائر مقبلا من لدن زوس، ضاعفوا هجومهم على الطرواديين واهتموا بالمعركة.
عندئذ لم يكن لأي رجل من الدانيين، رغم كثرة عددهم، أن يفخر بأنه سبق ابن توديوس في دفع جياده السريعة عبر الخندق، حيث نازل الأعداء فرادى، فلقد كان ابن توديوس أول من قتل محاربا، وهو «أجيلاوس » ابن «فرادمون»، إذ إنه حول جياده ليفر، غير أنه لم يكد يستدير حتى غيب ديوميديس رمحه في ظهره - بين الكتفين - ودفعه عبر صدره، فسقط من عربته يتردى، ومن فوقه صلصلت عدته الحربية.
وجاء بعده ابنا «أتريوس» أجاممنون ومينيلاوس - ثم البطلان «أياس» متدثرين بالشجاعة الثائرة، وأعقبهم «أيدومينيوس»، ورفيقه «ميريونيس»، نظير «أينواليوس» قاتل البشر. وجاء بعدهم «يوروبولوس»، ابن «يوايمون» «المجيد»، وجاء «تيوكير» تاسعهم، ناشرا قوسه المعقوفة الظهر، فاتخذ موقفه تحت ترس أياس بن تيلامون. فكان على «أياس» إذن أن يحرك ترسه خلسة ليمكن المحارب من أن يترقب فرصته، حتى إذا ما أطلق هذا سهما وأصاب واحدا من الجمع، يسقط ذلك الواحد ويلفظ روحه، وعندئذ يتراجع «ثيوكير» ويلجأ إلى «أياس» كطفل في كنف أمه، فيخفيه هذا بترسه المتألق!
فمن كان أول من قتلهم «ثيوكير» العظيم من الطرواديين؟ كان «أورسيلوخوس» الأول، ثم «أورمينوس»، فأوفيليستيس، فدايتور، فخروميوس، فلوكوفونتيس شبيه الإله، فأموباون بن بولوايمون، فميلانيبوس، كل هؤلاء صرعهم ثيوكير، واحدا بعد آخر، فسقطوا على الأرض الفسيحة. فلما رآه أجاممنون - ملك البشر - سر لإحداثه الفوضى في صفوف الطرواديين بقوسه القوية، فوقف إلى جواره وخاطبه بقوله: «أي ثيوكير المحبوب، يا ابن تيلامون، قائد الجيوش، أطلق سهامك على هذا النحو، حتى توجد بصيصا من الأمل في الإخلاص للدانيين، ومجدا لأبيك تيلامون، الذي رباك مذ كنت طفلا، وآواك في داره رغم أنك كنت لقيطا، فاجلب له الشرف، رغم كونه بعيدا جدا. وعلاوة على ذلك فإنني أعلن لك ما سوف يتحقق فعلا: إذا أتاح لي زوس - حامل الترس - وأثينا، أن أخرب مدينة طروادة المتينة البناء، فسوف تكون يداك أول يدين أضع فيهما - بعد يدي - جائزة الشرف؛ سواء كانت هذه الجائزة ثلاثة جياد أو اثنين مع عربتهما، أو كانت سيدة ترقد معك في فراشك.»
فرد عليه ثيوكير المنقطع النظير بقوله: يا ابن أتريوس العظيم المجد، لم تحضني على ما أنا متحمس له؟ الحق أنني لن أنكص طالما كانت في قوة، فمنذ أن دفعناهم صوب طروادة وأنا قابع في انتظار الرجال بقوسي، لأعمل فيهم التقتيل. ولقد أطلقت حتى الآن ثمانية سهام طويلة الأشواك، استقرت كلها في أجساد الشبان السريعي الحركة في القتال، إلا هذا الكلب المسعور فلست أملك إصابته .»
وبعد أن تكلم أطلق سهما آخر من وتر قوسه نحو هكتور مباشرة، وقلبه يهفو إلى إصابته، ولكنه مع ذلك أخطأه، فأصاب السهم صدر «جورجوثيون» ابن بريام الشجاع، الذي أنجبته «كاستيانايرا» الفاتنة الأيسومية، الشبيهة بالربة، وكما يحدث في الحديقة إذ تنحني الخشخاشة المحملة بالثمار، تحت أمطار الربيع، كذلك أحنى هو رأسه المثقل بالخوذة!
وأطلق ثيوكير سهما آخر من وتر قوسه صوب هكتور مباشرة، وقلبه تواق إلى إصابته، ولكنه أخطأه للمرة الثانية. إذ جعل أبولو السهم ينحرف، فأصاب صدر «أرخيبتوليموس» - سائق عربة هكتور الجسور - بجانب ثديه، وهو يسرع وسط معمعة القتال، فسقط من العربة، فانحرفت الجياد السريعة الأرجل، وهنا خارت قواه وفاضت روحه. فحزن هكتور على سائق عربته حزنا بالغا، ومع ذلك تركه يرقد حيث هو، وأمر «كيبريونيس» شقيقه - الذي كان يقف قريبا منه - بأن يقبض على أعنة الخيول، فأطاع الأمر دون إحجام. ثم قفز هكتور نفسه من عربته المتألقة إلى الأرض وهو يصيح صيحة مروعة، وأمسك بيده صخرة وانقض على ثيوكير يريد أن يهوي بها عليه. وكان ثيوكير في تلك الآونة قد التقط من جعبته سهما مريرا، وثبته في وتر قوسه، وفيما كان يجذبه إلى الخلف، ضربه «هكتور» - ذو الخوذة البراقة - بالحجر المدبب بجانب كتفه، حيث تفصل عظمة الترقوة العنق عن الصدر - وهي البقعة الأشد مقتلا - فقطع وتر القوس، وشل إحساس يده من عند الرسغ، فسقط على ركبتيه. وهكذا رقد، ووقعت القوس من يده. غير أن «أياس» لم يكن غافلا عن سقطة أخيه، فأسرع يجري نحوه، ووقاه بترسه. وعندئذ انحنى اثنان من أخلص رفاقه - هما: «ميكيستيوس» ابن «أخيوس»، و«ألاسطور» العظيم - فحملاه، وهو يئن أنينا مؤلما، إلى السفن الخاوية.
ومرة أخرى، أذكى الأوليمبي في قلوب الطرواديين، فدفعوا الآخيين في الحال إلى الخندق العميق. وانطلق هكتور وسط الصفوف الأولى يزهو بقوته. وكما يطارد كلب سريع الأقدام خنزيرا بريا أو أسدا - فيمسك به من الخاصرة أو من العجز، ويتشبث به في حذر وهو يدور حول نفسه - راح هكتور يطارد الآخيين ذوي الشعر المسترسل ، ذابحا من كانوا في المؤخرة. حتى دبت بينهم الفوضى. ومروا أثناء فرارهم بين الأوتاد والخنادق، وقتل الطرواديون كثيرين منهم، ثم وقفوا إلى جانب سفنهم، ينادون بعضهم بعضا، ورفعوا أيديهم إلى جميع الآلهة، وأخذ كل فرد منهم يصلي بحرارة. بيد أن هكتور شرع يدفع جياده الجميلة المعرفة في هذا الطريق أو تلك. وعيناه أشبه بعيون الجورجون أو عيون أريس، جلاب الهلاك للبشر. «هيرا» و«أثينا» تقرران التدخل
وإذ أبصرت بهم الربة «هيرا» - الناصعة الذراعين - أشفقت عليهم، وخاطبت في الحال «أثينا» بعبارات مجنحة قائلة: «ويحي، يا ابنة زوس - حامل الترس - هل نظل كلتانا بلا تفكير مطلقا في الدانيين الذين يتساقطون صرعى، ولو في هذه المرة الأخيرة فحسب؟ لسوف يملئون كأس القدر الشرير، فيهلكون أمام هجوم رجل واحد، هو هكتور بن بريام، الذي يثور الآن ثورة جامحة ما لها مثيل، والذي ارتكب كثيرا من الآثام حقا!»
فقالت لها الربة أثينا ذات العينين النجلاوين: «حقا، لكم كنت أتوق إلى أن يفقد هذا الرجل قوته وحياته، مقتولا في وطنه بأيدي الأرجوسيين، غير أن أبي مهتاج، لا يضمر خيرا، وهو عنيد، بل إنه آثم يخيب آمالي، ولا يتذكر قط أنني كثيرا ما أنقذت ابنه عندما كاد يهلك أثناء أدائه مهام «يوروسثيوس»، فقد كان يبكي ويتضرع إلى السماء، ومن السماء كان يرسلني «زوس» لمساعدته. ولو أنني أدركت هذا بما في قلبي من حكمة - عندما أرسله «يوروسثيوس» إلى بيت هاديس الديدبان، كي يخرج كلب هاديس المقيت من داخل أيريبوس - لما كان قد نجا من مياه نهر ستكوس التي تتدفق رأسيا. وبالرغم من هذا فإن زوس يكرهني الآن، ويستجيب لأغراض «ثيتيس» التي قبلت ركبتيه وأمسكت ذقنه بيدها، متوسلة إليه أن يخلع المجد على أخيل، مخرب المدن، ولكن من المحقق أن سيأتي اليوم الذي يعود فيه فيناديني بعزيزته البراقة العينين. أما الآن فأعدي لنا جيادنا القوية الحافر، ريثما أدخل قصر «زوس» حامل الترس، وأرتدي حلتي الحربية استعدادا للقتال، كي أرى ما إذا كان ابن بريام - هكتور ذو الخوذة البراقة - سيسر عندما نظهر معا في الأفق على طول خنادق المعركة. نعم، من المؤكد أن كثيرا من الطرواديين سيتخمون الكلاب والطيور بشحومهم ولحومهم، عندما يتردون بجانب سفن الآخيين.»
هكذا تكلمت، ولم تمتنع الربة «هيرا» - البيضاء الساعدين - عن الإصغاء إليها. ثم مضت هيرا - الربة الجليلة، ابنة كرونوس العظيم - تسرج الجياد الذهبية الغرة. ولكن أثينا - ابنة زوس حامل الترس - أسقطت رداءها الرقيق، الفاخر الوشي، الذي طرزته بنفسها، فوق أرض أبيها، ولبست عباءة «زوس» جامع السحب، وتأهبت في عدتها الحربية، لأجل الحرب المحزنة. ثم اعتلت العربة المتوهجة وأمسكت برمحها الثقيل، الكبير القوي، الذي تفنى به صفوف الرجال من المحاربين الذين تغضب عليهم، وهي ابنة الرب العظيم. ولمست «هيرا» الجياد بالسوط، فانفتحت أبواب السماء من تلقاء نفسها وهي تصر على مفصلاتها، تلك الأبواب التي تقوم آلهة الساعات على حراستها، والتي عهد إليها بالسماء العظيمة وأوليمبوس، بحيث إن لها أن تبدد السحب الكثيفة أو تحشدها. وخلال هذه الأبواب، ساقت الربتان جيادهما التي تحتمل المنخس بصبر.
بيد أن الأب زوس أبصر بهما من أيدا، فاستشاط غضبا، وأرسل لفوره «أريس» الذهبية الجناحين برسالة، وقال لهما: «اذهبي يا أريس السريعة، ورديهما على أعقابهما، ولا تحمليهما مشقة مقابلتي وجها لوجه، فلن تكون لالتقائنا في عراك عاقبة سعيدة. إن ما أقوله الآن هو ما سيحدث فعلا فلسوف أمسح جيادهما السريعة في العربة وأقذف بهما منهما، وأحطم العربة إربا، ولن يبرئهما انقضاء عشر سنوات متتابعة، من الجراح التي تسببها لهما الصاعقة؛ كي تعرف ذات العينين البراقتين العاقبة، إذا ما ناضلت ضد أبيها. أما هيرا فلست أحمل لها مزيدا من ضغينة أو غضب؛ إذ إنها اعتادت أن تعارضني دائما فيما أتخذ من قرارات!»
هكذا قال، فانطلقت «إيريس» السريعة القدمين لتبلغ الرسالة، وذهبت لتوها من جبل أيدا إلى أوليمبوس الشاهق. فالتقت عند مدخل أوليمبوس العديد الذؤابات، واستوقفتهما، وأبلغتهما ما قاله زوس، قائلة: «إلى أين تسعيان؟ لم جن قلباكما في صدريكما؟ إن كرونوس يحرم عليكما أن تقدما المعونة للأرجوسيين، بل إنه توعد وسينفذ وعيده: فسوف يمسخ جيادكما السريعة في عربتكما، ويقذف بكما خارجها، ويحطم العربة ذاتها إربا، ولن تبرأ جراحكما التي ستسببها لكما الصاعقة، في مدى عشر سنوات متتاليات، كي تعلمي يا ذات العينين النجلاوين، معنى صراعك ضد أبيك، أما هيرا فإنه لا يحمل لها مزيدا من ضغينة ولا حقد؛ إذ إنها متعودة على أن تعارضه باستمرار في كل قرار يتخذه. ولسوف تكونين متهورة، وغاية في الجرأة والجسارة، إذا تجاسرت على رفع رمحك القوي ضد زوس!»
فلما أتمت أيريس السريعة القدمين ما قالته، خاطبت هيرا أثينا بقولها: «ويحي، يا ابنة زوس حامل الترس! حقا أنني لن أحتمل الآن أن يشن كلانا الحرب ضد زوس من أجل بني الإنسان. فليهلك هذا، وليعش ذلك، كل لما قدر له من مصير، أما زوس، فليتخذ قراره في فؤاده، وليقض على الطرواديين وعلى الدانيين بما يحلو له!»
وإذ قالت هذا، رجعت أدراجها بخيولها القوية الحافر. وعندئذ قامت الساعات عنهما برفع النير عن جيادهما الجميلة المعرفة، وعقلتها عند مذودها الحافل بالغذاء الإلهي الشهي، وأسندت العربة على سور المدخل اللامع. ثم جلست الربتان فوق عرشين من الذهب وسط الآلهة الآخرين، وبقلبيهما حزن مكين.
ولكن الأب زوس قاد عربته - المتينة العجلات - وجياده من أيدا إلى أوليمبوس، وتوجه إلى مجلس الآلهة. فقام عنه مزلزل الأرض الذائع الصيت برفع النير عن جياده، ووضع العربة في مربطها، ونشر فوقها الغطاء، ثم جلس زوس، البعيد النظر، فوق عرشه الذهبي، فاهتز أوليمبوس العظيم تحت قدميه. وكانت «أثينا» و«هيرا» هما الوحيدتان اللتان جلستا بمنأى عن زوس، ولم تخاطباه بكلمة واحدة، أو تسألاه شيئا. غير أنه كان منتبها - في قرارة قوله - إلى ذلك، فخاطبهما بقوله: «ماذا يحزنكما، يا أثينا وهيرا؟ من المؤكد أنكما لم تتعبا من إثارة الفوضى في معركة الطرواديين المجيدة؛ إذ إنكما تكنان لهم كراهية بالغة فليحدث ما يحدث، فطالما أملك قوة لا تقاوم، فإن جميع من في أوليمبوس من الآلهة لن يستطيعوا أن يثنوني عن عزمي. أما أنتما الاثنتان فقد حلت الرجفة بأطرافكما اللامعة، حتى قبل أن تشاهدا الحرب وأعمال الحرب الفظيعة. فهكذا أقول وهو ما كان خليقا بأن يتحقق فعلا، ولو أنكما رزئتما بالصاعقة، لما أمكنكما العودة بعربتكما إلى أوليمبوس، حيث مسكن الخالدين.»
هكذا تكلم، فتمتمت أثينا وهيرا، اللتان كانتا تدبران المصائب للطرواديين، وهما تجلسان بالقرب منه. وتمالكت أثينا نفسها، فلم تقل شيئا، إذ كان الغضب الجامح والسخط يتملكانها نحو أبيها «زوس»؛ ولكن صدر «هيرا» كان خلوا من مثل غضبها، فتحدثت إليه قائلة: «يا ابن كرونوس المهيب إلى أقصى حد، ما هذا القول الذي نطقت به؟ إننا نعلم علم اليقين - من تلقاء أنفسنا - أن قدرتك ليست بالضعيفة، ولكننا مع ذلك نشفق على الرماحين الدانيين الذين سيفنون الآن ويلقون مصيرا سيئا. ومع ذلك فلسوف نكف أيدينا عن المعركة إذا أنت أمرت بذلك غير أننا سنقدم للأرجوسيين النصح الذي فيه نفعهم، حتى لا يهلكوا جميعا بسبب غضبك».
فرد عليها زوس، جامع السحب، قائلا: «أي هيرا الجليلة، يا ذات عيون المها، ستشاهدين عند الفجر - إذا طاب لك - الابن الأقوى لكرونوس، وهو يحدث شغبا أقسى إيلاما، بين جيش الرماحين الأرجوسيين الكبير؛ لأن «هكتور» المرهوب الجانب لن يكف عن القتال إلا بعد أن ينهض «ابن بيليوس» - السريع القدمين - بجانب السفن، يوم يتقاتلون بين مؤخرات السفن، قتالا لا هوادة فيه، حول «باتروكلوس» الصريع، فهكذا قدرت السماء. أما أنت، فلن أكترث لغضبك، كلا، ولو ذهبت حتى إلى آخر حدود الأرض والبحر حيث يقيم «أيابيتوس» و«كرونوس» لا ينعمان بأشعة «هيليوس هوبيريون» أو بأي نسيم، بل تحيط بهما تارتاروس العميقة، من كل جانب. ومع أنك قد تذهبين إلى هناك في إحدى جولاتك، إلا أنني لن أحفل بغضبك أبدا؛ إذ لا يوجد من هو أكثر خزيا منك!»
هكذا تكلم، ولكن «هيرا» - البيضاء الساعدين - لم تنطق ببنت شفة لترد عليه. وبعد ذلك سقط ضوء الشمس اللامع في «أوقيانوس»، جاذبا الليل الداجي فوق وجه الأرض، واهبة الحب. فانصرف ضوء النهار على غير رغبة من الطرواديين، ولكنه صادف سرورا من الآخيين الذين صلوا ثلاث مرات لمجيء ظلمة الليل .
بعد ذلك عقد «هكتور» المجيد اجتماعا للطرواديين، وقادهم بعيدا عن السفن بجانب النهر - في العراء - حيث كانت الأرض خلوا من الموتى.
اجتماع في معسكر الطرواديين
وفي الحال ترجلوا من عرباتهم إلى الأرض، ليستمعوا إلى الكلمة التي يلقيها «هكتور» - حبيب زوس - في جمعهم، وكان يمسك في يده رمحا طوله أحد عشر ذراعا، وقد تألق أمام وجهه رأس الرمح البرونزي الذي كانت تحيط به حلقة من الذهب. وما لبث أن اتكأ على الرمح، وألقى كلمته وسط الطرواديين، فقال: «أيها الطرواديون، والدانيون والحلفاء، اسمعوا وعوا. كنت آمل أن ننزل الدمار الآن بالسفن وبجميع الآخيين، ثم نعود ثانية إلى طروادة ذات الرياح، بيد أن الظلام تعجل إرخاء سدوله، فكان هذا منقذا للأرجوسيين وسفنهم التي على شاطئ البحر. إذن فلنستسلم لليل البهيم، ونعد عشاءنا، خلوا الجياد ذوات المعارف الجميلة عن العربات وضعوا أمامها العلف، وأحضروا الثيران والأغنام الطيبة بسرعة من المدينة واجلبوا النبيذ العسلي المذاق والخبز من بيوتكم، وعلاوة على ذلك اجمعوا كثيرا من الحطب حتى نشعل كثيرا من النيران، فيصل وهجها إلى عنان السماء حتى مطلع الفجر، لئلا يسرع الآخيون - ذوو الشعر المسترسل - بالفرار فوق ظهر البحر الفسيح، تحت الظلام. كلا، يجب ألا يعتلوا ظهور سفنهم دون معركة، ولكن ضعوا نصب أعينكم أن يحمل كثيرون منهم جراحا يعالجونها في وطنهم، بأن يصاب كل منهم بسهم أو رمح حاد الطرف وهو يقفز إلى سفينته، حتى يرهب الآخرون إثارة الحرب المبكية ضد الطرواديين مستأنسي الخيول. وليعلن المنادون - أحباء زوس - في سائر أنحاء المدينة أن على الصبايا والرجال المسنين - الذين وخط الشيب جباههم - أن يجتمعوا حول المدينة، فوق الشرفات التي بناها الآلهة، ولتشعل كل امرأة نارا عظيمة في ساحتها، ولتكن هناك حراسة يقظة، خشية أن يتسلل كمين إلى المدينة في غيبة الجيش. ليكن الأمر - أيها الطرواديون العظيمو القلوب - كما أعلنه لكم ، وليقم بيننا الرأي السليم. ولسوف أزيدكم نصحا عند الفجر، وسط الطرواديين مستأنسي الخيول. وإنني لأواصل الصلاة بأمل عظيم لزوس والآلهة الآخرين؛ كي يطردوا من هنا أولئك الكلاب الذين حملتهم الأقدار، فوق سفنهم السوداء. ومع كل فلسوف نواصل الحراسة أثناء الليل، ثم نثيرها - في الصباح، مع مطلع الفجر - حربا شعواء، ونحن في عدتنا الحربية، عند السفن الخاوية، وسوف أعلم ما إذا كان «ديوميديس» القوي - ابن «توديوس» - سيدفعني بعيدا عن السفن حتى الأسوار، أو أنني سأقتله بالرمح البرونزي، وأحمل غنائمه الملطخة بالدماء. غدا سيعرف مبلغ شجاعته، وهل يستطيع الصمود أمام هجمة رمحي. لسوف يتردى. وسط الصفوف الأولى، بضربة من رمحي - على ما أعتقد - وحوله عدد كبير جدا من زملائه، صرعى كذلك عند مشرق الشمس في الغد. آه، ليتني أطمئن إلى الخلود وعدم الشيخوخة طول حياتي، وأن أبجل مثل «أثينا» و«أبولو»، بكل الثقة التي أطمئن بها إلى أن هذا اليوم سيجلب الشر على الأرجوسيين.» «كلوتمنسترا» - زوجة أجاممنون - تستقبل ابنها «أوريستوس».
هكذا خاطب «هكتور» جمعهم، فصاح الطرواديون بصوت عال ردا على كلامه، وفكوا خيولهم المبللة بالعرق - من تحت النير - وقيدوها بسيور من الجلد، وكان كل رجل بجانب عربته. وسرعان ما أحضروا الثيران والأغنام الكبيرة من المدينة، كما أحضروا لأنفسهم - من بيوتهم - نبيذا حلوا كالشهد وخبزا، وجمعوا مقدارا عظيما من الحطب، وقدموا للخالدين ذبائح مئوية تحقق الرجاء. وعبر السهل، حملت الرياح رائحة الشواء إلى عنان السماء، رائحة حلوة، ولكن الآلهة المقدسة لم تنل نصيبها منها، ولم يكن في نيتها ذلك؛ إذ إنها كانت تمقت طروادة المقدسة - وكذلك بريام وشعبه ذا الرماح الدردارية الطويلة - مقتا عظيما.
ولكن هؤلاء جلسوا طوال الليل - بآمال عالية - على طول خنادق القتال، وكانت نيرانهم تتأجج في مجموعات. وكما يحدث في السماء حول القمر المنير؛ إذ تتألق النجوم بسناها - عندما يكون النسيم هادئا في الفضاء الواسع - فتظهر سائر قمم الجبال والمرتفعات الأرضية والممرات العالية أمام عيني الناظر، وينساب الهواء اللانهائي من السماء، وتتجلى كل النجوم، فيتهلل قلب الراعي، هكذا كانت حال هذا الجمع بين السفن ومجاري كسانثوس المائية؛ إذ تألقت النيران التي أشعلها الطرواديون أمام طروادة. فكنت تشاهد آلاف النيران مستعرة في السهل، وإلى جوار كل منها جلس خمسون رجلا في وهج اللهب المتأجج. وإلى جوار عرباتهم كانت خيولهم تأكل الشعير الأبيض والجويدار، في انتظار بزوغ الفجر ذي العرش الجميل.
الأنشودة التاسعة
«مرحبا بكم، إنكم ولا بد أصدقاء، إذ جئتم ... ولا ريب أن حاجة ماسة أتت بكم، يا من أعتبرهم - حتى في غضبي - أعز الآخيين.»
كيف أوفد «أجاممنون» رسولا إلى «أخيل» يسأله أن يهدئ من نقمته، وكيف رفض أخيل طلبه!
الآخيون يدبرون خطة
هكذا ظل الطرواديون في الحراسة، بينما استولى على الآخيين فزع منزل من السماء، هو خادم الخوف الذي يشل الحراك، فمني كبارهم جميعا بحزن لا يمكن احتماله، تغلغل في قلوبهم. وكما أن ريحين - هما ريح الشمال وريح الغرب اللتان تهبان من تراقيا - تثيران اليم، موطن الأسماك، فما إن تهبان فجأة، حتى ترفع الموجة القاتمة رأسها عاليا، وتقذف حامول البحر إلى الخارج على طول الساحل، هكذا أيضا كانت قلوب الآخيين مضطربة داخل صدورهم.
ولكن ابن «أتريوس» - الذي بخع الحزن الشديد قلبه - ظل يسير في هذا الطريق وذاك، آمرا المنادين ذوي الأصوات الجهورية بأن ينادوا كل رجل باسمه إلى مكان الجمع، على ألا يصيحوا عاليا. كما راح هو شخصيا يكد وسط الصفوف الأولى. ومن ثم جلسوا في مكان الاجتماع محسورين، ونهض «أجاممنون» يبكي، كأنه نافورة من الماء القاتم تسكب تيارها المظلم. ورغم هذه الحال فقد تكلم بأنين عميق وسط الأرجوسيين، قائلا: «أصدقائي، يا قادة وحكام الأرجوسيين، إن «زوس» العظيم ابن كرونوس - قد أوقعني في عمى قلبي السقيم، فما أقسام من رب. لقد وعدني فيما مضى، وأخذ على نفسه العهد، بأن لن أعود إلى وطني إلا بعد أن أكتسح طروادة المتينة الأسوار - ولكنه حاك خدعة قاسية، وهو الآن يأمرني بالعودة إلى أرجوس بلا مجد، بعد أن فقدت كثيرا من الرجال. هذا - فيما يبدو لي - ما يروق لزوس الفائق القوة، الذي أذل - وسوف يذل - رءوس مدن كثيرة؛ لأن قوته فوق كل قوة. هيا، تعالوا، وأطيعوا جميعا ما آمركم به: لنهرب بسفننا إلى وطننا العزيز، فمن المستحيل الآن أن نستولي على طروادة الفسيحة الطرق!»
وإذ قال هذا، خيم الصمت عليهم جميعا، فظل أبناء الآخيين صامتين في حزنهم. بيد أن «ديوميديس» - صاحب صيحة الحرب المدوية - تكلم أخيرا، في وسطهم، قائلا: «يا ابن أتريوس، أما وأنت البادئ بهذه الحماقة، فسوف أناضلك - أيها الملك - حيثما يحق النضال، ولو وسط الجمع، فلا يغضبك هذا. لقد أهنت بسالتي في بادئ الأمر وسط الدانيين، وقلت إنني لست رجل حرب بل إنني جبان، وهذا كله يعرفه الآخيون صغارا وكبارا. أما أنت، فإن ابن كرونوس ذا المشورة الملتوية، قد أنعم عليك ولكن بأنصاف الأشياء: فمنحك الصولجان وكرمك على الجميع، أما البسالة فلم يعطك إياها، وفيها القوة العظمى. أتظن حقا، أيها الملك، أن أبناء الآخيين جبناء وضعاف كما تقول؟ إذا كان قلبك يحدثك بالعودة إلى الوطن، فاذهب، فالطريق ممتدة أمامك. وسفنك قائمة هناك بجانب البحر، بل وجميع الحشد الذي تبعك من موكيناي. أما الآخيون الآخرون - ذوو الشعر المسترسل - فسيمكثون هنا إلى أن نتمكن من تخريب طروادة، بل دعهم يفرون أيضا في سفنهم إلى وطنهم العزيز - إذا شاءوا - إلا أنا و«سثينيلوس» فإننا سنمضي في القتال، إلى أن نربح جولة طروادة؛ لأننا قد أتينا بمعونة السماء.»
وما إن قال هذا، حتى صاح جميع أبناء الآخيين عاليا، هاتفين لكلمة ديوميديس، مستأنس الخيول، وبعدئذ، نهض الفارس نسطور فتكلم في جمعهم قائلا: «يا ابن توديوس، إنك أقوى أقرانك في الوغى، وأصوبهم في الرأي. ولن يستخف أحد من الآخيين جميعا بما تقول، ولن يناقضه، وإن لم تكن قد بلغت بعد نهاية كلماتك، فضلا عن أنك لا تزال صغير السن - بحيث يجوز أن تكون ابني، بل أصغر أبنائي - ولكنك رغم هذا تشير بالحكمة على أمراء الأرجوسيين إذ إنك تنطق بالصواب، ولكن حسبك، فأنا الذي أعتبر نفسي أكبر منك سأتكلم وأعلن كل شيء، ولن يسخر أحد من كلماتي، ولا الملك أجاممنون. إنه رجل بلا عشيرة، وبلا قانون، وبلا موقد، يميل إلى الشقاق المرير بين قومه. ومع ذلك فدعونا الآن نستسلم لليل البهيم ونعد عشاءنا، ودعوا العسس يشددوا الحراسة بطول الخندق المحفور حول الأسوار، فإلى الشباب أعهد بهذه المهمة. أما أنت يا ابن أتريوس، فتقدمنا لأنك أعظمنا جلالا. أولم وليمة لأصحاب الرأي، فهذا من حقك، وأنت به خليق، إن أكواخك زاخرة بالخمر التي تحضرها لك سفن الآخيين من تراقيا في كل يوم عبر البحر الفسيح. إن جميع أسباب الضيافة ميسورة لديك؛ إذ إنك ملك على الكثيرين. وعندما يحتشد الكثيرون، فأصغ إلى من يقدم أحكم مشورة. إن سائر الآخيين لفي حاجة ماسة إلى النصح - الطيب منه والرشيد - لأن الأعداء يشعلون الكثير من نيران الحراسة بجوار السفن، فأي رجل يرضى عن ذلك؟ إما أن تجلب هذه الليلة الخراب لجيشنا أو النجاة.»
هكذا تكلم، وأصغى الجميع جيدا إليه وأطاعوه. وهرع الحراس في عدتهم الحربية حول ابن نسطور: «ثراسوميديس» - راعي الجيش - و«أسكالافوس» و«أيالمينوس» - ولدا أريس - و«ميريونيس» و«أفاريوس» و«دايبوروس»، وابن كريون «لوكوميديس» العظيم. سبعة كانوا قادة الحراس، وقد انضم إلى كل منهم مائة شاب يحملون الرماح الطويلة في أيديهم. ثم ساروا وجلسوا فيما بين الخندق والأسوار؛ حيث أشعلوا نارا، وراح كل واحد منهم يعد طعامه لنفسه.
وأما ابن أتريوس فقد جمع مستشاري الآخيين وقادهم إلى كوخه، فمد أمامهم مائدة حافلة ليشبعوا رغباتهم في الطعام. ومن ثم فإنهم مدوا أيديهم للخيرات التي بسطت أمامهم. وما إن فرغوا من الرغبة في الطعام والشراب، حتى بدأ الرجل المسن يشرح لهم الخطة قبل كل شيء، ذلك هو نسطور الذي ظهر من قديم الزمان أن رأيه أفضل الآراء. وبنية خالصة، خاطب الجميع وتكلم في وسطهم قائلا: «يا ابن أتريوس الأمجد، أي أجاممنون، ملك البشر، باسمك أبدأ، وباسمك أختتم؛ لأنك ملك جيوش عديدة، وقد عهد إليك زوس بالصولجان والأحكام، كي تقرر ما تراه لشعبك؛ لذلك فأنت الذي يحق له الكلام والإصغاء، قبل الجميع، وأنت الذي يحق له أن ينصت لما يقوله سواك إذا دعاه قلبه إلى أن يتكلم بما فيه النفع. فعليك يتوقف كل ما قد يبدأ به أي رجل منا. ومن ثم فهل لي أن أقول ما يبدو لي أنه أفضل القول. فما من أحد غيري سوف يدلي برأي أفضل من هذا الرأي الذي اغتصبت فيه أنت - أيها الملك المنحدر من زوس - العذراء «بريسيس»، من كوخ أخيل الغاضب، وذهبت بها وشأنك، على غير رضا منه قط. ولقد سعيت أنا شخصيا - ملحا جهد طاقتي - كي أردك، ولكنك استسلمت لروحك المتعجرفة، وتغطرست على رجل غاية في القوة، بجلته الآلهة أنفسها، فخلعت أنت عليه العار؛ لأنك أخذت منه جزاء بسالته، واحتفظت بها. ومع ذلك، فلا يزال أمامنا الآن أن نفكر في إصلاح الأمور ونسترضيه بالهدايا الجميلة، وبالكلمات الرقيقة.»
فأجابه «أجاممنون» ملك البشر بقوله: «سيدي المسن، إنك لم تخطئ في رواية قصة طيشي. ولست أنكر أنني كنت أحمق. إنه ليعدل جيوشا عدة، ذلك الذي يحبه زوس في قرارة قلبه، حتى إنه ليكرم الآن هذا الرجل، ويحطم جيش الآخيين. أما وقد رأيت أنني كنت أعمى، إذ استسلمت لعاطفتي التعسة، فإنني عازم على إصلاح الأمور، وتقديم تعويض يفوق الوصف. فدعوني الآن - في وسطكم أجمعين - أحدد الهدايا الرائعة التي سأعطيها لأخيل؛ سبع ركيزات لم تمسها النيران بعد، وعشرة تالنتات من الذهب، وعشرون قدرا براقة، واثنا عشر جوادا قويا من الخيل المظفرة في السباق، التي ربحت لي الجوائز بسرعتها. فما من رجل أعوزته الثروة، أو حرم من الذهب الثمين، إذا بلغت موارده مبلغ الهدايا التي ربحتها لي خيولي القوية الحوافر. ولسوف أعطيه سبع نساء ماهرات في الأعمال اليدوية الرائعة، نساء من ليسبوس، أولئك اللواتي اخترتهن من بين الغنائم في اليوم الذي استوليت فيه بنفسي على ليسبوس المتينة البناء؛ لأنهن يفقن في جمالهن سائر النساء، سأمنحه هؤلاء، وستكون في وسطهن تلك التي أخذتها منه في ذلك الوقت، ابنة بريسيس. وفضلا عن ذلك، فإني أقسم قسما عظيما، بأنني لم أعتل معها فراشا قط، ولم أحظ بمضاجعتها ، كما اعتاد البشر أن يفعلوا، رجالا ونساء! وكل هذه الأشياء ستكون جاهزة ليتسلمها فورا، وإذا شاء الرب بعد ذلك أن يمنحنا القدرة على تخريب مدينة بريام العظيمة، فدعوه إذن يدخلها، عندما نكون - نحن الآخيين - منهمكين في تقسيم الغنيمة ودعوه يملأ سفينته بأكداس من الذهب والبرونز، أو لينتق لنفسه عشرين امرأة طروادية من أجمل النساء بعد «هيلينا» الأرجوسية. وإذا عدنا إلى أرجوس الآخية - أغنى البلاد - فسيكون هو ابني، وسأكرمه تماما كما أكرم «أوريستيس»، ابني اليافع الذي يترعرع في الرخاء، وفي قصري الجميل البناء ثلاث بنات؛ هن «خروسوثيميس»، و«لاوديكي»، و«إيفياناسا». فمن هؤلاء دعوه يقود إلى بيت بيليوس أيهن يشاء، دون أن يقدم لها هدايا الخطبة، ولسوف أعطيه - فوق ذلك - صداقا بالغ القيمة، لم يسبق لرجل قط أن أعطاه لابنته. كما أهبه سبع مدن مزدحمة بالناس، هي: كاردامولي، وأينوبي، وهيري - ذات الأعشاب الناضرة - وفيراي المقدسة، وأنثايا - ذات المروج الواسعة - وأيبايا الجميلة، وبيداسوس المكسوة بالكروم، وكلها قريبة من البحر، عند أقصى حدود «بولوس» الرملية، تلك التي يقيم فيها رجال أثرياء في الماشية وأغنياء في الأبقار، رجال سوف يكرمونه بالهدايا كما لو كان إلها، ويخضعون تحت صولجانه، وينفذون أوامره خير تنفيذ، كل هذه سأحققها له، إذا هو كف عن غضبه، فلتلن قناته! إن هاديس - كما أعتقد - لا يمكن أن يلين، ولا أن يقهر؛ ومن ثم فهو أبغض الآلهة أجمعين لدى البشر، من دون الآلهة أجمعين. ودعه يخضع نفسه لي، ولينض تحت حكمي ما دمت أنا أكثر سلطانا، كما أعترف بأنني أكبر منه سنا.»
عندئذ أجاب الفارس نسطور الجيريني قائلا: «يا ابن أتريوس الأمجد، يا أجاممنون، ملك البشر، ليس لإنسان أن يستخف قط بقدر هذه الهدايا التي تقدمها للأمير أخيل. هيا إذن، فلنوفد - في الحال - نخبة منتقاة من الرجال، ليذهبوا إلى كوخ أخيل بن بيليوس. أو بالحرى، فليوافق من سوف اختاره، وليتقدم - أولا «فونيكس» - العزيز لدى زوس - ومن ورائه «أياس» العظيم و«أوديسيوس» الجليل، ومن المنادين فليرافقهم «أوديوس» و«يوروباتيس»، والآن، أحضر ماء لأيدينا ، ومر بالتزام الصمت المقدس، كي نقيم الصلاة لزوس، ابن كرونوس، عسى أن يرحمنا.»
هكذا قال، فأعجب الجميع بكلماته، ثم سكب المنادون الماء على أيديهم، وأترع الشبان الطاسات بالشراب، وقدموا لكل نصيبه، بعد أن صبوا بعض النقاط في الكئوس كسكيبة ولكنهم بعد أن فرغوا من عمل السكيبة، وشربوا ما يشفي غليل قلوبهم، خرجوا من كوخ أجاممنون بن أتريوس. فأصدر الفارس نسطور الجيريني أوامره الكاملة - وهو يرمق كلا منهم بنظرات عديدة، لا سيما «أوديسيوس» - كي يبذلوا أقصى جهودهم لحث ابن بيليوس العظيم.
مبعوثا الآخيين إلى أخيل
وانطلق الفريقان - بعد ذلك - بمحاذاة شاطئ البحر الصاخب، وهم يقيمون صلوات عاجلة للإله الذي يمسك بالأرض ويزلزلها؛ كي يستطيعوا استمالة قلب ابن «أياكوس» بسهولة. ووصلوا إلى أكواخ المورميدون وسفنهم، فوجدوا ملكهم يرفه عن نفسه بقيثارة شجية النغمات، جميلة الشكل، فاخرة الصنع - عليها حلقة من الفضة - كان قد أخذها ضمن الغنائم عندما خرب مدينة أيتيون، وهكذا كان يطرب نفسه، ويتغنى بأمجاد الأبطال. وفي قبالته، كان «باتروكلوس» يجلس بمفرده صامتا، منتظرا حتى يكف ابن أياكوس عن الغناء، ولكن الاثنين
1
اقتربا - يتقدمهما «أوديسيوس» العظيم - فاتخذوا موقفهم أمام وجهه. فقفز «أخيل» مندهشا، والقيثارة في يده، وترك المقعد الذي كان يجلس عليه، وبالمثل نهض «باتروكلوس» عندما أبصر الرجال، عندئذ حيى «أخيل» - السريع القدمين - الرجال، وخاطبهم بقوله: «مرحبا بكم، إنكم ولا بد أصدقاء - إذ جئتم - ولا ريب أن حاجة ماسة أتت بكم يا من أعتبرهم - حتى في غضبي - أعز الآخيين.»
هكذا تكلم أخيل العظيم، ثم قادهم فأجلسهم على وسائد وطنافس من الأرجوان. وفي الحال خاطب «باتروكلوس» - الذي كان قريبا منه - بقوله: «هيئ طاسا كبيرا، يا ابن «مينويتيوس»، وامزج أقوى شراب، وأعد لكل رجل كأسا؛ لأن هؤلاء الرجال الذين تحت سقفي الآن أعزاء جدا.»
وما إن قال هذا حتى لبى باتروكلوس طلب زميله العزيز. ثم وضع قطعة كبيرة من اللحم في النار، ووضع عليها ظهر خروف ودهن ماعز وصلب خنزير ضخم مليء بالدهن كذلك. وأمسكها له «أوتوميدون»، بينما تولى «أخيل» العظيم تقطيعها بعناية إلى شرائح، ثم سفدها، في حين أضرم ابن «مينويتيوس» - شبيه الإله - النار مستعرة. وعندما هدأت النار وصفا اللهب، نثر الجمرات ووضع عليها السفود، وتبل قطع اللحم بالملح المقدس، بعد أن وضعها فوق سيقان الحديد على النار. فلما تم شواء اللحم ووضعه في الصحاف الكبيرة، تناول «باتروكلوس» الخبز ورتبه فورا على المائدة - في أسفاط جميلة - بينما وضع «أخيل» اللحم، وجلس هو نفسه في مقابل «أوديسيوس» - شبيه الإله - بجانب الحائط الآخر. وأمر رفيقه «باتروكلوس» بأن يقدم ذبيحة للآلهة، فرمى «باتروكلوس» ذبيحة تحترق في النار. وهكذا مدوا أيديهم إلى الوليمة الفاخرة المعدة أمامهم، وعندما أشبعوا رغبتهم من الطعام والشراب، هز «أياس» رأسه لفونيكس، فتنبه لذلك أوديسيوس العظيم. وما إن ملأ كأسا من الخمر، حتى هتف بأخيل: «السلام عليك، يا أخيل. إن المائدة العامرة لا تعوزنا، سواء في كوخ أجاممنون بن أتريوس، أو في كوخك الآن، فإن الطعام موفور ولا يزال هناك ما يكفي لشبع نهم القلب من الطعام الذي نشتهي، ولكن عقولنا لا تشغل بالوليمة الشهية، كلا، يا سليل زوس، فنحن خراب يباب، وإننا لمذعورون وجلون؛ لأن الشك يتطرق إلى نفوسنا، حول ما إذا كنا سنستطيع إنقاذ السفن ذات المقاعد، أم أنها ستتحطم، ما لم تتسربل أنت في قوتك. فبالقرب من السفن والأسوار أقام الطرواديون ذوو الهمم العالية، وكذا حلفاؤهم الذائعو الصيت، معسكرا، وأشعلوا نيرانا كثيرة في سائر أنحاء الجيش، وهم يعتقدون أنهم لن يمكثوا بعد ذلك، بل سينقضون على سفننا السوداء. وإن زوس بن كرونوس، ليظهر لهم علامات - على الجانب الأيمن - ببروقه، وإن هكتور ليتهلل طربا في قوته ويفور مهتاجا، معتمدا على زوس دون أن يحفل بأي إله أو إنسان، إذ تملكه جنون عات. إن صلاته تقتصر على الدعاء بأن تظهر الفجر المقدس بمنتهى السرعة؛ لأنه يعلم أنه سوف يحطم الرموز التي في مقدمات السفن، وسوف يحرق هياكل هذه السفن بالنيران الفتاكة، وبهذا يوقع أشد الفوضى بين الآخيين، الفاقدي الإحساس من جراء الدخان، هذا إذن هو ما يملأ قلبي خوفا، خشية أن تحقق الآلهة ما يزهو به، فيكون مصيرنا الهلاك هنا في طروادة، بعيدا عن أرجوس مرعى الخيول. فانهض إذن إذا كنت عازما - ولو في المرحلة الأخيرة - على أن تنقذ أبناء الآخيين الذين غلبوا على أمرهم، من وطيس حرب الطرواديين. ولسوف تحزن أنت نفسك فيما بعد، إذ لن يكون هناك علاج لشر تم وانقضى. فهيا وفكر - قبل أن يفوت الأوان - في دفع البلاء عن الدانيين. ومن المؤكد يا صديقي الكريم أن أباك «بيليوس» قد أوصاك يوم بعثك إلى «أجاممنون» بعيدا عن فثيا قائلا: «أي بني، ستمنحك أثينا وهيرا القوة، إذا توفرت لك العزيمة، ولكن هل لك أن تكبح جماح روحك المتكبرة في صدرك؛ لأن الميول المعتدلة خير الميول. ابتعد عن التكبر، جلاب الشقاء، حتى يبجلك الأرجوسيون صغارا وكبارا.»
لهذا السبب أوفدك الشيخ، ولكنك تنسى. ومع ذلك فهل لك الآن أن تكف وتخلع عنك غضبك المرير. إن «أجاممنون» يقدم لك هدايا قيمة، كي تتخلى عن غضبك. هيا، تعال، وأصغ إلي، فسأحدثك عن جميع الهدايا التي في كوخ «أجاممنون»، والتي يعد بتقديمها لك؛ سبع ركيزات لم تمسها النيران بعد، وعشرة تالنتات من الذهب، وعشرون قدرا براقة، واثنا عشر جوادا قويا من الجياد التي أحرزت الفوز في السباق، وربحت الجوائز لسرعتها. ما من رجل أعوزته الثروة، أو حرم من الذهب الثمين، إذا كان متاعه يعدل الجوائز التي فازت بها خيول أجاممنون القوية الحوافر. وسيعطيك سبع نساء ماهرات في الأعمال اليدوية الرائعة، نساء من ليسبوس اختارهن لنفسه من بين الغنائم - في اليوم الذي استوليت فيه بنفسك على ليسبوس المتينة البناء - لتفوقهن على جميع النساء فتنة وجمالا، هؤلاء سيعطيك إياهن، وبينهن تلك التي أخذها منك من قبل، ابنة بريسيس. وفضلا عن ذلك فإنه سيقسم قسما عظيما بأنه لم يعتل فراشها قط، ولم يحظ بمضاجعتها حسب الطريقة المعهودة للبشر، رجالا ونساء. كل هذه الأشياء ستكون معدة لتتسلمها فورا. وإذا شاءت الآلهة بعد ذلك أن تمنحنا القدرة على تخريب مدينة «بريام» العظيمة، فادخلها أنت، في الوقت الذي نشغل فيه - نحن الآخيين - باقتسام الغنيمة، ولك أن تملأ سفينتك بما تحب من الذهب والبرونز، وتختار بنفسك عشرين امرأة طروادية لا تبزهن سوى هيلينا الأرجوسية في الجمال. وإذا عدنا إلى أرجوس الآخية أغنى البلاد - فستكون أنت ابنه، وسوف يكرمك تماما كما يكرم «أوريستيس» ابنه اليافع الذي يتربى في كل عز ورخاء. وإن له ثلاث بنات في قصره الجميل البناء هن: «خروسوثيميس» و«لاوديكي» و«إيفياناسا»، فلك أن تقود أيهن تشاء إلى بيت «بيليوس»، دون أن تقدم لها هدايا الخطبة، ولسوف يعطيك بالإضافة إلى هذا صداقا بالغا، لم يسبق لرجل قط أن وهبه لابنته. وسيمنحك سبع مدن مزدحمة بالناس، هي: كاردامولي، وأينوبي، وهيري المعشوشبة، وفيراي المقدسة، وأنثايا ذات المروج الفسيحة، وأيبايا الجميلة، وبيداسوس المغطاة بالكروم، وكلها قريبة من البحر، عند أقصى حدود بولوس الرملية، وإن سكانها لأثرياء في الماشية وأغنياء في الأبقار، رجال سوف يكرمونك بالهدايا كما لو كنت إلها، وتحت لواء صولجانك سوف ينفذون أوامرك خير تنفيذ، كل هذا سيتم من أجلك، لو أنك فقط كففت عن غضبك فحسب. أما إذا كان حقدك على ابن أتريوس متغلغلا في قلبك، بحيث تمقته، هو وهداياه، إذن فاشفق - على الأقل - على بقية الآخيين، فلقد دب الخور في كافة أرجاء الجيش. ولسوف يبجلك هؤلاء كما لو كنت إلها؛ لأنك ستفوز - في عيونهم - بمجد عظيم حقا. والآن، هلا قتلت «هكتور»، حين يقترب منك في جنونه المدمر، اعتقادا منه بأن ليس له شبيه بين الدانيين الذين حملتهم السفن إلى هنا؟!»
عندئذ أجابه «أخيل» - السريع القدمين - بقوله: «يا ابن لايرتيس نسل زوس، أيا «أوديسيوس» الكثير الحيل، الحق أنه لا بد لي من أن أخبرك في الحال بما أنتوي فعله، وبما ستجري به الأمور، كي لا تجلس أمامي وتتملقني على هذا الوجه وذاك؛ لأني أمقت من يخفي شيئا في نفسه ويقول شيئا آخر، كما أمقت أبواب هاديس. والآن سأقول ما يبدو لي أنه خير ما يقال. فلست أنا - على ما أعتقد - ذلك الشخص الذي يغريه أجاممنون بن أتريوس، ولا غيره من الدانيين، ما دمنا لا ننال حمدا على القتال ضد الأعداء بدون هوادة. فإن نصيب من يقبع في بيته يكون عندئذ كنصيب من يقاتل خير قتال ، فيحظى كل من الجبان والشجاع بعين الاحترام، ويستوي في الموت الخامل ومن كدح طويلا. وبرغم ما تكبدته من محن في قلبي فليس لي نفع يرتجى من تعريض نفسي دائما للقتال، وكما يحضر الطائر في منقاره إلى صغاره - الزغب الحواصل - كل ما يعثر عليه، وهو يقسو على نفسه، فهكذا كنت أنا؛ إذ اعتدت أن أسهر ليالي كثيرة دون أن أنال نصيبا من النوم، وأن أخوض كثيرا من أيام القتال الدامية، أحارب مع الناس من أجل نسائهم، اثنتي عشرة مدينة قد خربتها بسفني في البحر، وإحدى عشرة في البر - أشهدكم عليها - خلال أرض طروادة الخصبة، ومن كل هذه غنمت غنائم كثيرة وعظيمة، وكنت دائما أحضرها جميعا فأعطيها لأجاممنون بن أتريوس هذا، الذي كان يتخلف وراء سفنه السريعة. فكان يعطيني منها حصة صغيرة عندما يتسلمها، ويحتفظ لنفسه بالنصيب الأكبر. وبعضها كان يقدمه جوائز تكريم للرؤساء والملوك، بينما كانت غنائم تبقى دون أن تمس، ومني أنا وحدي - دون سائر الآخيين - أخذ زوجتي، حبيبة قلبي. فدعه يرقد إلى جوارها، وينل متعته. ثم، لماذا على الأرجوسيين أن يشنوا الحرب على الطرواديين؟ لماذا حشد ابن أتريوس هذا جيشه، وقاده إلى هنا؟ ألم يكن من أجل «هيلينا» الجميلة الشعر؟ أهما، إذن، وحدهما - دون سائر البشر - اللذان يحبان زوجتيهما، ابنا أتريوس هذان؟ كلا، فإن كل رجل عاقل سليم الفكر، يحب زوجته ويدللها، تماما كما أحب أنا الآخر زوجتي من كل قلبي، رغم أنها لم تكن سوى أسيرة رمحي. أما وهو قد أخذها من بين ذراعي وخدعني، فلا تدعه يغرني؛ إذ إنني أعرفه تمام المعرفة. إنه لن يفلح. لا، يا أوديسيوس، دعه يشاورك والأمراء الآخرين، لدفع النيران المدمرة عن السفن. حقا لقد فعل الكثير جدا بدون معونتي؛ إذ شيد سورا، وحفر حوله خندقا واسعا وعميقا، وغرس فيه أوتادا، ومع ذلك فإنه لم يفلح في صد قوة «هكتور» الفتاك، في حين أن هكتور لم يجسر - طيلة أن كنت أقاتل وسط الآخيين - على أن يثير القتال بعيدا عن السور. ونادرا ما كان يأتي إلى أبواب «سكاي» وشجرة البلوط، ولقد انتظرني هناك ذات مرة، وحيدا، وبشق النفس استطاع أن ينجو من هجومي. أما الآن، فنظرا لأنني لا أعتزم أن أحارب «هكتور» العظيم، فسأقدم الذبيحة غدا لزوس وجميع الآلهة، وأكدس الغنائم في سفني بعد أن أكون قد أنزلتها إلى البحر، وإذ ذاك سترى سفني - إذا شئت، وعنيت بالأمر، تمخر عباب اليم، عند مطلع النهار، عبر الهيليسبونت الزاخر، وعلى ظهرها رجال تواقون جدا إلى استعمال المجداف. ولو شاء مزلزل الأرض العظيم أن يتيح لي رحلة جميلة، ففي اليوم الثالث أبلغ فثيا العميقة التربة. وهناك ممتلكاتي الشاسعة التي تركتها في طريقي المشئوم إلى هنا، ومع ذلك فسأعود إليها بمزيد من الذهب والبرونز الأحمر، والنساء الجميلات الهندام، والحديد الرمادي، وكل ما كان من نصيبي، لا تنقصها سوى جائزتي التي استردها مني ذلك الذي أعطانيها، في غمرة غروره، وأعني الملك أجاممنون بن أتريوس. قل له كل شيء - كما أقوله أنا بصراحة - كي يغضب الآخيون الآخرون جميعا، إذا رغب في أن يخدع فريقا آخر من الدانيين، حيث إنه متدثر دائما بقلة الحياء. ومع ذلك فإنه لا يجرؤ على أن ينظر إلى وجهي، رغم أن له وجه كلب. إنني لن أرسم معه أية خطة أو مشورة؛ لأنه قد خدعني ومكر بي، ولكنه لن يغرر بي بحديثه المعسول بعد ذلك أبدا؛ لأن لي عبرة كافية في الماضي. والآن، دعه يمضي إلى خرابه في سلام، فإن زوس الصاحب المشورة قد جرده تماما من مداركه. وإن هداياه لمقيتة في عيني، ولست أقيم لها من الوزن مقدار شعرة، ولو أنه أعطاني قدر كل ما في قبضته الآن عشر مرات، بل عشرين مرة، وكل ما قد يئول إليه فيما بعد، بل وكل دخل أورخومينوس أو طيبة المصرية - حيث تتخم بيوت المال عن آخرها - طيبة ذات الأبواب المائة، التي يهجم من كل باب منها مائتا محارب بالجياد والعربات، كلا لو أنه أعطاني هدايا في عداد الرمل والثرى، فلن يستطيع أجاممنون - بذلك - أن يستميل نفسي، حتى يكفر عن الكيد الذي يحز قلبي. ولن أتزوج ابنة أجاممنون بن أتريوس، ولو كانت تزاحم أفروديت الذهبية في الجمال، وتضارع أثينا البراقة العينين في التطريز، لن أتزوجها ولو كانت كذلك. فليختر لها شخصا آخر من بين الآخيين، يبزني مركزا وإجلالا؛ لأنه إذ صانتني الآلهة، ووصلت إلى وطني، فإن «بيليوس» - كما أعتقد - سيبحث لي فيما بعد عن زوجة من تلقاء نفسه. فما أكثر العذارى الآخيات في أنحاء هيلاس وفثيا، من بنات الرؤساء الذين يحرسون مدنهم، فمن أرغب فيها من أولئك سأتخذها زوجتي العزيزة. ولكم كانت نفسي المتسامية تواقة إلى أن تتخذ لي زوجة، رفيقة مناسبة، من هناك، وأن أستمتع بالممتلكات التي يقتنيها الشيخ بيليوس. فإن الحياة لا تعدلها كل تلك الثروة التي يقول الناس إن طروادة - تلك المدينة الغاصة بالناس - كانت تمتلكها في أيام السلم الخوالي، قبل أن يأتي أبناء الآخيين. كلا، بل ولا كل الكنز الذي تحتويه عتبة القواس «أبولو» المرمرية في بوثو الصخرية؛ إذ إن الماشية والأغنام السمينة تمتلك بالغزو، والركيزات والجياد الصهباء تقتنى بالشراء. بيد أنه لا الغزو ولا الكسب يملكان أن يردا روح المرء إذا هي تجاوزت مرة نطاق شفتيه. فهكذا تنبئني أمي الربة «ثيتيس» الفضية القدمين، إذ تقول لي إن قضاءين يفضيان بي إلى الموت؛ فإذا أنا مكثت هنا وحاصرت مدينة الطرواديين، فسأحرم من عودتي إلى الوطن، ولكن صيتي لن يفنى أبدا، أما إذا عدت إلى وطني العزيز، فإنني أفقد صيتي المجيد، ولكن حياتي تطول، فلا يواتيني الموت عاجلا، وفوق هذا، فإنني أوثر أن أنصح البقية الباقية منكم بالإبحار عودا إلى الوطن؛ إذ أرى أن لا أمل لكم في الفوز بمآربكم من طروادة الفسيحة؛ لأن زوس - البعيد النظر - يبسط يده فوقها بشدة، وشعبها مملوء بالشجاعة. والآن، اذهبوا في طريقكم وأعلنوا رسالتي إلى رؤساء الآخيين - لأن تلك مهمة الكبار - حتى يفكروا في خطة أخرى أفضل من هذه، خطة يستطيعون بها أن ينقذوا سفنهم، وكذا جيش الآخيين بجوار السفن الخاوية؛ إذ إن هذا الذي رسموه الآن لن يتحقق لهم بسبب نقمتي الجائحة. ومع كل، فدعوا «فونيكس» يمكث هنا معنا، ويقضي ليلته نائما عندنا، كي يتبعني فوق سفني إلى وطني العزيز غدا، إذا هو شاء، فلن أحتجزه عنوة.»
هكذا قال، فخيم عليهم جميعا الصمت، مفكرين في كلماته؛ فقد رفض عرضهم رفضا باتا. غير أن الفارس الشيخ «فونيكس»، قام أخيرا فتكلم في جمعهم وهو يجهش بالبكاء؛ لأنه كان يخاف كثيرا على سفن الآخيين، فقال: «إن كنت تفكر حقا في الرحيل، يا أخيل المجيد، ولا تعتزم بأية حال أن تدفع النار الضارية عن السفن السريعة، بسبب ذلك الغضب الذي يجيش به قلبك، فكيف يمكن إذن - يا طفلي العزيز - أن أبقى هنا بدونك؟ لقد بعثني إليك الفارس الشيخ «بيليوس» في اليوم الذي أرسلك فيه من فثيا إلى «أجاممنون»، ولم تكن إلا غلاما حدثا، لا يعرف شيئا عن الحرب الشريرة، ولا عن الاجتماعات التي يتبارى فيها الرجال في إبراز تفوقهم. لهذا السبب بعثني لأدربك على كل هذه الأمور، كي تجيد التحدث وتتقن الأعمال. ومن ثم، يا ولدي العزيز، فلست أرتضي - بعد ذلك - أن أبقى وحدي بدونك. كلا، ولو تعهد أحد الآلهة بأن يجردني من شيخوختي، وأن يرد قوتي وشبابي إلي، فأصير كما كنت في ذلك اليوم الذي تركت فيه - بادئ ذي بدء - هيلاس، موطن النساء الفاتنات هربا من الكفاح مع أبي «أمونطور»، ابن «أورمينوس»؛ لأنه كان غاضبا مني أشد الغضب إكراما لمحظيته الجميلة الشعر، التي كان يدللها دائما بنفسه، ويؤنب من أجلها زوجته، أمي؛ ولذا راحت أمي تتوسل إلي وتمسكني من ركبتي دائما، أن أضجع أولا من المحظية بنفسي، كي يصبح الرجل العجوز كريها في عينيها. فأطعت أمرها، وقمت بالمهمة، ولكن أبي تنبه فورا إلى هذا الأمر، فعنفني على ذلك أشد التعنيف، وتضرع إلى الأيرينويس الرائعات ألا يجلسن أبدا فوق ركبتي طفلا عزيزا من صلبي. وحققت الآلهة لعنته ، بواسطة زوس العالم السفلي، وبيرسيفوني المفزعة. ولقد ارتأيت - بعدئذ - قتله بالسيف الحاد، ولكن أحد الخالدين هدأ من غضبي مذكرا إياي بصوت الناس، وكل ما لدى البشر من لوم، حتى لا أسمى قاتل أب، بين الآخيين، ولكن روحي كانت خليقة بألا تبقى في صدري، إذا أنا بقيت في قصر أبي الناقم، حقا لقد تكاثر علي زملائي وأقاربي بالتوسلات العديدة، وسعوا إلى إبقائي هناك في القصر، وذبحوا خرافا كثيرة سمينة، وكذا أبقار ملساء متثاقلة المشية، وخنازير عديدة مملوءة بالدهن، بسطت لتشوى فوق لهب «هيفايستوس» وانصبت الخمر في الأفواه بكميات وفيرة من كئوس ذلك الرجل المسن. ومكثوا حوالي تسع ليال يراقبونني طوال الليل، وهم يتناوبون السهر، ولم تخمد النيران، بل بقيت نار تحت شرفة البهو المنيع، وأخرى في الطنف أمام باب حجرتي، ولكن ما إن حلت علي الليلة العاشرة - وكانت داجية الظلمة - حتى فتحت أبواب غرفتي الموصدة بإحكام ومهارة، وقفزت فوق سور الفناء بمنتهى السهولة، دون أن يراني الحراس أو الإماء. وهربت - بعد ذلك - خلال هيلاس الفسيحة، حتى بلغت فثيا العميقة التربة، ذات القطعان. وقصدت إلى الملك «بيليوس» فاستقبلني هاشا باشا، ودللني كما يدلل الأب ابنه الوحيد العزيز، وارث ممتلكاته العظيمة. ولقد أغناني، وأعطاني أناسا كثيرين، فعشت في أقصى حدود فثيا، حاكما على الدولوبيين. ولقد ربيتك لتكون على ما أنت عليه، يا «أخيل» - شبيه الإله - وأحببتك من كل قلبي؛ لأنك ما كنت ترضى أن تذهب إلى المائدة مع أي فرد غيري، ولا أن تتناول اللحم في القصر، إلا بعد أن أجلسك فوق ركبتي وأعطيك كفايتك من الشرائح الطيبة النكهة التي كنت أقطعها لك مقدما، وأضع كأس الخمر بين شفتيك. وكثيرا ما بللت العباءة التي على صدري، ساكبا الخمر في حالات ضعفك المؤسفة، هكذا قاسيت الكثير من أجلك، وتعبت كل التعب، متذكرا دائما أن الآلهة لن تمنحني بحال ما ابنا مولودا من صلبي. حقا، لقد كنت أنت هو الذي سعيت إلى جعله ابني، يا أخيل - شبيه الإله - بغية أن تنقذني فيما بعد من الخراب المشين. وعلى ذلك، فهل لك يا «أخيل»، أن تسيطر على غضبك الجامح، فليس يليق بك أن تكون ذا قلب مجرد من الرحمة، بل إن الآلهة أنفسها قد تلين، رغم أن غضبها أعتى، ورغم أنها أجل مهابة ومجدا وسلطانا. فإن قلوبها - بالبخور والعهود الموقرة، والسكائب ورائحة الذبائح - تستجيب للصلوات بقدر ما يتجاوز البشر حدودهم ويقترفون الذنوب؛ لأن صلوات التوبة هن بنات زوس العظيم. إنهن عرجاوات، مجعدات البشرة، ذوات عيون متطلعة يقتفين دائما خطوات الإثم؛ إذ إن الإثم قوي وسريع الإقدام، فهو يسبق الصلوات جميعا بمراحل، ويطوف قبلها بالأرض كلها، جاعلا الناس يسقطون في وهدة الخطيئة، والصلوات، تتبعه لعلاج الضرر. فالذي يحترم بنات زوس عندما يقتربن منه - فإنهن يباركنه كثيرا، ويستمعن إلى صلاته. وأما إذا أنكرهن المرء ورفضن بعناد، فإنهن ينصرفن عنه ويبتهلن إلى زوس كرونوس، كي تتبع الخطيئة مثل هذا الشخص حتى يتردى ويدفع تكفيرا كاملا. فهيا يا «أخيل»، ضع نصب عينيك - أنت الآخر - أن تقدم لبنات زوس من التبجيل ما يملأ قلوب الصالحين من البشر. فلولا أن ابن أتريوس يقدم إليك الهدايا ويعدك بغيرها فيما بعد، أي لو أنه كان سادرا في حقد أهوج، لما كنت أنا الذي يناشدك أن تبعد عنك الغضب وتحمل المعونة إلى الأرجوسيين وهم في حاجة ماسة إليها، ولكنه الآن يقدم إليك كثيرا من الهدايا، ويعدك بالمزيد منها فيما بعد، وقد أوفد إليك أبطالا ليتوسلوا إليك، وهم النخبة المختارة من جيش الآخيين بأسره، وهم أعز الأرجوسيين إلى نفسك، فلا تستهن برجائهم ولا بمجيئهم إلى هنا، رغم أنك لست ظالما ولا مخطئا - حتى الآن - في غضبك. فهكذا سمعنا عن شهرة قدامى المحاربين، إذ كلما تملك الغضب الشديد أي واحد منهم، كان من الممكن استرضاؤه بالهدايا، وكسبه بالقول. وهذه قصة أذكرها بحذافيرها عن الأزمان الغابرة - وليس عن الأمس - وسأرويها في جمعكم لأنكم جميعا أصدقاء. فذات مرة، كان - «الكوريتيس»
2
يقاتلون الأيتوليين، وكان الأيتوليون أقوياء في المعركة دفاعا عن مدينة كالودون الجميلة، بينما كان الكوريتيس يسعون إلى تخريبها تخريبا تاما ؛ لأن «أرتيميس» - ربة الصيد ذات العرش الذهبي - كانت قد أرسلت عليهم طاعونا، نقمة منها، إذ إن «أوينيوس» لم يقدم إليها باكورة الحصاد من أرضه الغنية بالكروم ، في حين أنه قدم للآلهة الآخرين وليمة من الذبائح المئوية، وكانت ابنة «زوس» العظيم هي وحدها التي لم يقدم لها ... وسواء كان قد نسي هذا مصادفة، أو أنه لم يفطن إليه، فإنه أثم في قرارة نفسه إثما بالغا؛ ومن ثم فإن الربة القواسة - ابنة زوس - استشاطت غضبا، وأرسلت إليه خنزيرا بريا متوحشا قويا، أبيض الناب، عاث فسادا وقام بشر مستطير، فخرب كروم «أوينيوس»، واقتلع كثيرا من الأشجار الباسقة من جذورها وألقى بها على الأرض، أجل، بجذورها ونوارها، ولكن «ميلياجير»، ابن «أوينيوس»، قتل الخنزير، بعد أن جمع الصيادين وكلاب الصيد من مدن كثيرة. إذ لم يكن في وسع نفر قليل أن يقتلوا الخنزير؛ فقد كان غاية في الضخامة حتى إنه دفع برجال كثيرين إلى المحارق الأليمة، ولكن الربة أثارت صخبا من أجله، وضجيجا من أجل رأسه وجلده الأشعث، بين «الكوريتيس» و«الأيتوليين» البواسل، وكانت الأمور تسير على ما لا يشتهي الكوريتيس، طالما ظل «ميلياجير» - حبيب أريس - يحارب، فلم يكن في مقدورهم أن يظهروا خارج أسوارهم رغم أنهم كانوا كثيري العدد. حتى إذا اشتد الغضب بميلياجير - ذلك الغضب الذي يملأ القلوب التي في صدور غيره كذلك، ولو كانوا راجحي العقل - فإنه لفرط حنق فؤاده على أمه
3
العزيزة الثايا، قبع بجوار زوجته «كليوباترا» الفاتنة، ابنة «ماربيسا» ذات الكعبين الجميلين، وحفيدة «أيفينوس» و«أيداس»، أعتى من كان على وجه الأرض من الرجال في ذلك الوقت، وهو الذي حمل قوسه ليواجه الملك «أبولو» من أجل العذراء
4
الجميلة العقبين. وكان أبوها وأمها المبجلة يسميانها - في قصرهما - «هاليكوني»؛ لأن الأم نفسها كانت قد بكت في محنة أشبه بمحنة طائر الهالكيون الكثير الأحزان، وكان ذلك عندما اختطفها «أبولو» الذي يضرب من بعيد، وإلى جوار «كليوباترا» رقد «ميلياجير» يرعى همه المرير؛ إذ كان مغضوبا عليه بسبب لعنات أمه. فإنها توسلت في الحال إلى الآلهة، من جراء حزنها على مقتل إخوتها، كما ضربت في التو بيديها على الأرض الخصبة، وهي تدعو «هاديس» أو «بيرسيفوني» البغيضة - وقد جثت على ركبتيها وبللت صدرها بالدموع - أن يجلبا الموت على ابنها. فإذا بارينوس - التي تسير في الظلام والتي لا يعرف قلبها رحمة - تسمعها من أيريبوس. وسرعان ما كان صخب الأعداء قد ارتفع حول أبوابهم، يصحبه صوت تحطيم الأسوار، فتوسل شيوخ الأيتوليين إلى «ميلياجير»، وبعثوا إليه بخير كهنة الآلهة، كي يهب لمساعدتهم، ووعدوه بهدية عظيمة، وأن يختار لنفسه ضيعة من خمسين فدانا - نصفها بساتين كروم، ونصفها الآخر أرض صالحة للزراعة - في أخصب بقعة من سهل كالودون البديع. وفي إلحاح، راح الفارس الشيخ «أوينيوس» يتوسل إليه. ووقف على عتبة حجرته المرتفعة السقف، يهز الأبواب المفصلية ليستحث ابنه. وفي إلحاح أيضا، أخذت شقيقاته وأمه المبجلة يتوسلن إليه، ولكنه رفض مسعاهم، وأمعن في عناده، ورجاه كذلك بإلحاح زملاؤه الذين كانوا أخلص الجميع له وأعزهم لديه، ولكنهم بالرغم من ذلك كله لم يستطيعوا التأثير على قلبه الكائن في صدره، إلى أن بدأ يشتد الدق على غرفته لتحطيمها، وأخذ الكوريتيس يتسلقون الأسوار ويحرقون المدينة العظيمة. عندئذ توسلت الزوجة الجميلة الهندام إلى «ميلياجير» وهي تنتحب، وأنبأته بكل المحن التي تحيق بمن يستولي الأعداء على مدينتهم؛ فالرجال يقتلون، والمدينة تأكلها النيران، ويأسر الغرباء أطفالهم ونساءهم المنخفضات الزنار، عندئذ خفقت روحه لسماع القصة المؤلمة، وانطلق في طريقه فارتدى عدته الحربية اللامعة.
وهكذا أنقذ الأيتوليين من اليوم المنحوس، بمحض إرادته. ومع أنهم لم يؤدوا إليه الهدايا العديدة الجميلة، فإنه دفع عنهم البلاء. والآن - يا بني العزيز - لا تدعني أرى فؤادك مصرا على عناده، ولا تدع السماء تحيد بك إلى تلك الطريق، فإنها لمهمة شاقة أن تنقذ سفنا اشتعلت فيها النيران فعلا، فهيا تعال، ما دام في الإمكان الحصول على الهدايا فإن الآخيين سوف يبجلونك كما لو كنت إلها. ولكنك إذا خضت المعركة - آفة البشر - بلا هدايا،
5
فلن تحظى بمثل هذا التبجيل، ولو درأت عن القوم شرور القتال.»
أخيل يستبقي «فونيكس» معه!
وهنا رد عليه «أخيل» - السريع القدمين - قائلا: «أي أبي فونيكس، يا سيدي الشيخ، سليل زوس، لست بأية حال في حاجة إلى هذا التبجيل ؛ فلقد كنت مبجلا - كما أعتقد - بموافقة زوس، وسيظل هذا التبجيل مفروضا لي وسط سفني المدببة، طالما ظلت هناك أنفاس في صدري، وظلت أطرافي قوية. وسأقول لك شيئا آخر، يجب أن تضعه في قلبك: لا تحاول أن تضني روحي بالبكاء والحزن؛ إرضاء للمحارب ابن أتريوس، ولا يخطرن لك أن تدلله، وإلا كرهتك أنا الذي أحبك. فمن الخير لي أن تغيظ من يغيظني. كن ملكا كما أنا ملك، واقتسم معي مجدي، ولكن هؤلاء سيحملون رسالتي، أما أنت فامكث هنا وارقد على فراش وثير، حتى إذا طلع النهار تشاورنا فيما إذا كنا نرحل إلى وطننا، أو تبقى هنا.»
وبعد أن تكلم، أشار لباتروكلوس بعينه في صمت، أن يعد لفونيكس فراشا سميكا، كي يعلم الآخرون فورا أنهم راحلون من الكوخ، ولكن «أياس بن تيلامون» - شبيه الإله - تكلم في جمعهم قائلا: «يا ابن لايرتيس نسل الإله، أي «أوديسيسوس» الكثير الحيل، هيا بنا نتصرف فلست أظن أن الغاية التي قدمنا من أجلها ستتحقق، ومن صالحنا أن نبلغ الرسالة بسرعة، رغم أنها ليست سارة للدانيين، الذين يجلسون الآن - على ما أعتقد - في انتظارنا. فإن «أخيل» قد أسلم قلبه المتكبر إلى السخط، فما أقساه من رجل! إنه لا يحفل بحب رفاقه، رغم أننا مجدناه فوق كل الرجال، بين السفن، فيا له من جاحد! إن الرجل قد يقبل فدية من قاتل أخيه، أو من أجل ابنه المقتول، ويمكث القاتل في أرضه نظير فدية كبيرة؛ إذ يهدأ قلب القريب، وروحه المتغطرسة، إذا ما أخذ الفدية. أما أنت، فقد وضعت الآلهة في صدرك شرا وقلبا متحجرا؛ بسبب فتاة واحدة فقط، في حين أننا نعرض عليك الآن سبعا، هن خير الجميع، فضلا عن هدايا أخرى عديدة. ألا كن كريم النفس، وارع حرمة دارك، لأننا ضيوف تحت سقفك، من قبل الدانيين قاطبة. ولأننا نحظى بأن نكون أقرب الآخيين جميعا إليك - على كثرتهم - وأعزهم.»
عندئذ أجابه «أخيل» - السريع القدمين - بقوله: «أي أياس، أيها المنحدر من زوس، يا ابن تيلامون، وقائد الجيش، يبدو أنك في كل هذا إنما تقول ما في ذهني، ولكن قلبي يغلي حقدا كلما تذكرت كيف أهانني ابن أتريوس وسط الأرجوسيين كما لو كنت غريبا لا قدر له. ومع ذلك، فاذهب وأبلغ رسالتي؛ لأنني لن أفكر في الحرب الدموية إلا بعد أن يجيء هكتور العظيم، ابن بريام الحكيم القلب، إلى أكواخ وسفن المورميدون، ويعمل التقتيل في الأرجوسيين ويشعل النار في السفن، ولكنه - حسب ما أعتقد - سيبتعد عن كوخي وسفينتي السوداء، رغم ما هو عليه من شوق إلى القتال.»
هكذا قال، ثم أخذ كل رجل كأسا ذات يدين، فقدم الجميع السكيبة، وانطلقوا بمحاذاة صفوف السفن، و«أوديسيوس» يتقدمهم. عندئذ أمر «باتروكلوس» رفاقه والإماء بإعداد فراش سميك لفونيكس، فأطاعوا قوله وهيئوا فراشا - كما أمر - من فراء الغنم والأبسطة، قماش ناعم من الكتان. وهناك رقد الشيخ وانتظر مطلع الفجر اللامع، بينما نام «أخيل» في أقصى جوف الكوخ المتين البناء، وإلى جانبه رقدت امرأة كان قد أحضرها من ليسبوس، هي ابنة «فورباس» «ديوميدي» الجميلة الوجنتين. ورقد «باتروكلوس» في الجانب المقابل، وإلى جواره كذلك رقدت «أيفيس» الجميلة الخصر، التي كان «أخيل» قد وهبه إياها عندما استولى على سكوروس المترامية الأطراف، مدينة «أينويوس».
عودة المندوبين إلى الآخيين
وعندما وصل الرسل إلى أكواخ ابن أتريوس، هرع أبناء الآخيين على هذا الجانب وذاك، ممسكين في أيديهم كئوسا من الذهب، وراحوا يسألونهم الخبر. وكان ملك البشر «أجاممنون»، هو أول السائلين، قائلا: «تعال وأنبئني يا أوديسيوس، يا من تستحق أعظم الثناء، ويا مجد الآخيين العظيم، هل يعتزم أخيل إنقاذ السفن من النار الضارية، أو أنه رفض ذلك، وما زال الغضب يتملك روحه المتغطرسة؟»
فأجابه أوديسيوس العظيم الجلد بقوله: «يا ابن أتريوس الأمجد، يا أجاممنون، ملك البشر، إنه حقا لا يعتزم إطفاء غضبه، بل إنه الآن أكثر هياجا وثورة، وإنه ليزدريك وهداياك وينصحك بأن تتشاور مع الأرجوسيين في كيفية إنقاذ السفن وجيش الآخيين. أما عن نفسه، فإنه ينذر بأنه - عند الفجر - سيدفع إلى عرض البحر سفنه المقدسة المتينة المقاعد. ويقول - فوق هذا - إنه سوف ينصح الآخرين بأن يبحروا عائدين إلى وطنهم؛ لأنك لن تبلغ أبدا مأربك من طروادة الفسيحة؛ لأن زوس - البعيد النظر - يبسط يده فوقها بإحكام، وسكانها يفيضون شجاعة وإقداما. هكذا قال أخيل، ويؤيد قولي هذا أولئك الذين تبعوني، أياس والمناديان، وكلاهما عاقل حصيف. أما «فونيكس» الشيخ فقد رقد هناك ليستريح؛ إذ أمره «أخيل» بذلك كي يتبعه في سفنه إلى وطنه العزيز غدا، لو أراد؛ فهو لن يأخذه غصبا.»
وإذ قال هذا، خيم عليهم جميعا الصمت، مأخوذين بكلماته؛ لأنه كان يخاطب حشدهم بانفعال بالغ. ولمدة طويلة لزم أبناء الآخيين الصمت مكروبين، ولكن ديوميديس - صاحب صيحة الحرب المدوية - نهض في وسطهم أخيرا، وتكلم قائلا: «يا ابن أتريوس الأمجد، يا أجاممنون، ملك البشر، ليتك لم تتوسل قط إلى ابن بيليوس المنقطع النظير، ولم تقدم إليه الهدايا التي لا حصر لها، إنه لمزهو بنفسه، وأنت الآن قد دفعته إلى مزيد من الخيلاء. وعلى كل حال، فسوف ندعه وشأنه، وله أن يرحل أو يبقى، وسيقاتل - فيما بعد - عندما يأمره قلبه الكامن في صدره، ويثيره إلى ذلك أحد الآلهة. ولكن تعالوا، ولنصدع بما طلب. اذهبوا الآن واحصلوا على شيء من الراحة، وتناولوا من اللحم والخمر ما شاءت لكم قلوبكم؛ لأن فيها الشجاعة والقوة. وبمجرد ظهور الفجر الجميل ذي الأنامل الوردية، أعدوا فرسانكم ورجالكم - في الحال - أمام السفن، وكذا عرباتكم وخيولها، وقاتلوا بأنفسكم في المقدمة، وسط المحاربين.»
هكذا قال، ووافق جميع الملوك على قوله، معجبين بكلمات «ديوميديس» مستأنس الخيول. ثم قدموا سكيبة، وذهب كل واحد إلى كوخه، حيث رقدوا وتمتعوا بنعمة النوم.
الأنشودة العاشرة
ووقف «دولون» ساكنا، وقد استبد به الذعر، وامتقع لونه من جراء الهلع، واصطكت أسنانه في فمه، حتى وصل إليه الاثنان وهما مبهورا الأنفاس، فأمسكا بيديه، فراح يبكي ويتوسل.
كيف قتل «ديوميديس» و«أوديسيوس» جاسوس الطرواديين «دولون» وتجسسا على الطرواديين، وتسللا إلى معسكرهم ذاته فاستوليا على جياد «ريسيوس» ملك التراقيين ... إلخ.
اجتماع آخر بين الآخيين
ما لبث جميع رؤساء جيش الآخيين أن ناموا بجوار سفنهم طوال الليل - إذ غلبهم النعاس الناعم - ما عدا أجاممنون بن أتريوس، راعي الجيش، فلم يسيطر عليه النوم اللذيذ؛ إذ كانت تتطاحن في ذهنه عدة أمور. وكما يحدث عندما يرسل زوس، بعل «هيرا» الجميلة الشعر، بروقه ورعوده، كلما أراد أن يعد مطرا غزيرا أو إعصارا أو جليدا، أو عندما تكسو الحقول قطع الجليد، أو عندما يفتح فم الحرب المرير الواسع. هكذا أخذ أجاممنون يكثر من تصعيد التأوهات من أعماق صدره، وقد راح قلبه يرتجف في باطنه. وكان كلما تطلع إلى السهل الطروادي، عجب للنيران الكثيرة التي كانت تشتعل أمام طروادة، ولصوت المزامير واليراع المثقب وصخب الرجال. أما إذا نظر إلى السفن وإلى جيش الآخيين، فإنه كان يشد شعر رأسه من جذوره، متوسلا إلى «زوس» - الكائن في العلا - وهو يئن بشدة في دخيلة قلبه النبيل. وأخذ يفكر في خطة بدت له خير خطة، وهي أن يذهب أولا إلى «نسطور بن نيليوس»، لعله يستطيع أن يرسم معه خطة حكيمة لدفع الأذى عن الجيش الداني؛ ومن ثم استوى في جلسته، وشد عباءته فوق صدره، وثبت نعليه الجميلين في قدميه البراقتين، ثم تسربل بجلد أسد ضخم، ناري عظيم، جلد كان يصل إلى قدميه، وأمسك رمحه في يده.
كذلك تملك «مينيلاوس» خوف رعديد، فلم يستو النوم فوق جفنيه؛ خشية أن يقع شيء للأرجوسيين الذين من أجل خاطره قدموا إلى طروادة عبر مياه البحر الفسيحة، منتوين في قلوبهم حربا شعواء. وغطى كتفيه العريضتين بجلد نمر أرقط، ووضع فوق رأسه خوذة من البرونز، وأمسك رمحا في يده القوية ثم سعى ليوقظ أخاه، الحاكم المسيطر على جميع الأرجوسيين، والذي كان الشعب يبجله كما لو كان إلها، فوجده مؤتزرا بعدته الحربية البديعة حول كتفيه، وواقفا عند مقدم سفينته. ورحب به أخوه وهو مقبل غاية الترحيب، فخاطبه «مينيلاوس»، الموفق في صيحة الحرب، قائلا: «لماذا أنت متسلح هكذا، يا أخي؟ أمزمع أنت حض أحد من رفقائك على التجسس على الطرواديين؟ كلا، فشد ما أخشى ألا يقبل أحد أن يذهب بمفرده ليؤدي هذه المهمة لك، ويتجسس على العدو، أثناء الليل الخالي. لا يمكن أن ينجز هذا الأمر إلا رجل قوي القلب!»
عندئذ أجابه الملك أجاممنون بقوله: «إننا لفي حاجة إلى مثل هذا الرجل، أنا وأنت، يا مينيلاوس، يا سليل زوس، يا صاحب المشورة السديدة التي سوف تنفذ وتخلص الأرجوسيين وسفنهم. إذ يبدو أن فؤاد زوس قد مال إلى قرابين هكتور أكثر مما مال إلى قرابيننا. فما رأيت من قبل قط، ولا سمعت على لسان أحد، أن رجلا واحدا قام في يوم واحد بأعمال رهيبة عديدة، كتلك التي قام بها هكتور - حبيب زوس - ضد أبناء الآخيين، وحده دون سواه، مع أنه ليس ابنا عزيزا لأية ربة أو أي إله. لقد قام بأعمال أعتقد أنها ستجلب الحزن على الأرجوسيين إلى الأبد. نعم، فما أكثر الشرور التي قام بها ضد الآخيين! والآن، اذهب، واهرع بسرعة - بمحاذاة صفوف السفن - وادع إلى هنا «أياس» و«أيدومينيوس». وسأذهب أنا إلى «نسطور» العظيم فآمره بأن ينهض، عسى أن يكون في نيته الذهاب إلى حشد الحراس المقدس، فيصدر إليهم الأمر؛ لأنهم يصغون إليه ويأتمرون بأمره دون سواه؛ لأن ابنه قائد على الحراس، هو و«ميريونيس» زميل أيدومينيوس، فقد عهدنا إليهما بهذه المهمة دون سواهما.»
فرد عليه مينيلاوس، البارع في صيحة الحرب، بقوله: «بأي قصد تأمرني هكذا وتحثني؟ هل أبقى هناك معهم وأنتظر مجيئك، أو أغدو راجعا إليك ثانية، بعد أن أصدر إليهم أمرك كما ينبغي؟»
فأجابه ملك البشر «أجاممنون» قائلا: «ابق هناك، خشية أن يضل أحدنا عن الآخر في ذهابنا، فما أكثر الطرق خلال المعسكر، وارفع صوتك في أي مكان تذهب إليه، ومر الناس بأن يستيقظوا، مناديا كل رجل بسلسلة نسبه واسم أبيه، معطيا كل واحد حقه من الاحترام ولا تكن مختالا مغرورا، بل لننصرف نحن أنفسنا إلى العمل، فإن زوس - كما أعتقد - قد وضع على عاتقنا وزر المحن منذ ميلادنا.»
وما إن قال هذا، حتى أوفد شقيقه بعد أن أصدر إليه الأمر اللازم، وذهب في طريقه سعيا إلى «نسطور» - راعي الجيش - فوجده بجانب كوخه وسفينته السوداء، فوق فراشه الوثير، وإلى جانبه عدته الحربية - المرصعة ترصيعا فاخرا - وترسه ورمحاه وخوذته اللامعة. كما كان إلى جواره حزامه البراق، الذي اعتاد هذا الشيخ أن يشد به وسطه، كلما تأهب للقتال - جالب الدمار على البشر - وقيادة قومه؛ لأنه كان يأبى أن يستسلم للشيخوخة المحزنة. فنهض معتمدا على مرفقه، رافعا رأسه، وتحدث إلى ابن أتريوس، وسأله قائلا: «من أنت يا من تسير وحدك بجوار السفن خلال المعسكر في ظلمة الليل الداجية، بينما غيرك من البشر نيام؟ أتبحث عن أحد البغال، أم تبحث عن أحد رفاقك؟ تكلم ولا تقبل نحوي صامتا، ماذا تريد؟»
عندئذ أجاب «أجاممنون» - ملك البشر - قائلا: «أي نسطور، يا ابن نيليوس، ويا فخر الآخيين ومجدهم العظيم، إنك لتعرف أجاممنون بن أتريوس، الذي زج به زوس - دون سواه - وسط المشاق باستمرار، فطالما ظلت الأنفاس تتردد في صدري، وظلت ركبتاي سريعتين، فإنني أتجول هكذا؛ ذلك لأن النوم اللذيذ لا يحط فوق جفوني، ولكن الحرب هي شغلي الشاغل، وكذلك محن الآخيين؛ إذ إنني أخاف على الدانيين، ولو أن عقلي لا يتجه إلى أمر معين، وإنما أنا أتخبط بين هذا الأمر وذاك، وقلبي يقفز من صدري، وأطرافي المجيدة ترتعد تحتي. فإذا شئت أن تفعل شيئا، ما دام النوم لا يزورك كذلك، فهيا بنا نذهب إلى الحراس، كي تلقي عليهم نظرة، لئلا يكونوا نائمين متعبين من الكد والنعاس، أو يكونوا نسوا حراستهم كل النسيان. إن العدو يستريح في العراء قريبا منا، ولسنا نعرف إطلاقا ما إذا كان ينتوي إثارة القتال في الليل أيضا.»
وهنا رد عليه الفارس نسطور الجيريني بقوله: «يا ابن أتريوس الأمجد، يا أجاممنون، ملك البشر، ما من شك في أن زوس المستثار لن يحقق لهكتور جميع أهدافه، ولا كل ما يفكر فيه الآن. كلا، إنني أعتقد أنه سيقاسي متاعب تفوق متاعبنا، إذا طرح «أخيل» عن قلبه الغضب الناقم. ومع ذلك فإنه يسرني أن أسير معك، ولكن تعال نوقظ غيرنا كذلك، لنوقظ كلا من ابن توديوس - الشهير برمحه - و«أوديسيوس»، «وأياس» السريع، وابن فوليوس الشجاع. وأتمنى لو ذهب أحد واستدعى كذلك «أياس» - شبيه الإله - و«أيدومينيوس» الجليل؛ لأن سفينتيهما أبعد السفن، فهما غير قريبتين. ولسوف أنحي باللائمة على «مينيلاوس»، رغم كونه عزيزا ومبجلا. أجل، لا يغضبك هذا مني، ولن أخفي رأيي، سألومه لأنه نائم الآن، بينما تعاني أنت التعب وحدك. وكان الأليق به الآن أن يعمل وسط جميع الرؤساء، متوسلا إليهم؛ فقد آن أوان الحاجة إلى سائر الموجودين على قيد الحياة.»
فأجاب ملك البشر أجاممنون قائلا: «سيدي الشيخ، دع عنك لومه إلى وقت آخر، وأنا الذي سأطلب ذلك منك؛ إذ إنه متقاعس دائما، لا يميل إلى العمل، لا عن استسلام للكسل، ولا عن قصر إدراك، وإنما لأنه دائم الاتكال علي، ومحتاج إلى قيادتي، ولكنه الآن قد استيقظ - قبلي - وجاءني، فأوفدته ليستدعي من ذكرتهما. والآن هلم بنا، فسنجدهما أمام الأبواب، وسط الحراس، لأنني أمرت بالاجتماع هناك.»
عندئذ رد عليه الفارس «نسطور الجيريني» بقوله: «بهذا لن يغضب منه أحد من الأرجوسيين جميعا أو يعصاه، إذا ما حث أي رجل أو أصدر الأوامر.»
وفيما كان يتكلم، أحكم وضع صديريه حول صدره، وثبت نعليه الجميلين في قدميه اللامعتين، والتف بعباءة أرجوانية مزدوجة، واسعة، ذات وبر كثيف. وأمسك في يده رمحا مكينا ينتهي طرفه بالبرونز الحاد، ثم ذهب في طريقه وسط سفن الآخيين المتدثرين بالبرونز. وسرعان ما كان أوديسيوس - نظير زوس في المشورة - أول من أيقظه الفارس «نسطور الجيريني» من النوم بصوته، إذ لم يكد النداء يتردد في أذنيه، حتى أقبل فورا من كوخه، وقال: «كيف يحدث أنك تسير هكذا وحدك بجانب السفن خلال المعسكر في الليل الخالد؟ أي حاجة ماسة ألمت بك؟»
فأجاب الفارس «نسطور الجيريني» قائلا: «لا تغضب يا ابن لايرتيس سليل زوس، أي أوديسيوس الكثير الحيل، فإن كربا عظيما قد سيطر على الآخيين. هيا، اتبعني، كي توقظ غيرك أيضا، ممن يجب أن نتشاور معهم، فيما إذا كنا نهرب أو نقاتل!»
هكذا قال، فذهب «أوديسيوس» الكثير الحيل إلى الكوخ ، ولف حول كتفيه درعا فاخرة الترصيع، ثم تبعهما. ولما وصلوا إلى ديوميديس بن توديوس، وجدوه خارج كوخه مع سلاحه، ورفاقه من حوله نائمين بدروعهم تحت رءوسهم، ولكن رماحهم كانت مغروسة في الأرض مستقيمة الأسنة؛ ولذا كان البرونز يتألق من بعيد كأنه برق من لدن الأب زوس، ولكن المحارب «ديوميديس» كان نائما على جلد ثور من ثيران الحقول، وتحت رأسه بساط لامع، فأقبل إلى جانبه الفارس نسطور الجيريني، وهزه بلمسة من عقبه ليوقظه. فلما صحا من النوم، عيره في وجهه قائلا: «استيقظ، يا ابن توديوس، لماذا تغط في سبات طوال الليل؟ ألا تعرف أن الطرواديين في أرض السهل العالية يعسكرون قريبا من السفن، على مسافة قصيرة منا؟»
جاسوسان إلى معسكر الطرواديين
وما إن قال هذا، حتى نهض الآخر بسرعة من النوم، ورد عليه بكلمات مجنحة قائلا: «يا لك من شيخ شديد المراس، لا تكل إطلاقا من التعب ولا تمل. أليس هناك أبناء آخرون من الآخيين، يصغرونك سنا، وبوسعهم أن يحثوا جميع الملوك وأن يصلوا إلى مكان خلال الجيش؟ أما أنت يا سيدي الشيخ، فقد لا يباريك رجل آخر!»
فأجابه الفارس «نسطور الجيريني» بقوله: «حقا يا صديقي إنك قد نطقت بالصواب في كل هذا، فعندي أبناء لا ضريب لهم، وهناك قوم وفيرو العدد يستطيع أي واحد منهم أن يذهب ويستدعي الآخرين، ولكن الحقيقة أنه قد ألمت بالآخيين حاجة ماسة؛ لأن الوضع الآن بالنسبة للجميع وضع قاهر، فإما خراب محزن للآخيين، وإما حياة. فاذهب الآن وأيقظ «أياس» السريع، وابن بيليوس؛ لأنك أصغر مني، إذا كنت تشفق علي.»
وإذ قال هذا، لف «ديوميدس» حول كتفيه جلد أسد متوحش وضخم، جلدا يصل إلى قدميه، وأمسك برمحه، وسار في طريقه فأيقظ ذينك المحاربين من مضجعيهما وعاد بهما. فلما انضموا إلى حشد الحراس وقد اجتمعوا معا، لم يجدوا قادة الحراس نائمين ، وإنما كانوا جميعا جالسين متيقظين ومدججين بالسلاح. وكما تتولى الكلاب حراسة الأغنام في الحظيرة، عندما تسمع صوت الوحش المفترس الكاسر، الذي يأتي خلال الغابة بين التلال ، فتعلو حوله عاصفة من ضجيج البشر والكلاب، وقد طار النوم من عيونهم، هكذا أيضا ذهب النوم اللذيذ عن جفون الحراس؛ لأنهم كانوا يلتفتون دائما صوب السهل، ليتبينوا ما إذا كان الطرواديون مقبلين. فلما أبصر بهم الشيخ، تهلل بشرا وشجعهم، مخاطبا إياهم بكلمات مجنحة فقال: «هكذا قوموا بالحراسة يا أطفالي الأعزاء، ولا تدعوا النوم يسيطر على أي رجل منكم، لئلا نكون مبعث غبطة أعدائنا.»
وبينما كان يقول ذلك، أسرع عبر الخندق. وهناك تبعه ملوك الأرجوسيين، كل أولئك الذين استدعوا للمجلس. وذهب معهم «الميريونيس»، وابن نسطور المجيد، إذ دعوهم للاشتراك في المشاورة. وهكذا تسللوا وخرجوا من الخندق المحفور، وجلسوا في مكان فسيح كانت الأرض فيه خالية من الموتى الذين سقطوا في المكان الذي عاد منه «هكتور» القوي بعد أن أعمل التقتيل في الأرجوسيين، عندما خيم عليهم الظلام، وهناك استووا جالسين يتحدث بعضهم إلى بعض، وفي وسطهم قام أولا نسطور وخاطبهم بقوله: «أي أصدقائي، ألا يوجد بينكم رجل يستطيع أن يضحي بروحه المغامرة، فيذهب وسط الطرواديين العظيمي الهمة، ويقتل أي محارب من الأعداء، أو يسمع أية شائعة بين الطرواديين أو أية خطة يرسمونها فيما بينهم، فيعرف إن كانوا سيبقون في مكانهم - بجانب السفن بعيدا - أم سيقهقرون ثانية إلى المدينة، بعد أن هزموا الآخيين؟ كل هذا بوسعه أن يعرفه، ثم يعود إلينا سالما. وإذ ذاك يطير صيته تحت السماء بين سائر البشر، ويمنح جائزة طيبة؛ إذ إن كل الأمراء ذوي السلطة فوق السفن، كل واحد من هؤلاء جميعا سيهبه نعجة سوداء وحملا في دور الرضاع - وما من مكافأة تقارن بهذه - كما أنه سيكون حاضرا معنا دائما في الولائم وموائد الشراب.»
وما إن تكلم، حتى شملهم السكون جميعا. ثم قام في وسطهم «ديوميديس»، البارع في صيحة الحرب، فقال: «أي نسطور، إن قلبي ليحثني - وكذلك روحي المتكبرة - على دخول معسكر العدو القريب، معسكر الطرواديين. ومع كل، فلو أن رجلا آخر يتبعني لازداد الارتياح والثقة، وإذا ذهب اثنان معا، فإن كلا منهما يستبق الآخر في تدبر الحصول على النفع. أما إذا ذهب واحد، فإنه لا يهتدي إلى شيء، بل إن ذكاءه يقصر، وحيلته تهن.»
هكذا قال، فرغب كثيرون في أن يتبعوا «ديوميديس». كان البطلان «أياس» - خادما أريس - تواقين إلى ذلك. وكان ميريونيس يميل إلى الذهاب معه، وكذلك كان ابن نسطور، وابن أتريوس، «مينيلاوس» الشهير برمحه، كما كان أوديسيوس الحازم راغبا في أن يتسلل إلى حشد الطرواديين؛ لأن الروح الكامنة في صدره كانت جريئة على الدوام. وعندئذ قام في وسطهم «أجاممنون» - ملك البشر - فتكلم قائلا: «يا ديوميديس، يا ابن توديوس العزيز على قلبي، لك أن تختار أي رجل تشاء من خير أولئك الذين يتطوعون بتقديم أنفسهم، ليكون رفيقا لك. فكثيرون ميالون إلى مصاحبتك، ولكن لا تدع قلبك - بدافع من الإعزاز - يتحول من الأفضل من الرجال فتأخذ لنفسك أسوأ رفيق، متأثرا بقدره أو بمولده. كلا، ولو كان ذلك الشخص أرقى محتدا!»
قال هذا؛ لأنه كان يخاف على «مينيلاوس» الجميل الشعر، ولكن «ديوميديس» البارع في صيحة الحرب، قام في وسطهم من جديد، وقال: «لو كنت حقا تأمرني أن أنتقي بنفسي رفيقا، فكيف يتأتى لي أن أنسى أوديسيوس شبيه الإله. إن قلبه وروحه الشامخة يفوقان جميع الآخرين شوقا إلى كل ضروب المشقة، كما أن الربة «أثينا» تحبه، فلو تبعني لأمكنني - ولو وسط النيران المستعرة - أن أعود معه بسلام؛ لأنه يفوق الجميع حكمة في الإدراك.»
عندئذ تحدث إليه «أوديسيوس» العظيم، القدير على احتمال المشاق، فقال: «يا ابن توديوس، لا تسرف كثيرا في امتداحي ولا في لومي. إن الأرجوسيين كلهم يعرفون هذا الذي نقوله وسطهم. هلم بنا ولنذهب؛ لأن الليل ينحسر حقا، والفجر يقترب. وا أسفاه، لقد تحركت النجوم بسرعة، وانقضى من الليل أكثر من ثلثيه. ولم يبق غير ثلث واحد.»
وما إن قال هذا، حتى ألبسوهما عدتيهما الحربيتين العظيمتين، وأعطى «ثراسوميديس» الجريء في القتال لابن توديوس سيفا ذا حدين - لأنه كان قد ترك سيفه بجانب سفينته - وترسا، ووضع على رأسه خوذة من جلد الثور، بدون قرون وبغير خصلة، أي عبارة عن قلنسوة تصون الرأس من تهور الشباب. كما أعطى «ميريونيس» لأوديسيوس قوسا وكنانة وسيفا، ووضع حول رأسه خوذة من الجلد، مبطنة بسيور عديدة أحكم شدها، بينما قويت من الخارج بأسنان بيضاء لخنزير ذي أنياب لامعة - وضعت بكثرة على هذا الجانب وذاك، بمتانة ومهارة - كما ثبتت داخلها بطانة من اللباد. وكان «أوتولوكوس» قد سرق هذه القلنسوة من «اليون»، عندما اقتحم بيت «أمونتور بن أورمينوس»، ذلك البيت المتين البناء، ثم أعطاها لأمفيداماس «الكيثيري»، ليسلمها إلى «سكاندايا» فأعطاها أمفيداماس بدوره إلى «مولوس» كهدية ضيف، ولكن هذا أعطاها لابنه ميريونيس ليرتديها. وها هي ذي قد استقرت على رأس «أوديسيوس»، فحمته!
وبعد أن تدثر الاثنان بحلتيهما الحربيتين العظيمتين، انطلقا في طريقهما، تاركين جميع الرؤساء هناك. ومن أجلهما أرسلت الربة «أثينا» طائر البلشون ليحلق على اليمين، بالقرب من طريقهما. وبالرغم من أنهما لم يرياه في الظلام إلا أنهما سمعا صراخه. فسر أوديسيوس لهذا الفأل، وصلى لأثينا قائلا: «أصغي إلي يا ابنة زوس حامل الترس، يا من تقفين دائما إلى جانبي في سائر أعمالي، ويا من لا أخفى عليك في أي مكان أتحرك فيه، عودي الآن إلى صداقتي ثانية، بعد أن كنت قد تركتني، واجعلينا نحرز سمعة طيبة ونعود ثانية إلى السفن، بعد أن نكون قد قمنا بعمل جليل يجلب الحزن على الطرواديين.»
وبعده صلى ديوميديس أيضا، ذلك البارع في صيحة الحرب، قائلا: «استمعي إلي الآن كذلك، يا ابنة زوس، يا من لا تنامين، اتبعيني الآن كما سبق أن تبعت أبي - توديوس العظيم - إلى طيبة، عندما أوفده الآخيون المجللون بالبرونز رسولا، فتركهم بجوار الأسوبوس، وحمل كلمة رقيقة إلى «الكادموسيين»، ولكنه ما إن سافر عائدا حتى قام بأعمال جد رهيبة،
1
بمعونتك أيتها الربة الفاتنة؛ لأنك وقفت إلى جانبه بقلب جسور. كذلك قفي الآن من تلقاء نفسك إلى جانبي واحرسيني. وفي مقابل ذلك أذبح لك عجلة بكرا، عريضة الجبين، سليمة، لم يسبق لأحد أن وضعها تحت النير. ولسوف أذبحها لك، وأحلي قرونها بالذهب!»
هكذا قالا في صلاتيهما، فأصغت إليهما الربة «أثينا » وما إن فرغا من الصلاة لابنة زوس العظيم، حتى انطلقا في طريقهما كأسدين يدلجان تحت جنح الليل البهيم، وسط المذبحة، بين الجثث، خلال الأسلحة والدم الأسود.
مشاورات بين الطرواديين
ولم يطق هكتور أن يدع الطرواديين الأمجاد للنوم، بل جمع سائر النبلاء، بقدر ما كان هناك من قادة وحكام طرواديين. وبعد أن جمعهم، دبر خطة كلها مكر وخداع فقال: «من منكم يعدني الآن بهذا العمل وينفذه مقابل مكافأة كبرى؟ حقا. إن مكافأته ستكون محققة، فلسوف أعطيه عربة وجوادين طويلي العنق مقوسيه، هما خير جوادين في سفن الآخيين السريعة، سأهديهما إلى الرجل الذي يجرؤ - ويكسب لنفسه المجد كذلك - فيذهب إلى قرب السفن السريعة الانطلاق في البحر، ويتجسس لنعرف هل هذه السفن السريعة محروسة كالعهد بها من قبل، أو هل أعداؤنا - وقد باتوا تحت أيدينا - يزمعون، فيما بينهم، الفرار، وأنهم لا يلقون بالا إلى الرقابة طوال الليل، من جراء الكد والتعب العظيم؟!»
هكذا قال، فلزم جميعهم الصمت، وكان بين الطرواديين «دولون بن يوميديس - المنادي، شبيه الإله، وهو رجل غني بالذهب، وثري في البرونز. وكان سيئ الحظ في مظهره، ولكنه كان سريع القدمين، وهو الشقيق الوحيد بين خمس شقيقات. فما لبث أن قام وخاطب الطرواديين و«هكتور» بقوله: «أي هكتور، إن قلبي وروحي الشامخة ليحضانني على الذهاب بالقرب من السفن السريعة الانطلاق في البحر، والتجسس على كل شيء، ولكن هيا - بربك - وارفع صولجانك، وأقسم لي بأنك ستعطيني الجوادين والعربة الفاخرة التطعيم بالبرونز، تلك التي تحمل ابن بيليوس المنقطع النظير. وإذ ذاك سأبرهن لك على أنني لست بالكشاف العديم الجدوى، ولست بالشخص الذي يخيب آمالك؛ لأنني سأذهب فورا إلى المعسكر، حتى أصل إلى سفينة أجاممنون، حيث يعقد الرؤساء اجتماعا - كما أعتقد - ليقرروا ما إذا كانوا يهربون أو يقاتلون.»
وإذ قال هذا، أمسك هكتور الصولجان بين يديه، وأقسم قائلا: «أي زوس، كن شاهدا علي الآن بنفسك، يا بعل «هيرا» يا ذا الرعود المدوية، ما من رجل آخر من الطرواديين سيمتطي صهوتي هذين الجوادين سواك يا دولون ، وها أنا ذا أعلن أنك ستزهو بهما على الدوام.»
هكذا قال، وأقسم على ذلك قسما لا حنث فيه، فتحرك قلب «دولون» وفي الحال ألقى على كتفيه قوسه المعقوفة، وتدثر بجلد ذئب رمادي، ووضع على رأسه قبعة من جلد السنور، وأمسك في يده رمحا حادا، ومضى في طريقه صوب السفن. على أنه لم يقدر له أن يعود ثانية من لدن السفن، ويحمل الأنباء إلى هكتور. فما إن ترك حشد الخيول والرجال، حتى تقدم بحمية في الطريق. وكان أوديسيوس - المنحدر من زوس - منتبها له وهو يقترب، فقال لديوميديس: «انظر يا ديوميديس، ها هو ذا شخص يأتي من المعسكر. ولست أدري أهو يريد التجسس على سفننا، أم ينتوي أن يجرد إحدى جثث الموتى من الملابس، فلنتركه يمر أمامنا أولا - في السهل - إلى مسافة قصيرة، ثم لنهجم عليه ونمسكه بسرعة فإذا قدر له أن يسبقنا معا بسرعة قدميه، فلتجعله يتجه دائما نحو السفن، بعيدا عن الجيش، قاذفا عليه رمحك، حتى لا يهرب بأية حال من الأحوال صوب المدينة!»
وما إن قال هذا، حتى هبط كلاهما وسط الموتى، بعيدا عن الطريق. أما «دولون» فقد جرى مسرعا، مارا أمامهما - لغبائه - فلما صار بعيدا عنهما بقدر بعد البغال في الحرث (لأنها أفضل من الثيران في جر المحراث المفصلي في الأرض البور العميقة) جرى الاثنان خلفه، فوقف ساكنا عندما سمع الصوت؛ إذ ظن في نفسه أنهما صديقان قادمان من عند الطرواديين ليعودا به، وأن هكتور شاء أن يرجع القهقرى بالجيش. حتى إذا صار قاب رمح أو أقل، عرف أنهما عدوان، فأطلق العنان لساقيه كي يفر بسرعة، وبسرعة شرعا يطاردانه. وكما يحدث عندما يطارد كلبان - حادا الأنياب، ماهران في الصيد - ظبية أو أرنبا بريا، في مكان مملوء بالأحراش، مطاردة عنيفة، والفريسة تظل تجري وتصرخ أمامهما، كذلك حال ابن توديوس وأوديسيوس - مخرب المدن - بين دولون والجيش، واستمرا يجدان في مطاردته، فلما أوشك أن يصل إلى وسط الحراس - وهو يعدو صوب السفن - بثت «أثينا» القوة في ابن توديوس، حتى لا يستطيع أحد من الآخيين المتدثرين بالبرونز أن يزهو بأنه قد سبقه في تسديد الضربة، وأنه قد جاء متأخرا جدا. فهجم عليه ديوميديس القوي برمحه وصاح قائلا: «قف وإلا أصبتك برمحي، ولا أحسبك ستنجو طويلا من الموت المحتم على يدي!»
قال ديوميديس هذا، وقذف رمحه، ولكنه أخطأه عمدا، فمر طرف الرمح الصقيل من فوق كتفه اليمنى، وانغرس في الأرض. فوقف دولون ساكنا، وقد استبد به الذعر، وأخذ يتمتم. وامتقع لونه من جراء الهلع الذي ألم به، واصطكت أسنانه في فمه، حتى وصل إليه الاثنان وهما مبهورا الأنفاس يلهثان، فأمسكا بيديه فراح يبكي، وتوسل إليهما قائلا: «خذاني حيا؛ حتى أستطيع أن أفدي نفسي، ففي بيتي كميات عظيمة من البرونز والذهب والحديد المشغول بعناية وجهد، وسيمنحكما منه أبي فدية تفوق الحصر، إذا ما سمع أنني لا أزال حيا عند سفن الآخيين.»
فرد عليه «أوديسيوس» الكثير الحيل، بقوله: «هون عليك، ولا تجعل الموت يسيطر على أفكارك. تعال، فأخبرني بالحقيقة: لماذا كنت تسير صوب السفن وحدك هكذا، بعيدا عن الجيش في دجى الليل، بينما ينام غيرك من بني الإنسان؟ أكنت تريد تجريد هذه الجثة أو تلك من الملابس؟ أم هل أرسلك هكتور إلى السفن الخاوية بقصد التجسس على كل شيء؟ أو أن قلبك هو الذي أوحى إليك بذلك؟»
فأجابه دولون، وهو يرتعد فرائص وأعضاء: «لقد أغراني بالآمال الخلابة هكتور؛ إذ وعد بأن يعطيني جوادي ابن بيليوس القويي الحوافر، وعربته المرصعة بالبرونز ترصيعا فاخرا، وأمرني بالذهاب وسط الليل السريع الداجي، قريبا من العدو، لأتجسس ما إذا كانت السفن السريعة تحت حراسة العدو، كسابق عهدها، أم أن أعداءنا - وقد باتوا الآن تحت أيدينا يدبرون أمر الفرار فيما بينهم، وليس في نيتهم الرقابة أثناء الليل بسبب تعبهم من الجهد الشديد؟!»
فابتسم أوديسيوس الكثير الحيل، ورد عليه بقوله: «الحق أن قلبك كان يتوق الآن إلى الهدايا العظيمة، إلى جوادي ابن أياكوس الحكيم. غير أنه من العسير على أحد من البشر - ما عدا «أخيل» الذي أنجبته أم خالدة - أن يسيطر على هذين الجوادين أو يقودهما، هيا، أخبرني بالحقيقة: أين تركت هكتور - راعي الجيش - وأنت في طريقك إلى هنا؟ وأين توجد عدته الحربية، وأين تقف خيوله؟ وما هي مواقع الحراس، وأماكن نوم الطرواديين الآخرين؟ وأي الخطط يدبرون فيما بينهم: أيزمعون البقاء حيث هم بجانب السفن البعيدة، أم أنهم يريدون الانسحاب من جديد إلى المدينة، بعد أن تغلبوا على الآخيين؟»
عندئذ رد عليه «دولون بن يوميديس» قائلا: «سأقول الحقيقة، وسأخبرك في صراحة بكل شيء: إن هكتور، الآن، يعقد مجلسا للشورى مع جميع ذوي الرأي السديد، بجانب قبر «ألوس» شبيه الإله، بعيدا عن الضجيج والشغب. أما الحراس الذين تسألني عنهم - أيها المحارب - فلا حارس معينا يراقب أو يقوم بحراسة الجيش. فإن جميع من تضطرهم الضرورة يرقدون إلى جانب جميع نيران الحراسة - التي يشعلها الطرواديون - يقظين، ويأمرون بعضهم بعضا بالقيام بالحراسة، ولكن الحلفاء، الذين اجتلبوا من بلاد عديدة، ينامون؛ لأنهم يتركون أمر الحراسة للطرواديين، طالما أن أطفالهم وزوجاتهم ليسوا قريبين منهم!»
فرد عليه أوديسيوس الكثير الحيل بقوله: «كيف يكون ذلك الآن؟ هل ينامون مع الطرواديين - مستأنسي الخيول - في مكان واحد، أم هم ينامون على حدة؟ خبرني بالضبط حتى أعرف.»
فأجاب «دولون بن يوميديس»، قائلا: «إذن سأخبرك بالحقيقة، وفي صراحة كذلك، عن هذا الأمر: إن الكاريونيين - يرقدون صوب البحر، و«البايونيين» بأقواسهم المعقوفة، وكذا «الليليجيس» و«الكاوكونيس» و«البيلاسجيون» العظماء، وصوب ثومبري ينام «اللوكيون»، و«الموسيون» الأمجاد، و«الفروجيون» الذين يقاتلون من العربات، و«المايونيون» سادة العربات، ولكن لماذا تلح في السؤال عن كل هذه الأشياء؟ إذا كنت تريد الوصول إلى حشد الطرواديين، فهناك - على حدة - يوجد «التراقيون» الذين قدموا حديثا، وهم أبعد الجميع، وفي وسطهم ملكهم «ريسوس بن أيونيوس». وإن جياده لأجمل جياد وقعت عليها عيناي طول حياتي، وأضخمها! إنها أنصع بياضا من الجليد، وتعادل الريح في سرعتها. وإن عربته قد رصعتها بالذهب والفضة يد ماهرة كما أنه أحضر معه عدة حربية من الذهب، ضخمة الحجم، تروق للناظرين. فليس لبشر أن يرتدوا مثل هذه العدة الحربية إطلاقا، بل إنها للآلهة الخالدين فقط. هيا، خذني الآن إلى السفن السريعة الانطلاق في البحر، أو قيدني بالأصفاد المتينة واتركني هنا، حتى تستطيع أن تذهب بنفسك وتتثبت من أقوالي، أهي حقيقية، أم أنني لم أخبرك بالصدق؟!»
عندئذ حدجه ديوميديس القوي بنظرة غضب من تحت حاجبيه، وقال له: «كلا، إنني آمرك يا دولون، بألا تضمر في فؤادك الهروب، رغم أنك جئتنا بأنباء طيبة، بوقوعك في أيدينا. فلو أننا أطلقنا سراحك الآن. أو تركناك تذهب، فإنك ستعود فيما بعد إلى سفن الآخيين السريعة، إما للتجسس علينا، أو للقتال في معركة مفتوحة. أما إذا فقدت حياتك بعد أن وقعت في قبضة أيدينا، فلن تكون بعد الآن مبعث خراب للأرجوسيين.»
مصرع «دولون»
وقال هذا، والآخر على وشك أن يلمس ذقنه بيده القوية ليستعطفه، ولكن ديوميديس وثب عليه، وهوى بسيفه على عنقه بكل قوته، فمزق عضلتي رقبته، وراح رأسه يتخبط بالثرى، بينما كان لا يزال على قيد الحياة يتكلم. ثم أخذ قلنسوته المصنوعة من جلد السنور من على رأسه، وكذا جلد الذئب، والقوس المعقوفة السوداء، والرمح الطويل، فأمسك أوديسيوس بهذه الأشياء ورفعها في يده عاليا إلى «أثينا» - سائقة الغنائم - وصلى قائلا: «اطربي أيتها الربة بهذه الأشياء؛ لأننا سندعوك أولا قبل سائر الخالدين في أوليمبوس. والآن، اهدينا إلى الجياد وأماكن نوم المحاربين التراقيين.»
هكذا قال، ورفع الغنائم عاليا، فوضعها فوق شجرة طرفاء، وأقام هناك علامة واضحة، إذ جمع حزما من الغاب وأغصان الطرفاء الناضرة، حتى لا يضلا الطريق إلى المكان وهما عائدان خلال الليل السريع الداجي. ثم انطلق الاثنان في طريقهما وسط الأسلحة والدم القاتم، وبسرعة وصلا إلى حشد المحاربين التراقيين. وكان هؤلاء نائمين الآن، منهوكي القوى من التعب، وإلى جوارهم عددهم الحربية العظيمة فوق الأرض، منسقة في ثلاثة صفوف. وقريبا جدا من كل رجل، كان نير جياده. وكان «ريسوس» ينام في الوسط، وإلى جانبه جياده السريعة، مثبتة من أعنتها إلى الحافة العليا للعربة. وكان أول من وقع بصر أوديسيوس عليه، فأراه لديوميديس، قائلا: «ها هنا يا ديوميديس، يوجد الرجل. وهذه هي الجياد التي حدثنا عنها «دولون» الذي قتلناه. هيا الآن، فتذرع بالشجاعة القوية ولا تقف خاملا بأسلحتك، بل فك الجياد، أو اقتل الرجال، بينما أتولى أنا أمر الجياد.»
هكذا قال، ونفثت «أثينا» البراقة العينين القوة في قلب الآخر، فأخذ يطيح بالرقاب في هذا الجانب وذاك. وراح أنين الضحايا يرتفع مفزعا وهم يضربون بالحسام. وتخضبت الأرض بالدماء. وكما ينقض الأسد على قطعان لا راعي لها، أو على الماعز، أو الأغنام، فيهجم عليها في قسوة ووحشية، هكذا كان الأمر هنا وهناك بين المحاربين التراقيين. وظل ابن توديوس يقتل إلى أن أجهز على اثني عشر رجلا. وكان أوديسيوس الكثير الحيل، يمسك كل من يقترب منه ابن توديوس ويضربه بالسيف، فيجره من قدميه إلى جانب، إذ هداه إلى ذلك تفكيره الثاقب، حتى يمكن للجياد الجميلة المعارف أن تمر بسهولة، ولا تجفل قلوبها وهي تطأ الموتى بسنابكها؛ لأنها لم تكن حتى ذلك الوقت قد اعتادت ذلك. وعندما جاء ابن توديوس إلى الملك - وكان هو الثالث عشر - سلبه الحياة التي في حلاوة العسل، وهو يتنفس بصعوبة، فقد وقف ابن ابن أوينوس
2
فوق رأسه في تلك الليلة كالكابوس الخبيث، تبعا لخطة أثينا. وفي الوقت نفسه، حل أوديسيوس - الثابت الجنان - الجياد القوية الحوافر، وربط جميع أعنتها معا، ثم ساقها بعيدا عن الحشد، وهو يضربها بقوسه إذ لم يفكر من قبل في أن يأخذ في يديه السوط البراق من العربة المرصعة ترصيعا فاخرا، ثم صفر لينبه ديوميديس العظيم.
غير أنه تلكأ، وراح يفكر في عمل مسرف في التهور: هل يأخذ العربة، حيث توجد العدة الحربية الفاخرة الوشي، ويجرها - من ذراعيها - إلى الخارج، أو يرفعها ليستطيع حملها بعيدا، أم أن الأصوب أن يسلب أكبر عدد من التراقيين حياتهم؟ وفيما كان يفكر في كل هذا - في سريرته - اقتربت منه أثينا، وخاطبت ديوميديس العظيم بقولها: «فكر الآن في العودة يا ابن توديوس العظيم الهمة، إلى السفن الخاوية، وإلا اضطررت إلى العودة إلى هناك في فرار، وأي فرار! إذ ربما يأتي إله آخر فيوقظ الطرواديين!»
هكذا قالت، وعرف هو صوت الربة وهي تتكلم، فامتطى صهوة الجياد - في الحال - وضربها أوديسيوس بقوسه، فانطلقت تعدو صوب سفن الآخيين السريعة.
بيد أن «أبولو» - ذا القوس الفضية - لم يكن أعمى في مراقبته. فلما أبصر أثينا تشد أزر ابن توديوس، انطلق وسط حشد الطرواديين العظيم - في غضب ضد هذه الربة - وأيقظ مستشار التراقيين «هيبوكوون» - وهو نبيل من أقرباء «ريسوس» - فهب هذا من نومه، وما إن رأى المكان الذي كانت فيه الجياد السريعة خاليا، والرجال يلفظون آخر أنفاسهم وسط بحار مخيفة من الدماء، حتى تأوه وأخذ يئن ذاكرا اسم زميله العزيز. فسرعان ما انبعث ضجيج واضطراب لا مثيل لهما بين الطرواديين. وأقبلوا جميعا مسرعين، وأخذوا ينظرون مبهوتين إلى الأعمال المروعة التي اقترفها المحاربان، ثم ذهبا بعد ذلك إلى السفن الخاوية.
عودة جاسوسي الآخيين
أما هذان، فعندما بلغا المكان الذي قتلا فيه جاسوس «هكتور»، أوقف «أوديسيوس» - حبيب زوس - الجياد السريعة، وقفز ابن توديوس إلى الأرض، فوضع الغنائم الملطخة بالدماء في أيدي أوديسيوس، ثم صعد ثانية إلى ظهور الجياد، ولمسها بالسوط، فلم يمنعها شيء من أن تعدو إلى السفن الخاوية، إذ كانت متلهفة إلى الوصول إلى هناك. وكان نسطور أول من سمع الصوت، فتكلم قائلا: «أصدقائي قادة وحكام الأرجوسيين، أأنا مخطئ أم أنني أقول الحق؟ إن قلبي يأمرني بالكلام، إن صوت جياد سريعة العدو يطن في آذاني. أرجو أن يكون أوديسيوس وديوميديس الجريء قد ساقا - بمثل هذه السرعة - جيادا قوية الحوافر، من عند الطرواديين، ولكن أخوف ما أخافه أن يكون هذان الأرجوسيان الباسلان قد أصيبا بشيء من الأذى إبان معركة الطرواديين الطاحنة!»
وما كاد نسطور ينتهي من كلمته هذه حتى أقبل الفارسان بنفسيهما، فوثبا إلى الأرض، وشمل الفرح الآخرين، فاستقبلوهما بالتصفيق وعبارات الترحيب الرقيقة. وكان الفارس نسطور الجيريني هو أول من سألهما بقوله: «خبرني الآن يا أوديسيوس، الجدير بالثناء البالغ، يا مجد الآخيين العظيم، كيف أخذتما معا هذه الجياد؟ أكان هذا بدخولكما إلى حشد الطرواديين ، أم التقى بكما أحد الآلهة وأعطاكما إياها؟ إنها تتلألأ كأشعة الشمس. ولطالما كنت ألتحم مع الطرواديين في المعارك، دون أن يخطر ببالي قط أن أحوم على مقربة من السفن - رغم كوني محاربا مكتهلا - ولكني لم أر في حياتي كلها جيادا كهذه، ولم أفكر في مثلها. إنني أعتقد أن إلها ما قد قابلكما وأعطاكما إياها، فإن زوس جامع السحب، وكذا ابنة زوس حامل الترس؛ أثينا البراقة العينين، يحبان كليكما.»
فرد عليه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «أي نسطور، يا ابن نيليوس، يا مجد الآخيين العظيم، يستطيع أي إله أن يهب بسهولة مثل هذه الجياد، إن أراد ذلك، لأن الآلهة أقوى بكثير، ولكن هذه الجياد التي تسألني عنها يا سيدي الشيخ، قد جاءت حديثا من تراقيا، وقتل ديوميديس المغوار صاحبها، كما قتل اثنا عشر من زملائه، وكلهم نخبة. أما الثالث عشر فكان جاسوسا قتلناه بالقرب من السفن، إذ أرسله هكتور والطرواديون الآخرون الأمجاد، ليتجسس على معسكرنا!»
وإذ قال هذا، قاد الجياد القوية الحوافر عبر الخندق جذلا، وصحبه بقية الآخيين فرحين. وما إن بلغوا كوخ ابن توديوس المتين البناء، حتى ربطوا الجياد بسيور جميلة عند المذود الذي كانت تقف عنده خيول ديوميديس السريعة الأقدام، تأكل القمح الحلو كالعسل. ثم وضع أوديسيوس غنائم «دولون» الملطخة بالدماء عند مقدم سفينته، ريثما يعدون قربانا مقدسا لأثينا. ونزل الاثنان إلى البحر ليغسلا العرق الغزير عن ركبهما ورقبتيهما وأفخاذهما. ولما أزال موج البحر العرق الكثير عن جلديهما، وانتعش قلباهما، دخلا إلى حمامات لامعة واغتسلا، وبعد الاستحمام دهن كلاهما نفسه بالزيت، ثم جلسا إلى العشاء. ومن وعاء مترع بالخمر الممزوجة، صبا خمرا في حلاوة العسل. وقدما سكيبة لأثينا.
الأنشودة الحادية عشرة
«... وأخيرا وجدا «أوديسيوس» - حبيب زوس - وقد التف حوله الطرواديون يهاجمونه كما تهاجم بنات آوى، النحاسية اللون، ظبيا مقرنا كان قد جرح لتوه ...»
بالرغم من أعمال «أجاممنون» المجيد، فإن الطرواديين شددوا الهجوم على الآخيين. ثم بدأ الشر يحيق بباتروكلوس ... إلخ.
اليوم الثالث للقتال
وفي هذه الأثناء، بزغ الفجر من عربته بجوار «تيثونوس» المجيد. لينشر النور على الخالدين والبشر فأرسل «زوس» إلى سفن الآخيين السريعة «أيريس» المروعة، تحمل في يديها علامة الحرب. فاتخذت وقفتها إلى جانب سفينة «أوديسيوس» السوداء، الضخمة الهيكل - إذ ذاك في الوسط - حتى تبلغ صيحتها كلا من الطرفين، وتترامى إلى أكواخ أياس بن تيلامون، وأكواخ «أخيل»؛ لأن هذين كانا قد سحبا سفنهما الجميلة إلى أقصى الطرفين، معتمدين على شجاعتهما وقوة سواعدهما. فوقفت الربة هناك وأطلقت صرخة مدوية مفزعة، وبثت في قلب كل رجل من الآخيين قوة عظيمة للحرب والقتال المستمرين. فتحمسوا للحرب وامتلئوا حمية، وفضلوا القتال على العودة في سفنهم الخاوية إلى بلادهم العزيزة!
وصاح ابن أتريوس عاليا، وأمر الأرجوسيين بتنظيم أنفسهم للمعركة ولبس البرونز البراق وهو في وسطهم. فوضع الدروع أولا حول ساقيه - وكانت جميلة، ومثبتة بقطع فضية عند العقبين - ثم لبس حول صدره الدرقة التي كان «كونيراس» قد أهداه إياها عندما نزل ضيفا عليه، فهناك في قبرص - رغم بعدها - سمع «كونيراس» تلك الشائعة القوية على أن الآخيين كانوا على وشك الإبحار في سفنهم إلى طروادة؛ ولذا قدم الدرقة الصدرية إلى الملك لتدخل السرور إلى نفسه. وكانت مزينة بعشرة خطوط من «الميناء» القاتمة، واثني عشر خطا من الذهب، وعشرين من القصدير، وثعابين من الميناء ملتوية الأعناق، ثلاثة في كل جانب، أشبه بقوس قزح الذي أقامه ابن كرونوس في السحب، إشارة للبشر. وعلق على كتفه سيفه، الذي كانت تزينه أزرار من الذهب، وكان غمده المصنوع من الفضة مثبتا بسلاسل ذهبية. وحمل ترسه المكين، المرصع ترصيعا فاخرا، ليصونه من الجانبين. وكان ترسا جميلا، تحيط به عشر دوائر من البرونز، ومن فوقها عشرون قوسا من القصدير الأبيض اللامع، وتتوسطه دائرة من الميناء الدكناء. وكانت الجورجون، القبيحة المنظر، مثبتة كتاج، تحملق بفظاعة وقد أحاطت بها ربات الفزع والشغب. وكانت تتدلى من الترس حمائل من الفضة زينت بثعبان من الميناء ذي ثلاثة رءوس - ملتوية في هذا الاتجاه وذاك - وقد انبثقت من عنق واحد، ثم ارتدى خوذته التي يعلوها قرنان وأربع خطوط محدودبة وخصلة من شعر الخيل وكانت الريشة تهتز فوقها بشدة. وأخذ رمحين عتيدين، مدببين بالبرونز، وكانا حادين. وأخذ البرونز يومض إلى بعد شاسع، نحو السماء. وعند ذلك أرعدت «أثينا» و«هيرا»، تبجيلا لملك موكيناي، الكثير الذهب.
وأقبل كل رجل - بعد ذلك - يلقي أمره على سائقه، بأن يمسك جواديه بعناية ونظام عند الخندق، وأن يكون مترجلا، مجهزا بعدته الحربية، يسير متقدما بسرعة. وما إن أقبل الفجر، حتى انبعثت صيحة مدوية لا تخمد. وكانوا متأهبين عند الخندق، يتبعهم سائقوهم على مسافة قصيرة، وقد أثار ابن كرونوس بينهما ضجيجا شريرا، وأرسل قطرات الندى المشبعة بالدماء، من أعلى إلى أسفل، إذ كان على وشك إرسال كثير من الرؤساء الجسورين إلى هاديس!
أما الطرواديون فقد اجتمعوا في أرض السهل المرتفعة - في الجانب المقابل لهم - واحتشدوا حول «هكتور» العظيم و«بولوداماس» المنقطع النظير، و«أينياس» الذي كان الطرواديون يبجلونه كإله، وأبناء «أنتينور» الثلاثة: «بولوبوس» و«أجينور» العظيم، و«أكاماس» الصغير الشبيه بالخالدين. وكان «هكتور» بين المحاربين - في المقدمة - يحمل ترسه المتزن تماما من كل جانب. وكما يلمع النجم الضار خلال السحب - في سناء خلاب - ثم يختفي ثانية وراء الغيوم القاتمة، هكذا كان «هكتور» يبدو تارة وسط محاربي المقدمة، وطورا بين مقاتلي المؤخرة، يصدر إليهم أوامره، وهو يتألق - وقد اكتسى كله بالبرونز اللامع - كأنه برق الأب زوس حامل الترس!
مغامرات «أجاممنون»
وكالحصادين في حقل قمح أو شعير لرجل ثري، إذ يدفعون الحزم بسرعة، كل نحو الآخر، فتتراكم الحزم وتزداد علوا ومتانة، هكذا أيضا قفز كل من الطرواديين والآخيين، بعضهم على بعض، محدثين دمارا. وما كان ليخطر ببال أي من الطرفين أن يركن إلى الفرار المهلك، فخاضوا المعركة رءوسا متعادلة، وهاجوا كالذئاب. وكانت «أيريس» - الممتلئة بالأنين البالغ - مغتبطة وهي تشاهد ما يدور؛ لأنها وحدها، دون الآلهة، كانت بين المحاربين وسط المعركة، بينما كان الآلهة الآخرون في قصورهم سالمين؛ إذ شيد لكل منهم قصر جميل بين أطواء أوليمبوس. وراح الجميع يعتبون على ابن كرونوس - سيد الغيوم الدكناء - عزمه على أن يمنح المجد للطرواديين. ومع ذلك فإن الأب لم يلتفت إليهم، بل جلس في عزلة عن الآخرين، ينعم في مجده بعيدا، وهو ينظر إلى مدينة طروادة وسفن الآخيين - على وميض البرونز - وإلى القتلة والمقتولين!
وكلما ازداد الصبح انبلاجا، وتقدم النهار المقدس، كانت الرماح تزداد سدادا نحو أهدافها، فراح الناس يتساقطون، حتى إذا حانت الساعة التي يعد فيها الحطاب طعامه في ممرات أحد الجبال - وقد كل ساعداه من قطع الأشجار العالية، وحل التعب بروحه، واستبدت بقلبه الرغبة في الطعام الشهي - حطم الدانيون بشجاعتهم كتائب الأعداء، وهم ينادون زملاءهم وسط الصفوف. فهجم «أجاممنون» إلى قلب الأعداء بعيدا عن المقدمة، وقتل المحارب «بينور» - راعي الجيش - ومن بعده زميله «أوليوس»، سائق الخيول، فلقد وثب «أوليوس» من عربته ووقف أمامه، فهجم عليه الملك بغتة وضربه على جنبه برمحه الحاد، ولم ينثن الرمح من جراء خوذته البرونزية الثقيلة، بل إنه نفذ خلالها وخلال العظام، فتناثر مخه كله داخلها. وهكذا صرعه في عنفوانه. وما لبث «أجاممنون» - ملك البشر - أن ترك هذين هناك يلمعان وقد تعرى صدراهما - بعد أن خلع عنهما عباءتيهما - وذهب ليقتل «أسوس» و«أنتيفوس» ولدي بريام - وكان أحدهما ابن سفاح، والآخر وليد زواج شرعي - إذ كانا في عربة واحدة. وكان ابن السفاح يمسك بأعنة الخيل، بينما كان «أنتيفوس» المجيد يقف إلى جواره ليقاتل. وكان «أخيل» ذات مرة قد كبلهما بأغصان الصفصاف اللدنة، وسط مروج أيدا، إذ قبض عليهما وهما يرعيان الأغنام، ثم أطلق سراحهما مقابل فدية. أما الآن، فقد انقض ابن أتريوس، «أجاممنون» الواسع السلطان، فضرب أسوس في صدره - فوق الثدي - برمية من رمحه. كما أصاب «أنتيفوس» بضربة قوية من سيفه بجانب أذنه، وألقى به من العربة. ثم أسرع ليجرد كليهما من عدته الحربية الفاخرة، وكان يعرفهما معرفة جيدة؛ لأنه رآهما قبل ذلك بجانب السفن السريعة، عندما جاء بهما «أخيل » السريع القدمين من أيدا. وكما يفتك الليث في سهولة بصغار الغزالة السريعة العدو، عندما يقبض على الصغار بأنيابه القوية، بعد الانقضاض عليها في وكرها، فيسلبها حياتها الوادعة، والأم لا تملك أن تذود عنها، مهما تكن قريبة جدا منها؛ لأنها تخاف أن تحل بها نفس الرجفة المفزعة، فتطلق العنان لأقدامها خلال الشجيرات الكثيفة إلى الغابة، فيتساقط عرقها أمام هجمة ذلك الحيوان المتوحش، هكذا أيضا لم يكن في وسع أي من الطرواديين أن يبعد الهلاك عن هذين الأخوين، بل اضطروا جميعا إلى الفرار أمام الأرجوسيين.
وبعد ذلك هجم «أجاممنون» على «بايساندر»، وعلى «هيبولوخوس» الجريء في القتال، ابني «أنتيماخوس» الحكيم القلب، الذي أبى - أكثر من سواه - أن ترد هيلينا الجميلة الشعر ثانية إلى «مينيلاوس»، أملا في أن يتلقى ذهبا من «باريس»، وهدايا قيمة. ولقد هاجم الملك «أجاممنون» ولديه، وكانا في عربة واحدة يحاولان قيادة الجياد المسرعة، لأن الأعنة البراقة أفلتت من أيديهما، وراح الجوادان السريعان يجريان جامحين. فهجم ابن أتريوس على المحاربين، كأنه الليث الهصور، فتوسل إليه كلاهما. قائلين: «خذنا أحياء يا ابن أتريوس، واقبل فدية ثمينة، فإن قصر أبينا «أنتيماخوس» زاخر بكنوز كبيرة من البرونز والذهب والحديد، المشغولة بالكد والتعب، وإن أبانا ليمنحك منها فدية تفوق الحصر، إذا ما سمع أننا لا نزال على قيد الحياة، عند سفن الآخيين.»
هكذا راح الأخوان يستعطفان الملك برقيق الألفاظ والبكاء. غير أن الصوت الذي سمعاه كان بالغ الفظاظة، إذ قال: «إذا كنتما بحق ولدي أنتيماخوس الحكيم القلب، فقد أمر أبوكما يوما بقتل «مينيلاوس»، في حشد الطرواديين، عندما قدم إليه في سفارة مع «أدوديسيوس» العظيم ولم يسمح له بالعودة إلى الآخيين، فعليكما الآن أن تدفعا بحق ثمن إساءة أبيكما الحمقاء.»
قال هذا، ودفع «بايساندر» عن عربته إلى الأرض، وطعنه برمحه في صدره، فسقط إلى الوراء على الأرض، ولكن «هيبولوخوس» قفز إلى أسفل، فقتله ابن أتريوس، على الأرض. وما إن بتر ساعديه بالسيف، وأطاح بعنقه، حتى تركه يتدحرج كجلمود صخر وسط الجمع. فترك «أجاممنون» هذين. ولما كانت الكتائب في هرج ومرج بالغين، فإنه وثب إلى وسطها، بصحبة نفر من الآخيين الآخرين المدرعين جيدا. وكان المشاة لا ينفكون يقتلون المشاة الذين كانوا يولون الأدبار تحت الضغط، والفرسان يصرعون الفرسان، وقد أثارت حوافر الخيل الغبار من السهل فتصاعد من تحت أرجلهم إلى فوق، وأعملوا الهلاك فيهم بالبرونز. وكان الملك أجاممنون يتبعهم، دون أن يكف عن القتل، وهو يستحث الأرجوسيين. وكما يحدث عندما تضطرم النيران النهمة في غابة كثيفة، فتحملها الريح السريعة الدوران في سائر الأرجاء، هنا وهناك، فتتهاوى الدوح بمجرد أن يهاجمها اللهب المتدافع، هكذا أيضا كانت رءوس الطرواديين تسقط - تحت «أجاممنون بن أتريوس» - وأصحابها ينشدون الفرار. وكم من جياد ذات أعناق متلعة، راحت تقعقع بالعربات الخالية من أصحابها، على طول خنادق المعركة، وقد فقدت سائقيها المنقطعي النظير، الذين رقدوا فوق الأرض طعمة لجوارح الطير، أعز عليها من أليفاتها وزوجاتها!
وأقصى زوس «هكتور» عن طريق الرماح والغبار، في مذبحة البشر وغمرة الدماء والطنين، ولكن ابن أتريوس ظل يتابع سيره، مناديا بعنف على الدانيين، الذين انطلقوا مسرعين عبر قبر «ألوس» القديم - «ألوس بن داردانوس» - حتى بعد منتصف السهل، وعبر شجرة التين البرية، محاولين الوصول إلى المدينة جهد طاقتهم. وكان ابن أتريوس يتبعهم باستمرار صائحا، وقد تلطخت بالدماء يداه المنيعتان. وما إن بلغوا أبواب «سكاي» وشجرة البلوط، حتى وقف الجيشان وأخذ كل منهما ينتظر الآخر. ومع ذلك فقد كان بعضهم لا يزال يفر في فوضى وسط السهل، كقطيع من الأبقار شتتها ليث غضنفر في دجى الليل، فتفرقت على غير هدى، ولكن واحدة منها هي التي قدر لها أن ترى الهلاك التام؛ إذ أمسك الليث بعنقها - أولا - بين أنيابه القوية وهشمه، ثم راح يلعق الدم وينهش جميع الأجزاء الداخلية، هكذا - وعلى هذه الصورة - راح الملك أجاممنون بن أتريوس، يتبع الطرواديين عن كثب، وهو يعمل القتل باستمرار في المؤخرة، فركن الآخرون إلى الفرار بغير نظام. وسقط كثيرون من عرباتهم منكفئين على وجوههم أو منطرحين على ظهورهم تحت يدي ابن أتريوس، إذ كان ينقض برمحه على من حوله ومن أمامه! غير أنه عندما أوشك على الوصول إلى المدينة والسور المرتفع، هبط أبو البشر والآلهة من السماء، وجلس فوق ذؤابات أيدا - الجبل الكثير الينابيع - وقد حمل في يديه صاعقة. فأرسل في الحال «أيريس» الذهبية الجناحين، لتحمل رسالته، قائلا لها: «اذهبي، يا أيريس - أيتها السريعة - وأعلني هذه الكلمة لهكتور: إن عليه أن يتقهقر - ما دام يرى أجاممنون، راعي الجيش، ثائرا وسط محاربي الصفوف الأولى، ناشرا الهلاك في صفوف الرجال - وأن يأمر بقية الجيش بمقاتلة العدو في عراك عنيف. أما إذا جرح أجاممنون بطعنة من رمح أو أصيب بسهم، وقفز فوق عربته، فإنني سأمنح هكتور القوة التي تخوله أن يقتل ويمضي في القتل، إلى أن يصل إلى السفن ذات المقاعد المتينة. ثم تغرب الشمس وتخيم الظلمة المقدسة.»
هكذا قال، فانطلقت «أيريس» بأقدام تسابق الريح لتنفيذ أمره، وهبطت من تلال أيدا إلى طروادة المقدسة. وعندئذ وجدت «هكتور» العظيم - ابن «بريام» الحكيم القلب - واقفا إلى جانب جياده وعربته ذات المفاصل، فاقتربت منه أيريس السريعة القدمين وتحدثت إليه قائلة: «أي هكتور، يا ابن بريام، يا نظير زوس في سداد الرأي، إن الأب زوس قد بعثني إليك لأعلنك برسالته هذه: إذا رأيت أجاممنون - راعي الجيش - هائجا وسط محاربي الصفوف الأولى، ناشرا الهلاك في صفوف الرجال، فعليك أن تتقهقر وأن تأمر بقية الجيش بأن يقاتل العدو في عراك عنيف. أما إذا جرح أجاممنون بطعنة رمح، أو أصيب بسهم، فإنه سيقفز فوق عربته، وعندئذ سيمنحك زوس القوة التي تخولك أن تقتل وتمضي في القتل إلى أن تصل إلى السفن ذات المقاعد المتينة، ثم تغرب الشمس وتسود الظلمة المقدسة.»
وما إن قالت «أيريس» السريعة القدمين هذا، حتى انصرفت، فقفز هكتور في عدته الحربية من عربته إلى الأرض، يلوح برمحيه الحادين، منطلقا إلى كل مكان وسط الجيش، يحث الرجال على القتال. وأثار وطيس المعركة الطاحنة. وهكذا استجمع الطرواديون قواهم، واتخذوا وقفتهم صوب الآخيين، وعزز الأرجوسيون في الجهة المقابلة فرقهم، ونظمت المعركة، فوقفوا بعضهم في مواجهة بعض، وفي وسطهم هجم أجاممنون موغلا في المقدمة، تواقا إلى أن يسبق الجميع. «أجاممنون» يصاب بجرح
والآن، خبريني، يا عرائس الشعر، يا من تسكن فوق أوليمبوس ، من الذي جاء أولا لمواجهة أجاممنون: أكان من الطرواديين أنفسهم أم من حلفائهم الذائعي الصيت؟ إنه كان «أفيداماس بن أنتينور»، البطل الصنديد الفارع الطول، الذي ترعرع في تراقيا العميقة التربة، ذات القطعان الكثيرة، والذي رباه «كيسيوس» في بيته، يوم أن كان طفلا صغيرا. وكان «كيسيوس» هذا جده لأمه، الذي أنجب «ثيانو» الجميلة الخدين، وعندما بلغ «أفيداماس» مبالغ الشباب المجيد، سعى جده كي يبقيه هناك، وعرض عليه ابنته. غير أنه رحل، وهو بعد «عريس» حديث الزواج، وهجر مخدع زواجه - إذ سمع شائعة مجيء الآخيين - وتبعته اثنتا عشرة سفينة مدببة. فترك تلك السفن الجميلة الشكل عند بيركوتي، وسار هو شخصيا حتى وصل إلى طروادة بطريق البر، فكان هو الذي تقدم الآن ليواجه أجاممنون بن أتريوس. فلما اقتربا - وهما يتقدمان كل في مواجهة الآخر - أخطأ ابن أتريوس الرماية، فمال رمحه جانبا، ولكن «أفيداماس» طعنه في خاصرته أسفل الدرقة، وبث كل قوته في ضربته، معتمدا على يده الثقيلة، ولكن الرمح لم يخترق الحزام البراق، وإنما أصاب طرف الرمح الجزء الفضي، فانثنى وكأنه من قصدير. فأمسك «أجاممنون»، الواسع الملك، الرمح من يد غريمه وجذبه إليه في غضب، وكأنه أسد، منتزعا إياه من يد «أفيداماس»، ثم هوى بسيفه على عنقه فأرخى أطرافه؛ ومن ثم سقط هناك يتردى، ونام نومة البرونز،
1
ذلك الشاب التعس، بعيدا عن زوجته التي تزوجها، بعيدا عن العروس التي لم يحظ بالهناءة معها، ومع ذلك فقد تكبد الكثير من أجلها؛ إذ قدم لها أولا مائة بقرة، ووعد بأن يقدم لها فيما بعد ألفا من الماعز والأغنام التي يملكها في قطعان لا حصر لها.
وبعد ذلك جرده أجاممنون بن أتريوس من عدته، ثم سار وسط حشد الآخيين حاملا العدة الحربية المتينة. على أن «كئون» - المبرز وسط المحاربين، وأكبر أبناء أنتينور - لم يكد يراه، حتى أعشى عينيه حزن شديد ، من أجل مقتل أخيه، فانتحى برمحه جانبا، دون أن يراه الملك «أجاممنون»، ثم عاجله بطعنة نجلاء، أصابت ساعده أسفل المرفق، ونفذ طرف الرمح البراق بسرعة. وإذ ذاك ارتجف أجاممنون ملك البشر - ولكنه لم يكف عن القتال والحرب، وإنما قفز على كئون، والرمح المقسي بالريح
2
في يده. وكان كئون يجر - في لهفة - أفيداماس من قدميه، كان يسحب شقيقه ابن أبيه، وهو ينادي جميع الشجعان من قومه. وبينما هو يجره خلال الحشد، طعنه «أجاممنون» برمية من رمحه المطلي بالبرونز، تحت درعه المزخرف، فأرخى أطرافه. ثم اقترب منه وحز رأسه، فرقد «أفيداماس» رقدته الأخيرة، وهكذا لقي ابنا أنتينور حتفهما على يدي الملك، ابن أتريوس وذهبا إلى بيت هاديس.
سار «أجاممنون» بمحاذاة صفوف المحاربين الآخرين، يحمل الرمح والسيف والأحجار الضخمة. وكان الدم ما زال يتدفق ساخنا من جرحه. وما إن جف الجرح، وامتنع تدفق الدم، حتى انتابت ابن أتريوس العتيد آلام مبرحة. وكما يحدث عندما يصيب السهم الحاد امرأة في المخاض، سهم «الإيليثواي»،
3
ربات ميلاد الأطفال، وبنات «هيرا»، اللائي يحتفظن بالأوجاع المريرة، هكذا حلت الآلام المبرحة على ابن أتريوس العتيد. فقفز إلى عربته وأمر سائقه بالتوجه صوب السفن الخاوية. إذ كان متألم الفؤاد. وأطلق صيحة مدوية، مناديا الدانيين بقوله: «أصدقائي، قادة وحكام الأرجوسيين، هل لكم أن تبعدوا الآن عن السفن - ماخرة العباب - وطيس المعركة الفظيع، لأن زوس المستشار لا يطيق مني مواصلة القتال طوال اليوم ضد الطرواديين.»
هكذا قال، فألهب السائق الجوادين الجميلي المعارف بالسوط، متجها نحو السفن الخاوية، ولم يمنع الجوادين شيء من الإسراع، وقد لطخ صدراهما بالزبد، كما كان بطناهما معفرين بالغبار الثائر تحتهما وهما يحملان الملك المجروح بعيدا عن ميدان المعركة. «ديوميديس» و«أديسيوس» يجرحان
وإذ رأى «هكتور» أن «أجاممنون» ينصرف، صاح في الطرواديين والليكيين صيحة مدوية قائلا: «أيها الطرواديون واللوكيون والداردانيون الذين يخوضون معركة حامية. كونوا رجالا يا أصدقائي وفكروا في الشجاعة الهوجاء، لقد مات خير الرجال ومنحني زوس بن كرونوس مجدا عظيما. فهيا، سوقوا جيادكم القوية الحوافر صوب الدانيين البواسل مباشرة، كي تفوزوا بمجد النصر!»
وما إن قال هذا، حتى أيقظ حماس وروح كل رجل. وكما يحدث عندما يطلق الصياد كلابه البيض الأنياب على خنزير بري أو ليث، فقد أطلق هكتور بن بريام - نظير أريس، مهلك البشر - الطرواديين العظيمي الهمم على الآخيين. وسار هو نفسه بقلب جريء وسط صفوف المقدمة، واقتحم المعركة كأنه الإعصار الجائح الذي ينقض فيهيج البحر البنفسجي اللون.
فمن تراه كان أول القتلى إذ ذاك، ومن آخر من قتل على يدي هكتور بن بريام، عندما منحه زوس المجد؟ لقد قتل - أولا «أسايوس»، و«أوتونوس» و«أوبيتيس»، و«دولوبس بن كلوتيوس»، و«أوفيلتيوس» و«أجيلاوس» و«أيسومنوس» و«أوروس» و«هيبونوس» الجريء في القتال. هؤلاء القادة الدانيون قتلهم هكتور، ثم هجم على الحشد. وكما يحدث عندما تدفع الريح الغربية سحب الريح الجنوبية البيضاء، وهي تصفعها بعاصفة هوجاء، وأمواج كثيرة شاهقة تتدحرج إلى الأمام، فيتناثر الرشاش عاليا أمام هبة الريح الهائمة، هكذا خرت رءوس كثيرة من الجيش على يد هكتور.
وإذ حل الخراب، وتمت أعمال لا سبيل إلى إصلاحها، كاد الآخيون يقذفون بأنفسهم فوق سفنهم وهم يفرون، لولا أن «أوديسيوس» صاح في ديوميديس بن توديوس، قائلا: «ما هذا، يا ابن توديوس، ماذا حدث لنا حتى ننسى شجاعتنا الفياضة؟ ألا تعال أيها الصديق الكريم، فقف إلى جانبي، فمن العار أن يستولي هكتور ذو الخوذة البراقة على السفن.»
عندئذ رد عليه «ديوميديس» العتيد بقوله: «ولا شك في أنني سأصمد وأتحمل، غير أن ربحنا لن يكون إلا لفترة قصيرة؛ لأن زوس - جامع السحب - يعتزم بجلاء أن يعطي النصر للطرواديين، بدلا من أن يهبنا إياه!»
قال هذا ودفع «ثومبرايوس» من عربته إلى الأرض، بطعنة من رمحه فوق ثديه الأيسر، فانقض «أوديسيوس» على «موليون» الشبيه بالإله، خادم هذا الأمير. ثم تركا هذين بمجرد أن كفا أيديهما عن القتال، وسارا خلال الجمع، مشيعين الهرج في أرجائه. وكما يحدث عندما يهجم خنزيران بريان قويا القلب على كلاب الصيد، كذلك استدارا ثانية وانقضا على الطرواديين فقتلاهم . وإذ ذاك تحول الآخيون طواعية عن الفرار أمام هكتور العظيم!
وأخذا - بعد ذلك - عربة ورجلين، من خيرة القوم، هما ولدا «ميروبس» البيركوني الذي كان أمهر العرافين جميعا، والذي لم يشأ أن يذهب ابناه إلى الحرب - قاتلة البشر - ولكنهما لم يصغيا إليه بأية حال، إذ كان قضاء الموت الأسود يدفعهما إلى حتفهما دفعا. هذان هما اللذان سلبهما الروح والحياة، ديوميديس بن توديوس، الشهير برمحه، وأخذ منهما عدتيهما الحربيتين الرائعتين. كما أن «أوديسيوس» قتل «هيبوداموس» و«هوبايروخوس».
وإذ ذاك بسط ابن كرونوس خط القتال للفريقين على السواء، وهو يطل عليهم من أيدا، فظل المحاربون يقتل بعضهم بعضا. وجرح ابن توديوس المحارب «أجاستروفوس بن بايون» بطعنة من رمحه في عجزه. ولم تكن جياده قريبة منه ليهرب، ولكنه كان غاية في عمى القلب؛ لأن خادمه كان يمسك بجياده بعيدا، بينما راح هو يسير على قدميه وسط محاربي الصفوف الأولى، إلى أن فقد حياته! ولكن «هكتور» لمحهما سريعا عبر الصفوف، فهجم عليهما، صائحا، وقد تبعته كتائب الطرواديين. فلما أبصر به «ديوميديس» - البارع في صيحة الحرب - ارتعد. وفي الحال تحدث إلى أوديسيوس الواقف بقربه، قائلا: «إن الهلاك يسعى نحونا معا، وأعني هكتور القوي. فتعال نقف. ونصد هجمته ونحن في مكاننا.»
قال هذا، وأمسك رمحه الطويل الظل وقذفه، فلم يخطئ الهدف الذي سدد إليه، إذ أصاب «هكتور» في رأسه، فوق قمة الخوذة، ولكن الطرف البرونزي التوى جانبا فوق البرونز، ولم يصل إلى لحمه البض، فقد أوقفته الخوذة ذات الخصلة المكونة من ثلاث طبقات، تلك التي منحه إياها الإله «أبولو». على أن هكتور وثب إلى الوراء وثبة عجيبة، واختلط بالجمع، ثم سقط فوق ركبتيه. وهكذا بقي، وقد استند بيده القوية على الأرض، وغيمت الظلمة على عينيه، بينما كان ابن توديوس يتابع مرمى رمحه، موغلا خلال محاربي المقدمة، إلى حيث كان يرى الرمح ينغرس في الأرض. وفي تلك الأثناء أفاق «هكتور» ثانية، فقفز إلى عربته وقادها إلى وسط الجمع، فنجا من المصير الأسود. واندفع وراءه ديوميديس شاهرا رمحه، وهو يقول: «ها أنت ذا أيها الكلب، تهرب ثانية من الموت، رغم أن نهايتك كادت توافيك. لقد أنقذك - مرة أخرى - الإله «أبولو»، الذي يجب أن تقدم له الصلاة عندما تذهب بين قومك بعيدا عن مرمى الرماح. حقا أنه ما زال علي أن أضع خاتمة لحياتك عندما نلتقي بعد ذلك، إذا ما ساعدني إله آخر كما ساعدك هذا. أما الآن فسأتعقب الآخرين، وأجهز على من أعثر عليه!»
وما إن قال هذا، حتى ذهب ليجر «ابن بايون» المشهور برمحه من عدته الحربية، ولكن «باريس»، بعل «هيلينا» الجميلة الشعر، صوب سهما نحو ابن توديوس، راعي الجيش، وقد استند لفترة إلى عمود فوق الأكمة التي أقامتها أيدي الرجال لألوس بن داردانوس، أحد كبار شيوخ القوم في الزمان الخالي. وكان «ديوميديس» ينزع درقة «أجا ستروفوس» الجسور البراقة من حول صدره والترس من على كتفه، وخوذته الثقيلة، عندما جذب «باريس» الجزء الأوسط من قوسه وسدد سهمه. ولم ينطلق السهم عبثا من يده، بل أصاب سطح قدمه اليمنى، ونفذ مخترقا اللحم، وانغرس في الأرض. فقفز «باريس» من مربضه يضحك ملء شدقيه، وأخذ يزهو قائلا: «لقد ضربت فأصبت، ولم يعد سهمي عبثا، ليتني سددت صوب أسفل بطنك فسلبتك الحياة، إذن لارتاح الطرواديون الآن من آلامهم، وهم الذين يرتعدون أمامك كما ترتعد الماعز الثاغية أمام الأسد!»
على أنه لم تبدر من «ديوميديس» القوي أية بادرة من خوف، بل تحدث إليه قائلا: «أيها القواس السفيه، المعجب بغدائر شعره الملتوية، المغرم بالفتيات، ليتك تبارزني بالسلاح رجلا لرجل. عندئذ لن تساعدك قوسك ولا سهامك السريعة الهبوط. إنك تزهو الآن بغير حق؛ لأنك خدشت سطح قدمي، ولكني لا أعير ذلك اهتماما أكثر مما لو كان الذي جرحني امرأة أو طفل شقي! فإن السهم الذي يطلقه رجل واهن أو مخنث سهم مثلوم. أما السهم الذي تطلقه يدي، فإنه يكون في حدة الرمح، ولو لمس فقط، فهو يقتل في الحال من يصيبه، وعندئذ يتمزق بالبكاء خدا زوجته، ويتيتم أطفاله، بينما يتردى هو على الأرض مضرجا بالدم القاني، حيث تتعفن جثته، ويجتمع حوله من الطيور ما يفوق عدد النساء!»
هكذا قال، فاقترب منه «أوديسيوس» - المشهور برمحه - ووقف أمامه. فجلس «ديوميديس» خلفه، وأخرج السهم الحاد من قدمه، فسرى في جلده ألم حاد. ثم قفز فوق عربته وأمر سائقه بالتوجه إلى السفن الخاوية؛ لأنه كان يشعر في قلبه بألم شديد.
وبقي الآن «أوديسيوس» - الشهير برمحه - وحيدا، وليس معه أي فرد من الأرجوسيين؛ لأن الخوف استولى عليهم أجمعين. فتحرك بعنف وراح يتحدث إلى نفسه العظيمة الهمة قائلا: «ويحي، ما الذي سيحيق بي؟ إنه لخطب جسيم لو أنني فررت خوفا من الحشد. ومع ذلك، فإن الأمر يكون أسوأ لو قبض علي وحدي؛ لأن ابن كرونوس قد شتت بقية الدانيين، فلاذوا بالفرار، ولكن لماذا يحدثني قلبي هكذا لأنني أعلم أن من يهربون من المعركة ليسوا سوى جبناء رعاديد، في حين أن الماهر الحق في القتال، هو الذي يصمد بثبات، سواء أصيب أو ضرب غيره!»
وبينما كان يفكر هكذا - في عقله وقلبه - أقبلت صفوف الطرواديين حاملة التروس، وحاصرته في وسطها، جالبة الهلاك على نفسها. وكما تهجم الكلاب والشباب المتهور على خنزير بري من هذا الجانب ومن ذاك، فيخرج الخنزير من الأحراش الكثيفة مشرعا أنيابه البيضاء من فكيه المقوستين، وعندئذ يهجم الجميع عليه من كلا الجانبين، فيعلو صرير أنيابه، ولكنهم يصدون هجمته في الحال، مهما كان مروعا، هكذا أيضا هجم الطرواديون على «أوديسيوس» حبيب زوس، لكنه بادئ ذي بدء ضرب «دايوبيتيس» المنعدم النظير فوق كتفه، واثبا عليه برمح حاد، ثم قتل بعده «ثئون» و«يونوموس»، ثم «خيرسيداماس»، بمجرد أن قفز من عربته، إذ طعنه برمحه فوق سرته، تحت الدرع المرصعة، فسقط يتردى في الثرى وراح يتشبث بالأرض بكفه، وبعد ذلك ترك هؤلاء وضرب «خاروبس بن هيباسوس» بطعنة من رمحه. وكان هذا شقيق «سوكوس» الثري. فأقبل «سوكوس»، الشبيه بالإله، لنجدة أخيه، ودنا من «أوديسيوس»، ووقف يقول له: «يا أوديسيوس، يا عظيم النصيب من الثناء، ويا من لا يشبع من الخداع والكد: إما أن تزهو اليوم على ولدي هيباسوس، فتفخر بأنك قتلت محاربين مثليهما وجردتهما من عدتيهما الحربيتين، وإما أن تفقد حياتك بضربة من رأس رمحي!»
وبينما هو يقول هذا، ضربه فوق ترسه المتزن من كل جانب. فنفذ الرمح العتيد خلال الترس اللامع، وخلال الدرقة المرصعة ترصيعا فاخرا، فشق طريقه إلى اللحم ومزقه من جانبه، ولكن الربة «أثينا» لم تدعه يخترق أحشاء المحارب. وأدرك «أوديسيوس» أن الرمح لم يرتكز بأية حال من الأحوال في بقعة قاتلة، فتقهقر وخاطب سوكوس قائلا: «يا لك من وغد! لا شك أن الهلاك المروع قد وافاك، والحق أنك ألجأتني إلى الكف عن محاربة الطرواديين، ولكني أعتقد أنك ستلقى حتفك ومصيرك الأسود اليوم، فلسوف أقتلك برمحي الذي يجلب لي المجد، ويسلم روحك لهاديس، ذي الجياد العظيمة.»
هكذا قال أوديسيوس، فاستدار الآخر، وشرع في الفرار، بيد أنه لم يكد يدير ظهره، حتى ثبت أوديسيوس الرمح في ظهره ما بين كتفيه، ودفعه إلى داخل صدره. فسقط محدثا في ارتطامه بالأرض صوتا. واغتبط «أوديسيوس» العظيم بقتله قائلا: «ويلك يا سوكوس، يا ابن هيباسوس الحكيم القلب، ومستأنس الخيول! لقد حاقت بك خاتمة الموت سريعا، ولم تنج منها، ويلك أيها الوغد المسكين، إن أباك وأمك الجليلة لم يغلقا عينيك عند وفاتك، ولكن الطيور التي تأكل اللحم النيء ستنهش هاتين العينين، ضاربة أجنحتها حولك بعنف وسرعة، في حين أن الآخيين الأمجاد سيحتفلون بدفني عندما أموت!»
وبينما هو يقول ذلك، جذب الرمح المكين - رمح سوكوس الحكيم القلب - من جلده ومن درعه المرصعة. فلما انتزع تدفق الدم فعكر صفو روحه. غير أن الطرواديين العظيمي الهمم لم يكادوا يشاهدون دم أوديسيوس حتى نادوا بعضهم بعضا وسط الجمع، واندفعوا نحوه كلهم معا، ولكنه كان قد ترك المكان وصاح مناديا زملاءه. صاح ثلاث مرات بأعلى صوت يصدر عن رأس إنسان.
4
وثلاث مرات سمع «مينيلاوس» - حبيب أريس - نداءه، فخاطب لفوره «أياس»، الذي كان قريبا منه، قائلا: «يا أياس، أيها المنحدر من زوس، يا ابن تيلامون، قائد الجيش، إن صيحة أوديسيوس، ذي القلب الراسخ لترن في أذني، كما لو كان الطرواديون قد مزقوه في العراك الطاحن وتغلبوا عليه وهو بمفرده. هيا، تعال، لنشق طريقنا خلال الحشد، فمن الخير أن نوافيه بالمعونة . وأخشى أن يكون قد أصابه سوء وهو وحيد وسط الطرواديين، رغم ما هو عليه من شجاعة، فعندئذ يحزن الدانيون على فقده ويجتاحهم شوق عظيم نحوه.»
وبينما كان يقول هذا، اندفع فتبعه أياس، الشبيه بالإله، وأخيرا وجدا «أوديسيوس» حبيب زوس، وقد التف حوله الطرواديون يهاجمونه، كما تهاجم بنات آوى النحاسية اللون ظبيا مقرنا كان قد جرح لتوه بعد أن ضربه رجل بسهم من قوسه، فانطلق هذا الظبي ينشد الفرار فزعا، والدم يتدفق منه ساخنا، وقد أطلق العنان لركبتيه السريعتين، حتى إذا أوهنه الرمح السريع أخيرا، أخذت بنات آوى المفترسة تمزقه وسط الجبال في كهف ظليل، ولكن الرب ساق إليها - لسوء حظها - ليثا كاسرا، شتت شملها فانطلقت هاربة، ليمزق الليث بنفسه الفريسة! ... هكذا راح الطرواديون الكثيرون الشجعان يهاجمون، من كل حدب وصوب أوديسيوس العاقل الماكر، ولكن المحارب كان يدفع عنه يوم المصير المشئوم بالطعن برمحه. وعندئذ اقترب «أياس» حاملا ترسه الشبيه بسور مدينة، ووقف لتوه إلى جانبه، فتشتت الطرواديون هاربين، واحدا هنا، وواحدا هناك، وأخذ مينيلاوس، المحب للقتال، أوديسيوس بعيدا عن الجمع، ممسكا بيده، إلى أن أحضر إليهم الخادم الجياد والعربة.
عندئذ انقض «أياس» على الطرواديين وقتل «دوروكلوس بن بريام» السفاح، وبعده ضرب «باندوكوس» طعنا بالقنا، وكذلك فعل مع «لوساندر» و«يوراسوس» و«بولارتيس».
إصابة «ماخاوون» و«يوروبولس»
وكما يحدث عندما يغمر السهل نهر في حالة فيضان، أو إعصار شتوي من الجبال مشحون بأمطار زوس، فيجرف تياره كثيرا من أشجار البلوط الجافة وكثيرا من أشجار الصنوبر، ويلقي في البحر بكميات كبيرة من الطمي، هكذا هجم «أياس» المجيد ثائرا على السهل في ذلك اليوم، يطيح برءوس الجياد والرجال. ولم يكن «هكتور» قد عرف بعد شيئا من هذا؛ لأنه كان يقاتل في أقصى شمال الميدان بالقرب من شواطئ نهر سكاماندر، حيث كانت رءوس المحاربين تتساقط غزيرة، وحيث انبعثت صيحة لا تخمد حول «نسطور» العظيم، و«أيدومينيوس» الصنديد، فأثارت ثائرة هكتور، وطفق يقوم بأعمال فظيعة بالرمح والفروسية، فشتت فرق الشباب. ومع ذلك فإن الآخيين العظماء أبوا أن يستسلموا له بحال ما، لولا أن «باريس» - زوج هيلينا الجميلة الشعر - أوقف «ماخاوون»، راعي الجيش، في معمعة أعماله الجريئة، إذ أصاب كتفه اليمنى بسهم ذي ثلاثة أسنة. عندئذ امتلأ الآخيون - الذين كانوا يقاتلون بثبات جزعا على رئيسهم؛ خشية أن يقتله الرجال في تأرجح كفة القتال. وفي الحال وجه «أيدومينيوس» الخطاب إلى «نسطور» العظيم، قائلا: «أي نسطور، يا ابن نيليوس، يا مجد الآخيين العظيم. هيا، اصعد إلى عربتك، ودع «ماخاوون» يركب إلى جانبك، وانطلق بجيادك القوية الحوافر نحو السفن؛ إذ إن الحاجة الماسة إلى موافاة كثير من الرجال بالعلق وبالعقاقير المسكنة، لعلاج الجراح التي خلفتها السهام.»
هكذا تكلم، فلم يحجم الفارس «نسطور» الجيريني عن الإصغاء. وفي الحال - صعد إلى عربته، وصعد إلى جانبه ماخاوون بن إسكليبيوس، الطبيب الذي لا مثيل له، ولم يكد يلمس الجوادين بالسوط، حتى انطلقا لا يعوقهما شيء عن الجري صوب السفن الخاوية، لأنهما كانا متلهفين على الوصول إلى هناك.»
بيد أن «كيبريونيس» أبصر الطرواديين وهم يولون الأدبار في فوضى، بينما كان واقفا إلى جوار «هكتور» في عربته، فقال له: «أي هكتور، لقد انبرى كلانا للدانيين هنا، في حدود الحرب المفجعة، بينما يفر الطرواديون الآخرون في حدود الحرب المفجعة، بينما يفر الطرواديون الآخرون في فوضى ما بعدها فوضى، رجالا وخيولا. إن أياس بن تيلامون هو الذي يكتسحهم أمامه، وإنني لأعرفه جيدا بالدروع العريضة التي يضعها حول كتفيه. فهلم بنا ننطلق إلى هناك بجيادنا وعربتنا، حيث يعمل الفرسان والمشاة التقتيل، بعضهم في بعض، متبارين في سباق شرير، وصيحة الحرب لا يفتر لها انبعاث.»
وبينما كان يقول ذلك ضرب الجياد الجميلة الأعراف، بالسوط المقعقع، فلما أحست بالضربة، انطلقت بالعربة السريعة وسط الطرواديين والآخيين، تطأ القتلى والدروع، فلطخ الدم محور العربة. كما تضرجت حوافها بقطرات الدماء التي تناثرت من حوافر الخيل والعجلات. وكان هكتور متلهفا إلى الدخول في حشد الرجال، وإلى أن يقفز وسطهم فيشتتهم، فأحدث في وسط الدانيين طنين حرب شريرة، ولم يجد رمحه أقل راحة. نعم، لقد انطلق في صفوف المحاربين، مدججا بالرمح والسيف والصخور الضخمة، فلم يتجنب سوى منازلة أياس بن تيلامون.
وهنا أخذ الأب «زوس»، المتربع على عرشه عاليا، يستحث أياس على الفرار، فوقف هذا مشدوها، وقد ألقى ترسه ذا الطبقات السبع من جلد الثور، فوق ظهره. وألقى نظرة حسيرة على الجمع ثم ولى الأدبار، كحيوان مفترس لا يكف عن التلفت خلفه، وهو يتقهقر ببطء خطوة فخطوة، وكما تسوق الكلاب والفلاحون الأسد الهزيل من حظيرة الأبقار، فلا يمكنونه من نيل أسمن ما في القطيع الذي تولوا حراسته الليل بطوله، ولكنه من فرط حاجته إلى اللحم يقتحم الحظيرة، فلا يحظى بشيء؛ لأن الأيدي القوية تمطره وابلا من السهام، ومعها جذوات النار المستعرة، فتخور أمامها عزيمته، مهما تكن لهفته إلى الطعام، وينصرف عند الفجر خائبا حزين القلب، هكذا أيضا تقهقر «أياس» هاربا أمام الطرواديين بقلب مكمود، على غير هوى منه؛ إذ كان شديد الخوف على سفن الآخيين. وكما يحدث عندما يمر حمار على حقل قمح فينال من الأولاد العديدين ما يكره، حمار خامل تكسرت على ضلوعه هراوات كثيرة، ولكنه يمضي يعيث فسادا في الحبوب الوفيرة، فيضربه الأولاد بالهراوات رغم ضآلة قوتهم، ثم يتمكنون بصعوبة من طرده بعد أن يكون قد تناول كفايته من العلف، هكذا أيضا راح الطرواديون ذوو القلوب الجسورة وحلفاؤهم الذين جمعوا من عدة أراض، يضربون «أياس» العظيم ابن «تيلامون»، بالرماح فوق ترسه مباشرة، ويضيقون عليه الخناق باستمرار، ولكن «أياس» كان لا يلبث أن يتذكر شجاعته الثائرة، فيستدير نحوهم ويوقف فرق الطرواديين مستأنسي الخيول، وكان في بعض الأحيان يدور على أعقابه هاربا. بيد أنه أوقفهم جميعا ومنعهم من بلوغ السفن السريعة، ثم وقف هو نفسه بين الطرواديين والآخيين، يقاتل بحماس. وكانت الرماح التي قذفتها الأيدي القوية قد تركز بعضها في ترسه الضخم وهي تشق طريقها إليه: بينما انغرس كثير منها في الأرض قبل أن تصل إلى جسمه الأبيض، ودون أن تشبع غليلها من اللحم.
حتى إذا رآه «يوروبولوس» المجيد - ابن «يوايمون» - يكافح تحت وابل من السهام، أقبل يقف إلى جانبه، وقذف رمحه المتألق، فأصاب «أبيساون بن فاوسيوس» - راعي الجيش - في كبده أسفل عضلة الحجاب الحاجز، وفي الحال خارت ركبتاه، فانقض «يوروبولوس» عليه، وتأهب لتجريد كتفيه من السلاح. فما إن شاهده «باريس» الشبيه بالإله، وهو ينزع سلاح «أبيساون» حتى جذب قوسه في الحال ضد «يوروبولوس»، وقذفه بسهم في فخذه اليمنى، فانكسرت قصبة السهم، ومع ذلك فقد ثقلت فخذه. وإذ ذاك تحول راجعا إلى حشد زملائه، مجتنبا مصيره. ثم أطلق صيحة مدوية، ونادى على الدانيين بقوله: «أصدقائي، قادة وحكام الأروجسيين، هلموا، قفوا، وأبعدوا يوم الموت المشئوم عن أياس الذي تكاثرت عليه السهام، ولست أظن أنه سينجو من الحرب الأليمة. هيا، هلموا، قفوا وواجهوا العدو حول أياس العظيم، ابن تيلامون.»
هكذا قال «يوروبولوس» الجريح، فهبوا إليه يقفون بالقرب منه. وقد أسندوا تروسهم إلى أكتافهم، وشهروا رماحهم، فأقبل «أياس» نحوهم، ولما وصل إلى حشد زملائه، استدار ووقف بينهم. «أخيل» يوفد باتروكلوس إلى «نسطور»
هكذا قاتلوا كالنار المتأججة، ولكن جياد «نيليوس»، المبللة كلها بالعرق، حملت «نسطور» بعيدا عن المعركة، كما حملت «ماخاوون»، راعي الجيش. فأبصر به «أخيل» السريع القدمين ولاحظه؛ إذ كان واقفا بجانب مقدم سفينته الكبيرة الحجم، يتأمل الكفاح الدائر في المعركة، والصخب المبكي. وفي الحال تحدث إلى زميله «باتروكلوس»، وناداه من جانب السفينة، فسمعه هذا وأقبل لتوه من الكوخ وكأنه «أريس»، وكان هذا بالنسبة له بداية الشر. وبادر ابن مينويتيوس قائلا: «لم تستدعيني يا أخيل؟ ماذا تريد مني؟»
فأجابه أخيل، السريع القدمين، بقوله: «أيا ابن مينويتيوس العظيم، أيها العزيز على قلبي هذا، الآن أعتقد أن الآخيين سيكونون جاثين على ركبهم يصلون، إذ ألحت بهم الحاجة، وأصبحت الحال لا تطاق لأكثر من ذلك؛ لذا انطلق الآن يا باتروكلوس، يا حبيب زوس، واستفهم من نسطور عن هذا الذي يحضره جريحا من المعركة. وإذا شئت الحق فإنه يبدو من الخلف شبيها في كل شيء بماخاوون بن إسكليبيوس، ولكني لم أر عينيه، إذ أسرعت بي الجياد تعدو في لهفة إلى الأمام.»
هكذا قال، فأصغى «باتروكلوس» إلى زميله العزيز، وانطلق يعدو بجوار الأكواخ محاذيا سفن الآخيين. على أن الآخرين لم يكادا يبلغان كوخ ابن نيليوس حتى سارا في الحال على الأرض الفسيحة، وحل الخادم «يوريميدون» جياد «نسطور» الشيخ من العربة. وراح الاثنان يجففان العرق عن عباءتيهما وهما واقفان في النسيم على شاطئ البحر، ثم دخلا إلى الكوخ وجلسا فوق المقاعد. ومن أجلهما مزجت «هيكاميدي» - الجميلة الغدائر - شرابا، وهي التي كان نسطور العجوز قد سباها من «تينيدوس» عندما نهبها «أخيل». إنها ابنة «أرسينوس» العظيم القلب، وقد اختارها الآخيون لأنها كانت أعظم الجميع سدادا في الرأي.
ومدت الحسناء أمامها - بادئ ذي بدء - مائدة فاخرة، ذات سيقان من الميناء المتألقة، ووضعت عليها سفطا من البرونز، وبصلة لتكون «مزة» لشرابهما، وعسلا مصفى، ودقيقا من الشعير المقدس. وإلى جانبهما وضعت قدحا واسعة، كان الشيخ قد أحضرها من موطنه، مرصعة بزخارف ذهبية، ولها أربع أيد، حول كل منها زوج من اليمام يلتقط الحب، بينما كان في أسفلها دعامتان. وكان من الصعب على أي رجل غير «نسطور» أن يرفع هذه القدح عن المائدة، عندما تكون مملوءة. أما «نسطور» الشيخ فكان يرفعها فورا بسهولة. وفيها مزجت لهما المرأة، الشبيهة بالربات، شرابا من خمر «برامنية»، وبشرت عليها جبنا من لبن الماعز بمبشرة برونزية، ونثرت عليها من دقيق الشعير الأبيض، وطلبت إليهما أن يشربا، بعد أن انتهت من إعداد الشراب. فلما شربا وأطفآ ظمأهما المتأجج، لذت لهما الحكايات فأخذ كل منهما يتحدث إلى الآخر، ولكن «باتروكلوس» وقفت عند الأبواب، أشبه بالإله، فقفز الشيخ عند رؤيته عن مقعده اللامع، وقاده من يده إلى الداخل، وطلب إليه أن يجلس، ولكن «باتروكلوس» رفض الجلوس وهو واقف قبالته من بعيد، قائلا: «ليس لي أن أجلس، أيها السيد الشيخ، سليل زوس، وليس لك أن تحثني على ذلك. إنما المبجل والذي يجب أن يهاب هو الذي أرسلني ليعلم من ذا الذي جئت به إلى الوطن جريحا. أما أنا فإني أعرفه، فهو «ماخاوون»، راعي الجيش. والآن، اسمح لي بالعودة ثانية كرسول، أحمل النبأ إلى «أخيل». إنك تعرفه معرفة حقة، يا سيدي الشيخ، يا سليل زوس، وتعرف من أي نوع هو. إنه رجل صارم، أسهل شيء عنده أن يلوم حتى من لا لوم عليه!»
فأجاب الفارس نسطور الجيريني، قائلا: «لماذا يشفق أخيل هكذا على أبناء الآخيين الآن، بينما أصيب كثير منهم بالسهام؟ إنه لا يعلم ما ألم بجميع أرجاء المعسكر من حزن، فإن خيرة الرجال يرقدون وسط السفن، مضروبين بالسهام أو مصابين بجروح من طعنات الرماح. فقد أصيب ابن توديوس العتيد، وجرح أوديسيوس - ذلك البطل المشهور برمحه - بطعنة رمح. وكذا أجاممنون. كما أصيب «يوروبولوس» بدوره بسهم في فخذه. أما هذا الرجل الراقد إلى جانبي الآن، فقد حملته بعيدا عن ميدان القتال مصابا بسهم من وتر قوس. ومع ذلك فإن «أخيل» - رغم شجاعته البالغة لا يكترث للدانيين، ولا يحنو عليهم. أينتظر أن تحرق النار النهمة سفننا السريعة الواقفة عند البحر، رغما عن أنف الآخيين، وأن نقتل نحن رجلا بعد رجل؟ ذلك لأن قوتي ليست كما كانت من قبل في أطرافي الرخصة، ليتني كنت شابا وفي سابق قوتي عندما نشب القتال على أشده بين الأيليين وشعبنا، بسبب سرقة بعض الماشية. فلقد قتلت - إذ ذاك - أتومونيوس الشجاع، ابن هوبايروخوس - الذي كان يقيم في اليس يوم أن كنت أسوق ما غنمناه أخذا بالثأر - إذ بينما كان يقاتل من أجل الماشية، قذفته برمحي فأصاب وسط جبهته، فسقط يتردى، وفر الذين حوله من قومه فزعين مذعورين، فغنمنا منهم ما يفوق الحصر، وسقناه كلنا إلى خارج السهل: خمسين رأسا من البقر، وقطعانا من الأغنام لا تقع تحت حصر، وأسرابا عديدة من الخنازير، وقطعانا من الماعز كثيرة العدد متناثرة، ومائة وخمسين من الجياد العسجدية، كلها أفراس، وراء كثير منها صغار ترضع، سقنا كل ذلك إلى «بولوس» النيليوسية تحت جنح الظلام، وقدناها إلى داخل القلعة. فاغتبط نيليوس لأن كل هذه الغنيمة قد وقعت في يدي، أنا الذي ذهبت إلى الحرب وأنا بعد فتى يافع. وعند ذاك أعلن المنادون بصوت جهوري - عندما لمع الفجر في أفق السماء - أن يحضر إلى أليس العظيمة كل دائن. ثم اجتمع سائر قادة «البوليين»
5
وقاموا بتقسيم الغنائم لأن «الأيبيين» كانوا مدينين للكثيرين، إذ كنا قلة في «بولوس» ومضطهدين، نظرا لأن هرقل العتيد كان قد جاء وضيق الخناق علينا في السنوات السابقة، وقتل منا جميع من كانوا أشجعنا. وكنا نحن - أبناء نيليوس المنقطع النظير - اثني عشر، فلم يبق سواي، ومات الباقون جميعا؛ ومن ثم فإن الأيبيين المتسربلين بالبرونز - والمفعمي القلوب زهوا من جراء ذلك - راحوا ينسجون لنا الشر ظلما وطغيانا. فاختار الشيخ نيليوس لنفسه من الغنيمة قطيعا من الأبقار، وقطيعا كبيرا من الأغنام، منتقيا ثلاثمائة رأس، برعاتها، إذ كان دائنا لهم بدين بالغ في أليس العظيمة، هو عبارة عن أربعة جياد من الفائزة في السباق، وعربتها، كانت قد ذهبت إلى أليس لتشترك في سباق على ركيزة، ولكن «أوجياس» ملك البشر احتفظ بها هناك، وأعاد سائقها، حزينا على جياده. فحنق الشيخ من جراء هذه الأمور، سواء الأفعال أو الأقوال، وانتقى لنفسه تعويضا يفوق الوصف. أما الباقي فأعطاه للشعب ليقسموه فيما بينهم بالتساوي؛ ومن ثم فقد رحنا نوزع كل ما كان هناك. وكانت توجد حول المدينة ذبائح لتقدم إلى الآلهة. وفي اليوم الثالث احتشد، بسرعة فائقة، جميع الأيبيين معا. رجال كثيرون وجياد قوية الحوافر، وفي وسطها راح «الموليونيس» الشقيقان يرتديان عدتيهما الحربيتين، بالرغم من أنهما كانا لا يزالان يافعين، لم يحنكا بعد في الأمور التي تتطلب شجاعة هوجاء. فأقام الجميع معسكرهم عند مدينة ثريويسا، والتل المنحدر - المشرفين على ألفايوس - في أقرب منطقة من «بولوس» الرميلة. وعقدوا العزم على تخريب ذلك المكان عن آخره. غير أنهم لم يكادوا ينتشرون في جميع نواحي السهل، حتى أقبلت علينا «أثينا» مسرعة من «أوليمبوس» ليلا، تحمل رسالة مؤداها أننا يجب أن نتأهب للمعركة، فلم يرفض الشعب الذي جمعته في «بولوس» أن يقاتل، بل كان تواقا إلى أن يخوض غمار المعركة في الحال، ولكن «نيليوس» لم يوافق على أن أسلح نفسي، فأخفى جوادي بعيدا، لأنه كان يظن أنني ما زلت غضا حتى ذلك الوقت، لا أدري شيئا من أمور القتال. ومع كل فقد استطعت - بالرغم من ذلك - أن أكون مبرزا بين فرساننا، مع أنني كنت أحارب راجلا؛ إذ هكذا نظمت أثينا القتال. وكنا نحن، فرسان البوليين، ننتظر الفجر اللامع على نهر مينيوس الذي يصب في البحر بالقرب من أريني. وكانت جموع المشاة تتبعنا باستمرار. ومن هناك وصلنا عند منتصف النهار، ونحن متدثرون بعدتنا الحربية، إلى مجرى ألفايوس المقدس، حيث نحرنا ذبائح عظيمة لزوس الأكبر في قوته، وثورا لألفايوس، وثورا لبوسايدون. أما «أثينا» ذات العينين النجلاوين فقد ذبحنا لها عجلة من القطيع. وبعد ذلك تناول الجيش بأسره العشاء في جماعات، واستلقينا لننام، كل رجل في عدته الحربية، حول مجاري النهر المائية. غير أن الأيبيين العظيمي الهمم كانوا يسيرون حول المدينة، تواقين إلى تخريبها عن بكرة أبيها. إلا أنه لاح لهم أن دون ذلك جهدا حربيا جبارا. فلما طلعت الشمس الساطعة على الأرض، صلينا لزوس وأثينا، ثم اشتبكنا في القتال. فلما بدأ صراع البوليين والأيبيين، كنت أول من فاز بقتل غريمه، وأول من استولى لنفسه على جوادي هذا الغريم القويي الحوافر. وكان غريمي هو الرماح «موليوس»، الابن الشرعي لأوجياس، وكان قد تزوج ابنته الكبرى، «أجاميدي» الجميلة الشعر، تلك التي كانت عالمة بجميع الأعشاب التي تنبتها الأرض الفسيحة. فبينما كان مقبلا نحوي، طعنته برمحي البرونزي الطرف، فسقط يتخبط في الثرى. وقفزت فوق عربته، واتخذت وقفتي بين محاربي المقدمة. فاضطر الأيبيون العظيمو الهمم - حين أبصروا الرجل يتردى - إلى الفرار، واحدا إلى هنا، وآخر إلى هناك، حتى قائد الفرسان المبرز في القتال، ولكني هجمت عليهم كالإعصار القاتم، وغنمت خمسين عربة، وتركت حول كل عربة محاربين يعضان الأرض، صريعي رمحي. وكان في مقدوري عندئذ أن أقتل الأخوين «موليونيس» معا، وهما اللذان كانا من دم «أكتور »، لولا أن أباهما، مزلزل الأرض الواسع السلطان، أنقذهما من القتال، وأخفاهما في ضباب كثيف. وما لبث زوس أن بث قوة عظيمة في رجال «بولوس»، لأننا طاردناهم بعد ذلك خلال السهل الفسيح، وشرعنا نقتل الرجال، ونستولي على عدتهم الحربية الرائعة، إلى أن ذهبنا بجيادنا إلى بويراسيوم، الغنية بالقمح، وإلى صخرة أولين، والمنطقة التي يوجد فيها التل المسمى تل أليسيوم، الذي عادت «أثينا» عنده لترد الجيش عن القتال. وإذ ذاك قتلت آخر رجل وتركته ولكن الآخيين عادوا بجيادهم السريعة من بويراسيوم إلى بولوس، وراحوا جميعا يمجدون زوس بين الآلهة، ونسطور بين البشر.
هكذا كانت حالي بين المحاربين، وهكذا كنت على الدوام، ولكن «أخيل» وحده هو الذي كان بوسعه أن يفيد من شجاعته. نعم، إنني أعتقد حقا أنه سيبكي بكاء مرا بعد ذلك، عندما يبيد الشعب. آه يا صديقي، أتذكر ما أمرك به «مينويتيوس»، يوم أن أرسلك من فثيا إلى «أجاممنون»، وكنت أنا و«أوديسيوس» العظيم في الداخل، فسمعنا في الأبهاء كل شيء، وهو يصدر إليك الأمر. إذ جئنا إلى بيت بيليوس المتين البناء، وقد جمعنا الجيش من سائر ربوع أرض أخايا الفسيحة. فوجدنا في المنزل هناك المحارب «مينويتيوس»، كما وجدناك أنت، وبصحبتكما «أخيل». وكان الشيخ بيليوس سائق العربات يحرق فخذي ثور سمين في حظيرة القصر، لزوس الذي يقذف بالصاعقة، وقد حمل في يده كأسا ذهبية، يصب منها الخمر المتألقة، كي تلازم القرابين المحروقة. وكنتما مشغولين حول لحم الثور، فوقفنا ذليلين عند الباب. واستولت الدهشة على «أخيل» فوثب إلينا من مكانه، وأمسك بأيدينا، وقادنا إلى الداخل حيث أمرنا بالجلوس. كما قدم لنا طعاما وافرا. طعاما يليق بالأضياف، فلما تناولنا كفايتنا من الطعام والشراب، كنت أول من تكلم. طلبت إليكما أن تنضما إلينا، فإذا بكما تتحمسان معا لذلك. فأصدر هذان الاثنان إليكما كثيرا من الأوامر. أمر الشيخ بيليوس ابنه «أخيل» بأن يكون أشجع القوم على الدوام، وأن يكون مبرزا على الجميع. وأصدر إليك مينويتيوس بن أكتور، أمره قائلا: «يا طفلي بالمولد، إن أخيل يرجحك نبلا، ولكنك تكبره سنا. وإنه ليفوقك قوة وبطشا بمراحل، ومع ذلك، فهل لك أن تتحدث إليه بالحسنى وبالحكمة وتقدم له النصح، وترشده، ولسوف يكون لك مطيعا من أجل مصلحته.» هكذا أمرك الرجل المسن، ولكنك تنسى! ومع كل، فهل لك الآن أن تتحدث هكذا إلى «أخيل»، الحكيم القلب، عسى أن يستمع لنصحك؟ ومن يدري، فقد تستطيع، بمعونة السماء، أن تثير نفسه بحديثك، فإن إثارة حماس الصديق أمر محمود. أما إذا كان يتحاشى، في سريرته، نبوءة ما، أو إذا كانت أمه الجليلة قد أعلنته بشيء من لدن زوس، فدعه مع ذلك يرسلك إلى الأمام، ودع بقية جيش «المورميدون» تتبعك، لعلك تستطيع أن تحقق بعض الخلاص للدانيين. ودعه يعطك عدته الحربية الرائعة، كي ترتديها في القتال، حتى يظنك الطرواديون «أخيل» نفسه، وبذلك ينأون عن المعركة، فيتمكن أبناء الآخيين الجسورين من أن يتنفسوا الصعداء، رغم ما هم عليه من تعب، نظرا لأن وقت الراحة قليل في المعركة. وعلى ذلك تستطيعون أنتم، يا غير المتعبين، أن تدفعوا - بسهولة - الرجال المتعبين من ميدان القتال إلى الوراء، إلى المدينة، بعيدا عن السفن والأكواخ.»
هكذا قال، فأثار الحمية في قلب «باتروكلوس»، فطفق يجري بمحاذاة صف السفن حتى بلغ أخيل بن أياكوس. بيد أنه لما وصل باتروكلوس في جريه إلى سفن «أوديسيوس»، الشبيه بالإله، حيث كان مكان اجتماعهم ومكان توزيع الأقدار والمصائر، وحيث كانوا قد شيدوا مذابح للآلهة، هناك التقى مع يوروبولوس، سليل زوس وابن يوايمون، مصابا في فخذه بسهم، وهو يعرج خارجا من المعركة. وكان العرق يتصبب من رأسه وكتفيه كأنه الأنهار المتدفقة، بينما كان الدم القاتم ينبثق من جرحه الخطير. على أن نفسه لم تكن قد اهتزت. فلما أبصره ابن مينويتيوس على تلك الحال، رثى لحاله وأشفق عليه، وأخذته العبرات وهو يقول له بكلمات مجنحة: «أسفي عليكم أيها المساكين، يا قادة وسادة الدانيين. إذن فهكذا قدر لكم، أن تشبعوا كلاب طروادة السريعة بلحومكم البيضاء، بعيدا عن أصدقائكم ووطنكم. ولكن، خبرني يا يوروبولوس، أيها المقاتل المنحدر من زوس ، هل ما زال في استطاعة الآخيين أن يصدوا «هكتور» القوي، أم أنهم سوف يبيدون مقتولين برمحه؟»
فأجابه «يوروبولوس» الجريح، بقوله: «لن يكون هناك بعد الآن يا «باتروكلوس»، يا سليل زوس، أي دفاع للآخيين، فإنهم سوف يلقون بأنفسهم فوق السفن القاتمة؛ لأن جميع من كانوا في الماضي شجعانا صناديد، يرقدون الآن بين السفن مصابين بالسهام أو مجروحين بطعنات رماح الطرواديين، الذين تزداد قوتهم باطراد، ولكن هل لك أن تساعدني، فتقودني إلى سفينتي السوداء، وتخرج السهم من فخذي، وتغسل عن جرحي الدم القاتم بالماء الدافئ، وتضع عليه العقاقير الطبية الشافية، التي يقول الناس إنك قد تعلمت خصائصها من «أخيل»، الذي تعلمها بدوره من «خايرون»،
6
أعظم وحش «قنطور» في البر؟ فإن الطبيبين «بودالايريوس» و«ماخاوون» - على ما أعتقد - يرقد أحدهما جريحا وسط الأكواخ، في مسيس الحاجة إلى طبيب نطاسي، بينما يسهر الآخر وهو يقاوم في معركة الطرواديين الحامية.»
فقال ابن مينويتيوس الجسور: «كيف يمكن لهذه الأمور أن تحدث؟ وماذا ترانا فاعلين أيها المحارب «يوروبولوس»؟ إنني ذاهب الآن لأخبر أخيل، الحكيم القلب، بما كلفني به نسطور الجيريني، الحامي حمى الآخيين. ومع ذلك فإنني لن أتركك على هذه الحال الخطيرة.»
قال هذا، وأمسك راعي الجيش من تحت صدره، وأسنده حتى أوصله إلى كوخه، فلما رآهما خادمه، فرش على الأرض جلود الثيران، ونزع السهم الحاد الطرف من فخذه بسكين، وغسل الدم الأدكن عن الجرح بالماء الدافئ، ووضع فوقه جذورا مرة بعد أن فركها بين يديه. جذورا تقتل الألم. وبذا أزال جميع أوجاعه، وجف الجرح، وامتنع نزف الدم.
الأنشودة الثانية عشرة
«... وكانوا كثرة في العدد، ووفرة في الشجاعة، وكلهم مشوق إلى اقتحام السور، وإحراق السفن، ولكنهم ظلوا مترددين؛ لأن طائرا حلق فوقهم، وفي مخالبه ثعبان ضخم ...»
كيف اقتحم الطرواديون وحلفاؤهم سور الآخيين ... إلخ؟
مهاجمة سور الآخيين!
وهكذا كان ابن مينويتيوس الجسور يمرض «يوروبولوس» الجريح، وسط الأكواخ، بينما كان غيره من الأرجوسيين والطرواديين يتقاتلون في جماعات، ولم يعد خندق الدانيين - ومن فوقه سورهم العريض - يحميانهم طويلا. ذلك السور الذي بنوه للدفاع عن سفنهم، وحفروا من حوله خندقا - وإن لم يقدموا الذبائح المئوية للآلهة - كي يضعوا في حدوده سفنهم السريعة وغنائمهم الوفيرة، ويصونوا كل شيء . على أن بناءه كان ضد إرادة الآلهة الخالدة؛ لذلك فإنه لم يمكث طويلا دون تحطيم. فطالما كان «هكتور» حيا، و«أخيل» سادرا في غضبه، ومدينة الملك «بريام» قائمة دون أن تخرب، فإن سور الآخيين العظيم ظل كذلك سليما غير محطم، أما حين مات جميع الطرواديين الفائقي الشجاعة، وكثير من الأرجوسيين - الذين قتل بعضهم وبقي البعض الآخر - ونهبت مدينة «بريام» في السنة العاشرة وعاد الأرجوسيون ثانية في سفنهم إلى وطنهم العزيز، إذ ذاك تشاور «بوسايدون» مع «أبولو» في إزالة ذلك السور، بأن تسلط عليه قوة جميع الأنهار التي تنبع من جبال أيدا وتصب في البحر: ريسوس، وهيبتابوروس، وكاريسوس وروديوس، وجرانيوكس، وأيسيبوس، وسكاماندر العظيم، وسيمويس، التي سقطت على شطآنها تروس كثيرة من جلد الثور هوت فوق الثرى، وخوذات عديدة، وكذا صنف من الرجال أنصاف الآلهة. فحول الإله «أبولو» مصبات هذه الأنهار معا، ولمدة تسعة أيام راح يسلط فيضانها ضد السور، كما ظل «زوس» يرسل المطر سيولا بغير انقطاع، لكي يتم اكتساح السور بمزيد من السرعة نحو البحر المالح. وكان مزلزل الأرض نفسه يحمل في يديه شوكته ذات الشعب الثلاث، ويقود العمل بنفسه، فيجرف جميع الدعامات الخشبية والحجرية التي تعب الآخيون في إرسائها، قاذفا بها وسط الأمواج، حتى جعل كل شيء ممهدا طريق مجرى الهيليسبونت القوي، ومن جديد غطى الشاطئ العظيم بالرمال، بعد أن اكتسح السور بعيدا، وأعاد الأنهار ثانية لتجري في المجاري التي اعتادت من قبل أن تصب فيها مياهها العذبة.
هذا ما صمم بوسايدون وأبولو أن يفعلاه فيما بعد.
1
وأما إذ ذاك، فقد ظلت نار الحرب متأججة، وحمي وطيسها وطنينها حول السور المتين البناء، وراحت دعامات القلاع تدوي، كلما أصيبت. وظل الأرجوسيون - وقد غلبتهم نقمة «زوس» على أمرهم - محاصرين بجوار سفنهم الخاوية، وشلت حركتهم ذعرا من «هكتور»، مدبر الشغب القوي، الذي راح يقاتل كسابق عهده ، في قوة بالغة، كأنه الإعصار الهائج. وكما يحدث عندما يدور خنزير بري أو ليث وسط الكلاب والصيادين هنا وهناك، مزهوا بقوته، فيصطف هؤلاء في صفوف على شكل جدار ويقفون في مواجهته، يمطرونه بوابل من الرماح السريعة من أيديهم، دون أن يهن أو يغشى الخوف قلبه الجريء، رغم أن جرأته قد تجر عليه هلاكه، فيظل دائم الدوران هنا وهناك، يعجم أعواد صفوف الرجال، فيتقهقر هؤلاء في المكان الذي يهجم فيه. هكذا ظل «هكتور» يجوس خلال الحشد ويهيب برجاله ويحثهم على عبور الخندق. ومع كل فإن جياده السريعة الأقدام لم تجرؤ، بل راحت تصهل بصوت مرتفع، وهي واقفة على الجرف العمودي، مذعورة من الخندق؛ إذ كان عظيم الاتساع، ولم يكن من السهل اجتيازه وثبا، كما أنه لم يكن من اليسير القيادة عبره؛ لأن حافتيه الشاهقتين كانتا تقومان على جانبي هوة سحيقة - على هذا الجانب وذاك - كما كانت تحيط بقمته أوتاد مدببة غرسها أبناء الآخيين متقاربة بعضها مع بعض، وضخمة الحجم، كدفاع ضد العدو. وهكذا لم يكن من اليسير على جواد يجر عربة ذات عجلات أن يدخل إلى ذلك الممر، ولكن المشاة كانوا يتمنون أن يحققوا ذلك. عندئذ اقترب «بولوداماس» من «هكتور»، وتحدث قائلا: «أي هكتور، ويا قادة الطرواديين وحلفاءهم الآخرين، إنه لمن الحماقة البحتة أن نحاول قيادة جيادنا السريعة عبر الخندق، فإن اجتيازه من العسير حقا، لأن على جانبيه أوتادا مدببة، وبالقرب منه سور الآخيين. كما أنه ليس في وسع رجال العربات أن يترجلوا هناك ويقاتلوا، لأن المسافة ضيقة؛ لذا أعتقد أننا سنلقى الأذى. فإذا كان «زوس»، الذي يرعد عاليا، مصمما على هلاك أعدائنا هلاكا تاما - في سورة غضبه وينتوي مساعدة الطرواديين - فإنني أتمنى كذلك أن يتحقق هذا سريعا، فيهلك الآخيون هنا بعيدا عن أرجوس، ولا يكون لهم اسم. أما إذا انقلبوا علينا وصدونا عن السفن، ووقعنا في شرك ذلك الخندق المحفور، عندئذ أعتقد أنه لن يقدر لرجل واحد منا أن يعود إلى المدينة من أمام الآخيين إذا ما استجمعوا قواهم، ليحمل الأنباء إليها، والآن، هيا ولنصدع جميعا بما آمر به. أما الجياد فليبتعد بها الخدم عن الخندق، وهلم نمشي على أقدامنا، متسربلين في عدتنا الحربية. ولنسر جميعا في حشد واحد وراء هكتور، وعندئذ لن يقاومنا الآخيون إذا ما أحكمنا عليهم قيود الهلاك!»
هكذا قال «بوليداماس»، فسر هكتور من مشورته السديدة أيما سرور، وقفز في الحال من عربته إلى الأرض في عدته الحربية. ولم يبق الطرواديون الآخرون محتشدين معا فوق عرباتهم، ولكنهم قفزوا جميعا كذلك بمجرد أن أبصروا هكتور العظيم على قدميه. وأخذ كل رجل يأمر سائقه أن يكبح جماح جياده جيدا، ويقف عند الخندق بنظام. ثم قسم الرجال أنفسهم واصطفوا، وساروا في خمس فرق وراءه القادة.
وذهب فريق مع «هكتور» و«بوليداماس» المنقطع النظير. وكان أولئك من أشجع الرجال وأكثرهم تحفزا إلى اقتحام السور والقتال بجانب السفن الخاوية. وتبعهم «كيبريونيس» كقائد ثالث، ترك هكتور رجلا آخر بجانب عربته، أضعف من «كيبريونيس». وكانت الجماعة الثانية بقيادة «باريس» و«الكاثوس»، و«أجينور» والثالثة بقيادة «هيلينوس» و«دايفوبوس» الشبيه بالإله - وكلاهما ابن بريام - ومعها مقاتل ثالث، هو المحارب «أسيوس بن هورتاكوس»، الذي كانت جياده السمراء الضخمة قد حملته من أريسبي، من نهر سيليس. أما الجماعة الرابعة فكان يقودها «أينياس» الشجاع، ابن «أنخيسيس»، وكان معه ولدا «أنتينور»؛ «أرخيلوخوس» و«أكاماس» الفائقان في سائر ضروب القتال. وقاد «ساربيدون» الحلفاء الأمجاد، واختار رفيقين له: «جلاوكوس» و«أستيروبايوس» الباسل، فقد بدا له أن هذين أشجع الباقين طرا، بعده هو. وما إن تذرع هؤلاء بتروسهم المتينة المصنوعة من جلد الثور، حتى ساروا فورا صوب الدانيين، في شوق جارف إلى القتال. ولم يكن في الحسبان أن شيئا ما قد يعرقل مسعاهم بعد ذلك، بل كانوا يعتزمون الانقضاض على السفن السوداء.
وهكذا أطاع بقية الطرواديين وحلفائهم الذائعي الصيت مشورة «بوليداماس» المبرأ من اللوم، ولكن «أسيوس بن هورتاكوس» قائد الرجال، لم يرغب في أن يترك جياده وخادمه السائق هناك، بل ساق العربة والجميع قريبا من السفن السريعة - فما أحمقه! - إذ إنه لم يكن مقدرا له أن ينجو من المهالك، ويعود مزهوا بجياده وعربته، من السفن إلى طروادة ذات الرياح. أجل، ولعل القدر - المنحوس الأصم - كتب له من قبل أن يطويه رمح أيدومينيوس المجيد، ابن ديوكاليون، فقد يمم شطر الجناح الأيسر للسفن، حيث كان الآخيون متلهفين إلى العودة من السهل بالجياد والعربات، فساق جياده وعربته إلى هناك، حتى بلغ الأبواب فلم يجدها مغلقة ولا المزلاج الطويل مثبتا في مكانه، بل كان الرجال قد فتحوها على مصاريعها، لعلهم يستطيعون أن ينقذوا من يمكنهم إنقاذه من رفاقهم الهاربين من المعركة إلى السفن.
هجوم «أسيوس»
وقاد جياده في طريق مستقيم إلى هناك، ومن خلفه رجاله يرسلون الصرخات الحادة؛ إذ ظنوا أنه لن يعود في وسع الآخيين صدهم، لأنهم سيخرون صرعى على سفنهم السوداء، فما كان أحمقهم! ذلك أنهم وجدوا عند الباب اثنين من المحاربين الرماحين اللابيثيين
2
ذوي الشجاعة الفائقة والجرأة البالغة. وكان أحدهما «بولوبويتيس» الصنديد، ابن «بايريثوس»، والآخر «ليونتيوس»، نظير أريس مصدر هلاك البشر. فوقف كل منهما ثابتا، أمام الباب المرتفع أشبه بشجرة البلوط الشامخة بقمتها العالية وسط الجبال، تلك التي تقاوم باستمرار الرياح والأمطار يوما بعد يوم، وقد تغلغلت جذورها الطويلة القوية في التربة فثبتتها، هكذا قاوم هذان البطلان هجوم «أسيوس»، معتمدين على قوة سواعدهما، ولم يهربا، ولكن أعداءهما أقبلوا مباشرة صوب السور القوي البناء، رافعين تروسهم المصنوعة من جلد الثور المتين، وهم يصيحون عاليا، والتفوا حول الملك «أسيوس» و«أيامينوس» و«أوريستيس»، و«أداماس بن أسيوس»، و«ثوءون»، و«أوينوماوس». فظل اللابيثيان وقتا يدفعان الآخيين المدرعين جيدا - من وراء السور - مقاتلين دفاعا عن السفن، ولكنهما حين رأيا الطرواديين يهجمون على السور، بينما أطلق الدانيون الصيحات المدوية وقد ولوا الأدبار، هجما في الحال، وحاربا أمام الباب كما تقاوم الخنازير البرية حشد الرجال والكلاب المنقضة عليها وسط الجبال، محدثة صخبا، إذ تندفع الخنازير من الجانبين محطمة الأشجار حولها، وتجتثها من جذورها، فتعلو قعقعة الأنياب، إلى أن يضربها أحد الرجال فيصرعها، هكذا قعقع البرونز اللامع حول صدريهما وهما يواجهان العدو ويستقبلان الطعنات. وراحا يقاتلان في عناء، معتمدين على الجيش وراءهما وعلى قوتهما الشخصية.
وراح الرجال وراءهما يقذفون الأحجار من القلاع المتينة البناء. دفاعا عن حياتهم وعن الأكواخ والسفن السريعة الإبحار. فأخذت الأحجار تتساقط على الأرض دون انقطاع، ككرات من الثلج تقذفها الرياح العاصفة، وهي تدفع أمامها السحب الدكناء في غزارة وسرعة فوق الأرض الفسيحة. هكذا انهمرت الرماح من أيدي الآخيين والطرواديين معا، وكانت الخوذات - وكذا التروس المطعمة - تقعقع في عنف كلما أصابتها الأحجار الكبيرة. عند ذلك تأوه «أسيوس بن هورتاكوس»، وضرب كلتا فخذيه، وصرخ بسخط شديد قائلا: «أبي زوس، ما من شك في أنك محب للأكاذيب! فما كنت أحسب أن مقاتلي الآخيين سيقاومون قوتنا وسواعدنا التي لا تقهر، ولكنهم أشبه بالزنابير الرشيقة الخواصر، أو أسراب النحل التي عششت في ممر وعر، فلا تترك بيتها الأجوف بل تبقى فيه لتدافع عن صغارها وتبعد عنها الصيادين، هكذا حال هذين الرجلين، فبالرغم من أنهما اثنان فحسب، إلا أنهما مصران على ألا يتزحزحا عن الباب إلا إذا قتلا أو قتلا!»
هكذا قال، ولكن كلماته لم تزحزح عقل زوس مصمما على ألا يعطي المجد إلا لهكتور!
وكان هناك رجال آخرون يقاتلون حول الأبواب الأخرى، إلا أنه من العسير على رغم أنني إله، أن أروي قصة كل هذه الأمور. فقد كانت ألسنة النار المتأججة، ذات السعير العجيب، ترتفع في كل مكان حول السور؛ لأن الأرجوسيين، رغم المحنة القاسية، راحوا يدافعون عن سفنهم ببأس. واغتنم جميع الآلهة الذين كانوا يساعدون الدانيين في القتال. واستبسل «اللابيثيون» في الحرب والصراع.
وما لبث «بولوبويتيس» القوي، ابن بايريثوس، أن قذف رمحه فأصاب «داماسوس» في خوذته ذات الحزام البرونزي. ولم توقف الخوذة البرونزية الرمح، بل اخترق طرفه البرونزي العظام فتناثر جميع المخ داخلها. وهكذا أوقفه في حماسه. ثم قتل «بولون» و«أورمينوس» بعد ذلك، وضرب ليونتيوس - نسل أريس - «هيبوماخوس بن أنتيماخوس» بطعنة من رمح، أصابته فوق حزامه. ثم استل «ليونتيوس» سيفه الحاد من غمده، وهجم وسط الحشد، فضرب «أنتيفاتيس » أولا في نزال محتدم إلى درجة أنه تقهقر إلى الوراء وسقط فوق الأرض. ولحق به «مينون» و«أيامينوس» و«أوريستيس»، إذ قتل كل هؤلاء واحدا بعد آخر، فتردوا فوق الأرض الفسيحة!
هجوم «هكتور»
وبينما كانوا يجردون هؤلاء من أسلحتهم البراقة، كان الشبان الذين تبعوا «بوليداماس» و«هكتور» - وكانوا كثرة في العدد ووفرة في الشجاعة، وكلهم مشوق إلى اقتحام السور وإحراق السفن بالنار - هؤلاء ظلوا مترددين، وهم واقفون بجانب الخندق؛ لأن طائرا حلق فوقهم، وهم متحمسون لعبور الخندق، وكان نسرا عالي التحليق، أقبل محاذيا للجيش من جهة اليسار، وفي مخالبه ثعبان ضخم في حمرة الدم، لا يزال حيا يصارع النسر، دون أن يكف عن القتال، بل كان ينحني إلى الوراء، ويضرب النسر - القابض عليه - في صدره وبجانب عنقه، حتى قذف به النسر إلى الأرض، وقد آلمه الوجع، وتركه يسقط وسط الجمع، وطار النسر نفسه وهو يطلق صرخات مدوية مع هبات الريح. فارتعد الطرواديون عندما أبصروا الثعبان يتلوى في وسطهم، علامة من زوس حامل الترس. واقترب «بوليداماس» من «هكتور» وخاطبه بقوله: «أي هكتور، لماذا تزجرني دائما في اجتماعات القوم، رغم أنني أسدي إليك النصح مخلصا؟ ومع أنه لا يليق بأي رجل من الشعب أن يجهر بما يخالف رأيك، سواء في المجلس أو في الحرب، وإنما عليه أن يؤيدك في كل شيء ويزيد من قوتك، إنني سأقول الآن ما أراه خيرا، لنكف عن قتال الدانيين من أجل السفن؛ لأنني أعتقد أن النتيجة ستكون على هذا النحو؛ فقد أقبل هذا الطائر فوق رءوس الطرواديين وهم يتلهفون إلى عبور الخندق، وكان نسرا عالي التحليق، مر فوق الجيش من الجانب الأيسر، وهو يحمل في مخالبه ثعبانا ضخما أحمر كالدم، ما زال حيا. ثم تركه يسقط قبل أن يصل إلى عشه، ولم يكن قد انتهى بعد من رحلته بالثعبان إلى أفراخه، هكذا نحن أيضا، فبالرغم من أننا نحطم الأبواب وسور الآخيين بقوتنا الهائلة، وإن الآخيين لا بد أن يتقهقروا، إلا أننا سنعود من السفن في نفس الطريق ، بغير نظام؛ لأننا سنترك وراءنا كثيرا من الطرواديين، يقتلهم الآخيون بالبرونز دفاعا عن السفن. هكذا يفسر الأمر أي عراف أوتي معرفة واضحة بالطيرة، ممن اعتاد القوم أن يصغوا إليهم.»
فقطب هكتور ذو الخوذة البراقة حاجبيه وحدجه بنظرة غاضبة، وقال له: «يا بوليداماس، لا يسرني قولك هذا إطلاقا، فإنك لتعرف كيف تصوغ من العبارات ما هو أفضل. أما إذا كنت جادا فيما تقول، فما من شك في أن الآلهة قد عبثت بعقلك؛ لأنني أرى أنك تأمرني بنسيان نصائح «زوس»، الذي يرعد عاليا، والذي وعدني بنفسه وأومأ برأسه تأييدا لوعده. فأنت الآن تأمرنا بأن نطيع الطيور الطويلة الجناح، التي لا أكترث بها ولا أفكر فيها، سواء أكانت تحلق إلى اليمين نحو الفجر والشمس، أو إلى اليسار نحو الظلمة الداجية. كلا، إن علينا أن نتمسك بمشورة زوس العظيم، ملك جميع البشر والخالدين ونطيعها. وليس هناك سوى فأل واحد، هو الأفضل، ذلك هو أن يقاتل المرء من أجل وطنه. ومن ثم، ففيم تخاف الحرب والقتال؟ لئن قتلت بقيتنا عن آخرها عند سفن الأرجوسيين، فلا خوف هناك من أن تهلك أنت؛ إذ إن قلبك ليس جريئا في القتال والحرب. ومع كل، فإذا كنت ستحجم عن القتال، أو تخدع بكلامك أي فرد آخر، وترده عن الحرب، فلسوف تفقد حياتك فورا برمحي!»
وما إن قال هذا حتى تقدم، فتبعه الجمع بطنين عجيب. وعند ذلك أثار زوس الذي يقذف بالصواعق ريحا من جبال أيدا، حملت التراب مباشرة نحو السفن، كما أنه حير عقول الآخيين، ومنح المجد للطرواديين و«هكتور». ومن ثم فإنهم سعوا - مطمئنين إلى آياته المبشرة، وإلى قوتهم - إلى تحطيم سور الآخيين العظيم. فجذبوا الأوتاد إلى أسفل وحطموا الاستحكامات، ونزعوا الدعامات الخشبية التي كان الآخيون قد دكوها أولا في الأرض، كدعامات للسور، وجهدوا في هدم كل ذلك أملا في تدمير سور الآخيين، ولكن الدانيين لم يتخلوا - رغم ذلك - عن الممر، بل بمقدمهم، فليأت أياس الجسور، ابن تيلامون، بمفرده على الأقل، وليتبعه تيوكر البارع في استخدام القوس.
وراح البطلان «أياس» يجوسان في كل مكان، على طول الجدران، يحثان الرجال ويرفعان من قوة الآخيين. وكانا يحمسان الرجال بعبارات رقيقة، ويوبخان - بألفاظ لاذعة - كل من أبصراه يتخاذل تماما عن القتال، قائلين: «أصدقاءنا، إن في الحرب لعملا للجميع، لكل مبرز وسط الدانيين، وكل من يحتل مكانا وسطا، أو درجة تقل عن هذين، فإن جميع الرجال في الحرب سواسية. وإني لأوقن من أنكم أنفسكم تعرفون ذلك، فلا تسمحوا لرجل بأن يدير ظهره للسفن بعد أن سمع الآن من يحضه ويحمسه. هيا، احملوا على العدو وليشجع بعضكم بعضا، أملا في أني يمنحنا زوس الأوليمبي - سيد البرق - القدرة على صد الهجوم وطرد عدونا إلى داخل المدينة!»
هكذا صاح الاثنان، فأذكيا معركة الآخيين. وكما تتساقط كرات الثلج كثيفة في أحد أيام الشتاء، عندما يبدأ زوس المستشار في إرسال الجليد - مظهرا للبشر من لدنه هذه السهام - ويطلق الرياح من عقالها، ويقذف كرات الثلج باستمرار، إلى أن يغطي ذؤابات الجبال الشامخة والأراضي المرتفعة، والسهول المعشوشبة، وحقول البشر الخصبة، ثم تنتشر الثلوج فوق الموانئ وشواطئ البحر السنجابي، ومع كل، فإن اللجة كلما اصطدمت بها أقصتها بعيدا، وتكتسي جميع الأشياء المحيطة بالثلوج التي تدفعها عاصفة زوس، هكذا راحت الأحجار، من الجانبين، تطير كثيفة في الهواء، بعضها على الطرواديين، والبعض الآخر من الطرواديين صوب الآخيين، وهم يتراشقون بعضهم ضد بعض، فتصاعد الهرج حول السور كله!
ومع ذلك، فما كان للطرواديين وهكتور المجيد أن يحطموا أبواب السور أو المزلاج الحديد الطويل - حتى ذاك الحين - لولا أن أرسل زوس المستشار ابنه «ساربيدون» ضد الأرجوسيين، كما لو كان هزبرا ضد أبقار ناعمة. وفي الحال حمل أمامه ترسه المتزن تماما من كل جانب، ترسا جميلا من البرونز المطروق صنعه الحداد وثبت داخله جلود ثيران عديدة بمسامير من الذهب كانت تحيط بحافته. هذا ما حمله أمامه، وأمسك بيده رمحين صار يلوح بهما، ثم شق طريقه كأنه ليث ترعرع في الجبال وطال به الشوق إلى اللحم، فسولت له نفسه الطامحة أن يذهب إلى الحظيرة المحكمة البناء ليقوم بهجوم على القطعان. وبالرغم من أنه قد يجد الرعاة هناك متفرغين لحراسة الأغنام بالكلاب والرماح، فإنه لا يرضى أن ينصرف من الحظيرة قبل أن يقوم بمحاولة؛ فإما أن يقفز وسط القطيع ويمسك بأحد خرافه، وإما أصابته طعنة من رمح في يد سريعة الحركة، وكأنه بطل من أبطال المقدمة. هكذا طفقت روح «ساربيدون» - شبيه الإله - تحثه على أن يهجم على السور ويحطم الاستحكامات.
هجوم «ساربيدون»
وفي الحال، توجه بالخطاب إلى «جلاوكوس بن هيبولوخوس»، بقوله: «أي جلاوكوس، لماذا يحظى كلانا بالتكريم في لوكيا دون الجميع: بالمقاعد والطعام، والكئوس المترعة، وينظر الناس جميعا إلينا كما لو كنا آلهة؟ أجل، وإننا لنمتلك فوق هذا ضيعة واسعة بالقرب من شواطئ كسانثوس، قطعة جميلة من البساتين والأرض المفلوحة المزروعة قمحا، ومن ثم يجب علينا الآن أن نقف وسط اللوكيين الذين في المقدمة، ونواجه المعركة المستعرة، حتى يقول أي من اللوكيين المتدثرين بالحديد: «حقا أن الذين يحكمون لوكيا ليسوا غير أمجاد، أعني ملوكنا الذين يأكلون الخراف السمينة ويشربون الخمر المنتقاة، الشهية كالعسل، أجل، وأن قوتهم كذلك لعظيمة؛ إذ يقاتلون وسط لوكيي الصفوف الأولى. آه يا صديقي، لو أننا نجونا من هذه المعركة لبقينا أبدا خالدين لا يحسب لنا عمر، وعندئذ فلن أحتاج بعد ذلك إلى أن أقاتل وسط الصفوف الأولى، ولن أضطر إلى إرسالك إلى المعركة حيث يفوز الرجال بالمجد. أما الآن - وأقدار الموت تطاردنا على أية حال، أقدار لا حصر لها، وليس لإنسان أن يفلت منها أو يتحاشاها، الآن، هلم بنا نذهب، سواء أتحنا المجد لغيرنا، أو أتاح لنا الغير مجدا».»
هكذا قال، فلم يزور عنه «جلاوكوس»، ولم يعص أمره، بل ذهبا لتوهما إلى الأمام، يقودان جيش اللوكيين العظيم. فارتعدت فرائص «مينيسثيوس بن بيتيوس» عند رؤيتهما؛ لأن بقعته من السور كانت هي البقعة التي أقبلا عليها يحملان معها الخراب. فتطلع مذعورا، على طول سور الآخيين، عسى أن يرى أحد القادة الذين قد يمنعون الهلاك عن زملائه. فرأى البطلين «أياس» اللذين لا يشبعان من القتال واقفين هناك، و«تيوكر» الذي أقبل حديثا من كوخه، بالقرب منهما. على أنه لم يكن من المستطاع بأية حال أن يصيح حتى يسمعوه، إذ امتلأ الجو بضجيج بالغ، وارتفع الصوت إلى عنان السماء، صوت التروس المصطكة والخوذات ذات الخصلات المصنوعة من شعر ذيل الخيل، وضجيج الأبواب وهي مغلقة جميعا والعدو أمامها، يحاول تحطيمها بالقوة، والدخول منها. وفي الحال أوفد الرسول «ثوءوتيس» إلى أيباس قائلا له: «اذهب يا ثوءوتيس العظيم، أسرع فاستدع أياس، أو بالحرى خير اثنين من المقاتلين؛ لأن الخراب الشامل لن يلبث أن يحل بنا قريبا، فإن قادة اللوكيين يضيقون الخناق علينا هنا، وقد اشتهروا من قديم الزمان بالعنف في المعارك الحامية. وإذا كانت حمية الحرب والنضال تستعر سدوا المتاريس بجلود الثيران. وراحوا يمطرون العدو منها بقذائفهم كلما هجم على السور!»
هكذا قال، فلم يتردد الرسول في إطاعة أمره، وانطلق يجري بجوار سور الآخيين المتدثرين بالبرونز، حتى جاء فوقف إلى جانب البطلين «أياس»، وقال في الحال: «أيا قائدي الآخيين المتدثرين بالبرونز، إن ابن بيتيوس - سليل زوس - يأمركما بالذهاب إلى هناك، كي يمكنكما مواجهة سورة الحرب - ولو لمدة قصيرة - كلاكما، إذا أمكن؛ لأنكما خير الجميع، حيث إن الخراب الشامل سيحل هناك حالا. فإن قادة اللوكيين يضغطون عليهم ضغطا عنيفا، وإنهم لمشهورون من قديم الزمان بالفظاعة في المعارك الطاحنة. وإذا ما قامت هنا أيضا الحرب والصراع، فليذهب أياس الجريء ابن تيلامون، بمفرده - على الأقل - وليتبعه تيوكر البارع في استخدام القوس.»
هكذا قال، فلم يتردد «أياس» التيلاموني العظيم في سماع قوله. وفي الحال خاطب ابن «أويليوس» بكلمات مجنحة، قائلا: «هيا أياس، هل لك أنت ولوكوميديس القوي، أن تثبتا هنا وتحثا الدانيين على القتال بعنف، فإنني ذاهب إلى هناك، لأواجه الحرب، وسأعود ثانية بسرعة، بعد أن أقدم لهم أقصى مساعدة.»
ما إن قال هذا، حتى انطلق «أياس» التيلاموني، يصحبه شقيقه «تيوكر» - المولود وإياه من أب واحد - يتبعهما «بانديون» يحمل قوس تيوكر المعقوفة. وما إن بلغوا - وهم يسيرون بمحاذاة السور من الداخل - مكان مينيسثيوس العظيم الهمة، ووصلوا إلى الرجال الذين ضيق عليهم الخناق، حتى كان العدو يعتلي الاستحكامات وكأنه الإعصار القاتم، يتقدمه قادة وحكام اللوكيين الأشداء، فاصطدموا معا في قتال عنيف وارتفعت صيحة الحرب.
عندئذ، كان «أياس بن تيلامون» أول من صرع غريمه - وهو «أبيكليس» العظيم الهمة، رفيق «ساربيدون» - إذ قذفه بصخرة ضخمة مسننة، كانت أعلى الصخور المجاورة للمتاريس، في داخل السور. ولم يكن من اليسير على أي رجل من البشر أن يمسك بكلتا يديه، ما لم يكن شابا وقويا، ولكن «أياس» رفعها إلى فوق، وطوح بها، فحطم الخوذة ذات القرون الأربعة، وحطم معها جميع عظام رأس «أبيكليس»، فهوى هذا من فوق السور المرتفع كأنه غواص، وفارقت روحه عظامه. أما تيوكر فضرب جلاوكوس الباسل، ابن هيبولوخوس، بسهم فوق السور المرتفع بمجرد أن هجم عليهما - إذ أبصر ساعده عارية بلا غطاء - وبذا كفه عن القتال. فقفز جلاوكوس سرا من فوق السور، حتى لا يلحظ أحد من الآخيين أنه أصيب، ويتيه عليه فخرا، بيد أن الحزن تملك «ساربيدون» لفراق جلاوكوس، بمجرد أن تنبه إلى ذلك، ولكنه رغم ذلك لم يكف عن القتال، بل ضرب بطعنة من رمحه «الكماوون بن ثيسطور»، فأحكم التصويب، ثم سحب الرمح ثانية فجر معه الكماوون، الذي سقط لتوه، ورنت من حوله عدته الحربية، المزدانة بالبرونز، ولكن «ساربيدون» أمسك بالدعامة الحصينة بيدين قويتين، وجذبها بعنف، فإذا بها تنهار بطول الجدار، فأحدث بذلك ثغرة في السور من أعلاه إلى أسفله، سمحت للكثيرين بالمرور خلالها!
بيد أن أياس وتيوكر أقبلا ضده في وقت واحد: فقذفه تيوكر بسهم أصاب حامل ذراعه الواقية حول صدره، ولكن زوس هب لمنع الأقدار عن ابنه حتى لا يسقط عند مقدمات السفن. وقفز فوقه أياس وضرب فوق درعه، غير أن طرف الرمح لم ينفذ فيها، وإن جعله يترنح أمام هجمته. وهكذا تزحزح قليلا عن برج المراقبة، وإن لم يكن قد انسحب من مكانه تماما، إذ كانت روحه تصبو إلى نيل المجد. فأخذ يدور هنا وهناك، مناديا اللوكيين الأمجاد بقوله: «أيها اللوكيون، لماذا تتوانون في شجاعتكم الثائرة؟ من العسير علي وحدي - مهما تكن قوتي - أن أخرق السور وأهيئ طريقا إلى السفن. هيا، اهجموا معي، فكلما كثر الرجال حسن العمل .»
الطرواديون يهدمون السور!
هكذا قال، فتملكهم الخوف من تأنيب مليكهم، وازدادوا هجوما حول الملك صاحب المشورة، وعزز الأرجوسيون الاستحكامات وراء السور، في الجهة المقابلة لهم. وكان العمل أمامهم شاقا. وهكذا لم يكن في استطاعة اللوكيين الأشداء أن يهدموا سور الدانيين، ويحدثوا به ثغرات يصلون منها إلى السفن، ولا كان في مقدور الرماحين الدانيين أن يدفعوا اللوكيين بعيدا عن السور، إذا هم اقتربوا منه، وكما يتشاجر رجلان والقصبات في أيديهما، حول العلامات الحجرية في حقل مشترك، فيناضل كل منهما من أجل نصيبه الحق - في بقعة ضيقة - هكذا أيضا بقيت الاستحكامات تفصل بين هذين الفريقين، وراحوا من فوقها يضربون الدروع المصنوعة من جلد الثور والتي يرتدونها حول صدورهم، والتروس المستديرة، والدرقات الخفيفة. فجرح كثيرون في أجسامهم بطعنات البرونز العديم الرحمة، كلما استدار أحدهم وترك ظهره مكشوفا وهم يقاتلون، كما نفذت الرماح خلال الدروع نفسها وجرحت كثيرين. نعم، لقد كانت الاستحكامات والجدران ملطخة في كل مكان بدم البشر، من كلا الطرفين، طرواديين وآخيين على حد سواء. ومع كل، فإنهم رغم ذلك لم يتمكنوا من إحداث الفوضى بين الآخيين، لأنهم ثبتوا. وكما تمسك المرأة المشتغلة بالغزل، الميزان في يديها، وتضع الصنجة في كفة والصوف في كفة أخرى، حتى تتعادلا، لتكسب أجرا زهيدا لأطفالها. هكذا كانت حربهم ومعركتهم متعادلة سجالا، إلى أن منح زوس مجد النصر لهكتور بن بريام - الذي كان أول من وثب إلى داخل سور الآخيين - فأطلق صيحة حادة مناديا الطرواديين بصوت عال: «هبوا أيها الطرواديون، يا مروضي الجياد، حطموا سور الأرجوسيين، وأضرموا النار المتأججة اللهب وسط السفن!»
هكذا صاح، ملهبا حماستهم، فأصغوا إليه جميعا بآذانهم، وهجموا من فورهم على السور في كتلة واحدة، وصعدوا فوق الدعامات، والرماح الحادة في أيديهم. وتقدم هكتور فأمسك بصخرة - ملقاة أمام الباب - وحملها. وكانت عريضة القاعدة، مدببة الطرف، ينوء بحملها رجلان من الأشداء أولي القوة - ولو كانا أشد القوم - ولا يستطيعان أن يرفعاها من الأرض لتوضع فوق مركبة، إذا كانا من أمثال رجال اليوم. ومع ذلك فقد استخدمها وحده في سهولة ويسر؛ إذ جعل ابن كرونوس - ذو المشورة الملتوية - أمرها سهلا عليه. وكما يحدث عندما يجد الراعي سهولة في حمل جزة كبش، فيرفعها بيد واحدة ولا يكون عبئها ثقيلا عليه إلا قليلا، هكذا أيضا رفع هكتور الصخرة، وحملها من فوره ضد الأبواب الخارجية التي كانت تقي الأبواب الداخلية المغلقة والمتينة القوائم. لقد كانت أبوابا مزدوجة مرتفعة، مثبتة من الداخل بمزلاجين وقفل واحد. فأقبل ووقف عن كثب منها، وثبت نفسه في وقفته، ثم هوى على وسطها بكل قوته، وقد باعد ما بين قدميه، كي لا تفتقر رميته إلى أدنى قوة. فحطم المفصلين، ونفذت الصخرة إلى الداخل من جراء ثقلها، وصرت الأبواب صريرا عاليا من كلا الجانبين، ولم تتحمل المزاليج، فانفتحت الأبواب على مصاريعها هنا وهناك تحت صدمة الصخرة. وعندئذ وثب هكتور المجيد إلى الداخل، بوجه أشبه بالليل الداهم، وقد تلألأ في البرونز البراق الذي تدثر به حول جسده، وحمل في يديه رمحين، فما كان لأحد من التقوا به أن يصده - ما لم يكن من الآلهة - بمجرد أن وثب إلى ما وراء الأبواب. وكانت عيناه تقدحان بالشرر. ثم التفت إلى الجمع، وطلب من الطرواديين أن يصعدوا فوق السور، فاستجابوا لندائه. وفي الحال تسلق بعضهم السور، واندفع البعض الآخر نحو الأبواب المحكمة البناء. وسبق الدانيون في فوضى إلى وسط السفن الجوفاء وانبعث ضجيج غير منقطع.
الأنشودة الثالثة عشرة
«... عندئذ خرجت وحوش البحر تقفز من كل جانب، وانشق البحر أمامه في سرور، فانطلق الجوادان يسابقان الريح، صوب سفن الآخيين.» «بوسايدون» يستحث الآخيين على الذود على سفنهم، و«أيدومينيوس» يبدي بسالة ... إلخ. «بوسايدون» يتدخل في القتال!
أما وقد أحضر «زوس» كلا من «هكتور» والطرواديين إلى السفن، فإنه ترك المتقاتلين لنضالهم وللعناء الذي لا ينتهي. وما لبثت عيناه البراقتان - اللتان حولهما عنهم - أن تطلعتا إلى بلاد الفرسان التراقيين، وبلاد الموسيين - المبرزين في النزال، فردا لفرد - وبلاد «الهيبومولوجي» الأمجاد الذين يشربون لبن الأفراس، وبلاد «الآبيين»، أعظم الناس عدالة. ولم يعد يلتفت نحو طروادة بعينيه المتألقتين، إذ وقر في نفسه أن أحدا من الخالدين لن يقدم على مساعدة الطرواديين أو الدانيين.
بيد أن مزلزل الأرض «بوسايدون» لم يكن غافلا عن مراقبة الحرب والقتال، وقد جلس عاليا فوق أعلى ذؤابة ساموتراقيا الكثيرة الأجمات، إذ كان بوسعه أن يرى من هناك - بوضوح تام - سائر سفوح أيدا، ومدينة «بريام» وسفن الآخيين. فجلس هناك، بعد أن خرج، وهو مشفق على الآخيين الذين هزمهم الطرواديون، وكان غضبه من زوس بالغا.
وفي الحال هبط «بوسايدون» من الجبل الوعر، وتقدم بخطوات سريعة فاهتزت الجبال الشامخة والغابات تحت خطواته الخالدة وهو يسعى، ثلاث خطوات اتخذها في طريقه، وفي الخطوة الرابعة بلغ هدفه: أيجاي، حيث شيد قصره الذائع الصيت في أعماق البحر، ذهبيا براقا، لا يزول أبدا. فوصل إلى هناك، وربط إلى عربته جواديه النحاسيي الحوافر، السريعي الجري، ذوي المعرفتين العسجديتين المرسلتين. وتدثر هو بالذهب حول جسده، وأمسك في يده سوطا من الذهب الجميل الصنع، واعتلى ظهر عربته، وأنشأ يقودها فوق الأمواج. وعندئذ أخذت وحوش البحر تقفز تحته من كل جانب، خارجة من قرار الأعماق، لأنها كانت تعرف سيدها تمام المعرفة. كما انشق البحر أمامه في سرور، فانطلق الجوادان يسابقان الريح، ولم يبتل محور العربة البرونزي أسفلها، وهكذا حمل الجوادان المزهوان سيدهما، صوب سفن الآخيين.
وفي منتصف المسافة بين تينيدوس وأمبروس الوعرة، يوجد كهف فسيح في قرار البحر العميق. وهناك أوقف «بوسايدون» مزلزل الأرض جواديه عنده، وسرحهما من العربة، ووضع أمامهما طعاما إلهيا ليأكلاه، وكبل أقدامهما بقيود من الذهب لا تكسر ولا تحل، حتى يظلا في الانتظار باستمرار، إلى أن يعود سيدهما. ثم انطلق هو إلى جيش الآخيين.
وكان الطرواديون قد اجتمعوا في حشد واحد - أشبه باللهب أو هبة الريح - وراحوا يتبعون هكتور بن بريام في حماس، وهم يطلقون الصرخات المدوية، ظانين أنهم سيستولون على سفن الآخيين ويقتلون جميع البواسل الشجعان بالقرب منها. غير أن بوسايدون - مطوق الأرض ومزلزلها - اندفع يحث الأرجوسيين بمجرد أن خرج من البحر العميق، في صورة العراف «كالخاس»، وبهيئته وصوته الذي لا يكل. فذهب إلى البطلين «أياس» - وكانا من تلقاء نفسيهما في غاية التلهف على إنقاذ الآخيين - وبادرهما بقوله: «أيها البطلان، إنكما ستنقذان جيش الآخيين إذا احتفظتما بقوتيكما، ولم تسمحا لقشعريرة الخوف أن تسري إلى أفكاركما. فلست أخشى - في أي مكان آخر - أيدي الطرواديين التي لا تقهر، وهم الذين تسلقوا بجمعهم السور العظيم؛ لأن الآخيين المدرعين جيدا سيصدون الجميع. أما هنا فيتملكني خوف عجيب من أن يحل بنا شر ما. هنا حيث يهجم هذا الرجل المجنون كأنه شعلة من اللهب، أعني هكتور الذي يزهو بأنه ابن زوس القوي. ولكن، هل لأحد من الآلهة أن يبث الجرأة في قلبيكما، كي تقفا بشخصيكما وقفة ثابتة، ويأمر الآخرين بأن يحذو حذوكما، عسى أن تستطيعا طرد هكتور بعيدا عن السفن السريعة الإبحار، رغم تحمسه وعزيمته؟ أجل، حتى ولو كان الأوليمبي نفسه هو الذي يحمسه ويحثه على القتال.»
وبعد ذلك، ضرب مطوق الأرض ومزلزلها البطلين بصولجانه، فملأهما قوة وجرأة، وبث النشاط في أطرافهما - الأقدام والأيدي معا - ثم انطلق يطير بعيدا، كما لو كان صقرا سريع الطيران يتحفز عاليا فوق صخرة عمودية شاهقة، ثم ينقض إلى السهل ليقتنص طائرا آخر! هكذا أيضا طار عنهما «بوسايدون»، مزلزل الأرض. وكان «أياس» السريع، ابن أويليوس، هو أول من لاحظ الإله، فتكلم من فوره إلى أياس بن تيلامون، وقال له: «أي أياس، بما أن أحد الآلهة الساكني أوليمبوس قد أتى إلينا في صورة العراف، ليأمرنا بأن نقاتل بجانب السفن - وهو ليس «كالخاس»، العراف الملهم، فقد عرفت علامات قدميه ورسمته بسهولة، وهو يستدير منصرفا من هنا، إذ من اليسير معرفة الآلهة - فيا للعجب! إن قلبي كذلك ليتلهف الآن إلى القتال والحرب، أكثر من ذي قبل وإن قدمي تحتي، ويدي - من فوق - لمشوقة إلى العراك!»
فرد عليه أياس التيلاموني بقوله: «كذلك يداي، اللتان لا تقهران، تتلهفان الآن إلى إمساك الرمح، وإني لأشعر بأن قوتي قد زادت عن ذي قبل، وقدمي، من تحتي، تسرعان في نشاط، وإني لأتوق إلى ملاقاة هكتور بن بريام - المهتاج بلا انقطاع - في نزال منفرد!»
هكذا تحدث كل منهما إلى الآخر، مغتبطين بحمية القتال التي بثها الرب في قلبيهما. وفي الوقت نفسه أثار مطوق الأرض ومزلزلها، حماس الآخيين الذين كانوا في المؤخرة، يجددون نشاطهم بجوار السفن السريعة. فإن أطرافهم كانت قد تراخت من جراء التعب البالغ، ومن ثم امتلأت قلوبهم بالأسى وهم ينظرون إلى الطرواديين الذين تسلقوا السور العظيم بجمعهم، بل إن الدموع انهمرت من تحت حواجبهم وهم ينظرون إلى أولئك الطرواديين ويحسبون أنهم لن ينجوا من الهلاك، ولكن مزلزل الأرض انطلق وسطهم بسرعة، وحمس كتائبهم القوية، فجاء إلى تيوكر أولا ودعاه، ثم إلى «ليئيتوس»، والبطل «بينيليوس»، و«تواس»، و«ديئيبوروس»، و«ميريونيس» و«أنيلوخوس» سادة صيحة الحرب.
تحدث إلى هؤلاء محفزا إياهم بكلمات مجنحة قائلا: «يا للعار أيها الأرجوسيون، أيها الفتية المراهقون! كنت قد عولت على قتالكم لإنقاذ سفننا، ولكنكم أحجمتم عن الحرب الطاحنة، إذن فما من شك في أن اليوم الذي يشهد هزيمتنا على أيدي الطرواديين قد بزغ، ويحكم، حقا عيناي لتبصران أعجوبة عظيمة، فما كنت لأتصور قط أن هذا الأمر الفظيع قد يحدث أبدا: إن الطرواديين يشقون طريقهم صوب سفننا، أولئك الذين كانوا فيما مضى أشبه بالظباء المذعورة التي في الغابة فريسة لابن آوى والنمور والذئاب، وتهيم حائرة، مستضعفة، لا قدرة لها على القتال، إن الطرواديين لم يكونوا من قبل يجرءون على الصمود ومواجهة نقمة الآخيين وأيديهم، ولو للحظة واحدة، ولكنهم الآن يقاتلون بعيدا عن المدينة، بل عند السفن الجوفاء، كل هذا بسبب خسة قائدنا، وتقاعس القوم الذين لا تميل نفوسهم - من جراء نزاعهم معه - إلى الدفاع عن السفن السريعة الإبحار، بل هم يذبحون في وسطها! بيد أنه إذا كان البطل «أجاممنون» الواسع الملك - ابن أتريوس - هو سبب كل شيء حقا، لأنه أهان ابن بيليوس السريع القدمين، فليس لنا نحن أن ننكص عن الحرب بأية حال من الأحوال. كلا، فلنبادر إلى إصلاح العيب، فليس أسهل من علاج قلوب الشجعان! وليس مما يليق بكم أن تنسوا شجاعتكم الجامحة، وأنتم جميعا خير رجال الجيش. إنني شخصيا لا أقبل أن أقاتل شخصا يقعد عن القتال لأنه خائر الهمة، أما أنتم فإنني غاضب منكم أشد الغضب في قلبي، أيها المتخاذلون، فإنكم لن تلبثوا أن تضاعفوا الشر بهذا التكاسل! فليتمثل كل منكم - في سريرته - العار والمهانة. فما أعظم الصراع القائم، حقا، إن هكتور الجبار - صاحب صيحة الحرب المدوية - يقاتل عند السفن، قويا في صلابته. وقد حطم الأبواب والحاجز الطويل!»
هكذا أثار مطوق الأرض حماس الآخيين بكلمته الآمرة، فاتخذت كتائبهم وقفتها حول البطلين «أياس» في حلقات قوية لم يستطع «أريس» نفسه أن ينفذ خلالها ويستخف بها، لا، ولا حتى «أثينا» منظمة الجيوش. أجل، لقد كانت الصفوة المختارة هي التي استقرت أمام جيش الطرواديين العظيم، وأقامت سياجا محكما، وقد تعانق الرمح بالرمح، والترس بالترس المدعم،
1
وضغطت الدرقة على الدرقة، والتصقت الخوذة بالخوذة، والرجل بالرجل. وتلامست خصلات شعر الخيل التي تعلو حافات الخوذات اللامعة؛ إذ مالت الرءوس، وهكذا وقفوا، كل لصق الآخر، وقد تعانقت الرماح المشهرة في الأيدي القوية، وثبتت قلوبهم واشتد شوقها إلى القتال!
معركة وسط السفن!
وبعدئذ سار الطرواديون إلى الأمام في حشد متكتل، يقودهم «هكتور» زاحفا إلى الأمام مباشرة، كصخرة تتدحرج على سفح، وقد دفعها ماء الشتاء الدافق من رأس تل، بعد أن هشم أسسها الصخرية العنيدة بفيضانه العجيب، فراحت تتطاير عاليا، فتردد الغابة ضجيجها، وهي تجري في طريقها، لا يعوقها شيء، حتى تصل إلى السهل المستوي، فلا تمضي في التدحرج رغم كل اندفاعها، هكذا ظل هكتور حينا، يهدد في استخفاف بأن يشق طريقه إلى البحر خلال أكواخ الآخيين وسفنهم، ذابحا من يتصدى له، ولكنه حين واجه الكتائب المتراصة، توقف عندما ازداد منها اقترابا! أما أولئك الذين كانوا في الجانب الآخر - أبناء الآخيين - فقد شهروا السيوف والرماح ذات الحدين إلى الأمام، فردوه بعيدا عنهم. حتى تقهقر واضطر إلى النكوص على عقبيه، فأطلق صيحة مدوية، مناديا الطرواديين: «أيها الطرواديون واللوكيون والدردانيون المبرزون في الالتحام، اثبتوا في موقفكم، فإن الآخيين لن يدفعوني إلى الوراء طويلا، بالرغم من أنهم قد نظموا أنفسهم على شكل حصن. كلا بل إنني لا أعتقد أنهم سيتراجعون أمام رمحي، إذا صح أن الذي حثني على القتال هو كبير الآلهة، زوج «هيرا» الذي يرعد عاليا.»
قال هذا، فألهب قوة كل رجل وروحه. وأقبل في وسطهم عندئذ «دايفوبوس بن بريام». يسرع الخطى بقلب جسور، رافعا أمامه ترسه المتزن تماما من كل جانب، فكان يخطو إلى الأمام خفيفا على قدميه، تحت ستار ترسه. فصوب «ميريونيس» رمحه البراق نحوه، وقذفه فلم يخطئ الهدف، ولكنه أصاب الترس المصنوع من جلد الثور، المتزن تماما من كل جانب. غير أن الرمح لم ينفذ خلاله، كلا، فقبل أن يحدث ذلك، تحطم نصل الرمح الطويل على وسط الترس. وإذ ذاك أمسك «دايفوبوس» بالترس بعيدا عنه، وقد استبد بقلبه الخوف من رمح «ميريونيس» الحكيم القلب، ولكن البطل تراجع وسط حشد رفاقه، وقد اشتد به السخط لضياع النصر والرمح منه، حتى إنه راح يرتجف. وانطلق يسعى إلى أكواخ وسفن الآخيين ليحضر رمحا طويلا كان قد تركه في كوخه.
ولكن الباقين ظلوا يقاتلون، ودوت في الفضاء صيحة لا تخبو. وكان «تيوكر بن تيلامون» أول من قتل غريمه، وهو الرماح «أمبريوس مينتور» صاحب الخيول الكثيرة، والذي كان يقيم في بيدايوم قبل أن يجيء أبناء الآخيين، وتزوج من «ميديسيكاستي» ابنة بريام، فلما أقبلت سفن الدانيين المقوسة عاد ثانية إلى طروادة، وكان مبرزا بين الطرواديين وعاش في منزل بريام، الذي عامله كما لو كان من أولاده، وكان هو الذي أنفذ ابن تيلامون رمحه الطويل أسفل أذنه، ثم سحبه ثانية، فسقط الرجل كأنه شجرة دردار ضربت بفأس برونزية فهوت من فوق قمة تل يرى على البعد، وصافحت أوراقها الغضة سطح الأرض، هكذا سقط هو، ومن حوله جلجلت عدته الحربية المرصعة بالبرونز. وانقض «تيوكر» تواقا إلى أن ينزع عنه عدته الحربية، ولكن «هكتور» دفع نحوه رمحه اللامع، وهو مقبل. بيد أن تيوكر نظر إليه في ثبات، وتحاشى الرمح البرونزي بمسافة بسيطة، فأصاب «هكتور» برمحه «أمفيماخوس بن كتياتوس بن أكتور»، في صدره وهو مقبل إلى المعركة، فسمع لوقوعه صوت مكتوم، ومن فوقه صلصلت عدته الحربية.
وإذ ذاك أسرع «هكتور» لينزع عن رأس «أمفيماخوس» العظيم القلب خوذته المربوطة إلى صدغيه، غير أن «أياس» صوب طعنة برمحه اللامع إلى «هكتور» وهو مقبل، فلم يقدر للرمح أن يصل بحال ما إلى جسمه - لأنه كان متدثرا كله بالبرونز المخيف - وإنما أصاب حلية ترسه، ودفعه إلى الوراء بقوة عنيفة، حتى إنه تقهقر إلى الخلف وابتعد عن الجثتين، فسحبهما الآخيون بعيدا. ثم نقل «ستيخيوس» و«مينيسثيوس» - قائدا الأثينيين - أمفيماخوس إلى مؤخرة جيش الآخيين، أما «أمبريوس» فقد حمله البطلان «أياس» معا، بقلبين مفعمين بجرأة طائشة. وكما يحدث عندما يحمل أسدان عنزة اختطفاها من الكلاب الحادة الأنياب، إلى داخل الدغل الكثيف، ممسكين بها بين أنيابهما عاليا عن الأرض، فهكذا حمل المحاربان «أياس» المحارب «أمبريوس» عاليا، وخلعا عنه عدته الحربية. وفصل ابن أوليوس الرأس عن العنق الرقيق - وهو ناقم لمقتل «أمفيماخوس» - وأرسله يتدحرج كالكرة خلال الحشد، فسقط على الثرى أمام قدمي «هكتور».
مغامرات أيدومينيوس!
وهنا غلى مرجل غضب «بوسايدون»، إذ أبصر ابن ابنه يسقط في الصراع الرهيب. فانطلق بمحاذاة أكواخ وسفن الآخيين ليثير حمية الدانيين، وقد أضمر الأحزان للطرواديين. فقابله هناك «أيدومينيوس» - المشهور برمحه - وهو منصرف من عند زميل له كان قد عاد إليه لساعته مقبلا من ميدان القتال، مصابا في ركبته بالبرونز الحاد، وقد حمله رفاقه إلى هناك، وعهد به «أيدومينيوس» إلى الحجامين،
2
ثم سعى إلى كوخه؛ إذ كان لا يزال متلهفا إلى خوض غمار القتال. فخاطبه السيد، مزلزل الأرض، محاكيا صوت «ثواس بن أندرايمون»، الذي كان سيدا على الأيتوليين في كل من بليورون، وكالودون الجبلية. وكان القوم يبجلونه كما لو كان إلها، فقال له بوسايدون: «أي أيدومينيوس، يا مستشار الكريتيين، أين بربك ذهبت التهديدات التي هدد بها أبناء الآخيين الطرواديين؟»
فأجابه «أيدومينيوس»، قائد الكريتيين قائلا: «أيا ثواس، أعتقد أن ليس بين الرجال ملوم، لأننا جميعا بارعون في الحرب. وما من رجل يتملكه الخوف الرعديد ، ولا أحد يتقهقر من الحرب الشريرة ذعرا وهلعا، ولكن هذه - في اعتقادي - هي إرادة ابن كرونوس القدير، ومسرته القصوى، فإنه يرغب في أن يهلك الآخيون هنا بعيدا عن أرجوس، ولا يشتهر اسمهم. أما وقد كنت يا ثواس في سابق عهدك جريئا في القتال، وكنت كذلك تحث الآخرين كلما رأيت أحدهم يحجم عن القتال، فلا تكف الآن عن ذلك، واصرخ عاليا في كل رجل!»
فأجابه «بوسايدون» - مزلزل الأرض - قائلا: «أي أيدومينيوس، إن كل من يحجم اليوم عن القتال عامدا جدير بألا يعود إطلاقا من أرض طروادة إلى وطنه، بل يصبح هنا نهبا للكلاب. إذن، فانهض الآن، واحمل سلاحك واتبعني، فخليق بنا أن نقوم بذلك معا، عسى أن نتمكن من تقديم أية معونة، رغم أننا لسنا سوى اثنين. فإن الشجاعة تدب - حتى بين الجبناء - من الزمالة، وحين نكون معا نعرف جيدا كيف نقاتل مع الشجعان!»
وبهذا عاد الإله إلى حيث كان الرجال يتطاحنون. فما إن بلغ «أيدومينيوس» كوخه المتين البناء حتى ارتدى عدته الحربية الجميلة حول جسده، وأمسك برمحين، وانطلق في طريقه كالبرق الذي يمسكه ابن كرونوس في يده ويلوح به من أوليمبوس المتألق - مظهرا علامة للبشر - فيرى وهجه على البعد، هكذا تلألأ البرونز حول صدره وهو يعدو، فقابله خادمه الجسور «ميريونيس» وهو لا يزال قريبا من الكوخ - إذ كان في طريقه ليحضر لنفسه رمحا من البرونز - فتحدث إليه «أيدومينيوس» القوي قائلا: «أي ميريونيس بن مولوس، السريع القدمين، يا أعز زملائي، لم أتيت وتركت الحرب والقتال؟ أأنت جريح يكدر صفوك طرف الرمح، أم جئت ورائي في رسالة ما؟ أما أنا نفسي فلست راغبا في البقاء في الأكواخ، وإنما تتجه رغبتي إلى القتال.»
فأجابه ميريونيس الحكيم ثانية بقوله: «أي أيدومينيوس، يا مستشار الكريتيين المتدثرين بالبرونز، إنني في طريقي لإحضار رمح، إن كان قد تبقى في أكواخك رمح ، لأن الرمح الذي كنت أحمله من قبل قد تحطم عندما قذفته نحو ترس دايفوبوس المتغطرس.»
فرد عليه أيدومينيوس، قائد الكريتيين، قائلا: «إذا أردت الرماح - سواء شئت واحدا أو عشرين - وجدتها قائمة في الكوخ، مسندة إلى حائط المدخل البراق. إنها رماح الطرواديين التي غنمتها من قتلاهم؛ ذلك لأنه ليس من عادتي أن أقاتل الأعداء وأنا واقف على بعد؛ ومن ثم فإن عندي رماحا وتروسا مرصعة، وخوذات، ودرقات متألقة اللمعان.»
فأجابه ميريونيس الحكيم، قائلا: «نعم، وإن في كوخي - أنا الآخر - وفي سفينتي السوداء، غنائم كثيرة من الطرواديين، ولكنها ليست في متناول يدي لآخذ منها، أجل، فلست أعتقد أنني الآخر غافل عن الشجاعة، بل إنني أتخذ موقفي وسط محاربي المقدمة في ميدان القتال، حيث يفوز الرجال بالمجد، كلما شب أوار المعركة. وقد يجوز لغيرك من الآخيين المتدثرين بالبرونز أن ينسى جرأتي سريعا - فيما أرى - أما أنت فإنك خير من يعرفها!»
فأجابه أيدومينيوس، قائد الكريتيين بقوله: «أعرف جيدا من أي معدن من الرجال أنت في الجرأة، فما حاجتك إلى إخباري بها؟ أجل، فلو أن خير رجالنا الموجودين الآن بجانب السفن اختيروا لعمل كمين، تتجلى فيه شجاعة الرجال على خير وجه، فعندئذ ينكشف أمر الجبان الرعديد، ويبرز الرجل الجسور، لأن لون الجبان يتغير غالبا، ولا تستطيع روحه أن تضمد راسخة في صدره، ولكنه يركع آنا على إحدى ركبتيه وآنا على الركبة الأخرى، وينتقل من قدم إلى أخرى في وقفته، ويدق قلبه عاليا في صدره، ويفكر في الموت فتصطك أسنانه في فمه. أما الشجاع فلا يتغير لونه ولا يشتد خوفه، منذ اللحظة التي يحتل فيها مكانه في كمين المحاربين، بل يتمنى أن يختار لمثل هذا الكمين، أقول، حتى في هذه الحال، لا يستخف أي رجل بشجاعتك أو قوتك. أجل، ولو أنك رميت بسهم في معمعان القتال، أو طعنت في التحام، فلن يصيبك الرمح من الخلف في قفاك، ولا في ظهرك ولكنه يمرق في صدرك أو بطنك، وأنت تهجم قدما لملاقاة محاربي المقدمة. والآن، تعال فما ينبغي أن تتلكأ بعد ذلك هنا ونتحدث هكذا كالأطفال، خشية أن تستعر جذوة الغضب، فاذهب إلى الكوخ واحصل لنفسك على رمح قوي.»
وما إن قال هذا حتى أسرع ميريونيس - نظير أريس السريع - فأخذ رمحا برونزيا من الكوخ، وتبع أيدومينيوس بهمة عالية نحو المعركة. وكما يذهب أريس - جالب الهلاك على البشر - من فوره إلى الحرب، يتبعه ابنه «الذعر» جسورا غير هياب، يبث الفزع حتى في أصلب المحاربين، وكما ينطلق هذان من تراقيا لينضما إلى «الأفوري»
3
أو «الفليجويس»
4
الجريئي القلوب، ثم لا يصغيان مع ذلك إلى كل من الطرفين، بل يعطيان المجد لواحد منهما دون الآخر، هكذا أيضا ذهب ميريونيس وأيدومينيوس - قائدا الرجال - من فورهما إلى ميدان القتال، مسلحين بالبرونز المتألق. وبدا ميريونيس يتحدث أولا إلى أيدومينيوس، فقال: «يا ابن ديوكاليون، من أي مكان تبغي الانقضاض على الجمع: أمن الميمنة، أم القلب، أم الميسرة؟ فإنني أعتقد حقا أن الآخيين ذوي الشعر المسترسل لا يعجزون عن القتال في أي مكان.»
فرد عليه أيدومينيوس - قائد الكريتيين - بقوله: «هناك غيرنا يدافعون وسط سفن القلب: المحاربان «أياس»، وتيوكر - خير الآخيين جميعا في استخدام القوس، فضلا عن مهارته في الالتحام - هذان وغيرهما سوف يجشمون «هكتور بن بريام» عناء، مهما يكن تحمسه للقتال، وبالرغم من تفوقه في القوة. ولسوف يجد مشقة - مهما يكن شوقه إلى الحرب - في أن يتغلب على قوتهم وأيديهم التي لا تقهر، وأن يحرق السفن، ما لم يقذف ابن كرونوس شعلة ملتهبة فوق السفن السريعة، ولكن أياس التيلاموني العظيم لن يستسلم لأي رجل من البشر، يأكل حبوب ديميتر،
5
ويمكن شطره بالبرونز أو سحقه بالأحجار الضخمة. كلا، إنه لن يستسلم لأحد - ولو كان «أخيل» نفسه، محطم صفوف البشر - إذا ما التحم معه في نزال. بل إن «أخيل» - إذ ذاك - يبزه في سرعة القدم، ولكن ... لننطلق معا إلى ميسرة الجيش - كما تقول - كي نعرف في الحال ما إذا كنا سننتزع المجد من غيرنا، أم أن غيرنا هم الذين سينتزعونه منا!»
هكذا قال، فتقدمه «ميريونيس» - نظير أريس السريع - حتى بلغا مكان الجيش، عند النقطة التي أمره «أيدومينيوس» أن يذهب إليها. فلما أبصر الطرواديون «أيدومينيوس»، قويا كاللهب، يرافقه خادمه، في عدتهما الحربية الفاخرة، نادوا بعضهم بعضا وسط الحشد، وتوجهوا كلهم صوبه، فنشبت معركتهم بجانب مقدمات السفن. وكما تقبل هبات الريح عاصفة قوية، عندما تثور الرياح مزمجرة، في يوم يكسو فيه الغبار الطرقات بطبقة كثيفة، فتثيره الرياح إلى عنان السماء كأنه غمامة كبيرة، كذلك دارت معركتهم، وكانوا متلهفين - وهم في الحشد - إلى أن يقتل بعضهم بعضا بالبرونز الحاد. فحميت المعركة جالبة الدمار على البشر، وحمى وطيسها بالرماح الطويلة الممتدة من أيديهم لتمزيق اللحم، وخطف وهج الخوذات البراقة الأبصار، وكذا بريق الدرقات الحديثة الصقل، والتروس اللامعة، عندما انقض الرجال بغير نظام. وما كان لأحد أن يطرب لرؤية هذا العراك الطاحن، أو يقاوم الحزن، إلا إذا كان قلبه صلبا جامدا!
هكذا كان ابنا كرونوس العتيدان يوقعان - عمدا - بالأبطال الأسى واللوعة. وكان «زوس» راغبا في أن يهب النصر للطرواديين وهكتور، فيمنح بذلك أخيل - السريع القدم - عزة، ذلك لأنه لم يشأ أن يفنى الجيش الآخي كله أمام طروادة، بل كان راغبا في أن يعطي نصيبا من المجد إلى «ثيتيس» وابنها الجريء القلب «أخيل»، ولكن «بوسايدون» ذهب وسط الأرجوسيين وحثهم، متسللا سرا من البحر السنجابي؛ إذ غاظه أن يهزموا على أيدي الطرواديين، فقد كان غضبه من زوس بالغا. لقد كان كلاهما من سلالة واحدة ومن مولد واحد حقا، ولكن زوس كان أكبر سنا وأرجح عقلا؛ ومن ثم تحاشى «بوسايدون» أن يقدم معونته علنا، بل راح يسعى في الخفاء - بين صفوف الجيش، وفي صورة إنسان - لإذكاء حماس الأرجوسيين. وهكذا راح هذان الاثنان يشدان أطراف حبال
6
الصراع الرهيب والحرب المتعادلة الكفتين، وقد بسطاها فوق رءوس كل من الجيشين، في عقدة لا قبل لأحد بأن يحطمها أو يحلها، ولكنها حلت فرائص الكثيرين!
وما لبث أيدومينيوس أن صاح بالدانيين - رغم أن الشيب كان قد وخط شعره - وقفز وسط الطرواديين فأجبرهم على الفرار، بعد أن قتل «أوثريونيوس» الكابيسوسي. وكان هذا غريبا عن «طروادة» قدم إليها حديثا عندما سمع بالحرب، وطلب الزواج من كاساندرا، أجمل بنات الملك بريام، ولم يقدم لها أية هدية للخطبة، ولكنه وعد بالقيام بعمل من أعمال القوة، كأن يدفع أبناء الآخيين بالقوة بعيدا عن طروادة. فوعده بريام الشيخ بأن يزوجه إياها، وأقسم على ذلك، فقاتل «أوثريونيوس» معتمدا على وعد أبيها، ولكن «أيدومينيوس» سدد إليه رمحه البراق، ورماه فأصابه وهو يسرع الخطى مزهوا، ولم تنفعه الدرقة البرونزية التي كان يرتديها، بل نفذ الرمح في بطنه تماما، وسقط على الأرض مرتطما بها، فتهلل أيدومينيوس بصوته، وهتف صائحا: «أي أوثريونيوس، إني لأمجدك فوق سائر البشر، لو أنك أنجزت جميع ما وعدت به بريام الدارداني، الذي مناك بابنته. على أن بوسعنا نحن أيضا أن نعدك بمثل ذلك ونفي بالوعد، فنمنحك أجمل بنات ابن أتريوس، ونحضرها من أرجوس ونزفها إليك، لو أنك اشتركت معنا وخربت مدينة طروادة الآهلة بالسكان. هيا، اتبعنا لنتفق على الزواج في السفن الكثيرة الإبحار، حتى تتأكد من أننا لا نتعنت في تحديد هدايا الزواج!»
وما إن قال المحارب أيدومينيوس ذلك، حتى سحبه من قدمه عبر ميدان القتال العنيف، ولكن «أسيوس» أقبل ليثأر لصديقه «أوثريونيوس»، وكان يسير على قدميه أمام جواديه اللذين كان خادمه يسوقهما خلفه، حتى إن أنفاسهما كانت تمس كتفي أسيوس. وكانت أمنية فؤاد «أسيوس» هي أن يسدد ضربة نحو «أيدومينيوس»، بيد أن هذا كان أسرع منه، فضربه برمية من رمحه في حلقة أسفل ذقنه. فأخرقه البرونز في الحال، وسقط كما تسقط شجرة البلوط أو الحور أو الصنوبر الباسقة، التي يقطعها صانعو السفن من فوق الجبال - بفئوس مشحوذة - ليعدوا منها أخشابا للسفن. هكذا سقط «أسيوس» منبطحا على الأرض أمام جواديه وعربته، وهو يتأوه بصوت مرتفع، ويعض الثرى الدامي. فذعر السائق ولم يستطع الاحتفاظ برزانته وثباته السابقين، ولم يجرؤ على العودة بالجياد لينجو من أيدي العدو، بل عاجله أنتيلوخوس - الجريء في القتال - بطعنة من رمحه في وسط صدره، فلم تنفعه الدرقة البرونزية التي كان يلبسها، إذ استقر الرمح في جوفه، وسقط من عربته المتينة الصنع وهو يلهث. أما الخيول فقد ساقها أنتيلوخوس بن نسطور - العظيم الهمة - بعيدا عن الطرواديين، إلى جيش الآخيين المدرعين جيدا.
وإذ ذاك، اقترب «دايفوبوس» من «أيدومينيوس» - وهو في أشد الحزن على مقتل أسيوس - وقذفه برمحه البراق، غير أن أيدومينيوس كان يراقبه بنظرات ثابتة، فاجتنب الرمح البرونزي، إذ اختفى تحت ترسه الذي كان متزنا تماما من كل جانب. وكان ترسا مكسوا بجلد الثور والبرونز اللامع، اعتاد أن يحمله دائما، مثبتا إلى ذراعه بوتدين، فتكور تحت هذا الترس، ومرق السهم البرونزي من فوقه، فصلصل الترس بعنف بمجرد أن احتك به الرمح. ومع ذلك فإن الرمح لم ينطلق عبثا من يد «دايفوبوس» الثقيلة، بل إنه أصاب «هوبسينور بن هيباسوس» - راعي الشعب - في كبده تحت عضلة الحجاب الحاجز، وفي الحال ارتخت ركبتاه، فاغتبط «دايفوبوس» لذلك أعظم اغتباط، وأخذ يصيح عاليا: «واعجباه! إن أسيوس لم يسقط دون ثأر، بل إنني لأعتقد أنه سيكون سعيد القلب وهو يسير إلى هاديس، حارس الأبواب القوي؛ لأنني أرسلت من يصحبه في تلك الطريق!»
هكذا قال، فغشي الحزن الأرجوسيين من جراء خيلائه، وأثار حمية «أنتيلوخوس» الحكيم القلب أكثر من سواه. وبرغم ذلك الحزن فإنه لم ينس زميله العزيز، بل جرى وسوى مرقده وغطاه بترسه. وبعد ذلك انحنى اثنان من الزملاء الصادقين، هما «ميكيستيوس بن أخيوس»، و«ألاسطور» العظيم، وحملا «هوبسينور» - وهو يئن أنينا عاليا - إلى السفن الجوفاء. «أينياس» ينشد الثأر!
ولم تفتر قوة «أيدومينيوس» الجبارة، بل ظل متلهفا دائما إلى أن يلف أحد الطرواديين في ظلمة الليل، أو يسقط هو شخصيا وهو يدفع الخراب عن الآخيين. وما لبث أن صرع «الكاثوس» المحارب، ابن أيسويتيس، الذي تبناه زوس، وكان زوجا لابنه «أنخيسيس» الكبرى «هيبوداميا»، التي كان أبوها وأمها الجليلة يحبانها من كل قلبيهما وهي في قصرهما، إذ كانت تفوق أترابها من الفتيات فتنة وجمالا، وحكمة وبراعة الأعمال اليدوية كذلك. لذلك تزوجها خير رجل في طروادة الفسيحة. وقد أخضع بوسايدون «الكاثوس» هذا لأيدومينيوس، بأن ألقى تعويذة على عينيه اللامعتين وعرقل أطرافه المجيدة، فلم يستطع أن يتراجع أو يتحاشى الرمح - بأية حال - بل تسمر في وقفته كأنه العمود أو الشجرة العالية، فطعنه المقاتل «أيدومينيوس » برمحه فوق صدره مباشرة، فاخترق مدرعته البرونزية التي كانت تحيط بصدره، والتي تمنع الموت من قبل عن جسمه، فصلصلت عاليا حين شقها الرمح. وسقط صاحبها على الأرض في جلبة، وقد استقر الرمح في قلبه - الذي ظل ينبض - جاعلا أطرافه ترتجف. ثم أراحه «أريس» القوي من هياجه أخيرا. وعندئذ وقف أيدومينيوس مبتهجا بمصرعه في غير تورع، وأخذ يصيح عاليا: «يا دايفوبوس، لنعتبر الآن أنك قد نلت جزاء وفاقا، فلقد قتلنا ثلاثة رجال في مقابل رجل واحد، فليس لك أن تزهو! كلا، يا سيدي الكريم، قف الآن وواجهني بنفسك، حتى تعرف أي صنف من أبناء زوس أنا، أنا الذي جئتك إلى هنا. فقد أنجب زوس في بادئ الأمر «مينوس» ليكون رقيبا على كريت، وهذا أنجب بدوره «ديوكاليون» المنقطع النظري، ثم أنجبني ديوكاليون، سيدا على رجال عديدين في كريت الفسيحة. وها قد جاءت بي السفن وبالا عليك وعلى أبيك وغيركما من الطرواديين!»
هكذا قال، فحار «دايفوبوس»: أي رأي يتخذ، أيتقهقر ويتخذ له رفيقا من الطرواديين العظيمي الهمة، أم يقوم بالمحاولة وحده فقط؟ وبينما هو يفكر في ذلك، بدا له رأي أفضل: ذلك هو أن يذهب وراء «أينياس»، فلما بلغه وجده واقفا وسط الجمع في المؤخرة، إذ كان «أينياس» حاقدا دائما على بريام العظيم، لعدم تبجيل بريام له رغم شجاعته بين المقاتلين. فاقترب منه دايفوبوس، وتحدث إليه بكلمات مجنحة قائلا: «يا أينياس، يا مستشار الطرواديين، عليك الآن بحق أن تقوم بمساعدة زوج أختك، إذا حدث وشعرت بالحزن على قريبك، هيا، تعال معي. كي ننقذ جثمان الكاثوس زوج شقيقتك. الذي أعزك في قصره في الماضي وأنت بعد صغير السن، والذي قتله أيدومينيوس - المشهور برمحه - وجرده من أسلحته!»
هكذا قال، فأثار قلب أينياس في صدره، وذهب ليبحث عن أيدومينيوس، متحمسا للحرب. بيد أن الهلع لم يتملك أيدومينيوس، فمع أنه كان فتى رقيقا، بعض الشيء، إلا أنه وقف متجلدا كخنزير بري يعتمد على قوته في الجبل، فيصمد أمام حشد الرجال الذين يهاجمونه في مكان منعزل، ويتوتر شعر ظهره، وتقدح عيناه بالشرر، ويشحذ أنيابه، مصمما على إبعاد الرجال والكلاب، هكذا أيضا تحمل أيدومينيوس - المشهور برمحه - هجوم «أينياس» الذي جاء للنجدة، فلم يتقهقر، ولكنه استغاث بزملائه، متطلعا إلى «أسكالافوس» و«أفاريوس»، و«دايبوروس»، و«ميريونيس»، و«أنتيلوخوس» - سادة صرخة الحرب - إذ خاطب هؤلاء بكلمات مجنحة وحفزهم قائلا: «إلي، يا أصدقائي، أغيثوني فإني هنا وحيد، وأخشى بأس أينياس - السريع القدمين - الذي يهاجمني. إنه قوي جدا في قتل الرجال في المعركة، كما أنه يتمتع بزهرة الشباب، التي تكمن فيها منتهى القوة. ولو أنه وإياي كنا في سن واحدة، وكنا بنفس الحمية التي نحن فيها الآن، لنال أحدنا النصر العظيم عاجلا!»
هكذا قال، وهب جميعهم بروح واحدة، فاتخذوا مواقفهم - الواحد بجانب الآخر - واضعين التروس متلاصقة على أكتافهم. كما استغاث «أينياس» في الجهة المقابلة له برفاقه، ناظرا إلى «دايفوبوس»، و«باريس»، و«أجينور» العظيم، قادة الطرواديين. وعندئذ سار وراءهم الجيش. وكما تتبع الأغنام الكبش من مرعاها إلى مورد الماء، فيبتهج قلب الراعي، هكذا أيضا كان قلب أينياس مبتهجا في صدره، عندما أبصر حشد الجيش الذي يسير خلفه.
وما لبثوا أن التحموا في قتال حول «الكاثوس»، برماحهم الطويلة. وراح البرونز يصلصل عاليا حول صدورهم، وهم يضربون الرماح بعضهم نحو بعض وسط الحشد. بينما بقي خلف الجميع رجلان مبرزان في الحرب - هما «أينياس»، و«أيدومينيوس» نظيرا «أريس» - يكافح كل منهما في سبيل تمزيق جسد الآخر بالبرونز العديم الرحمة. وفي البدء صوب «أينياس» رمحه نحو «أيدومينيوس»، ولكن هذا نظر إليه بثبات وتحاشى الرمح البرونزي، فاندفع سن رمح أينياس نحو الأرض مهتزا؛ إذ طاش انطلاقه من يده القوية. بيد أن «أيدومينيوس» سدد رمية، فأصاب «أوينوماوس» - فوق بطنه تماما - وحطم لوح درقته، فأخرج البرونز الأحشاء من جوفه، فهوى إلى التراب، وأمسك الثرى في راحته. وجذب «أيدومينيوس» الرمح الطويل الظل من الجثة، بيد أنه لم يتمكن من انتزاع بقية العدة الحربية البديعة عن منكبيه، إذ كانت السهام تنهال عليه، ولم تعد قدماه ثابتتين في الهجوم، ولا عاد في وسعه أن يندفع وراء رمحه، أو يتحاشى رمية غيره، وبينما ظل يدفع عنه يوم الأجل - الذي لا يعرف إشفاقا - في النزال، فإن قدميه لم تعودا تسرعان به في المعركة. وفيما كان ينسحب في بطء، قذفه دايفوبوس برمحه البراق؛ لأنه كان دائما يحمل له ضغينة دفينة. ومع ذلك فقد أخطأه هذه المرة أيضا، وضرب برمحه «أسكالافوس بن أنواليوس»، فشق الرمح القوي طريقه خلال الكتف، وسقط في التراب وأمسك الثرى براحته. ومع ذلك، فإن «أريس» المهيب العالي الصوت لم يكن قد فطن بعد إلى أن ابنه سقط في معركة عنيفة، بل كان يجلس فوق قمة أوليمبوس، تحت السحب الذهبية، إذ احتجز بإرادة من زوس، حيث كان الآلهة الآخرون مبعدين كذلك عن الحرب.
واشتبكوا بعد ذلك في قتال ملتحم حول «أسكالافوس». ونزع «دايفوبوس» خوذة «أسكالافوس» البراقة عن رأسه، غير أن ميريونيس - نظير أريس - وثب على «دايفوبوس» وضرب ساعده برمحه. فسقطت الخوذة ذات الخصلة من يده إلى الأرض مجلجلة. وفي الحال، قفز «ميريونيس» ثانية كأنه نسر، وجذب الرمح القوي من كتف «دايفوبوس»، وانبرى عائدا إلى حشد رفاقه، ولكن «بوليتيس» - شقيق دايفوبوس - لف ذراعه حول وسطه، وقاده بعيدا عن رحى الحرب الشريرة، حتى بلغ الجياد السريعة التي كانت تنتظره عند المؤخرة مع سائقها، والعربة المرصعة ترصيعا فاخرا. فحملته تلك الجياد إلى المدينة وهو يئن ويتوجع من الألم المرير، وقد أخذ الدم ينثال من ذراعه المجروحة حديثا.
مغامرات «أنتيلوخوس» و«مينيلاوس»
ومضت بقية المحاربين تقاتل، وقد ارتفع صراخ لا يخبو. وبعد ذلك وثب «أينياس» على «أفاريوس بن كاليتور» - الذي كان قد استدار نحوه - وضربه على حلقه برمحه الحاد، فمال رأسه إلى جانب، وسقط ترسه فوقه، وكذلك خوذته، وأحاط به الموت قاتل الروح. عند ذلك انتهز «أنتيلوخوس» الفرصة، وقفز على «ثوءون» - بمجرد أن أدار ظهره - وأصابه بطعنة مزقت العرق الممتد بطول الظهر حتى العنق تمزيقا تاما، فانكفأ «ثوءون» في التراب، باسطا يديه معا إلى زملائه الأعزاء. غير أن أنتيلوخوس قفز فوقه وتأهب لنزع العدة الحربية عن كتفيه، متلفتا حوله بحذر، إذ أحاط به الطرواديون وشرعوا يقذفون ترسه العريض البراق، من هذا الجانب وذاك، دون أن يفلحوا في خرقه وتمزيق جسد «أنتيلوخوس» الرخص بالبرونز العديم الرحمة؛ لأن «بوسايدون» - مزلزل الأرض - كان متيقظا في حراسة ابن نسطور، حتى وهو وسط الرماح الكثيرة، فإن «أنتيلوخوس» لم يبتعد قط عن العدو، بل كان يسير بين صفوفه، ولم يسترح رمحه إطلاقا، وإنما كان دائما مشرعا، يلوح به. وكل همه دائما أن يصيب عدوا عن بعد، أو ينقض عليه عن قرب.
وفيما كان يصوب رمحه وسط الجمع، لم يقدر له أن يفلت من «أداماس بن أسيوس»، الذي أصابه فوق الترس تماما برمية من البرونز الحاد، وهو يهجم عليه من كثب، ولكن «بوسايدون» ذا الشعر الأسود جعل رميته بغير جدوى، إذ بخل عليه بروح أنتيلوخوس. واستقر جزء من الرمح في ترس أنتيلوخوس - كأنه الوتد الذي أكسبت النار سنه قوة ومتانة - بينما تدلت بقيته في الهواء على مسافة من الأرض، وقفل «أداماس» راجعا إلى حشد رفاقه، مجتنبا الموت. بيد أن «ميريونيس» تبعه وهو راجع، وقذفه برمحه، فأصابه في منتصف المنطقة التي تحت سرته - حيث يعاني التعساء من بني الإنسان وطأة «أريس» - وثبت رمحه هناك، فتداعى الآخر فوق النصل الذي أصابه، وهوى كثور قيده الرعاة بغصون الصفصاف المجدولة وأخذوا يجرونه إليهم بالقوة، هكذا أيضا كانت حاله عندما أصيب، فقد تلوى فترة غير طويلة، إلى أن أقبل المحارب «ميريونيس» وجذب الرمح بعيدا عن جسمه، فخيمت الظلمة على عينيه.
بعد ذلك التحم «هيلينوس» مع «دايبيروس»، فهوى على صدغه بسيف تراقي ضخم، وحطم خوذته، فطارت عن رأسه، وسقطت على الأرض، فالتقطها أحد الآخيين وهي تتدحرج بين أقدام المحاربين، وغشيت ظلمة الليل عيني دايبيروس.
بيد أن «مينيلاوس» - الرائع في صيحة الحرب - تملكه الحزن من جراء ذلك، فخطا إلى الأمام بسرعة وهو يلوح برمحه الحاد، تهديدا للأمير المحارب هيلينوس بينما جذب الآخر قلب قوسه. وهكذا أطلق كلاهما في لحظة واحدة، أحدهما رمحه الحاد، والآخر سهما من الوتر. فأصاب ابن بريام برمحه «مينيلاوس بن أتريوس»، فوق ثديه، فوق صفحة درقته، فارتد السهم العنيف بعيدا. وكما يطير الفول ذو القشرة السوداء أو الحمص، من المذراة العريضة - في الجرن الواسع - أمام الريح الشديدة، وقوة حامل المذراة، فهكذا ارتد السهم المارق من درقة «مينيلاوس» المجيد، وطار بعيدا، ولكن مينيلاوس بن أتريوس - الرائع في صيحة الحرب - رمى فأصاب «هيلينوس» في يده الممسكة بالقوس المصقولة، واخترق الرمح البرونزي اليد خلال القوس. فانسحب عائدا على حشد رفاقه، متحاشيا الموت، تاركا يده مدلاة إلى جانبه، مجرجرا الرمح الدرداري خلفه. على أن أجينور العظيم الهمة جذب الرمح من يده وضمد اليد برباط من صوف الأغنام المجدول، كان قد حمله له خادمه، إذ كان راعي الجيش.
وإذ ذاك شق «بايساندر» طريقه نحو «مينيلاوس» المجيد، ولكن حتفه المشئوم كان يقوده إلى خاتمة الموت، كي تقتله يا مينيلاوس، في التطاحن الفظيع. فلما اقتربا، وتقدم أحدهما تجاه الآخر، أخطأ ابن أتريوس، فحاد رمحه عن هدفه، ولكن بايساندر أصاب ترس مينيلاوس المجيد، بيد أنه لم ينجح في رفع البرونز إلى الداخل، إذ صده الترس العريض، فتحطم الرمح في تقعير الترس. ومع ذلك فإن «بايساندر» اغتبط في قرارة نفسه، وداخله الأمل في النصر.
ولكن ابن أتريوس استل سيفه المطعم بالفضة ووثب على بايساندر، بينما أمسك هذا فأسا متينة من البرونز المجيد، أخرجها من خلف ترسه، وكانت مثبتة في يد طويلة من خشب الزيتون شديدة الصقل. وفي لحظة واحدة، انقض كل منهما على الآخر. والحق أن بايساندر أصاب قرن خوذة مينيلاوس - ذات الخصلة المصنوعة من شعر الخيل - في أعلى جزء منها، أسفل الريشة تماما. أما مينيلاوس فرماه وهو مقبل نحوه، وأصابه في جبينه فوق جذر الأنف، فتهشمت العظام، وسقطت المقلتان في الثرى أمام قدميه، وكلهما دماء، ومال هو ثم هوى. فداس مينيلاوس بقدمه على صدره، وجرده من أسلحته، وتهلل قائلا: «هكذا حقا ، ستتخلون عن سفن الدانيين، أيها الطرواديون المتغطرسون، يا من لا تشبعون من طنين القتال الرهيب. أجل، لن يعوزكم الأذى والعار، اللذان عيرتموني بهما، أيها الكلاب
7
الأشرار ، فليس في قلوبكم أي خوف من نقمة زوس، الذي يرعد عاليا، ورب الضيف والمضيف. ذلك الذي سوف يدمر مدينتكم العظيمة يوما من الأيام، واها لكم، يا من خطفتم زوجتي الشرعية بالقوة - عبر البحر - ومعها أموال كثيرة، يوم حظيتم بكرم الضيافة في رحابها، ثم ها أنتم تعودون متلهفين إلى إلقاء النار المدمرة على السفن ماخرة البحار، وإلى قتل المحاربين الآخيين. كلا، لن تنالوا مآربكم، وستوقفون عن قتالكم، مهما كان شوقكم، أبتاه زوس، يقول الناس بالحق إنك تفوق جميع الآلهة والبشر في الحكمة، ومع ذلك فقد حدثت منك كل هذه الأمور. ما أعجب عطفك على أهل العنف الطرواديين، ذوي القوة الضاربة أبدا، الذين لا يكفون عن طنين الحرب الشريرة! إن لديهم ما يكفي من كل شيء؛ من النوم، والحب، والغناء العذب، والرقص البديع، التي يؤثر المرء أن ينغمس فيها من أن ينغمس في الحرب، ولكن الطرواديين مدمنو قتال.»
وما إن قال مينيلاوس - المنقطع النظير - هذا، حتى جرد الجثة من العدة الحربية الدموية وسلمها إلى رفاقه، ثم عاد هو نفسه ثانية فانضم إلى مقاتلي المقدمة. وإذ ذاك انقض عليه «هارباليون» ابن الملك بولايمينيس - الذي تبع أباه العزيز إلى الحرب في طروادة، غير أنه لم يرجع ثانية إلى وطنه المحبوب - فسدد رمحه مباشرة، وأطلقه نحو ترس ابن أتريوس من كثب، ولكنه لم يفلح في دفع البرونز إلى الداخل، وقفل راجعا إلى حشد زملائه، متحاشيا الموت، وهو يتلفت حوله في كل ناحية، خشية أن يجرح رجل ما جسمه بالبرونز. بيد أنه لم يكد ينسحب، حتى صوب «ميريونيس» نحوه سهما برونزي الطرف، فأصاب ردفه اليمنى، ونفذ السهم حتى وصل إلى المثانة أسفل عظم العانة، فجلس بين سواعد رفاقه الأعزاء، ولفظ روحه، مرتميا كأنه دودة على الثرى، وتدفق الدم الأسود فبلل الأرض. فهب لرعايته «البافلاجونيون» الجريئو القلوب، وبعد أن وضعوه في عربة، حملوه إلى طروادة المقدسة في أسى، وذهب معهم والده،
8
يذرف العبرات، إذ لم تكن لابنه الميت فدية!
وغضب باريس أشد الغضب لمقتله. إذ كان «هارباليون » بمثابة «جيشه» بين البافلاجونيين الكثيري العدد. ولحنقه من أجله، أطلق في الفضاء سهما برونزي الطرف. وصادف أن كان هناك شخص يدعى «يوخينور»، هو ابن بولويدوس العراف. وكان ثريا جريء القلب، يقيم في كورنثة وقد ركب سفينته وهو يعلم علم اليقين ما ينتظره من مصير مهلك؛ إذ كثيرا ما أخبره الشيخ بوليدوس الطيب بأنه إما أن يهلك في قصره بمرض قاس، أو يقتله الطرواديون وسط سفن الآخيين؛ ومن ثم فإنه تحاشى ضريبة الآخيين الثقيلة،
9
والمرض البغيض معا، حتى يتفادى الآلام، وكان هو الذي أصابه سهم باريس تحت الفك، أسفل أذنه، ففارقت روحه أعضاءه في الحال، وغشيته الظلمة المقيتة.
خطة جديدة لهكتور!
هكذا كانوا يقاتلون كأنهم النار المتأججة. غير أن هكتور - حبيب زوس - لم يكن قد سمع أو علم قط بأن جيشه يلقى مصرعه في شمال السفن على يد الأرجوسيين. وسرعان ما صار الآخيون على وشك كسب المجد لأنفسهم، إذ كانت قوة مطوق الأرض ومزلزلها، ذلك الذي أخذ يحض الأرجوسيين ويساعدهم، قوة عارمة، ولكن هكتور شدد هجومه على المكان الذي قفز منه، في بادئ الأمر، إلى الأبواب والسور، واقتحم الصفوف المتراصة للدانيين ذوي التروس، في المكان الذي كانت سفن أياس وبروتيسيلاوس قد سحبت عنده إلى البر، بطول شاطئ البحر السنجابي. وكان السور خلفها قد بني أقل ما يكون ارتفاعا.
10
وهناك بالذات، كان الرجال وجيادهم مشتبكين في القتال بحماس.
وكان على البيوتيين والأيونيين - ذوي الثياب الفضفاضة - واللوكريين والفثيين، والأيبيين الأمجاد، أن يبذلوا مجهودا شاقا ليوقفوا هجوم هكتور العظيم على السفن، ولكنهم لم يفلحوا في إقصائه بعيدا عنهم - إذ كان أشبه بلهيب النار - رغم أنهم كانوا صفوة الأثينيين. وكان يتقدمهم «مينيسثيوس بن بيتيوس»، يتبعه «فايداس» و«ستيخيوس» و«بياس» الجريء. بينما تولى قيادة الأيبيين «ميجيس بن فوليوس»، و«أمفيون»، و«دراكيوس». وتقدم الفثيين «ميدون» و«بوداركيس» الجريء في القتال. وكان ميدون ابن سفاح لأويليوس الشبيه بالإله، وشقيقا لأياس، وكان يعيش في فولاكي، بعيدا عن وطنه؛ لأنه كان قد قتل رجلا من أقرباء زوجة أبيه «أريوبيس» التي اتخذها أوبليوس زوجة له. أما بوداركيس فكان ابن أيفيكلوس بن فولاكوس. فوقف هذان متدثرين بعدتهما الحربية، يقاتلان دفاعا عن السفن مع البيوتيين. ولم يبرح أياس السريع - ابن أويليوس - جانب أياس بن تيلامون، ولو للحظة واحدة. وكما يكد الثوران الخمريا اللون معا، في الأرض ذات الأخاديد، ليجرا المحراث المفصلي، فيتدفق العرق سيولا حول جذور قرونهما، ويفصل بينهما النير المصقول - وهما يجاهدان عبر الأخدود - إلى أن يبلغ المحراث نهاية الحقل، هكذا وقف كلا المحاربين «أياس»، وظلا متجاورين. ولقد سارت جموع غفيرة باسلة خلف ابن تيلامون، وكانت من رفاقه المستعدين باستمرار لحمل ترسه عنه إذا ما حل بأطرافه الجهد والعرق. أما اللوكريون فلم يتبعوا ابن أويليوس الجريء القلب؛ لأن قلوبهم لم تكن ثابتة في التحامات المعركة، لا ولا كانت لديهم خوذات برونزية ذات رياش كثيفة من شعر الخيل، ولا تروس مستديرة، ولا أية رماح من الدردار. وإنما كان جل اعتمادهم على الأقواس والأوتار المفتولة جيدا من صوف الأغنام. وكانوا قد تبعوه إلى طروادة، فأخذوا فيما بعد يصوبون بهذه الأدوات في شدة وعنف، ساعين إلى تحطيم كتائب الطرواديين. وراح من كانوا في المقدمة منهم - وهم في عددهم الحربية المرصعة أفخر ترصيع - يقاتلون الطرواديين وهكتور في حلته البرونزية، بينما ظل الآخرون في الخلف يصوبون من مخبئهم. ولم يفكر الطرواديون في مواصلة القتال بعد ذلك، إذ بثت السهام الجبن في نفوسهم.
وكاد الطرواديون - بعد ذلك - أن يتخلوا عن السفن والأكواخ إلى طروادة ذات الرياح، لولا أن «بولوداماس» اقترب من هكتور الجسور، وقال له: «أي هكتور، ما أصعب التفاهم معك، فإنك لا تصغي إلى نصح الناصح. فبقدر ما حباك الله به من تفوق في أعمال الحرب، فإنك في الرأي كذلك معروف بالتفوق على الجميع. ومع ذلك فليس في مكنتك الإلمام بكل شيء من تلقاء نفسك، إذ إن الرب يحبو رجلا بأعمال الحرب، ويحبو آخر بالرقص، وثالثا بالقيثارة والغناء، وفي شخص آخر، يودع زوس - البعيد النظر - عقلا راجحا، يستمد كثير من البشر النفع منه، كما أنه ينقذ كثيرين، وهو ذاته خير من يعرف ذلك عن نفسه؛ ولهذا فإنني سأقول ما أراه الأصلح: انظر، إن حلقة الحرب تشتعل، وها هم الطرواديون ذوو الهمم العالية يهجمون على السور بعنف، وبعضهم يقف بأسلحته بعيدا، بينما يقاتل آخرون، وهم قلة ضد عدد أكبر، وقد تفرقوا بين السفن. هيا، عد إلى الوراء، واستدع إلى هنا جميع الشجعان البواسل، ثم لنتدبر كل رأي بعناية لنرى ما إذا كان الأصلح لنا أن نهجم على السفن الكثيرة المقاعد - إذا كانت إرادة الرب أن يمنحنا النصر - أو نعود بسلام من عند السفن. أما أنا، فإنني أخشى أن يرد الآخيون دين أمس، فإن بجانب السفن رجلا لا يشبع من الحرب، وهو - على ما أعتقد - لن يكبح جماح نفسه بعد ذلك، ولن يبقى بعيدا عن المعركة إطلاقا!»
هكذا قال «بولوداماس» فسر هكتور من مشورته الحصيفة أيما سرور، وقفز لفوره من عربته إلى الأرض - وهو في عدته الحربية - وخاطب بولوداماس بقوله: «أي بولوداماس، هل لك أن تحتفظ هنا بسائر الشجعان البواسل، بينما أذهب أنا إلى هناك لمواجهة القتال، وسأعود بسرعة بعد أن أنزل بهم خطبي كاملا؟»
وما إن قال هذا، حتى انطلق كأنه جبل جليد، يصيح عاليا وسط الطرواديين والحلفاء، فأسرعوا جميعا صوب بولوداماس الشفيق، ابن يانثوس، بمجرد أن سمعوا صوت هكتور. أما هذا، فقد سار بين مقاتلي الصفوف الأولى، بحثا عن دايفوبوس، والأمير الباسل هيلينوس، وأداماس بن أسيوس، وأسيوس بن هورتاكوس، وكأنما كان يتوقع أن يعثر عليهم. غير أنه لم يجدهم قط سالمين، بل كان بعضهم ممددا عند مؤخرة سفن الآخيين - إذ قتلهم الأرجوسيون - والبعض الآخر وراء السور، مصابين بالرماح أو جرحى بطعنات القنا، ولكنه وجد في الحال أحد زملائه - في شمال المعركة المبكية - ذلك هو «باريس» العظيم، زوج هيلينا المصففة الشعر. وكان يحث رفاقه على القتال ويشجعهم، فاقترب منه وخاطبه بعبارات التعبير قائلا: «أي باريس، أيها الشرير، يا أجمل من تقع عليه الأبصار، يا زير النساء المجنون بغرامهن، أيها الغشاش، أين، بربك، دايفوبوس، والأمير الجريء هيلينوس ، وأداماس بن أسيوس، وأسيوس بن هورتاكوس؟ خبرني بالحق، وأين أوثريونيوس؟ ها قد دمرت طروادة الوعرة تماما، وإنك لترى الآن خرابا شاملا محققا!»
وإذ ذاك تحدث إليه «باريس» الشبيه بالإله، قائلا: «أي هكتور، إذا كنت عازما على أن تلوم امرأ لا لوم عليه، ففي غير هذا اليوم كان من المحتمل أن أنسحب من الحرب، أما الآن، فلا؛ لأن أمي لم تلدني ضعيفا قط. فمنذ أن أثرت معركة رفاقك بجانب السفن، ونحن نقاتل الدانيين هنا دون توقف. أما الزملاء الذين تسألني عنهم فقد ماتوا، ما عدا دايفوبوس والأمير الجسور هيلينوس، فإنهما قد رحلا، وكلاهما مصاب في ذراعه بالرماح الطويلة. ومع ذلك فإن ابن كرونوس قد أبعد الموت عنهما. والآن سر قدما إلى الأمام حيثما يأمرك قلبك وروحك، وسنتبعك بحمية، فما أرانا مفتقرين - بحال ما - إلى الجرأة، طالما كانت لنا الشجاعة. بيد أن المرء - مهما يكن متلهفا إلى القتال - لا يستطيع أن يقاتل أكثر مما تحتمل طاقته.»
هكذا قال هذا المحارب، فغير فكر شقيقه، وانطلقا معا إلى حيث كان القتال والصخب على أشده، حول «كيبريونيس»، وبولوداماس المنقطع النظير، وفالكيس وأورثايوس، وبولوفيتيس، شبيه الإله، وبالموس، وسكانيوس، وموروس بن هيبوتيون، الذين قدموا من «أسكانيا» العميقة التربة - في الصباح السابق - ليخلصوا رفاقهم. وأثار زوس هؤلاء وحمسهم إلى القتال، فأقبلوا أشبه بهبة الرياح العاتية التي تندفع نحو الأرض تحت رعد الأب زوس، فتختلط بالبحر في هدير عجيب، وتقابل لجج البحر الصاخبة بدويها المرتفع، وهي تتحرك مقوسة ظهورها إلى فوق وقد علاها الزبد الأبيض، بعضها يتحرك إلى الأمام بينما تتحرك البقية خلفها.
هكذا أيضا سار الطرواديون - في نظام متراص - بعضهم في المقدمة ويتبعهم الآخرون يتألقون بالبرونز، خلف قادتهم. فقادهم هكتور بن بريام - نظير أريس مهلك البشر - وقد أمسك أمامه ترسه المتزن من كل جانب، ذلك الترس المغطى بطبقات سميكة من الجلود، ثبتت فوقها كمية كبيرة من البرونز. وكانت خوذته البراقة تتأرجح فوق فوديه، وهو يجوس خلال الجمع في كل مكان - على هذا الجانب وذاك - يسبر غور الكتائب، لعلها تتقهقر أمامه إذ يتقدم نحوها تحت ستار ترسه، ولكنه رغم ذلك لم يستطع أن يقهر قلوب الآخيين الكامنة في صدورهم. وعندئذ أقبل «أياس» بخطى واسعة، فكان أول من تحداه بقوله: «اقترب، أيها السيد الكريم. لماذا تحاول عبثا أن تلقي الرعب في قلوب الأرجوسيين؟ فلتعلم أننا غير جاهلين بأمور الحرب، ولكننا - معشر الآخيين - بسوط زوس الشرير نهزم. وأظن أن قلبك يتوق إلى تخريب سفننا، ولكن لنا - نحن أيضا - سواعد ندافع بها عنها. ولسوف نستولي على مدينتك الآهلة بالسكان، ونخربها بأيدينا، قبل أن تخرب سفننا. وإني لأخبرك أن اليوم قد اقترب، اليوم الذي ستبتهل فيه إلى زوس وغيره من الآلهة الخالدين، وأنت تهرب، أن تصبح جيادك الجميلة المعارف أسرع من الصقور، تلك الجياد التي تأمل في أن تحملك إلى المدينة، فوق الثرى عبر السهل.»
وبينما هو يتكلم هكذا، إذا بطائر يحلق عاليا، فوق الناحية اليمنى، وكان نسرا عالي الطيران، فلما أبصره الآخيون، صاحوا، وقد شجعهم الفأل، بيد أن هكتور المجيد أجاب قائلا: «ما هذا الذي تقول يا أياس، أيها الكذاب المتهور؟ إنني لواثق من أمر واحد، ثقتي بأنني أود أن أمضي أيامي ابنا لزوس حامل الترس، والسيدة هيرا، ممجدا بأمجاد أثينا وأبولو، ذلك الأمر هو أن هذا اليوم ينبغي أن يحمل في طياته الشر للأرجوسيين أجمعين. ولسوف تقتل أنت الآخر بينهم، إن كان لديك من رباطة القلب ما يمكنك من أن تنتظر رمحي الطويل، الذي سوف يمزق جلدك الشبيه بالزئبق، ولسوف يغدو شحمك ولحمك طعمة تشبع كلاب وطيور الطرواديين، عندما تتردى وتسقط وسط سفن الآخيين!»
وإذ قال هذا، تقدم فتبعه الجمع، يسير خلفه بصخب بالغ، وصاح الجيش وراءه، فصاح الأرجوسيون في الجهة المقابلة يردون على صياحهم، دون أن ينسوا شجاعتهم، بل إنهم صمدوا لهجوم خيرة الطرواديين، فارتفع صخب الجيش عاليا حتى بلغ الأثير ووصل إلى عظمة زوس.
الأنشودة الرابعة عشرة
«... ونزعت عن صدرها الزنار المطرز، العجيب الصنع، الذي رسمت عليه صور جميع ألوان الإغراء؛ فكان عليه الحب، وعليه الشهوة، وعليه الجماع، مما يسلب عقل أحكم الناس!» «هيرا» وإله «النوم» يستدرجان الرب «زوس» إلى النعاس، بينما حرض «بوسايدون» الآخيين على مقاومة هكتور، وكيف جرح «هكتور» في المعركة ... إلخ.
قادة الآخيين يتشاورون!
لم تخف صيحة القتال على «نسطور»، رغم انصرافه إلى احتساء الخمر،
1
فخاطب «إسكليبيوس» بكلمات مجنحة، قائلا: «تأمل يا ماخاوون العظيم، كيف تجري الأمور. حقا إن صيحة الشباب المتهور لتزداد ارتفاعا بجانب السفن. ومع ذلك فيمكنك الآن أن تبقى جالسا حيث أنت، وتعب الخمر اللهبية اللون، إلى أن تهيئ لك «هيكاميدي» - ذات الجدائل الجميلة - حماما دافئا، ثم اغسل الدم المتجلط عن جرحك. أما أنا، فسأذهب من فوري إلى مكان يطل على ميدان القتال، فأرى ماذا يحدث هناك.»
وإذ قال هذا، أخذ ترس ابنه «تراسوميديس» مستأنس الجياد - الذي كان راقدا في الكوخ - ذلك الترس المتين الصنع الذي يلمع كله بالبرونز، إذ كان الابن قد أخذ ترس أبيه، وأمسك «نسطور» في يده رمحا قويا، ذا سن من البرونز الحاد، واتخذ وقفته خارج الكوخ. وفي الحال أبصر عملا مشينا، إذ رأى الآخيين في فوضى، والطرواديين يطاردونهم بهمة ونشاط، وسور الآخيين منهارا. وكما يحدث حين يستحيل البحر العظيم إلى موجة صماء، وصمد متحفزا عابسا في انتظار انقضاض الرياح الصاخبة، ولكنه يمكث جامدا فلا تتحرك اللجج إلى الأمام، ولا إلى هذا الجانب أو ذاك، إلى أن تهبط من لدن «زوس» الريح التي يبتغيها، هكذا أيضا، شرع الرجل المسن يفكر، وعقله موزع حائر بين هذا الرأي وذاك: أيسرع إلى حشد الدانيين أصحاب الخيول السريعة، أم يذهب خلف «أجاممنون بن أتريوس» راعي الجيش؟ وبينما هو يفكر، اهتدى إلى الرأي الأفضل؛ أن يذهب وراء ابن أتريوس، ولكن الآخرين كانوا في الوقت نفسه يقاتلون دون هوادة، ويقتلون بعضهم بعضا، والبرونز الصلب يصلصل حول أجسامهم، وهم يدفعون بعضهم البعض الآخر بالسيوف والرماح ذات الحدين.
والتقى نسطور بالملوك الذين تبناهم «زوس»، والذين كانوا قد جرحوا بالبرونز، وهم يعودون من السفن. وكانوا: ابن توديوس، وأوديسيوس، وأجاممنون بن أتريوس، وكانت سفنهم قد سحبت فوق شاطئ البحر السنجابي، بعيدا عن ميدان القتال، ولكن السفن الأولى كانت قد سحبت إلى مسافة أبعد، في السهل، ثم أقيم السور عند مؤخراتها
2
لأنه لم يكن بوسع الشاطئ - بالرغم من اتساعه - أن يستقبل جميع السفن، وكان الجيش محصورا في منطقة ضيقة؛ ولهذا سحبوا سفنهم فوضعوها صفا وراء صف، وملئوا الشاطئ الرحب المحصور بين مرتفعين. وعلى ذلك سار الملوك جميعا في كتلة واحدة - وقد اتكأ كل منهم على رمحه - ليشاهدوا الحرب والمعركة، وهم محزونو الأفئدة. فالتقى بهم نسطور الشيخ، وثبط من عزيمة الآخيين، وجعل الروح تخور في صدورهم. وعندئذ رفع الملك «أجاممنون» صوته، وتحدث إليه بقوله: «أي نسطور، يا ابن نيليوس، يا مجد الآخيين العظيم، لماذا تركت الحرب، آفة البشر، وقدمت إلى هنا؟ أخشى أن ينفذ هكتور العنيد كلامه ووعيده الذي هددنا به ذات يوم، عندما قال وسط الطرواديين، إنه لن يعود إلى طروادة - من السفن - إلا بعد أن يحرقها بالنار ويقتل الرجال أيضا. هذا ما قاله، وأرى الآن أن كل هذا يتحقق فعلا. ويحي! لا بد أن الآخيين الآخرين - المدرعين جيدا - يكنون لي في قلوبهم سخطا، كما هو الحال مع أخيل، فليست بهم رغبة في أن يقاتلوا بجانب مؤخر سفنهم.»
عندئذ رد عليه الفارس نسطور الجيريني بقوله: «نعم، إن هذه الأمور تتحقق الآن بالفعل، بشكل ما كان زوس نفسه - الذي يرعد في عليائه - يرجوه! فيا للعجب! لقد تحطم السور الذي كنا نضع فيه ثقتنا ليكون خطا دفاعيا منيعا لسفننا ولأنفسنا. وإن الأعداء يشنون عند السفن السريعة معركة حامية مستمرة، ولم يعد بوسعك أن تدري - مهما راقبت عن كثب - من أي جانب يتقهقر الآخيون في فوضى لا حد لها، وهم يتهاوون صرعى، وصيحة الحرب تعلو إلى عنان السماء. وليس بوسعنا سوى أن نفكر في هذه الأمور وكيف يمكن أن تجري، لو كان يجدي شيئا، ولكنني لا أنصح بأن نخوض غمار الحرب، فليس للرجل الجريح أن يقاتل، بأية حال.»
فرد «أجاممنون»، ملك البشر، بقوله: «أي نسطور، أما وهم يقاتلون عند مؤخر السفن، ولم ينفع السور المكين ولا الخندق اللذان تكبد الدانيون من أجلهما جهدا مضنيا، آملين في قلوبهم أن يكونا خطا دفاعيا منيعا لسفنهم ولأنفسهم، فهذه ولا بد - فيما أعتقد - إرادة زوس الأعظم؛ أن يهلك الآخيون هنا بعيدا عن أرجوس، ولا ينالوا صيتا. لقد تبينت ذلك عندما كان زوس يساعد الدانيين بقلب صادق، وإني لأعرف ذلك الآن وهو يعطي المجد لأعدائنا، كما يعطيه للآلهة المباركين تماما، وقد كبل أيدينا وقوتنا، ولكن تعالوا فاتبعوا جميعا ما أشير به. هلموا بنا ننزل سفننا - التي كانت قد سحبت إلى فوق، في الصف الأول - فنقربها من البحر، ثم لندفعها إلى البحر المقدس، ونستبقها في عرضه بمرساة من الحجر، حتى يقبل الليل المبارك، الذي قد ينقاد الطرواديون لأمره ويكفون عن القتال، وبعد ذلك يصير في مقدورنا أن نسحب جميع السفن إلى البحر. فما من عار في الفرار من الهلاك، كلا، ولو تحت جنح الظلام، فلخير للمرء أن يهرب من الدمار وينجو، بدلا من أن يقع فيه.»
عندئذ قطب أوديسيوس حاجبيه، وحدجه بنظرة غاضبة وقال: «يا ابن أتريوس، أية كلمة تلك التي أفلتت من بين أسنانك! يا لك من رجل هالك! ليتك كنت قائدا على جيش آخر، يجلله الخزي والعار، ولست ملكا علينا، نحن الذين قدر علينا زوس أن نصطلي بنار الحرب المؤلمة، من الصغر حتى الكبر، إلى أن يهلك كل فرد منا! أحقا أنت تواق هكذا إلى أن تترك خلفك مدينة الطرواديين الفسيحة الطرقات، التي نتحمل من أجلها آلاما كثيرة مبرحة؟ ألا اسكت يا هذا، خشية أن يسمع بعض الآخيين الآخرين هذه الكلمة - التي لا يجدر برجل قط أن يجشم نفسه مشقة التفوه بها - إذا كان يعرف في قرارته كيف ينطلق بالرأي اللائق، فما بالك إذا كان ملكا ذا صولجان، ولديه من الجيوش المطيعة بقدر الأرجوسيين، الذين تحكمهم. إنني أسفه الآن آراءك التي صدرت منك، إذ تأمرنا - والحرب والمعركة قائمتان على قدم وساق - بأن نسحب سفننا ذات المقاعد المكينة إلى البحر، كي يتمكن الطرواديون، أكثر من أي وقت مضى ، من تحقيق بغيتهم - سيما وأنهم المنتصرون الآن - فينزلوا بنا أقصى ما يمكن من الهلاك. إن الآخيين لن يستمروا في القتال إذا أنزلت السفن إلى عرض البحر، ولكنهم سيتطلعون إلى الفرار، وينسحبون من المعركة. وإذ ذاك توقع بنا مشورتك الدمار، يا قائد الجيوش.»
فأجاب أجاممنون، ملك البشر، قائلا: «أي أوديسيوس، حقا لقد وخزت قلبي بتأنيبك اللاذع، ومع ذلك فلست أقسر أبناء الآخيين على أن ينزلوا سفنهم المكينة المقاعد إلى البحر برغم إرادتهم، ولو أن هناك من يستطيع إسداء رأي أحكم من رأيي - شابا كان أم كهلا - لرحبت بمشورته.»
وإذ ذاك قام «ديوميديس» - الرائع في صيحة الحرب - في وسطهم، وتكلم قائلا: «قريب هو ذلك الرجل، ولن نبحث عنه طويلا، إذا كنتم على استعداد لأن تعيروني آذانا صاغية، دون أن يساور أحدكم الاستهجان؛ نظرا لأنني أصغركم سنا. فإني - مع ذلك - أزهو بأنني أنحدر من سيد جليل، هو «توديوس» الذي طواه الثرى في طيبة، ذلك أن «يورثيوس» أنجب ثلاثة أبناء لا نظير لهم، عاشوا في بليورون وكالودون الوعرة، وأجريوس وميلاس. وكان ثالثهم الفارس «أوينيوس» والد أبي، وهو أعظمهم جرأة وإقداما. ولقد بقي «أوينيوس» في بلاده دائما، أما أبي فقد هام على وجهه، حتى استقر يوما في أرجوس، فهكذا كانت ولا بد إرادة زوس والآلهة الآخرين. وقد تزوج إحدى بنات «أدراستوس»، وعاش في منزل غني بأسباب العيش، وامتلك حقولا وفيرة القمح، وبساتين عديدة تحيط بها الأشجار، وكانت أغنامه كثيرة، وبرمحه تفوق على جميع الأرجوسيين، ولا بد أن تكونوا قد سمعتم بكل هذا، فلست أقول سوى الحق. ومن ثم فليس بوسعكم أن تقولوا إنني بحكم أصلي جبان أو ضعيف، فتحتقروا مشورتي، هلم بنا ننزل إلى المعركة، رغم ما بنا من جراح، طالما كانت الحاجة تتطلب منا هذا. وهناك، فلننأ بأنفسنا عن مرمى الرماح، خشية أن يصاب أحدنا بجرح فوق جرحه . أما الآخرون فيجب علينا أن نحثهم ونرسلهم إلى المعركة، أولئك الذين تركوا العنان لسخطهم، فوقفوا على حدة، دون قتال.»
هكذا قال، وفي الحال أصغوا إليه وأطاعوه ؛ ومن ثم انطلقوا، يقودهم «أجاممنون» ملك البشر.
ولم يكن مزلزل الأرض يقوم بالرقابة عبثا، فذهب معهم في صورة رجل كهل، وأمسك بيد أجاممنون بن أتريوس، وخاطبه بكلمات مجنحة فقال: «يا ابن أتريوس، الآن أعتقد حقا أن قلب أخيل الحقود يغتبط في صدره، وهو يرى مذبحة الآخيين وفرارهم؛ إذ إنه تجرد من الفهم، فلم يعد لديه ذرة منه. ليته يهلك، وينكل به أحد الآلهة! أما أنت فليست الآلهة المباركة بغاضبة منك بأي حال، كلا، كلا، ومع ذلك فإنني أعتقد أن قادة وحكام الطرواديين سيثيرون غبار السهل الفسيح، وستراهم بعيني رأسك وهم يفرون إلى المدينة من السفن والأكواخ.»
وما إن قال هذا حتى صرخ عاليا، وهو يسرع عبر السهل. وكان صياحه عاليا جدا، فكأنما هناك تسعة آلاف يصرخون في المعركة، وهم مقبلون على صراع محتدم. هكذا كانت قوة هائلة في صدر كل رجل من الآخيين، ليحاربوا ويقاتلوا بغير انقطاع.
إغواء زوس!
وكانت هيرا - ذات العرش الذهبي - واقفة إذ ذاك فوق قمة أوليمبوس فوقع بصرها عليه من هناك، وعرفته لتوها وهو ينطلق منهمكا هنا وهناك وسط القتال، حيث يحظى الرجال بالمجد، رأت أخاها، الذي هو صهرها في الوقت ذاته، فاغتبطت في قرارة نفسها. ولاحظت «زوس» جالسا فوق قمة جبل أيدا الكثير النافورات، وكان بغيضا إلى قلبها. وما لبثت «هيرا» الجليلة - ذات عيون المها - أن فكرت في طريقة تموه بها على عقل زوس حامل الترس، فبدت لعقلها هذه الخطة أفضل الخطط: أن تذهب إلى أيدا، بعد أن تتزين في أبهى زينة، لعله يشتهي أن يضطجع معها، ويحتضن جسمها في هيام، وعندئذ تستطيع هي أن تسكب على جفنيه وعقله الماكر نوما دافئا رقيقا!
وبالفعل، ذهبت إلى حجرتها التي صنعها لها ابنها العزيز «هيفايستوس»، وكان قد ثبت في القوائم أبوابا مكينة بمزلاج سري، حتى لا يتمكن من فتحها أي إله آخر. هناك دخلت، وأغلقت الأبواب اللامعة. وبدأت أولا بإزالة البقع من جسمها بدهان الآلهة، وتعطرت جيدا بزيت «أمبروسي» لطيب عبق الرائحة، ما إن ينثر في قصر «زوس» البرونزي الأديم، حتى يشيع عطره في الأرض والسماء. بهذا الزيت دهنت جسمها البض الجميل، وصففت شعرها، وجدلت بيديها غدائرها البراقة، الجميلة الأمبروسية، التي كانت تنساب من رأسها الخالد! وبعد ذلك ارتدت ثوبا معطرا كانت «أثينا» قد صنعته لها بمهارة فائقة، ونثرت فوقه الكثير من الوشي، وثبتته على صدرها بمشابك ذهبية، ثم أحاطت خاصرتها بحزام تزينه مائة من الأهداب، وحلت كلا من أذنيها المثقوبتين بقرط ذي ثلاث لآلئ مدلاة، براقة، تشع بجمال رائع. وسترت الربة نفسها بخمار يغطي كل شيء، خمار جميل يتلألأ ناصعا في ضياء الشمس. وثبتت في قدميها اللامعتين نعليها البديعين. وبعد أن تبرجت وزينت جسمها بكل صنوف الزينة، خرجت من حجرتها، واستدعت إليها «أفروديت» فتحدثت إليها - بعيدا عن الآلهة الآخرين - قائلة: «أي طفلتي العزيزة، أتراك تنفذين بغيتي، أو أنك سترفضينها، وفي قلبك موجدة؛ لأنني أساعد الدانيين، بينما تساعدين أنت الطرواديين؟»
وإذ ذاك ردت عليها أفروديت بنت زوس، قائلة: «أي هيرا، أيتها الربة الجليلة، ابنة كرونوس العظيم، أعربي عما في نفسك، فإن قلبي ليأمرني بتحقيقه إذا استطعت، وإذا كان مما يمكن تحقيقه!»
عندئذ تحدثت إليها هيرا الجليلة، بفكر أريب، فقالت: «أعطيني الآن الحب والشهوة، اللذين اعتدت أن تخضعي بهما سائر الخالدين والبشر؛ لأنني عازمة على زيارة حدود الأرض المثمرة، و«أوفيانوس» - جد الآلهة طرا - والأم «ثيتيس»، اللذين ربياني في حنان ورعياني في قصرهما عندما أخذاني من «ريا» - (الأرض) - وقت أن طرد زوس - الذي يجلجل صوته بعيدا - كرونوس، ليعيش تحت الأرض والبحر غير الثابت. إنني ذاهبة لأزورهما عسى أن أضع حدا لخصامهما اللانهائي، فها قد مضى زمن طويل، وكل منهما منعزل عن الآخر، بعيدا عن الهوى وفراش الزوجية، منذ استقر الغضب في قلبيهما. فلو استطعت بالكلام أن ألين قلبيهما وأعيدهما ثانية إلى الفراش ووحدة الغرام، فسأظل عزيزة لديهما دائما، وأكون جديرة بالاحترام.»
فردت عليها أفروديت المحبة للضحك، بقولها: «لا يجوز أن أرفض طلبك، كما أن هذا لا يليق؛ لأنك ترقدين في أحضان زوس الأعلى.»
قالت هذا، ونزعت عن صدرها الزنار المطرز، العجيب الصنع، الذي رسمت عليه صور جميع ألوان الإغراء؛ فكان عليه الحب، وعليه الشهوة وعليه الجماع، مما يسلب عقل أحكم الناس، ووضعت الزنار في يديها، وخاطبتها قائلة: «خذي الآن هذا الزنار العجيب الصنع، الذي صور عليه كل شيء، فضعيه حول خصرك، وإني لأؤكد لك أنك لن تعودي إلا وقد تحقق كل ما تشتهين في قلبك.»
هكذا قالت، فابتسمت هيرا الجليلة - ذات عيون المها - وبينما هي تبتسم، وضعت الزنار حول خصرها. وما لبثت أفروديت بنت زوس أن عادت إلى منزلها. أما هيرا فقد هرعت إلى أسفل وتركت قمة أوليمبوس، وانطلقت فوق بييريا وإيماثيا الجميلة، وأسرعت فوق جبال الفرسان التراقيين الجليدية، متنسمة أعلى قممها، دون أن تحتك قدماها بالأرض. ومن أثوس خطت فوق البحر المائج، حتى وصلت إلى ليمنوس، مدينة «ثواس» الشبيه بالآلهة، حيث قابلت النوم، شقيق الموت، وقبضت على يده بيدها، وخاطبته بقولها: «أيها النوم، يا سيد جميع الآلهة والبشر، إذا كنت قد استمعت يوما إلى كلامي، فأصغ إلي الآن مرة أخرى، وسأدين لك بالشكر طوال أيامي: أسبل لي عيني زوس البراقتين تحت حاجبيه، بمجرد أن يضمنا العشق في اضطجاع. وسأقدم لك في نظير ذلك هدية، عبارة عن عرش جميل لا يبلى، مصنوع من الذهب الخالص، يصوغه لك بمهارة ابني «هيفايستوس» - الرب القوي الساعدين - ويضع لك أسفله تكأة للقدم تستطيع أن تريح فوقها قدميك البراقتين وأنت تحتسي الصهباء!»
فرد عليها النوم اللذيذ بقوله: «أي هيرا، أيتها الربة الجليلة، ابنة كرونوس العظيم، إن بوسعي أن أسبغ النعاس على أي رب آخر من الآلهة الخالدين، ولو كان من جداول أوقيانوس ذاته وهو أبوهم جميعا. أما زوس بن كرونوس، فلن أجرؤ على الاقتراب منه، ولن أغمض لك عينيه لينام، إلا إذا طلب هو ذلك مني. إذ تعلمت من أمرك درسا فيما مضى، يوم أن أبحر ابن زوس، الجريء القلب، بعيدا عن طروادة، حين خرب مدينة الطرواديين. لقد خدرت يومئذ عقل زوس - حامل الترس - إذ سكبت حوله نفوذي العذب. وكنت تضمرين شرا في قلبك ضد ابنه، فأهجت الرياح القاسية فوق سطح اليم، ثم حملته بعيدا إلى كوس الآهلة بالسكان، بعيدا عن جميع أقربائه. فلما أفاق من النوم، غضب وشتت الآلهة هنا وهناك حول قصره، وراح يبحث عني قبل غيري، وكاد يلقيني من السماء إلى الفضاء السحيق، حتى أهلك، لولا أن الليل أنقذني، الليل الذي يطوي تحت حكمه كلا من الآلهة والبشر، فقد لذت به ضارعا، وإذ ذاك ارتد زوس - رغم غضبه - لأنه كان يخشى أن يقدم الليل السريع على شيء! وها أنت ذي تأمرينني بأن أحقق لك هذه المهمة الجديدة، التي لا أملك القيام بها!»
عندئذ تحدثت إليه من جديد هيرا الجليلة، ذات عيون المها، قائلة: «أيها النوم، لم تهجس في نفسك بهذه الأمور؟ أتعتقد أن زوس - الذي يذهب صوته إلى بعيد - سيساعد الطرواديين، مهما يكن في سورة غضبه من أجل هرقل، ولده؟ كلا. فهيا، وسأعطيك إحدى ربات الجمال الفاتنات لتتزوجها، وتدعوها زوجة لك، سأعطيك «باسيثيا»، التي طالما هفت إليها نفسك طوال أيامك!»
هكذا قالت، فاغتبط النوم، وأجابها قائلا: «تعالي الآن، فأقسمي لي بمياه نهر ستوكس المقدس، وأمسكي الأرض الفسيحة بإحدى يديك، وبالأخرى البحر المتألق، لكي يكون كلاهما شاهدا علينا نحن الاثنين، وكذلك الآلهة الموجودون في أسفل مع كرونوس، أقسمي بأنك ستعطينني حقا إحدى ربات الجمال الفاتنات، بل «باسيثيا» بالذات التي طالما اشتاقت إليها نفسي طوال أيامي!»
قال هذا، فلم تتردد الربة هيرا، البيضاء الساعدين، في سماع قوله، وأقسمت له كما طلب، وتوسلت بالاسم إلى جميع الآلهة أسفل تارتاروس، الذين يسمون «العمالقة».
وبعد أن حلفت وانتهت من قسمها، ترك كلاهما مدن ليمنوس وأمبروس، وتدثرا بالضباب، وذهبا بعيدا، مسرعين في طريقهما، حتى بلغا أيدا العديدة النافورات - أم المخلوقات المتوحشة - وليكتوم، حيث تركا البحر أولا، ثم سارا فوق الأرض اليابسة، فارتعدت ذؤابات الغابة تحت أقدامهما. وهناك وقف النوم، حتى لا تبصره عينا زوس، فتسلق شجرة صفصاف فارعة الطول، كانت أطول شجرة تنمو في أيدا حينذاك، وكانت تشمخ برأسها مخترقة الضباب حتى السماء. فجثم فوقها، واختفى تماما وسط أغصانها، في صورة طائر جبلي واضح الصوت، يسميه الآلهة «كالخيس»، ويسميه البشر «صقر الليل».
فاقتربت «هيرا» بسرعة من قمة جارجاروس - ذؤابة جبل أيدا الشاهق - فرآها زوس - جامع السحب - وما إن وقعت عليها عيناه - في زينتها تلك - حتى تملك الحب قلبه الحكيم، تماما كما حدث حين تضاجعا معا - لأول مرة - واستمتعا بالهوى، دون أن يعلم أبواهما العزيزان بالأمر! ووقف أمامها، وخاطبها بقوله: «يا هيرا، بأية رغبة جئت إلى هنا من أوليمبوس؟ إن جيادك ليست قريبة، ولا عربتك حيث تستطيعين الركوب!»
فأجابته هيرا الجليلة، في خبث ودهاء، قائلة: «إنني ذاهبة لزيارة حدود الأرض المثمرة، وأوقيانوس - جد الآلهة جميعا - والأم «ثيتيس»، اللذين ربياني بحنان ورعياني في ساحاتهما. إنني أبغي زيارتهما، لأضع حدا لخصامهما غير المنتهي. فقد مضى عليهما الآن زمن طويل وهما مفترقان - كل عن الآخر - بعيدان عن الحب وفراش الزوجية، منذ استقر الغضب في قلبيهما. أما جيادي فواقفة عند سفح أيدا الكثير النافورات، متأهبة لتحملني فوق كل من التربة الصلبة ومياه البحر. وقد جئت الآن إلى هنا، من أجلك، هابطة من أوليمبوس خشية أن تستشيط غضبا مني فيما بعد، إذا رحلت إلى منزل أوقيانوس العميق الجريان دون علمك!»
عندئذ تحدث إليها زوس، جامع السحب قائلا: «أي هيرا، يمكنك أن تذهبي إلى هناك فيما بعد، أما الآن فتعالي نستمتع معا في فراش الحب. فما تملكني يوما - نحو ربة أو امرأة - مثل هذا الحب الذي يتدفق على قلبي داخل صدري، ولا حين أحببت زوجة «أكسيون»، التي أنجبت «بابرثيوس» نظير الآلهة في المشورة، أو «داناي» ذات العقبين الجميلين، ابنة «أكريسيوس»، التي أنجبت «بيرسيوس»، المبرز بين جميع المحاربين، أو ابنة «فونيكس» الذائعة الصيت، التي أنجبت لي «مينوس» و«رادامانثوس» شبيه الإله، أو «سيميلي»، أو «الكميني» في طيبة، إذ أنجبت الكميني «هرقل» الجريء القلب، كما أنجبت «سيميلي» ديونيسوس، بهجة البشر، أو «ديميتير» الملكة الفاتنة ذات الجدائل الجميلة، أو «ليتو» المجيدة، بل ما تملكني الحب يوما نحوك أنت، كما يتملكني الآن، إذ تجتاحني الساعة رغبة عذبة نحوك!»
عندئذ تحدثت إليه هيرا الجليلة، في دهاء، فقالت: «يا أفظع ابن لكرونوس، ما هذا الذي تقول؟ كنت تتوق الآن لاضطجاعة الهوى فوق ذؤابات «أيدا» - حيث يكون كل شيء واضحا للأنظار - فماذا يكون الأمر لو أن أحد الآلهة الخالدين رآنا معا نائمين، فذهب وقص الأمر على جميع الآلهة؟ إنني لن أستطيع - إذ ذاك - أن أنهض من المضجع، ولا أن أذهب ثانية إلى منزلك؛ إذ تثور حول الأمر فضيحة. أما إذا كنت راغبا، وكان في ذلك مسرة لقلبك، فهناك غرفة صنعها لك ابنك العزيز هيفايستوس، وقد ثبت إلى قوائمها أبوابا قوية، فهيا بنا إلى هناك حيث نرقد، ما دمت راغبا في الاضطجاع إلى هذا الحد!»
فرد عليها زوس، جامع السحب، بقوله: «لا تخافي يا هيرا أن يرى الأمر أي إله أو إنسان، فلسوف ألفك في غمامة هائلة من الذهب، لا يستطيع خلالها «هيليوس» نفسه أن يشاهدنا، رغم أنه أقوى الآلهة بصرا!»
وهكذا احتوى ابن كرونوس زوجته بين ذراعيه، ومن تحتهما أخرجت الأرض المقدسة الحشائش الناضرة، وكذا اللوتس المندي، والزعفران وشقائق النعمان، غزيرة ملساء، فحملتهما عاليا عن الأرض. هناك رقدا تلفهما غمامة، جميلة ذهبية، تتساقط منها قطرات الندى اللامعة. وهكذا نام الأب في هدوء فوق ذؤابة جارجاروس، وقد سيطر عليه النوم والهيام، يحتضن زوجته بين ذراعيه.
الآخيون يشنون هجوما مظفرا!
أما النوم اللذيذ فانطلق يعدو إلى سفن الأرجوسيين، ليحمل النبأ إلى مطوق الأرض ومزلزلها. فتقدم نحوه وخاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «هل لك الآن يا بوسايدون أن تحمل المعونة إلى الدانيين بقلب رضي، وتمنحهم المجد - ولو لفترة وجيزة - بينما ينام زوس، إذ سكبت عليه النعاس الرقيق، وخدعته هيرا ليضطجع معها في عشق!»
هكذا قال، ثم رحل إلى قبائل البشر المجيدة، وبذا كانت أمام بوسايدون مدة أطول ليقدم فيها المساعدة إلى الدانيين، فقفز لتوه بين صفوف المقدمة وصاح عاليا يقول: «أيها الأرجوسيون، أحقا أننا من جديد سنسلم النصر لهكتور بن بريام، حتى يستولي على السفن ويحرز المجد لنفسه؟ كلا، هذا ما يقوله هو، ويزهو بأنه سيحققه؛ لأن أخيل يمكث إلى جانب السفن الجوفاء وقلبه مترع بالغضب، على أننا لا نأسف من أجله كثيرا لو أننا تكاتفنا وتحمسنا لمساعدة بعضنا بعضا. فتعالوا، ولنطع ما آمركم به. هلموا نتدثر بخير دروع الجيش وأكبرها، ولنغط رءوسنا بخوذات براقة كلها، ونمسك في أيدينا أطول الرماح، ثم نسعى هكذا إلى الأمام. ولسوف أتقدمكم. وأعدكم بأن هكتور بن بريام لن يصمد طويلا، مهما يكن تلهفه. وعلى كل رجل جسور في القتال، ويملك درعا صغيرة فوق كتفه، أن يقدمها إلى من هو أقل منه جرأة، ويزود نفسه بدرع أكبر.»
وإذ قال هذا، أنصتوا إليه بآذان صاغية، وأطاعه الملوك أنفسهم - برغم جراحهم - فانتظموا في صفوف، وكانوا، ابن أتريوس، وأوديسيوس، وأجاممنون بن أتريوس. وجاسوا خلال الجيش كله، وقاموا باستبدال العدد الحربية، فزود المحارب القوي نفسه بحلة حربية قوية، أما أقل المحاربين فقد نال أردأ العدد. وبعد أن وضعوا البرونز البراق على أجسامهم، قادهم «بوسايدون» - مزلزل الأرض - وهو يحمل في يده القوية سيفا مرعبا، طويل الحد، أشبه بالبرق لا يجرؤ أحد على أن يتعرض له في قتال، بل إن الهلع يستبقي الرجال بعيدا عنه! أما الطرواديون - في الجهة المقابلة - فقد نظمهم هكتور المجيد في صفوف ثم أذكى بوسايدون - الأدكن الشعر - وهكتور المجيد، جذوة الحرب: أحدهما يقدم المعونة للطرواديين، والآخر للأرجوسيين، فالتحم الطرفان، وفاض البحر عاليا إلى أكواخ الأرجوسيين وسفنهم، وارتفع طنين الصراع قويا، دونه صخب أمواج البحر على الشاطئ، تدفعها من اليم هبات الرياح الشمالية الفظيعة، ولا يفوقه ارتفاعا زئير النار المستعرة في ممرات أحد الجبال عندما تثب عاليا لتحرق الغابة، ولا تزمجر في مثل دويه، وسط قمم أشجار البلوط الباسقة، تلك الريح التي تزأر غاضبة بأعلى صوتها العاصف، هكذا كانت صيحة الطرواديين والآخيين وقتذاك، وهم يصيحون بصورة مفزعة، وقد انقض بعضهم على بعض.
وبادر هكتور المجيد فقذف رمحه نحو أياس - بمجرد أن استدار ليواجهه - ولم يخطئه، بل أصابه في موضعي حمائل ترسه وسيفه المرصع بالفضة، وكانت ممتدة عبر صدره، فصانت جسمه الرقيق. واستشاط هكتور غضبا لأن الرمح السريع قد طار عبثا من يده، فانبرى عائدا وسط حشد رفاقه، متحاشيا الموت. بيد أن «أياس» التيلاموني ضربه بحجر - بمجرد أن ارتد إلى الوراء - فلقد كانت هناك أحجار كثيرة تستخدم كدعامات للسفن السريعة، وكانت تتدحرج بين أقدامهم وهم يتقاتلون - فرفع واحدا منها إلى فوق، وضرب به هكتور على صدره فوق حافة الترس، بقرب عنقه، فأخذ هذا يدور - من عنف الضربة - كما تدور الدوامة، يدور ويدور، وكما يحدث عندما تسقط شجرة بلوط - وقد اجتثت جذورها - بفعل صاعقة من صواعق الأب زوس، فيصعد منها دخان الكبريت المخيف، وتغيض جرأة كل من يقف على مقربة، فزعا من صاعقة زوس العظيم، هكذا سقط هكتور القوي إلى الأرض في الحال، يتخبط في الثرى، وسقط الرمح من يده. غير أن الترس وقع فوقه، وكذا الخوذة، ومن حوله صلصلت حلته الحربية المرصعة بالبرونز.
عندئذ جرى أبناء الآخيين بصرخات مدوية، أملا في أن يجروه بعيدا. وهم يقذفون رماحهم كثيفة وسريعة. بيد أن أحدا لم يفلح في أن يجرح راعي الجيش بطعنة أو رمية، إذ تجمع حوله - قبل أن يقدر لشيء من هذا أن يحدث - أشجع القوم من أمثال «بولوداماس»، و«أينياس»، و«أجينور» العظيم، و«ساربيدون» - قائد اللوكيين - و«جلاوكوس» المعدوم النظير. ولم يكن بين الباقين من لم يفطن إليه، فاندفعوا جميعا أمامه يحملون تروسهم المستديرة، ورفعه رفقاؤه على سواعدهم، وحملوه بعيدا عن معمعة القتال، حتى بلغوا الجياد السريعة، التي كانت تقف في انتظاره عند مؤخرة ميدان المعركة والصراع، مع سائقها وعربتها المرصعة ترصيعا فاخرا. فحملته هذه الجياد إلى المدينة، وهو يئن أنينا عنيفا. فلما بلغوا مخاضة النهر السلس الجريان كسانثوس ذي الدوامات - الذي أنجبه زوس الخالد - حملوا هكتور من العربة إلى الأرض، ورشوا الماء فوقه، فانتعش، وتطلع بعينيه إلى فوق، ثم جلس على ركبتيه راكعا، وتقيأ دما قاتما. ثم انهار من جديد على الأرض، وغشي عينيه ليل أسود، وكانت الضربة لا تزال تؤلم روحه.
وعندما شاهد الأرجوسيون هكتور محمولا، راحوا ينقضون على الطرواديين انقضاضا أكثر شدة من ذي قبل، وهم يحدثون أنفسهم بالقتال. وعندئذ كان «أياس» السريع - ابن أويليوس - أول من انقض على «ساتنيوس» وجرحه بطعنة من رمحه الحاد، وهو ابن «أينوبس» الذي أنجبته له الحورية النيادية العديمة النظير، بينما كان يرعى قطعانه بالقرب من شواطئ ساتنيويس. فاقترب منه ابن أويليوس - المشهور برمحه - وضربه فوق جنبه، فسقط إلى الوراء، ومن حوله اشتبك الطرواديون والدانيون في صراع مرير. فهب لمعونته عندئذ الرماح «بولوداماس بن بانثوس»، ورمى فأصاب «بروثونيور بن أرايلوكوس» فوق كتفه اليمنى. وشق الرمح القوي طريقه خلال الكتف، فسقط «بروثوينور» في الثرى، وأمسك الأرض براحته. وعندئذ اختال «يولوداماس» بزهو بشع، وصاح عاليا: «إني لأرى أن الرمح لم ينطلق عبثا - مرة أخرى - من اليد القوية التي أوتيها ابن بانثوس العظيم الهمة. بل لقد تلقاه أحد الأرجوسيين في جسمه، وأعتقد أنه سيتكئ عليه - كأنه العصا - وهو يهبط إلى بيت هاديس.
هكذا قال، فران على الأرجوسيين الحزن من جراء تهلله ولا سيما «أياس» الحكيم القلب، ابن تيلامون، الذي ثار غيظه لأن الرجل سقط قريبا جدا منه. وبسرعة قذف رمحه البراق صوب الآخر، وهو ينسحب إلى الوراء. ونجا «بولودامان» نفسه من الموت، بأن وثب جانبا، ولكن أرخيلوخوس بن أنتينور تلقى الرمح، إذ أرادت الآلهة له الموت. فأصابه الرمح في موضع اتصال الرأس بالعنق، فوق أعلى فقرة من العمود الفقري، ومزقت الطنبين.
3
وعندما سقط، كان رأسه وفمه وأنفه أسرع وصولا إلى الأرض من ساقيه وركبتيه. في تلك الآونة، صاح أياس بدوره صياحا عاليا، وصرخ في بولوداماس - عديم المثال - بقوله: «أي بولوداماس، فكر مليا، وخبرني بصراحة، ألا ترى أن هذا الرجل كفء لأن يقتل تعويضا عن بروثوينور؟ إنه لا يبدو لي وضيعا، ولا خسيس المولد، بل إنه شقيق أنتينور، مستأنس الجياد، ولربما كان ابنه، لأنه يشبهه في التركيب شبها عظيما.»
هكذا قال، وهو يعرف الحق كله، فاستبد الحزن بقلوب الطرواديين. وما لبث «أكاماس» أن جرح بطعنة من رمحه، وهو يقف إلى جوار أخيه، إذ كان بروخاموس يجر الجثة من قدميها. وأخذ أكاماس يزهو فوقه في اختيال بشع، وهو يصيح عاليا: «أيها الأرجوسيون، يا من تجيدون الرماية بالقوس، ولا تكفون عن التهديد، إن الويلات والمحن لن تصيبنا وحدنا، بل إنكم ستقتلون مثلنا أيضا. انظروا كيف يرقد بروخاموسكم هذا، الذي صرعته برمحي، حتى لا يطول بدماء أخي انتظار الثأر، إن المرء ليتمنى - لهذا السبب - أن يكون معه في الوغى أحد أقربائه، كي يثأر له إذا ما تردى!»
وإذ قال هذا، حزن الأرجوسيون لتهلله، وكان بينيليوس الحكيم القلب هو أكثرهم غيظا، فهجم على أكاماس. ولم يصمد أكاماس أمام هجمة الأمير بينيليوس، ولكن بينيليوس جرح اليونتوس بن فورباس، الغني بقطعانه، ذلك الذي أحبه هرميس أكثر مما أحب الطرواديين جميعا، فحباه بالثراء، وله أنجبت الأم اليونيوس الطفل الوحيد. ولقد أصابه بينيليوس تحت حاجبه - عند محجر عينه - فاقتلع مقلته، ونفذ الرمح خلال العين وخرج من قفاه، فانهار باسطا يديه، ولكن بينيليوس سحب سيفه البتار، وهوى به على عنقه، فأطاح برأسه والخوذة على الأرض بعيدا. وظل الرمح القوي ساكنا في داخل عينه، فرفعه بينيليوس عاليا كأنه ثمرة الخشخاش، وأراه للطرواديين وهو يزهو قائلا: «أيها الطرواديون، أستحلفكم أن تطلبوا إلى والد ووالدة اليونيوس الفخور، أن يقيما مأتما في ساحاتهما، فإن تبتهج زوجة بروماخوس بن اليجينور بمجيء زوجها المحبوب، عندما نعود نحن شباب الآخيين بسفننا من أرض طروادة!»
هكذا قال، فتملكت الرعدة أطرافهم جميعا، وراح كل رجل يتلفت حوله ليبحث عن مهرب من الهلاك الشامل.
خبرنني الآن، يا ربات الشعر، يا من لكن مساكن فوق أوليمبوس: من كان أول الآخيين، الذي حمل بعيدا غنائم المحاربين الملوثة بالدماء، عندما بدل مزلزل الأرض المعروف سير المعركة؟ لقد كان أياس بن تيلامون هو الأول حقا؛ إذ أصاب «هوريتوس بن جوريتوس»، قائد الموسينيين الجريئي القلوب، واستولى أنتيلوخوس على الأسلاب من «فالكيس» و«ميرميروس»، كما أن ميريونيس قتل «موروس» و«هيبوثيون»، وجندل تيوكر «بروتئون» و«بيريفيتيس» وأحدث ابن أتريوس بخاصرة «هوربيرينور» - راعي الجيش - جرحا، فأخرج البرونز أحشاءه بمجرد أن مزقها الرمح وهو ينفذ في جوفه، فأسرعت روحه تفيض خلال الجرح، وخيمت الظلمة على عينيه. بيد أن أياس السريع - ابن أويليوس - قتل معظم الرجال؛ إذ كان يفوقهم جميعا في المطاردة، لسرعة قدميه وسط صخب الرجال، عندما كانوا يفرون، وقد أوقع زوس الذعر في قلوبهم!
الأنشودة الخامسة عشرة
«... وكان قد استرد قوته منذ برهة، وبدأ يعرف زملاءه من حوله، وقد كف عن اللهث والعرق، إذ ردت إليه الحياة، بمشيئة زوس حامل الترس ...»
كيف استيقظ «زوس» فأمر «أبولو» بأن يرد إلى «هكتور» وعيه وقوته، وأن يسخر الحظ في جانب الطرواديين، وكيف ألقيت النار على سفينة «بروتسيلاوس» ... إلخ.
يقظة زوس!
عندما انطلق الطرواديون في فرارهم فوق الممر والخندق، وفني الكثيرون منهم على أيدي الدانيين، وقف الباقون بجانب عرباتهم شاحبي الوجوه ذعرا وهلعا. وما لبث «زوس» أن استيقظ فوق ذؤابات أيدا - بجانب «هيرا» ذات العرش الذهبي - فهب واقفا على قدميه، وإذا به يرى الطرواديين، كما رأى الآخيين، أولئك ينشدون الفرار، وهؤلاء يطاردونهم من الخلف، وقد توسطهم الملك «بوسايدون». وأبصر «هكتور» راقدا في السهل، ورفاقه يجلسون حوله. وكان يلهث ملتقطا أنفاسه في عناء، وقد شرد فكره، وأخذ يتقيأ دما، لأن الذي ضربه لم يكن أضعف الآخيين. فلما رآه أبو البشر والآلهة، أشفق عليه، وبنظرة رهيبة - من تحت حاجبيه - تحدث إلى «هيرا» قائلا: «أي هيرا، أيتها الربة التي يصعب التعامل معها، إنها لمهارة أحابيلك الشريرة التي أوقفت هكتور العظيم عن القتال، ودفعت الجيش إلى الصخب، ولست أدري - في الحق - إذا كان مقدرا لك أن تكوني أول من يجني ثمار غدرك القاسي، حين ألهب جسمك بالسياط؟! ألا تذكرين عندما كنت مدلاة من أعلى، وقد علقت في قدميك سندانين، وأحطت معصميك بأصفاد من الذهب يتعذر تحطيمها؟ لقد كنت مدلاة في الهواء وسط السحب، وقد هاج الآلهة الآخرون في أوليمبوس الشامخ، ولكنهم لم يفلحوا في الاقتراب منك أو تخليصك، أجل، لقد كنت أقبض على كل من يقترب منك، وأقذف به من عتبتي ليهبط إلى الأرض مجردا من كل قوته. ورغم كل هذا، فإن الأسى الدائب لم يبرح قلبي من أجل هرقل الشبيه بالإله، الذي دفعت به عبر البحر الصاخب، بمعونة الريح الشمالية، بفضل تدبيرك الخبيث. ثم حملته بعيدا إلى كوس الآهلة بالسكان. وهناك أنقذته أنا، ورددته إلى أرجوس، مرعى الجياد، ولو أن ذلك كان بعد أن كابد المشقات. إنما أذكرك بهذه الأشياء من جديد، حتى تكفي عن خداعك، وحتى تعرفي ما إذا كان ينفعك ذلك الجماع والهوى، إذ رقدت معي - عندما جئتني - بمنأى عن الآلهة، وخدعتني!»
وإذ قال هذا، ارتعدت هيرا الجليلة - ذات عيون المها - وخاطبته بكلمات مجنحة قائلة: «فلتشهد علي الأرض الآن، وكذا السماء الواسعة في العلا، ومياه الستوكس الجارية إلى أسفل
1 - وهذا أعظم الأيمان وأرهبها لدى الآلهة المباركين - وكذا رأسك المقدس، وفراش حبنا الزوجي، الذي لا يمكنني حقا أن أحنث في القسم به مهما تكن الأمور، أن «بوسايدون» مزلزل الأرض لا ينزل - برغبة مني - الأذى بالطرواديين وهكتور، ويقدم المعونة لأعدائهم. كلا، بل إن نفسه هي التي تحثه على ذلك وتأمره به، فلقد أبصر الآخيين مهزومين شر هزيمة بجانب سفنهم، فأشفق عليهم. أما أنا، فكم أود أن أشير عليه بأن يسير حيثما توجهه أنت، يا سيد السحب القاتمة!»
هكذا قالت، فابتسم أبو البشر والآلهة، وأجابها بكلمات مجنحة قائلا: «أي هيرا الجليلة، يا ذات عيون المها، لو أنك نسقت منذ الآن تفكيرك مع تفكيري - وأنت تجلسين وسط الخالدين - لأسرع «بوسايدون» إلى تحويل تفكيره هو الآخر، مهما تكن رغبته مناقضة، فيتبع ما يبتغيه قلبك وقلبي. فإذا كنت تتكلمين صدقا وصراحة، فاذهبي الآن بين عشائر الآلهة واستدعي «أيريس» إلى هنا، و«أبولو» المشهور بقوسه، وذلك كي تذهب «أيريس» إلى جيش الآخيين المتدثرين بالبرونز، فتأمر السيد «بوسايدون» بأن يكف عن القتال، وتصرفه إلى منزله. أما الإله «أبولو»، فليحفز هكتور إلى القتال، وينفث فيه القوة من جديد، ويجعله ينسى الآلام التي تعكر صفو فؤاده، حتى يدفع الآخيين القهقرى من جديد، بعد أن يبث فيهم الهلع الرعديد. وبذلك يفرون ويسقطون بين سفن أخيل بن بيليوس، الكثيرة المقاعد، فيوفد هذا رفيقه «باتروكلوس»، فيقتله هكتور العظيم، بالرمح - أمام طروادة - بعد أن يكون هو قد قتل كثيرا من الشبان الآخرين، بينهم ابني «ساربيدون» العظيم. وفي سورة الغضب لموت باتروكلوس، سيقتل أخيل العظيم «هكتور». ومنذ تلك اللحظة، سأدبر مطاردة من ناحية السفن، تظل بلا هوادة، إلى أن يستولي الآخيون على طروادة الوعرة بفضل نصائح «أثينا»، ولكني حتى تلك الساعة لن أكف عن غضبي على الدانيين، ولن أدع أي إله آخر من الخالدين يساعدهم، ما لم تتحقق رغبة ابن بيبليوس، كما وعدته في البداية، وأحنيت رأسي تأكيدا لذلك، يوم أن أمسكت الربة «ثيتيس» ركبتي متوسلة إلى أن أخلع المجد على أخيل، مخرب المدن.»
هكذا قال، فلم تتردد الربة «هيرا» - الناصعة الذراعين - في الإصغاء إليه، ثم ذهبت في طريقها من جبال أيدا إلى أوليمبوس الشامخ. وكما يحلق عقل الإنسان - الذي ارتاد بلادا نائية - فيفكر في حكمة وتبصر، قائلا: «ليتني كنت هنا، أو هناك.» وتنساب الأماني بسرعة إلى مخيلته.
هكذا انطلقت «هيرا» الجليلة متلهفة، حتى وصلت إلى أوليمبوس الشديد الانحدار، فوجدت الآلهة الخالدين مجتمعين معا في منزل زوس، وما إن رأوها حتى هبوا جميعا واقفين، وحيوها بكئوس الترحيب. أما هي فتركت كئوس الآخرين، وأخذت الكأس من «ثيميس» الجميلة الخدين، لأنها كانت أول من جرى للقائها، مخاطبة إياها بكلمات مجنحة قائلة: «لم جئت إلى هنا، يا هيرا؟ يبدو أنك شاردة الفكر، ولا بد أن زوس بن كرونوس - زوجك - قد أرهبك!»
عندئذ ردت عليها الربة «هيرا» - ذات الساعدين الناصعين - بقولها: «لا تسأليني كثيرا عن هذا الأمر أيتها الربة ثيميس، فإنك تعلمين من تلقاء نفسك طبيعة مزاجه، وكيف أنه شديد الغطرسة لا يلين، ولكن لنبدأ الوليمة التي تضم الآلهة على قدم المساواة، وستسمعين مع الخالدين جميعا أي شر يدبره زوس. ولست أعتقد أنه مما يسر قلوب الجميع - من آلهة أو بشر - أن توجد قلوب تجلس إلى الوليمة مستبشرة!»
وما إن قالت هيرا هذا، حتى استوت جالسة، بينما رجفت قلوب الآلهة في جميع أرجاء بهو «زوس». وابتسمت هيرا بشفتيها ، ولكن جبينها لم ينبسط فوق حاجبيها القاتمين. ثم راحت تقول لهم جميعا في حنق: «يا لنا من حمقى إذ نذهب في رعونتنا إلى درجة إغضاب زوس! وفي الحق أننا لا نزال تواقين إلى الاقتراب منه، وزحزحته عن مشيئته، سواء بالقول أو بالعمل، في حين أنه يجلس بعيدا غير مكترث أو مهتم؛ لأنه يعتقد أنه أعظم الآلهة الخالدين، وأشدهم بأسا وقوة؛ ومن ثم فلتقنعوا جميعا بأي أسى ينزله بكل منكم. وأحسب أنه قد نسج الأسى لأريس بالفعل، إذ إن «أسكالافوس»، ابن أريس وأعز البشر إليه، قد هلك في المعركة!»
وإذ قالت هذا، ضرب «أريس» فخذيه القويتين براحتي يديه، وبكى قائلا: «لا ينحين علي باللائمة أحد منكم يا من تسكنون فوق أوليمبوس، إذا ما ذهبت إلى سفن الآخيين وانتقمت لمقتل ابني، ولو كان نصيبي أن أضرب بصاعقة زوس، وأن أرقد بين الموتى، في الدم والتراب!»
وما إن قال هذا، حتى أمر «الفزع» و«الشغب» بأن يشدا خيوله إلى النير، وارتدى عدته الحربية البراقة. وكان من المحتمل أن يشتد الحنق والغضب ويستفحلا، بين «زوس» والخالدين، لولا أن أسرعت «أثينا» - وقد تملكها الخوف على جميع الآلهة - فوثبت خلال الباب، مغادرة العرش الذي كانت تجلس عليه، ثم نزعت الخوذة عن رأس «أريس» والدرع عن كتفيه، كما أخذت الرمح البرونزي من يده القوية، وألقت به جانبا. وراحت تؤنب أريس المارق، قائلة: «أيها الرجل المأفون، المجرد من الحصافة، إنك هالك لا محالة! إن لك أذنين حقا، ولكنهما لا تسمعان، وقد تلاشى فهمك وإدراكك للصواب. ألا تسمع ما قالته الربة «هيرا» البيضاء الساعدين، تلك التي لم تأت من لدن زوس الأوليمبي إلا منذ لحظات؟ أم تراك تود أن تملأ كأس الآلام والويلات، ثم تعود مكروها - بحكم الضرورة - إلى أوليمبوس وتزرع بذور الويل المرير لجميع الباقين؟ ذلك لأنه سيبادر إلى التحول عن الطرواديين والآخيين - ذوي القلوب الجسورة - ويهرع إلى أوليمبوس لينزل النقمة بنا، فيقبض علينا تباعا، البريء منا والمذنب على السواء؛ ومن ثم فإني آمرك بأن تتخلى عن غضبك من أجل ابنك. لقد هلك من قبل - وسيهلك فيما بعد - كثيرون يفوقونه قوة وبأس يد، ومن العسير أن تنقذ أنساب البشر جميعا وسلالاتهم!»
هكذا قالت، وحملت أريس الثائر على أن يجلس فوق عرشه. أما «هيرا» فقد استدعت «أبولو» وأيريس - رسولة الآلهة الخالدين - إلى خارج البهو، وخاطبتهما بكلمات مجنحة قائلة: «إن زوس يأمركما بأن تذهبا إلى «أيدا» بأقصى ما في وسعكما من سرعة. فإذا ما وصلتما إلى هناك، ومثلتما أمام وجه زوس، فأنجزا كل ما يأمر به أو يطلبه!»
وما إن قالت هيرا الجليلة هذا حتى عادت ثانية واستوت جالسة فوق عرشها، فانطلقا لفورهما إلى أيدا ذات النافورات العديدة، وأم الوحوش، فوجدا زوس - الذي ينطلق صوته إلى بعيد - جالسا فوق ناصية جارجاروس، تحيط به سحابة عبقة الرائحة. عندئذ مثل الاثنان أمام وجه زوس، جامع السحب، فلم يستأ في قلبه إذ رآهما، لأنهما أطاعا كلام زوجته العزيزة بسرعة. وما لبث أن خاطب أيريس أولا بكلمات مجنحة قائلا: «اذهبي في عجلة، يا أيريس السريعة، واحملي كل هذه الأنباء إلى السيد بوسايدون، متوخية الصدق في نقلها إليه؛ مريه بأن يكف عن الحرب والقتال، ويذهب فينضم إلى قبائل الآلهة، أو يرحل إلى البحر المتألق. وإذا لم يطع كلماتي، ولم يحفل بي، فدعيه يفكر إذن في عقله وقلبه، خشية ألا يجد - مهما تكن قوته - شجاعة تمكنه من مقاومة هجومي؛ لأنني أعلن على الملأ بأنني أفضله قوة بمراحل، كما أنني أكبر منه سنا، ولكن قلبه لا يرهب أن يعتبر نفسه نظيري، أنا الذي يهابني جميع الآلهة الآخرين!»
وإذ قال هذا، لم تتلكأ أيريس - ذات القدمين السريعتين - في استيعاب كلامه وتنفيذه بسرعة الريح. فهبطت في الحال من تلال أيدا إلى طروادة المقدسة. وكما يطير البرد أو الثلج من السحب - مدفوعا بهبة الريح الشمالية المتحركة وسط السماء المتألقة - كذلك أيضا انطلقت أيريس السريعة متلهفة، واقتربت من مزلزل الأرض المجيد، وخاطبته بقولها: «يا مطوق الأرض، أيها الرب القاتم الشعر، إنني قادمة إليك برسالة من زوس، حامل الترس. إنه يأمرك بأن تكف عن الحرب والقتال، وتذهب للانضمام إلى قبائل الآلهة، أو تعود إلى البحر اللامع. أما إذا لم تسمع قوله، واستهنت بأمره، فسيحضر هو بنفسه إلى هنا، ليركز قوته حيال قوتك في العراك. وإنه ليأمرك بأن تتجنب يديه؛ لأنه يجاهر بأنه يفوقك قوة. ويكبرك سنا، ومع ذلك فإن قلبك لا يرهب أن تعتبر نفسك نظيرا لمن يهابه غيرك من الآلهة جميعا!»
فاتقد مزلزل الأرض غيظا، وأجابها بقوله: «حقا، ما أفظعه! لقد أسرف في الصلف - برغم قوته - وكأنه يستطيع حقا أن يخضعني عنوة، ودون رغبتي، وأنا قرينه في المجد. فنحن إخوة ثلاثة أنجبنا كرونوس، وريا: زوس، وأنا، وثالثنا هاديس ملك الموتى في العالم السفلي. ولقد قسمت جميع الأشياء إلى ثلاثة أجزاء متساوية، فلما هزت الأزلام، وعينت لكل منا مملكته، كان نصيبي البحر ذو الزبد الأبيض، ليكون موطني إلى الأبد، وكان الظلام الدامس من نصيب هاديس. بينما فاز زوس بالسماء الفسيحة وسط الفضاء والسحب. أما الأرض وأوليمبوس الشامخ فقد بقيت حتى الآن مشاعا بيننا جميعا. وعلى ذلك فلن أخضع لمشيئة زوس بحال من الأحوال، كلا، لن أخضع له، مهما تكن قوته، فليمكث في الثلث الذي آل إليه، ولا يحاول تخويفي بقوة يديه، كما لو أنني كنت جبانا رعديدا. فخير له أن يهدد بالكلمات الرهيبة بناته وأبناءه، أولئك الذين أنجبهم من صلبه، والذين يخضعون لكل ما يلقيه إليهم من أوامر!»
فردت عليه أيريس، ذات القدمين اللتين في سرعة الريح، قائلة: «أي مطوق الأرض، أيها الإله القاتم الشعر، أتريدني حقا أن أحمل رسالتك هذه إلى زوس، بالعصيان وعدم الرضوخ، أم أن قلبك لن يلبث أن يتحول؟ إنك لتعلم أن «الأيرينويس»
2
ينحزن دائما إلى الأكبر سنا!»
فأجابها «بوسايدون» من جديد، قائلا: «أيتها الربة أيريس، ما أصدق ما تحدثت به. وما أبدعه من أمر أن يكون للرسول عقل مدرك! ولكن غما فظيعا يملأ قلبي وروحي، عندما يحاول أي فرد أن يطغى على ند له - حباه القدر بحظ مساو لحظه - بكلمات غاضبة. على أنني سأنصاع الآن - برغم سخطي - وإن كان ثمة شيء آخر سأقوله لك، وسأضمره في قلبي كوعيد: ذلك هو أنه إذا كان زوس يعتزم - بالرغم مني، ومن أثينا، سائقة الغنائم، وهيرا، وهيرميس، والملك هيفايستوس - أن يبقي على طروادة الوعرة، فلا يخربها، ولا يعطي الأرجوسيين بأسا عظيما، فليعلم هذا، ليعلم أن سخطنا لن ينضب له معين!»
قال مزلزل الأرض هذا، ثم ترك جيش الآخيين، وسار إلى البحر ووثب إليه، فافتقده المحاربون الآخيون أيما افتقاد!
ثم تحدث زوس - جامع السحب - إلى أبولو، بقوله: «اذهب الآن يا أبولو - أيها العزيز - إلى هكتور المتدثر بالبرونز، فقد رحل الآن مطوق الأرض ومزلزلها إلى البحر المتألق، متحاشيا غضبنا المطلق، وإلا لسمع الآخرون عن صراعنا، حتى الآلهة الذين في العالم السفلي مع كرونوس. بيد أن هذا أفضل للطرفين معا - لي وله هو الآخر - إذ خليق به أن يكون طوع يدي، بالرغم من غضبه، وإلا لما انتهى الخلاف بدون كفاح. احمل في يديك الترس ذا الأهداب، وهزه بعنف فوق المحاربين الآخيين لتلقي به الذعر في نفوسهم. أما أنت، أيها الرب الذي تضرب من بعيد، فأجعل هكتور المجيد موضع رعايتك، وخلال هذه الفترة، بث فيه بطشا عظيما، إلى أن يهرب الآخيون إلى سفنهم والهيليسبونت، ومنذ تلك اللحظة، سأصطنع من القول والفعل ما يمكن الآخيين من أن يستعيدوا أنفاسهم بعد تعبهم!»
هكذا قال، فلم يعص أبولو أمر أبيه، بل انطلق هابطا من تلال أيدا، كأنه البازي قاتل اليمام، الذي هو بحق أسرع المجنحات. فوجد هكتور العظيم - ابن بريام الحكيم القلب - ساهرا، غير راقد. وكان قد استرد قوته منذ برهة، وبدأ يعرف زملاءه من حوله، وقد كف عن اللهث والعرق، إذ ردت إليه الحياة - بمشيئة زوس حامل الترس - فاقترب منه أبولو البعيد المرمى، وقال له: «أي هكتور، يا ابن بريام، لماذا أنت هنا بمنأى عن الآخرين؟ هل أصابك مكروه ما؟»
فأجابه هكتور - ذو الخوذة البراقة - بصوت واهن: «أي إله أنت، أيها النبيل الذي يسألني وجها لوجه؟ ألا تعلم أن أياس - الرائع في صيحة الحرب - قد ضربني بصخرة فوق صدري، عند مؤخر سفن الآخيين بينما كنت أوقع الدمار بزملائه، فجعلني أكف عن بطشي الجامح؟ أجل، لقد حسبت أنني - في يومي هذا - سأرى الموتى، ومنزل هاديس، إذ كدت ألفظ نفسي الأخير!»
عندئذ تحدث إليه ثانية الإله أبولو - البعيد الرماية - قائلا: «تشجع الآن، فإن الذي أرسله ابن كرونوس من أيدا ليقف إلى جانبك ويدافع عنك، مساعدا قوي البأس، هو أنا: أبولو، ذو السيف الذهبي، الذي اعتاد من قديم الزمان أن يحميك، أنت نفسك، ويحمي القلعة الشاهقة كذلك. هيا، مر سائقيك الكثيرين أن يقودوا جيادهم السريعة نحو السفن الجوفاء، وسأذهب أنا قبلهم وأمهد الطريق كله للعربات، ولسوف أجبر المحاربين الآخيين على الفرار!»
وإذ قال هذا، نفث قوة عظيمة في راعي الجيش.
عودة الطرواديين إلى الهجوم!
وكما يحدث عندما يحطم الجواد المعلوف - الذي نال كفايته من المذود - قيده، ويجري راكضا عبر السهل، تواقا إلى أن يغتسل في النهر الهادئ الجريان، وهو يرفع رأسه عاليا، وقد انساب عرفه متموجا حول كتفيه، ثم يثمله الزهو، فتحمله ركبه سريعا إلى مساكن الأفراس ومراعيها، هكذا أيضا، بمثل هذه السرعة، أعمل هكتور قدميه وركبتيه، وراح يحث سائقيه، بعد أن سمع صوت الرب! وكما يحدث عندما يطارد الكلاب والقرويون ظبية ذات قرون أو عنزة برية، فتنقذها منهم صخرة عمودية أو دغل ظليل، فلا يقدر لهم أن يعثروا عليها، بل يأتي - على صوت صراخهم - أسد ذو لبد، فيتبدى لهم في الطريق، ويضطرهم جميعا إلى المبادرة بالفرار عائدين، برغم حماسهم، هكذا كان أمر الدانيين، فقد قضوا فترة من الزمن يزحفون قدما متكتلين، ضاربين بالسيوف، أو طاعنين بالرماح، ذات الحدين. حتى إذا أبصروا هكتور يصول ويجول بين صفوف الرجال، ألم بهم الخوف، وهبطت أرواح الرجال جميعا في أقدامهم!
عندئذ قام في وسطهم «ثواس بن أندرايمون»، خير الأيتوليين. وكان بارعا في قذف الرمح، وماهرا في الالتحام والمبارزة. أما في الاجتماع، فلم يكن يملك التفوق عليه - إذا ما تقارع الشباب بالحجج - سوى قلة من الآخيين. وباعتداد قام في الحشد، وتكلم قائلا: «هيا استمعوا إلي الآن، إن ما تراه عيناي لمعجزة كبرى حقا، إذ كيف نهض هكتور هذا ثانية ونجا من المصير المقدر؟ الحق أن كل رجل منا كان يعتقد - في فؤاده - أنه قد مات بين يدي أياس بن تيلامون، ولكن العجيب أن أحد الآلهة قد خلص هكتور ثانية وأنقذه، هذا الذي أرخى ركب كثير من الدانيين، وهو ما سوف يحدث الآن أيضا، كما أعتقد. فما كان ليقف في الصفوف الأولى، تواقا هكذا للصراع، دون مشيئة من زوس المرعد عاليا. فتعالوا وأطيعوني جميعا، فيما آمركم به، لنأمر الجمع بالعودة إلى السفن، أما نحن أنفسنا - معشر الذين يعلنون أنهم خير من في الجيش طرا - فلنصمد في أماكننا، إذا كان لنا أولا أن نواجهه، ونرده على أعقابه إلى الخلف برماحنا المشهرة. فإني لأعتقد أنه - برغم كل ما هو عليه من حماس - سيشعر بالخوف من التوغل وسط حشد الدانيين!»
هكذا قال، فأصغى إليه الجميع عن طيب خاطر، وأطاعوا أمره. وعمد الذين كانوا مع أياس، والأمير أيدومينيوس، وتيوكر، وميريونيس، وميجيس - نظير أريس - إلى دعوة خير المحاربين، وواصلوا القتال ضد هكتور والطرواديين، بينما عاد الجمع من خلفهم إلى سفن الآخيين.
وما لبث الطرواديون أن تقدموا في حشد متراص، وهكتور على رأسهم، يتقدمهم بخطى واسعة، بينما سار أمامه «أبولو»، وقد حفت بكتفي الإله سحابة وحمل في يده الترس القوي الذي تحيط به أهداب عديدة، ذلك الترس المخيف الشديد اللمعان، الذي أعطاه «هيفايستوس» الحداد لزوس ليحمله، كي يبث الرعب بين المحاربين، فقد حمل أبولو ذلك الترس في يديه وهو يقود الجيش إلى الأمام.
وكان الأرجوسيون في حشد متكاتف ينتظرون مجيئهم. وارتفعت صيحة الحرب مدوية من كلا الجانبين، وانطلقت السهام من أوتار القسي، والرماح العديدة تقذف بها الأيدي المكينة، فغاب بعضها في أجسام الشباب الصريع في المعركة، بينما هوى كثير منها في منتصف الطريق، وانغرست في الأرض، دون أن تبلغ اللحم الأبيض الذي كانت تتوق إليه!
وظلت سهام الجانبين تصيب مآربها وتردي القوم، طالما ظل أبولو ممسكا بالترس في يديه، لا يحركه . أما حين تجلى بكامل هيئته للدانيين - ذوي الخيول السريعة - وهز الترس، وصاح بصوت مجلجل جبار، فإن قلوبهم غاصت في صدورهم، ونسوا بأسهم الجامح. وكما يحدث عندما يثير وحشان الهلع في قطيع من الأبقار، أو قطيع ضخم من الأغنام - في ظلمة الليل البهيم - إذ يهجمان عليها فجأة، في غياب الراعي، هكذا دب الذعر والخور في نفوس الآخيين، إذ أرسل أبولو عليهم الفزع، بينما منح الطرواديين - وهكتور - المجد!
وإذ ذاك انقض كل رجل على آخر، وتشتت القوم في ميدان القتال. وقتل هكتور كلا من «ستيخيوس» و«أركيسيلاوس» - وكان أولهما قائد البيوتيين، والثاني رفيق حميم لمينيسثيوس العظيم النفس - بينما قتل أينياس كلا من «ميدون» و«أياسوس». وكان «ميدون» ابن سفاح لأويليوس الشبيه بالإله - شقيق أياس - وكان يقيم في فولاكي بعيدا عن وطنه، لأنه قتل رجلا من أقرباء زوجة أبيه «أريوبيس»، التي تزوجها أويليوس. أما «أياسوس» فكان قائد الأثينيين، وابن «سفيلوس بن بوكولوس».
أما «بولوداماس» فقتل «ميكيستيوس»، كما أن «بوليتيس» قتل «أخيوس» في مقدمة المعركة. وقتل كلونيوس بيد أجينور العظيم، وكذلك دايوخوس رماه باريس من الخلف، بينما كان يهرب بين محاربي المقدمة، فأصابه فوق قاعدة كتفه، ثم دفع الرمح إلى جوفه!
وفي نفس الوقت الذي كانوا ينزعون فيه العدد الحربية عن هؤلاء، كان الآخيون يلقون بأنفسهم داخل الخندق الذي حفروه، وعلى حاجز الأوتاد المدببة، فارين في هذه الطريق وتلك، وقد اضطروا إلى الاحتماء وراء سورهم. فصاح هكتور بأعلى صوته، ونادى الطرواديين قائلا: «إلى السفن، واتركوا الغنائم الملطخة بالدماء. لن تقع عيناي على رجل بعيد عن السفن - في الجانب الأقصى - إلا سأضرب عنقه في نفس مكانه، ولن يتسنى لأقاربه وقريباته أن يقدموا له حقه من النار في موته، بل ستنهشه الكلاب أمام مدينتنا!»
قال هذا، وألهب جياده بالسوط، ونادى بأعلى صوته على الطرواديين بطول الصفوف، فصاحوا جميعا بصوت مرتفع ، وانطلقوا معه يسوقون الجياد التي كانت تجر عرباتهم في ضجيج مثير. وكان «أبولو» يتقدمهم وهو يحطم بقدميه ضفتي الخندق العميق، ويرمي بهما في وسطه مقيما بذلك ممرا طويلا للرجال، كان عرضه بقدر رمية رمح يقذفه امرؤ يختبر قوته. فتدفقوا فوقه إلى الأمام، صفا خلف صف، وفي مقدمتهم أبولو يحمل الترس الرائع. وفي سهولة بالغة انهار سور الآخيين، كما يبعثر الصبي الرمل بجانب البحر، إذ يشيد أولا من الرمال صروحا مما يروق للطفولة ثم يحطمها بيديه ورجليه! بمثل هذه السهولة حطمت، أيها القواس «أبولو»، كفاح الآخيين ومجهودهم الطويل، وبعثت الفوضى بينهم!
وأخيرا، وقف الدانيون إلى جانب سفنهم، وراحوا يتنادون، ثم رفعوا أكفهم إلى الآلهة، وراح كل منهم يصلي بحرارة، لا سيما نسطور الجيريني، متراس الآخيين، الذي صلى وهو يبسط يديه نحو السماء ذات النجوم، قائلا: «أبتاه زوس، إذا كان أي رجل منا - في أرجوس الغنية بالقمح - قد أحرق لك قطعا دسمة من فخذ ثور أو كبش، وهو يصلي من أجل عودته، ثم وعدته وأحنيت رأسك على ذلك، فلتتذكر الآن هذه الأشياء، وامنع عنا - أيها الرب الأوليمبي - اليوم المشئوم، ولا تدع الطرواديين يسحقون الآخيين».
هكذا قال في صلاته، فأرعد زوس المستشار رعدا مدويا، وقد سمع صلاة الشيخ ابن نيليوس. ولكن الطرواديين لم يكادوا يسمعون رعد زوس، حامل الترس، حتى اشتدوا في انقضاضهم على الأرجوسيين، وأمعنوا في القتال. وكما يحدث عندما تندفع اللجة العاتية في البحر الفسيح المسالك، منقضة على قلاع إحدى السفن. مدفوعة بقوة الريح التي تجعل الأمواج تعلو فوق كل شيء، هكذا أيضا انقض الطرواديون بصيحة عظيمة على السور، وهم يسوقون عرباتهم إلى الداخل. وقاتلوا في عراك والتحام عند مؤخرة السفن، برماح ذات حدين: هم في عرباتهم، والآخيون عاليا فوق ظهور سفنهم السوداء التي تسلقوها، وراحوا يقاتلون برماح طويلة كانوا قد أعدوها فوق السفن للقتال البحري، رماح ذات عقد، يغطي طرفها البرونز.
باتروكلوس يفارق يوروبولوس!
وبينما كان الآخيون والطرواديون يتقاتلون حول السور بعيدا عن السفن السريعة، كان «باتروكلوس» يجلس في كوخ «يوروبولوس» الوفي، يسري عنه بالحديث، ويضع الأعشاب الطبية فوق جرحه المؤلم ليخفف من ألمه الحاد القاتم. بيد أنه لم يكد يبصر الطرواديين يهجمون على السور، بينما أخذ الدانيون يصيحون عاليا وهم يولون الأدبار، حتى تأوه عميقا، وضرب فخذيه براحتي يديه، وبكى وهو يقول: «لم أعد أقوى البتة على البقاء معك ها هنا يا «يوروبولوس»، بالرغم من أنك في مسيس الحاجة إلى المساعدة، فهناك قتال عنيف حقا. دع خادمك يعنى بك، بينما أسرع أنا إلى أخيل كي أحثه على القتال. فمن يدري؟ لعلي مستطيع - بمعونة الآلهة - أن أثير حميته بقولي، فما أفضل النصائح التي تصدر عن صديق!»
وما إن قال هذا، حتى انطلق تحمله قدماه إلى الأمام، وكان الآخيون ينتظرون بثبات هجوم الطرواديين، وإن كانوا لم يفلحوا في دفعهم عن السفن، رغم أنهم كانوا فئة قليلة، كما أن الطرواديين لم يستطيعوا - بحال ما - أن يحطموا كتائب الدانيين أو يشقوا لهم طريقا إلى وسط الأكواخ والسفن. وكما يجعل حبل النجار أخشاب السفينة مستقيمة، في يدي الصانع الأريب، الماهر جدا في جميع ضروب الصناعة بإرشادات «أثينا»، فكذلك استقامت الحرب واشتد القتال على قدم المساواة، وراح كثير من المحاربين يقاتلون حول السفن العديدة. أما هكتور فقد اتجه مباشرة نحو أياس المجيد، إذ كانا يناضلان حول سفينة واحدة، ولم يستطع أحدهما أن يدفع الآخر للوراء ويحرق السفينة بالنار، ولا الآخر أن يدفعه إلى الخلف، وقد اقترب الرب منه الآن. وما لبث أياس المجيد أن قذف رمحه فأصاب «كالينور بن كلوتيوس»، فوق صدره، بينما كان يحمل النار إلى السفينة، فسقط متخبطا في عنف، وسقطت الشعلة من يده. بيد أن هكتور، لم يكد يبصر بعينيه ابن عمه يسقط في التراب أمام السفينة السوداء، حتى نادى الطرواديين واللوكيين بصرخة عالية، قائلا: «أيها الطرواديون واللوكيون والداردانيون الذين تلتحمون في القتال: إياكم والتقهقر - بأية حال - من ميدان القتال، في هذا المضيق ما عدا ابن كلوتيوس، خشية أن يجرده الآخيون من حلته الحربية، وقد سقط الآن وسط حشد السفن.»
قال هذا وقذف رمحه البراق نحو أياس، فأخطأه، ولكنه أصاب «لوكوفرون بن ماستور»، خادم أياس، القادم من كوثيرا، والذي كان يقطن معه، بعد أن قتل رجلا في كوثيرا المقدسة. فلقد ضربه هكتور بالبرونز الحاد فوق رأسه - أعلى الأذن - وهو واقف بالقرب من أياس، فسقط من مؤخر السفينة إلى الوراء على الأرض، يتردى في الثرى، وانحلت أطرافه. فارتعد أياس وتحدث إلى أخيه قائلا: «يا تيوكر العزيز، لقد سقط زميل مخلص لكلينا حقا، فإن ابن ماستور - الذي كرمناه في بيوتنا كما نكرم آباءنا، حين أقبل من كوثيرا - قد صرعه هكتور العظيم النفس. أين سهامك الآن، تلك التي تجلب الموت السريع، والقوس التي أعطاك إياها أبولو؟»
هكذا قال، فسمع الآخر كلامه، وجرى في الحال، فاتخذ موقفه إلى جواره، حاملا في يده قوسه المعقوفة الظهر، وجعبة السهام. وبمنتهى السرعة أطلق سهامه نحو الطرواديين، فأصاب «كلايتوس» المجيد، ابن «بانثوس» - بينما كان منصرفا إلى جياده وممسكا بالأعنة في يده، إذ كان يسوقها إلى حيث كانت معظم الفيالق تتشتت في فوضى، مبتغيا بذلك إرضاء هكتور والطرواديين. بيد أن الشر حل عليه، ولم يستطع أحد منهم أن يدرأه عنه، بالرغم من أنهم كانوا يتوقون إلى ذلك. فانغرس السهم المشحون بالأنات في قفاه، وسقط من العربة المكينة، وعند ذلك انحرفت الجياد جانبا، وقرقعت العربة الخاوية. وسرعان ما أبصر بها الأمير «يولوداماس» فكان أول من خطا بسرعة صوب الخيول، وسلمها إلى «أستونوس بن بروتيان»، وشدد عليه الأمر بأن يحتفظ بها قريبا من متناول يده. وظل يراقبه فترة من الوقت، ثم عاد هو شخصيا فانضم إلى محاربي الصفوف الأولى.
ثم تناول «تيوكر» سهما آخر ليسدده نحو هكتور، المسلح بالبرونز، فكان كفيلا بأن يكفه عن القتال بجانب سفن الآخيين، ويسلبه حياته، لو أنه أصابه وهو يبدي بسالته، ولكن عقل زوس الحكيم لم يغفل عنه، إذ كان يرعى هكتور، فأخذ المجد تيوكر بن تيلامون. وذلك بأن حطم زوس الوتر المجدول جيدا - والمثبت في القوس العظيمة - بمجرد أن جذبه ضد هكتور، فطاش سهمه المثقل بالبرونز، وسقط القوس من يده. عندئذ ارتعد تيوكر، وخاطب أخاه قائلا: «حسبك، فالواقع أن ثمة ربا يحبط خططنا في القتال ويجعلها تسفر عن لا شيء، فقد أسقط القوس من يدي، وهشم الوتر المفتول حديثا، والذي ثبته بإحكام هذا الصباح لكي يساعدني على تسديد السهام، حتى تنطلق بكثرة وشدة.»
عندئذ رد عليه أياس التيلاموني العظيم بقوله: «نعم، يا صديقي، ما عليك الآن إلا أن تترك قوسك وسهامك الكثيرة باقية حيث هي - ما دام أحد الآلهة قد أنزل عليها اللعنة، رغبة في الإساءة إلى الدانيين - وأن تتناول في يدك رمحا طويلا وترسا فوق كتفك، لتقاتل الطرواديين، ثم عليك أن تحصن بقية القوم، إذ يجب ألا يستولي الأعداء على سفننا المكينة المقاعد بدون قتال، مهما يتفوقون علينا. هيا بنا نوطد العزم على القتال.»
صراع بالقرب من السفن!
هكذا تكلم تيوكر، وأعاد القوس ثانية إلى داخل الكوخ، وحمل على كتفيه ترسا ذا أربع طبقات، وفوق رأسه العتيد وضع خوذة متينة الصنع ذات خصلة من شعر الخيل، وكانت الريشة تهتز فوقها بعنف، وتناول رمحا متينا، مدبب الطرف بالبرونز الحاد، وانطلق مسرعا إلى حيث وقف إلى جانب أياس.
غير أن هكتور - عندما أبصر أن سهام تيوكر قد أسفرت عن لا شيء - صاح في الطرواديين واللوكيين صيحة عالية، قائلا: «أيها الطرواديون واللوكيون والداردانيون الذين يقاتلون في التحام. كونوا رجالا يا أصدقائي وشدوا عزائمكم على الجرأة وسط السفن الجوفاء، لأن عيني قد رأتا بحق كيف أحبط «زوس»، مفعول سهام أحد الأبطال. فما أسهل الوقوف على مدى مساعدة زوس للبشر، سواء لدى من يحابيهم بمجد النصر، أو من يخزيهم ولا يبغي لهم عونا - كما يفعل الآن، إذ يوهن من قوة الأرجوسيين، في حين أنه يساعدنا - فقاتلوا بكتلكم المتراصة عند السفن. وإذا قدر لواحد منكم أن يصاب بسهم أو طعنة رمح، وصار عليه أن يلقى القضاء والموت، فليرقد في مماته. فليس من العار أن يموت المرء وهو يقاتل من أجل وطنه، بل إن زوجته ستكون آمنة - من بعده - وكذا أطفاله، وستغدو أرضه وداره بعيدة عن الأذى، إذا رحل الآخيون بسفنهم إلى أرض وطنهم العزيز.»
وما إن قال هذا، حتى أثار قوة الرجال جميعا وروحهم. أما أياس - في الجانب المقابل - فقد صاح في رجاله ثانية، قائلا: «يا للعار، أيها الأرجوسيون! من المؤكد الآن أنه لا بد لنا من أن نهلك عن بكرة أبينا، أو نلتمس الخلاص بدفع الخطر عن السفن. أم تراكم تظنون أنه إذا استولى هكتور ذو الخوذة البراقة على السفن، فسيتسنى لكم أن تعودوا إلى أرض الوطن، كل واحد منكم، على قدميه؟! ألا تسمعون هكتور وهو يثير حمية كل فرد في جيشه ليحرق السفن؟ إنه لا يأمرهم بالحضور إلى الرقص، بل إلى القتال. وليس لنا من خطة أو نصح خير من أن نستخدم أيدينا وقوتنا ضدهم في القتال الملتحم. إن من الخير أن نجازف مرة، فإما أن نموت، وإما أن نحيا، بدلا من أن نظل طويلا في عناء لا جدوى منه، كهذا العناء، وفي صراع رهيب وسط السفن، تحت ضربات رجال لا نقيم لهم وزنا!»
وما إن قال هذا، حتى أثار قوة وروح كل رجل. وما لبث هكتور أن قتل «سخيديوس بن بيريميدس» - قائد الفوكيين - في حين أن أياس قتل «ليوداماس»، قائد المشاة المجيد، ابن أنتينور. أما «بولوداماس» فقد قتل «أوتوس» الكيليني، رفيق ابن فوليوس، قائد الأيبيين العظيم النفس. ورآه «ميجيس» فانقض عليه، ولكن بولوداماس أفلت من تحته، فأخطأه ميجيس، لأن أبولو لم يكن ليرتضي لابن بانثوس أن يقتل وسط محاربي المقدمة، ولكنه أصاب كرويسموس برمحه في وسط صدره، فسقط في دوي، واستعد الآخر لينزع عدته الحربية عن كتفيه، فانبرى له «دولوبس»، وهو محارب بارع، وابن للاوميدون،
3
بل أشجع ابن له، وكان ماهرا جدا في القتال العنيف. وما لبث أن قذف رمحه نحو درع ابن فوليوس، هاجما عليه من كثب. بيد أن درقة ابن فولويس - المصنوعة بمهارة - أنقذته. تلك الدرقة التي كان يشدها حول جسده بقطع من الزرد، والتي أحضرها «فوليوس» من أفوري، من نهر سيليس، إذ أهداه إياها ضيف من أصدقائه - هو يوفيتيس، ملك البشر - ليلبسها في الحرب، وقاية لنفسه من العدو. وها هي ذي قد صدت الموت عن جسد ابنه!
وقذف «ميجيس» - بدوره - رمحه الحاد ، فأصاب قمة خوذة «دولوبس» البرونزية ذات الخصلة المصنوعة من شعر الخيل، فأطار الخصلة عنها، وسقطت في التراب، بعد أن كانت تتألق بلونها القرمزي الزاهي. وبينما كان «ميجيس» يصمد ويقاتل «دولوبس» - وهو لا يزال يأمل في النصر - أقبل «مينيلاوس» الجريء ليعاونه، فوقف جانبا - غير ملحوظ - وهو شاهر رمحه. وما لبث أن سدده إلى كتف «دولوبس» من الخلف، فمرق الرمح الحاد خلال صدره موغلا، وانكفأ دولوبس على وجهه. واتجه الاثنان صوبه لينزعا عن كتفيه حلته الحربية المصنوعة من البرونز، ولكن «هكتور» نادى جميع أقاربه، وفي البداية راح يلوم ابن هيكيتاون - «ميلانيبوس» القوي
4 - لأنه كان، حتى ذلك الحين، معنيا بتربية أبقاره السمينة في بيركوتي، بعيدا عن الأعداء، ولكنه - حين أقبلت سفن الآخيين المعقوفة - عاد ثانية إلى طروادة، وصار مبرزا وسط الطرواديين، وعاش في بيت بريام، الذي أنزله من نفسه منزلة أبنائه. ولقد عيره هكتور ولامه قائلا: «أيجدر بنا يا ميلانيبوس أن نكون هكذا كسالى؟ أليس في قلبك أي اعتبار لقريبك المقتول؟ ألا ترى كيف يهتم قاتلا «دولوبوس» بحلته الحربية؟ هيا، فلم يعد لنا إلا أن نقاتل الأرجوسيين حتى نقتلهم، أو يستولوا على «طروادة» الوعرة بأسرها ويقتلوا شعبها!»
وإذ قال هذا، تقدم فتبعه الآخرون، وهو أشبه بالإله. أما الأرجوسيون فقد حثهم أياس التيلاموني العظيم بقوله: «أيها الأصدقاء، كونوا رجالا، واستحيوا من أنفسكم، وليخجل كل من ازدراء الآخر له في العراك المرير. فإن الذين يستحيون، يناضلون في بلاء حتى لا يسقطوا، ولن يقوم مجد أو نفع لمن يفرون!»
هكذا قال، وكان الرجال من تلقاء أنفسهم تواقين إلى صد العدو، فوعوا كلمته في قلوبهم، وتحصنوا في السفن بسياج من البرونز، وراح «زوس» يحث الطرواديين ضدهم. فما لبث مينيلاوس - الرائع في صيحة الحرب - أن أهاب بأنتيلوخوس قائلا: «أي أنتيلوخوس، لا أحد من الآخيين يصغرك سنا، يبزك في سرعة القدمين، أو الشجاعة في القتال، فليتك تنقض فورا، وتصيب أي رجل من الطرواديين!»
وانصرف عقب هذه العبارات، ولكنه كان قد أثار الآخر، فسرعان ما وثب أنتيلوخوس من بين محاربي المقدمة، وبعد أن تلفت حوله بحذر، قذف رمحه البراق، فتراجع الطرواديون أمام هذا المحارب بمجرد أن رمى! ولم ينطلق رمحه عبثا، بل إنه أصاب ميلانيبوس الجريء القلب - ابن هيكيتاون - في صدره بجوار ثديه، وهو مقبل نحو المعركة. فسقط متخبطا وخيمت الظلمة على عينيه. وعندئذ وثب أنتيلوخوس فوقه، كما يثب الكلب على ظبي جريح أصابه الصياد بعد أن أحكم التصويب إليه وهو يقفز من جحره، فأرخى أطرافه، هكذا أيضا هجم عليك أنتيلوخوس، الجريء في القتال، يا ميلانيبوس، لينزع عنك حلتك الحربية، ولكن هكتور العظيم لمحه. فأقبل يجري ليلقي به وسط المعركة، فلم يصمد أنتيلوخوس في مكانه - رغم أنه محارب ماهر - وإنما هرب كوحش ارتكب شرا، كان قتل كلبا أو راعيا بجانب أبقاره، فهو ينشد الهرب قبل أن يتجمع الناس! بمثل هذه الصورة هرب ابن نسطور، فأمطره الطرواديون وهكتور في الحال وابلا من سهامهم المؤلمة، وهم يصيحون صياحا عجيبا، ولكنه استدار ووقف، عندما وصل إلى جيش زملائه.
صراع بين «هكتور» و«أياس»
بيد أن الطرواديين كانوا أشبه بالأسود النهمة، فهجموا على السفن، تنفيذا لأوامر «زوس» الذي ظل يبث فيهم القوة البالغة، والذي ألان قلوب الأرجوسيين، وسلبهم مجدهم، بينما كان يحرض الآخرين. فإن قلبه بيت النية على منح هكتور بن بريام المجد، حتى يتمكن من أن يرمي على السفن المدببة الأطراف نارا حامية لا يهن لها أوار. وبذلك يحقق صلاة «ثيتيس» المتهورة بأكملها. ومن ثم راح زوس المستشار ينتظر أن ترى عيناه وهج سفينة مشتعلة، إذ كان عليه - منذ تلك الآونة - أن ينظم انسحاب الطرواديين عن السفن وفرارهم، ليمنح الدانيين المجد. بهذه النية راح يثير هكتور بن بريام ضد السفن الجوفاء. وكان هكتور نفسه متلهفا، مفعما بالشوق إلى ذلك. وكان مهتاجا، مثل أريس الرماح، أو كما يحدث عندما تستشري النار المدمرة في أحراش غابة كثيفة وسط الجبال ، فتصاعد الزبد حول فمه، وقدحت عيناه بالشرر - تحت حاجبيه المخيفين - وتأرجحت خوذته بعنف حول صدغيه وهو يقاتل، لأن زوس كان يحميه وهو في السماء، وقد آثره بالشرف والمجد وهو يقاتل وحده ضد محاربين عديدين، إذ كان أجله قصيرا، وكانت الربة «أثينا» تتعجل منيته على يد ابن بيليوس.
وراح هكتور يعجم أعواد الرجال، ويحاول اقتحام صفوفهم حيثما رآها كثيفة زاخرة بأفضلهم تسلحا. بيد أنه لم يفلح قط في خرقها، رغم تحمسه البالغ، لأنهم صمدوا راسخين كما لو كانوا جدارا، أو كأنهم كانوا صخرة راسية، ضخمة، جد قريبة من البحر الرمادي، رابضة في مهب الرياح العاتية، والأمواج الصاخبة التي تندفع نحوها بقوة، هكذا قاوم الدانيون الطرواديين بثبات، دون أن يولوا الأدبار، ولكن هكتور قفز وسط الجمع متوهجا من كل جانب، وكأنه شعلة من النار، وهبط عليهم كما تهبط - تحت سحب العاصفة - موجة عاتية تطاردها الرياح، على سفينة خفيفة، فتختفي هذه بأسرها وسط الزبد، وتزمجر هبة الريح حول الشراع، فترتعد قلوب الملاحين هلعا، إذ لا يكادون ينأون عن الموت إلا بشق الأنفس، هكذا كانت قلوب الآخيين تضطرب داخل صدورهم، إذ هجم عليهم هكتور كأسد ضار ينقض على أبقار لا عداد لها، ترعى في أرض حمأة، منخفضة، وبينها راع لم يتدرب بعد على مقاتلة حيوان مفترس عقد عزمه على أن يفتك ببقرة ملتوية القرن، فترى الراعي يجد السير بجانب أكثر الأبقار تقدما - تارة - وبجانب أكثرها تأخرا - تارة أخرى - ولكن الليث يهجم في الوسط ويفتك ببقرة منها. وإذ ذاك تفر جميع الأبقار مذعورة، على هذا النحو استولى الخوف الرهيب على الآخيين جميعا، بفضل هكتور والأب زوس. وبالرغم من أن هكتور لم يقتل سوى رجل واحد، هو «بيريفيتيس» العزيز - القادم من موكيناي - ابن «كوبريوس» الذي اعتاد الملك «يورسثيوس»
5
أن يوفده إلى هرقل العتيد. فبالرغم من أن الأب كان خسيسا وضيعا، إلا أنه أنجب ابنا فاق سواه في كل ضرب من ضروب سرعة القدم والقتال، وفي رجاحة العقل كان هو الأول بين شعب موكيناي. هذا هو الذي حقق لهكتور مجد النصر، إذ إنه تعثر - وهو يستدير - في حافة ترسه الذي كان يحمله بنفسه، وكان ترسا يصل إلى قدميه، وقاية ضد الرماح، فسقط إلى الخلف، ومن حول صدغيه جلجلت خوذته بشدة. وسرعان ما لمحه هكتور فعدا إليه، ووقف بجانبه، وثبت رمحه في صدره، وقتله بالقرب من رفاقه الأعزاء، الذين لم يفلحوا في مساعدته - رغم حزنهم على زميلهم - إذ إنهم كانوا في هلع من هكتور العظيم!
ووصلوا إلى وسط السفن، فاحتموا بمقدماتها، مقدمات السفن التي كانت قد سحبت إلى الصف الأول، ولكن الطرواديين هجموا، فتقهقر الأرجوسيون رغم أنفهم عن السفن الخارجية، ولكنهم صمدوا محتشدين إلى جانب أكواخهم، ولم ينتشروا في أرجاء المعسكر، إذ كبحهم العار والخوف، فأخذوا يتنادون بغير انقطاع وبأعلى الأصوات، ولكن صوت نسطور الجيريني - حصن الآخيين - ارتفع على ما عداه، وهو يناشد كل رجل، مستحلفا إياه بمن أنجبوه قائلا: «أصدقائي، كونوا رجالا، واخجلوا من أولئك الأقوام. وليتذكر كل واحد منكم أطفاله وزوجته، وأملاكه وأبويه، أحياء كانوا أم أمواتا، من أجل من هم ليسوا معنا هنا، أتوسل إليكم الآن أن تقفوا بثبات، وألا تركنوا إلى الفرار!»
وما إن قال هذا حتى أثار قوة وروح كل رجل، وأزالت «أثينا» الضباب عن عيونهم، فوصل إليهم الضوء من كلا الجانبين ساطعا؛ من جانب السفن، ومن جانب الحرب التي لا تبقي على أحد. فشاهدوا، جميعا هكتور - الرائع في صيحة الحرب - ورفاقه، أولئك الذين كانوا في المؤخرة ولم يشتركوا في القتال، وكل من قاتل بجانب السفن السريعة.
إذ ذاك لم يعد قلب أياس - العظيم الجرأة - يقنع بالوقوف بعيدا عن مكان وقوف بقية أبناء الآخيين، فأخذ يسير بخطى واسعة، صاعدا وهابطا من ظهور السفن، وفي يديه رمح طويل يلوح به، رمح للقتال البحري، معقود بحلقات، طوله اثنتان وعشرون ذراعا. وكما يسرج الرجل الخبير بشئون الجياد أربعة خيول منتقاة من بين عدة خيول، فيشد كل منها إلى الأخريات ويسوقها مسرعة من السهل إلى المدينة العظيمة، عبر طريق عامة، بين إعجاب الكثيرين - رجالا ونساء - وهو يمضي قدما، بل إنه ليقفز، وينتقل من جواد إلى آخر، وهي تعدو إلى الأمام، هكذا ظل «أياس» يسير بخطى واسعة فوق ظهور السفن العديدة، وقد ارتفع صوته إلى السماء وهو دائب على مناداة الدانيين بصيحات هائلة، كي يدافعوا عن سفنهم وأكواخهم. ولم يبق هكتور في وسط حشد الطرواديين المدرعين بالدرقات، وإنما انقض كصقر كاسر يهاجم قطيعا من الطيور المجنحة كان يأكل بجانب شاطئ نهر، قطيع من الأوز البري، أو الكراكي، أو البجع الطويل الأعناق.
هكذا انقض هكتور - هو الآخر - على سفينة دكناء الحيزوم هاجما عليها مباشرة، وقد دفعه زوس من خلفه بيد خارقة القوة، مثيرا الجيش كله معه.
وهكذا نشب القتال المرير - من جديد - بجانب السفن. ولست بحاجة إلى أن أذكر لك أنهم أقبلوا على الحرب في حمية، دون ما كلل ولا هوادة. وكانوا يفكرون في نضالهم على هذا النحو: كان الآخيون يعتقدون أنهم ينبغي ألا يهربوا من الخطر قط، بل عليهم أن يفنوا هناك. بينما كان كل طروادي يأمل في فؤاده أن يشعل النيران في السفن ويقتل المحاربين الآخيين، وبهذه الأفكار، وقف كل من الفريقين في مواجهة الآخر، ولكن هكتور أمسك بمؤخر سفينة مبحرة، سفينة بديعة، سريعة، فوق البحر، كانت قد حملت «بروتيسيلاوس» إلى طروادة، ولكنها لم تعد به ثانية إلى وطنه.
6
فحول سفينته راح الآخيون والطرواديون يقتلون بعضهم بعضا في عراك متشابك، ولم يعد أحد منهم ينأى لكي يرسل السهام والرماح في الهواء، بل وقف كل منهم جد قريب من الآخر، وراحوا - بحمية واحدة - يقاتلون بالفئوس الحربية الحادة وبالبلطات، وبالسيوف الكبيرة والرماح ذات الحدين! وكم من أسلحة هائلة، محبوكة بسيور قاتمة عند المقبض، سقطت فوق الأرض، بعضها من الأيدي والبعض الآخر من أكتاف المحاربين وهم يقاتلون، حتى تخضبت الأرض السوداء بالدماء!
بيد أن هكتور لم يفلت السفينة، حين أمسك بمؤخرها، بل احتفظ بطرفها في يديه، وصاح في الطرواديين بقوله: «أحضروا النار، وصيحوا صيحة الحرب جميعا في صوت واحد؛ فقد وهبنا زوس الآن يوما يفوق كل ما عداه، لسوف ندمر اليوم السفن التي جاءت إلى هنا بالرغم من الآلهة، جالبة إلينا آلاما عديدة، بفضل جبن الشيوخ الذين منعوني - عندما كنت متلهفا إلى القتال عند مؤخر السفن - كما منعوا الجيش، ولكن إذا كان زوس - الذي يجلجل صوته إلى بعيد - قد أثقل عقولنا، فإنه الآن من تلقاء نفسه يدفعنا ويرشدنا.»
هكذا قال، وشدد انقضاضه على الأرجوسيين، ولكن أياس لم يمكث في مكانه طويلا؛ إذ كانت الرماح تحاصره بشدة. ولما كان دائم الحذر من الموت، فإنه تقهقر قليلا بجانب منصة طولها سبع أقدام،
7
تاركا ظهر السفينة البديعة، فوقف هناك حذرا، يذود برمحه عن السفينة كل من سعى من الطرواديين إلى أن يجلب إليها النار التي لا تكل، وهو لا يكف عن إطلاق الصيحات المرعبة في الدانيين، قائلا: «أيها الأصدقاء، أيها المحاربون الدانيون، يا خدام أريس، كونوا رجالا، يا أصدقائي، وشدوا عزائمكم على الجرأة الجامحة. أفنحسب أن ثمة حلفاء يحمون ظهورنا، أو سياجا أقوى من هذا يذود الموت عن الرجال؟ الحق أن ليس ثمة مدينة محصنة بالأبراج، على مقربة منا لنحتمي بها، ونجد فيها جيشا يستطيع أن يسيطر على كفة المعركة، كلا، ليس هناك شيء من هذا، وإننا لنقف في سهل الطرواديين المتدثرين بالدرقات، والبحر في ظهورنا، ونحن بمنأى عن وطننا؛ ومن ثم فالسلامة في المعركة وليست في التراخي عن القتال.»
هكذا قال، وشرع يكيل الطعنات للعدو، ثائرا برمحه الحاد، فما من طروادي كان يهجم على السفن الجوفاء، بنيران مستعرة - ليدخل السرور على نفس هكتور - إلا وكان «أياس» يكمن له برمحه الطويل. ولقد جرح اثني عشر رجلا في قتال متشابك أمام السفن.
الأنشودة السادسة عشرة
«... ولم يلحظه باتروكلوس وهو يمر خلال الشغب؛ لأنه كان ملتفا بضباب كثيف. فوقف أبولو خلفه، وضرب ظهره وكتفيه العريضتين براحة يده، وإذا بعينيه تدوران. وأطاح أبولو بالخوذة عن رأسه ...»
كيف حارب باتروكلوس - مرتديا حلة أخيل الحربية - فأقصى الطرواديين عن السفن، ولكنه قتل - في النهاية - على يد هكتور؟
بين «أخيل» و«باتروكلوس»
هكذا كانوا يحاربون حول السفينة المكينة المقاعد
1
ولكن «باتروكلوس» اقترب من أخيل - راعي الجيش - وهو يذرف دموعا سخينة، أشبه بنافورة من الماء القاتم تسكب تيارها المظلم على صخرة ناتئة. فلما أبصر به «أخيل» العظيم السريع القدمين، أشفق عليه، وخاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «لماذا تسبح في الدموع يا باتروكلوس، كما لو كنت صبية غضة الإهاب، تجري إلى جانب أمها، وتطلب منها أن تحملها، وتتعلق بثوبها فتعوقها عن السير، وتتطلع إليها بعينين دامعتين، إلى أن تحملها الأم؟ إنك لتذرف الدمع مثلها يا باتروكلوس، ألديك ما تريد أن تبوح به للمورميدون أو لي أنا شخصيا، أم هناك نبأ من فثيا لم يسمعه أحد غيرك؟ إنهم ليقولون إن مينويتيوس بن أكتور
2
لا يزال حيا، وإن بيليوس بن أياكوس يعيش وسط المورميدون، فلو مات هذان لحزنا أشد الحزن وأمضه. أم تراك حزينا على الأرجوسيين، وكيف يقتلون بجانب السفن الجوفاء بسبب تصرفهم الجائر؟ أفصح، ولا تكتم الأمر في نفسك، حتى نستطيع أن نعرفه نحن الاثنان.»
عندئذ أجبت أيها الفارس «باتروكلوس» - وأنت ترسل زفرة حرى - فقلت: «أي أخيل، يا ابن بيليوس، يا من تبز جميع الآخيين عتوا، لا تغضب، فإن نكبة بالغة قد حلت بالآخيين حقا، وإن جميع من كانوا فيما مضى أشجع الشجعان، يرقدون الآن وسط السفن مصابين بالرماح أو مجروحين بطعناتها؛ فقد أصيب ديوميديس العتيد، ابن توديوس، وجرح أوديسيوس - المشهور برمحه - بطعنة من رمح، وكذلك أجاممنون، كما أصيب «يوروبولوس» بسهم في فخذه. وإن الأطباء الماهرين في شتى الأعشاب الطبية لمنهمكون حول هؤلاء، يحاولون معالجة جراحهم، بيد أنه لا يمكن لأي رجل أن يعجم عودك، يا أخيل، فلا تدع مثل هذا الغضب يستبد بك ضدي أبدا، ذلك الذي تحتفظ به، أنت يا من أوتي جسارة على إيذاء الغير! بم يمكن للأجيال القادمة أن تفيد منك، إذا كنت لا تمنع الدمار المشين عن الأرجوسيين؟ يا عديم الرحمة، إن أباك - كما يبدو لي - لم يكن الفارس بيليوس، لا ولا كانت «ثيتيس» أمك، ولكن البحر الرمادي هو الذي حملك، والصخور الناتئة، إذ إن قلبك لا يلين. أما إذا كنت تتحاشى نبوءة ما في نفسك، أو أخبرتك أمك الجليلة بشيء ما من لدن زوس، فيمكنك على الأقل أن ترسلني بسرعة، ودع بقية جيش «المورميدون » يتبعوني، لعلي أستطيع أن أبرهن على أنني ضوء الخلاص للدانيين. وامنحني الحق في أن أشد إلى كتفي حلتك الحربية، أملا في أن يحسبني الطرواديون إياك، وبذلك يكفون عن الحرب، فيمكن لأبناء الآخيين الجسورين أن يتنفسوا الصعداء، وهم متعبون؛ لأن أمد التنفس في الحرب ضئيل، وإذ ذاك نستطيع نحن غير المتعبين أن نطرد - بسهولة - الرجال المتعبين، فنردهم بالقتال إلى المدينة، بعيدا عن السفن والأكواخ.»
هكذا تكلم متوسلا، فيا له من أحمق! لأنه في الحقيقة إنما كان يتوسل لموته ومصيره المشئوم. عندئذ تحدث إليه «أخيل» - السريع القدمين - وقد تأثر في نفسه تأثرا عميقا، فقال: «الويل لي، يا باتروكلوس، سليل زوس، ما هذا الذي قلت؟ إنني لا أكترث لأية نبوءة أنبئت بها، كما أن أمي الجليلة لم تخبرني بشيء من عند زوس، ولكن حزنا بغيضا يهبط على قلبي ونفسي، عندما يعتزم أن يسلب آخر من أنداده ويغتصب منه جائزته، لأنه يفوقه قوة. إن هذا ليسبب لي غما ما بعده غم؛ إذ إنني قد عانيت الآلام في قلبي. إن الفتاة التي انتقاها لي أبناء الآخيين جائزة، تلك التي ربحتها برمحي - عندما خربت مدينة مكينة الأسوار - أخذها من بين ذراعي الملك أجاممنون بن أتريوس الجبار، وكأنني غريب متطفل، ومع كل فلندع الماضي لأنه فات وانقضى. وليس لإنسان أن يضمر الغضب إلى الأبد. وإن كنت قد قلت إنني لن أطرح عني الغضب، حتى تحين الساعة التي تأتي فيها إلى سفني صيحة الحرب والقتال. فتعال إذن، وضع حلتي الحربية الرائعة فوق كتفيك، وتول قيادة المورميدون المشغوفين بالقتال، إذا كانت غمامة الطرواديين السوداء قد طوقت السفن حقا، ودفعت الأرجوسيين إلى ساحل البحر، ولم يبق لهم سوى رقعة ضيقة من الأرض، وقد خرجت مدينة طروادة على بكرة أبيها ضدهم غير هيابة؛ لأنها لا ترى مقدم خوذتي الشديدة التألق قريبا! ولو أن الملك أجاممنون كان قد أحسن معاملتي، لجعلت الطرواديين يفرون خفافا، ولامتلأت مجاري المياه بموتاهم، ولكنهم الآن يحاربون حول المعسكر؛ لأن الرمح لا يثور في يدي «ديوميديس بن توديوس »، ليدفع الخراب عن الدانيين، كما أنني حتى الآن لم أسمع صوت ابن أتريوس، صارخا من فمه البغيض! كلا، فما يجلجل حولي سوى صوت هكتور قاتل البشر، مناديا الطرواديين، وهم يملئون السهل كله بصيحاتهم، ويفنون الآخيين في القتال. ومع كل فاهجم في جبروت يا باتروكلوس، كي تدفع الخراب عن السفن، خشية أن يحرقوها فعلا بالنار المستعرة ويحرموا الإغريق من عودتهم المشتهاة. أصغ إلي حتى أقر في ذهنك آخر نصائحي، وبذلك يتسنى لك - على ما أرى - أن تكسب لي مجدا عظيما وشهرة على جميع الدانيين، عسى أن يردوا لي تلك الفتاة الفاتنة، ويضيفوا إليها جوائز نفيسة. وبعد أن تطردهم من السفن، عد ثانية، وإذا أنعم بعل هيرا
3 - المرعد عاليا - بكسب المجد، فلا تتلهف إلى محاربة الطرواديين - المحببين للقتال - بعيدا عني، فإنك بذلك تقلل من مجدي. وإياك أن تسير إلى «طروادة» - في نشوة الحرب والقتال وتذبيح الطرواديين - لئلا يهبط أحد الآلهة الخالدين من أوليمبوس وينضم إلى القتال. فإن أبولو - الذي يعمل من بعيد - يحبهم حبا جما. كلا، بل عد أدراجك بمجرد أن تحصل على بارقة خلاص وسط السفن، ودع للباقين مشقة القتال في السهل؛ لأنني أتمنى - يا أبتاه زوس، ويا أثينا، ويا أبولو - ألا يتمكن طروادي واحد من الموت، ولا أي فرد من الأرجوسيين، بل لننجو نحن الاثنان من الهلاك، كي نحظى وحدنا بتاج طروادة المقدس.»
هكتور يشعل النار في السفن!
هكذا تكلم كل منهما إلى الآخر، ولكن أياس
4
لم يصمد أكثر من ذلك، لأن الرماح كانت تحاصره بشدة، كانت مشيئة زوس متفوقة عليه، وكذلك الطرواديون الظافرون بحرابهم، فأخذت الخوذة البراقة تجلجل حول صدغيه بعنف - بغير انقطاع - والرماح تصيبها، إذ كانت تضرب باستمرار فوق قطع الخدين المتينة الصنع. ودب التعب بكتفه اليسرى، إذ كان ممسكا بترسه البراق بإحكام، يلوح به دون هوادة. ولم يكن في مقدورهم أن يدفعوه إليه محطما، رغم ضغطهم الشديد عليه بالرماح، وزاده تعبا أن ضاقت أنفاسه، وأخذ العرق يتصبب من أطرافه غزيرا من كل جانب، دون أن تتاح له لحظة يسترد فيها أنفاسه، فكان الأذى يتراكم على الأذى، من كل جانب!
والآن، خبرنني يا ربات الشعر، يا من لكن مساكن فوق أوليمبوس: كيف اندلعت النار لأول مرة في سفن الآخيين؟
إنه هكتور الذي اقترب من «أياس» وضرب رمحه الدرداري بسيفه الكبير بالقرب من طرفه - عند قاعدة السن - فحطمه شر تحطيم، وبذا كان أياس يلوح عبثا برمح عديم السن، إذ سقطت رأس الرمح البرونزية بعيدا عنه، تجلجل على الأرض. وعندئذ ارتجف أياس إذ هالته أعمال الآلهة؛ فقد أدرك - في قرارة قلبه - كيف أن زوس الذي يرعد في عليائه، قد أفسد عليه خططه الحربية كلية، ليمنح الظفر للطرواديين. فتقهقر بعيدا عن مرمى الرماح. وإذ ذاك قذف الطرواديون على السفينة السريعة نارا ضارية، فاندلعت فيها نيران لا سبيل إلى إخمادها.
وهكذا طوقت النيران مؤخر السفينة، ولكن «أخيل» ضرب كلتا فخذيه وتحدث إلى باتروكلوس قائلا: «انهض يا باتروكلوس، يا سليل زوس، وسيد الفرسان. فوا عجبا إني لأرى هجمة النار المدمرة بجانب السفن. ليتهم لا يستولون على السفن، ولا يكون هناك فرار بعد ذلك! البس حلتك الحربية بمنتهى السرعة، ريثما أجمع أنا الجيش.»
المورميدون يستعدون!
وما إن قال هذا، حتى أعد باتروكلوس نفسه في البرونز البراق، فلبس أولا درعي السيقان حول ساقيه، وكانتا بديعتين، ومثبتتين بقطع من الفضة في عقبيه. ثم ارتدى حول صدره درقة ابن أياكوس السريع القدمين المصنوعة صنعا فاخرا، والمزركشة بالنجوم. ورفع السيف البرونزي المرصع بالفضة على كتفيه، وأتبع ذلك بالدرع الكبيرة المكينة، ثم وضع الخوذة المتينة الصنع - ذات الخصلة من شعر الخيل - فوق رأسه العتيد، فأخذت الخصلة تهتز بشدة. وتناول رمحين قويين يليقان بقبضتيه، ولكنه لم يأخذ رمح ابن أياكوس المنعدم النظير، ذلك الرمح الثقيل، الضخم، المتين، الذي لم يكن في مقدور غيره من الآخيين أن يستخدمه، اللهم إلا أخيل وحده الذي برع في استخدامه. إنه ذلك الرمح البيلي، المصنوع من الدردار، الذي أعطاه خايرون لأبيه العزيز، وصاغه ذؤابة بيليون ليكون أداة لقتل المحاربين. وأمر «أوتوميدون»
5
أن يضع النير بسرعة على أعناق الجياد، وكان يبجله أعظم تبجيل - بعد «أخيل» محطم صفوف البشر - ويعتبره أعظم الجميع إخلاصا لندائه في المعركة. وعند أمره، قاد «أوتوميدون» الجوادين السريعين تحت النير، وهما: كسانثوس، وباليوس اللذان كانا يطيران في سرعة الريح، واللذان أنجبتهما الهاربيوبودارجي للريح الغربية، بينما كانت ترعى في المرج بجوار مجرى أوقيانوس. وفي جرارات العربة الجانبية، أسرج بيداسوس العظيم الذي أحضره أخيل، ذات مرة، عندما استولى على مدينة أيثيون. ومع أنه كان من جياد الدنيا الفانية، إلا أنه جارى الجوادين الخالدين!
أما «أخيل»، فقد راح يسير خلال الأكواخ، ويحمل جميع المورميدون على ارتداء حللهم الحربية، ثم تدفقوا إلى الأمام كالذئاب النهمة، وفي قلوبها قوة تفوق الوصف، ذئاب قتلت في التلال غزالا عظيم القرون، ومزقته فتخضبت أفواهها جميعا بالدم. ثم أقبلت بجمعها تلعق بألسنتها الرفيعة سطح الماء الأسود في نبع قاتم، متجشئة الدم في نفس الوقت، وقلوبها رابضة في صدورها، وبطونها منتفخة، هكذا هرع القادة وحكام المورميدون فورا، فألقوا حول الخادم الشجاع لابن أياكوس السريع القدمين. وفي وسطهم جميعا وقف «أخيل» الباسل، يحمس كلا من الجياد والرجال الذين يحملون التروس.
خمسون كانت السفن السريعة التي قادها «أخيل» - حبيب زوس - إلى طروادة. وفي كل سفينة خمسون رجلا من رفاقه يجلسون بجانب فتحات المجاذيف. وكان قد عين خمسة من القواد الموثوق بهم لإصدار أوامره، بينما تزعم بنفسه الجميع، بفضل قوته العظيمة. وكانت الفرقة الأولى بقيادة مينيسثيوس ذي الدرقة اللامعة، ابن سبيرخايوس، النهر المنحدر من السماء، وقد أنجبته ابنة بيليوس - بولودورا الفاتنة
6 - لسبيرخايوس الذي لا يكل، امرأة اضطجعت مع إله، ولكنه كان - بالاسم - ابنا لبوروس بن بيريريس، الذي تزوجها علنا، عندما قدم لها هدايا عرس لا تعد ولا تحصى! أما قائد الفرقة الثانية فكان يودوروس الصنديد، ابن فتاة لم تتزوج! فقد أنجبته بولوميلي ابنة فولاس المبدعة في الرقص. إذا افتتن بها صياد أرجوس القوي
7
عندما وقع بصره عليها وسط العذارى المغنيات، في قاعة رقص أرتيميس، الصيادة السريعة الجري، ذات السهام الذهبية. فصعد هيرميس البار إلى غرفتها العليا في الحال، واضطجع معها سرا، فأنجبت له ابنا عظيما، هو «يودوروس»، وكان مبرزا في سرعة القدم والقتال. وما إن رأى النور، بمعونة «أيليثويا» - ربة المخاض - ورأى أشعة الشمس، قاد أخيكليس بن أكتور المغوار «بولوميلي» إلى بيته، بعد أن قدم لها هدايا زواج تفوق الحصر. وراح فولاس العجوز يربي «يودوروس» ويرعاه بحنان، ويحبه ويعزه كما لو كان ابنه الحق، أما الفرقة الثالثة فكان قائدها «بايساندر» الباسل، ابن مايمالوس المبرز وسط جميع المورميدون في القتال بالرمح، من بعد رفيق ابن بيليوس، وقاد الفرقة الرابعة الفارس المسن فوينكس،
8
والخامسة الكيميدون
9
المنقطع النظير، ابن لايركيس. وإذ أعدهم «أخيل» أخيرا في صفوف مع قادتهم - وقد فصل كل فرقة عن الأخرى - أصدر إليهم أمره صارما، إذ قال: «أيها المورميدون، إنني آمركم بألا ينسى أحدكم التهديدات التي هددتم بها الطرواديين بجوار السفن السريعة طوال مدة غضبي، وقد عنفني كل واحد منكم، قائلا: «أيها الابن القاسي لبيليوس، لا بد أن أمك قد نشأتك على غل، يا عديم الرحمة؛ لأنك تحتجز رفاقك بجانب السفن ضد إرادتهم. فلنعد ثانية إلى الوطن بسفننا البحرية، طالما أن غضبا شريرا كهذا قد تملك قلبك!» بمثل هذه العبارات كثيرا ما اجتمعتم ورميتموني. وها هو ذا الآن عمل حربي عظيم أمامكم، طالما استهواكم فيما مضى. فليقاتل كل واحد منكم الطرواديين بقلب جسور.»
وما إن قال هذا حتى أثار قوة جميع الرجال وشجاعتهم، فازدادت الصفوف تقاربا عندما سمعوا مليكهم.
وكما يحدث عندما يبني الرجل حائط منزل عال بأحجار متراصة، ليتحاشى قوة الرياح، هكذا أيضا كانت خوذاتهم وتروسهم - ذات الحدبات - متراصة في تقارب شديد، فكان الترس يحتك بالترس، والخوذة بالخوذة، والرجل بالرجل. وكانت الخصلات المتخذة من شعر الخيل تتلامس فوق حافات الخوذات البراقة، كلما حرك الرجال رءوسهم. في مثل هذا الترتيب المتراص، وقفوا واحدا بجانب الآخر. وفي مقدمتهم جميعا، تأهب اثنان للقتال؛ باتروكلوس وأوتوميدون. وقد وطد كلاهما العزم على أن يقاتل في مقدمة المورميدون. أما أخيل فذهب إلى كوخه، وفتح غطاء صندوق بديع فاخر الترصيع، كانت «ثيتيس » - الفضية القدمين - قد وضعته في سفينته كي يحمله معه، بعد أن ملأته تماما بالعباءات والمعاطف الواقية من الريح، وبأبسطة من الصوف. وكانت بداخله كأس بديعة الصنع، ما كان لإنسان يطمع في أن يشرب منها الخمر النارية التألق، وما كان هو ليتوق إلى أن يسكب الشراب لأي إله سوى أبيه زوس، فتناول هذه الكأس من الصندوق، ونظفها أولا بالكبريت، ثم غسلها في مجاري الماء الهادئة - كما غسل يديه - وملأها خمرا صهباء. ثم صلى، وهو واقف وسط الساحة، وسكب الخمر متطلعا إلى السماء! ولم يكن ليخفى - إذ ذاك - على عيني زوس، الذي يقذف بالصاعقة. ثم قال: «أي زوس، أيها الملك الدودوني
10
البيلاسجي،
11
يا من تسكن نائبا، حاكما على دودونا الشتوية، ويقطن حولك «السيلي» مفسرو علاماتك - ذوو الأقدام غير المغسولة - الذين ينامون فوق الأرض. لقد كنت في سابق الأزمان تستمع إلى كلامي حين كنت أدعوك، ولقد أكرمتني، فضربت جيش الآخيين بقوة. فحقق لي - الآن كذلك - رغبتي هذه، ولسوف أبقى أنا نفسي في حشد السفن، بينما أرسل زميلي مع جيش «المورميدون» ليحارب، فلترسلن المجد معه، يا زوس - يا من يحمل صوته نائيا - واجعل القلب القائم في صدره جسورا، كي يعلم هكتور ما إذا كان خادمي ماهرا وحده في القتال، أم أن يديه لا تهيجان دون تردد إلا كلما خضت أنا في ساحة قتال أريس. وبعد أن يقصي الحرب وطنينها بعيدا عن السفن، ويغدو كل شيء سالما من العطب، فأعده إلى السفن السريعة بكل أسلحته، ورفاقه الذين يقاتلون في عراك متشابك.»
هكذا تكلم متوسلا، وسمعه زوس، المستشار، فمنحه جزءا مما طلب وأبى عليه الجزء الآخر؛ وافق على أن يدفع باتروكلوس الحرب والقتال بعيدا عن السفن، أما عودته سالما من المعركة فقد أباها.
وبعد أن سكب «أخيل» السكيبة وصلى للأب زوس، ذهب ثانية إلى خيمته، وأعاد الكأس ثانية إلى الصندوق ، وأقبل فورا يقف أمام الكوخ؛ لأن قلبه كان لا يزال تواقا إلى مشاهدة الصراع الفتاك بين الطرواديين والآخيين.
أما أولئك الذين اصطفوا مع باتروكلوس العظيم النفس ، فظلوا يسيرون حتى انقضوا على الطرواديين بأرواح عالية. وفي الحال تدفقوا كأنهم زنابير الطريق التي يتوق الصبيان إلى إثارة غضبها، وتعذيبها في عشاشها بجانب الطريق، فيا لهم من حمقى، وكم من شر عام يسببونه للكثيرين! ذلك أن الزنابير - إذا تصادف أن مر عليها راحل ما، فأثارها عن غير قصد - تنطلق كلها طائرة بكل ما في قلبها من جرأة وتقاتل كل منها دفاعا عن صغارها، هكذا تدفق «المورميدون» من السفن بجرأة وشجاعة، فارتفعت صيحة لا تخمد، ولكن باتروكلوس نادى على رفاقه بصرخة عالية، قائلا: «أيها المورميدون، زملاء أخيل بن بيليوس، كونوا رجالا يا أصدقائي وتذكروا جرأتكم الثائرة، نستطيع أن نكسب المجد لابن بيليوس - خير الأرجوسيين - الذي يقوم بجانب السفن، ومعه أعوانه الخبيرون بالنزال، وكي يدرك أجاممنون الواسع الملك - ابن أتريوس - عمى قلبه، إذ إنه لم يحترم قط خير الآخيين.»
وما إن قال هذا حتى أثار قوة الرجال جميعا وحميتهم فانقضوا على الطرواديين في حشد واحد، فرددت السفن حولهم صيحة الآخيين بدرجة عجيبة. على أن الطرواديين لم يكادوا يبصرون ابن مينويتيوس الجسور نفسه، وخادمه، يتألقان في حلتيهما الحربيتين، حتى اضطرب قلب كل رجل، وارتجفت كتائبهم إذ حسبت أن ابن بيليوس السريع القدمين قد نزل عن غضبه - وهو بجانب السفن - وعاد إلى الوئام. وراح كل رجل يتلفت حوله ينشد سبيلا يمكنه من أن يهرب من الهلاك المحقق.
مغامرات باتروكلوس!
وإذ ذاك كان باتروكلوس هو أول من رمى برمحه البراق في الوسط مباشرة، حيث كان الرجال متكتلين بشدة بالقرب من مؤخرة سفينة بروتسيلاوس العظيم الهمة، فأصاب بورايخميس، الذي كان يقود البايونيين - سادة العربات - خارج أمودون، قادما بهم من أكسيوس الواسع الجريان. ولقد أصابه فوق كتفه اليمنى، فسقط إلى الوراء في التراب وهو يئن، ومن حوله دبت الفوضى بين رفاقه البايونيين، فقد بث باتروكلوس الفزع فيهم، بقتله قائدهم المبرز في القتال. وطردهم من داخل السفن، وأطفأ النار المشتعلة. وبقيت السفينة هناك نصف محترقة، وقد جلا عنها الطرواديون في فوضى، محدثين طنينا عجيبا. وتدفق الدانيون وسط السفن الجوفاء، فتصاعد صخب لا يكف. وكما يحدث عندما يسوق زوس - الذي يجمع البروق من الذؤابة العالية لجبل شامخ - سحابة كثيفة، بعيدا، فتتجلى للعيان - في الحال - جميع قمم الجبال والربى العالية والوهاد، ومن السماء ينطلق الهواء اللانهائي، هكذا أيضا تمتع الدانيون، عندما أبعدوا النار النهمة عن السفن، وحظوا براحة وجيزة. ومع ذلك، فلم يكن هناك أي توقف عن القتال؛ إذ لم يكن الطرواديون قد أجلوا نهائيا، عن السفن السوداء، على أيدي الآخيين أحباء زوس. بل إنهم ظلوا يحاولون مقاومتهم، ويتقهقرون عن السفن بالقوة.
وأخذ الرؤساء - بعد ذلك - يقتلون بعضهم بعضا، بمجرد أن انتشر المحاربون في ساحة الوغى. فأولا: أصاب ابن مينويتيوس الجسور فخذ أرايلوكوس برمية من رمحه الحاد، في الوقت الذي استدار فيه ليهرب. وانغرس البرونز عميقا، فحطم الرمح العظم، وانكفأ على وجهه فوق الأرض، وطعن مينيلاوس الباسل فأصاب ثواس
12
في صدره - الذي كان عاريا عند حافة الدرع - وأرخى أطرافه. وبينما كان ابن فوليوس يراقب أمفيكلوس - وهو ينقض عليه - أثبت أنه أسرع من غريمه، فضربه فوق قاعدة ساقه، حيث تبلغ العضلة أقصى سمكها، وتمزقت الأوتار العضلية حول طرف الرمح، وخيمت الظلمة على عينيه. ثم جاء أنتيلوخوس - أحد أولاد نسطور - وطعن أتومنيوس برمحه الحاد، دافعا الرمح البرونزي خلال جنبه، فسقط إلى الأمام. لكن ماريس - الذي كان قريبا - هجم برمحه على أنتيلوخوس، غضبا لمقتل شقيقه. واتخذ وقفته أمام الميت، بيد أن ثراسوميديس - شبيه الإله - كان أسرع منه كثيرا. وفي الحال ضربه فوق كتفه - قبل أن يتمكن من الطعن - فلم يخطئه، ومزق طرف الرمح قاعدة الذراع، بعيدا عن العضلات، وفصل العظم وحطمه، فسقط مرتطما بالأرض، وخيمت الظلمة على عينيه. ولما هزم هذان الاثنان - بأيدي شقيقين - انطلقا في طريقهما إلى أيريبوس،
13
وهما الرفيقان العظيمان لساربيدون،
14
والرماحان ابنا أميسوداروس، الذي ربى الخيمايرا الجبارة، جالبة الهلاك لكثير من البشر. وقفز أياس بن أويليوس، على كليوبولوس، وأمسك به حيا، مرتبكا وسط الحشد. وهناك أيضا جرده من قوته، إذ ضرب عنقه بسيفه البتار، فسرت السخونة إلى جميع النصل من دمه، وأغمض الموت المظلم عينيه، فلقي مصيره الرهيب. عند ذلك انقض كل من بينيليوس ولوكون على الآخر - في وقت واحد - برمحيها، فأخطأ كل منهما الثاني، ورمى كلاهما رمحه عبثا، ولكنهما عادا من جديد، فهجما بسيفيهما - في آن واحد - وضرب لوكون غريمه فوق قرن الخوذة - ذات الخصلة المتخذة من شعر الخيل - فتحطم السيف عند مقبضه، ولكن بينيليوس ضرب عنقه أسفل أذنه، فانغرس النصل كله، ولم يبق غير الجلد وتدلى الرأس جانبا، وارتخت الأطراف. أما ميريونيس فقد باغت أكاماس بخطى واسعة سريعة - بينما كان يعتلي عربته - وأصابه فوق كتفه اليمنى، فهوى من عربته، وخيمت غمامة فوق عينيه. ثم ضرب أيدومينيوس «أروماس» فوق فمه بطعنة من البرونز الذي لا يرحم، فمرق الرمح البرونزي إلى الداخل - أسفل المخ - وشق العظام البيضاء، وتساقطت أسنان أروماس، وامتلأت عيناه بالدم. وكذلك أخذ الدم يتدفق من فمه ومنخريه كلما فغر فاه، وغشيت عينيه سحابة سوداء من الموت.
وهكذا قتل كل قائد من قادة الدانيين غريما، وكما تهجم الذئاب الفاتكة على الحملان أو الجداء، منتقية إياها من بين القطعان إذ تتناثر وسط الجبال في غفلة من الراعي، فتبصر بها الذئاب، وفي الحال تخطف صغارها الضعيفة القلوب، هكذا أيضا هجم الدانيون على الطرواديين، فإذا بهؤلاء يوطدون العزم على الفرار المزري، وينسون شجاعتهم الثائرة.
وكان أياس العظيم دائم التلهف على قذف رمحه صوب خوذة هكتور البرونزية، ولكن هذا غطى كتفيه العريضتين بدرع من جلد الثور، وراح - بدهائه في الحرب - يراقب دوران السهام السريعة، وقذف الرماح. فعرف أن تيار النصر كان ينحرف حقا، ولكنه رغم ذلك صمد، وحاول جهده أن ينقذ زملاءه المخلصين.
وكما يحدث عندما تتجه سحابة من أوليمبوس مغادرة الهواء المقدس، نحو السماء، حين ينشر زوس العاصفة، هكذا أيضا انبعث صراخ الطرواديين وشغبهم وهم ينأون عن السفن، ولم يخطوا بنظام وهم يعبرون الخندق من جديد. أما هكتور فقد حملته جياده السريعة الأقدام بعيدا بعدته الحربية، وترك جيوش طروادة، التي حجزها الخندق العميق، على غير رغبتها. وفي الخندق قام كثير من الجياد التي كانت تجر العربات، بتحطيم مقدمات أذرع العربات، لتنطلق متحررة منها، ولكن باتروكلوس تعقبها، وهو ينادي بشدة على الدانيين، وقد أضمر الشر للطرواديين، بينما ملأ هؤلاء جميع الطرقات صياحا، إذ تحطمت صفوفهم، وارتفع مثار النقع عاليا حتى بلغ السحب. وجاهدت الخيول القوية الحوافر عائدة إلى المدينة من السفن والأكواخ، ولكن باتروكلوس أخذ يقود عربته إلى أكثر البقاع ازدحاما بالهاربين، وهو يصيح. وطفق الرجال يتساقطون بسرعة من عرباتهم تحت عجلاته، وقد انقلبت عرباتهم، ولكن الجياد السريعة - الجياد الخالدة التي أعطتها الآلهة لبيليوس هدية مجيدة - قفزت قدما عبر الخندق، وراح قلب باتروكلوس يحثه ضد هكتور؛ لأنه كان تواقا إلى إصابته، ولكن جياد هكتور السريعة ظلت تحمله بعيدا. وكما يحدث أن يشتد الضغط على الأرض السوداء كلها تحت وطأة العاصفة - في أحد أيام الحصاد - عندما يسقط زوس الأمطار بمنتهى العنف، كلما اشتد غيظه من البشر الذين يصدرون بالقوة أحكاما عوجاء في مكان الحشد، ويطردون العدالة خارجا، غير مكترثين لانتقام الآلهة، فتفيض جميع أنهارهم، وتشق السيول طريقها عميقا خلال تلال كثيرة، وتتدفق من الجبال بسرعة إلى البحر القائم بهدير عنيف، فتخرب الحقول التي فلحها البشر، مثل هذا العنف كان صهيل أفراس الطرواديين وهي تسرع إلى الأمام!
وبعد أن فرق باتروكلوس الكتائب الأولى، دفعها ثانية صوب السفن، دون أن يمكنهم من وضع أقدامهم في المدينة، رغم شوقهم، إذ هجم وسطهم بين السفن والنهر والجدار المرتفع، وقتلهم، فثأر للقتلى الكثيرين من زملائه. وضرب هناك أولا «برونوس» برمية من رمحه البراق، فوق صدره، في مكان كان عاريا بجانب حافة الدرع، وأرخى أطرافه، فسقط مرتطما بالأرض. ثم هجم على ثيستور بن أينوبس، وكان يجلس القرفصاء في عربته المصقولة. فقد كان باله مشتتا من الذعر، فأفلتت الأعنة من يديه، وعندئذ اقترب منه باتروكلوس، وضربه فوق صدغه الأيمن برمحه، ودفعه خلال أسنانه ، ثم جذب باتروكلوس الرمح فوق حافة العربة، كما يحدث تماما عندما يجذب رجل جالس على صخرة ناتئة سمكة مقدسة
15
من البحر إلى البر، بخيط وشص لامع من البرونز. هكذا أيضا جذب الرمح البراق ومعه ثيستور الذي كان فاغر الفم في العربة، وألقى به فوق الأرض منكفئا على وجهه، ففارقته روحه بمجرد أن سقط.
وما إن هجم عليه «أرولاوس» - بعد ذلك - حتى ضربه بصخرة على رأسه، بكل ما أوتي من قوة، فانشق رأسه نصفين داخل الخوذة الثقيلة، وسرعان ما وقع على الأرض، وقد هبط عليه الموت، قاتل الروح. ثم جندل «أروماس»، وأمفوتيروس، وأيبالتيس، وتليبوليموس - وهما ابنا داماستور، وأخيوس، وبوريس، وأيفيوس، وأيبوس، وبولوميلوس بن أرجياس، كل هؤلاء أسقطهم واحدا بعد آخر على الأرض الفسيحة.
مصرع ساربيدون!
غير أن ساربيدون لم يكد يرى رفاقه - الذين يرتدون العباءة بغير زنار - يتهاوون بين يدي باتروكلوس بن مينويتيوس، حتى صاح عاليا، يعير اللوكيين، أشباه الآلهة، قائلا: «يا للعار، أيها اللوكيون، إلى أين أنتم هاربون؟ أسرعوا الآن إلى القتال، ودعوني أنازل هذا الرجل، كي أستطيع معرفة من يكون هذا البطل الذي له الغلبة هنا، والذي أنزل بالطرواديين كثيرا من الأسى، حيث أرخى ركب كثير من الرجال الأخيار!»
وما إن تكلم، حتى وثب في حلته الحربية من عربته إلى الأرض. فلما أبصر به باتروكلوس - في الجهة المقابلة - انقض من عربته. وكما تتقاتل النسور ذات البراثن المعقوفة والمناقير المقوسة، وهي تصرخ عاليا فوق صخرة شاهقة، هكذا أيضا بالصرخات هجم كل منهما على الآخر. وأشفق ابن كرونوس، ذو المشورة الملتوية، عندما شاهدهما. فتحدث إلى «هيرا» - شقيقته وزوجته - قائلا: «ويحي، الويل لي؛ لأنه مكتوب أن ساربيدون - أعز الناس علي - سيلقى حتفه على يدي باتروكلوس بن مينويتيوس! وإن قلبي لمنقسم في صدري إلى قسمين، إذ يتنازعني رأيان: هل أخطفه وهو لا يزال حيا وأبعده عن الحرب المبكية في أرض لوكيا الغنية، أم أتركه الآن يقتل على يدي ابن مينويتيوس؟»
فأجابته «هيرا» الجليلة، بقولها: «يا أفظع ابن لكرنوس، ما هذا الذي تفوهت به ! ما هو إلا رجل من البشر، ذو أجل محدد، أفي نيتك أن تخلصه ثانية من الموت المؤلم؟ افعل ما يحلو لك، ولكنا جميعا نحن الآلهة الآخرين - لا نقر ذلك. وسأقول لك شيئا آخر، فضعه نصب عينيك: إذا أرسلت ساربيدون حيا إلى داره، فتذكر أنه ربما كان ثمة إله آخر يرغب كذلك في أن يقصي ابنه العزيز عن الصراع العنيف. فإن كثيرا من أبناء الخالدين يحاربون حول مدينة بريام العظيمة، ولسوف تثير الغضب الرهيب لدى كثير من الآلهة. أما إذا كان هذا عزيزا عليك، وقلبك يئس من أجله، فدعه يقتل فعلا - في الصراع الطاحن - على يدي باتروكلوس بن مينويتيوس، حتى إذا غادرته روحه وحياته، فأرسل الموت والنوم اللذيذ ليحملاه إلى أرض لوكيا الفسيحة، وهناك سوف يتولى أشقاؤه وأقاربه دفنه في أكمة، ويقيمون له نصبا، فهذا حتى للموتى!»
هكذا تكلمت، فلم يتردد أبو البشر والآلهة في الإصغاء إليها. ومع ذلك فإنه أراق على الأرض وابلا من الدماء، تكريما لابنه العزيز، الذي كان باتروكلوس على وشك أن يقتله في أرض طروادة العميقة التربة، بعيدا عن وطنه.
فلما اقتربا، وهما يسعيان - كل نحو الآخر - إذا بباتروكلوس يضرب تراسوميلوس المجيد، الخادم الجسور للأمير ساربيدون، فأصابه في أسفل أحشائه، وأرخى أطرافه. وعندما انقض عليه ساربيدون بدوره، أخطأه برمحه البراق، وأصاب الرمح الجواد بيراسوس في كتفه اليمنى، فحمحم الحصان عاليا وهو يلفظ روحه، وهوى فوق الثرى وهو يئن. وطارت روحه من جسمه، ولكن الاثنين الآخرين تقهقرا هنا وهناك، وأز النير، وتخبطت من فوقهما الأعنة عندما وقعت فوق التراب جرارة الخيول. ومع كل فقد وجد أوتوميدون - المشهور برمحه - علاجا لهذا، بأن استل سيفه الطويل من جانب فخذه المكينة، وقفز فورا ليقطع جرارة الجياد، غير مضطرب. وعندئذ نهض الجوادان الآخران، وشدا إلى الأعنة من جديد، وعاد المحاربان يلتقيان في قتال مهلك للأرواح.
ومن جديد أخطأ ساربيدون تسديد رمحه البراق نحو كتف باتروكلوس اليسرى، فمرق طرف الرمح ولم يصبه، ولكن باتروكلوس انقض عليه - بدوره - بالبرونز، ولم يطر الرمح من يده بغير طائل، بل أصاب عدوه في موضع التصاق عضلة الحجاب الحاجز حول القلب النابض. فسقط كما تسقط شجرة البلوط أو الصفصاف أو شجرة الصنوبر الباسقة، التي يقتطعها صناع السفن وسط الجبال بالفئوس المشحوذة، لتكون أخشابا للسفن. هكذا أيضا رقد ممددا أمام جياده وعربته، يئن أنينا عاليا، ويتشبث بالتراب الدامي. وكما يتسلل أسد وسط قطيع فيقتل ثورا عاتيا شجاع القلب، بين الأبقار ذات المشية المتثاقلة، هكذا أيضا راح قائد رجال الدروع اللوكيين يصارع الموت تحت باتروكلوس، ونادى زميله العزيز قائلا: «يا جلاوكوس العزيز، أيها المقاتل بين رجال الحرب، عليك الآن حقا أن تبرهن على أنك رماح ومقاتل صنديد، ولتكن الحرب البغيضة الآن مشتهى قلبك، إذا كنت رجلا قويا. سر أولا هنا وهناك في كل مكان، وحض قادة اللوكيين على القتال من أجل ساربيدون، ثم قاتل أنت نفسك بالبرونز، دفاعا عني. لأنني سأكون في المستقبل مبعث توبيخ وعار يجللان هامتك، طوال عمرك، إذا جردني الآخيون من عدتي الحربية، وأنا راقد الآن بين حشد السفن. هيا، اصمد بشجاعة، وأثر حماس الجيش كله!»
وما إن تم كلامه هذا، حتى خيم الموت عليه، على عينيه ومنخريه. وبعد أن داس باتروكلوس على صدره بقدمه، جذب الرمح من جسده، فخرجت معه عضلة الحجاب الحاجز، وأخرج طرف الرمح وروح ساربيدون في آن واحد. وهناك أوقف المورميدون الجياد ذات الصهيل، التي كانت تتوق إلى الفرار وقد تركت عربات أصحابها.
فلما سمع جلاوكوس صوت ساربيدون، اكتأب واعتراه هم بالغ، وخفق قلبه لأنه لم يفلح في مساعدته. فأمسك ذراعه بيده وضغط عليها، لأن الجرح كان يؤلمه، ذلك الجرح الذي أنزله به تيوكر - وهو يدفع الهلاك عن رفاقه - بسهمه وهو يهجم على الحائط المرتفع. ثم توسل إلى أبولو - الذي يضرب من بعيد - قائلا: «استمع إلي، أيها الملك الذي قد يكون في أرض لوكيا الخصيبة - أو ربما في طروادة - ولكن له في كل مكان قوة على الإصغاء إلى المكروب، وإنني لمكروب الآن؛ إذ إنني مصاب بهذا الجرح الخطير، فالألم يضني ساعدي من هذا الجانب وذاك، ولا سبيل إلى إيقاف النزف، لقد تثاقلت ساعدي من جراء الجرح، ولست أملك أن أقبض على رمحي بشدة، ولا أن أسعى إلى مقاتلة الأعداء . وفضلا عن ذلك، فقد هلك رجل من أنبل الرجال، هو ساربيدون بن زوس، الذي لم ينقذ ولده. لذلك أدعوك - أيها الملك - أن تشفيني من هذا الجرح الخطير، فتسكن آلامي، وتهبني القوة، حتى أستطيع دعوة زملائي اللوكيين، وأحضهم على القتال، بل وأقاتل - أنا نفسي - حول جثته.»
هكذا تكلم متوسلا، فسمعه أبولو. وفي الحال أوقف آلامه، كما أوقف نزف الدم القاتم من جرحه الخطير، وبث القوة في قلبه. فأدرك جلاوكوس ذلك في قرارة نفسه، وسره أن الرب العظيم قد استجاب دعاءه بسرعة. فسار هنا وهناك في كل مكان، وحث قادة اللوكيين على أن يقاتلوا من أجل ساربيدون ثم شرع يمشي بخطى واسعة - بين الطرواديين - إلى بولوداماس بن بانتوس، وإلى أجينور العظيم. كما سار خلف أينياس، وراء هكتور ذي الخوذة البرونزية. حتى إذا لحق به، خاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «أي هكتور، لقد نسيت الآن تماما الحلفاء، الذين يضحون بحياتهم بعيدا عن أصدقائهم ووطنهم من أجلك، فإذا أنت لا تعبأ بمد يد العون لهم. إن ساربيدون - قائد رجال الدروع اللوكيين - يرقد ميتا، ذلك الذي كان يذود عن لوكيا بأحكامه وقوته. لقد صرعه أريس النحاسي برمح باتروكلوس. هيا، أيها الأصدقاء، قفوا إلى جانبه، واملئوا قلوبكم سخطا، حتى لا يجرده المورميدون من حلته الحربية، ويمثلوا بجثته، انتقاما لجميع الدانيين الذين ماتوا، أولئك الذين قتلناهم برماحنا بجوار السفن السريعة.»
هكذا تكلم، فاستولى على جميع الطرواديين غم ساحق، لا سبيل إلى احتماله. إذ كان ساربيدون دائما دعامة مدينتهم، بالرغم من أنه كان غريبا قدم إليهم من بعيد، وتبعه أقوام كثيرون، كان مبرزا في القتال بينهم، فاتجهوا مباشرة صوب الدانيين وكلهم حماس. وقادهم هكتور - غاضبا من أجل ساربيدون - ولكن باتروكلوس الأشعث القلب، ابن مينويتيوس كان قد حض الآخيين. فتحدث أولا إلى الأيانتيس - كليهما - وكانا متلهفين إلى القتال، فقال: «أيها الأيانتيس، ليكن صد العدو بغيتكما، بمثل تلك الشجاعة التي كانت لكما قديما بين المحاربين، إن لم يكن بأكثر منها. فإن أول رجل وثب إلى ما وراء سور الآخيين، يرقد الآن صريعا، وهو ساربيدون. هلموا نحاول أخذه، ونلحق العار بجثته، فننزع عن كتفيه حلته الحربية، ونقتل بالبرونز العديم الرحمة رفاقه الكثيرين الذين يسعون للدفاع عن جسده.»
هكذا تكلم. وكان كلاهما تواقا من تلقاء نفسه إلى دفع العدو. وبعد أن عزز الطرواديون واللوكيون والمورميدون والآخيون كتائبهم على الجانبين، اشتبكوا في عراك دفاعا عن جثة الرجل الذي خر صريعا، فارتفع صليل أسلحة الرجال بدرجة مخيفة. ونشر «زوس» الليل الزاخر بالويلات فوق الصراع الطاحن، حتى يدور حول جسد ابنه الحبيب، عناء الحرب الجالب للكوارث.
واستطاع الطرواديون - في البداية - أن يدفعوا الآخيين، ذوي العيون المتألقة، إلى الخلف. فأصيب من بينهم رجل من خيرة المورميدون، هو ابن أجاكليس الكبير النفس. «أبايجيوس» العظيم الذي كان ملكا على بودايون القديمة الآهلة بالسكان، ولما كان قد قتل رجلا عظيما من أقاربه، فإنه جاءه متضرعا إلى بيليوس، وإلى ثيتيس الفضية القدمين، فأرسلاه ليتبع أخيل - محطم صفوف البشر - إلى طروادة الشهيرة بجيادها، حتى يقاتل الطرواديين. وفيما كان ممسكا بالجسد، ضربه هكتور المجيد بصخرة على رأسه، فشطره نصفين داخل خوذته الثقيلة، وارتمى لتوه فوق الجثة
16
وإذا بالموت - قاتل الروح - يفيض حواليه. فبخع الحزن باتروكلوس، أسفا على زميله المقتول. وانقض على مقاتلي المقدمة أشبه بنسر سريع، يضطر العقاعق والزرازير إلى الفرار أمامه، هكذا انقضضت يا باتروكلوس - يا سيد الفرسان - على اللوكيين والطرواديين، وقد امتلأ قلبك بالغضب من أجل زميلك. فضرب سثينيلاوس الحبيب، ابن أيثايمينيس، على عنقه بحجر، فمزق أوتار عنقه. وتراجع محاربو المقدمة وهكتور المجيد، متقهقرين بعيدا عن مدى مرمى الحراب، التي يقذف بها المرء مختبرا قوته في مباراة، أو في الحرب تحت ضغط عدو قاتل، هكذا تقهقر الطرواديون بعيدا، وظل الآخيون يدفعونهم. وكان جلاوكوس - قائد حاملي التروس اللوكيين - أول من استدار فقتل باثوكليس العظيم النفس، الابن العزيز لخالكون، الذي كان يقيم في هيلاس، وكان يفوق المورميدون ثروة ومادة. فلقد ضربه جلاوكوس في صدره بطعنة من رمحه، إذ استدار إليه فجأة، عندما كان الآخر على وشك أن يلحق به في المطاردة. فسقط بشدة ، واستبد بالآخيين حزن بالغ، لأن رجلا من خيرة المحاربين قد سقط، بينما ارتفع هتاف الطرواديين. وأقبلوا زرافات والتفوا حوله، وعندئذ لم ينس الآخيون شجاعتهم، بل حملوا على العدو بكل قواهم. بعد ذلك قتل ميريونيس محاربا طرواديا في كامل عدته الحربية، هو لاوجونوس القوي، ابن أونيتور. وكان كاهن زوس الأبدي، كما كان قومه يبجلونه وكأنه إله. ولقد ضربه أسفل فكه تحت أذنه، وفي الحال غادرت روحه أطرافه، وسيطرت عليه ظلمة بغيضة. وقذف أينياس رمحه البرونزي نحو ميريونيس، آملا في إصابته وهو يتقدم تحت ستار ترسه. بيد أن ميريونيس، كان يركز بصره عليه، فتحاشى الرمح البرونزي، إذ مال إلى الأمام، وانغرس الرمح الطويل في الأرض خلفه، وقد أخذ طرفه يهتز. ومع ذلك فقد أوقف أريس العتيد ثورته هناك أخيرا. وانغرس رمح أينياس مهتزا داخل الأرض، إذ انطلق عبثا من يده القوية. وإذ ذاك استشاط أينياس غضبا في قلبه، وخاطبه بقوله: «أي ميريونيس، بالرغم من كونك راقصا خفيف الحركة، فإن رمحي كان يوشك أن يوقفك سريعا عن الرقص إلى الأبد، لو أن ضربتي قد أصابتك.»
فأجاب ميريونيس - الشهير برمحه - قائلا: «هيا يا أينياس، من العسير عليك - رغم شجاعتك - أن تطفئ قوة كل رجل يأتي ضدك مدافعا. وإنني لأعتقد، أنك من البشر. فلو حدث أنني رميت وأصبتك سريعا برمحي الحاد، لسلمت المجد لي - رغم قوتك واعتمادك على يديك - كما تسلم روحك لهاديس ذي الجياد العظيمة.»
هكذا قال، فعيره ابن مينويتيوس الجريء قائلا: «يا ميريونيس، لم تتحدث بهذه الطريقة، وأنت رجل الجرأة؟ أيها الصديق الحميم، لن يتراجع الطرواديون عن الجسد لمجرد كلمات السباب، بل لا بد من أن تضم الأرض الكثيرين قبل أن يتم ذلك؛ لأن نتيجة الحرب في أيدينا، أما الكلام فمكانه المجلس؛ لذا لا يليق بنا الاسترسال في الكلام، بل يجب علينا أن نركن إلى القتال.»
وما إن قال هذا، حتى تقدم، فتبعه الآخرون، وكان شبيها بإله، وكما يتصاعد صخب الحطابين في ممرات جبل، فتسمع أصواتهم على بعد، ارتفع صخب المحاربين في الأرض الفسيحة الطرقات، وصليل البرونز ودوي الجلد والتروس المتينة الصنع، وهم يطعنون بعضهم البعض بالسيوف والرماح الحادة الطرفين. ولم يستطع أحد قط أن يتبين ساربيدون العظيم - رغم علمهم بمكانه - إذ كان محوطا تماما بالرماح والدم والغبار، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. وكانوا دائمي الاحتشاد حول جثته. وكما يحدث عندما يطن الذباب في فصل الربيع حول الدلاء المملوءة باللبن - في إحدى المزارع - وقد بلل الحليب حواف الأوعية، هكذا أيضا تجمع هؤلاء حول الجثة. أما زوس فلم يحول عينيه البراقتين - بأية حال - عن القتال المرير، بل ظل يراقبهم باستمرار، متحيرا في قلبه، كثير التفكير في مقتل باتروكلوس: أيقتله هكتور المجيد بالسيف، في الصراع الطاحن الذي كان هناك حول ساربيدون - الشبيه بالإله - ويجرد كتفيه من حلته الحربية؟ أم يدعه يكبد عددا أكبر من الرجال مزيدا من الكفاح الحربي الشامل؟
وبينما هو في تدبيره، هداه فكره إلى الرأي الأصوب، وهو أن يدفع ذلك الخادم الجريء لأخيل بن بيليوس، إلى مدينة الطرواديين، مطاردا هكتور - ذا الخوذة البرونزية - مزهقا أرواح الكثيرين. فبدأ بأن أيقظ الجبن في هكتور، فوثب هذا إلى عربته واستدار ليفر، مناديا بقية الطرواديين كي يحذوا حذوه في الفرار؛ إذ أدرك تحول ميول زوس المقدسة. كذلك لم يصمد اللوكيون الشجعان، بل دبت الفوضى بين سائرهم، عندما شاهدوا مليكهم مصابا في قلبه، وراقدا بين جموع القتلى، إذ مات كثيرون فوقه، عندما شد ابن كرونوس حبال الصراع الطاحن. وسلب المورميدون ساربيدون عدته البرونزية المتألقة من فوق كتفيه. فأعطاها ابن مينويتيوس الجسور لرفاقه ليحملوها إلى السفن الجوفاء. وإذ ذاك تحدث زوس، جامع السحب، إلى أبولو قائلا: «انهض الآن، يا فويبوس العزيز، اذهب فامسح عن ساربيدون الدم القاتم، بمجرد أن تبتعد به عن منطقة الرماح. ثم احمله بعيدا، واغسله في مجاري النهر المائية، وادهنه بالأمبروسيا، ودثره بلباس خالد، وأعطه لحملين سريعين، ليأخذوه إلى الشقيقين التوءمين - النوم والموت - ليضعاه بسرعة في بلاد لوكيا الفسيحة الخصيبة، حيث يقوم أشقاؤه وأقاربه بدفنه فوق رابية، ويقيمون له نصبا، لأن هذا هو حق الموتى!»
هكذا تكلم، فلم يعص أبولو أمر أبيه، بل هبط من تلال أيدا إلى وطيس المعركة المفزع. وفي الحال رفع ساربيدون العظيم بعيدا عن منطقة الرماح. ولما انتهى من حمله بعيدا، غسله في مجاري النهر المائية، ودهنه بالأمبروسيا، ولفه بعباءة خالدة، وسلمه لحملين ذوي سرعة بالغة، ليحملوه إلى الشقيقين التوءمين - النوم والموت - اللذين وضعاه بسرعة في أرض لوكيا الفسيحة الخصيبة.
بين باتروكلوس وهكتور!
راح باتروكلوس ينادي على جياده، وأتوميدون يطارد الطرواديين واللوكيين، وقد استولت عليه غفلة عمياء، فما أحمقه! فلو وعى كلمة ابن بيليوس، لنجا حقا من مصير الموت الأسود الشرير، غير أن نية زوس أقوى دائما من نية البشر، فهو يدفع الرجل الشجاع، لكي يسلبه النصر بسهولة، ثم يعود من تلقاء نفسه فيثير البشر إلى القتال. وهكذا أثار روح باتروكلوس في صدره!
فمن تراه كان أول، ومن كان آخر من قتلتهم يا باتروكلوس، عندما استدعتك الآلهة إلى الموت؟ كان أولهم أدراستوس، وأوتونوس، وأيخيلوس، وبيريموس بن ميجاس، وأبيستور وميلانيبوس، وبعد ذلك ألاسوس، وموليوس، وبولاريتس، هؤلاء قتلهم، أما الآخرون فقد ركن كل منهم إلى الفرار!
وعندئذ كاد أبناء الآخيين يستولون على طروادة - العالية الأبواب - على يدي باتروكلوس؛ لأنه كان ثائرا برمحه، حوله وأمامه، لولا أن «أبولو» اتخذ وقفته فوق السور المتين البناء، وهو يفكر في هلاكه، ويحمل المعونة للطرواديين. ثلاث مرات وضع باتروكلوس قدمه فوق ركن من السور الشامخ، وثلاث مرات دفعه أبولو إلى الوراء، مبعدا الدرع البراق بيديه الخالدتين. بيد أنه لما هجم للمرة الرابعة وكأنه إله، صاح فيه أبولو صيحة مفزعة، وتحدث إليه بكلمات مجنحة قائلا: «ارجع يا باتروكلوس، يا سليل زوس. إنني أخبرك أنه ليس مكتوبا أن تسلب مدينة الطرواديين الأمجاد برمحك، ولا برمح أخيل، الذي يفضلك بمراحل!»
هكذا تكلم، فتقهقر باتروكلوس إلى الخلف مسافة كبيرة، متحاشيا غضب أبولو، الذي يضرب من بعيد.
وكان هكتور يقف بجياده القوية الحوافر، عند الأبواب السكابية، إذ كان مشتت الفكر: أيذهب من جديد إلى الشغب ويقاتل، أم ينادي الجيش ويحشده وراء السور ؟ وبينما هو في تفكيره هذا، اقترب منه «أبولو» في صورة شاب قوي هو أسيوس خال هكتور مستأنس الجياد - وشقيق هيكابي، وابن دوماس - الذي كان يسكن فروجيا بالقرب من مجاري سانجاريوس المائية. فتكلم أبولو بن زوس، في صورته هذه إلى هكتور قائلا: «أي هكتور، لماذا تكف عن القتال؟ هذا لا يليق بك. ليتني كنت أقوى منك بقدر ضعفي عنك، إذن لآلمك في الحال أن تنسحب من الحرب، ولكن تعال، وقد جيادك القوية الحوافر صوب باتروكلوس، فربما استطعت أن تقتله، فيهبك أبولو المجد!»
هكذا تكلم وعاد ثانية - كإله - وسط صراع الرجال. فأصدر هكتور المجيد أمره إلى كيبريونيس العاقل، بأن يسوق الجياد إلى المعركة. أما أبولو فذهب في طريقه، ودخل إلى وسط الحشد، وأرسل رعبا شريرا على الأرجوسيين، ومنح المجد للطرواديين ولهكتور. فغض هكتور النظر عن بقية الدانيين ولم يحاول قتلهم، وإنما ساق جياده القوية الحوافر ضد باتروكلوس. وإذ ذاك قفز باتروكلوس من عربته إلى الأرض، في الجانب الآخر، وقد حمل في يده اليسرى رمحا، وأمسك بالأخرى حجرا براقا حاد السنان، وقد شد عليه قبضته. ثم ثبت نفسه في الأرض وقذف بالحجر، وبدون خوف من غريمه، لم يجعل رمحه يطير بغير طائل، وإنما أصاب جبهة سائق هكتور - كيبريونيس، الذي كان ابن سفاح لبريام المجيد - بالحجر الحاد، وهو ممسك بأعنة الخيل. فحطم الحاجبين معا، ولم يتحمل العظم، فسقطت مقلتاه إلى الأرض في الثرى، أمام قدميه. فهو من العربة المكينة الصنع كما لو كان غواصا، وفارقت روحه عظامه، ولقد سخرت منه أيها الفارس باتروكلوس، إذ قلت «يا للعجب! انظروا هذا الرجل الخفيف الحركة حقا، ما أنشطه عندما يغوص! ولو كان في اليوم العميق، لأرضى نهم الكثيرين بحثا عن الأصداف، فإني أراه يغطس في السهل بخفة من فوق عربته. حقا لا بد أن بين الطرواديين رجالا يغطسون!»
مصرع باتروكلوس!
وما إن قال باتروكلوس هذا حتى اتجه صوب المحارب كيبريونيس بهجمة الليث الذي يصاب في صدره - وهو يعيث في مزرعة - فإذا بشجاعته تجلب الهلاك عليه، هكذا وثبت يا باتروكلوس متحمسا على كيبريونيس، بينما وثب هكتور في الجهة المقابلة من عربته إلى الأرض. وهكذا اشتبك الاثنان في صراع حول كيبريونيس وكأنهما أسدان فوق ذؤابة جبل، يتقاتلان على ظبي مقتول، وقد عض الجوع كلا منهما، بينما امتلأ فؤاده جرأة، هكذا أيضا، ومن أجل كيبريونيس، كان سيدا صيحة الحرب - باتروكلوس بن مينويتيوس، وهكتور المجيد - يتلهفان إلى أن يمزق كل منهما جسد الآخر بالبرونز العديم الرحمة. وأمسك هكتور الجسد من رأسه، لا يخلي قبضته عنه، وفي مواجهته أمسك باتروكلوس بالقدم بشدة، واشتبك الآخرون حولهما - طرواديون ودانيون - في صراع طاحن. وكما تتنافس الريح الشرقية والريح الغربية على هز غابة كثيفة في ممرات جبل - غابة من الزان والدردار والأثل الأملس اللحاء - فتتلاطم فروع هذه الأشجار، وتهتز أغصانها الطويلة في صخب عجيب، متكسرة ومتحطمة، هكذا أيضا انقض الطرواديون والآخيون، موقعين الهلاك بعضهم ببعض، دون أن يفكر أي الطرفين في الفرار المدمر. فتركزت عدة رماح حادة حول كيبريونيس، وانطلقت السهام المجنحة الغزيرة من أوتار القسي، وارتطم كثير من الأحجار الضخمة بالدروع، بينما كان الرجال يتقاتلون من حوله، ولكنه كان مفترشا دوامة الثرى، عتيدا في قوته، وقد نسي فروسيته.
وظلت الرماح - من كلا الطرفين - تصل إلى أهدافها ما دامت الشمس عالية في كبد السماء، واستمر القوم يتردون. فلما حان موعد رفع النير من فوق أعناق الثيران
17
أثبت الآخيون تفوقهم بما يزيد على نصيبهم، ونجحوا في سحب المحارب كيبريونيس بعيدا عن وطيس معركة الطرواديين، وبعيدا عن مدى الرماح. ونزعوا الحلة الحربية عن كتفيه، وهجم باتروكلوس على الطرواديين بعزيمة قاسية. ثلاث مرات انقض عليهم، كأنه أريس السريع، وهو يصيح صيحة مخيفة، وثلاث مرات قتل تسعة رجال. بيد أنه عندما انقض للمرة الرابعة - كإله - عندئذ ظهرت لك يا باتروكلوس، خاتمة الحياة، إذ تصدى لك أبولو في الصراع العنيف، وإنه لإله بغيض، ولم يلحظه باتروكلوس وهو يمر خلال الشغب؛ لأنه كان ملتفا بضباب كثيف. فوقف أبولو خلفه، وضرب ظهره وكتفيه العريضتين براحة يده، وإذا بعينيه تدوران. وأطاح أبولو بالخوذة عن رأسه، فسقطت تصلصل وهي تتدحرج تحت أقدام الجياد، تلك الخوذة ذات الخصلة المتخذة من شعر الخيل، فتلطخ الشعر بالدماء والتراب، ولكن الآلهة أبت - إذ ذاك - أن تتلوث الخوذة ذاتها؛ فقد كانت دائمة الحرص على صيانة رأس الرجل الشبيه بالإله - «أخيل» - وجبينه الجميل. على أن زوس منحها لهكتور كي يلبسها على رأسه. ومع ذلك فقد كان الهلاك قريبا منه. وتحطم الرمح تماما في يدي باتروكلوس، ذلك الرمح الطويل الظل، الثقيل، الضخم، القوي، ذو الطرف البرونزي المدبب. وسقط الترس - ذو الأهداب - بحمائله إلى الأرض من على كتفيه. أما درقته فقد فكها أبولو، الأمير ابن زوس. وما لبث العمى أن سيطر على قلب باتروكلوس وارتخت أطرافه المجيدة تحته، وغامت الدنيا أمام عينيه. ووقف خلفه درداني من كثب، وضربه في ظهره ما بين كتفيه برمحه الحاد، ذلك هو يوفوربوس بن بانثوس، الذي كان يفوق جميع أترابه في قذف الرمح والفروسية، وفي سرعة القدمين. وللعجب أنه عندما ركب عربته لأول مرة، ألقى بعشرين محاربا من فوق عرباتهم، وهو يتعلم أول درس له في القتال! لقد كان أول من رماك برمحه، أيها الفارس باتروكلوس، ومع ذلك فإنه لم يخضعك، وإنما تقهقر مسرعا واختلط بالحشد، بعد أن سحب الرمح الدرداري من جسدك، ولم يصمد أمام باتروكلوس، رغم أن هذا لم يكن مسلحا في العراك، ولكن باتروكلوس إذ قهرته ضربة الرب والرمح، تقهقر إلى حشد زملائه، متحاشيا الموت.
فلما رأى هكتور أن باتروكلوس العظيم الهمة كان يتقهقر مصابا بالبرونز الحاد، اقترب منه خلال الصفوف، ورماه بطعنة من رمحه أسفل بطنه، وغرس البرونز عميقا فسقط باتروكلوس بشدة، وحزن جيش الآخيين حزنا بالغا. وكما يتغلب الليث على خنزير بري لا يتعب، عندما يتقاتل الاثنان بقلبين جسورين فوق ذؤابة أحد الجبال، من أجل ينبوع صغير - كل يريد أن يشرب منه - فيلهث الخنزير البري بصعوبة، ولكن الليث يقهره بقوته، هكذا أيضا، كانت حال الابن الجسور لمينويتيوس! فبعد أن قتل الكثيرين، سلبه هكتور بن بريام الحياة، ضاربا إياه برمحه من كثب. ووقف فوقه يزهو بكلمات مجنحة، فقال: «أي باتروكلوس، لقد كنت تحسب - كما أعتقد - أنك ستتمكن من تخريب مدينتنا، وأنك ستسلب نساء طروادة حريتهن، وتحملهن في السفن إلى وطنك العزيز، فيا لك من غر! إن جياد هكتور السريعة تمشي أمامهن مسرعة إلى القتال، وبالرمح أنا مبرز بين الطرواديين المحبين للقتال، أنا الذي أدفع عنهن يوم القضاء أما أنت فسوف تنهشك النسور هنا. ويحك، أيها الشقي! حتى أخيل لم يجدك نفعا - بكل جسارته - ذلك الذي أعتقد أنه - رغم تخلفه - قد أصدر إليك أمره مشددا، عندما انصرفت من عنده، فقال لك: «إني آمرك يا باتروكلوس، يا سيد الفرسان، ألا تعود ثانية إلى السفن الجوفاء، إلا بعد أن تكون قد مزقت من حول صدر هكتور، قاتل البشر، عباءته مخضبة بالدماء!» هذا ما أعتقد أنه قاله لك، وحمس به تهورك الطائش.»
خريطة للمنطقة في عصر حصار طروادة خريطة توضح مكان مدينة «طروادة» القديمة في آسيا الصغرى - التي يفصلها «بحر إيجه» عن شواطئ عدوتها اللدودة بلاد اليونان. وترى في الخريطة مواقع: جبل الأوليمب - أو «أوليمبوس» - مقر الآلهة عند الإغريق، ثم مدينة «أسبرطة» المشهورة ببسالة نسائها ورجالها على السواء، ومدينة أثينا (عاصمة اليونان الآن)، ثم مدينة «طيبة» - الإغريقية لا المصرية - وأخيرا جزيرة رودس، حيث كان يوجد تمثال ضخم للإله «أبولو» هدمه زلزال مروع، وقد كان التمثال يعتبر من «عجائب الدنيا السبع» القديمة.
وأجبته، أيها الفارس باتروكلوس، وقد تسربت منك كل قوتك: «لك أن تتباهى بحق - في هذه المرة - يا هكتور؛ لأن زوس بن كرونوس، وأبولو، قد وهباك النصر، وهما اللذان أخضعاني بمنتهى السهولة، فهما أنفسهما اللذان نزعا العدة الحربية عن كتفي. ولو أن عشرين من أمثالك نازلوني لهلكوا كلهم، مقتولين برمحي. فقد كان القدر المميت، وابن ليتو،
18
هما اللذان قتلاني من الآلهة، وكان يوفوربوس هو الذي ضربني من البشر. أما أنت فكنت قاتلي الثالث. وإني لأقول لك شيئا آخر، يجب أن تحتفظ به في قلبك: «إنك لن تعيش طويلا، فإن الموت يقف قريبا منك، وكذلك القضاء العتيد، وسيقتلك أخيل ، المنقطع النظير، ابن أياكوس»!»
وما إن قال هذا، حتى خيم الموت عليه، وأسرعت روحه بمغادرة أطرافه، ذاهبة إلى هاديس، منتحبة مصيرها تاركة الرجولة والشباب. وكذلك في موته، خاطبه هكتور المجيد بقوله: «لم يا باتروكلوس، تتنبأ لي بالهلاك الأكيد؟ من يدري، لعله مصير أخيل ابن ثيتيس الجميلة الجدائل، فقد أكون الضارب أولا برمحي، فيفقد حياته؟»
قال هذا وسحب الرمح البرونزي من الجرح، واضعا قدمه فوق الميت ليدفعه إلى الوراء مخلصا الرمح. وفي الحال طارد برمحه أوتوميدون، شبيه الإله، خادم ابن أياكوس السريع القدمين؛ لأنه كان تواقا إلى ضربه، ولكن جياده السريعة حملته بعيدا، تلك الجياد الخالدة التي أعطتها الآلهة لبيليوس كهدايا مجيدة.
الأنشودة السابعة عشرة
فوقف هكتور بعيدا عن المعركة، وخلع حلته الحربية فأسلمها إلى الطرواديين، وارتدى حلة أخيل بن بيليوس، فلما أبصره زوس، هز رأسه، وقال في نفسه: «واها لك أيها المسكين!»
كيف دارت رحى الحرب حول جثة باتروكلوس؟
مغامرات مينيلاوس!
لم يفت مينيلاوس بن أتريوس - حبيب أريس - مصرع باتروكلوس في المعركة بأيدي الطرواديين، فاندفع وسط محاربي المقدمة - متدثرا بالبرونز الوهاج - وفتح ساقية حول الميت، كما تقف أم العجلة البكرية فوق وليدتها تجأر بحزنها وهي التي لا دراية سابقة لها بالأمومة، هكذا وقف «مينيلاوس» - ذو الشعر الجميل - فاتحا ساقيه، وقد أمسك أمامه رمحه وترسه المتزن جيدا من كل جانب، تواقا إلى قتل من تحدثه نفسه بأن يقدم على أخذ الجثة. كذلك لم يكن ابن بانثوس - ذو الرمح الدرداري المتين - غافلا عن سقوط باتروكلوس العديم النظير، فوقف بالقرب منه، وتحدث إلى مينيلاوس - حبيب أريس - قائلا: «أي مينيلاوس بن أتريوس، يا سليل زوس، ويا قائد الجيوش، تراجع، واترك الجثة، وخل عنك الغنائم الدموية، فلم يسبق لأحد قبلي من الطرواديين أو حلفائهم المشهورين، أن ضرب باتروكلوس برمحه في الصراع العنيف؛ لهذا دعني أحصل على الصيت الحسن بين الطرواديين، وإلا رميت وأصبتك، فسلبتك حياتك الحلوة حلاوة العسل.»
عندئذ قال مينيلاوس، ذو الشعر الجميل، وقد ثارت العاطفة في قلبه: «أبتاه زوس، إن الإفراط في التفاخر بصلف ليس بلائق. فما شجاعة النمر أو الأسد أو الخنزير البري، ولا العقل الثائر الجياش في الصدور، بأعظم من شجاعة وروح أبناء بانثوس، ذوي الرماح الدردارية القوية. وحتى هوبرينور العتيد نفسه، لم يفد حقا من شبابه، عندما استخف بي، وانتظر قدومي إليه، ظانا أنني أتفه محارب بين الدانيين، فلم يرجع - في اعتقادي - ماشيا على قدميه إلى وطنه ليدخل السرور على قلب زوجته العزيزة وأبويه العظيمين، هكذا أيضا، يبدو لي، أنني سوف أحرمك قوتك،
1
إذا ما وقفت لتواجهني، ولكني آمرك بالتراجع إلى الحشد، وبألا تقف في مواجهتي، حتى لا يصيبك شر ما، إنه لمنتهى الحمق أن تكون عاقلا بعد فوات الأوان!»
هكذا تكلم، فلم يعر كلامه غريمه، بل أجابه هذا قائلا: «حقا يا مينيلاوس، يا سليل زوس، ستدفع الآن ثمن أخي الذي قتلته، والذي تتكلم فوقه بخيلاء، وقد جعلت زوجته أرملة في غرفة زواجهما الحديثة البناء، وجلبت على والديه غما لا يوصف وحزنا بالغا. لسوف أعمل - من أجل هؤلاء المنكوبين - على أن أخفف آلامهم، إذا قدر لي أن أحمل رأسك وحلتك الحربية فأضعهما بين سيدي بانثوس وفرونتيس الجليلة. ومع كل فلن يبقى العراك طويلا دون أن أحاوله أو أخوضه، سواء إلى نصر أو إلى فرار!»
ما إن قال هذا حتى ضرب ترس مينيلاوس المتزن جيدا من كل جانب، بيد أن البرونز لم يخترقه، بل التوى طرفه فوق الترس القوي. وعندئذ هجم مينيلاوس بن أتريوس عليه برمحه، وتوسل إلى أبيه زوس. وما إن تراجع حتى طعنه في قاعدة حلقه، وضغط بثقله في الطعنة، معتمدا على يده الثقيلة، فمرق سن الرمح خلال عنقه الرقيق في الحال، وسقط بشدة، فصلصلت حلته الحربية فوقه، وبالدم تبلل شعره الذي كان أشبه بشعر ربات الحسن، وكذا جدائله المزدانة بالذهب والفضة. وكما يزرع المرء شجيرة زيتون قوية في مكان منعزل تتدفق المياه غزيرة فيه، شجيرة طيبة جميلة النمو، تهزها هبوب جميع الرياح، ومع ذلك فإنها تزخر بالأزهار البيضاء. بيد أن الرياح تأتي فجأة بعاصفة هوجاء، فتقتلعها من أخدودها وتلقي بها على الأرض. هكذا كانت الحال أيضا مع مينيلاوس بن أتريوس، إذ قتل ابن بانثوس، «يوفوربوس» ذا الرمح الدرداري المكين، وجرده من حلته الحربية. وكما يحدث عندما يقبض الليث الجبلي - المعتمد على قوته - على خير عجلة بين قطيع يرعى: فيمسك عنقها أولا بين فكيه القويتين ويكسره، ثم يزدرد الدم وجميع الأجزاء الداخلية وهو هائج، فيصيح من حوله الرعاة والكلاب بأصوات عالية من بعيد، ولكنهم لا يجرءون على الهجوم، إذ يتملكهم الذعر الشاحب، هكذا أيضا لم يجرؤ قلب أي طروادي في صدره، على أن يذهب لمواجهة مينيلاوس المجيد، وهكذا صار في مقدور ابن أتريوس - بمنتهى السهولة - أن يحمل بعيدا حلة ابن بانثوس الحربية المجيدة، فحسده «أبولو» على ذلك. وفي صورة مينتيس، قائد الكيكونيس،
2
أثار عليه هكتور - نظير أريس السريع - فخاطبه ابن أتريوس بكلمات مجنحة، قائلا: «أي هكتور، إنك تسرع الآن عبثا وراء شيء قد لا تحققه، وراء جياد ابن أياكوس الحكيم. إنها عسيرة، فليس لبشر أن يسوسها أو يسوقها اللهم إلا أخيل الذي أنجبته أم خالدة. وفي الوقت نفسه يدافع مينيلاوس الباسل - ابن أتريوس - عند باتروكلوس. وقد قتل يوفوربوس بن بانثوس، خير الطرواديين وجعله يكف عن الشجاعة المتهورة.»
هكذا تكلم، وعاد ثانية كإله وسط كدح الرجال. ولكن روح هكتور كانت تخيم عليها سحب قاتمة من الحزن المؤلم، فراح يفتش بين الصفوف. وفي الحال أبصر الرجل الذي كان يسلب الأسلحة المجيدة، والآخر الراقد فوق الأرض والدم يتدفق من الجرح المفتوح. عندئذ خطا مسرعا وسط محاربي المقدمة، متدثرا بالبرونز الوهاج، مرسلا صرخة حادة، في صورة أشبه بنار هيفايستوس التي لا يستطيع أحد إخمادها. وسمع ابن أتريوس صيحته الحادة، فاضطرب اضطرابا شديدا، وقال لنفسه العالية الهمة: «ويحي! لو أنني تركت ورائي هذه الأسلحة العظيمة، وباتروكلوس الذي يرقد هنا ميتا من جراء الدفاع عن كرامتي، لخشيت أن ينقم علي الكثير من الدانيين ذلك. أما إذا رأيت - في سبيل الكرامة - أن أقاتل - وحدي - هكتور والطرواديين، فإني أخاف أن يحاصروني من كل صوب، وهم كثيرون ضد واحد؛ لأن هكتور - ذا الخوذة البراقة - يقود جميع الطرواديين إلى هنا. ومع كل، فلماذا يعارضني قلبي؟ إن المحارب إذا انتوى أن يتحدى إرادة السماء، بأن يقاتل محاربا آخر ممن يكرمه أحد الآلهة، فإن كربا عظيما يحيق به. ومن ثم فلن يغضب مني أحد الطرواديين، إذا ما أبصرني أتقهقر أمام هكتور، إذ إنه يقاتل بمساعدة السماء. أما إذا استطعت أن أجد أياس - الرائع في صيحة الحرب - في أي مكان، فسيكون بوسعنا أن نعود ثانية، وننصرف إلى القتال - ولو كان هذا ضد إرادة السماء - أملا في إنقاذ الميت من أجل أخيل بن بيليوس. فهذا أهون الشرور!»
وبينما هو يفكر هكذا - في باله وقلبه - أقبلت صفوف الطرواديين، يقودها هكتور. فتراجع مينيلاوس إلى الوراء، وترك الجثة، وهو يتلفت حوله كأسد ذي لبدة تطارده الكلاب والرجال - من حظيرة - بالصراخ والرماح، فيتراخى قلبه الجسور في صدره، ويترك المزرعة مرغما، هكذا أيضا، ابتعد مينيلاوس الجميل الشعر عن باتروكلوس. فاستدار ووصل إلى حشد زملائه، وهو يتلفت هنا وهناك بحثا عن أياس العظيم، ابن تيلامون. وسرعان ما أبصر به في الناحية اليسرى من المعركة، يشجع رفاقه، ويحثهم على القتال، إذ حط عليهم «أبولو» خوفا عجيبا. وفي الحال جرى نحوه، وخاطبه بقوله: «تعال يا أياس، أيها الصديق الحميم، لنسرع للدفاع عن باتروكلوس الميت، عسى أن نتمكن من حمل جثته إلى أخيل - ولو جسده العاري، على الأقل - أما حلته الحربية فقد أخذها هكتور، ذو الخوذة البراقة.»
هكذا تكلم، مثيرا روح أياس الحكيم القلب، فخطا هذا وسط محاربي المقدمة، بصحبة مينيلاوس الجميل الشعر. وكان هكتور - وقد سلب الجثة حلتها الحربية المجيدة - يحاول أن يسحب الجثة بعيدا، كي يستطيع أن يفصل الرأس عن الكتفين بالبرونز الحاد، ويجر بقية الجسد بعيدا فيلقيه لكلاب طروادة. غير أن أياس اقترب حاملا ترسه - الذي كان أشبه بسور المدينة - فتراجع هكتور عائدا إلى حشد رفاقه، وقفز فوق عربته، وأعطى الحلة الحربية العظيمة للطرواديين كي يحملوها إلى المدينة عنوان مجد عظيم له، ولكن أياس غطى ابن مينويتيوس من كل جهة بترسه العريض، ووقف وقفة الليث أمام أشباله، وقد التقى به الصيادون في الغابة يقود صغاره، فيزهو بقوته، ويقطب حاجبيه حتى يغطيا عينيه. هكذا أيضا دافع أياس عن المحارب باتروكلوس، ووقف مينيلاوس بن أتريوس بالقرب منه، وقد تضاعف حزنه العظيم في صدره.
وما لبث جلاوكوس هيبولوخوس - قائد اللوكيين - أن رمق هكتور عابسا، وعير هكتور بكلمات قاسية، قائلا: «أي هكتور، ما أروع مظهرك، وإن كانت الروعة تعوزك في المعركة، عبثا تنال ذلك الصيت الحسن، وأنت جبان رعديد! ألا فكر في طريقة تنقذ بها مدينتك - وكذلك وطنك - بنفسك، دون أن يساعدك في ذلك غير من ولدوا في طروادة، فلن يذهب من اللوكيين - على الأقل - شخص ما يقاتل الدانيين من أجل المدينة، فليس ثمة جدوى - فيما يبدو - من النضال المستمر ضد أهل الحرب. كيف تعتزم إنقاذ من هو أقل من ساربيدون مكانة - من معمعان القتال - يا عديم الرحمة، وأنت الذي تركت ساربيدون، ضيفك ورفيقك، فريسة وغنيمة للأرجوسيين! تركت ذلك الذي كثيرا ما برهن في حياته على أنه نعمة عليك وعلى مدينتك، ولم تجد شجاعة لتقصي عنه الكلاب! ومن ثم فلو أن أحدا من رجال لوكيا أصغى إلي، لذهبنا الآن إلى الوطن، ولن يحيق بطروادة سوى الهلاك الشامل الجلي. ذلك لأنه لو كانت لدى الطرواديين روح باسلة حقا، روح لا تعرف الخوف - كتلك التي تتملك الذين يجاهدون من أجل وطنهم ويصارعون الأعداء، لوجب علينا في الحال أن نجر باتروكلوس إلى طروادة. ولو قدر لهذا الرجل - الذي أصبح مجرد جثة - أن يأتي إلى مدينة الملك بريام العظيمة، واستطعنا أن نبعده عن المعركة، فإن الأرجوسيين سيعيدون في الحال عدة ساربيدون الحربية العظيمة. وخليق بنا أن نحضر جسده إلى طروادة. فإن الرجل الذي اغتيل خادمه عظيم حقا، بل هو خير الأرجوسيين القائمين بجانب السفن، هو وأتباعه الذين يجيدون في عراك متشابك . في حين أنك لم تؤت الشجاعة الكافية لتقف أمام أياس العظيم الهمة، وتواجهه عينا بعين، وسط صراخ المحاربين، ولا أن تقاتله؛ لأنه يفوقك بمراحل!»
فقطب هكتور حاجبيه غاضبا، وقال: «أي جلاوكوس: لماذا - وأنت ذلك الشخص العظيم - تتكلم بهذا الصلف؟ دع الغرور، فلقد كنت أظن بحق أنك تفوق - في الحكمة - غيرك من ساكني لوكيا العميقة التربة، أما الآن فكم أزدري حصافتك، إذ تتكلم هكذا، وتقول إنني لم أجسر على نزال أياس العتيد، ما من خوف يساورني من المعركة، ولا من طنين العربات. بل إن نية زوس - حامل الترس - هي الأقوى دائما، فهو يدفع الرجل الجسور إلى الغرور ليسلبه النصر بمنتهى السهولة، ومن جديد يثير هو نفسه الرجال إلى القتال. فتعال أيها الصديق، وقف إلى جانبي، وشاهد عمل يدي، لترى ما إذا كنت طوال هذا اليوم قد جبنت - كما تقول - أم أنني سأوقف الكثير من الدانيين - مهما يكن بأسهم وضراوة جرأتهم - عن الكفاح دفاعا عن باتروكلوس المقتول.»
وما إن قال هذا حتى صاح عاليا، مستدعيا الطرواديين قائلا: «أيها الطرواديون واللوكيون والدردانيون، يا من تقاتلون في عراك متشابك، كونوا رجالا يا أصدقائي، وفكروا مليا في الشجاعة الثائرة، حتى أرتدي عدة أخيل المنقطع النظير، هذه الحلة الحربية العظيمة التي نزعتها عن باتروكلوس العتيد، عندما قتلته.»
وما إن قال هكتور - ذو الخوذة البراقة - هذا، حتى انطلق بعيدا عن معمعة القتال، وجرى حتى وصل إلى رفاقه - ولم يكونوا على بعد منه - وأسرع بخطوات واسعة، وراء من كانوا يحملون حلة ابن بيليوس المجيد الحربية إلى المدينة. فوقف بعيدا عن المعركة الزاخرة بالدموع، فخلع حلته الحربية وأسلمها إلى الطرواديين - المحبي القتال - ليحملوها إلى «طروادة» المقدسة، وارتدى حلة أخيل بن بيليوس، الحلة الحربية التي كانت الآلهة السماوية قد وهبتها لأبيه، ثم منحها هذا - بدوره - لابنه، عندما بلغ الشيخوخة، يبد أن الابن، رغم ارتدائه تلك الحلة الحربية نفسها، لم يصل إلى سن الشيخوخة!
فعندما أبصره زوس- جامع السحب - من بعيد، وهو يرتدي عدة ابن بيليوس، الشبيه بالإله، هز رأسه، وقال في نفسه: «واها لك أيها الرجل المسكين! إنك لا تفكر حقا في الموت الذي ما برح يقترب منك، فترتدي هذه الحلة الحربية الخالدة، التي كانت لأمير كان يرهبه الآخرون. لقد قتلت زميله الشهم، الشجاع، وبطريقة غير لائقة نزعت الحلة المدرعة عن رأسه وكتفيه. ومع كل فسأمنحك قوة عظيمة لفترة من الوقت، في مقابل أن لن تعود أبدا من المعركة إلى «أندروماخي» لتتلقى منك عدة ابن بيليوس الحربية المجيدة.»
هكذا قال ابن كرونوس، وقطب حاجبيه القاتمين. واستوت العدة الحربية على جسم هكتور، ثم تقمصه أريس - إله الصراع الفظيع
3 - فامتلأت أطرافه من الداخل قوة وجرأة. ومن ثم انطلق في طريقه إلى جماعة الحلفاء المشهورين، صائحا صيحة عظيمة، وتجلى لعيون الجميع، متلألئا في الحلة الحربية التي كانت لابن بيليوس البالغ الشجاعة. وسار إلى كل رجل، وراح يكلمه مشجعا: ميسثليس، وجلاوكوس، وميدون، وثيرسيلوخوس، ولسيروبايوس، ودايسينور، وهيبوثوس، وفوركوس، وخروميوس، وأنوموس العراف. فشجع هؤلاء بكلمات مجنحة قائلا: «أصغوا إلي، أيها القبائل العديدة من الحلفاء القاطنين فيما حولنا من بلدان. لم أجمع كل رجل منكم لافتقاري إلى أعداد غفيرة، أو لأن بي حاجة إلى ذلك، وإنما لتنقذوا - بقلوب متحفزة - زوجات الطرواديين وأطفالهم الصغار، من الآخيين المحبي القتال. بهذه النية أضيع أنا أموال قومي، حتى يمكنكم الحصول على الهدايا والطعام، وبذلك أزيد كلا منكم شجاعة. وعلى ذلك فليعد كل منكم فورا ويواجه العدو، سواء مات أو عاش، فهذه لذة الحرب. ومن يسحب باتروكلوس - في موته - إلى وسط الطرواديين مستأنسي الخيول، ويحمل أياس على الاستسلام، أعطه نصف الغنائم وأحتفظ لنفسي بالنصف الآخر، كما أن مجده سيتساوى مع مجدي!»
هكذا تكلم، فانقضوا فورا على الدانيين بكل قوتهم، حاملين رماحهم عاليا، آملين - في قلوبهم - أن يسحبوا الجثة من تحت أياس بن تيلامون، فما أحمقهم! وما أكثر من حرموا الحياة فوق تلك الجثة! وإذ ذاك تكلم أياس إلى مينيلاوس - الرائع في صيحة الحرب - قائلا: «أي مينيلاوس الحميم، يا ربيب زوس، إنني لم أعد أتوقع أن نعود - نحن الاثنين - إلى وطننا العزيز سالمين من الحرب. وإذا كان يساورني خوف، فليس ذلك من أجل جثة باتروكلوس - التي لن تلبث أن تشبع نهم كلاب وطيور طروادة - وإنما عليك أنت وعلى نفسي ؛ لأن سحابة من الحرب تطوق كل شيء حولنا، وحول هكتور كذلك، وإن الدمار ليحملق فينا. ومع كل، فهيا، استدع رؤساء الدانيين، إذا كان في مقدور أحد أن يسمع!»
هكذا تكلم، فلم يتردد مينيلاوس - الرائع في صيحة الحرب - عن إطاعة قوله، وأطلق صرخة حادة، ونادى على الدانيين قائلا: «أيها الأصدقاء، قادة وحكام الأرجوسيين، يا من على مائدة أجاممنون ومينيلاوس - ابني أتريوس - تشربون ما شئتم أن تشربوا ويعطى كل منكم الأمان إلى قومه، أنتم يا من يسير في ركابكم الشرف والمجد من لدن زوس، من العسير علي أن آمر كل رجل من الرؤساء، وصراع الحرب مستعر بهذه الدرجة، هيا، ليذهب كل رجل دون أن يؤمر، وليربأ بنفسه عن أن يدع باتروكلوس ألعوبة لكلاب طروادة.»
وإذ قال ذلك، سمعه أياس السريع، ابن أوليوس، فكان أول من أسرع يعدو لمقابلته وسط المعركة، ومن ورائه أيدومينيوس ورفيقه ميريونيس، نظير أنوالسيوس، قاتل البشر. ومن الذي يستطيع أن يعد - من ذاكرته - أسماء الآخرين الذين جاءوا وراء هؤلاء وأثاروا معركة الآخيين؟!
صراع صاخب عنيف!
اندفع الطرواديون - بعد ذلك - إلى الأمام في حشد متراص، بقيادة هكتور. وكما يحدث عندما تزأر الموجة العتيدة عند مصب أي نهر مقدس - ضد التيار - فتردد كثبان الشاطئ دويها على كل من الجانبين، عندما يجأر البحر الملح من الخارج، بمثل هذا الطنين من الصياح أقبل الطرواديون. ولكن الآخيين وقفوا ثابتين حول ابن مينويتيوس، متحدة قلوبهم، يحيطونه بدروع من البرونز. وأنزل ابن كرونوس ظلمة كثيفة على خوذاتهم اللامعة، لأنه لم يكن يمقت ابن مينويتيوس من قبل، عندما كان حيا، وتابعا لابن أياكوس، فكان زوس الآن يأنف من أن يدعه ألعوبة كلاب أعدائه - أهل طروادة - ومن ثم فقد أثار زوس رفقاءه لكي يذودوا عنه!
ودفع الطرواديون الآخيين ذوي العيون البراقة إلى الوراء - أولا - فتركوا الجثة وتقهقروا أمامهم، دون أن يقتل الطرواديون الشجعان القلوب أحدا برماحهم، رغم تلهفهم، ولكنهم تأهبوا لسحب الجثة. على أن الآخيين ما كانوا ليظلوا متراجعين إلا لفترة وجيزة فسرعان ما انقض عليهم أياس الذي كان يفوق جميع غيره من الدانيين في رقته وأعماله الحربية. ما عدا ابن بيليوس قريع دهره. وفي الحال خطا مسرعا بين محاربي المقدمة، في قوة أشبه بقوة الخنزير البري، الذي يعيث بين الجبال، يشتت الكلاب والشباب القوي بسرعة، عندما يكر عليهم في الممرات. على هذا النحو، لم يكد أياس المجيد، ابن الملك تيلامون يصل إلى كتائب الطرواديين، حتى شتتهم بسرعة، بعد أن كانوا يقفون حول باتروكلوس، متلهفين إلى سحبه إلى مدينتهم كي يحرزوا المجد لأنفسهم.
كان هيبوثوس المجيد، ابن ليثوس البيلاسجي يجر الجثة من قدميها - إبان الصراع الطاحن - وقد ربط حمالته حول أوتار كل من العقبين، كي يسر بذلك هكتور والطرواديين. غير أنه - بمنتهى السرعة - وافاه شر لم يستطع أي واحد منهم أن يدفعه، رغم ما كانوا عليه من لهفة. لأن ابن تيلامون انقض عليه وسط الحشد، وضربه من قرب فوق خوذته ذات القطع البرونزية الجانبية، فانشطرت الخوذة ذات الخصلة المتخذة من شعر الخيل عند طرف الرمح، تحت قوة الرمح العظيم واليد القوية. وتناثر مخه خارج الجرح بطول وصلة الرمح، وقد اختلط كله بالدم. وعندئذ خارت قواه، فخلى قبضته عن أقدام باتروكلوس الشجاع القلب، وتركه فوق الأرض، وسقط هو نفسه بالقرب منه، بل فوق الجثة مباشرة، بعيدا عن لاريسا العميقة التربة. ولم يعوض والديه العزيزين عن تربيته، إذ كان أجله قصيرا، فقتله أياس البالغ الشجاعة برمحه. وانبرى هكتور بدوره، فسدد نحو أياس رمحه اللامع، ولكن أياس ركز بصره نحوه بثبات، وتحاشى الرمح البرونزي بمسافة بسيطة، فأصاب هكتور برمحه سخيديوس بن أفينوس العظيم الجرأة، أفضل الفوكيين، الذي كان يقيم في بانوبيوس الشهيرة، ملكا على شعب كثير العدد. لقد ضربه هكتور أسفل منتصف عظمة الترقوة، فنفذ طرف البرونز إلى الداخل، وخرج من أسفل قاعدة الكتف. وسقط في عنف، وصلصلت حلته الحربية من فوقه وضرب أياس بدوره فأصاب فوركوس الحكيم القلب، ابن باينوبس، في بطنه تماما - بينما كان يتخطى هيبوثوس - وحطم لوح درقته، فأخرج البرونز الأحشاء. وسقط يتردى في الثرى، وأمسك الأرض براحته . عندئذ تقهقر محاربو المقدمة وهكتور المجيد، وصاح الأرجوسيون عاليا، وسحبوا القتيلين - فوربوس وهيبوثوس - وتأهبوا لينزعوا الحلة الحربية عن أكتافهما.
وكان مقدورا على الطرواديين أن ينسحبوا ثانية - أمام الآخيين، أحباء أريس - إلى طروادة، مقهورين بسبب جبنهم، وكاد الأرجوسيون يفوزون بالمجد - ولو بالرغم من زوس - جزاء قوتهم وبأسهم لولا أن أبولو نفسه أثار أينياس متنكرا في صورة المنادي بيريفاس بن أبوتوس، الذي شاخ في مهنة المناداة مع أبيه العجوز وكان فضلا عن ذلك طيب القلب نحوه، وفي هذه الصورة، خاطبه أبولو بن زوس بقوله: «يا أينياس، كيف استطعت قبل ذلك أن تصون طروادة العميقة، متحديا أحد الآلهة؟ الحق أنني رأيت رجالا آخرين، كانت لهم ثقة في قوتهم وشدتهم، وفي شجاعتهم وجيشهم. واحتفظوا بمملكتهم رغم تحديهم زوس. بيد أن زوس يرغب في أن يكون النصر لنا أكثر من أن يكون للدانيين. ومع ذلك فثمة ذعر لا حد له يتملككم، فلستم تقاتلون!»
هكذا تكلم، غير أن أينياس عرف أبولو - الذي يضرب من بعيد - عندما تطلع إلى وجهه، وصرخ بصوت مرتفع ينادي هكتور قائلا له: «أي هكتور، ويا أيها القادة الآخرون، قادة الطرواديين والحلفاء، من العار حقا، أن نتقهقر أمام الآخيين - أحباء أريس - إلى طروادة، مغلوبين على أمرنا بسبب جبننا. لقد أعلن لي أحد الآلهة - وهو واقف إلى جانبي - أن زوس، المستشار الأعلى، لا يزال معيننا في القتال. وعلى ذلك، هيا نتجه فورا نحو الدانيين، ولا تمكنوهم من نقل باتروكلوس المقتول، إلى السفن بسهولة!»
هكذا تكلم، ثم قفز بعيدا إلى مقدمة محاربي الصفوف الأولى، حيث وقف. وانتظم الرجال واتخذوا مواقفهم في مواجهة الآخيين. بعد ذلك طعن أينياس برمحه ليوكريثوس بن أريسباس ورفيق لوكوميديس الجسور، فجرحه. وما إن سقط حتى أشفق عليه لوكوميديس، حبيب أريس، فأقبل إلى جانبه، وبرمية من رمحه البراق أصاب أبيساون، ابن هيباسوس - راعي الجيش - في كبده أسفل سرته. وفي الحال أرخى ركبتيه أبيساون الذي قدم من باونيا العميقة التربة، وكان مبرزا على الجميع في القتال، ما عدا أستيروبايوس. وما إن تردى حتى أشفق عليه أستيروبايوس الصنديد، وانطلق إلى الأمام، وكله عزيمة على مقاتلة الدانيين. بيد أنه لم ينجح في ذلك، وكان قد سبق السيف العذل، فلم يستطع عمل شيء، إذ كانوا محاطين بالتروس من كل جانب، وهم يقفون حول باتروكلوس، يحملون الرماح أمامهم، لأن أياس كان يسير وسطهم جيئة ورواحا، يهاجم كل رجل في شدة وبطش. وأصدر إليهم أمره بألا يتقهقر أي رجل منهم عن الجثة، وألا يقاتل أمام بقية الآخيين كما لو كان مبرزا عليهم أجمعين. بل يجب أن يثبتوا في أمكنتهم متراصين حول الجثة، ويقاتلوا يدا ليد.
هكذا أمر أياس القوي، وارتوت الأرض بالدماء القاتمة، وطفق القتلى يتساقطون بكثرة وبسرعة - سواء أكانوا من الطرواديين وحلفائهم الأشداء، أو من الدانيين - لأن هؤلاء أيضا خاضوا معركة لم تخل من دماء، وإن كان عدد من قتلوا منهم أقل بكثير ممن قتلوا من أعدائهم. فقد كانوا يوطدون العزم باستمرار على دفع الهلاك الأكيد عن بعضهم وسط الحشد.
هكذا قاتلوا كالنار المستعرة، تخيم الظلمة فوقهم جميعا، فما كنت تستطيع تبين الشمس أو القمر. وكان جميع الرؤساء واقفين حول ابن مينويتيوس المقتول، بينما قاتل الطرواديون والآخيون - المدرعون جيدا - براحة في الهواء الطلق، تسطع الشمس فوقهم بنورها الحاد. وكانت السماء خالية من السحب فوق الأرض كلها والجبال، فكانوا يقاتلون مع فترات من الراحة بين آن وآخر، متحاشين رماح بعضهم الآخر، تلك الرماح المليئة بالأنين، وقد وقفوا متباعدين. أما أولئك الذين كانوا في الوسط فقد قاسوا الويلات من الظلام والحرب، على حد سواء. وكان البرونز العديم الرحمة يشدد خناقه عليهم، وكلهم من الرؤساء. ومع كل ذلك فإن اثنين من مشاهير المقاتلين - هما ثراسوميديس وأنتيلوخوس - لم يكونا يعلمان حتى تلك الآونة أن باتروكلوس المنقطع المثيل قد مات، بل ظنا أنه ما زال حيا، يقاتل الطرواديين في مقدمة الجمع. وكانا يقاتلان في مكان بعيد ، وهما يصدان الموت عن زملائهما، إذ كان نسطور قد أمرهما بذلك، عندما حثهما بالذهاب إلى المعركة من السفن السوداء.
إذن فطوال اليوم كله، كان الصراع الشديد لقتالهم الطاحن يسير على قدم وساق، وكانت ركب الرجال وسيقانهم وأقدامهم قد ابتلت بعرق الكد، وكذا سواعدهم وعيونهم. بينما قاتل الجيشان حول الرجل العظيم، خادم أخيل السريع القدمين. وكما يحدث عندما يعطي المرء قومه جلد ثور ضخم رطب كي ينشروه، وقد ابتل جميعه بالدهن، فبعد أن يأخذوه، يقفون في دائرة ويشدونه وفي الحال تتلاشى منه الرطوبة، ويتسرب منه الدهن من جراء شد الأيدي الكثيرة، ويتمدد الجلد كله إلى أقصى درجة.
4
هكذا كانت حالهم وهم يشدون الجثة - من هنا وهناك، وإلى هنا وهناك - في مسافة قصيرة، وقلوبهم داخل صدورهم تحدوها الآمال. فيرجو الطرواديون أن يتمكنوا من سحبها إلى طروادة، بينما يرجو الآخيون أن يسحبوها إلى السفن الجوفاء. وازدادت المعركة حول الجثة وحشية، ولم يستطع أريس المثير الجيوش، ولا أثينا - عند رؤيتهما ذلك الصراع - أن يخففا من حدته، رغم أن غضبهما كان بالغ الشدة!
فرض زوس مثل هذا النضال الشرير - في ذلك اليوم - على الرجال والجياد حول باتروكلوس. وحتى تلك الساعة لم يكن أخيل العظيم يعلم شيئا عن مقتل باتروكلوس؛ لأنهم كانوا يقاتلون بعيدا عن السفن السريعة، تحت حائط الطرواديين. ومن ثم لم يدر بخلد أخيل أبدا أنه مات، بل كان يعتقد أنه سيعود حيا بعد أن يصل إلى الأبواب. ولم يكن يتصور قط، أن باتروكلوس سيجتاح المدينة بدونه - بل ولا في صحبته - لأنه كثيرا ما سمع هذا من أمه، وهو يصغي إليها سرا، كلما جاءته بخبر عن نوايا زوس العظيم. ومع ذلك فإنها لم تنبئه بالشر العظيم الذي حدث؛ بأن رفيقه - الذي يعزه فوق كل شيء - قد قتل!
أحزان جوادي أخيل!
ولكن الآخرين ظلوا يناضلون حول الجثة - بسهام حادة في أيديهم - نضال المستميت. وطفقوا يقتلون بعضهم بعضا. وهكذا كان الآخيون المتدثرون بالبرونز يقولون لبعضهم: «أيها الأصدقاء، لا يشرفنا قط أن نعود ثانية إلى السفن الجوفاء بل فلتنشق الأرض السوداء هنا وتبتلعنا كلنا، فهذا أفضل لنا إذا اضطررنا إلى تسليم هذا الرجل للطرواديين - مستأنسي الخيول - ليسحبوه إلى مدينتهم ويفوزوا لأنفسهم بالمجد!»
وكذلك قال أحد الطرواديين العظيمي الشجاعة، في الجانب الآخر: «أيها الأصحاب، ليس لأحدكم أن يتراجع عن القتال، ولو قدر علينا أن نموت بجوار هذا الرجل!»
هكذا كان الكلام يدور في الجانبين، فيثير قوة الجميع. ومن ثم فإنهم مضوا يقاتلون، وقد تصاعد صليل الحديد - خلال الفضاء المضطرب - حتى بلغ السماء البرونزية، ولكن جوادي ابن أياكوس كانا يبكيان عزلتهما عن القتال، إذ علما - منذ البداية - أن سائقهما قد تردى في الثرى بيد هكتور قاتل البشر.
وكثيرا ما كان «أتوميدون» الجريء - ابن ديوريس - يقسو عليهما بضربات من السوط السريع. وكثيرا جدا ما كان يكلمهما بعبارات رقيقة - وغالبا بالتهديدات - ومع ذلك فلم يكن في نية الجوادين كليهما أن يعودا إلى السفن، إلى الهيليسبونت العريض، ولا حتى إلى المعركة وسط الآخيين، وكما يظل العمود ثابتا فوق قبر الرجل أو السيدة بعد موتها، هكذا وقفا دون حراك بجانب العربة الفاخرة، يطأطئان رأسيهما، وظلت الدموع تنهمر سخينة من مآقيهما، فتتساقط على الأرض، وهما يبكيان شوقا إلى سائقهما. وكانت أعرافهما الرائعة قد تلوثت وهما يتململان - تحت وسادة النير - على هذا الجانب وذاك. وبينما هما في حزنهما، إذ وقع بصر كرونوس عليهما، فأحس بالعطف عليهما، وحرك رأسه، قائلا في نفسه: «ويحكما أيها الزوج التعيس من الجياد، لماذا أعطيناكما للملك بيليوس، وهو من البشر، في حين أنكما معمران وخالدان؟ أكان عليكما وسط البشر التعساء أن تشاركاهم الأحزان؟ ذلك لأنني أعتقد أن ليس أتعس من الإنسان بين كل الكائنات التي تتنفس وتتحرك فوق الأرض. ومع كل هذا، فلن يصعد هكتور بن بريام، فوق عربتكما الفاخرة الزينة، إذ لن أحمل نفسي مشقة حدوث هذا. ألا يكفيه أنه استولى على الحلة الحربية، التي يزهو بها عبثا؟ كلا، لن يكون له هذا، وسأضع القوة في قوائمكما وقلبيكما، حتى تستطيعا حمل أوتوميدون سالما - خارج ميدان الوغى - إلى السفن الجوفاء؛ إذ إنني ما زلت مصرا على منح المجد للطرواديين، وأن يقتلوا ويقتلوا إلى أن يبلغوا السفن المتينة المقاعد، وتغرب الشمس ويقبل الظلام المقدس.»
وما إن قال هذا حتى نفث في الجوادين قوة بالغة. فنفض الجوادان الغبار عن عرفيهما إلى الأرض، وبسرعة انطلقا بالعربة السريعة وسط الطرواديين والآخيين. وناضل أوتوميدون خلفهما - بالرغم من حزنه على رفيقه - منقضا بعربته كالنسر على قطيع من الأوز؛ لأنه طار بخفة من وسط طنين معركة الطرواديين، وانطلق بخفة مندفعا خلال الحشد الغفير، ومع كل هذا، فما استطاع أن يقتل أحدا وهو يجد في مطاردتهم، لأنه لم يكن في مقدوره هذا بأية حال من الأحوال، إذ كان بمفرده في العربة المقدسة
5
فلم يكن بوسعه أن يهاجمهم بالرمح وهو ممسك بأعنة الجوادين السريعين. وأخيرا أبصر به رفيقه، الكينيدون بن لايركيس بن هايمون، فوقف خلف العربة، وتحدث إليه بقوله: «أيا أوتوميدون، أي رب بث في صدرك نصيحة باطلة، وسلب فؤادك الفهم والإدراك، حتى إنك تقاتل الطرواديين هكذا وحدك، في حشد المقدمة؟ فقد قتل زميلك، وارتدى هكتور حلته الحربية على كتفيه - حلة ابن أياكوس - ويزهو بها.»
فأجابه أوتوميدون بن ديوريس، قائلا: «الكيميدون، أي رجل آخر من الآخيين له جدارتك في قيادة وترويض الجوادين الخالدين، عدا باتروكلوس وحده، نظير الآلهة في المشورة، إذ كان حيا؟ أما الآن فقد حط عليه الموت والقضاء. والآن، هيا، خذ السوط والأعنة البراقة، حتى يمكنني أن أصعد لأقاتل.»
هكذا تكلم، وقفز «الكيميدون» فوق العربة السريعة في القتال، وبسرعة قبض على الأعنة والسوط في يديه، وهبط أوتوميدون من العربة، فلمحه هكتور المجيد. وفي الحال تحدث أينياس - الذي كان قريبا منه - فقال: «يا أينياس، يا مستشار الطرواديين المتدثرين بالبرونز، إنني لأبصر جوادي ابن أياكوس السريع القدمين، مقبلين صوب ميدان القتال، بسائقين ضعيفين وإني آمل في الاستيلاء على هذين الجوادين، إذا اعتزمت ذلك في قرارة نفسك، فإن الرجلين لن يصمدا ضد هجومنا نحن الاثنين، ولن يتوقفا للاشتباك معنا في القتال.»
هكذا قال، فلم يتردد ابن أنخيسيس في إطاعة قوله. وانطلق الاثنان من توهما إلى الأمام، وقد دثرا أكتافهما بدروع من جلد الثيران، جافة صلبة قد ثبت فوقها البرونز الجم. وذهب معهما خروميوس، وأريتوس، وكلاهما شبيه بالآلهة ، وقلباهما يفيضان لهفة إلى قتل الرجلين ودفعهما بعيدا عن الجوادين اللذين تقوس عنقاهما إلى أعلى. فيا لهما من أحمقين! إذ لن يكون من المستطاع الحصول عليهما بدون إراقة دماء. وأخذهما من أتوميدون، فصلى أوتوميدون للأب زوس، وقد امتلأ قلبه الأسود قوة وشجاعة. وخاطب في الحال الكيميدون - رفيقه الموثوق به - فقال: «أي الكيميدون، لا تمسك الجوادين بعيدا عني بل دع أنفاسهما تضرب فوق ظهري تماما؛ لأنني لا أظن أن هكتور بن بريام سوف يكف عن حميته إلا بعد أن يركب خلف جوادي أخيل الجميلي العرف، ويقتلنا - نحن الاثنين - ويبث الفوضى بين صفوف المحاربين الأرجوسيين، أو يقتل هو نفسه وسط محاربي المقدمة!»
هكذا تكلم، ونادى الأيانتيس كليهما، ومينيلاوس، قائلا: «أيها الأيانتيس - قائد الأرجوسيين - ويا مينيلاوس، الآن أرى عجبا! اتركا الجثة في عهدة خيرة الشجعان، ليقفوا راسخين حولها ويذودوا عنها صفوف الرجال. أما نحن - الذين ما زلنا على قيد الحياة - فلندفع يوم الموت العديم الرحمة؛ لأن هكتور وأينياس - خير الطرواديين - ينقضان في القتال بعنف. وإن أردتم الحق، فإن هذه الأمور فوق ركب الآلهة؛ ومن ثم فسأقذف أنا أيضا برمحي، ولأدع النتيجة لزوس.»
قال هذا، ووزن رمحه الطويل الظل، ثم قذف به، فأصاب ترس أريتوس الجيد الاتزان من كل جانب. ولم يقو الترس على صد الرمح، بل نفذ البرونز خلاله، وانغرس داخل البطن الأسفل خلال الحزام. وكما يحدث عندما يمسك رجل قوي فأسا حادة في يده ويضرب بها قرون ثور من الخلف، فيقطع أوتارها في الحال، ويندفع الثور إلى الأمام ويسقط. هكذا أيضا اندفع أريتوس إلى الأمام، ثم سقط على ظهره، وأرخى أطرافه الرمح البالغ الحدة، الذي انغرس في أحشائه. بيد أن هكتور، صوب رمحه اللامع نحو أوتوميدون، الذي كان يثبت بصره عليه. فاستطاع أن يتحاشى الرمح البرونزي - بانحناءة إلى الأمام - فانغرس الرمح الطويل في الأرض خلفه، واهتزت قناته، وأخيرا أوقف أريس القوي ثورانه. وكادا يلتحمان - بعد ذلك - بالسيوف في قتال متشابك، لولا أن الأيانتيس فصلا بينهما - وهما هائجان - إذ أقبلا إلى الجمع تلبية لنداء زميليهما. فتقهقر ثانية هكتور وأينياس وخروميوس، الشبيه بالإله، تاركين أريتوس ملقى على الأرض يلفظ أنفاسه. وعندئذ هرع أوتوميدون - نظير أريس السريع - ونزع عنه حلته الحربية وتهلل قائلا: «حقا، لقد سريت قليلا عن قلبي حزنه لموت ابن مينويتيوس، إذ قتلت هذا الرجل، رغم ضآلة شأنه!»
وما إن قال هذا، حتى وضع الغنائم الدموية في العربة، ثم اعتلاها، ويداه مضرجتان بالدماء، أشبه بأسد افترس ثورا!
نجاح الطرواديين!
اشتد القتال الطاحن من جديد فوق باتروكلوس، قتال مفزع يفيض بالعبرات. وأثارت أثينا الصراع، بعد أن هبطت من السماء؛ لأن زوس - الذي يحمل صوته بعيدا - أرسلها لتحمس الدانيين، فإن عقله - للعجب - كان قد تحول! وبينما كان يبسط زوس للبشر قوس قزح قاتما،
6
من وسط السماء - علامة على الحرب أو على عاصفة شديدة البرودة تضطر البشر إلى الكف عن أعمالهم فوق سطح الأرض، ويزعج القطعان - هكذا أيضا كانت أثينا، ولقد التفت بسحابة دكناء، ودخلت إلى حشد الدانيين، وأخذت تحمس كل رجل. فبدأت تشجع مينيلاوس الجريء، ابن أتريوس - لأنه كان قريبا منها - وقد تقمصت هيئة فوينكس، واتخذت شكله وصوته الذي لا يكل، فقالت: «أي مينيلاوس، لسوف يحل بك اللوم والعار، إذا مزقت جسد الرفيق الموثوق به، رفيق أخيل الموهوب، تحت سور الطرواديين. فلتصمدن بجرأة، ولتحثن الجيش كله!»
فأجابها مينيلاوس، الرائع في صيحة الحرب قائلا: «أي فوينكس، أيها السيد العجوز، وصديقي منذ الأيام الخوالي، ليت أثينا تهبني القوة وتنحي عني الرماح. إذن لتلهفت إلى الوقوف إلى جوار باتروكلوس ومساعدته، إذ بخع قلبي موته. ومع كل، فإن هكتور ليتقد حماسا كالنار، ولا يني عن إحداث الشغب بالبرونز، فقد منحه زوس المجد.»
هكذا تكلم، فاغتبطت الربة أثينا - النجلاء العينين - إذ صلى لها قبل جميع الآلهة. فوضعت القوة في كتفيه وركبتيه، وبثت في صدره وقاحة الذبابة، التي تطرد بعيدا دائما، ولكنها تعاود الحط على بشرة المرء وتمعن في اللدغ، ويحلو لها دائما دم الإنسان، بمثل تلك الجرأة الملحاحة ملأت أثينا قلبه الأسود داخل صدره، فوقف عند باتروكلوس وقذف رمحه البراق . وكان بين الطرواديين رجل ثري جسور اسمه بوديس بن أيتيون وكان هكتور يبجله أكثر من الجميع؛ إذ كان زميله الذي يرحب به دائما على مائدته. ولقد ضربه مينيلاوس - الجميل الشعر - فوق حزامه، برمح قذف به عندما هم بالفرار، ودفع البرونز إلى الداخل، فسقط بعنف. وسحب مينيلاوس بن أتريوس، جثة القتيل من وسط الطرواديين إلى حشد رفاقه.
عندئذ اقترب أبولو من هكتور، في صورة أسيوس بن فاينوبس، الذي كان أعز أصدقائه الأضياف، وكان يقيم في أبودوس. فشجعه في تلك الصورة - أبولو، الذي يصيب من بعيد - وخاطبه بقوله: «أي هكتور، من من الآخيين يمكن أن يهابك بعد الآن، وقد ضعفت أمام مينيلاوس، الذي كان من قبل محاربا ضعيفا؟ لقد سحب القتيل من بين صفوف الطرواديين، وانطلق دون مساعدة أحد، لقد صرع رفيقك المخلص، بوديس بن أيتيون، خير محاربي المقدمة.»
قال هذا، فغشيت هكتور سحابة سوداء من الحزن، فخطا وسط محاربي المقدمة، متدثرا بالبرونز الوهاج، وبعدئذ تناول ابن كرونوس ترسه ذا الأهداب، المتلألئ كله سناء، ولف أيدا بالسحب، وأرعد بعنف وأبرق، وهز الترس مانحا النصر للطرواديين، أما الآخيون فقد دفعهم إلى الفوضى.
وكان أول من بدأ الشغب هو بينيلوس البيوتي. فبينما كان ينتظر دائما في مواجهة العدو، إذا به يصاب في سطح كتفه برمح، بضربة ساحجة. وغاص طرف رمح بولوداماس حتى العظم،
7
إذ كان هو الذي سدد إليه الضربة من كثب. كما أن هكتور أصاب لايتوس أليكترون - البالغ الشجاعة - بجرح في ساعده ورسغه، في التحام، فاضطره إلى الكف عن القتال: وبعد أن تلفت حوله بقلق، تقهقر إلى الخلف، وقد فارقه الأمل في أن يستطيع حمل الرمح في يده - بعد ذلك - ليقاتل الطرواديين. وبينما كان هكتور يطارد لايتوس، ضربه أيدومينيوس فوق درقته، على صدره بجانب ثديه، غير أن سن الرمح الطويل تحطم في مركز الدرقة، فصاح الطرواديون بصوت عال. وصوب هكتور نحو أيدومينيوس بن ديوكاليون - وهو يقف فوق عربته - فأخطأه بمسافة ضئيلة، ولكنه - مع ذلك - أصاب كويرانوس رفيق وسائق ميريونيس، الذي كان يتبعه من داخل لوكتوس المتينة البناء. فقد أقبل أيدومينيوس من السفن المقببة، سائرا على قدميه، وكاد يسلم للطرواديين نصرا مبينا، لولا أن كويرانوس قاد الجياد بسرعة - تلك الجياد السريعة الأقدام - فكان مقدمها بارقة الخلاص لأيدومينيوس، إذ أبعدت عنه يوم الموت العديم الرحمة.
زوس يشفق على مينيلاوس!
ولكن كويرانوس فقد حياته على يد هكتور قاتل البشر، إذ ضربه أسفل فكه - تحت أذنه - فحطم الرمح أسنانه من جذورها، وشطر لسانه من وسطه، وسقط من العربة، تاركا الأعنة تقع فوق الأرض. فانحنى ميريونيس والتقطها بيديه من الأرض، وخاطب أيدومينيوس قائلا: «استخدم السوط الآن حتى تبلغ السفن السريعة. وعندئذ ستعلم من تلقاء نفسك أن النصر بعد ذلك ليس في جانب الآخيين!»
هكذا تكلم، فأمسك أيدومينيوس السوط وألهب به الجياد ذات الأعراف الجميلة، عائدا إلى السفن الجوفاء، وقد استولى الذعر على روحه.
ولم يكن أياس الجريء القلب، ولا مينيلاوس، بغافلين عن أن زوس كان يعطي النصر للطرواديين، لكي يحول تيار المعركة. فتكلم أياس التيلاموني أولا، وقال: «سحقا للقوم! الآن يستطيع أي فرد، مهما كان أحمق، أن يعرف أن زوس نفسه يساعد الطرواديين. إذ إن جميع سهامهم تصيب أهدافها - سواء أكان قاذفها بارعا أم رعديدا - إذ إن زوس يرسلها إلى أهدافها. أما رماحنا فإنها تسقط جميعا على الأرض متخاذلة. فتعالوا هيا ندبر لأنفسنا خير خطة يمكننا أن نسحب الجسد بعيدا، ثم نعود إلى الوطن لندخل السرور على نفوس زملائنا الأعزاء، الذين أحسبهم مكتئبين وهم يتطلعون إلى هناك، ويظنون أن حمية هكتور قاتل البشر، ويديه المنيعتين لن تتوقف عند حد، بل إنه سيهجم على السفن السوداء. أما من رفيق يحمل كلمة بمنتهى السرعة إلى ابن بيليوس، فما أعتقد إلا أنه لم يعلم قط بالقصة المؤلمة؛ قصة مقتل رفيقه العزيز. ومع كل فإنني لا أرى أحدا وسط الآخيين في أي مكان لأن الظلمة تغشاهم جميعا، هم وخيولهم أيضا. أبتاه زوس، خلص أبناء الآخيين من الظلمة، واجعل السماء صافية، ومكنا من أن نرى بعيوننا. وفي النور فلتقتلنا إن كان في هذا غبطتك المفضلة!»
هكذا تكلم، فأشفق الأب عليه وهو يبكي، وفي الحال بدد الظلمة وأبعد الغمام، وسرعان ما سطعت الشمس فوقهم.
وتجلت المعركة كلها للعيان. عندئذ تحدث أياس إلى مينيلاوس، الرائع في صيحة الحرب، قائلا: «تطلع الآن، يا مينيلاوس، يا سليل زوس، لعلك ترى أنتيلوخوس بن نسطور - البالغ الشجاعة - على قيد الحياة، وعندئذ حثه على أن يذهب بسرعة إلى أخيل الحكيم القلب، ليخبره بمقتل صديقه الأعز.»
وإذ قال هذا، لم يتردد مينيلاوس - الرائع في صحية الحرب - عن إطاعته، فانطلق في طريقه كليث عائد من فناء مزرعة، بعد أن برح به التعب من الكلاب والرجال الذين لم يمكنوه من القبض على أسمن ما في القطيع - وقد باتوا الليل كله ساهرين في الحراسة - غير أنه لاشتهائه اللحم، انقض إلى الأمام، ولكنه لم يصب شيئا، إذ انهالت عليه السهام بغزارة وقد قذفتها أيد قوية، مصحوبة بجذوات نار مشتعلة، فيخور أمامها مهما كانت لهفته، وينصرف عند الفجر بقلب حزين، هكذا أيضا رحل مينيلاوس - الرائع في صيحة الحرب - من جانب باتروكلوس، على غير رغبته؛ لأنه كان يخشى كثيرا أن يتركه الآخيون فريسة للعدو، وقد أحاط بهم شغب مؤلم. فأصدر كثيرا من الأوامر لميريونيس والأيانتيس، قائلا: «أيها الأيانتيس، قائد الأرجوسيين، وأنت يا ميريونيس، ليتذكر كل رقة باتروكلوس التعيس، فقد كان رقيقا مع الجميع إبان حياته. أما الآن فقد حل به الموت والقدر!»
رسول ينعى باتروكلوس إلى أخيل!
وما إن قال مينيلاوس هذا - وهو يتلفت بحذر في كل جانب، كالنسر الذي يعتقد الناس أنه أقوى المخلوقات التي تحت السماء، لا سيما المجنحات - بصرا، فلا تخفى عنه الأرانب البرية، السريعة الأقدام، مهما يكن عاليا، بل ينقض النسر عليها لفوره، ويمسك بها فيسلبها الحياة. هكذا أيضا، يا مينيلاوس - يا سليل زوس - أخذت عيناك البراقتان تجولان هنا وهناك خلال حشد رفاقك العديدين، عسى أن يقع بصرك على ابن نسطور حيا.
وسرعان ما لمحه في الجانب الأيسر للمعركة، يشجع رفقاءه ويحثهم على القتال. فاقترب منه مينيلاوس الجميل الشعور، وخاطبه بقوله: «أي أنتيلوخوس ، تعال يا ربيب زوس، كي تعلم النبأ الممض الذي أتمنى ألا يكون أبدا، أعتقد أنك تعرف - لأن عينيك تريان الأمر - كيف أن ربا يدفع الخراب نحو الدانيين، والنصر نحو الطرواديين. والمقتول هو خير الآخيين، إنه باتروكلوس، فما أشد الحزن الذي ألم بالدانيين. فهل لك أن تنطلق بسرعة إلى سفن الآخيين، فتحمل النبأ إلى أخيل، أملا في أنه قد ينقل - إلى السفينة فورا - الجثة العارية، فقد استولى هكتور - ذو الخوذة البراقة - على حلته الحربية!»
هكذا تكلم، فلما سمع أنتيلوخوس هذا الكلام، استولى عليه الذعر، وظل صامتا مدة طويلة، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وانحبس صوته. ومع ذلك فإنه لم يهمل أمر مينيلاوس، بل انطلق يجري، وأعطى حلته الحربية لزميله لاودوكوس المنقطع النظير، وكان يقود جياده القوية الحوافر بالقرب منه.
وأخذ يجري وهو يبكي، فحملته قدماه بعيدا عن المعركة، لينقل إلى أخيل نبأ سيئا. ولم يكن قلبك يا مينيلاوس، يا سليل زوس، معتزما مساعدة الرفاق الذين ضيق عليهم الخناق بشدة، وقد انصرف عنهم أنتيلوخوس، فداخل رجال بيليوس هم عظيم. على أنه لم يلبث أن أرسل ثراسوميديس العظيم لمعونتهم، وذهب هو شخصيا إلى المحارب باتروكلوس، وجرى يقف إلى جانب الأيانتيس، وتحدث إليهما قائلا: «لقد بعثت ذلك الرجل إلى السفن السريعة، ليذهب إلى أخيل، السريع القدمين. ومع ذلك، فلست أظن أن أخيل سيأتي فورا، مهما تكن نقمته على هكتور العظيم؛ لأنه لا يستطيع بحال ما أن يقاتل الطرواديين وهو غير مسلح. هيا نتدبر خير خطة نسحب بها الجثة، وننجو نحن أنفسنا من الموت والقدر، وسط طنين معركة الطرواديين.»
فأجابه أياس التيلاموني العظيم بقوله: «كل ما قلت صواب يا مينيلاوس الأمجد، فارفع أنت وميريونيس الجثة بسرعة، وانقلاها بعيدا عن المعمعة، بينما نقاتل من خلفكما الطرواديين وهكتور العظيم، نحن معا بقلب واحد، كما نحمل اسما واحدا، فمنذ زمن بعيد ونحن نتوق إلى الصمود في المعركة الطاحنة جنبا إلى جنب.»
الآخيون يظفرون بجثة باتروكلوس!
وإذ قال هذا، رفع الآخران القتيل عن الأرض بسواعدهما وقوتهما العظيمة. فلما أبصر الطرواديون الآخيين يرفعان الجثة، صاحوا وراءهما بصوت مدو، وانقضوا عليهما كالكلاب تنقض على خنزير بري جريح، أمام الصيادين الفتيان، حتى يهجم عليه هؤلاء ويمزقوه إربا، وما إن يدور حولهم معتمدا على قوته، حتى ينكصوا على أعقابهم مذعورين، مشتتين، واحدا هنا وواحدا هناك، هكذا أيضا ظل الطرواديون يقتفون أثرهما زرافات - إلى حين - وهم يطعنون بالسيوف والرماح ذات الحدين، فما إن كان الأيانتيس يستديران إليهم ويواجهانهم، حتى كان لونهم يتبدل، فلا يجرؤ أي فرد منهم على أن يهجم أو يقاتل من أجل الميت!
هكذا أسرع الاثنان بحمل الجثة بعيدا عن المعركة - إلى السفن الجوفاء - فاشتد ضدهما وطيس القتال، كالنار التي تندفع فجأة نحو مدينة للبشر، فتندلع فيها ألسنة اللهب، وتتداعى المنازل وتسقط وسط الوهج الشديد، بينما تزيدها الرياح اضطراما وزمجرة، هكذا أيضا كان طنين العربات والرماحين يقبل نحوهما بغير انقطاع، وهما ذاهبان بالجثة. وكما تركز البغال قوتها في كل جانب - تلك القوة الهائلة - لتجر كتلة من الخشب، أو قطعة ضخمة من سفينة، من جبل وعر المسالك، فتعاني قلوبها في جوفها لفرط التعب والعرق، هكذا أيضا أسرع هذان ليحملا الجثة، وكان الأيانتيس يحجزان العدو عنهما، كما تحجز الفيضان حافة من الخشب يتصادف وجودها في سهل، وتوقف التيارات المائية العظيمة للأنهار القوية، وفي الحال تحول اتجاهها لتتدفق فوق السهل، ولا تجدي قوة فيضانها في المرور خلالها.
هكذا أيضا حجز الأيانتيس معا معركة الطرواديين، ولكن هؤلاء يطاردونهما باستمرار، لا سيما اثنان كانا أشد تحمسا من الجميع، هما أينياس بن أنخيسيس، وهكتور المجيد.
وكما تطير سحابة من الزرازير والعقاعق، وتصيح صيحات مفزعة، عندما ترى بازيا يقبل نحوها، يحمل الموت لصغار الطيور، هكذا أيضا، طار شباب الآخيين أمام أينياس وهكتور، يصيحون مفزعين مذعورين، وقد نسوا جميع أفانين القتال. وتساقط كثير من الأسلحة البديعة، هنا وهناك حول الخندق أثناء هروب الدانيين، غير أنه لم يكن هناك أي توقف عن الحرب!
الأنشودة الثامنة عشرة
«... وألقى في النار ببرونز صلب، وقصدير، وذهب ثمين، وفضة، وأقام سندانه، وأمسك بإحدى يديه مطرقته المتينة ، كما أمسك باليد الأخرى الملاقط ...»
كيف حزن أخيل على باتروكلوس، وكيف طلبت ثيتيس حلة حربية جديدة له من هيفايستوس، وكيف صيغت هذه الحلة؟
أخيل يعلم مصرع باتروكلوس!
هكذا قاتلوا كأنهم النار المستعرة، وذهب أنتيلوخوس - السريع القدمين - ليحمل النبأ إلى أخيل. فوجده أمام سفنه ذات القرون المستقيمة،
1
يتنبأ في قلبه بما حدث الآن، وقد انزعج غاية الانزعاج، فتحدث إلى روحه العظيمة الباسلة قائلا: «آه! ما أتعسني! كيف تقهقر الآخيون الطويلو الشعر ثانية صوب السفن، خلال السهل، في فوضى؟ لعل الآلهة لم تحدث محنا أليمة لنفسي، كما أخبرتني أمي ذات مرة فقالت لي: «إن خير رجل من الميرميدون سيغادر ضوء الشمس على أيدي الطرواديين، إبان حياتي!» حقا، لا بد أن ذلك الابن الجسور لمينويتيوس قد مات الآن. يا له من طائش! لا شك في أنني أمرته بالعودة ثانية إلى السفن، بعد أن ينتهي من النار النهمة، وألا يقاتل هكتور هكذا سريعا!»
وفيما كان يفكر هكذا - في عقله وقلبه - اقترب منه ابن الملك نسطور، وهو يبكي بدموع حارة، وأفضى إليه بالنبأ المحزن قائلا: «وا حسرتاه يا ابن بيليوس الحكيم القلب، مؤلم جدا ذلك الخبر الذي يجب أن تسمعه. ألا ليته لم يكن! فإن باتروكلوس يرقد ميتا، والقوم يتقاتلون حول جثته العارية، أما حلته الحربية فقد استولى عليها هكتور ذو الخوذة البراقة.»
هكذا تكلم، فغشيت سحابة من الكآبة نفس أخيل، فأخذ التراب القاتم بكلتا يديه، ونثره فوق رأسه، فلوث وجهه الجميل. وسقط الرماد الأسود فوق عباءته المعطرة، وانبطح على الثرى بشدة، بقدر قوته، وأخذ يشد شعره وينزعه بكلتا يديه. فصرخت الإماء - اللواتي كان أخيل وباتروكلوس قد استوليا عليهن سبايا - والألم يحز في أفئدتهن، وجرين من فورهن حول أخيل الحكيم القلب، وطفقن جميعا يلطمن صدورهن بأيديهن، وقد ارتخت ركبتا كل واحدة منهن تحتها. أما أنتيلوخوس، فقد راح يولول ويسكب الدموع، ممسكا بيدي أخيل، وهو يتأوه من قلبه، إذ خشي أن يقطع رقبته بالسيف رهيبا.
بين ثيتيس وأخيل!
وما لبث أخيل أن أرسل صرخة مدوية، سمعتها أمه الجليلة وهي تجلس في قاع البحر بجانب أبيها العتيق. فصرخت صرخة حادة، واحتشدت الربات حولها، جميع بنات نيريوس - اللائي كن في قاع البحر. وكانت هناك جلاوكي، وثاليا، وكومودوكي، ونيسايا، وسبايو، وثوي، وهاليي ذات عيون المها، وكوموثوي، وأكتايا، وليمنوريا وميليتي، وأيارا، وأمفيثوي، وأجافي، ودوتو، وبروتو، وفيروسا، ودوناميني، ودوريس، وبانوبي، وجالاتيا المجيدة، ونيميرتيس، وأبسيوديس، وكالياناسا، كما كانت هناك كلوميني، وأيانيرا، وأياناسا، ومايرا، وأوريثوا، وأماثيا الجميلة الغدائر. كما كانت هناك نيرياديات أخريات في أعماق البحر. فامتلأ الكهف البراق بأولئك، وأخذن جميعا يلطمن صدورهن، وكانت ثيتيس تقودهن في النواح قائلة: «أنصتن أيتها النيرياديات الأخوات، لتسمعن وتعرفن كل ما في قلبي من الأحزان. ويحي، أنا التعيسة، وا حسرتاه لأنني أنجبت لآلامي خير الرجال. فبعد أن أنجبت ولدا عديم النظير، باسلا صنديدا، مبرزا بين المحاربين، وقد نما شبيها بالغصن، وبعد أن ربيته ونشأته كنبات في حقل، غزير الإنتاج، بعثت به إلى «طروادة» في السفن المدببة، ليحارب الطرواديين. بيد أنني لن أرحب به ثانية بعد الآن وهو عائد إلى وطنه، إلى بيت بيليوس. ولقد كان حزينا - عندما كان حيا، يبصر ضوء الشمس - ولم أستطع مساعدته بحال ما، رغم أنني كنت أذهب إليه. ومع ذلك فسأذهب لأرى ولدي العزيز، وأعرف أي حزن ألم به، وهو بعيد عن القتال.»
وما إن قالت هذا حتى غادرت الكهف، وذهبت الحوريات معها باكيات، تنشق من حولهن أمواج البحر شطرين. فلما بلغن أرض طروادة العميقة التربة، وطئن الشاطئ - واحدة إثر الأخرى - حيث سحبت سفن الميرميدون إلى أعلى في صفوف متراصة حول أخيل السريع. فاقتربت منه أمه الجليلة، وهو يئن أنينا عاليا، وصاحت صيحة حادة، وأمسكت رأس ولدها، وخاطبته بكلمات مجنحة وهي تبكي قائلة: «أي بني، لم هذا البكاء؟ أي حزن استبد بقلبك؟! أفصح، ولا تخش شيئا. فقد حقق زوس رغبتك التي طلبتها عندما رفعت يديك مصليا ، وتمنيت أن يحضر جميع أبناء الآخيين عند مؤخر السفن، في مسيس الحاجة إليك، وأن يقاسوا أهوالا مريرة!»
فأجابها أخيل، السريع القدمين، وهو يئن أنينا شديدا، فقال : «أماه، حقا، لقد أجاب الأوليمبي وحقق صلواتي، ولكن ماذا يبهجني فيها وقد مات صديقي العزيز باتروكلوس، الذي كنت أبجله أكثر من جميع أصدقائي، قتله هكتور وسلب منه حلته الحربية، البديعة الضخمة، مثار إعجاب الناظرين، تلك التي قدمتها الآلهة هدية مجيدة لبيليوس، يوم أن وضعوك في فراش رجل من البشر. ليتك بقيت عذراء حيث كنت بين عذارى البحر الخالدات، وليت بيليوس أخذ إلى بيته زوجة من البشر. أما الآن، فهكذا قدر عليك أن تحزني وتقاسي غما لا حد له في قلبك من أجل ولدك الميت، الذي لن ترحبي به ثانية في وطنه؛ إذ يحدثني قلبي ألا أمكث وأعيش بين البشر، إلا بعد أن أضرب برمحي هكتور، وأفقده حياته، وبذا يدفع الثمن غاليا على قتله باتروكلوس بن مينويتيوس.»
عندئذ تحدثت إليه ثيتيس ثانية، والدموع تنهمر من مآقيها، فقالت: «محكموم عليك يا بني، أن تموت عاجلا، ما دمت تتكلم هكذا، فبعد هكتور مباشرة، يكون موتك قريبا جدا.»
حينئذ قال لها أخيل السريع القدمين، وقد تأثر تأثرا بالغا: «إني لأتمنى موتي فورا؛ لأنني لم أستطع مساعدة صديقي عند مقتله! لقد تردى بعيدا جدا عن وطنه، وكان مفتقرا إلى أن أكون حصنه ضد الفناء. وبما أنني لن أعود إلى وطني العزيز، ولم أبرهن - بأية حال من الأحوال - على أنني منقذ لباتروكلوس أو لأصدقائي الآخرين الكثيرين الذين قتلهم هكتور العظيم، بل بقيت هنا بجانب السفن كمتاع لا نفع له على الأرض - أنا الذي لا يوجد لي مثيل، في الحرب، بين الآخيين المتدثرين بالبرونز، رغم أن هناك من يفضلني في المشورة - بما أنني كنت كذلك، فهل للصراع أن يختفي بين الآلهة والبشر، وكذلك الغضب الذي يفضي بالمرء إلى الضغينة، مهما يكن حكيما، ذلك الغضب الذي يفوق في حلاوته العسل المصفى، وينمو كالدخان في قلوب البشر، كذلك كان الحال عندما دفعني أجاممنون - ملك البشر - إلى الغضب. ومع كل، يجب أن نغض الطرف عن هذه الأمور. بسبب آلامنا الجمة، ونكبح جماح قلوبنا في صدورنا، والآن هل لي أن أنصرف في الحال، لأنقض على قاتل من أحببته، على هكتور. لسوف أتقبل الموت بنفس راضية، عندما يرغب زوس في تنفيذه، وكذلك الآلهة الآخرون الخالدون. فإن هرقل القوي نفسه لم ينج من الموت، وكذا غضب هيرا الفظيع. وهكذا أنا أيضا، سأفترش الغبراء عند موتي، إذا قدر لي مصير مماثل. أما الآن فدعيني أحرز الصيت المجيد، وأجعل الكثيرات من الطرواديات أو الدردانيات الممتلئات الصدور، يمسحن العبرات بكلتا أيديهن من فوق وجناتهن الرقيقة، وسط عويل لا ينقطع، وليعلمن أنني كنت بعيدا عن الحرب زمنا طويلا. إذن لا تحاولي أن تمنعيني عن القتال؛ لأنك لن تستطيعي ذلك رغم جميع ما قدر لي!»
عند ذلك أجابته الربة، ثيتيس الفضية القدمية، قائلة: «نعم، إن الأمر كما تقول يا بني، فليس من القبيح أن تدفع الهلاك الشامل عن أصدقائك، الذين ضيق عليهم الخناق بشدة. بيد أن حلتك الحربية العظيمة قد استولى عليها الطرواديون، حلتك الحربية البرونزية، التي تتلألأ كلها سناء. إن هكتور - ذا الخوذة المتألقة - يرتديها فوق كتفيه مزهوا بها. ومع ذلك، فإني أعتقد أنه لن ينال بها المجد طويلا، حيث إن موته قريب، ولكن لا تتدخل في شغب أريس إلا بعد أن تبصرني عيناك قادمة إلى هنا ثانية. فلسوف أعود في الصباح عندما تخرج الشمس من خدر أمها، أحمل إليك حلة حربية رائعة من عند السيد هيفايستوس.»
قالت ذلك واستدارت لتعود من عند ابنها، وما إن استدارت حتى خاطبت شقيقاتها في البحر، بقولها: «غصن الآن تحت سطح البحر العميق، لزيارة شيخ البحر الكهل، وساحات أبينا، وأخبرته بكل شيء. فإنني صاعدة إلى أوليمبوس الشاهق إلى بيت هيفايستوس، الحداد الذائع الصيت، عسى أن أحصل منه لابني على حلة حربية متألقة مجيدة.»
صيحة أخيل!
هكذا قالت، وفي الحال غصن تحت أمواج البحر، بينما انطلقت الربة ثيتيس - اللجينية القدمين - في طريقها إلى أوليمبوس، كي تحضر حلة حربية مجيدة لابنها العزيز؛ ومن ثم فقد حملتها قدماها إلى أوليمبوس، بينما كان الآخيون يطلقون العنان لأقدامهم أمام هكتور قاتل البشر، وهم يصرخون صرخات مروعة ، حتى بلغوا السفن والهيليسبونت. ومع ذلك فلم يقدر للآخيين المدرعين جيدا، أن يسحبوا باتروكلوس - خادم أخيل - من وسط الرماح، فقد استرده جيش وعربات الطرواديين؛ إذ تقدم هكتور بن بريام - الذي يحكي اللهب في قوته - وأمسك بقدميه من الخلف، ثلاث مرات متلهفا إلى سحبه بعيدا، وهو يصيح عاليا على الطرواديين، وثلاث مرات دفعه الأيانتيس، المتسربلان بالشجاعة الجامحة، بعيدا عن الجثة، ولكنه كان يعتمد دائما على قوته، وصار يهجم عليهما مقاتلا، ويقف ويصيح عاليا، غير أنه لم يتراجع إلى الخلف قيد أنملة. وكما يفشل رعاة المزرعة في إقصاء ليث غضنفر عن جثة، عندما يعضه الجوع، هكذا أيضا لم يفلح الأيانتيس المحاربان، في إرهاب هكتور بن بريام وإبعاده عن الجثة. وقد كاد الآن ينجح في سحب الجثة، فيفوز بمجد عظيم، لولا أن أيريس السريعة، هرعت من أوليمبوس تحمل رسالة إلى ابن بيليوس، بأن يتأهب للقتال، دون علم زوس والآلهة الآخرين؛ إذ أوفدتهما هيرا، فاقتربت منه وتحدثت إليه بكلمات مجنحة، قائلة: انهض يا ابن بيليوس، يا أعظم الرجال بأسا! قدم المعونة إلى باتروكلوس، الذي يدور حوله صراع مرير أمام السفن. والرجال يقتلون بعضهم بعضا، هؤلاء يسعون إلى الدفاع عن جثة الميت، بينما يهجم الطرواديون ليسحبوه إلى طروادة ذات الرياح، ولا سيما هكتور المجيد، الذي يتوق إلى سحبه بعيدا، ويتحرق قلبه شوقا إلى أن يحز رأسه من عنقه الرقيق، ويضعه فوق أوتاد سور المدينة. فانهض، ولا تقبع هنا أكثر من ذلك! وليستبدن الفزع بروحك، من أن باتروكلوس سوف يغدو ألعوبة كلاب طروادة. فعار عليك أن تأتي إليك جثته محتقرة مدنسة.»
فأجابها أخيل السريع القدمين بقوله: «أيتها الربة أيريس، من من الآلهة بعث بك إلي؟»
فتحدثت إليه أيريس، السريعة القدمين، قائلة من جديد: «بعثتني هيرا، زوجة زوس المجيد، ابن كرونوس، الجالس فوق عرشه السامي، لا يعلم شيئا عن هذا، كما لا يعلم به أي أحد آخر من الخالدين القاطنين فوق أوليمبوس الجليدي.»
فرد عليها أخيل، السريع القدمين، بقوله: «ولكن كيف أدخل المعركة؟ لقد استولوا هناك على عدتي الحربية، وقد منعتني أمي العزيزة من التأهب للقتال إلا بعد أن تراها عيناي مقبلة إلى هنا، إذ وعدتني بأن تحضر لي حلة حربية عظيمة من عند هيفايستوس. فلست أعرف رجلا يمكنني أن أرتدي حلته الحربية المجيدة، إلا إذا كان درع أياس بن تيلامون، ولكن هذا يحتل مكانه بين محاربي المقدمة، محدثا الشغب برمحه ذودا عن باتروكلوس القتيل.»
فأجابته ثانية أيريس السريعة، التي تحكي قدماها الرياح، فقالت: «إننا أنفسنا نعلم أنهم استولوا على حلتك الحربية، ولكننا نريدك أن تذهب - بحالتك هذه - إلى الخندق، وتظهر نفسك لرجال طروادة، فقد يتملكهم الخوف من مرآك، ويكفون عن القتال، وعندئذ قد يسترد أبناء الآخيين البواسل أنفاسهم، إذ أنهكهم التعب، لأن فترة الراحة في القتال ضئيلة.»
وما إن قالت أيريس - السريعة القدمين - هذا، حتى انصرفت، ونهض أخيل حبيب زوس، فألقت أثينا ترسها ذا الأهداب حول كتفيه القويتين، وأقامت الربة الفاتنة سحابة ذهبية كثيفة حول رأسه، وأشعلت بعيدا عنه نارا متأججة. وكما يحدث عندما يتصاعد الدخان فيتطاول إلى عنان السماء، من جزيرة يحاصرها العدو، بينما يقاتل رجالها طوال اليوم كله - في حرب بغيضة من فوق أسوار مدينتهم - حتى إذا غربت الشمس، تألقت في الحال نيران المنائر - واحدة بعد أخرى - وارتفع وهجها عاليا ليراه السكان المجاورون، إذا ما أقبلوا في سفنهم، لتكون نذيرا لهم من الدمار، هكذا أيضا تصاعد الضوء من رأس أخيل نحو السماء. ثم خطا مسرعا من الحائط إلى الخندق، حيث اتخذ وقفته، ومع ذلك فإنه لم ينضم إلى جماعة الآخيين؛ احتراما لأمر أمه الحكيم. فوقف هناك وصاح، ومن بعيد صاحت بالاس أثينا، فدب ارتباك - وأي ارتباك! - بين الطرواديين. وكان صوت ابن أكايوس واضحا وضوح صوت البوق ينفخ عاليا تحت ضغط الأعداء الفتاكين المحاصرين لمدينة ما. فلما سمعوا صوته البرونزي، دب اليأس في قلوب الجميع، ومالت الجياد الجميلة الأعراف بعرباتها إلى الخلف، إذ تنبأت أرواحها بالدمار. وألم الفزع بسائقيها عندما أبصروا النار - التي لا تخبو - متأججة بصور مخيفة فوق رأس ابن بيليوس البالغ الشجاعة، لأن الربة أثينا - البراقة العينين - أذكت سعيرها. وصاح أخيل العظيم بقوة ثلاث مرات فوق الخندق، وثلاث مرات ارتبك الطرواديون وحلفاؤهم المشهورون، إذ ذاك هلك اثنا عشر من أخيارهم وسط عرباتهم ورماحهم، بينما ابتهج الآخيون وسحبوا باتروكلوس بعيدا عن وقع الرماح، ووضعوه فوق محفة.
فاجتمع حوله أصدقاؤه الأعزاء ينوحون، وتبعهم أخيل السريع القدمين، يذرف الدمع السخين؛ لأنه أبصر أخلص أصحابه مسجى فوق المحفة، ممزقا بالبرونز الحاد. حقا، لقد أرسله بالجياد والعربة إلى الحرب، ولكنه لن يرحب بعودته مرة أخرى!
وما لبثت «هيرا» - الملكة ذات عيون المها - أن أرسلت الشمس التي لا تكل، إلى مجرى المحيط. فغابت الشمس - على غير إرادة منها - وتوقف الآخيون الأمجاد عن الصراع العنيف والحرب الشريرة.
اجتماع الطرواديين!
أما الطرواديون فعندما رجعوا من الصراع العنيف، حشدوا أنفسهم في اجتماع، دون أن يفكروا في تناول طعام العشاء. وظلوا واقفين على أقدامهم طيلة انعقاد الاجتماع، دون أن يجرؤ أحد منهم على الجلوس، إذ كانوا جميعا مذعورين منذ رأوا أخيل مقبلا، رغم أنه كان بعيدا عن المعركة المؤلمة. فقام بولوداماس الحكيم، وكان أول المتكلمين؛ إذ كان ابن بانثوس هذا - دون غيره - يظهر في وقت واحد أمامه وخلفه. لقد كان صديقا لهكتور، ولدا معا في ليلة واحدة، وكان أحدهما يتفوق على الآخر في فصاحة اللسان، بينما يتفوق الآخر في قذف الرمح. وبنية سليمة خاطب حشدهم، وتحدث في وسطهم قائلا: «أيها الأصدقاء، زنوا موقف الفريقين. فأنا - من جهتي - أنصحكم بأن تعودوا الآن إلى المدينة، ولا تنتظروا مجيء الفجر اللامع فوق السهل بجانب السفن؛ لأننا بعيدون عن السور. لقد كان صراع الآخيين سهلا، طالما كان هذا الرجل مستمرا في الغضب من أجاممنون العظيم. ولقد كنت سعيدا عندما قضيت الليل بجانب سفنهم السريعة، أملا في أن نستولي على المراكب المنبعجة. أما الآن، فإني أخاف ابن بيليوس السريع القدمين؛ لأن قلبه مفرط الضراوة، ولن نستطيع البقاء في السهل، بينما يلتحم الطرواديون والآخيون - في الوسط - في عراك أريس. إنه سيقاتل من أجل مدينتنا، ومن أجل زوجاتنا. فهلموا بنا نذهب إلى المدينة! أصغوا إلي، فإن هذا هو ما سوف يحدث: لقد أوقف الليل الخالد ابن بيليوس السريع القدمين، ولكنه إذا أقبل غدا - في عدته الحربية - وانقض علينا ونحن ما زلنا هنا، فسوف يعرف كل منا بأسه، وسيبتهج كل من بلغ طروادة فرارا منه، ولسوف تلتهم الكلاب والنسور كثيرا من الطرواديين، فليت قصتهم لا تبلغ أذني! أما إذا سمعتم كلامي، رغم بغضنا له، فلنحتفظ بقواتنا هذه الليلة في مكان الحشد، ولنحرس المدينة بأسوارها والأبواب العالية والمنافذ المصقولة جيدا، والتي يحكم إيصادها بالمزاليج. وفي الصباح - عندما يلمع الفجر في أفق السماء - لنحتل مراكزنا فوق السور، ونحن متدثرون بحللنا الحربية. وإذ ذاك ستكون في ارتقابه أسوأ العواقب إذا هو وفد من السفن لمقاتلتنا والاستيلاء على سورنا. ولسوف يسرع عائدا إلى السفن بعد أن يكون قد أرهق جياده - ذات الأعناق المقوسة إلى أعلى - من كثرة العدو جيئة وذهابا، وهو يهجم عبثا أسفل المدينة. ولن يجد الجرأة على أن ينفذ إلى داخلها، أو أن يدمرها، فلسوف تلتهمه الكلام السريعة، قبل أن يتمكن من ذلك!»
عندئذ قطب هكتور - ذو الخوذة البراقة - حاجبيه غاضبا، وخاطبه قائلا: «أي بولوداماس، إن حديثك لم يعد يسرني؛ إذ أراك تأمرنا بالعودة لنحبس داخل المدينة. ألم تكتفوا بعد من الحبس وراء الأسوار؟ لقد اعتاد البشر منذ قديم الزمان، أن يتحدثوا عن مدينة بريام، معجبين بثروتها من الذهب البراق، ومن البرونز. أما الآن فقد انعدمت كنوزها النفسية من بيوتها، وبيعت ممتلكاتها الكثيرة في فروجيا، ومابونيا الجميلة، منذ أن قسا علينا زوس الجبار. أما وقد آثرني ابن كرونوس - ذو المشورة المعوجة - بالفوز بالمجد عند السفن، وحصار الآخيين بجانب البحر، فليس لك بعد الآن - أيها الأحمق - أن تدلي بمثل هذه المشورة أمام القوم. ولن يصغي إليك أحد من الطرواديين، كما أنني لن أكلف نفسي ذلك. فتعالوا نعمل بما سوف أقول: تناولوا عشاءكم الآن في الجيش جماعات، ولتهتموا بالحراسة، وليكن كل رجل متيقظا. وعلى كل من يشتد به الكرب من أجل ممتلكاته، أن يجمعها ويقدمها للجيش، فنقتسم قيمتها مشاعا بيننا، فنحن أولى بالإفادة منها من الآخيين! وفي الصباح، عند مطلع الفجر، ننتظم في حللنا الحربية، ونثير معركة حامية الوطيس عند السفن الجوفاء. فإذا كان أخيل قد نهض فعلا بجوار السفن، فلسوف ينال أسوأ العواقب. إذ إنني - عند ذلك - لن أفر منه بعيدا عن الحرب المؤلمة، بل سأقف أمامه وجها لوجه، سواء كان النصر العظيم من نصيبه أو من نصيبي. فرب الحرب واحد للجميع، يقتل من قدر له أن يقتل!»
هكذا خاطب هكتور الجموع، فصاح الطرواديون عاليا. فما أحمقهم! لأن بالاس أثينا سلبتهم رشدهم، فإذا بهم جميعا يثنون على هكتور لمشورته السقيمة. أما بولوداماس فلم يمتدحه أحد، رغم كونه قد أحسن النصح. ومن ثم تناولوا العشاء في سائر أنحاء المعسكر.
أخيل يتحدى!
أما الآخيون فباتوا طوال الليل يئنون منتحبين على باتروكلوس. وفي وسطهم بدأ ابن بيليوس النحيب الشديد، واضعا يديه - قاتلتي البشر - فوق صدر صديقه، وهو يئن أنينا بالغا، أشبه بأسد ذي لبدة، خطف صياد غزلان أشباله وحملها بعيدا عن الغابة الكثيفة، فلما عاد الأسد، اكتأب لذلك اكتئابا شديدا، وشرع يقتفي آثار أقدام الصياد خلال الممرات الكثيرة أملا في العثور عليه في أي مكان، إذ تملكه غضب فظيع. هكذا أيضا تكلم أخيل وسط المورميدون وهو يتأوه، فقال: «سحقا! لقد ضاع قولي عبثا، عندما حاولت في ذلك اليوم أن أشجع المحارب مينويتيوس في قصرنا، فقلت له إنني بعد أن أغير على طروادة، سأعود إلى أوبويس بابنه المجيد مع نصيبه من الغنيمة التي يحظى بها، ولكن زوس لا يحقق للبشر جميع أغراضهم، فإنه مكتوب لكلينا أن نخضب نفس الثرى بدمائنا - هنا، على أرض طروادة - إذ إنني لن أعود ثانية ليرحب بي الفارس الشيخ بيليوس في قصره، ولا أمي ثيتيس، بل ستحتفظ بي الأرض هنا. والآن، يا باتروكلوس، بما أن مثواي سيكون تحت الأرض من بعدك، فلن أقوم بدفنك إلا بعد أن أحضر الحلة الحربية، ورأس هكتور - قاتلك العظيم الشجاعة - إلى هنا، كما أقطع رقاب اثني عشر ابنا مجيدا من الطرواديين، أمام كومة حطبك الجنائزية، وأنا في سورة غضبي لمقتلك. لترقد بجانب السفن المدببة - كما أنت - إلى أن يتم ذلك، وسوف تنتحب حولك - ليل نهار - الطرواديات والدردانيات السمينات الصدور بدموع منهمرة، أولئك اللواتي حصل كلانا عليهن بالكدح، بقوتنا ورماحنا الطويلة، عندما خربنا كثيرا من مدن البشر.»
وما إن قال أخيل العظيم هذا حتى أمر رفاقه بأن يضعوا قدرا كبيرة فوق النار، ليزيلوا الدم المتجمد عن جثة باتروكلوس بسرعة. فوضعوا القدر فوق النار المستعرة، وملئوها بالماء، وأشعلوا تحتها قطعا من الخشب، فالتفت النيران بالقدر، وسخن الماء، حتى إذا غلى الماء في البرونز البراق، غسلوا الجثة ودهنوها بالزيت الوفير، غامرين جروحها بدهان معتق منذ تسع سنوات. وأرقدوا باتروكلوس على فراشه، وغطوه من رأسه حتى قدمه، بغلالة كتانية ناعمة، ومن فوقها رداء أبيض. وهكذا، راح المورميدون الليل كله يبكون وينتحبون على باتروكلوس، ولكن زوس تحدث إلى هيرا، أخته وزوجته، قائلا: «لقد حققت رغبتك يا ذات عيون المها، يا هيرا الجليلة، واستفززت أخيل السريع القدمين. حقا، لا بد وأن الآخيين الطويلي الشعر هم أطفال رحمك.»
فردت عليه هيرا الجليلة - ذات عيون المها - قائلة: «يا ابن كرونوس المرهوب، أية كلمة هذه التي نطقت بها! واعجباه! فحتى الإنسان - كما أعتقد - تواق إلى بذل ما في مقدوره، من أجل أخيه الإنسان، رغم أنه بشر لم يؤت كل ما لي من الحكمة. فكيف كان في مقدوري إذن - أنا التي أدعي بأني أعظم الربات في شيئين: فأنا أكبرهن سنا، وأنا زوجتك، أنت الملك على جميع الخالدين - كيف كان في مقدوري، وأنا غاضبة على الطرواديين، ألا أحيك ضدهم شرا؟»
بين ثيتيس وهيفايستوس!
هكذا تكلم كل منهما إلى الآخر، أما ثيتيس اللجينية القدمين، فقد انطلقت إلى منزل هيفايستوس الخالد، المزدان بالنجوم، والسرمدي بين بيوتات الخالدين، والمصنوع كله من البرونز، إذ بناه الرب الأعرج لنفسه .
ووجدته يتصبب عرقا من التعب، وهو يروح ويجيء حول الكير في سرعة بالغة، إذ كان يصنع عشرين ركيزة لتوضع حول حوائط البهو المتين البناء، وقد ثبت أسفل قاعدة كل منها عجلات من الذهب، حتى يمكن أن تدخل إلى حشد الآلهة من تلقاء نفسها - حسب رغبته - ثم تعود ثانية إلى منزله، وبذا تكون أعجوبة للناظرين. ولم يكن قد فرغ من صنعها بعد. بل بقي عليه أن يثبت فيها المقابض المصنوعة بمهارة، وكان يقوم بإعدادها، ويطرق المسامير. وبينما هو منهمك في عمله هذا بمهارة فائقة، إذ اقتربت منه الربة، ثيتيس الفضية القدمين. وجاءت خاريس الفاتنة، ذات المفرق الوضاء - التي تزوجها الرب المشهور ذو الساعدين القويين - فرأتها وصافحتها، وخاطبتها قائلة: «لم أتيت إلى بيتنا، يا ثيتيس، يا طويلة الثوب، ضيفة معززة، مرحبا بها؟ إنك لا تترددين علينا كثيرا، فتعالي كي أحتفي بك وأكرمك.»
قالت هذا ثم قادتها الربة البراقة. وأجلستها على عرش مرصع بالفضة، بديع الشكل، فاخر الصنع، ومن تحته مقعد للقدمين. ونادت هيفايستوس، الحداد المشهور، وخاطبته بقولها: «تعال يا هيفايستوس، فإن ثيتيس في حاجة إليك.» فأجابها الرب المشهور ذو الساعدين القويين: «حقا، إن في داري لربة مهيبة مبجلة، تلك التي أنقذتني عندما أصابني الألم بعد أن سقطت في هوة سحيقة بإرادة أمي القليلة الحياء، إذ كانت تود إخفائي في مكان قصي بسبب عرجي. وكان علي أن أقاسي الأهوال في قلبي، لولا أن يورونومي - ابنة أوقيانوس الذي لا يكف عن التدفق فياضا على نفسه - وثيتيس استقبلتاني في حضنيهما،
2
فبقيت معهما مدة تسع سنوات أنجزت فيها - داخل كهفهما الرحب - أعمالا يدوية رائعة كثيرة: من مشابك صدر، وأسورة لولبية، وأزرار، وقلائد، وكان يتدفق حولي مجرى أوقيانوس، مزبدا، محدثا طوفانا يفوق الوصف. ولم يعرف بذلك أحد من الآلهة أو البشر، اللهم إلا ثيتيس ويورونومي، فهما اللتان أنقذتاني. وها هي ذي ثيتيس تأتي إلى منزلي، فواجب علي حقا أن أقدم إلى ثيتيس - الجميلة الجدائل - ثمن إنقاذ حياتي كاملا، كما ينبغي أن تقدمي لها وليمة طيبة، بينما أترك أنا كيري وأدواتي كلها.»
قال هذا، ورفع من السندان كتلة ضخمة لاهثة،
3
وهو يعرج قليلا. غير أن ساقيه الهزيلتين تحركتا بخفة تحته، فأزاح الكور عن النار ، وجمع كل الأدوات التي كان يستعملها في صنع صندوق من الفضة، وتناول إسفنجة مسح بها وجهه ويديه وعنقه القوي وصدره الأشعث، وارتدى إسفنجة مسح بها وجهه ويديه وعنقه القوي وصدره الأشعث، وارتدى عباءة، وأمسك عصا مكينة. ثم تحول وهو يعرج، فتحركت إماء مصنوعات من الذهب في صور عذارى أحياء، تحف به وتسانده، وكان في قلوبهن إدراك، وفيهن كلام وقوة، كما كن يعرفن أعمالا يدوية بارعة نعمة من الآلهة الخالدين، تحركت أولئك العذراوات بنشاط لمعاونة سيدهن في مشيته، وهو يقفز قريبا من مكان ثيتيس، ثم استوى جالسا على مقعد براق، وأمسك بيدها، وخاطبها بقوله: «أي ثيتيس الطويلة الرداء، ماذا أتى بك ضيفة مبجلة، أثيرة بترحيبنا؟ لم تكن عادتك من قبل أن تكثري التردد علينا، فأفصحي عما بنفسك. فإن قلبي ليأمرني بتحقيقه ما استطعت، إذا كان مما يمكن تحقيقه!»
فأجابته ثيتيس وقد انهمرت دموعها في الحال قائلة: «يا هيفايستوس، هل توجد بين ربات أوليمبوس جميعا، ربة قاست من المحن المحزنة الجمة في قلبها، كتلك التي رزأني بها زوس بن كرونوس، دون الأخريات؟ فقد زوجني - أنا وحدي، دون جميع أخواتي بنات البحر - لرجل من البشر هو «بيليوس بن أياكوس»، فتحملت مضاجعة إنسان رغم إرادتي. وإنه ليرقد الآن في قصره، وقد أنهكت الشيخوخة الأليمة قواه. وزيادة على ذلك فقد كان من نصيبي أحزان أخرى، فقد أنجبني ولدا لأحمله وأربيه. مبرزا بين المحاربين، فشب وترعرع أشبه بالغصن النامي. وبعد أن قمت بتنشئته كنبات في حقل غزير الإنتاج، أرسلته في سفن مدببة إلى طروادة ليحارب الطرواديين، غير أنني لن أستقبله عائدا إلى وطنه، وإلى بيت بيليوس. وبينما هو حي، يرى ضوء الشمس، فإن له ما يحزنه، ولا أستطيع مساعدته بحال من الأحوال، رغم ذهابي إليه. إن الفتاة التي اختارها له أبناء الآخيين جائزة، قد انتزعها الملك أجاممنون من بين ساعديه ، ففتت قلبه حزنا عليها. وكان الطرواديون يحاصرون الآخيين عند مؤخر السفن، ولم يمكنوهم من الخروج. فتوسل إليه شيوخ الأرجوسيين، ووعدوه بكثير من الهدايا المجيدة. وبالرغم من أنه رفض أن يدفع عنهم البلاء شخصيا، إلا أنه ألبس باتروكلوس حلته الحربية الشخصية وأرسله إلى الحرب، وبعث معه قوما كثيرين. فراحوا يقاتلون اليوم كله حول الأبواب السكايية. فخربوا المدينة في نفس ذلك اليوم، وأوقع ابن مينويتيوس الجريء ضررا بالغا بأهلها، فقتله أبولو وسط محاربي المقدمة مانحا المجد لهكتور؛ لذلك أتيت الآن إلى ركبتيك، عسى أن تهب ولدي - الذي كتب عليه ميتة سريعة - ترسا وخوذة، ودرعا عظيمة للساقين مدعمة بقطع للعقبين، ودرقة؛ فقد خسر صديقه كل ما كان له من قبل، عندما قتله الطرواديون؛ ومن ثم فإن ابني ينبطح على الأرض معذب القلب من الألم!»
عندئذ أجابها الرب العظيم، ذو الساعدين القويين، قائلا: «هوني عليك، ولا تجعلي هذه الأمور تعكر صفو قلبك. ليتني أستطيع أن أوفق في إخفائه عن الموت المؤلم، عندما يحل عليه المصير القاتل. ومن الأكيد أن ستكون له حلة حربية عظيمة تستأثر - في الأيام المقبلة - بإعجاب الكثيرين من جموع البشر، الذين يرونها.»
هيفايستوس يصنع عدة حربية!
وما إن قال هذا حتى تركها هناك، وانطلق إلى منافيخه يصوبها على النار، ويأمرها بالعمل، وكانت عشرين في العدد، فأطلقت لهيبها على بواتق الصهر، بألسنة متباينة القوى، كي تسعفه وهو يشتعل بجد ونشاط. فوضع البرونز الصلب والقصدير والذهب الثمين والفضة على النار، ثم أقام سندانا ضخما فوق قاعدة، وأمسك مطرقة هائلة بإحدى يديه، وأمسك بالأخرى الملاقط.
وصنع - أولا - ترسا عظيما متينا، زينه بمهارة من جميع النواحي. وثبت حوله إطارا براقا - من ثلاث طبقات - ووصله بحمائل من الفضة، فكانت طيات الترس خمسا، نقش عليها رسوما غريبة، بمهارة فائقة؛ نقش عليها الأرض، والسماء، والبحر، والشمس التي لا تكل، والقمر كاملا في استدارته، وجميع الكواكب التي تتوج السماء، البلياديس، والهياديس، وأوريون العتيد، والدب الذي يسميه البشر «المركبة» والذي يدور باستمرار في مكانه متطلعا إلى أوريون، والوحيد الذي ليس له مكان وسط حمامات المحيط.
ثم نقش عليه مدينتين للبشر غاية في الجمال؛ في إحداهما أعراس وولائم، والعرائس تزف - تحت أضواء المشاعل - من مخادعهن، خلال طرقات المدينة، بينما ترتفع أناشيد الزواج، ويرقص الشباب اليافع، على نغمات المزامير والقيثارات، وقد وقفت كل سيدة أمام بابها مجبة. واجتمع الناس في مكان الاحتشاد، إذ نشب هناك صراع، فقد اشتبك رجلان للأخذ بثأر رجل مقتول؛ الأول يعلن أنه دفع كل شيء، ويعرض الأمر على الجمع، بينما يرفض الثاني قبول أي شيء. وكل منهما يتلهف إلى أن يفوز بالنتيجة من فم الحكم، والناس يحيون كليهما - مؤيدي هذا الطرف أو ذاك - والمنادون يبعدون الشعب، بينما يجلس الشيوخ على أحجار مصقولة في حلقة مقدسة، يحملون في أيديهم صولجانات مندوبي الشعب ذوي الأصوات العالية، وكانوا يقفون ويدلون بالحكم بواسطتها، كل بدوره، وقد وضع في الوسط ثقلان من الذهب، جائزة لمن يصيب الحق في حكمه!
أما في المدينة الأخرى فقد وقف جيشان من المقاتلين في حللهم الحربية المتألقة، مخيرين بين أمرين؛ إما أن يخربا المدينة، أو يقاسما أهلها كل ما بها من نعم، ولكن المحاصرين لا يقبلون هذا، بل يتأهبون بالسلاح لملاقاة العدو في كمين. وكانت زوجاتهم العزيزات وأطفالهم الصغار يحرسون السور، وهم واقفون فوقه، ومعهم الرجال الذين تملكت منهم الشيخوخة. أما الباقون فكانوا يسيرون بقيادة أريس وبالاس أثينا، وقد تدثر هذان بالذهب، فوق ثياب من العسجد البراق، فلاحا متأنقين في ملابسهما الحربية، كما يليق بالآلهة، والقوم عند أقدامهما أصغر حجما. فلما بلغوا خير بقعة يقيمون فيها كمينهم - في مجرى نهر تستطيع جميع القطعان أن تشرب منه كفايتها - جلسوا هناك، متدثرين بالبرونز الوهاج. ثم أرسلوا اثنين للاستطلاع بعيدا عن الجيش، ينتظران قدوم الأغنام والماشية الناعمة. وسرعان ما ظهرت هذه يتبعها اثنان من الرعاة يعزفان على المزامير، دون أن يفطنا قط إلى الخديعة. فلما رآهما الرجال المتربصون، مقبلين، انقضوا عليهما في الحال، وأعملوا الذبح في قطعان الماشية وجماعات الأغنام البديعة ذات الجزة البيضاء، وقتلوا كذلك الراعيين. وفي تلك الآونة كان المحاصرون يجلسون أمام أمكنة الاجتماع، فلما سمعوا الصخب العظيم وسط الأبقار، أسرعوا بامتطاء صهوات خيولهم الواسعة الخطوات، وانطلقوا إلى هناك، فوصلوا مسرعين. وإذ ذاك تأهبوا للقتال في نظام، وحاربوا بجانب شواطئ النهر، يضربون بعضهم بعضا برماح ذات أسنة من البرونز وتبعهم الصراع والشغب في قتالهم، وكانت ربة القضاء المميت تقبض على رجل حي، حديث الجراح، وآخر غير مجروح، وثالث تجره ميتا من قدميه وسط المعركة، وقد تضرج ثوبها على كتفها بدماء البشر. فحارب الآلهة كالبشر الأحياء تماما، وكانوا يسحبون إلى مسافة بعيدة، جميع جثث القتلى، من الجانب الآخر.
كذلك نقش هيفايستوس على الترس حقلا ناضرا، خصبا، فسيحا، حرث ثلاث مرات. وكان هناك حراثون كثيرون يسوقون فيه ماشيتهم في هذا الاتجاه وذاك. وكلما وصلوا إلى رأس الحقل بعد كل انحناء، تقدم إليهم رجل وناول كلا منهم كأسا من الخمر في حلاوة العسل. وكان الحراثون يجدون في الأخاديد تلهفا إلى بلوغ رأس الأرض العميقة الحرث. وأسود الحقل خلفهم، وبدا كما لو كان قد حرث بالفعل، وكان كل ذلك مصنوعا من العسجد البراق، وهنا أعجوبة الصنعة الكبرى!
كما نقش عليه ضيعة كبيرة لملك، شغل العمال فيها بالحصاد، يحملون المناجل بأيديهم. وكانت بعض حفنات من القمح تسقط على الأرض في صفوف بطول الأخدود، بينما كان الحزامون، يربطون الحزم بحبال من القش المجدول. فكان هناك ثلاثة من الحزامين، يقفون متجاورين، والصبية وراءهم يجمعون حفنات من المحصول يحملونها في أيديهم ليقدموها للحزامين المنهمكين في العمل. والملك واقف وسطهم، يحمل الصولجان في يده - عند الأخدود - في صمت، وهو منشرح النفس. أما المنادون فكانوا وحدهم، يعدون وليمة تحت شجرة بلوط، وينضجون ثورا ضخما ذبحوه، وأخذت النسوة ينثرن كميات من الشعير الأبيض على اللحم، ليكون وجبة غذاء للعمال.
ونقش عليه أيضا كرمة مثقلة بالعناقيد الكثيرة، كرمة جميلة مصنوعة من الذهب، وكان العنب أسود، والعرائش مقامة فوق أعمدة من الفضة. وجعل حولها خندقا من الميناء الزرقاء، يحيط بكل هذا سور من القصدير، يؤدي إلى طريق واحد، يذهب فيه ويعود منه قاطفو الكروم، كلما جمعوا قطاف الكروم. وفي مرح صبياني، كانت العذارى والشباب يحملون فاكهة في حلاوة العسل - في أقفاص من أعواد الصفصاف - يتوسطهم غلام يعزف أنغاما شجية على قيثارة واضحة الصوت. ويغني بصوت عذب أنشودة لينوس،
4
بينما يدق أتباعه الأرض مع الوحدة، وهم يتبعونه بأقدامهم الوثابة وسط الرقص والصياح.
كذلك رسم عليه قطيعا من الأبقار المستقيمة القرون، وكانت الأبقار مصنوعة من الذهب والقصدير، تنطلق خارج الحظيرة - وهي تخور - لترعى إلى جانب النهر الصاخب، بجوار الغاب المتموج. وكان الرعاة المرافقون للأبقار من الذهب، وهم أربعة، يتبعهم ثمانية كلاب سريعة الأقدام. وكان هناك أسدان غضنفران، وسط أبقار المقدمة، يمسكان بثور يرسل خوارا مدويا، يجرانه وخواره يشتد، بينما كانت الكلاب والشبان يتبعونه. فمزق الأسدان جلد الثور الضخم، وراحا يلتهمان أحشاءه والدم الأسود، بينما كان الرعاة يحاولون عبثا أن يرهبوهما، وأن يحرضوا عليهما كلابهم السريعة، ولكن هذه كانت تتراجع خوفا من مهاجمة الليثين، فوقفت قريبة وأخذت تنبح وتثب إلى الجوانب!
كذلك صنع الرب المشهور، ذو الساعدين المفتولين، مرعى في واد بديع، مرعى فسيحا للأغنام البيضاء، وحظائر وأكواخا مسقوفة، كما أن الرب المشهور، ذا الساعدين المفتولين، نقش - فوق ذلك - بهوا للرقص أشبه بالبهو القائم في كنوسوس الفسيحة، الذي شيده ديدالوس منذ القدم تكريما لأريادني الجميلة الغدائر. وزينه بشبان وعذارى أثمن من قطيع ضخم من الماشية،
5
وهم يرقصون، وقد تخاصروا، وكانت العذراوات يلبسن الكتان الثمين، بينما ارتدى الشبان معاطف رائعة النسيج تتألق قليلا بالزيت. وازدانت رءوس العذارى بأكاليل بديعة من الأزهار، بينما تدلى إلى جوانب الشبان خناجر من الذهب، معلقة في خمائل من الفضة، وكانوا يجرون تارة في دائرة - بأقدام في غاية الخفة والمهارة - كما يجلس صانع الخزف أمام عجلته المثبتة بين يديه يديرها ليختبر سرعة دورانها، وتارة أخرى يجرون في صفوف يواجه بعضها بعضا، بينما تقف جماعة كبيرة حول الرقص الرشيق مغتبطة بمرآه. وكان هناك بهلوانان يدوران جيئة وذهابا في وسطهم ليشرفا على الرقص.
كذلك نقش هيفايستوس جبروت أوقياس، حول أقصى حافة الترس المتين الصنع .
وعندما انتهى من صنع الترس المتين الصلب، صنع له درقة أشد لمعانا من وهج النار، كما صنع له خوذة ثقيلة تليق بصدغيه، خوذة رائعة، مزينة أجمل زينة، ووضع عليها خصلة من الذهب. وصنع له أيضا دروعا للساقين من القصدير اللين. حتى إذا انتهى الرب المجيد - ذو الساعدين القويين - من صنع الحلة الحربية كلها، حملها ووضعها أمام والدة أخيل. فانطلقت كالبازي هابطة من أوليمبوس الجليدي، تحمل الحلة الحربية المتألقة التي صنعها هيفايستوس.
الأنشودة التاسعة عشرة
ووصلت ثيتيس تحمل الهدايا من عند الرب، فقالت لأخيل: «أي بني، لندع الراقد هنا؛ فقد قضي الأمر ومات ... فالبس هذه الحلة الحربية المجيدة، التي صنعها لك هيفايستوس.»
كيف تم الصلح بين أخيل وأجاممنون، في اجتماع الآخيين، وكيف ذهب أخيل معهم إلى المعركة؟
أخيل يتسلم عدته الحربية الجديدة!
استيقظ الفجر الزعفراني الثوب من مجاري أوقيانوس يحمل الضوء للخالدين والبشر. ووصلت ثيتيس إلى السفن تحمل الهدايا من عند الرب. فوجدت ابنها العزيز راقدا، محتضنا باتروكلوس، وهو يجهش ببكاء مرير. وكان أصدقاؤه حوله زرافات ينتحبون. فهبطت الربة المتألقة وسطهم، ووقفت إلى جوار ابنها، وأمسكت يده، وقالت له: «أي بني، لندع الراقد هنا، بالرغم من كل أحزاننا فقد قضي الأمر ومات بإرادة الآلهة، والبس هذه الحلة الحربية المجيدة التي صنعها هيفايستوس، فهي رائعة الجمال، ولم يسبق لأي رجل أن وضع مثلها على كتفيه.»
هكذا قالت الربة، ووضعت الدروع أمام أخيل، فصلصلت كلها برنين رائع. ورانت الرهبة على المورميدون، ولم يجرؤ أي رجل على النظر إليها، بل انكمشوا مذعورين. أما أخيل فقد ازداد غضبه عندما أبصر الدروع، وتطاير الشرر من عينيه - من تحت جفنيه - بصورة رهيبة، كما لو كان نيرانا. وأحس بالسعادة وهو يمسك هدايا الرب المجيدة في يديه. وبينما كان يتأمل روعة الهدايا مغتبطا، تكلم إلى أمه بكلمات مجنحة، فقال: «أماه، إن الدروع التي أعطانيها الرب جديرة بما يجب أن تكون عليه أشغال الخالدين مما لا يستطيع أي بشر أن يصنعه. ومن ثم فجدير بي الآن أن أعد نفسي للقتال ، ولكني جد خائف من أن يدخل الذباب في الجروح التي أحدثها البرونز في جسد الابن الجسور لمينويتيوس، فتتسلل الديدان إلى هناك، وتتلف جثته - لأن الحياة قد نزعت منه - ومن ثم يتعفن كل لحمه.»
عندئذ ردت عليه الربة ثيتيس - الفضية القدمين - قائلة: «أي بني لا تشغلن بالك بهذا الأمر، فسأتولى أنا طرد هذه الجحافل المتوحشة من الذباب - الذي يتغذى بقتلى المعركة - فيبقى لحمه سليما باستمرار، بل أفضل مما هو الآن، ولو مكث عاما كاملا، فاذهب إلى مكان اجتماع المحاربين الآخيين، واطرح عنك غضبك من أجاممنون - راعي الجيش - وتأهب للقتال بأقصى سرعة، وتسربل بقوتك.»
وما إن قالت هذا حتى بثت فيه إقداما جبارا، وسكبت الأمبروسيا فوق باتروكلوس، والنكتار الأحمر في منخريه، لكي يبقى لحمه سليما على الدوام.
الصلح بين أخيل وأجاممنون!
أما أخيل العظيم فقد انطلق مسرعا بحذاء شاطئ البحر، صائحا صيحات مرعبة، فأثار المحاربين الآخيين، واحتشدوا كلهم - حتى من اعتادوا منهم البقاء عند السفن، فيما مضى، من ملاحي السفن الذين يحسنون استخدام المجاذيف، والندل الذين يوزعون الطعام - كل أولئك أسرعوا إلى مكان الاجتماع؛ لأن أخيل ظهر هناك، رغم ابتعاده عن الحرب المفجعة مدة طويلة، وأقبل اثنان - من أتباع أريس - يعرجان، هما ابن توديوس الباسل في القتال، وأوديسيوس العظيم، كل يستند إلى رمحه لأن جراحهما لم تزل موجعة. فذهبا، وجلسا في صدر الحشد. وأخيرا أقبل أجاممنون، ملك البشر - بعد الجميع - مثخنا بجرحه، إذ أصابه كئون بن أنثينور، بطعنة من رمحه المكسو بالبرونز. فلما احتشد الجميع معا، نهض أخيل - السريع القدمين - وتكلم في وسطهم قائلا: «يا ابن أتريوس، أكان خيرا لك ولي، أن استبد الحقد بقلبينا في شقاق يفتك بالأرواح، من أجل فتاة؟ ليت أرتيميس كانت قد قتلتها بسهم، وسط السفن، في نفس اليوم الذي أخذتها فيه بين الغنائم، بعد أن خربت لورنيسيوس! إذ ذاك ما كان لكثير من الآخيين أن يضطروا إلى أن يعضوا الأرض بأسنانهم تحت أيدي الأعداء، بسبب شدة غضبي، لقد كان هذا أفضل لهكتور والطرواديين، أما الآخيون فيستذكرون - فيما أعتقد - الشقاق بيني وبينك، لأمد طويل. ومع كل، فلنغض النظر الآن عن كل هذه الأمور؛ لأنها مضت وانتهت، رغم كل ما بنا من آلام. ولنكبح جماح قلبينا في صدرينا. إن من واجبي أن أكف عن غضبي فليس من الصواب أن أظل غضبان إلى الأبد دون أن ألين. والآن، أسرعوا فاستفزوا الآخيين - الطويلي الشعر - إلى المعركة، حتى أستطيع الذهاب فورا لمواجهة الطرواديين، فأعجم عودهم من جديد، وأرى ما إذا كانوا لا يزالون متلهفين إلى قضاء الليل بالقرب من السفن. إني لأعتقد، أن كثيرين منهم سيسره أن يحني ركبتيه طلبا للراحة، وأولئك هم الناجون منهم من احتدام الحرب ومن رمحي!»
هكذا تكلم، فزادت غبطة الآخيين المدرعين جيدا، إذ طرح ابن بيليوس - العظيم الشجاعة - غضبه عنه. فقام بعده أجاممنون، ملك البشر، وتكلم من المكان الذي كان يجلس فيه، دون أن يقف وسطهم فقال: «أي أصدقائي، أيها المحاربون الدانيون، أتباع أريس، من اللائق أن نصغي لمن يقف للكلام، ولا يليق أن نقاطعه، فإن هذا شديد الوقع، مهما يكن الرجل ماهرا. وكيف يستطيع المرء أن يسمع أو يتكلم وسط ضجيج الكثيرين؟ إن هذا يعرقل أي حديث مهما يكن صوت صاحبه جهوريا. ولسوف أكشف ما بنفسي لابن بيليوس، ولكني أرجوكم أن تصغوا جيدا إلى كلامي! لقد أنحى على كل واحد من الآخيين باللائمة، وكانوا تواقين دائما إلى تعنيفي، ولكني لم أكن المذنب، وإنما كان السبب زوس والقدر وأيرينوس - الذي يسعى في الظلام - فهم الذين بثوا في نفسي الجنون الضاري، في ذلك اليوم، عندما أخذت من أخيل جائزته - في الاجتماع - بغروري وغطرستي، ولكن ماذا كان عساي أن أفعل؟ إن الرب هو الذي يسير بكل الأمور إلى عواقبها. إن كبرى بنات زوس - آتي - هي التي تعمي الجميع؛ فهي قوة مشحونة بالدمار قدماها رقيقتان، لأنها لا تمشي فوق الأرض، بل تسير فوق رءوس البشر، وتدفع بهم إلى الأذى، كما توقع هذا أو ذاك في حبائلها. بل إنها - في وقت ما - أعمت زوس نفسه، رغم أن البشر يقولون إنه الأعظم بين البشر والآلهة، بل إن «هيرا» كذلك - وهي ليست سوى أنثى - خدعته بمهارة، يوم أن كان على الكميني الطيبية، البديعة التتويج، أن تلد هرقل الجبار، في المدينة ذات الأسوار الجميلة، مدينة طيبة، فقال زوس بكبرياء وسط جميع الآلهة: «أصغوا إلي، يا جميع الآلهة والآلهات، كي أخاطبكم بما يجول في صدري. في هذا اليوم، ستجلب أيليثويا - ربة الميلاد - إلى النور، إنسانا سيكون سيدا على جميع من يسكنون حوله، إنه أحد نسل الرجال الذين هم من دمي»، فتحدثت إليه هيرا الجليلة في خبث ودهاء، قائلة: «إنك تغشني ولن تحقق رغبتي. هيا أيها الأوليمبي، أقسم لي الآن يمينا قوية بأن ذلك الرجل سيكون سيدا على جميع من يقطنون حوله، وأنه سيهبط - في هذا اليوم - بين ساقي امرأة، ولو كان واحدا من الرجال الذين هم من دم فصيلتك!»
هكذا قالت، فلم يفطن زوس إلى دهائها بحال من الأحوال، بل أقسم قسما عظيما، في غفلة تامة. وعندئذ اندفعت هيرا، هابطة على ذؤابة أوليمبوس، فبلغت أرجوس الآخية بسرعة، حيث كانت تعلم أن زوجة سثينيلوس بن بيرسيوس الجليلة، حبلى، وقد بلغت شهرها السابع. وقد أنزلت هيرا هذا الطفل إلى النور، قبل تمام شهور الحمل كلها، وأوقفت حمل الكميني وكبحت الإيليثوباي. وتحدثت هي نفسها إلى زوس بن كرونوس، قائلة: «أبتاه زوس، سيد البرق اللامع، سأنبهك بكلمة، لقد ولد الآن رجل جسور، سيكون سيدا على الأرجوسيين، هو يورسثيوس بن سثينيلوس بن بيرسيوس من سلسلة نسبك، وجدير به أن يكون سيدا على الأرجوسيين. فلما أفضت إليه بذلك القول، أصابه ألم حاد في أعماق قلبه، وفي الحال قبض على «آتي» من رأسها البراق الجدائل، غاضبا من نفسه، وحلف يمينا قوية بأن آتي لن تخطو ثانية إلى أوليمبوس السماء ذات النجوم؛ لأنها تعمي الجميع. هكذا أقسم. وأدارها في يده، ثم قذف بها من السماء ذات الكواكب، فوصلت بسرعة إلى حقول البشر المفلحة. ومع ذلك فقد ظل يتوجع من أجلها كلما شاهد ابنه العزيز يعاني تحت ربقة يوريسثيوس غير اللائقة. هكذا أنا أيضا ، فعندما كان هكتور العظيم - ذو الخوذة البراقة - يثير شغب الأرجوسيين عند مؤخر السفن، لم أستطع نسيان «آتي» التي أعمت بصيرتي من قبل. وعلى أية حال، فبما أنني خدعت وسلبني زوس رشدي، فإنني مصمم على إصلاح الأمور، وتقديم التعويض بما لا يعد ولا يحصى. هيا، انهض للقتال، وسأحرض معك بقية القوم. وإني هنا مستعد لأقدم إليك جميع الهدايا، التي وعدك بها أوديسيوس المجيد في تلك الليلة، عندما ذهب إلى كوخك. أو فانتظر لحظة - إذا شئت - رغم تلهفك إلى القتال، فسوف يحضر الخدم الهدايا من سفينتي، حتى ترى أنني سأعطيك ما يرضي قلبك.»
عندئذ أجابه أخيل السريع القدمين قائلا: «يا ابن أتريوس الأمجد، يا أجاممنون، ملك البشر، أما الهدايا فلك الخيار في أن تعطيها أو تحتفظ بها، فهذا موكول إليك، ولكن المهم أن نوطد العزم الآن على القتال بكل سرعة، فليس لنا أن نتلكأ هنا في الحديث، ولا أن نبطئ طالما هناك عمل عظيم لم يتم بعد عسى أن يرى الكثيرون - من جديد - أخيل وسط محاربي المقدمة، يبيد برمحه البرونزي كتائب الطرواديين، وعلى هذا النسق فليفكر كل منكم وهو يقتل رجله!»
فرد عليه أوديسيوس الكثير الحيل بقوله: «كلا، يا أخيل الشبيه بالإله فما ينبغي - رغم شجاعتك - أن تحرض أبناء الآخيين، بهذه الطريقة، على أن يذهبوا إلى طروادة على الطوى، ويقاتلوا الطرواديين. فليس القتال لفترة وجيزة، ولا هو ينتهي بمجرد أن تلتقي صفوف الرجال، وينفث الرب القوة في كل من الجيشين، وإنما مر الآخيين - في سفنهم السريعة - بأن يتناولوا طعاما وخمرا، ففيهما تكمن الشجاعة والقوة. وما من امرئ يستطيع أن يقاتل طوال اليوم كله - حتى تغرب الشمس - وهو صائم. إذ إن أطرافه خليقة بأن تتثاقل في غفلة منه - مهما يكن شوقه للقتال - ويهجم عليه الظمأ والجوع، ويزيد وهن ركبتيه وهو ذاهب. أما من تناول كفايته من الخمر والطعام، فيقاتل العدو اليوم كله، وقلبه منشرح في صدره، ولا تحس أطرافه بالوهن، إلى أن ينسحب الجميع من المعركة. فهيا اصرف الجيش. ومر المحاربين بأن يعدوا طعامهم. أما الهدايا فليحضرها أجاممنون - ملك البشر - إلى مكان الحشد، ليراها جميع الآخيين بعيون رءوسهم، ولينشرح قلبك. ولينهض وسط الأرجوسيين ويقسم لك يمينا بأنه لم يعتل مطلقا فراش تلك السيدة ولم يجامعها، كما هي الطريقة المتبعة - أيها الملك - بين الرجال والنساء، وعليك أن تروض قلبك على الهدوء في صدرك! وبعد ذلك ليصالحك في كوخه ويسترضك بوليمة فخمة للغاية، حتى لا يكون ثمة شيء ناقص من حقك. يا ابن أتريوس، سوف تكون بعد هذا أكثر عدلا مع الآخرين؛ لأنه ليس من العار في شيء أن يقدم الملك الصلح لغيره، عندما يكون قد أمعن في إغضابه بلا سبب.»
عندئذ تحدث إليه أجاممنون - ملك البشر - ثانية بقوله: «يا ابن لايرتيس، إنني لسعيد بأن أسمع كلماتك؛ إذ أحسنت عرض الأمر، ورويت الحكاية. أما هذه اليمين فإني على استعداد لأن أؤديها، ويأمرني قلبي بذلك، ولن أحنث في قسمي أمام الرب. وليبق أخيل هنا الآن - رغم تلهفه إلى القتال - ولتمكثوا أنتم جميعا سويا، إلى أن تحضر الهدايا من كوخي، ونقسم على الوفاء بالذبائح. وإنني لأوكل إليك أمر القيادة: فاختر بعض الشبان من أمراء جيش الآخيين، وأحضروا الهدايا من سفينتي، جميع ما وعدنا به أمس، لأعطيه لأخيل، وأحضروا النساء أيضا. ودعوا تالثوبيوس يعد في الحال خنزيرا بريا في معسكر الآخيين الفسيح، لنقدمه ذبيحة لزوس والشمس.»
فأجاب أخيل السريع القدمين قائلا: «يا ابن أتريوس الأمجد، أي أجاممنون، ملك البشر: يحسن إرجاء الاهتمام بهذا الأمر إلى وقت آخر، إلى فترة راحة إبان القتال - مثلا - عندما لا يكون حماس صدري هكذا عظيما. إن من قتلهم هكتور بن بريام - عندما منحه زوس المجد - يرقدون الآن مشوهين، وأنتما تدعواننا إلى الطعام! أما أنا فسآمر أبناء الآخيين بالقتال وهم صائمون، وهم على الطوى، حتى إذا غربت الشمس، أعدوا وليمة عظمى، بعد أن نكون قد انتقمنا لما لحقنا من عار. ولن يمر من بلعومي أي طعام أو شراب حتى يتم ذلك، حيث إن صديقي ميت. ذلك الذي يرقد في كوخي مشوها بالبرونز الحاد، وساقاه متجهتان نحو الباب، وقد أحاط به أصدقاؤنا باكين؛ لذا لا تجد قلبي مشغولا بهذه الأشياء، بل بالقتال والدم، وبأنين الرجال المفجع!»
فرد عليه أوديسيوس الكثير الحيل ، بقوله: «أي أخيل بن بيليوس، يا من تبذ جميع الآخيين قوة. إنك أفضل مني، وليس بقليل أن تفوقني في قوة استخدام الرمح، غير أنني ربما أتفوق عليك في المشورة بمراحل؛ إذ إنني أكبرك سنا، وأعرف أكثر منك؛ لذلك يجب أن يحتمل قلبك الإصغاء إلى قولي. فسرعان ما يتخم الرجال من القتال، حيث ينثر البرونز معظم القش على الأرض. برغم قلة الحصاد، عندما يميل بميزانه زوس الذي يدبر قتال البشر، ولكن البطن لا يمكن أن ينتظر حتى يبكي الآخيون جثة، إذ يسقط كثير منهم باستمرار، واحدا بعد آخر، يوما إثر يوم، فمتى إذن يستطيع المرء أن يجد راحة من العناء؟
1
إنما يجب أن ندفن المقتول ونجعل قلوبنا صلبة، فلا نبكي إلا ليوم واحد. أما الأحياء الذين لم يصرعهم الحرب الكريهة، فيجب أن يفكروا في الشراب والطعام، حتى يمكننا أن نقاتل العدو بمزيد من القوة دائما، متسربلين بحلل البرونز الصلب. ولا تدع أحدا من الجيش أجمع يتخلف عن العمل في انتظار نداءات أخرى، فهذه هي النداءات: ويل لمن يبقى عند سفن الآخيين! فهيا، نهب في حشد واحد، ونثير معركة طاحنة مع الطرواديين.»
قال هذا، وانتخب أبناء نسطور المجيد، وثواس، وميريونيس، ولوكوميديس بن كريون، وميلانيبوس: فساروا في طريقهم إلى كوخ أجاممنون بن أتريوس. وفي الحال صدر الأمر، وفي نفس اللحظة أنجز العمل. فحملوا من الكوخ سبع ركيزات - كما وعد تماما - وعشرين قدرا لامعة، واثني عشر جوادا. وبسرعة صحبوا إلى الخارج نساء ماهرات في الأعمال اليدوية الرائعة، عددهن سبع، والثامنة «بريسايس» الجميلة الوجنتين. وبعد ذلك وزن أوديسيوس عشر وزنات من الذهب، وتقدم الجمع، يتبعه الشبان الآخيون يحملون الهدايا. فوضعوها وسط مكان الاجتماع. ونهض أجاممنون، ووقف بجانبه تالثوبيوس - الذي يشبه صوته صوت الرب - حاملا في يديه خنزيرا بريا. واستل ابن أتريوس السكين التي كانت تتدلى دائما بجانب غمد سيفه العظيم، وقطع الشعرات الأولى للخنزير البري، ثم رفع يديه وصلى إلى زوس، وجلس جميع الأرجوسيين صامتين، يصغون لهذه الصلاة، كما هو جدير بالملك. فقال متوسلا، وهو يرفع بصره نحو السماء الفسيحة: «كن أول شاهد يا زوس، يا أسمى وأفضل الآلهة، ثم الأرض والشمس، والأيرينويس الموجودات تحت الأرض ينتقمن من البشر الذين يقسمون أيمانا باطلة، لتشهد على أنني لم أضع يدي قط على الفتاة بريسايس، لا بعناق العاشق، ولا بأي طريق آخر، ولكنها ظلت في أكواخي دون أن يمسها أحد. وإذا كان ثمة زيف في هذا القسم، فلتعطني الآلهة آلاما لا تحصى، كل الآلام التي اعتادوا صبها على من يأثم في يمينه!»
قال هذا، وقطع رقبة الخنزير البري بالبرونز العديم الرحمة. أما الجسد فطوحه تالثوبيوس إلى الخليج العظيم في البحر الرمادي، ليكون طعاما للأسماك. ثم قام أخيل، وتحدث وسط الأرجوسيين المحبين للقتال، قائلا: «أبتاه زوس، إن العمى الذي تبتلي به البشر لعظيم حقا. فما كان في مقدور ابن أتريوس أن يثير الغضب بصدري أبدا، ولا أن يأخذ الفتاة بالقوة رغما مني، لو لم يشأ زوس أن يحل الموت بكثير من الآخيين. والآن، فلتذهبوا إلى طعامكم، حتى نستطيع الالتحام في القتال!»
في معسكر أخيل!
هكذا تكلم، وبسرعة فض الاجتماع. فانصرف الآخرون، كل إلى سفينته، بينما شغل المورميدون - البالغو الشجاعة - بالهدايا، فحملوها بسرعة إلى سفينة أخيل، الشبيه بالإله، ووضعوها في الأكواخ، كما وضعوا النساء هناك. أما الجياد فقد ساقها الخدم المزهوون إلى القطيع.
وما إن وقع بصر بريسايس - الشبيهة بأفروديت الذهبية - على باتروكلوس مشوها بالبرونز الحاد، حتى ارتمت بجانبه تصرخ عاليا، ومزقت صدرها وعنقها الرخص ووجهها الفاتن بيديها. وبينما هي تبكي، تلك المرأة الشبيهة بالربة، قالت: «أي باتروكلوس، أيها العزيز إلى قلبي البائس، لقد تركتك حيا عندما رحلت عن الكوخ، وها أنا ذي أجدك جثة هامدة - يا قائد الجيوش - عند عودتي إلى هنا، هكذا نصيبي أن تتوالى علي المصائب تباعا. لقد رأيت زوجي الذي زوجنيه أبي وأمي الجليلة، مقتولا بالبرونز الحاد أمام مدينتنا ، وإخوتي الثلاثة الذين أنجبتهم أمي - إخوتي الأحباء - قابلوا كلهم يوم الموت. أما أنت، فإنك لم تشأ - عندما قتل أخيل السريع زوجي، وخرب مدينة مونيس، الشبيه بالإله - أن تحملني مشقة البكاء، بل قلت إنك ستجعلني زوجة أخيل المعقود عليها، وإنه سيحملني في سفنه إلى فثيا، ويقيم لي وليمة عرس وسط المورميدون؛ لذا حق علي أن أبكيك ميتا دون هوادة؛ لأنك كنت دائما رحيما بي.»
هكذا قالت وهي تبكي، واشتركت معها النساء في العويل، كن يبكين باتروكلوس، بينما كان لكل منهن أحزانها. أما شيوخ الآخيين، فقد اجتمعوا حول أخيل، متوسلين إليه أن يأكل، ولكنه أبى أن يذوق شيئا، منتحبا طول الوقت، وهو يقول: «إذا كان لأحد من أصدقائي أن يأخذ بقولي، فإني أرجو ألا يلح علي بطعام وشراب، فإن غما بالغا يحيق بي. وسأظل على الطوى، متحملا الجوع كما أنا، حتى غروب الشمس.»
وإذ قال هذا، صرف عنه الرؤساء الآخرين، ما عدا ابني أتريوس وأوديسيوس العظيم، ونسطور، وأيدومينيوس، وفوينكس العجوز - سائق العربات - فبقوا إلى جانبه يحاولون أن يسروا عنه حزنه المفرط. بيد أن قلبه لم يكن ليتعزى قط إلا بعد أن يدخل في فم الحرب الدامية. وبينما هو يفكر في ذلك، أطلق أنينا شديدا، ثم قال: «لقد كنت فيما مضى، أيها المسكين، يا أعز أصدقائي، تخف إلى إعداد أفخم الولائم، بسرعتك الرشيقة - كلما هب الآخيون إلى شن الحرب المبكية على الطرواديين مستأنسي الخيول، ولكنك ترقد الآن مشوها، وقد زهدت نفسي الطعام والشراب - رغم قربهما - لفرط حزني عليك. فليس يفجعني أكثر من هذا، ولو بلغني موت أبي، الذي أحسبه يذرف الدمع الآن في فثيا، لحاجته إلى ابن مثلي، بينما أنا في أرض غريبة، أحارب طروادة من أجل هيلينا المقيتة، بل ولو بلغني موت ابني الحبيب نيوبتوليموس الذي يربى من أجلي في سكوروس، ذلك الابن الشبيه بالإله، إن كان لا يزال حيا. فإن قلبي الكائن في صدري يحدثني بأنني - سأهلك وحيدا هنا - في أرض طروادة - بعيدا عن أرجوس، مرعى الخيول. وكان جديرا بك أن تعود إلى فثيا كي تحمل ولدي في سفينتك السوداء السريعة - من سكوروس - وتطلعه على جميع الأشياء: على ممتلكاتي، وعبيدي، ومنزلي الكبير المرتفع السقف. فإنني أعتقد الآن ، أن بيليوس إما أن يكون قد مات ومضى، أو أن يكون ضعيفا - إذا كان لا يزال على قيد الحياة - يقاسي آلام الشيخوخة البغيضة، كما يقاسي لوعة انتظار أخباري المحزنة، إلى أن يبلغه نبأ موتي!»
هكذا قال وهو يبكي، فبكى معه الشيوخ، كل يفكر فيمن تركهم في الوطن. ولمحهم ابن كرونوس وهم في أحزانهم فأحس بالشفقة نحوهم. وفي الحال خاطب أثينا بكلمات مجنحة، قائلا: «أي طفلتي، من العجب أن تهجري محاربك هجرا تاما. أليس لأخيل - بعد الآن - موضع في فكرك؟ إنه يجلس هناك أمام سفنه ذات القرون المستقيمة، يبكي صديقه العزيز، وقد انصرف الآخرون إلى طعامهم، بينما أصر هو على الصيام، فلن يتناول طعاما. انطلقي الآن، واسكبي في صدره شراب الآلهة والأمبروسيا السارة، حتى لا يكون نهبا لآلام الجوع!»
بهذا حث أثينا، وكانت كلها شوقا، فانقضت - كالبازي العريض الجناحين، الحاد الصوت - تهبط فوقه من السماء، خلال الفضاء. وبينما كان الآخيون يعدون أنفسهم للقتال في سائر أنحاء المعسكر، سكبت في صدر أخيل شراب الآلهة والأمبروسيا المفرحة، لكيلا تغزو آلام الجوع أطرافه. ثم انصرفت إلى بيت سيدها العتيد، المتين البناء، بينما تدفق الآخيون من السفن السريعة، وكما يسقط هباء الثلج من لدن زوس، غزيرا سريعا باردا من جراء الريح الشمالية السابحة في السماء المتألقة، هكذا أيضا حملت الخوذات المتلألئة - من السفن - بسرعة وغزارة، وكذلك التروس المرصعة، والدرقات ذات الصفائح السميكة، والرماح الدردارية. وقد تصاعد بريقها إلى السماء، وتهللت الأرض حولهم للبرونز اللامع، وارتفع الطنين من تحت أقدام الرجال، وأعد أخيل العظيم نفسه للقتال بينهم. وكان لأسنانه صرير، وقد توهجت كلتا عينيه كما لو كانتا جذوتي نار، وطفح قلبه بحزن لا يمكن احتماله. وفي غضبه الشديد هذا - ضد الطرواديين - تسربل في الهدايا الربانية التي تعب هيفايستوس في صنعها له. فبدأ يلبس الدروع حول ساقيه - وكانت دروعا جميلة، تزينها قطع فضية للعقبين - ثم ارتدى الدرقة حول صدره. وعلق السيف البرونزي المرصع بالفضة على كتفيه، وبعد ذلك أمسك بالترس العظيم المكين، الذي كان يسطع بريقه إلى مسافات بعيدة، كأنه بريق القمر. وكما يحدث إذ يظهر للبحارة - من فوق البحر - بريق النار المستعرة، وهي تتأجج عاليا فوق الجبال في مزرعة منعزلة، بينما تحملهم العاصفة، ضد رغبتهم، بعيدا عن أصدقائهم، هكذا أيضا تصاعد من ترس أخيل - الترس الجميل الفاخر الترصيع - بريق تطاول إلى عنان السماء. ورفع الخوذة القوية، ووضعها على رأسه، فتلألأت كما لو كانت نجما - خوذة ذات خصلة من شعر الخيل، تتموج حولها رياش من الذهب، أكثر هيفايستوس من وضعها حولها وبهذا الحلة الحربية برهن أخيل العظيم على وجوده، إذ انطبقت على جسمه تماما، وتحركت فيها أطرافه المجيدة بطلاقة، وأضحت بمثابة أجنحة له، فرفعت راعي الشعب عاليا. وفي الحال سحب رمح أبيه من غمده، ثقيلا ضخما قويا، لا يستطيع أي آخي - عدا أخيل وحده - أن يلوح به بمهارة، كذلك كان الرمح البيلي الدرداري الذي أعطاه خايرون لأبيه العزيز من ذؤابة بيليون، ليقتل به المحاربين. وانهمك أوتوميدون والكيموس في وضع النير فوق الجياد، كما وضعا حول أجسامها شرائط الصدر الجميلة، ووضعا اللجم في أفواهها، وشدا الأعنة للخلف إلى العربة المكينة. وأمسك أوتوميدون في يده السوط اللامع الذي ناسبها تماما، وقفز فوق العربة، ثم خطا أخيل مسلحا في عدته للقتال، متلألئا في حلته الحربية أشبه بهوبيريون المتألق، فصاح عاليا على جوادي أبيه قائلا: «أي كسانثوس وباليوس، يا ابني بودارجي الذائعي الصيت، ضعا نصب أعينكما أن تحضرا سائقكما - بطريقة ما - سالما إلى جيش الدانيين، بعد أن نأخذ كفايتنا من الحرب، ولا تتركاه هناك ميتا، كما فعلتما مع باتروكلوس!»
فأجابه الجواد كسانثوس - ذو القدم السريعة البريق - وهو تحت النير، وقد أحنى رأسه فجأة، وتدلت معرفته كلها من تحت وسادة النير إلى جانبه، حتى لمست الأرض، وقد منحته الربة هيرا - الناصعة الذراعين - قدرة على الكلام: «أما هذه المرة فسننقذك، يا أخيل الجبار، رغم أن يوم الموت قريب منك، إننا لن نكون سببا فيه، فإنما سببه رب عتيد وقدر قاهر. فما كان من جراء كسلنا أو تراخينا أن أفلح الطرواديون في سلب العدة الحربية عن كتفي باتروكلوس، ولكن الذي قتله وسط محاربي المقدمة، وأعطى المجد لهكتور، هو خير الآلهة بمراحل، الذي أنجبته ليتو الجميلة الشعر. أما نحن، فقد كان في استطاعتنا أن نعدو بسرعة الريح الغربية التي هي - كما يقول البشر - أسرع الرياح طرا، وإنه مكتوب لك أن تقتل في المعركة بواسطة رب وإنسان!»
وما إن تكلم هكذا، حتى حبست الأيرينويس صوته. وعندئذ، تحرك قلبه بشدة، فتحدث إليه أخيل السريع القدمين بقوله: «كسانثوس، لم تتنبأ بموتي؟ لا حاجة بك إلى هذا إطلاقا. فأنا نفسي، أعلم علم اليقين أنه مقدر علي أن أموت هنا، بعيدا عن أبي العزيز وأمي. ومع هذا، فإنني لن أكف عن القتال، إلا بعد أن أشبع الطرواديين بالحرب.»
قال هذا، وصاح صيحة الحرب، وقاد جياده القوية الحوافر وسط محاربي المقدمة.
الأنشودة العشرون
«... ووزن رمحه وقذفه، ولكن أثينا أرسلت ريحا أبعدته عن أخيل المجيد، فارتد عائدا إلى هكتور العظيم، وسقط أمام قدميه ...»
كيف أشاع أخيل الذعر والفوضى بين الطرواديين؟
رابع أيام المعركة
اجتماع الآلهة فوق أوليمبوس!
نظم الآخيون أنفسهم للقتال حولك - بجانب السفن المدببة - يا ابن بيليوس، أيها المتعطش إلى الحرب، وكذلك فعل الطرواديون في الجهة المقابلة لهم، في أرض السهل المرتفعة، ولكن «زوس» أمر «ثيميس» باستدعاء الآلهة إلى الاجتماع، فانطلقت في أرجاء أوليمبوس تدعوهم في شعابه العديدة إلى منزل زوس. فما من نهر - إلا أوقيانوس وحده - ولا من حورية من جميع ساكنات الأكمات الجميلة والينابيع التي تغذي الأنهار والمروج الخضراء، إلا حضر. وما إن بلغوا بيت زوس، حتى أخذوا مقاعدهم داخل الأروقة المصقولة - التي شيدها هيفايستوس بمهارة فائقة - من أجل الأب زوس.
هكذا اجتمعوا داخل بيت زوس. ولم يغفل مزلزل الأرض نداء الربة بل خرج من البحر لينضم إلى حشدهم، وجلس بينهم يسأل عن غرض زوس قائلا: «لم استدعيت الآلهة يا ملك البرق اللامع ، إلى مكان الاجتماع؟ هل خطر ببالك أمر يتعلق بالطرواديين والآخيين وقتالهم؟ إن كلا من الفريقين يضرم شعلة المعركة والقتال الآن.»
فأجابه زوس - جامع السحب - قائلا: «أنت تعلم يا مزلزل الأرض، الغرض الذي من أجله جمعتكم هنا، إن أمرهم ليهمني، ولو ماتوا. ومع ذلك فسأظل جالسا هنا في أحد أودية أوليمبوس، حيث يمكنني أن أطل على ما يجري هناك وأمتع قلبي. أما أنتم، فاذهبوا فورا وسط الطرواديين والآخيين، وقدموا المعونة لهذا الجانب أو ذاك، كما يتراءى لكل واحد منكم. فلو أن أخيل قاتل بمفرده
1
الطرواديين - ولو لفترة وجيزة - لما قدر لهم أن يقاوموا ابن بيليوس السريع القدمين. فقد اعتادوا - فيما مضى - أن يرتعدوا لمجرد رؤياه، فما بالكم الآن وقلبه في أشد حالات الغضب من أجل صديقه. إنني لأخشى أن يجاوز حدود القدر ويجتاح الأسوار.»
وبهذا القول أثار ابن كرونوس حربا لا هوادة فيها؛ فقد انطلق الآلهة في طريقهم إلى المعركة، منقسمين في الرأي: فاتجهت هيرا إلى حشد السفن، ومعها بالاس أثينا، وبوسايدون مزلزل الأرض، والمساعد هيرميس - الذي كان يفوق الجميع دهاء، كما ذهب معها هيفايستوس، يعرج متهللا في قوته، ومن تحته تتحرك ساقاه المتقلصتان بخفة! أما أريس ذو الخوذة البراقة، فقد ذهب إلى حشد الطرواديين ومعه فويبوس - ذو الجدائل المرسلة - والقواسة أرثيميس، وليتو، وكسانثوس، وأفروديت المحبة للضحك.
ولقد كان الآخيون منتصرين كل الانتصار - ليلة أن كان الآلهة بعيدين عن البشر - إذ أقبل أخيل بعد احتجابه طويلا عن المعركة المفجعة، فأصابت الطرواديين رعدة رهيبة، سرت في أطراف كل رجل، عندما أبصروا ابن بيليوس السريع القدمين، يتلألأ في عدته الحربية، وهو يضارع أريس، مصدر الهلاك للبشر، وما إن حل الأوليمبيون وسط حشد الرجال، حتى هاج النضال الوحشي الذي يستفز الجيوش. وصاحت أثينا عاليا، وكانت تقف تارة بجانب الخندق المحفور، خارج السور، وطورا فوق الشواطئ المرتفعة الصخب، ترسل صيحتها المدوية. وفي الجانب المقابل لها، راح أريس، مضرعا يرد صياحها بصياح رهيب أشبه بالدوامة المظلمة، وهو ينادي على الطرواديين من أعلى ذؤابة القلعة، أو من جانب شاطئ سيمويس، بصيحات جهورية، وقد أخذ يعدو مسرعا بطول منحدرات كاليكلوني.
نزال بين أخيل وأينياس!
هكذا راحت الآلهة المباركة تحت الجيشين على الالتحام في القتال ، ثم اندفعت هي نفسها في حرب هوجاء. وعندئذ أرسل أبو الآلهة والبشر رعوده - من عليائه - فظيعة مدوية، ومن تحت، زلزل بوسايدون الأرض الفسيحة، وقمم الجبال المائلة. فاهتز جميع جذور أيدا ذات الفوارات، وجميع ذؤاباتها، كما ارتجت مدينة الطرواديين، وسفن الآخيين، وتملك الخوف - في العالم السفلي - أيدونيوس ملك الأشباح، فوثب مذعورا عن عرشه وصرخ بصوت مدو، خشية أن تنشق الأرض من فوقه بفعل بوسايدون - مزلزل الأرض - فيتجلى موطنه للبشر والخالدين - ذلك الموطن المفزع الرطب الذي يمقته الآلهة أنفسهم - وما أعظم الضجيج الذي ارتفع عندما اشتبك الآلهة في الصراع؛ فقد وقف «أبولو» بسهامه المجنحة ضد الملك «بوسايدون»، ووقفت الربة «أثينا» البراقة العينين ضد «أنواليوس»، ووقفت الصيادة ذات السهام الذهبية والقنص المدوي - القواسة «أرتيميس»، شقيقة الرب الذي يضرب من بعيد - ضد «هيرا». كما وقف «هيرميس» المساعد القوي، ضد «ليتو». أما النهر العميق الدوامات - الذي يسميه الآلهة كسانثوس، والبشر سكاماندر - فوقف ضد هيفايستوس العظيم.
هكذا هبت الآلهة تنازل الآلهة. أما أخيل فقد كان متلهفا - فوق كل شيء - إلى منازلة هكتور بن بريام، وكانت روحه تأمره بأن يروي ظمأ أريس - المحارب ذي الترس الجلدي الصلب - بدم هكتور، لا بدم أي فرد آخر. وراح أبولو المثير الجيوش، يحث أينياس على مواجهة ابن بيليوس، ونفث فيه قوة بالغة، وغير صوته بصوت لوكاوون بن بريام، واتخذ صورته، وخاطب أينياس بقوله: «يا أينياس، يا مستشار الطرواديين، أين الآن تهديداتك التي كنت تزهو بها على أمراء الطرواديين، وأنت تحتسي الخمر؟ ألم تقل إنك ستقاتل أخيل بن بيليوس، وجها لوجه؟»
فأجابه أينياس قائلا: «يا ابن بريام، لم تحرضني بهذه اللهجة على أن أواجه ابن بيليوس - الجريء القلب - في القتال، مع أنني لا أنتوي ذلك؟ ليست هذه هي أول مرة أقف فيها ضد أخيل السريع القدمين، فقد حدث ذات مرة أن طاردني برمحه من أيدا - عندما تصدى لأبقارنا، وخرب لورنيسوس وبيداسوس - لولا أن أنقذني زوس، إذ أثار شجاعتي وبث سرعة في ساقي، وإلا لقتلني أخيل وأثينا، التي كانت تسير أمامه دائما، وتضع له بارقة أمل وخلاص، وكانت تأمره بقتل ليليجيس والطرواديين بالرمح البرونزي. ومن ثم فليته لا يتحتم على أي رجل مواجهة أخيل في القتال، إذ دائما ما يكون إلى جواره رب ما، يدفع عنه الهلاك، فينطلق رمحه مستقيما، ولا يكف إلا إذا اخترق جسم إنسان. ومع ذلك، فليس بوسعه أن يقهرني بسهولة - إذا أدار الرب المعركة بيننا بالعدل - ولو كان يزهو بأنه مصنوع كله من البرونز.»
فرد عليه الأمير أبولو، ابن زوس، قائلا: «كلا، أيها المحارب، تعال، وصل أنت أيضا للآلهة الخالدين، فأنت الآخر - كما يقول الناس - قد ولدت لأفروديت، ابنة زوس، فأم أخيل أقل من أمك درجة بين الآلهة؛ ذلك لأن أمك ابنة زوس، وأمه من عجائز البحر. هيا، احمل عليه فورا بالبرونز الذي لا يلين، ولا تدعه يثبط عن عزيمتك بالتقريع أو بالتهديد.»
قال هذا، ونفث قوة عظيمة في راعي الجيش، فشق طريقه وسط محاربي المقدمة، متدثرا بالبرونز البراق. ولم يكن ابن أنخيسيس بعيدا عن عيني هيرا البيضاء الساعدين، وهو ينطلق مسرعا لمواجهة ابن بيليوس وسط حشد الرجال. فجمعت الآلهة معا، وخاطبتهم بقولها: «أي بوسايدون وأثينا، فكرا - في قلبيكما - ما قد يتأتى عن هذه الأمور التي تجري، ها هو ذا أينياس قد ذهب - متدثرا بالبرونز الوهاج - ليواجه ابن بيليوس، وقد حرضه أبولو. هيا، إذن، وليكن واجبنا أن نرده في الحال. وفيما بعد، فليقف أحدنا إلى جوار أخيل، ويمده بالقوة العظيمة، حتى لا تثبط عزيمته بأية حال، ليعرف أن من يحبونه هم خير الخالدين، وأن أولئك الذين دفعوا الحرب والقتال عن الطرواديين، هباء كالريح. لقد هبطنا من أوليمبوس جميعا لنشترك في هذه المعركة، حتى لا يلحق أخيل ضرر ما وسط الطرواديين طوال هذا اليوم، ولكنه فيما بعد سيعاني ما نسجته ربة القدر بخيطها المتين منذ البداية، حين أنجبته أمه. وإذا لم يعلم هذا أخيل من فم أحد الآلهة، فإنه سيفزع فيما بعد عندما يواجهه إله في القتال، إذ من الصعب النظر إلى الآلهة عندما يظهرون عيانا!»
عندئذ أجابها بوسايدون - مزلزل الأرض - قائلا: «أي هيرا، لا يتجاوزن بك الغضب حدود الحكمة، فليس هذا مما يليق بك. إنني لم أكن تواقا إلى أن تنازل الآلهة بعضها بعضا في الصراع. وخير لنا أن نتنحى جانبا، ونجلس في مكان نراقب منه ما يدور، ونترك الحرب للبشر، اللهم إلا إذا نزل أريس وأبولو إلى القتال، أو منعا أخيل من النضال، فإذ ذاك يحق لنا أن نخوض الحرب كذلك. وأعتقد أنهما سيبادران - في الحال - إلى الابتعاد عن المعركة أو يعودان إلى أوليمبوس بين حشد الآلهة الآخرين، مدحورين بقوة أيدينا.»
هكذا قال الرب القاتم الشعر، وتقدم نحو جدار هرقل الشبيه بالإله، ذلك الحائط العالي الذي شيده له الطرواديون وأثينا، ليلوذ به وينجو من تنين البحر، إذا طارده التنين من شاطئ البحر إلى السهل.
2
هناك جلس بوسايدون والآلهة الآخرون، وغطوا أكتافهم من جانب بسحابة كثيفة، بينما جلس الآلهة - المنحازون للجانب الآخر - قبالتهم على مرتفعات كاليكولوني، من حولك أيها القواس أبولو، ويا مخرب المدن أريس.
وهكذا جلسوا - في الجانبين - يشاورون، ولكنهم عافوا خوض الحرب المفجعة، وأشرف عليهم زوس من عليائه.
وفي تلك الأثناء، كان السهل قد امتلأ عن آخره بالرجال والجياد، وقد تلألأ بالبرونز، وارتجت الأرض تحت أقدامهم وهم يتدفقون سويا. وأقبل محاربان يفوقان الجميع بمراحل، فتقدم كل منهما صوب الآخر، في الشقة الفاصلة بين الجيشين، متلهفين إلى القتال، ذانك هما أينياس بن أنخيسيس، وأخيل العظيم. فتقدم أينياس - أولا - متوعدا، وهو يهز خوذته الثقيلة فوق رأسه، ويحمل ترسه القوي أمام صدره، ويلوح برمح من البرونز في يده. فانقض عليه ابن بيليوس - من الجانب الآخر - كأسد هصور، أسد ضار، يتوق الناس إلى قتله، فتجتمع قبيلة بأسرها لمواجهته. ويمضي في طريقه - في البداية - غير حافل، حتى إذا قذفه أحد الشبان برمية سريعة من رمحه، تأهب متحفزا، فاغرا فاه، والزبد ينبعث خارجا حول أسنانه، وروحه القوية تزمجر في قلبه، وذيله يضرب جنبيه وضلوعه وردفيه، ثم يحفز نفسه على القتال، وبعينين متأججتين، يهجم من فوره مندفعا في حميته، محاولا أن يقتل شخصا أو أن يهلك في مقدمة الحشد، هكذا انقض أخيل بحميته، تتوثب روحه المسيطرة لتواجه أينياس العظيم الشجاعة. فلما اقترب كل منهما من الآخر، بدأ أخيل العظيم السريع القدمين يقول لأينياس: «أي أينياس، لماذا انفصلت هكذا بعيدا عن الحشد لتقف في مواجهتي؟ أيأمرك قلبك بمقاتلتي، أملا في أن تستحوذ على مكانة بريام وسيادته بين الطرواديين مستأنسي الخيول؟ كلا، لن يضع بريام مملكته بين يديك، ولو قتلتني. لأن له أبناء، كما أنه عاقل، وليس سقيم التفكير. أم هل أقطعك الطرواديون ضيعة تمتاز على ما عداها؛ أرضا خصبة من حقول وبساتين، تستطيع أن تقيم فيها، إذا ما قتلتني؟ ولكني أحسبك ستجد قتلي عسيرا، إذ أذكر أنني قد طاردتك من قبل - يوما - برمحي. أنسيت يوم كنت وحدك مع الأبقار. فجعلتك تجري بخطى واسعة من تلال أيدا بسرعة فائقة؟ في ذلك اليوم لم تجسر على أن تلتفت إلى الوراء مرة واحدة إبان فرارك. ومن هناك هربت إلى لورنيسوس، ولكني خربتها، إذ هاجمتها بمعونة أثينا والأب زوس، وسبيت النساء وسلبتهن حريتهن. غير أن زوس والآلهة الآخرين أنقذوك، ولكني لا أحسبهم سيحمونك في هذه المرة، كما تتصور في قرارة نفسك، كلا، ولذلك آمرك بأن تعود أدراجك إلى رفاقك، وألا تتقدم ضدي، وإلا حل بك الشر، فإن الأحمق خليق بأن يكتسب من الأحداث حكمة.»
عندئذ أجابه أينياس بقوله: «يا ابن بيليوس، هيهات أن تخيفني بالكلام، وكأنني طفل، فإنني أعرف مثلك كيف أذم وكيف أهدد. إن كلا منا يعرف نسب الآخر، فيما سمعناه من قصص ذائعة رواها البشر. ولكنك لم تر والدي قط بعيني رأسك، ولا أنا رأيت والديك. إن الناس يقولون إنك ابن بيليوس المنقطع النظير، وإن أمك هي ثيتيس الجميلة الجدائل، إحدى بنات البحر. أما أنا فأعلن أنني ابن أنخيسيس الفائق الشجاعة، وأمي أفروديت، ولسوف يبكي أحد الفريقين اليوم ابنا عزيزا فما أعتقد أننا سنشبع حميتنا بالكلمات الفارغة، دون النزال. ومع كل، فإذا أردت معرفة نسبي، فاسمع هذا وما أكثر من يعرفونه: لقد بدأ زوس - جامع السحب - بأن أنجب داردانوس وأسس داردانيا، إذ لم تكن طروادة المقدسة قد شيدت بعد في السهل، لتكون مدينة للبشر الذين كانوا لا يزالون يقطنون فوق منحدرات أيدا الكثيرة النافورات. ثم أنجب داردانوس ابنا، هو الملك أريخثونيوس الذي أصبح أغنى رجل بين البشر؛ فقد كان لديه ثلاثة آلاف جواد ترعى في أرض المستنقعات، وكان قرير العين بأولادها الرقيقة. فافتتنت الريح الشمالية بهذه الجياد وهي ترعى، واعتلتها في صورة جواد أسود العرف، فحملت وأنجبت اثنتي عشرة مهرة. إذا قفزت فوق الأرض - واهبة الحبوب - جرت فوق أعلى أطراف سنابل القمح الناضجة دون أن تكسرها، وإذا وثبت فوق سطح البحر الفسيح، جرت فوق أعلى قمم أمواج البحر الأشيب. وما لبث أريخثونيوس أن أنجب طروس ليكون ملكا على الطرواديين، وأنجب طروس ثلاثة أبناء لا نظير لهم: أيلوس وأساراكوس وجانوميديس الشبيه بالإله، الذي يفوق سائر البشر في الجمال؛ ولذا أخذته الآلهة إلى فوق ليكون حامل كأس زوس لجماله، وليعيش مع الخالدين. أما أيلوس فقد أنجب لاوميدون المنقطع النظير. وأنجب لاوميدون بدوره ثيثونوس وبريام وكلوثيوس وهيكيثايون، سليل أريس، وأما أساراكوس فأنجب كابوس وكاينيس أنخيسيس. ثم أنجبني أنخيسيس، في حين أن بريام أنجب هكتور العظيم، إذن فهذا نسبي، والدم الذي أعلن أنني انحدرت منه. أما الشجاعة، فإن زوس هو الذي يزيدها أو يقلل منها في البشر كيفما يشاء، إذ إنه أقوى الجميع. فهيا، ودعنا من الكلام هكذا كالأطفال، بينما يقف كلانا وسط مجال المعركة. فما أكثر ما هناك من سباب نستطيع أن نقوله، سباب لا تستطيع السفينة ذات المائة مقعد أن تتسع له. إذ ما أعظم سفاهة لسان البشر، وكم من كلمات متباينة الأنواع لديه، وما أوسع مجال حديثه هنا وهناك! وما من كلمة تقولها إلا وتسمع ردها، ولكن أي حاجة لكلينا بتبادل المشاحنات والمنازعات، كما تفعل النساء، اللاتي يخرجن إلى الطريق - عندما يتميزن غضبا في النزاع المهلك للنفوس - وتتشاحن الواحدة منهن مع الأخرى بألفاظ حقيقية وأخرى كاذبة، فحتى أولئك يدفعهن الغضب إلى الكلام. أما القتال، فبما أنني متلهف إليه ، فلن تزحزحني عنه بالألفاظ إلا بعد أن نتنازل بالبرونز وجها لوجه. هيا، وليعجم كل منا عود زميله بالرماح البرونزية الأطراف!»
قال هذا وقذف رمحه القوي صوب ترس أخيل المروع العجيب. فصلصل الترس بصوت عال حول طرف الرمح. وأمسك ابن بيليوس الترس منه بيده القوية، وقد تملكه الهلع؛ لأنه ظن أنه رمح أينياس - البعيد الظل - سرعان ما سيخترق الترس في سهولة ويسر. فما أحمقه! إذ لم يخطر بباله وقلبه أن الهدايا المجيدة التي تهبها الآلهة لا تتداعى بسهولة لقوة البشر. فلم يخترق رمح أينياس - الحكيم القلب - الترس؛ لأن الذهب أوقفه عند سطحه، ذلك الذهب هدية الرب. ومع أنه نفذ خلال طبقتين، إلا أن ثلاث طبقات ظلت باقية؛ لأن الرب الأعرج القدم كان قد لحم خمس طبقات؛ اثنتين من البرونز، واثنين تحتهما من القصدير، وطبقة من العسجد. ومن ثم توقف الرمح الدرداري.
عندئذ قذف أخيل رمحه العتيد بدوره، فأصاب ترس أينياس المتزن من كل جانب - تحت الحافة الخارجية - حيث كان البرونز رقيقا للغاية كما كان جلد الثور في أرق سمك له. وفي الحال مرق الرمح الدرداري البيلي، وجلجل الترس من شدة الضربة. فترنح أينياس وأبعد عنه الترس، وقد تملكه الخوف، فمرق الرمح فوق ظهره وانغرس في الأرض بكل قوته، رغم أنه شطر طبقتين واقيتين في الترس. وإذ نجا من الرمح الطويل، نهض وقد ران على عينيه أسى بالغ، وارتجف ذعرا من أن يكون الرمح قد انغرس قريبا جدا، ولكن أخيل استل حسامه البتار وانقض عليه في حمية، مطلقا صيحة رهيبة، وأمسك أينياس حجرا في يده، فيا له من عمل جبار! حجر لا يستطيع رجلان، من أمثال رجال اليوم، أن يحملاه. ومع ذلك فإنه لوح به وحده في يسر. وكاد أينياس في أثناء هجومه أن يهوي على أخيل بالحجر، فوق خوذته أو ترسه الذي دفع عنه الهلاك المفجع. وكاد ابن بيليوس أن يزهق روح أينياس بسيفه في عراك متشابك، لولا أن بوسايدون مزلزل الأرض، السريع الرؤية، قام في الحال، وتكلم وسط الآلهة الخالدين قائلا: «أيها الآلهة، أصغوا إلي، إنني جد حزين على أينياس العظيم الشجاعة، الذي سيذهب وحده إلى بيت هاديس، مقتولا بيد ابن بيليوس؛ لأنه أطاع كلام أبولو الذي يضرب من بعيد، فما أحمقه! إذ إن الرب لن يصد عنه الهلاك بأية حال، ولكن لماذا يجب عليه، وهو رجل بريء، أن يقاسي آلاما بسبب أخطاء ليست من صنع يده، وهو الذي يقدم دائما هدايا مقبولة للآلهة الساكنين السماء الفسيحة. هلموا بنا نقده بعيدا عن الموت، لئلا يغضب ابن كرونوس بطريقة ما، إذا ما قتله أخيل؛ لأنه مكتوب له أن ينجو، حتى لا يفنى نسل داردانوس، وتنقرض سلالته، داردانوس الذي أحبه ابن كرونوس أكثر من جميع أولاده الذين أنجبتهم له نساء البشر. فقد مقت ابن كرونوس أخيرا نسل بريام، وسيصبح أينياس القوي ملكا على الطرواديين، وكذا أحفاده الذين سيولدون في الأيام المقبلة.»
عندئذ ردت عليه هيرا الجليلة، ذات عيون المها قائلة: «يا مزلزل الأرض، فكر وحدك في قرارة نفسك في أمر أينياس، إذا كنت تريد إنقاذه أو تركه ليقتل بيد أخيل، رغم كل بسالته. فقد أقسمت - أنا وأثينا - كثيرا من الأيمان وسط جميع الخالدين، ألا ندفع عن الطرواديين يوم الشر، كلا، ولو احترقت طروادة كلها بالنار المدمرة، على يد أبناء الآخيين البواسل.»
فلما سمع بوسايدون - مزلزل الأرض - هذا، ذهب في طريقه إلى ميدان المعركة وقذف الرماح، وبلغ مكان أينياس وأخيل المجيد، وفي الحال أنزل غمامه على عيني أخيل بن بيليوس، وجذب الرمح الدرداري. المكسو بالبرونز من ترس أينياس البالغ الشجاعة ووضعه أمام قدمي أخيل. ثم حمل أينياس وطوح به بعيدا عن الأرض، فقفز أينياس فوق صفوف كثيرة من المحاربين، وعدة عربات - وقد رفعه الرب - حتى بلغ أقصى طرف للمعركة الطاحنة، حيث كان الكاوكونيس يعدون أنفسهم للقتال. عندئذ اقترب منه بوسايدون - مزلزل الأرض - وخاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «يا أينياس، أي رب هذا الذي أمرك دون تبصر، بأن تقاتل ابن بيليوس العظيم الشجاعة، وجها لوجه؟ إنه أفضل منك وأعز لدى الخالدين. كلا، يجب أن تتقهقر ، كلما التقيت به، لئلا تدخل منزل هاديس قبل أجلك. فإذا ما تقرر لأخيل أن يلقى أجله وحتفه جاز لك أن تتشجع وتقاتل وسط محاربي المقدمة، فليس هناك غيره من الآخيين يستطيع قتلك!»
وما إن قال هذا، حتى تركه هناك بعد أن قص عليه كل شيء. ثم أسرع بإزالة الغمام العجيب عن عيني أخيل. وعندئذ أخذ أخيل يتطلع حواليه بعناء، وخاطب نفسه البالغة الشجاعة قائلا: «ويحي، إن ما تراه عيناي لأعجوبة كبرى حقا! إن رمحي ملقى هنا على الأرض، ولكني لا أستطيع رؤية الرجل الذي صوبته نحوه، قاصدا قتله. ويبدو أن أينياس - كذلك - عزيز على الآلهة الخالدين فعلا، رغم أنني ظننت أنه كان يزهو عبثا. فليمض في طريقه، فلن يجد الشجاعة ليعاود اختبار قوتي مرة ثانية، بعد أن نجا من الموت، لحسن حظه. ولكن، لأستدع الدانيين المحبين للحرب، وأمض بسرعة ضد الطرواديين الآخرين لأعجم عودهم.»
مغامرات أخيل!
قال هذا، وانقض بطول الصفوف يصيح في كل رجل بقوله: «لا تقفوا - بعد الآن - بعيدا عن الطرواديين، أيها الآخيون العظماء، بل ليواجه كل رجل منكم رجلا منهم، بقلب يفيض تحمسا للقتال. فمن العسير علي - رغم ما أنا عليه من قوة - أن أقابل فوجا كبيرا كهؤلاء، وأقاتلهم أجمعين، بل إن أريس نفسه - رغم كونه إلها خالدا - وأثينا لا يستطيعان أن يتحكما في مثل هذا الصراع الطاحن، ولكني لا أظن أنني سأكون خاملا في استخدام يدي وقدمي وقوتي. كلا، لن أكون خاملا لحظة واحدة، بل سأخترق صفوفهم في الحال، ولست أعتقد أن من يحاول الاقتراب من رمحي من الطرواديين سيكون سعيدا!»
هكذا قال ليحثهم، فصاح هكتور المجيد في الطرواديين معلنا أنه سيذهب لتوه لمواجهة أخيل، فقال: «أيها الطرواديون، الشجعان القلوب. لا تخافوا ابن بيليوس، فقد استطعت بالألفاظ أن أناضل الخالدين أنفسهم، وإن تعذر هذا بالرمح لأنهم أقوى بكثير، إن أخيل لن يحقق كل قوله، ولكنه سيحقق جزءا منه، وسيبقى جزء آخر لا يتحقق. سأذهب لمواجهته فورا، رغم أن يديه شبيهتان بالنار، وحميته أشبه بالفولاذ اللامع!»
هكذا قال حاثا إياهم، فشهر الطرواديون رماحهم عالية، وهم يواجهون العدو. والتحم الفريقان متحمسين في فوضى، وعلت صيحة الحرب. وعندئذ اقترب أبولو من هكتور، وقال له: «أي هكتور، لا تقف بعد الآن بعيدا، كبطل ضد أخيل، بل انتظره وسط الحشد في صخب المعركة، خشية أن يصيبك برمية من رمحه، أو بسيفه في عراك متشابك.»
هكذا تكلم، وتقهقر هكتور ثانية إلى حشد الرجال، وقد تملكه الخوف عندما سمع صوت الرب يكلمه، أما أخيل، فقد انقض وسط الطرواديين، وقلبه متذرع بالقوة، مطلقا صيحة رهيبة. فقتل أولا أقيثيون المقدام، ابن أوترونتيوس - قائد الجيش العظيم - الذي أنجبته حورية نيارية لأوترونتيس - المخرب المدن - تحت تومولوس الجليدية، في أرض هودي الخصيبة. فقد أصابه أخيل العظيم - وهو يهجم عليه مباشرة - برمية من رمحه في رأسه، فشطره شطرين. وسقط بعنف، فتهلل أخيل العظيم قائلا: «ميتا ترقد يا ابن أوتونثيوس، يا أعظم الرجال هولا. ها هي ذي ميتتك، رغم أن مولدك كان بالقرب من البحيرة الجيجية، حيث ضيعة آبائك، بالقرب من هولوس الزاخرة بالأسماك، وهيرموس ذي الدوامات.»
هكذا قال مزهوا، بينما خيم الظلام على عيني الآخر. ومزقته عربات الآخيين إربا بعجلاتها في مقدمة المعركة، وسقط فوقه ديموليون بن أنتينور - حصن القتال الجريء - إذ طعنه أخيل في جبينه، خلال الخوذة ذات قطع الخدين البرونزية. ولم توقف الخوذة البرونزية الرمح، بل إن طرفه نفذ خلالها فشق العظم، نصفين، فتناثر المخ كله بداخلها، وظل أخيل في حميته، فما لبث أن طعن هيبوداماس في ظهره، وهو يقفز هابطا من عربته ليهرب أمامه. وبينما كان يلفظ آخر أنفاسه، أصدر صيحة مدوية، أشبه بالثور إذ يخور بينما يجره الشاب اليافع حول مذبح رب هيليكي،
3
إرضاء لمزلزل الأرض، هكذا أيضا جأر هيبوداماس، بمجرد أن بارحت روحه الجليلة عظامه. أما أخيل فانقض برمحه وراء بولودوروس الشبيه بالإله، ابن بريام. وكان أبوه لا ينفك يمنعه عن القتال؛ لأنه كان أصغر أولاده وأعزهم لديه، وكان يبز الجميع في سرعة القدمين. وكان في تلك اللحظة، يعرض سرعة قدميه - في رعونة صبيانية - وقد اندفع خلال المقدمة إلى أن فقد حياته. إذ طعنه أخيل العظيم السريع القدمين في ظهره برمية من رمحه، وهو ينقض مارا به، حيث كانت مشابك حزامه الذهبية قد التحمت بأطراف الدرقة، فنفذ طرف الرمح خلال هذه بجانب السرة. وجثا على ركبتيه يئن. وخيمت سحابة من الظلام عليه، وأمسك أحشاءه بيديه وهو يسقط.
وما إن رأى هكتور أخاه بولودوروس، ممسكا أحشاءه بيده وهو يتهالك على الأرض، حتى غشيت بصره غمامة، ولم يستطع السير بعد ذلك بعيدا بل خطا مسرعا نحو أخيل، ملوحا برمحه الحاد، في صورة أشبه باللهب، ولكن أخيل لم يكد يبصره، حتى قفز عاليا وقال بكبرياء: «عجبا، قريب هو الرجل الذي أوجع قلبي، دون الجميع؛ لأنه قتل صديقي الذي كنت أجله. لن يحجم أحدنا عن الآخر طويلا بعد الآن، بطول حواجز الحرب!»
قال هذا، وقطب حاجبيه غاضبا، وخاطب هكتور العظيم بقوله: «هيا، اقترب، حتى تصل سريعا إلى موارد الهلاك.»
فرد عليه هكتور - ذو الخوذة البراقة - غير هياب: «يا ابن بيليوس، لا تفكر في أن تخيفني بمحض الألفاظ كما لو كنت طفلا؛ إذ إنني أعرف مثلك كيف أوجه السباب والتعيير. وإني لأدرك أنك جسور، وأنك أفضل مني بكثير، ولكن علم هذه الأمور لدى الآلهة، ولعلي - رغم ضعفي - أسلبك الحياة برمية من رمحي؛ لأن رمحي قد أثبت - حتى الآن - أنه هو الآخر حاد.»
قال هذا، ووزن رمحه وقذفه، ولكن أثينا أرسلت ريحا أبعدته عن أخيل المجيد، فارتد عائدا إلى هكتور العظيم، وسقط أمام قدميه، ولكن أخيل انقض عليه هائجا يبغي قتله، وهو يصيح صيحة رهيبة. بيد أن أبولو خطف هكتور إلى فوق بسهولة بالغة - شأن الأرباب - وأخفاه في غمامة كثيفة. وانقض أخيل العظيم السريع القدمين - ثلاث مرات - برمحه البرونزي، وثلاث مرات راح يضرب الغمامة الكثيفة. ولما هجم عليه للمرة الرابعة وكأنه إله، صاح صيحة مدوية، وخاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «الآن تنجو من الموت ثانية - أيها الكلب - رغم أن حتفك قد اقترب منك حقا، ولكن أبولو أنقذك مرة أخرى. فعليك أن تصلي له، كلما ذهبت إلى مكان قذف الرماح. ولسوف أضع خاتمتك، عندما ألتقي بك بعد ذلك، إذا قدر لي أن يساعدني أي رب كما ساعدك. أما الآن فسوف أطارد كل من يعترض طريقي من الآخرين.»
وما إن انتهى من قوله ذاك حتى طعن دروبس فوق عنقه برمحه، فسقط أمام قدميه، ولكنه تركه مكانه، وأوقف عن القتال ديموخوس بن فيليتور - وهو رجل مقدام فارع الطول - بأن قذفه برمحه فوق ركبته، ثم أجهز عليه بسيفه الضخم. وبعد ذلك انقض على لاوجونوس وداردانوس - ابني بياس - وقذف بهما من العربة إلى الأرض، ضاربا أحدهما برمحه، والآخر بالسيف في قتال متشابك. وبعدها جاء طروس بن ألاسطور، فخر جانبا يمسك بركبتي أخيل، عسى أن يبقي على حياته ويأخذه أسيرا - دون أن يقتله - مشفقا على رجل في سنه. فما أحمقه! إذ لم يكن يدري بأن أخيل لا يصغي إلى توسلات أحد، ولم يكن بحال ما رحيم القلب أو عطوف النفس، بل كان غاية في القسوة، لقد حاول أن يمسك ركبتي أخيل بيديه، ويتوسل إليه، ولكن هذا ضربه بالسيف على كبده، فبرز الكبد خارجا، وتدفق الدم القاتم منه يملأ حجره، وخيمت الظلمة على عينيه، وهو مغشي عليه. ثم اقترب أخيل من موليوس، وضربه بالرمح فوق أذنه، وفي الحال نفذ طرف الرمح البرونزي خلال الأذن الأخرى. ثم أطاح - بسيفه ذي المقبض - برأس أيخيلوس بن أجينور، فتضرج النصل كله بالدم، وهبط القدر العتيد والموت الأسود على بصره. بعد ذلك طعن ديوكاليون - في موضع اتصال أعصاب المرفق - فنفذ طرف رمحه البرونزي خلال الساعد، وصمد ديوكاليون أمام هجمته بساعد مثقل إلى أسفل، فأطاح رأسه بعيدا بخوذته، وتناثر النخاع من السلسلة الفقرية، وظل جسمه ممددا فوق الأرض. ثم طارد ابن بيريس - المنقطع المثال - ريجموس القادم من تراقيا العميقة التربة، طعنه برمحه في وسطه، فاستقر البرونز في بطنه ، وسقط في الحال من فوق عربته، كما طعن خادمه أرايثوس، بينما كان يدير الجياد، فأصابه في ظهره بالرمح الحاد، وأوقعه من العربة، فانطلقت الجياد جامحة.
وكما تثور النار المتأججة خلال الوهاد العميقة، في جبل يحترق، وتشتعل الغابة الكثيفة، بينما تدفع الريح اللهب في كل مكان، هكذا أيضا هاج أخيل برمحه في كل موضع، أشبه برب من الأرباب، دائم الانقضاض على من يقتلهم. وتخضبت الأرض السوداء بالدماء. وكما يضع المرء النير فوق الثيران العريضة الجبين، لتطأ الشعير الأبيض في جرن منظم، وبسرعة ينفصل الحب تحت أقدام الثيران العالية الخوار، هكذا أيضا راحت جياد أخيل العظيم، القوية الحوافر، تطأ الموتى والدروع، وتلطخ محور العربة كله بالدم، وكذا إطارها، إذ تناثر رشاش الدم من بين أرجل الجياد، وعلى العجلات.
وهكذا شدد ابن بيليوس هجومه، ليفوز لنفسه بالمجد، وقد تخضبت بالدماء يداه اللتان لا تقهران.
الأنشودة الحادية والعشرون
وقف بريام الكهل فوق السور المقدس، فأبصر أخيل الضاري، والطرواديين يهزمون أمامه ... فهبط عن السور وهو يئن، صائحا في الحراس: «افتحوا الأبواب على مصاريعها!»
كيف كافح أخيل ضد النهر، وطارد الطرواديين إلى أبوابهم؟
أخيل بجانب النهر!
وعندما بلغوا مخاضة كسانثوس الكثير الدوامات - النهر الهادئ الجريان، الذي أنجبه زوس الخالد - قسمهم أخيل قسمين، فقاد أحدهما إلى السهل صوب المدينة - حيث كان الآخيون بالأمس يفرون في فوضى، وقت أن ثار هكتور المجيد - وإذ ذاك تدفق بعضهم إلى هناك في شغب، ونشرت «هيرا» أمامهم غمامة كثيفة لتعرقل سيرهم، فحبس نصفهم في النهر العميق الجريان بدواماته الذهبية وراحوا يرمون أنفسهم بصخب بالغ، ودوت مجاري المياه الراسية الانحدار، كما رددت الشواطئ المحيطة ضوضاء صياحهم وهم يسبحون في هذا الطريق وذاك، دائرين بسرعة في الدوامات، وكما يحدث عندما يطير الجراد أمام هجوم النار ليهرب إلى النهر، فتحرقه النار الهوجاء بهجومها المفاجئ ويفر الجراد هابطا إلى الماء، هكذا كانت الحال أيضا أمام أخيل، فقد غدا مجرى كسانثوس الصاخب، العميق الدوامات، زاخرا بالعربات والرجال، في فوضى واضطراب.
وترك الأمير رمحه فوق الشاطئ، مسندا إلى شجيرات الأثل الطرفاء، وقفز - في صورة الإله - غير ممسك إلا بسيفه، يهدف في قرارة نفسه إلى عمل بشع. فكان دائم الضرب وهو يدور في هذا الاتجاه وذاك، فيتصاعد من ضحاياه أنين فظيع، وهم يضربون بالسيف، وتخضب لون الماء بالدم. وكما تفر الأسماك أمام الدلفين الضخم فزعة، تملأ جوانب الميناء ذي المرساة البديعة - لأنه نهم في ابتلاع كل ما يقع في قبضته - هكذا أيضا ربض الطرواديون في مجاري النهر الهائل أسفل الشواطئ المنحدرة. ولما كلت يدا أخيل من القتل، اختار اثني عشر شابا حيا من داخل النهر، كضريبة دم من أجل صديقه المقتول - باتروكلوس بن مينويتيوس - فقادهم بعيدا، فاقدي الوعي، وكأنهم الظباء. وقيد أيديهم من خلف بسيور جميلة، كانوا يتمنطقون بها حول عباءاتهم المغضنة، وعهد بهم إلى أصدقائه ليقودهم إلى السفن الجوفاء، ثم قفز مرتدا من جديد وهو متلهف إلى القتل.
مصرع ليكاوون!
وإذ ذاك، قابل ليكاوون بن بريام الدرداني، يفر بعيدا عن النهر، وكان قد أسره ذات مرة، وأحضره رغم أنفه، إذ كان يقتطع أغصانا من شجرة تين، بالبرونز الحاد - في بستان كروم لأبيه - ليلا، ليصنع منها حواجز للعربة، ولكن أخيل العظيم انقض عليه، وكأنه هلاك غير مرتقب، وقبض عليه وأخذه في سفينته إلى ليمنوس المكينة البناء، حيث باعه، فتقدم ابن جاسون لشرائه. غير أن أيثيون الأمبروسي - وكان صديقا ضيفا - حرره بفدية ضخمة، وأرسله إلى أريسبي المقدسة. ومن هناك هرب خفية - في الحال - وذهب إلى منزل أبيه، حيث تمتع بالبهجة أحد عشر يوما وسط أصدقائه، بعد أن قدم من ليمنوس، ولكن أحد الآلهة قذف به في اليوم الثاني عشر إلى يدي أخيل ثانية. وكان مقدورا لهذا أن يرسله إلى منزل هاديس، رغم أنه كان يمقت الذهاب إليه.
وكان - حين فطن إليه أخيل العظيم، السريع القدمين - بغير سلاح قط؛ فلا خوذة ولا درع، ولا رمح، إذ كان قد خلع عنه كل هذه ورماها إلى الأرض؛ لأن العرق ضايقه وهو يحاول الهروب من النهر، كما أنهك التعب ركبتيه. عندئذ، تأثر أخيل أبلغ تأثر، وخاطب روحه العظيمة الشجاعة قائلا: «الآن تسكت، حقا. إن هذه لمعجزة كبرى تلك التي تراها عيناي! كأني بمن قتلتهم من الطرواديين البالغي الجرأة، سيصعدون ثانية من تحت الظلمة الرطبة، ما دام هذا الرجل يعود هكذا ثانية، وقد نجا من يوم الموت القاسي، رغم أنه بيع في ليمنوس المقدسة، ولم يوقفه عمق البحر الرمادي الذي يكبح جماح الكثيرين ضد إرادتهم. هيا، فليذق طرف رمحي، كي أرى وأدرك - في قلبي - ما إذا كان سيعود أيضا من تحت، أو أن الأرض المانحة الحياة - تلك التي تمسك حتى القوي - ستحتفظ به إلى الأبد!»
هكذا فكر في نفسه وانتظر، ولكن الآخر اقترب منه، يرجو لمس ركبتيه، وقد استبدت بقلبه رغبة جامحة في النجاة من الموت الشرير والقضاء الأسود. وإذ ذاك رفع أخيل العظيم رمحه الطويل عاليا، قاصدا ضربه، ولكن ليكاوون انحنى وجرى من تحت وأمسك ركبتيه بإحدى يديه، بينما أمسك الرمح الحاد بالأخرى فلم يسمح له قط بالانطلاق. وخاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «أناشدك الرحمة يا أخيل، زن موقفي واشفق علي، يا سليل زوس، فإني في موقف اللائذ بك، إذ سبق أن أكلت على مائدتك من غلال ديميتير، يوم أن أخذتني أسيرا في بستان الكروم الجيد التنسيق، وسقتني بعيدا عن أبي وأصدقائي، وبعتني في ليمنوس المقدسة، وجئتك بثمن قدره مائة ثور. أما الآن فإنني أشتري حريتي بثلاثة أضعاف ذلك المقدار، وهذا هو الصباح الثاني عشر منذ أن قدمت إلى طروادة المقدسة، بعد أن قاسيت عدة أهوال. وها هو ذا القدر المميت يسلمني ثانية إلى يديك. لا شك أن أبي زوس يمقتني؛ إذ أسلمني إليك ثانية، ولأجل قصير أنجبتني أمي ابنة ألتيس الشيخ، ملك الليجيس محبي القتال، الذين يحتلون بيداسوس العالية، فوق شواطئ الساتنيوس. فلقد تزوج بريام ابنته - ومعها كثيرات غيرها - ومنها أنجب ولدين، قدر لك أن تذبحهما معا؛ إذ إنك قتلت بولودوروس - الشبيه بالإله، وسط مشاة المقدمة - عندما ضربته برمحك الحاد، وها أنا ذا سألقى حتفي، فلا أظن أنني سأنجو من يديك، بعد أن ساقني إليك أحد الآلهة. ومع ذلك فسأخبرك بأمر لتحفظه في قلبك: لا تقتلني، حيث إنني لم أنحدر من نفس الرحم الذي انحدر منه هكتور، قاتل صديقك الرحيم الصنديد!»
هكذا توسل إليه ابن بريام المجيد، بعبارات الاستعطاف، غير أنه لم يتلق منه إلا صوتا فظا يقول: «صه، أيها الأحمق! لا تحدثني عن الفدية، ولا تلق علي خطبة. لقد كنت - حتى يوم مقتل باتروكلوس - أسر بأن أعتق الطرواديين، فقد أسرت كثيرا منهم وبعتهم أحياء عبر البحر. أما الآن، فلن ينجو من يدي كل من يسلمه الرب إلى يدي أمام أسوار طروادة، كلا، لن أرحم أحدا من الطرواديين. كلا، أيها الصديق، لتمت أنت أيضا! ولم تنتحب هكذا؟ لقد مات باتروكلوس، الذي هو أفضل منك بمراحل. ألا ترى أي نوع من الرجال أنا؟ ألست لطيفا وفارع الطول؟ أليس أبي سيدا خيرا، وأمي ربة؟ ومع ذلك فالموت والقدر القاسي معلقان فوقي. ولسوف يسلبني حياتي رجل ما في القتال، ذات فجر أو مساء أو ظهر، سواء برمية من الرمح، أو بسهم من القوس!»
هكذا تكلم، فارتخت ركبتا الآخر، وذاب قلبه. وأفلت رمح أخيل، وجلس وكلتا يديه مبسوطتان. فاستل أخيل حسامه البتار، وهوى به فوق عظمة الترقوة - بجانب عنقه - فغاب السيف ذو الحدين كله، وتمدد ابن بريام فوق الأرض، وقد تدفق الدم القاني منه فخضب الثرى. وإذ ذاك أمسكه أخيل من قدمه، وقذف به إلى النهر ليذهب، وقال متباهيا، بكلمات مجنحة: «ارقد هناك وسط الأسماك التي ستلعق الدم المتدفق من جرحك، دون أن تكترث بك، ولن يقدر لأمك أن تسجيك في تابوت وتبكيك، بل إن سكاماندر الزاخر بالدوامات، سيحملك إلى الخليج الفسيح. وسيقفز كثير من السمك - من بين الأمواج - ليأكل من لحم ليكاوون الأبيض. فلتهلكوا جميعا في فراركم، حتى نبلغ مدينة طروادة المقدسة، وأنا أعمل فيكم التقتيل من خلف. ولن يجديكم نفعا ذلك النهر الهادئ الجريان بدواماته الفضية، رغم أنكم - على ما أعتقد - قدمتم له كثيرا من الثيران، وقذفتم فيه بجياد حية، قوية الحوافر. فلسوف تهلكون - مع ذلك - بالقدر الشرير، حتى تدفعوا جميعا ثمن مقتل باتروكلوس، ونكبة الآخيين الذين قتلتموهم بجانب السفن السريعة، عندما كنت بعيدا عن ميدان القتال.»
هكذا قال، فازداد النهر غيظا في قلبه، وراح يفكر - في نفسه - كيف يمكنه أن يوقف أخيل العظيم، ويمنعه من أداء مهمته، ويبعد الهلاك عن الطرواديين. وفي الوقت نفسه، قفز ابن بيليوس حاملا رمحه الطويل الظل، وانقض على أستيروبايوس بن بيليجون، المولود من أكسيوس - الفسيح الجريان - وبيريبويا، كبرى بنات أكيسامينوس، إذ اضطجع معها النهر العميق الدوران. فهجم عليه أخيل، ووقف أستيروبايوس خارج النهر ليواجهه، حاملا رمحين، وقد بث كسانثوس الشجاعة في قلبه، نقمة منه من أجل الشبان الذين قتلوا في المعركة، والذين كان أخيل يعمل فيهم التقتيل بحذاء مجرى الماء، دون رحمة ولا شفقة. فلما اقترب كل منهما من الآخر، تحدث أخيل العظيم السريع القدمين، إلى أستيروبايوس، قائلا: «من من القوم أنت، يا هذا؟ ومن أين قدمت، حتى تجرؤ على مواجهتي؟ ما أتعس أولئك الذين يواجه أطفالهم قوتي!»
فأجابه ابن بيليجون المجيد: «لم تتحرى عن نسبي يا ابن بيليوس، البالغ الشجاعة؟ لقد جئت من باونيا - العميقة التربة، النائية - أقود الباونيين برماحهم الطويلة. وهذا هو الصباح الحادي عشر منذ أن قدمت إلى طروادة. أما نسبي فهو من أكسيوس، الفسيح الجريان، الذي تجري مياهه كأجمل مياه على ظهر البسيطة، والذي أنجب بيليجون المشهور برمحه. فهو أبي، على حد قول الناس، والآن هيا إلى القتال يا أخيل المجيد.»
هكذا تكلم مهددا، فرفع أخيل العظيم الرمح الدرداري البيلي. وإذ ذاك قذف المحارب أستيروبايوس رمحيه دفعة واحدة؛ لأنه كان ممن يستطيعون استخدام اليدين معا. فأصاب أحد الرمحين ترس أخيل، ولكنه لم يخترقه - إذ أوقفه الذهب، هدية الرب - وأصاب الرمح الآخر ساعد أخيل الأيمن بضربة قاطعة، فتدفق الدم الأسود خارجا. بيد أن طرف الرمح مرق وانغرس في الأرض، تواقا إلى إشباع نهمه باللحم. أما أخيل فرمى رمحه الدرداري المستقيم الطيران، صوب أستيروبايوس - يروم قتله - ولكنه أخطأ، وأصاب الساحل المرتفع، فانغرس الرمح هناك حتى منتصفه. وعندئذ استل ابن بيليوس، سيفه الحاد من جانب فخذه، وانقض عليه ثائرا. ولم يفلح الآخر في أن ينزع بيده القوية رمح أخيل الدرداري من الساحل. فلقد هز الرمح ثلاث مرات، وهو يتلهف إلى انتزاعه، وثلاث مرات فشل في محاولته. وفي المرة الرابعة اعتزم ثني الرمح الدرداري - رمح ابن أياكوس - ليكسره، ولكن أخيل سلبه الحياة بحسامه، قبل أن يتم ذلك. إذ ضربه في بطنه بجانب سرته، فخرجت جميع أحشائه إلى الأرض، وغشيت الظلمة عينيه، وهو يلهث ممددا. فوثب أخيل فوق صدره وجرده من أسلحته، وتهلل قائلا: «ارقد كما أنت، فمن العسير أن تتصارع مع أنسال ابن كرونوس العتيد، ولو كنت ابن نهر! إنك تجاهر بمولدك من نهر واسع الجريان، بينما أجاهر أنا بأنني من نسب زوس العظيم. إن الأب الذي أنجبني، ملك بين المورميدون العديدين، إنه بيليوس بن أياكوس، وأياكوس من نسل زوس. وكما أن زوس أقوى من الأنهار التي تهدر نحو البحر، فكذلك نسل زوس أقوى من نسل أي نهر. وها هو ذا نهر عظيم، جد قريب منك، ولكنه لن ينفعك. فليس لأحد أن يقاتل زوس بن كرونوس، أو يتحداه، ولو كان الملك أخيلوس، بل ولا أوقيانوس - العميق الجريان بقوته وجبروته - فإن هذا الذي تخرج منه سائر الأنهار وجميع البحار، وكل الينابيع والآبار العميقة، يخاف - هو الآخر - برق زوس العظيم، ورعده الرهيب عندما يدوي من السماء!»
قال هذا، وجذب رمحه البرونزي من الساحل، وترك أستيروبايوس حيث كان عندما أزهق روحه، مسجى على الرمال، وقد بللته المياه القاتمة. فأخذت الأسماك وثعابين الماء تنهش جسمه وتمزق اللحم حول كليتيه. أما أخيل فمضى في طريقه وراء البايونيين - سادة العربات - الذين كانوا لا يزالون يحتشدون في فوضى على طول النهر الدوام، مذ أبصروا خير رجل فيهم يتردى في قتاله مع ابن بيليوس، بيديه وسيفه. وما لبث أن قتل منهم ثيرسيلوخوس، ومودون وأستوبولوس، ونيسوس، وثراسيوس وأينيوس وأوفيلستيس، ومع ذلك فقد كان في مقدور أخيل السريع، أن يقتل عددا أكبر من البايونيين، لولا أن النهر العميق الدوامات غضب غضبا شديدا، وناداه في صورة رجل، مصدرا صوتا من جوف إحدى الدوامات العميقة، قائلا: «أي أخيل، إنك لتفوق البشر قوة وشرا، إذ تمدك الآلهة بالمساعدة على الدوام. وإذا كان ابن كرونوس قد منحك الحق في أن تقتل جميع الطرواديين، فلا تقذف بهم في مجراي - على الأقل - بل أنجز عملك الفظيع فوق السهل. فلقد امتلأ حوضي الجميل بجثث القتلى، فلم أعد أستطيع أن أوفق في صب مياهي في البحر اللامع، إذ أصبحت مخنوقا بالموتى، بينما تمضي أنت في القتل دون رحمة ولا هوادة. كلا. كف عن ذلك، فإن العجب يتملكني، يا قائد الجيوش!»
فأجابه أخيل السريع القدمين، قائلا: «ليكن ما تقول يا سكاماندر، يا سليل زوس! ولكني لن أكف عن قتل الطرواديين المتغطرسين إلا بعد أن أحبسهم في مدينتهم، وبعد أن أجرب حظي مع هكتور وجها لوجه، فإما قتلني أو قتلته!»
صراع بين أخيل وسكامندر!
وما إن قال هذا حتى قفز على الطرواديين كأنه إله. وعندئذ تحدث النهر العميق الدوامات إلى أبولو قائلا: «ويحك يا رب القوس الفضية، يا ابن زوس، إنك لم تطع كلام ابن كرونوس، الذي أمرك بالوقوف فورا إلى جانب الطرواديين ومساعدتهم، حتى ساعة متأخرة من المساء، عندما تنتشر الظلمة على الأرض العميقة التربة.»
هكذا تكلم، فنهض أخيل - المشهور برمحه - من الشاطئ وقفز إلى وسطه. ولكن النهر هجم عليه بفيضان صاخب، وأثار جميع مجاريه المائية في صورة عجاجة، واكتسح أمامه الموتى الكثيرين الذين قتلهم أخيل، وكانوا يرقدون في قاعه، فقذف بهم إلى البر، وهو يخور أحيانا كأنه ثور، أما الأحياء فقد أنقذهم تحت المجاري المائية الهادئة، بأن أخفاهم في الدوامات العميقة الواسعة. وشرعت اللجج الصاخبة ترتفع عاليا حول أخيل بصورة فظيعة، ودفعه التيار إلى الخلف وهو يتلاطم فوق ترسه، فلم يفلح أخيل في الوقوف ثابتا على قدميه، وتعلق بشجرة دردار سامقة، جميلة الشكل، فانخلعت من جذورها وسقطت، فمزقت الضفة كلها، وامتدت عبر المجاري الهادئة بأغصانها الغليظة، وسدت النهر نفسه، وقد سقطت بطولها في داخله. أما أخيل فوثب خارج الدوامة وأسرع يهرب بقدم سريعة عبر السهل، إذ تملكه الخوف. ومع ذلك فلم يكف الرب العظيم عنه، بل لاحقه بموجة دكناء القمة، ليوقفه عن غايته، ويمنع الهلاك عن الطرواديين. ولكن ابن بيليوس ارتد إلى الوراء - قاب رمح - بسرعة النسر الأسود، ذلك الصياد العتيد، أقوى وأسرع الكائنات المجنحة. فانقض مثله، والبرونز يجلجل عاليا فوق صدره، وهو يفلت من تحت الفيضان ويفر إلى الأمام باستمرار، فيجد النهر مقتفيا أثره ومتدفقا بخرير قوي. وكما يحدث عندما يحفر الرجل - الذي يتحكم في مجرى الماء المتدفق من ينبوع رطب - قناة بين نباتاته وأقسام حدائقه، فيمسك الفأس في يديه، ويزيل العوائق من القناة، ليتدفق الماء فيكتسح معه جميع الحصى الموجود في قاعها، وينساب بسرعة إلى الأمام، بهدير إلى أسفل موضع منحدر، مستبقا كل ما يصادفه، حتى ذلك الذي تحكم فيه، هكذا أيضا، لحق طوفان النهر بأخيل - رغم ما كان عليه من سرعة القدم - لأن الآلهة أقوى من البشر. وكلما صارع أخيل العظيم السريع القدمين، كي يقف ضده، ويعلم ما إذا كان جميع الخالدين - الذين يحتلون السماء الفسيحة - يتعقبونه، ضربه الطوفان العظيم لهذا النهر المقدس فوق كتفيه. فكان يثب عاليا ما استطاعت قدماه بينما كان النهر يلاحق ركبتيه بتدفقه العنيف تحته، ويزيل الأرض تحت قدميه. عندئذ صرخ ابن بيليوس صرخة مريرة، واتجه ببصره نحو السماء الفسيحة وقال: «أبتاه زوس، أما من إله يتكفل بإنقاذي من النهر في محنتي القاسية هذه؟ ليحدث لي بعد ذلك ما يحدث، فلست ألوم كثيرا أيا من آلهة السماء، عدا أمي العزيزة التي خدعتني بمعسول الألفاظ، قائلة بأنني سوف أهلك بواسطة سهام أبولو السريعة، تحت سور الطرواديين المدرعين. ليت هكتور قتلني؛ فهو خير الرجال الذين تربوا هنا، عندئذ يكون قاتلي رجلا شجاعا، وقد قتل رجلا شجاعا مثله. أما الآن فهل كتبت لي هذه الميتة التعيسة، حبيسا في هذا النهر العظيم، أشبه براعي الخنازير يجرفه التيار بعيدا وهو يحاول عبوره في الشتاء؟!»
وما إن قال هذا، حتى اقترب بوسايدون وبالاس أثينا فوقفا إلى جانبه ، متنكرين في صورة البشر، وأمسكا يديه بأيديهما، ووعداه بالألفاظ. وكان بوسايدون - مزلزل الأرض - هو أول من تكلم قائلا: «لا ترتعدن - يا ابن بيليوس - أكثر مما يجب ، ولا تخافن إطلاقا، فكل منا - أنا وبالاس أثينا - مساعد لك من لدن الآلهة، إذ وافق زوس على هذا. إذ إنه غير مقدر لك أن تموت بوساطة نهر. بل إن النهر لن يلبث أن يتراجع، وستشعر بذلك من تلقاء نفسك، ولكننا سنمنحك النصح إذا ما قبلته. فلا تكف يديك عن القتال الشرير إلا بعد أن تحصر الجيش الطروادي، وكل هارب، داخل أسوار طروادة الشهيرة. أما أنت فعد إلى السفن بعد أن تزهق روح هكتور، وحينئذ نمنحك المجد.»
وما إن قالا هذا، حتى انصرفا إلى الخالدين، بينما اتجه أخيل صوب السهل، إذ أثاره كلام الإلهين. وكان السهل كله يفيض بطوفان من الماء، يطفو فوقه الكثير من الأسلحة العظيمة وجثث الشبان الذين تردوا في القتال. وأخذت ركبتا أخيل تقفزان عاليا، وهو يناضل ضد الطوفان، فلم يستطع النهر الواسع الجريان أن يوقفه؛ لأن أثينا وضعت فيه قوة عظيمة. ومع ذلك، فلم يكن لسكاماندر أن يهدئ من ثورته، بل إنه ازداد غيظا ضد ابن بيليوس، فرفع نفسه عاليا، وجعل أمواج طوفانه تعلو شاهقة. وصاح على سيمويس قائلا: «أخي العزيز، هلم بنا نكبح قوة هذا الرجل؛ إذ إنها تحتاج إلى كلينا معا، وإلا فإنه لن يلبث أن يخرب مدينة الملك بريام العظيمة، ولن يصمد الطرواديون أمامه في المعركة. هيا، قدم لي يد العون بسرعة، واملأ مجاريك بالماء من الينابيع، وأثر جميع تياراتك، وأرسل موجة ضخمة، وأطح بالأشجار والأحجار في صخب هائل، حتى نكبح جماح هذا الرجل العنيف، الذي له الغلبة الآن، وفي نيته أن يتحدى حتى الآلهة، إني لأعتقد أن قوته لن تجديه نفعا، ولا رقته، بل تلك الحلة المدرعة التي أحسبها ستستقر في أعماق البحر، تغطيها الأوحال، أما هو نفسه فسوف أطويه في الثرى، وأصب فوقه كمية ضخمة من الحصباء، لا حد لها ولا حصر، فلا يعرف له الآخيون مقرا حتى لا يجمعوا عظامه. في مثل هذا العمق من الطمي سوف أخفيه. وسيكون قبره هنا، ولن تكون به حاجة إلى أكمة متراكمة، عندما يشيع الآخيون جنازته!»
قال هذا، وهجم على أخيل في عنف، هائجا مائجا، يغلي بالزبد والدم والموتى من الرجال، وارتفع الطوفان القاتم للنهر المقدس يحلق فوقه، وكان على وشك أن يتغلب على ابن بيليوس، لولا أن «هيرا» صاحت عاليا، وقد تملكها الخوف على أخيل، خشية أن يجرفه النهر البالغ العمق الكثير الدوامات. فتحدثت في الحال إلى ابنها العزيز هيفايستوس قائلة: «انهض يا بني، أيها الأعرج القدم! إن كسانثوس يقف على الدوام ضدك في القتال. هيا احمل المعونة بسرعة، وأشعل نيرانك العديدة، بينما أسرع أنا فأثير من البحر هبة عنيفة للريح الغربية والجنوبية البيضاء، تبتلع جميع الطرواديين بين الأموات وعددهم الحربية؛ إذ تدفعهم باستمرار إلى النيران الشريرة. كذلك فلتحرق الأشجار بطول شاطئ كسانثوس، وتضرم فيها النيران، ولا تدعه بحال ما يردك على عقبيك برقيق الألفاظ أو بالتهديدات. ولا تكف عن هيجانك إلا عندما أصيح عليك، فعندئذ فقط يكون لك أن توقف نيرانك المتأججة.»
صراع بين الآلهة!
هكذا تكلمت، فأعد هيفايستوس نارا شديدة اللهب. وشبت النار أولا فوق السهل، فأحرقت الموتى العديدين هناك، وقد صرعهم أخيل وجف السهل كله، وتوقفت المياه المتلألئة. وكما يحدث في موسم الحصاد - عندما تجفف الريح الشمالية بسرعة بستانا حديث الري، فيسعد حارثه - كذلك صار السهل كله جافا، وباد الموتى عن آخرهم. ثم حول هيفايستوس نيرانه المتوهجة ضد النهر، فاحترقت أشجار الدردار والصفصاف والطرفاء، كما احترقت نباتات اللوتس والحلفاء والجلنجان البري، النامية بكثرة حول مجاري النهر الهادئة. ولاقت ثعابين الماء والأسماك الأهوال في الدوامات وفي المجاري الهادئة، فراحت تقفز في هذا الاتجاه وذاك، شديدة الاضطراب من جراء هبة هيفايستوس الكثير الحيل، كما احترق النهر العتيد كذلك، فتكلم وخاطب الرب بقوله: «أي هيفايستوس، لا أحد من الآلهة يستطيع أن يتحداك، ولن أقاتلك مشعلا بالنار كما أنت الآن. كف عن الصراع! أما الطرواديون، فدع أخيل العظيم يطردهم في الحال من مدينتهم، فأي شأن لي في الصراع أو في تقديم المعونة؟!»
هكذا قال، وهو في الوقت نفسه يحترق بالنار، إذ كانت مجاريه الصافية تغلي ، كما تغلي القدر من الداخل، عندما تتسلط عليها النار المستعرة وهي تصهر شحم خنزير مسمن، فتغلي في جميع أجزائها، والنار من تحتها تتلقى غذاء من الأحطاب الجافة، هكذا أيضا احترقت مجاريه الصافية، وأخذت المياه تغلي. ولم يعتزم المضي في التدفق إلى الأمام أكثر من ذلك، بل توقفت لأن لفحة قوة هيفايستوس الحكيم القلب أزعجته. عندئذ صلى على عجل إلى «هيرا» بكلمات مجنحة، قائلا: «أي هيرا، لم هاجم ابنك مجراي ليكون أشد تنكيلا به من سواه! لست أرى أني أخطأت كغيري ممن يساعدون الطرواديين. ومع كل فسأكبح جماح نفسي، إذ أمرتني بهذا، كما تأمرينه بأن يكف عن ثورته. وفوق ذلك، سأقسم بألا أمنع الشر عن الطرواديين، ولو احترقت طروادة بالنار الفتاكة، على يد أبناء الآخيين البواسل.»
فلما سمعت الربة هيرا البيضاء الساعدين هذا التوسل، خاطبت في الحال ابنها العزيز هيفايستوس، قائلة: «أي هيفايستوس، كف عن الإيذاء يا ولدي المجيد، فلا يليق أبدا أن تضرب ربا خالدا هكذا، من أجل خاطر البشر!» فما إن قالت هذا، حتى أخمد هيفايستوس نيرانه المتأججة فعاد الطوفان يتدفق من جديد في قاع نهر هادئ.
وإذ خمدت ثورة كسانثوس. هدأ الاثنان، لأن هيرا أوقفتهما، رغم غضبها. بيد أن الصراع نشب ثقيلا مفجعا بين الآلهة الآخرين. فهبت أرواحهم الكامنة في صدورهم، في اتجاهات شتى، والتحموا بطنين قوي، فجلجلت الأرض الفسيحة، ودوت السماء العظيمة من كل صوب كما لو كانت تنفخ في بوق، وسمع زوس صخبهم - وهو جالس فوق أوليمبوس - فضحك قلبه في صدره طربا؛ إذ شاهد الآلهة يشتبكون في القتال، ولم يقف واحد منهم بعيدا عن الصراع إذ ذاك. فقد بدأ أريس - الذين يطعن التروس - الصراع، فانقض أولا على أثينا - شاهرا رمحه البرونزي، ونطق بعبارات السباب قائلا: «يا ذبابة الكلب، لم جعلت الآلهة تشتبك في القتال، بجرأتك التي تدفعك إليها روحك المتعجرفة ؟ ألا تذكرين يوم حملت ديوميديس بن توديوس على أن يجرحني، وأمسكت بنفسك الرمح على مرأى من الجميع، وصوبته نحوي فمزقت لحمي الرقيق؟ أعتقد الآن أنك ستدفعين ثمن ما فعلت فادحا!»
قال هذا، وضرب ترسها ذا الأهداب، الترس الجبار الذي لا يستطيع برق زوس ذاته أن يقهره. فقد أطلق عليه أريس - الملطخ بالدماء - رمحه الطويل، فتراجعت إلى الوراء والتقطت بيدها القوية حجرا ملقى فوق السهل، أسود ضخما مسننا، كان قدامى البشر قد وضعوه حدا فاصلا لحقل. وضربت به أريس الثائر فوق عنقه، فأرخت أطرافه. فتمدد على مساحة سبعة قراريط في سقطته، وتغبر شعره بالثرى، وصلصلت حلته الحربية من حوله. وعندئذ انفجرت بالاس ضاحكة ملء شدقيها، وازدهت بكلمات مجنحة، قائلة: «يا لك من أحمق! ألا تعرف حتى الآن أنني أقوى منك، فتقارن قوتك بقوتي. بهذه الطريقة تسر ربات الانتقام اللواتي تبتهل إليهن أمك الغاضبة، وهي تحيك الشر ضدك، لأنك تخليت عن الآخيين وقدمت المعونة للطرواديين المتعجرفين.»
قالت هذا، وأدارت عينيها النجلاوين عن أريس. فأمسكت «أفروديت ابنة زوس» يده، وحاولت أن تقوده بعيدا، وهو يئن ويتوجع، وقد عجز، عن أن يستجمع شجاعته من جديد. فلما فطنت الربة هيرا البيضاء الذراعين إلى ما حدث، تحدثت إلى أثينا بكلمات مجنحة قائلة: «ويحك، يا ابنة زوس - حامل الترس الذي لا يكل - ما أعجب أن تقود ذبابة الكلب هذه، أريس - جالب الهلاك للبشر - بعيدا عن ساحة الوغى، وسط الجموع. هيا، وراءها!»
وما إن قالت هذا، حتى أسرعت أثينا تطاردها، مسرورة القلب. وانقضت على أفروديت فضربتها بيدها القوية على صدرها، فارتعدت ركبتاها، وغاص قلبها، فرقد الاثنان على الأرض الفسيحة، وأخذت أثينا تزهو بكلمات مجنحة قائلة: «سيكون على هذه الحال كل من يساعد الطرواديين، عندما يقاتلون ضد الأرجوسيين المدرعين، بمثل هذه الشجاعة التي عمدت بها أفروديت إلى مساعدة أريس، مجترئة على قوتي. فلولا أولئك لكففنا عن الحرب قبل الآن بمدة طويلة، ولاجتحنا طروادة، المدينة العامرة بالسكان!»
هكذا تكلمت، فابتسمت لذلك الربة هيرا، الناصعة الذراعين، ولكن الملك بوسايدون - مزلزل الأرض - تحدث إلى أبولو قائلا: «أي فويبوس لماذا يقف كلانا بعيدا عن الآخر، لا ينازله؟ هذا لا يليق، بعد أن بدأ الآخرون. فيا له من عار أن نعود دون قتال إلى أوليمبوس، إلى منزل زوس ذي العتبة البرونزية! فلتبدأ - ما دمت أنت الأصغر - إذ ليس لي أن أبدأ لكبر سني، ولأنني أكثر منك معرفة. ما أحمقك، وما أجمل قلبك! ألا تذكر جميع الآلام التي قاساها كلانا في طروادة، من دون جميع الآلهة عندما ذهبنا بناء على أمر زوس، وخدمنا الملك لاوميدون مدة عام، لقاء أجر معين، وكان هو سيد أعمالنا الذي نأتمر بأمره. لقد بنيت للطرواديين سورا عريضا جميلا حول مدينتهم، يمنع عنها الدمار، وأنت يا فويبوس، قد رعيت الأبقار النحيلة، ذات المشية المتثاقلة وسط ممرات أيدا المعشوشبة، الكثيرة الأخاديد. فلما جاء عهد الرخاء، أنهى مدة عملنا، وسلبنا لاوميدون الفظيع كل أجرنا، وطردنا مهددا متوعدا، بأن يقيد أرجلنا وأيدينا، ويبيعنا في جزر نائية، وتظاهر بأنه سيقطع آذاننا بالبرونز، فرجعنا غاضبين، متحسرين على الأجر الموعود الذي لم يعطنا إياه! أفتبدي الآن العطف على قومه، ولا تؤمن معنا بأن أولئك الطرواديين المتغطرسين، لا بد أن يهلكوا هلاكا شاملا، مع أطفالهم وزوجاتهم المبجلات؟»
فأجابه أبولو، الذي يضرب من بعيد: «يا مزلزل الأرض، يحق لك أن تعتبرني سقيم العقل إذا حاربتك من أجل البشر، أولئك المخلوقات التعيسة الشبيهة بأوراق الأشجار، تفيض حياة جياشة، تأكل ثمار الحقل تارة، وتذوي وتهلك تارة أخرى. هلم بنا، نعرض عن الصراع، ولنتركهم في قتالهم!»
وإذ قال هذا، استدار ليعود أدراجه، وقد خجل من أن يقاتل شقيق أبيه. بيد أن شقيقته أرتيميس - ذات الغابة الوحشية، ملكة الحيوانات المفترسة - أخذت تعنفه بشدة، وترميه بعبارات السباب قائلة: «يا للعار أيها الرب الذي يصيب من بعيد! أتهرب من المعركة تاركا النصر كلية لبوسايدون، مانحا إياه المجد لقاء لا شيء؟! ما أحمقك! لم تحمل إذن قوسا لا فائدة منها كالريح؟ لا تفخر أمامي - بعد الآن - في قصر أبي، كما سبق لك وسط الآلهة الخالدين، بأنك لن تلاقي بوسايدون في عراك علني.»
هكذا قالت، ولكن أبولو - الذي يصيب من بعيد - لم يحر جوابا. فاستشاطت زوجة زوس المبجلة حنقا، وعيرت الملكة القواسة، بكلمات السماء، فقالت: «أيتها الوقحة، لم تتلهفين الآن على الوقوف ضدي؟ إنني لست بالعدو السهل، الذي تستطيعين تحديه في القوة، بالرغم من القوس التي تحملينها، ومن أن زوس جعلك كالأسد ضد النساء، ومنحك القوة لتقتلي من تشائين منهن. وإنه لخير لك أن تمارسي هذا الحق في الجبال، فتقتلي الحيوانات المفترسة والغزال البري، بدلا من مقاتلة من هم يبزونك قوة. وإن راقك، فلتتعلمي من الحرب، حتى تعرفي تماما أنني أقوى منك، وأن ليس لك أن تقارني قوتك بقوتي!»
قالت هذا، وأمسكت يدي غريمتها من الرسغين، بيدها اليسرى، وتناولت القوس من فوق كتفها، وأعدتها بيمناها، وضربتها - وهي تبتسم - بجانب أذنها، فاستدارت في هذا الاتجاه وذاك، وسقطت السهام السريعة خارج الجعبة، وولت الربة هاربة تبكي، كما تطير اليمامة من أمام البازي إلى صخرة جوفاء - إلى كهف - حتى لا تقع في الأسر، هكذا أطلقت أرتيميس العنان لقدميها، باكية، وتركت قوسها وسهامها حيث كانت. فتحدث الرسول - قاتل الأرجوسيين - إلى ليتو، قائلا: «لست أنا الذي سيقاتلك بأية حال، فما أشق تبادل الضربات بين زوجات زوس، جامع السحب، إنك تباهين في جرأة - وسط الآلهة الخالدين - بأنك هزمتني بقوتك الفائقة.»
وبعد أن قال هذا، جمعت ليتو القوس والسهام التي سقطت في الثرى هنا وهناك. ثم ابتعدت حاملة قوس ابنتها وسهامها، بينما انطلقت العذراء إلى أوليمبوس، إلى منزل زوس ذي العتبة البرونزية، وجلست تنتحب فوق ركبتي أبيها، وقد اهتز ثوبها المعطر من حولها. فجذبها والدها - ابن كرونوس - إليه، وسألها وهو يبتسم في رفق، فقال: «بنيتي العزيزة، من من أبناء السماء أساء معاملتك الآن، وكأنك اقترفت إثما أمام الجميع؟» فأجابته الصيادة - ذات التاج الجميل المدوي - بقولها: «ضربتني زوجتك يا أبتاه، هيرا البيضاء الساعدين، التي نشب الصراع والنزاع بين الخالدين بسببها!»
أخيل يقاتل أمام طروادة!
هكذا تحدث كل منهما إلى الآخر، ولكن «أبولو» دخل طروادة المقدسة إذ خشي على سور المدينة القوية البناء، أن يعجل الدانيون بيوم القضاء، فيهدموه في ذلك اليوم. وذهب الآلهة الآخرون إلى أوليمبوس، بعضهم غاضب حانق، والبعض الآخر متهلل. وجلسوا بجانب أبيهم، ملك السحب القاتمة. أما أخيل فكان لا يزال يعمل التقتيل في الطرواديين وجيادهم القوية الحوافر. وكما تحترق مدينة، ويتصاعد دخانها إلى عنان السماء الفسيحة. وقد غضب الآلهة فعملوا على زيادة اشتعالها، وتكبيد الكثيرين التعب والأحزان، كذلك هكذا سبب أخيل التعب والآلام للطرواديين!
ووقف بريام الكهل فوق السور المقدس، فأبصر أخيل الضاري، والطرواديين يهزمون أمامه في فوضى ثائرة. ولم تكن هناك أية معونة، فهبط عن السور إلى الأرض وهو يئن، صائحا في حراس الأبواب الأمجاد، المصطفين بطول السور: «افتحوا الأبواب بأيديكم، على مصاريعها، حتى يدخل القوم في شغبهم إلى المدينة. فيا للخزي! إن أخيل قريب، يدفعهم أمامه. وإني لأرى أنه سيفتك بهم. أما إذا احتشدوا وراء السور، وتمالكوا أنفاسهم فأغلقوا الأبواب المزدوجة خلفهم بإحكام، إذ أخاف أن يقفز هذا المخرب إلى داخل السور!»
هكذا قال، ففتحوا الأبواب ونزعوا عنها المزاليج، فلما فتحت على مصاريعها كتبت لهم النجاة. وانقض أبولو فورا أمام أخيل، ليدفع الهلاك عن الطرواديين، وهم يفرون إلى المدينة، وراء السور الشاهق، وأجوافهم تحترق من شدة الظمأ، وقد اغبرت رءوسهم من أتربة السهل، وأخيل يضيق عليهم الخناق برمحه، في ثورة هائجة، إذ كان يتوق بعنف إلى الفوز بالمجد.
عندئذ كاد أبناء الآخيين أن يستولوا على طروادة الشاهقة الأبواب، لولا أن «أبولو» حرض أجينور العظيم، ابن أنتينور - ذلك المحارب الباسل قريع دهره - وبثت الشجاعة في قلبه، كما وقف هو نفسه إلى جانبه، ليدفع عنه أيدي الموت الثقيلة، فاستند إلى شجرة بلوط، مطوقا بغمامة كثيفة. فلما فطن أجينور إلى أفعال أخيل - المخرب المدن - وقف، وأخذ يفكر في قلبه، في عدة أمور شريرة، وهو ينتظره. وإذ كان مبلبل الخاطر، راح يتحدث إلى روحه العظيمة الشجاعة قائلا: «الويل لي، لو هربت أمام أخيل العتيد، إلى حيث يهرب الآخرون في شغب، فإنه سيلحق بي ويقتلني في جبني! ولكن، ماذا لو تركت هؤلاء يفرون أمام أخيل بن بيليوس، ثم أفر أنا من السور إلى مكان آخر، صوب السهل الأيلي، حتى أصل إلى وهاد ممرات أيدا، فأختفي في الأدغال؟ وعند المساء، بعد أن أغتسل في النهر، وأرطب نفسي من العرق، أعود ثانية إلى طروادة، ولكن لماذا يحدثني قلبي هكذا؟ إنه قد يراني، وأنا أستدير بعيدا عن المدينة صوب السهل، فينطلق ورائي، ويلحق بي لسرعة قدميه. وحينئذ لن أستطيع النجاة من الموت وسوء المصير؛ لأنه أقوى من سائر البشر. وماذا لو قابلته أمام المدينة؟ فمن الممكن، على ما أعتقد، اختراق جسمه بالبرونز الحاد، إذ ليس فيه إلا حياة واحدة، وما هو غير إنسان، ولكن زوس بن كرونوس، يهبه المجد!»
وما إن قال هذا، حتى استجمع نفسه لمواجهة هجوم أخيل، وتلهف قلبه الجريء إلى خوض غمار الحرب والقتال، وكما تخرج أنثى النمر من الدغل الكثيف لتواجه صيادا، جريئة غير خائفة، لا تهرب عند سماع نباح الكلاب، ورغم أن الصياد قد يسبقها فيضربها بطعنة أو برمية، إلا أنها وهي مطعونة بالرمح لا تكف عن هيجانها إلى أن تقبض عليه أو تقتل هي، هكذا كان أجينور العظيم، ابن أنتينور المجيد، إذ رفض الهجوم حتى يعجم عود أخيل، حاملا ترسه المتزن جيدا من كل جانب أمامه، وسدد رمحه نحو أخيل، وهو يصيح قائلا: «لعلك - كما أعتقد حقا - تأمل في قرارة نفسك، يا أخيل المجيد، أن تخرب مدينة الطرواديين الأمجاد في هذا اليوم. ويا لك من أحمق! فما زالت هناك آلام جمة دونها. فنحن بداخلها جمع غفير من الرجال الشجعان، نقف أمام آبائنا وزوجاتنا وأبنائنا، لنحمي طروادة، أما أنت فستلقى حتفك هنا، رغم فروسيتك وجرأتك البالغتين.»
قال هذا، وأطلق الرمح الحاد من يده الثقيلة، فأصابه فوق قصبة رجله أسفل الركبة، ولم يخطئه، فجلجلت عاليا، الدرقة المصنوعة حديثا من القصدير ولكن البرونز ارتد عنه، ولم ينفذ إلى جسمه؛ لأن هدية الرب أوقفته. وإذ ذاك انقض ابن بيليوس - بدوره - على أجينور الشبيه بالإله. بيد أن أبولو لم يمكنه من كسب المجد، بل اختطف أجينور بعيدا، وأخفاه في غمامة كثيفة، وبعث به بعيدا عن الحرب ليذهب في طريقه سالما. على أن أبولو - بالدهاء والخداع - احتفظ بابن بيليوس بعيدا عن القوم، إذ صور نفسه في صورة أجينور - في كل شيء - ووقف الرب الذي يصيب من بعيد، فهجم أخيل عليه بسرعة ليطارده. وبينما هو يطارده عبر السهل الزاخر بالقمح، انحرف به صوب نهر سكاماندر العميق الدوامات، وهو لا يسبقه بغير مسافة قصيرة - فقد خدعه أبولو بأن أثار أمله في أن يلحق به في الجري - بينما كانت بقية الطرواديين تتدفق مهرعة على المدينة - في تلك الأثناء - في جموع تزاحمت في سرور، حتى امتلأت بهم المدينة، ولم يجرؤ أحد منهم على البقاء خارج الأسوار، ليعرف من قد نجا في القتال. ومن الذي لقي مصرعه، وإنما تدفقوا إلى داخل المدينة بأسرع ما استطاعت أن تحملهم أقدامهم.
الأنشودة الثانية والعشرون
«... وابتكر معاملة مزرية لهكتور العظيم، فشق طنب كلتا قدميه من الخلف - من العقب إلى مفصل الكعب - وربط فيها سيورا، ووصلها بعربته، تاركا الرأس على الأرض، ثم انطلق بالعربة ...»
كيف حارب أخيل ضد هكتور، وقتله، وحمل جثته إلى السفن؟
هكتور أمام أسوار طروادة!
تزاحم الطرواديون داخل المدينة في شغب - كأنهم الغزلان - وراحوا يجففون عرقهم، ويشربون ليطفئوا ظمأهم، وهم يستريحون فوق الشرفات الجميلة، بينما يقترب الآخيون من السور حاملين التروس على أكتافهم، ولكن القدر المميت أوقع هكتور في حبائله، فبقي في مكانه أمام طروادة والأبواب السكايية. وتحدث أبولو إلى ابن بيليوس، قائلا: «لم تطاردني يا ابن بيليوس، بأقدام سريعة، وما أنت سوى بشر، بينما أنا إله خالد؟ أفلم تعرف بعد أنني إله، فأنت تعنف في نضالك؟ أفلست ترعى حدود جهادك ضد الطرواديين الذين أرهبتهم فاعتصموا الآن داخل المدينة، فجئت إلى هنا؟ إنك لن تقتلني بحال ما، لأنني لست ممن كتب عليهم الموت!»
فخاطبه أخيل السريع القدمين، غاضبا، بقوله: «لقد غررت بي، أيها الرب الذي يضرب من بعيد، يا أقسى جميع الآلهة، إذ استدرجتني إلى هذا المكان بعيدا عن السور، وإلا لتخبط رجال كثيرون على الأرض، ولما وصلوا إلى طروادة قط. ولقد سلبتني الآن المجد العظيم، وأنقذتهم بسهولة بالغة؛ لأنك لا تخشى الانتقام فيما بعد. ولو كانت لي القوة لانتقمت لنفسي منك!»
قال هذا وانطلق إلى المدينة بقلب متغطرس، يسرع كما يسرع بالعربة جواد مظفر، يجتاز السهل بخفة بالغة، بمثل هذه السرعة أعمل قدميه وركبتيه. وكان الشيخ بريام هو أول من رآه بعينيه، وهو يهرع عبر السهل متألقا كأنه النجم الذي يشرق وقت الحصاد، ساطعا بأشعته وسط جيش النجوم في دجى الليل، ذلك النجم الذي يسميه البشر «كلب أوريون». فهو أشد النجوم تألقا، ولكنه مع ذلك نذير الشر؛ إذ يجلب الحمى الشديدة على بني الإنسان البائسين. بمثل هذه الصورة تألق البرونز فوق صدر أخيل وهو يعدو، فانبعث من الشيخ أنين، ولطم رأسه بيديه، ورفعهما إلى فوق، وهو يصيح متوسلا إلى ابنه العزيز الذي كان واقفا أمام الأبواب تواقا في حماس إلى مقاتلة أخيل. فخاطبه بصوت يفيض حزنا، قائلا: «أي هكتور، يا ولدي المحبوب، أرجو ألا تقف وحدك أمام هذا الرجل، دون معونة من أحد، وإلا لقيت في الحال نهايتك على ابن بيليوس، إذ إنه أقوى منك بمراحل. ما أقساه! لو أن الآلهة تحبه بقدر حبي له، لالتهمه الكلاب والنسور وهو ملقى على الأرض دون أن يوارى الثرى! فلقد حل الغم البالغ بروحي، مذ أفقدني أبنائي الكثيرين الشجعان، فقتل بعضهم، وباع البعض الآخر في جزر نائية. وها أنا ذا الآن لا أرى اثنين من أبنائي - هما ليكاوون وبولودوروس - بين الطرواديين المحتشدين داخل المدينة، وهما اللذان أنجبتهما «لاوثوي» أميرة النساء، فإذا كانا لا يزالان على قيد الحياة في معسكر العدو، افتديتهما بالبرونز والذهب، المتوفرين في خزائن بيتي، فإن أعطى «ألتيس» الشيخ، ذو الاسم المجيد منح ابنته الكثير من الهدايا، عندما تزوجتها. أما إذا كانا في عداد الأموات بمنزل هاديس، فلسوف يملأ الكمد قلبي، وقلب أمهما، وقلوب من أنجبناهم، أما على الباقين، فلسوف يكون حزننا أقل، إذا لم يقدر لك - أنت الآخر - أن تموت مقتولا بيد أخيل. هيا، ادخل وراء الأسوار يا ولدي، حتى يمكنك إنقاذ الطرواديين والطرواديات، ولا تمنح المجد العظيم لابن بيليوس ، وتحرم نفسك من الحياة الغالية، كذلك يجب أن تشفق علي، أنا المتعوس، الذي لا سند له، فإنني ما زلت أشعر وأحس! أنا المسكين الذي سيقتله الأب، ابن كرونوس، بمصير مفجع على عتبة الشيخوخة، بعد أن أكون قد شاهدت محنا عديدة، ورأيت أبنائي يهلكون وبناتي يؤخذون سبايا، ومخادعي تقتحم وتنهب، وأطفالي تلقى على الأرض وزوجات أبنائي يجرهن الآخيون. ثم يحين دوري في النهاية، فتنهش الكلاب جسدي على أعتاب بيتي، بعد أن أكون قد فقدت حياتي بطعنة أو رمية من البرونز الحاد، الكلاب التي غذيتها على مائدتي في قصري لتحرس بابي، والتي ستعود إلى رقادها - أمام الباب - بعد أن تلعق دمائي في جنونها! لا غبار على الشاب - إذا قتل في المعركة - أن يرقد ممزقا بالبرونز الحاد، وكل شيء فيه يبدو نبيلا رغم موته. بيد أن أقسى ما يحل بالبشر، أن تعبث الكلاب بالرأس الأشيب واللحية البيضاء، وأن يتعرى الشيخ المسن وهو قتيل!»
هكذا تكلم الرجل المسن، وجذب بيديه شعره الأبيض فنزعه عن رأسه، ولكنه لم يستطع أن يثني هكتور عن عزمه، وبكت أمه بدورها، وذرفت الدموع، وفكت ثنايا ثوبها بإحدى يديها، وأخرجت ثديها بيدها الأخرى، وخاطبته بكلمات مجنحة، والدموع تنحدر من مقلتيها: «أي هكتور، ولدي، ارع حرمة ثديي هذا، وأشفق علي، إذا كان هذا الثدي قد خفف عنك يوما آلامك. فكر في هذا، يا ولدي العزيز، وقاتل عدوك من وراء الأسوار، ولا تخرج لمواجهته. إنه قاس! ولو أنه قتلك، فلن يقدر لي أن أسجيك على فراش، لأبكيك مع زوجتك الكريمة، يا بني الحبيب، ولكن ستنهشك الكلاب السريعة، بعيدا عنا، بجانب سفن الآخيين.»
هكذا تكلم الاثنان باكيين، وتوسلا إلى ابنهما العزيز، ولكنهما لم يستطيعا التأثير على قلبه. بل إنه انتظر «أخيل» وهو يقترب في جبروته. وكما ينتظر ثعبان الجبل رجلا عند جحره، وقد اغتذى بالأعشاب الشريرة، وتملكه الغضب العنيف فينظر إليه بشراسة، وقد التف حول نفسه داخل جحره، هكذا أيضا، كان هكتور في شجاعته الجامحة، فلم يتقهقر، وقد أسند ترسه المتألق إلى الجدار البارز. وإذ كان تأثره بالغا، فقد خاطب نفسه المتعالية بقوله: «واها لي! لو أنني دخلت وراء الأبواب والأسوار لكان بولوداماس أول من ينحي علي باللائمة؛ إذ إنه نصحني بأن أقود الطرواديين إلى المدينة إبان هذه الليلة القاتلة - بمجرد أن ينهض أخيل العظيم - فلم أطع قوله، وكانت طاعته أجدى. في الحق. وها أنا ذا - وقد دفعت الجيش إلى الهلاك بحماقتي العمياء - أستحيي من الطرواديين ونسائهم ذوات الثياب الجرارة، خشية أن يقول رجل خسيس: «لقد جلب هكتور الخراب على الجيش، اعتدادا بقوته!» هذا ما سوف يقولونه. أما أنا شخصيا، فالأفضل لي أن ألاقي أخيل وجها لوجه وأقاتله، وبذلك أعود إلى الوطن أو أموت كريما أمام المدينة، ثم، ماذا تكون العاقبة لو أنني تركت ترسي المرصع، وخوذتي الثقيلة، وأسندت رمحي إلى الحائط، ثم ذهبت بنفسي إلى أخيل - وحيد عصره - ووعدته برد هيلينا وجميع الكنوز التي أحضرها ألكساندر إلى طروادة في السفن الجوفاء، والتي كانت سبب الحرب، فنسلمها إلى أبناء أثريوس ليعودوا بها، وفوق ذلك فلنقتسم مع الآخيين مناصفة، ما تحويه المدينة، وآخذ العهد على شيوخ الطرواديين بألا يخفوا شيئا، وأن يقسموا كل شيء - من كنوز المدينة الجميلة - إلى نصفين؟! ولكن، لم يحدثني قلبي بهذا؟ فأبتعدن عنه ولا أذهب إليه، وإلا فإنه لن يرحمني، ولن يحترمني بأية حال، بل إنه سيقتلني وأنا أعزل تماما من السلاح - كما لو كنت امرأة - إذ خلعت عني عدتي الحربية. لن أستطيع الآن أن أتقرب إليه بجانب شجرة بلوط أو صخرة، كما يتقرب الشاب إلى عذراء! ومن الخير أن نسرع بالالتحام في الصراع، حتى نعرف لمن منا سيمنح الأوليمبي المجد!»
أخيل يطارد هكتور!
هكذا كان هكتور يفكر وهو ينتظر. غير أن أخيل - نظير أينواليوس، المحارب ذو الخوذة المتموجة - اقترب منه، ملوحا من فوق كتفه اليمنى برمحه الدرداري البيلي الفظيع والبرونز يبرق حوله كأنه لهب النار المستعرة، أو وهج الشمس عند الشروق. فارتعد هكتور لمرآه، ولم يجرؤ بعد ذلك على البقاء في مكانه، فترك الأبواب وراح يجري مذعورا، ولكن ابن بيليوس انطلق خلفه، معتمدا على سرعة قدميه. وكما ينقض البازي - أسرع الكائنات المجنحة - في الجبال بخفة وراء يمامة مضطربة، فتفر أمامه وهو يجد في مطاردتها بصيحة حادة مقتربا منها، ممنيا قلبه بالقبض عليها، هكذا كان شأن أخيل، إذ انطلق مسرعا وراء هكتور، أسفل سور الطرواديين. وأخذا يعدوان بعد مكان المراقبة، وشجرة التين البرية التي تهزها الرياح. واستمرا في عدوهما بطول طريق العربات، حتى بلغا النبعين المنسابين بهدوء، حيث ينبع الجدولان اللذان يغذيان سكاماندر الكثير الدوامات. وتجري في أحدهما مياه دافئة، يتصاعد منها البخار كأنه دخان من نار مشتعلة، بينما تجري في الآخر - صيفا - مياه باردة كالبرد أو الثلج أو الجليد المتكون من المياه. وبالقرب من هذين الجدولين، أحواض فسيحة للغسيل، جميلة الصنع من الحجر، اعتادت زوجات وبنات الطرواديين الفاتنات أن تغسلن ملابسهن المتألقة فيها، وقت السلام، قبل مجيء أبناء الآخيين.
راح الاثنان يعدوان - أحدهما خلف الآخر - هذا يفر، وذاك يطارده، في المقدمة رجل باسل ينشد الفرار، وفي المؤخرة رجل يفوقه بسالة، يلاحقه بسرعة فائقة، وما كانا يتصارعان من أجل حيوان للذبيحة، ولا من أجل جلد ثور - من النعم التي يفوز بها البشر لقاء سرعة أقدامهم - وإنما كانا يعدوان من أجل حياة هكتور - مستأنس الخيل - كما تجري الجياد القوية الحوافر، في سباق في طريق كثيرة المنعرجات، متطلعة إلى جائزة قيمة - سواء كانت ركيزة أو امرأة - تخليدا لذكرى محارب مات، ثلاث مرات دارا بسرعة حول مدينة بريام، وجميع الآلهة تنظر إليهما. وكان أبو البشر والآلهة هو أول من تكلم وسط هؤلاء فقال: «انظروا الآن. إن عيني تبصران رجلا جد حبيب، مطاردا حول الأسوار، وإن قلبي لحزين على هكتور، الذي أحرق لي العديد من أفخاذ الثيران، فوق ذؤابات أيدا الكثيرة الممرات، وأحيانا فوق ذؤابة القلعة، إن أخيل العظيم يطارده الآن بقدمين سريعتين حول مدينة بريام. فكروا مليا أيها الآلهة، وتشاوروا فيما بينكم: أننقذه من الموت، أم نترك أخيل بن بيليوس يقتله، رغم كونه باسلا شهما؟»
فأجابته الربة أثينا البراقة العينين: «أبتاه، يا سيد البرق اللامع والسحب القاتمة، ما هذا الذي نطقت به؟ أتعتزم أن تخلص رجلا من البشر - كتب له الموت من زمن طويل - من براثن الموت المؤلم؟ افعل ما يحلو لك ولكن ثق بأننا، نحن الآلهة الآخرين جميعا، لا نوافق على هذا!» فرد عليها زوس - جامع السحب - بقوله: «انشرحي صدرا يا بنيتي العزيزة، يا تريتوجينيا، فلست أتكلم بنية صادقة من قلبي، ولكني أريد أن أكون رحيما به. افعلي ما يروقك، ولا تكبحي جماح نفسك بعد ذلك.» وبهذا القول حث أثينا التي كانت لا تزال متحمسة، فهبطت منقضة من فوق ذؤابات أوليمبوس.
راح أخيل السريع يضيق الخناق بشدة على هكتور، في مطاردة لا تكف. وكما يحدث عندما يثير كلب في الجبال ظبيا من مخبئه، ويطارده بين الوهاد والممرات، ثم يمضي مقتفيا أثره - رغم أن الظبي قد ينجو إلى حين، مختفيا تحت دغل - حتى يعثر عليه، هكذا أيضا لم ينج هكتور من ابن بيليوس السريع القدمين. فكلما حاول الوصول إلى الأبواب الدردانية ليحتمي بالأسوار المكينة البناء، رغم أن أصدقاءه كانوا يساعدونه من فوق الأسوار المكينة البناء، بمزازيقهم، كلما سبقه أخيل وأعاده ثانية إلى السهل. فظل يعدو بجوار أسوار المدينة. وكما يحدث في الحلم، إذ يفشل المرء في مطاردة شخص يجري أمامه، فلا يتمكن الأول من الهرب، ولا يفلح الثاني في المطاردة، هكذا أيضا لم ينجح أخيل في اللحاق بهكتور في سرعته، ولا هكتور في الهرب! وكيف كان في وسع هكتور أن ينجو من أقدار الموت؟ لقد اقترب منه أبولو - ليثير شجاعته، ويزيد من سرعة ساقيه - فأشار أخيل العظيم إلى قومه بإيماءة من رأسه، ولكنه لم يرض أن يضربوا هكتور بالرماح الحادة، خشية أن يصيبه أحدهم فيفوز دونه بالمجد، ويصل هو بعد فوات الأوان. فلما بلغا الجدولين للمرة الرابعة، رفع الأب كفتي الميزان الذهبيتين عاليا، ووضع فيهما مصيرين للموت المفجع؛ أحدهما لأخيل والثاني لهكتور مستأنس الجياد، ثم أمسك الميزان من وسطه ورفعه، فهبط يوم موت هكتور ورحل إلى هاديس.
وتركه أبولو، فذهبت الربة أثينا - ذات العينين النجلاوين - إلى ابن بيليوس، واقتربت منه، وخاطبته بكلمات مجنحة قائلة: «أي أخيل العظيم يا حبيب زوس، إن الأمل ليحدوني في أن كلينا سيحمل إلى الآخيين مجدا عظيما - إلى السفن - بعد أن نقتل هكتور، الذي لا يني عن الحرب، فلم يعد في إمكانه الآن أن يفلت منا، بل ولم يعد في وسع أبولو - الذي يضرب من بعيد - إنقاذه مهما كد أو تذلل للأب زوس، حامل الترس. قف الآن، واسترد أنفاسك، ريثما أذهب بنفسي وأحضر لك المحارب لينازلك وجها لوجه!»
هكذا قالت أثينا، فأطاع أخيل، وقد اغتبط في نفسه. ووقف متكئا على رمحه الدرداري ذي السن البرونزية. فتركته، وانطلقت إلى هكتور العظيم، متخذة هيئة دايفوبوس، شكلا وصوتا. ولما اقتربت منه خاطبته بكلمات مجنحة قائلة: «أخي العزيز، إن أخيل السريع ليسيء إليك بغير شك، وهو يطاردك بخطى سريعة حول مدينة بريام، ولكن هيا بنا نقف هنا، وننتظره كي نصد هجومه.» فقال لها هكتور العظيم، ذو الخوذة البراقة: «أي دايفوبوس، لقد كنت - فيما مضى - أعز إخوتي الذين أنجبهم بريام وهيكابي. أما الآن فأعتقد أنني سأمجدك أكثر في قلبي، إذ خاطرت بنفسك من أجلي، وخرجت من وراء السور، بينما ينتظر الآخرون داخله.»
فقالت الربة أثينا، البراقة العينين: «أخي العزيز، إن أبي، وأمي الجليلة، وأصدقائي، توسلوا إلي كثيرا، وسألوني - كل بدوره - أن أبقى هناك، إذ كانوا يرتجفون جميعا من أخيل، ولكن قلبي كان مثقلا في صدري بالغم المرير، والآن هيا ننقض عليه فورا ونقاتله، ولا تدخر الرماح بحال ما، لنعلم ما إذا كان سيقتل كلينا ويحمل غنائمنا الدموية إلى السفن الجوفاء. أم سيهلك هو برماحنا.»
مصرع هكتور!
دفعت أثينا هكتور إلى الأمام بمثل هذه الألفاظ وبالخداع. فلما اقتربا، خاطب هكتور العظيم - ذو الخوذة البراقة - أخيل بقوله: «لن أفر منك بعد الآن يا ابن بيليوس، كما هربت منك ثلاث مرات حول مدينة بريام العظيمة. فإنني لم أجرؤ من قبل على مواجهة هجمتك، أما الآن فإن روحي تأمرني بالوقوف لأواجهك سواء قتلتني أم قتلتك لنستدع الآلهة ليكونوا خير شهود وحراس، ولنتعاهد: ألا أمثل بجسمك أو أفعل بك ما يشين، لو منحني زوس القوة لأبقى بعدك، وأسلبك حياتك، وإنما أرد جسدك الفاني إلى الآخيين بعد أن أنزع عنك حلتك الحربية، يا أخيل، وكذلك تفعل أنت الآخر!»
عندئذ قطب أخيل - السريع القدمين - حاجبيه غاضبا وقال: «أي هكتور، لا تحدثني أيها الأحمق عن المواثيق، فكما لا توجد عهود إخلاص بين الأسود والبشر، وكما لا يوجد سلام بين الذئاب والحملان، وإنما يكن كل منهما الشر للآخر، هكذا أيضا يستحيل أن نكون - أنا وأنت - صديقين، ولن نرتبط بعهود حتى يسقط أحدنا، ويشبع بدمه نهم أريس، ذلك المحارب القوي ذو الترس المصنوع من جلد الحيوان. فكر مليا في كل لون من الشجاعة، فقد بات عليك أن تبرهن على أنك رماح ومحارب جسور. وليس أمامك بعد الآن مجال للهرب، بل ستجند لك - في الحال - بالاس أثينا برمحي. عليك الآن أن تدفع الثمن كاملا، ثمن أحزاني على أصدقائي الذين قتلتهم وأنت هائج برمحك!»
قال هذا، ووزن رمحه البعيد الظل، ورماه. غير أن هكتور المجيد، تتبعه بنظرة فتحاشاه، فمرق الرمح البرونزي من فوقه، وانغرس في الأرض، ولكن بالاس أثينا رفعته وأعطته ثانية لأخيل، دون أن يراها هكتور، راعي الجيش. وتحدث هكتور إلى ابن بيليوس - أوحد زمانه - قائلا: «لقد أخطأتني، ويبدو لي، يا أخيل - الشبيه بالآلهة - أنك لم تعرف مصيري من زوس حتى الآن، ولا فكرت فيه. فما أنت إلا ثرثار ومكار خبيث، تريد أن تخوفني منك حتى أنسى قوتي وشجاعتي. كلا لن أفر منك فتغرس رمحك في ظهري، بل عليك أن تغرسه في صدري وأنا أهجم عليك، إذا منحك ذلك إله ما. والآن تجنب - بدورك - رمحي البرونزي، وليتك تتلقاه كله في جسمك! فبموتك تصبح الحرب أخف وطأة على الطرواديين إذ إنك أكبر مجلبة لهلاكهم.»
قال هذا، ووزن رمحه البعيد الظل وقذفه، فاصطدم بترس ابن بيليوس، دون أن يخطئه، ولكن الرمح ارتد بعيدا عن الترس. واغتاظ هكتور من انطلاق الرمح السريع من يده عبثا، فوقف حائرا؛ إذ لم يكن معه رمح درداري آخر، ثم صاح عاليا، ينادي دايفوبوس ذا الترس الأبيض، ويطلب منه رمحا طويلا، ولكن هذا لم يكن قريبا منه! وعرف هكتور كل شيء في قرارة نفسه. فقال: «سحقا، لقد نادتني الآلهة حقا إلى حتفي، إذ ظننت المحارب دايفوبوس بقربي، ولكنه - للأسف - خلف السور، وقد خدعتني أثينا. لا شك أن الموت الشرير قريب مني، ولم يعد بعيدا، فلا مفر منه. هكذا أعتقد أن هذه - من قديم الزمان - مسرة زوس وابنه القواس - الذي يضرب من بعيد - وأولئك الذين ساعدوني من قبل بنفوس راضية. الآن قد حل حتفي، ولكنني لن أموت بغير صراع، ولا مجد، ولا دون نضال جليل تتناقله الأجيال القادمة.»
وما إن قال هذا، حتى استل سيفه البتار، الذي كان معلقا إلى جنبه. سيفا قويا عظيما. وبعد أن استجمع قواه، انقض كالصقر العالي التحليق؛ إذ يهبط خلال السحب القائمة إلى السهل ليقبض على حمل غض، أو أرنب برية قابعة، هكذا أيضا انقض هكتور، شاهرا سيفه الحاد، فهجم عليه أخيل، بقلب يفيض حنقا وشراسة، واضعا أمام صدره ترسه الجميل الفاخر الترصيع. ورمى بخوذته ذات القرون الأربعة، فتموجت حولها الرياش الذهبية التي وضعها هيفايستوس، بغزارة حول الخصلة. وكما يتقدم - وسط الكواكب في ظلمة الليل - نجم المساء، المشرق في كبد السماء، كأجمل النجوم طرا، كذلك أومض بريق الرمح القاطع، الذي وزنه أخيل في يمناه وهو يضمر الشر لهكتور العظيم، ويمعن النظر إلى لحمه الجميل، ليبحث عن أكثر المواضع عريا فيسدد إليه ضربته. كان كل جسمه مغطى بالحلة الحربية البرونزية، تلك الحلة الحربية العظيمة التي استولى عليها عندما قتل باتروكلوس العتيد. غير أنه كانت هناك فتحة، حيث تفصل عظمة الترقوة بين العنق والكتفين، موضع البلعوم، الذي يتسرب الموت منه إلى الجسم بأقصى سرعة. هناك غيب أخيل العظيم رمحه، وهو يهجم عليه. فنفذ طرف الرمح خلال العنق الرقيق، ولكن الرمح الدرداري الثقيل لم يخترق القصبة الهوائية، فاستطاع هكتور الرد على عدوه، قبل أن يتردى في الثرى. إذ تهلل فوقه أخيل العظيم قائلا: «أي هكتور، أظنك حسبت - وأنت تقتل باتروكلوس - أنك ستكون بمأمن. ولم تفكر في، أيها الأحمق، إذ كنت بعيدا عنه، ولكن ثمة منتقما، بالغ البأس، كان قد تخلف عند السفن الجوفاء، ذلك هو أنا، الذي أرخيت ساقيك. ولسوف تمزقك الكلاب والطيور بصورة بشعة. أما هو فسيدفنه الآخيون!»
عندئذ تحدث إليه هكتور ذو الخوذة البراقة، وقد خارت قواه: «أتوسل إليك بحياتك وساقيك ووالديك، ألا تجعل الكلاب تنهشني بجانب سفن الآخيين. خذ هدايا البرونز والذهب التي سيعطيكها أبي وأمي الجليلة، لقاء أن ترد جسدي ثانية إلى وطني، حتى يعطيني الطرواديون وزوجاتهم جزائي المناسب من النار في موتي.» فنظر إليه أخيل السريع القدمين نظرة حقد - من تحت حاجبيه - وقال: «لا تتوسل إلي أيها الكلب، بالساقين والوالدين. ليت الغضب والثورة يسولان لي أن أقطع لحمك وآكله نيئا، جزاء ما اقترفت يداك. لن يوجد من بين الأحياء من يمكنه أن يدفع الكلاب عن رأسك، كلا، ولو افتدوك بعشرة أضعاف، أو عشرين ضعفا، ووعدوا بالمزيد، كلا، ولو طلب بريام بن داردانوس، أن يدفع قدر وزنك ذهبا، فلن تسجيك أمك الجليلة على سرير وتبكيك، أنت ابنها الذي أنجبته بنفسها، وإنما ستنهشك الكلاب والطيور عن آخرك!»
فتحدث إليه هكتور - ذو الخوذة البراقة - وهو يسلم الروح قائلا: «حقا أنني لم أعرفك جيدا، وإلا لتنبأت بما سيكون. ما كان لي أن أحمل عليك، فما القلب في صدرك إلا من الحديد. فكر الآن مليا، خشية أن أجلب عليك نقمة غضب الآلهة، يوم يقتلك باريس وأبولو - عند الأبواب السكايية - رغم كل شجاعتك.»
وبينما كان يقول هذا، غشيته نهاية الموت، وأسرعت روحه بالخروج من أطرافه، ورحلت إلى هاديس تبكي حظها، تاركة الرجولة والشباب. وفي موته خاطبه أخيل العظيم قائلا: «ارقد ميتا، أما حتفي فسوف أرضى به، عندما ينتوي زوس وغيره من الآلهة الخالدين أن ينفذوه.»
قال هذا ، وجذب من الجثة رمحه البرونزي، فألقى به جانبا، وشرع يجرد الكتفين من الحلة الحربية الملطخة بالدماء. وهرع أبناء الآخيين الآخرون حوله، يتطلعون إلى حجم هكتور وجماله الرائع. ولم يقترب منه إلا وأحدث به جرحا. وهكذا كان الواحد يقول، وهو ينظر إلى جاره: «انظر يا هذا، إن هكتور أيسر شيئا الآن، مما كان حين أحرق السفن بالنار المستعرة.» هكذا كان المرء منهم يقول، وهو يقترب من الجثة ويحدث بها جرحا. وما إن فرغ أخيل العظيم - السريع القدمين - من سلبه، حتى انتصب واقفا بين الآخيين يخاطبهم بكلمات مجنحة قائلا: «أي أصدقائي، قادة وحكام الأرجوسيين، الآن وقد منحتنا الآلهة أن نقتل هذا الرجل، الذي ألحق بنا من الشر أكثر مما أحدثه بقية الجيش كله، هلموا بنا إلى محاولة بالأسلحة حول المدينة لنستطلع الأغراض التي ينتويها الطرواديون؛ هل سيتركون المدينة الشامخة، بعد أن سقط هذا الرجل، أو أنهم يزعمون الصمود، بالرغم من أن هكتور لم يعد له وجود، ولكن لماذا يحدثني قلبي هكذا؟ إن بجانب السفن ميتا، لم يبكه أحد، ولم يدفن بعد، ألا وهو باتروكلوس، الذي لن أنساه ما حييت، وما ظلت ساقاي سريعتين. كلا، ولو نسي الموتى - في بيت هاديس - موتاهم، فلسوف أظل أذكر صديقي العزيز، حتى هناك! هيا بنا، نرتل أنشودة الظفر، عائدين إلى السفن الجوفاء، ولنأخذ معنا عدونا، لقد كسبنا لأنفسنا مجدا عظيما، بقتل هكتور المجيد، الذي كان الطرواديون يصلون له في جميع أنحاء مدينتهم، كما لو كانوا يصلون إلى إله!»
قال هذا، وابتكر معاملة مزرية لهكتور العظيم، فشق طنب كلتا قدميه من الخلف - من العقب إلى مفصل الكعب - وربط فيها سيورا من جلود الثيران، ووصلها بعربته، تاركا الرأس متدليا على الأرض. ثم صعد إلى عربته، ووضع فيها الحلة الحربية المجيدة، ولمس الجوادين بالسوط، إيذانا ببدء المسير - لم يقف في طريق الجوادين شيء، وقد انطلقا يعدوان قدما. فثار الغبار حول هكتور والعربة تجره فوق الثرى، وقد تناثر شعره القاتم حوله من كل جانب، وتمرغ رأسه الجميل في التراب والأقذار، إذ سلمه زوس إلى أعدائه، ليهينوا وطنه في شخصه.
أحزان طروادة!
هكذا تلوث رأسه بالثرى، فمزقت أمه شعرها، وقذفت بخمارها البراق، وأطلقت صيحة بالغة الشدة، إذ أبصرت ابنها على تلك الحال. وأخذ أبوه يئن حزينا، ومن حولهما انخرط القوم في البكاء والأنين، في جميع أنحاء المدينة، كما لو كانت طروادة بأسرها تحترق بالنار. وهرع القوم إلى الشيخ بريام يمنعونه وهو يحاول ثائرا أن يخرج من الأبواب الدردانية. وتوسل إلى الجميع، وهو يحبو وسط الأقذار، وينادي كل رجل باسمه، ويقول: «يا أصدقائي، أمسكوني، ولا تدعوني أخرج من المدينة بمفردي. وأسرعوا إلى سفن الآخيين، حتى أتوسل إلى ذلك الرجل العديم الرحمة - ذلك المؤذي - عسى أن يخجل أمام أقرانه، ويشفق على شيخوختي. فإن له أبا مثلي، وهو بيليوس الذي أنجبه ورباه ليكون مصدر هلاك للطرواديين، ولكنه آثرني دون جميع الآخرين بأكبر قسط من الخراب؛ إذ قتل عددا من أبنائي في ريعان شبابهم، فلم أبك أحدهم بكثرة كما بكيت هذا الابن - هكتور - الذي سوف ينزلني الحزن الممض عليه إلى بيت هاديس! ليته مات بين ساعدي، إذن لبكيت أنا وأمه التي أنجبته، ما شاء لنا أن نبكي!»
قال هذا وهو ينتحب، فبكى معه الآخرون. وقامت «هيكابي» بين نساء طروادة، ترأس العويل المفجع قائلة: «أي بني، وا فجعتاه! كيف أحيا في هذا العذاب الأليم، بعد موتك؟ يا من كنت أفخر بك ليل نهار في المدينة، وكنت ذخرا لجميع أهل طروادة جميعا - رجالا ونساء - فكانوا يحيونك دائما كإله؛ إذ كنت لهم مجدا بالغ العظمة أثناء حياتك، أما الآن فقد أصابك الموت والقدر!»
قالت هذا وهي تبكي، في حين أن زوجة هكتور لم تعلم شيئا مما جرى؛ لأنه ما من رسول صادق ذهب ليخبرها بأن زوجها بقي خارج الأبواب.
وكانت تنسج قماشا في أقصى موضع من البيت الشامخ، نسيجا أرجوانيا من طبقتين، طرزت عليه أزهارا مختلفة الألوان. ونادت خادماتها الجميلات الغدائر، ليضعن فوق النار ركيزة ضخمة، كي تعد حماما ساخنا لهكتور متى عاد من المعركة. ولم تكن لتتصور أن أخيل وأثينا قد قتلاه. غير أنها سمعت الصراخ والأنين عبر الحائط، فارتخت أطرافها، وسقط المغزل من يدها إلى الأرض. فعادت تقول لخادماتها الجميلات الجدائل: «لتأت منكن اثنتان وتتبعاني، لأرى ماذا تم من أمور. فقد سمعت صوت زوج أمي المبجلة، فخفق قلبي في صدري نذيرا بنكبتي، وإن ساقي لتخزاني. حقا أن ثمة شرا قريبا جدا من أبناء بريام. لتكن الكلمة بعيدة عن أذني، فشد ما أخشى أن يكون أخيل المجيد قد عزل هكتور الشجاع وحده عن المدينة، وساقه إلى السهل، فجعله يكف الآن عن الشجاعة المخربة التي كانت تتملكه؛ إذ إنه لم يكن يبقى بين جموع الرجال، وإنما كان يهجم دائما إلى الأمام بعيدا، غير مستسلم لأحد في قوته!»
وما إن قالت هذا، حتى هرعت كالمخبولة عبر القاعة بقلب خافق، فتبعتها خادمتاها. حتى إذا بلغن السور وحشد الرجال، توقفت وأطلت من فوق السور، فأبصرته والعربة تجره أمام المدينة. وكان الجوادان السريعان يجرانه - بلا رحمة - ضعف سفن الآخيين الجوفاء. فهبطت على عينيها ظلمة الليل وطوقتها، فسقطت مغشيا عليها إلى الخلف وهي تشهق، ودفعت عن رأسها غطاءه البراق، عصابة الجبين والقلنسوة، والمنديل والشريط المطرز، والخمار الذي أهدتها إياه أفروديت الذهبية يوم زفافها إلى هكتور - ذي الخوذة المتألقة - تاركة منزل أبيها أيتيون، بعد أن جهزها بهدايا عرس لا عداد لها. فاجتمعت حولها شقيقات زوجها وزوجات إخوته وحملنها بينهن، وكأنما استولت عليها غشية الموت. فلما أفاقت، وعادت روحها إلى صدرها، رفعت صوتها بالعويل، وتكلمت وسط نساء طروادة قائلة: «أي هكتور، وا فجيعتاه! أعتقد أن كلا منا قد ولد لمصير واحد، أنت في طروادة - في بيت بريام - وأنا في طيبة، أسفل بلاكوس ذات الأحراش، في بيت أيتيون، الذي رباني منذ طفولتي. إنه أب منحوس لطفلة منكودة الحظ، ليت أبي لم ينجبني قط! ها أنت ذا ترحل إلى منزل هاديس - تحت أعماق الأرض - وتتركني في غم مرير، أرملة في ساحاتك، وما زال ولدي مجرد طفل - ابنا لوالدين تعيسين، أنا وأنت! - ولن تكون ذا نفع له يا هكتور ، بعد أن مت، ولا هو بنافع لك. فرغم نجاته من حرب الآخيين المؤلمة، إلا أن نصيبه سيكون الشقاء والحزن فيما بعد، إذ سيسلبه الآخرون أراضيه. إن يوم اليتم يقطع الطفل عن أصدقاء شبابه، ويجعله دائما مطأطئ الرأس، مبلل الخدين بالدموع. وإذا ما احتاج التجأ إلى أصدقاء أبيه، يجذب هذا من معطفه، وذاك من عباءته، فإذا ما تحركت الشفقة في نفس أحدهم نحوه، رفع كأسه مكتفيا بأن يرطب شفتيه، دون أن يبلل حلقه! وقد يطرده طفل لم يتيتم من الوليمة بصفعة من يده، ويعيره قائلا: «اغرب عن وجهي! فلا أب لك يجلس معنا في مأدبتنا!» وعندئذ يعود ثانية إلى أمه الأرملة دامع العين، بالاستواناكس الذي كان فيما مضى لا يأكل فوق ركبتي أبيه غير النخاع ودهن الضأن الفاخر، فإذا غلبه النعاس، وكف عن لعب طفولته، نام بين ساعدي مربيته في فراشه الوثير، وقد شبع من أطايب الأشياء. أما الآن، فكم من محن سيقاسيها، إذ فقد أباه! بالاستواناكس، الذي أطلق عليه الطرواديون هذا الاسم لأنك وحدك - يا هكتور - قد أنقذت أسوارهم الشامخة. أما الآن فستنهشك الديدان الجائعة بجانب السفن المدببة، بعيدا عن والديك، بعد أن تنال منك الكلاب كفايتها، جثة عارية. وتبقى في قصرك ثيابك الجميلة النسج، التي أبدعت صنعها أيدي السيدات، ولكني سأحرق جميع هذه بالنار المتأججة، النار التي لن تكون نافعة لك، لأنك لن تحترق فيها، ولكنها ستكون تمجيدا لك من رجال ونساء طروادة.»
هكذا كانت تبكي، فشاركتها النساء نحيبها.
الأنشودة الثالثة والعشرون
«... وكان أخيل السريع القدمين ممسكا - طيلة الليل - بكأس ذهبية ذات مقبضين، يغترف بها الخمر من طاس من الذهب ويسكبها فوق الأرض حتى بللها، وهو ينادي روح باتروكلوس المسكين ...»
كيف شيعت جنازة باتروكلوس؟ وطقوس الجنازة.
أحزان أخيل!
هكذا راح القوم ينتحبون في سائر أنحاء المدينة. أما الآخيون، فما إن بلغوا السفن والهيليسبونت، حتى تفرقوا كل رجل إلى سفينته، ولكن أخيل لم يأمر المورميدون بالتفرق، بل تكلم وسط رفاقه هؤلاء - المحبين للقتال - قائلا: «أيها المورميدون ذوو الجياد السريعة، يا أصدقائي المخلصين، لا تسرحوا الجياد القوية الحوافر من عرباتها، بل لنقترب بالجياد والعربات لنبكي باتركلوس؛ فهذا واجب الموتى. وبعد أن ننتهي من البكاء المبرح، نرفع النير عن جيادنا ونتناول العشاء هنا سويا.»
وما إن قال هذا، حتى رفعوا أصواتهم بالعويل جميعا، في آن واحد، وأخيل في مقدمتهم. وداروا بالجياد الجميلة الأعراف ثلاث مرات حول الجثة وهم يبكون. وأثارت ثيتيس رغبتهم في العويل. فابتلت الرمال وحلل المقاتلين الحربية بالدموع؛ إذ كان السيد الذي حزنوا من أجله عظيما مرهوبا. وفي وسطهم وقف ابن بيليوس يتزعمهم في النحيب الشديد، واضعا يديه - قاتلتي الرجال - فوق صدر صديقه، وهو يقول: «وداعا يا باتروكلوس، إلى بيت هاديس! إنني لأحقق الآن جميع ما سبق أن وعدتك به، فها أنا ذا أسحب هكتور إلى هنا، وأقدمه نيئا للكلاب لتنهشه، وأقطع رقاب اثني عشر فتى من الطرواديين أمام كومة حطبك، انتقاما لمقتلك.»
قال هذا، ودبر معاملة مزرية لهكتور العظيم، فسجاه منكفئا. فوق الثرى، أمام منصة ابن مينوينيوس. ثم خلع كل رجل منهم عدته البرونزية البراقة، وسرحوا جيادهم العالية الصهيل. ثم جلسوا بجانب سفينة ابن أياكوس السريع القدمين، جيشا لا حصر له، وأقام لهم ابن أياس وليمة جنائزية، ليشبع نهم قلوبهم. فذبح ثيرانا كثيرة غضة، كانت تخور أمام السكين، وخرافا كثيرة وماعزا تثغو، وخنازير بيضاء الأنياب، كثيرة الدهن، قدمت كلها لتشوى فوق لهيب نار هيفايستوس، فسال الدم دافقا في كل جهة حول الجثة.
أما الأمير ابن بيليوس السريع القدمين، فقد قاده إلى أجاممنون العظيم. زعماء الآخيين الذين عانوا الكثير كي يحملوه على ذلك، إذ كان حزن قلبه على صديقه شديدا. فلما بلغوا كوخ أجاممنون، أمروا المنادين الجهوري الأصوات بأن يضعوا على النار قدرا ضخمة، حتى يزيل ابن بيليوس عنه الدم المتجمد، ولكنه رفض طلبهم رفضا باتا، وأقسم على ذلك بقوله: «كلا، بحق زوس، أعظم الآلهة وأفضلها. لن تقرب الماء رأسي، حتى أضع باتروكلوس فوق النار، وأنشئ له رابية، وأحلق شعري أيضا؛ إذ لن ينقذ قلبي - ما حييت - حزن كهذا. ومع كل، فهلم الآن إلى الوليمة التي لا يجب أن تعافها نفوسنا، وفي الصباح أيقظ القوم يا أجاممنون - يا ملك البشر - ليجمعوا الحطب، ويجهزوا كل ما يجب أن يعد للميت حين يذهب إلى أسفل، في الظلمة الظلماء، حتى تحرقه النار المتأججة بسرعة وتحجبه عن الأنظار، وعندئذ ينصرف الجيش إلى أعماله!»
هكذا تكلم، فأطاعوا قوله بنفس راضية. وأسرع كل رجل يعد طعامه، وتناولوا عشاءهم، وأكلوا كفايتهم من الوليمة العادلة. وبعد أن انتهوا من الطعام والشراب، ذهب كل رجل إلى كوخه ليستريح، ورقد ابن بيليوس فوق شاطئ البحر العالي الصخب، يئن أنينا شديدا وسط جيش المورميدون، في مكان مكشوف، حيث كانت الأمواج ترتطم بالساحل. فلما استولى عليه النعاس، أراحه من هموم قلبه، فغاب في لذات النوم - التي أطاحت به من كل جانب - إذ كانت أطرافه المجيدة في غاية التعب من الجري وراء هكتور إلى طروادة ذات الرياح. عندئذ وافته روح باتروكلوس التعيس، تشبه شكله في الحياة تمام الشبه، في كل شيء؛ في القوام وجمال العينين والصوت. وكانت متدثرة - كذلك - بنفس الثوب. فوقفت فوق رأس أخيل، وتحدثت إليه قائلة: «أي أخيل، إنك لتنام وقد نسيتني، إنك لم تكن تنساني في حياتي، أما الآن فتنساني في موتي! أسرع بدفني، كي أمضي خلال أبواب هاديس. فإن الأرواح تقصيني بعيدا عنها، أشباح البشر الهالكين، فلا تجشمني الاختلاط بهم وراء النهر. ولا تتركني أحوم عبثا عند أبواب هاديس الفسيحة. أتوسل إليك في إلحاح أن تمد إلي يدك؛ لأنني لن أعود ثانية بعد الآن من هاديس، بمجرد أن تقدم لي حقي من النار، لن نجلس معا بعد الآن، منعزلين عن أصدقائنا الأعزاء، لنتشاور سويا، فقد فتح لي القدر الممقوت بطنه. القدر الذي كتب لي منذ ميلادي. وأنت نفسك، يا أخيل الشبيه بالآلهة، مكتوب لك أن تموت تحت أسوار الطرواديين الأثرياء. وسأخبرك بشيء آخر، أطالبك بأن تعيه. لا تضع عظامي بعيدا عن عظامك، يا أخيل، بل ضعها كلها معا، كما نشأنا معا في بيتك، عندما أحضرني مينويتيوس صبيا صغيرا، من أوبويس إلى بلدك، من جراء اغتيال مفجع، يوم أن قتلت ابن أمفيداموس على غير قصد، في حنق صبياني بشأن لعبة زهر النرد. فاستقبلني الفارس بيليوس في بيته واعتنى بتربيتي وجعلني خادمه، هكذا أيضا دع تابوتا واحدا يضم عظامنا، التابوت الذهبي ذو المقبضين الذي أعطتك إياه أمك الجليلة.»
فرد عليها أخيل السريع القدمين بقوله: «لماذا تأتي إلى هنا، أيها الرأس الحبيب، وتصدر إلي تعليمات في كل شيء؟ سأحقق لك كل ما تريد، وأطيع سائر ما تأمر به، ولكني أرجوك أن تقترب أكثر - ولو لفترة وجيزة - ليعانق كل منا الآخر، ونأخذ كفايتنا من البكاء المرير!»
وما إن قال هذا، حتى مد يديه، ولكنه لم يمسكه، إذ كانت الروح قد ذهبت تحت الأرض كأنها بخار، وهي تتمتم بصوت خافت. ولما شمل العجب أخيل، نهض يضرب كفيه، ويقول باكيا: «ما هذا! إذن فالمرء يظل على قيد الوجود، في بيت هاديس، روحا - أو بالأحرى شبحا - وإن فارقته القوة. فلقد كانت روح باتروكلوس التعيس ماثلة أمامي طوال الليل، تبكي وتنتحب وقد أصدرت إلي تعليماتها عن كل شيء، وكانت تشبهه بدرجة عجيبة!»
هكذا قال، فأهاج فيهم الرغبة إلى النحيب.
جنازة باتروكلوس!
وأطل الفجر الوردي الأنامل فوقهم، وهم لا يزالون يبكون حول الجسد المسكين. فأمر الملك أجاممنون بأن تخرج البغال والرجال من المعسكر بأسره، لتحضر الأحطاب، وأشرف على ذلك ميريونيس الجسور، خادم أيدومينيوس الرحيم. فانطلقوا لتوهم يحملون الفئوس والحبال المتينة في أيديهم، ليحتطبوا. وسارت البغال أمام الرجال بعضها صاعد، وبعضها هابط، وبعضها يسعى إلى الجانبين، أو في اتجاه منحرف. فلما بلغوا ممرات أيدا الزاخرة بالنافورات أسرعوا في الحال إلى قطع أشجار البلوط الباسقة، بالبرونز الطويل النصل. وراحت الأشجار تتساقط في ضجيج. ثم شق الآخيون الجذوع نصفين. وربطوها وراء البغال، فهدت هذه الأرض بأقدامها وهي تسرع نحو السهل خلال الأدغال الكثيفة. وحمل الحطابون الكتل الخشبية، كما أمرهم ميريونيس - خادم أيدومينيوس الرحيم - وألقوها فوق الشاطئ، رجلا بعد رجل، حيث اعتزم أخيل أن يقيم رابية عظيمة لباتروكلوس ولنفسه. وبعد أن فرغوا من إلقاء الحطب الكثير في جميع الجهات، جلسوا هناك جميعا، وانتظروا في حشد واحد. وفي الحال أمر أخيل المورميدون المحبين للقتال، أن يلبسوا البرونز، ويشد كل واحد منهم جياده إلى نير عربته، فنهضوا وارتدوا حللهم الحربية وركبوا عرباتهم، محاربين وسائقي عربات. وانطلق الرجال بالعربات في المقدمة، تتبعهم سحابة من المشاة، جيش يفوق الحصر، وكان أصدقاء باتروكلوس في الوسط يحملونه، وقد غطوا الجسد كله بشعورهم التي قصوها ونثروها فوقه حتى صارت كالثوب. وسار أخيل العظيم وراءهم ممسكا برأس صديقه، حزينا؛ إذ لم يكن هناك مثيل لهذا الصديق الذي كان يسرع به إلى بيت هاديس.
فلما وصلوا إلى المكان الذي حدده أخيل من قبل، أنزلوا الجثة، وكوموا مقدارا ضخما من الحطب بسرعة، وعندئذ غير أخيل العظيم السريع القدمين رأيه، فوقف بعيدا عن كومة الحطب، وقطع خصلة من شعره الذهبي، أعز خصلة كانت برأسه، وكان قد أنماها من أجل النهر سبيرخيوس. وإذ كان شديد التأثر، نظر إلى البحر القاتم كالخمر وقال: «أي سبيرخيوس، بغير هذا وعدك أبي بيليوس، وعدك بأن أقص لك شعري - عندما أصل إلى بيتي في وطني العزيز - وأقدم ذبيحة مقدسة من مائة ثور، وفي البقعة التي تقوم فيها أراضيك ومذبحك المعطر، أضحي في مياهك بخمسين كبشا، وبغالا فتية، هذا ما تعهد به ذلك الشيخ، ولكنك لم تحقق له رغبته، وما دمت لن أذهب إلى بيتي في وطني العزيز، فإني أرغب في منح المحارب باتروكلوس هذه الخصلة من الشعر لتمضي معه!»
وإذ قال هذا، وضع الخصلة في يد صديقه الحميم، فانخرط الجميع في البكاء. وكاد ضوء الشمس أن يغيب، وهم يبكون، فاقترب أخيل من أجاممنون وقال له: «يا ابن أتريوس، لا يطيع جيش الآخيين أمر أي رجل كما يطيع أمرك. وها قد نالوا كفايتهم من البكاء، فاصرفهم الآن عن كومة الحطب، ومرهم بأن يعدوا طعامهم، بينما نهتم نحن - أكثر المقربين إلى الميت، وأعزهم لديه - بما يجب له، وليبق الرؤساء معنا كذلك!»
فلما سمع أجاممنون - ملك البشر - هذا الكلام، صرف القوم في الحال إلى السفن البديعة. أما أقرب المقربين والأعزاء للميت، فمكثوا هناك، وكوموا الحطب، وأقاموا أكمة تمتد مسافة مائة قدم في هذا الاتجاه وذاك، ثم وضعوا الرجل الميت أعلاها، وقلوبهم مفعمة بالأسى. وذبحوا الكثير من الكباش الكبيرة، والأبقار العديدة السمينة، ذات المشية المتثاقلة وسلخوها وأعدوها أمام كومة الحطب. وجمع أخيل العظيم دهنها، فغطى به الميت - من الرأس إلى القدم - وكدس حوله الحيوانات المذبوحة. ثم وضع فوق الجميع جرتين بمقبضين. مملوءتين بالعسل والزيت، وأسندهما فوق المحفة، وألقى بسرعة فوق كومة الحطب أربعة جياد ذات أعناق مقوسة إلى الخلف، وهي تزمجر وتهل عاليا. وكان للأمير تسعة كلاب، تتغذى بفضلات مائدته، فقطع أخيل عنقي اثنين منها، ورماهما فوق كومة الحطب. وقتل بالبرونز اثني عشر فتى من الطرواديين البواسل؛ إذ كان قد أضمر الشر لهم في قرارة نفسه. ثم أشعل نارا جبارة عاتية، لتتغذى على كل هؤلاء، وأرسل أنينه عاليا، ونادى صديقه العزيز باسمه قائلا: «يا باتروكلوس، إنني الآن أنفذ كل شيء سبق أن وعدتك به، رغم أنك في بيت هاديس، اثنا عشر فتى مغوارا من الطرواديين الصناديد، هؤلاء جميعا تلتهمهم وإياك النيران. أما هكتور بن بريام، فلن يكون طعمة للنار، وإنما للكلاب!»
هكذا قال متوعدا. غير أنه لم يقدر للكلاب أن تمس هكتور، إذ إن أفروديت ابنة زوس، منعت الكلاب نهارا وليلا، وكانت تدهنه بزيت من رحيق الأزهار، أمبروسي، كي لا يمزقه أخيل وهو يجره، وأنزل أبولو سحابة قاتمة فوقه - من السماء إلى السهل - خيمت على المكان كله، فوق الميت، خشية أن تغضن قوة الشمس - قبل الأوان - لحمه المحيط بطنبه وأطرافه!
بيد أن كومة حطب باتروكلوس لم تشتعل. ففكر أخيل السريع القدمين تفكيرا آخر، ووقف بعيدا عن كومة الحطب، وصلى للريحين الشمالية والغربية، ووعد بتقدمات جميلة. وبينما هو يصب السكائب متحمسا، من كأس ذهبية، توسل إليهما أن تحضرا لتشتعل الجثث بسرعة بالنار، وليشتعل الحطب. وفي الحال سمعت أيريس صلاته، وعجلت بالرسالة إلى الريحين - وكانتا في بيت الريح الغربية الهوجاء تتناولان الطعام على مائدتها - فوقفت أيريس على العتبة الصخرية. وما إن أبصرتها عيونهما، حتى هبتا واقفتين تدعوانها إليهما، ولكنها رفضت الجلوس، وخاطبتهما بقولها: لا أستطيع الجلوس، لأن علي أن أعود إلى مجاري أوقيانوس المائية، إلى أرض الأثيوبيين، حيث يقدمون ذبيحة للخالدين من مائة ثور، لأشترك في الوليمة المقدسة. إن أخيل يتوسل إلى الريح الشمالية والريح الغربية المزعجة أن تذهبا إليه، ويعدهما بتقدمات بالغة، لتجعلا النار تستعر في كومة الحطب الذي يرقد فوقها باتروكلوس، الذي ينتحب من أجله الآخيون عاليا.»
وما إن أفضت بهذه الكلمات، حتى انصرفت. فنهضت الريحان بقصف مدو، تدفعان السحب أمامهما في صخب. وسرعان ما وصلتا إلى البحر لتهبا فوقه. فهاجمت الأمواج تحت هبوبهما الشديد. وبلغتا أرض طروادة العميقة التربة، وانقضتا على كومة الحطب، فزمجرت النار وهي تتأجج بعنف عجيب. وبقيتا كذلك طوال الليل تهبان بقوة واحدة على نار كومة الحطب. وكان أخيل السريع القدمين ممسكا - طيلة الليل كذلك - بكأس ذهبية ذات مقبضين، يغترف بها الخمر من طاس من الذهب، ويسكبها فوق الأرض حتى بللها، وهو ينادي روح باتروكلوس المسكين. وكما يبكي أب وهو يحرق عظام ابن حديث الزواج، جلب موته فجيعة والديه البائسين، هكذا أيضا بكى أخيل صديقه وهو يحرق عظامه، ويدور حول كومة الحطب بأنين لا ينقطع.
ولما أشرق نجم الصباح، مبشرا بالضوء وجه الأرض - النجم الذي يتبعه الفجر الزعفراني الثوب - زاحفا فوق سطح البحر - خمدت النيران ومات لهيبها. فقفلت الريحان عائدتين إلى دارهما فوق البحر التراقي، الذي دمدم بصخب بالغ. عندئذ انسحب ابن بيليوس بعيدا عن الكومة المشتعلة، ورقد منهوك القوى، فانقض عليه النوم اللذيذ. أما من كانوا مع ابن أثريوس فقد اجتمعوا معا، فأيقظت جلبتهم وصخبهم أخيل، فهب من نومه وجلس وتحدث إليهم قائلا: «يا ابن أثريوس، ويا أمراء جيوش آخيا، أطفئوا، أولا، الكومة المستعرة وكل ما وصلت إليه النيران، بالخمر. ثم لنجمع عظام باتروكلوس بن مينويتيوس، بعد أن نعزلها عن العظام الأخرى، ومن السهل تمييزها، لأنه كان يرقد فوق كومة الحطب، بينما احترق الآخرون - من رجال وجياد - على حافتها. ولنضع تلك العظام في قارورة نلفها بطبقتين من الدهن، إلى أن يحين الوقت الذي أرحل فيه - أنا الآخر - إلى هاديس. ومع كل، فلن أكلفكم أن تقيموا لي سوى أكمة تليق بي فحسب، ثم لكم أيها الآخيون أن تزيدوها اتساعا فيما بعد وليتول ذلك من يبقون بعدي وسط السفن ذات المقاعد.»
موكب العربات تكريما للميت!
هكذا قال ابن بيليوس السريع القدمين، فأطاعه الجميع، وبدءوا يخمدون كومة الحطب بالخمر، وكوموا الرماد عاليا. وبينما هم يبكون، جمعوا عظام صديقهم الكريم البيضاء، في قارورة من الذهب، ولفوها بطبقتين من الدهن. وبعد أن وضعوها في الكوخ، غطوها بقطعة من منسوج الكتان الأملس. ثم خططوا محيط الرابية، ووضعوا أساسها حول كومة الحطب، وكوموا التربة عالية، وما انتهوا من تكويم الرابية، حتى قفلوا راجعين، ولكن أخيل أبقاهم حيث كانوا، وأجلسهم في حشد واسع، وأحضروا الجوائز من سفنهم؛ قدورا وركائز وجيادا وبغالا ونيرانا قوية ونساء فاتنات وحديدا رماديا. فبدأ أن خص سائقي العربات - المتفوقين في السرعة - بجوائز عظيمة؛ فللفائز الأول امرأة ماهرة في الأعمال اليدوية الرائعة، وركيزة ذات مقابض تتسع لاثنين وعشرين مكيالا، وللثاني فرس سنها ستة أعوام، لم تحمل في رحمها مهرا، وللثالث قدر لم تمسها النار، قدر بديعة بيضاء تسع أربعة مكاييل، وللرابع وزنتان من الذهب، وللخامس قارورة ذات مقبضين لم تمسها النيران بعد. ثم نهض وتكلم وسط الأرجوسيين قائلا: «يا ابن أثريوس، وأيها الآخيون المدرعون جيدا، هذه الجوائز لسائقي العربات. ولو كنا نقيم هذه المباريات تبجيلا لشخص آخر، لكنت الفائز بالجائزة الأولى، ولحملتها إلى كوخي؛ لأنكم تعرفون إلى أي حد يتفوق جواداي في العدو؛ لأنهما خالدان أعطاهما بوسايدون لابن بيليوس، فأعطانيهما هذا بدوره، ولكني سأبقى في مكاني مع جوادي القويي الحوافر؛ إذ إنهما فقدا سائقا بالغ الشجاعة والمجد، كثير الرحمة، كثيرا ما كان يسكب الزيت الأملس فوق معرفتيهما بعد أن يغسلهما بالماء الصافي؛ لذلك فإنهما يبكيانه الآن، وقد تدلت معرفتاهما على الأرض، وهما يقفان هناك. والألم يحز في قلبيهما. أما أنتم أيها الآخيون، فمن منكم له ثقة في جياده ومتانة عربته، فليتأهب!»
هكذا قال ابن بيليوس، وحث سائقو العربات أنفسهم. فنهض أول الجميع، يوميلوس - ملك البشر وابن أدميتوس - وهو رجل ماهر جدا في الفروسية. وتبعه ديوميديس القوي، ابن توديوس، فوضع تحت النير جياد طروس، التي أخذها يوما من أينياس، عندما اختطف أبولو روح هذا. ثم نهض مينيلاوس الجميل الشعر - ابن أثريوس، المنحدر من زوس - وقاد تحت النير جوادين سريعين هما: «أيثي» فرس أجاممنون، و«بودارجوس» جواده هو. وكانت الفرس قد أعطاها أخيبولوس بن أنخيسيس إلى أجاممنون دون مقابل، حتى لا يتبعه إلى طروادة ذات الرياح، بل يبقى في وطنه مستمتعا بما وهبه زوس من ثروة طائلة، فعاش في سيكوون الفسيحة. وقاد مينيلاوس هذين تحت النير، وكانا شديدي التلهف إلى السباق. ثم أعد أنتيلوخوس جياده الجميلة الأعراف، وكان ابنا - لا مثيل له - لنسطور، الملك العظيم القلب، ابن نيليوس. وكانت الجياد السريعة الأطراف التي تجر عربته قد نشأت في «بولوس»، وقد أوصاه أبوه العاقل بقوله: «أي أنتيلوخوس لقد أحبك زوس وبوسايدون - رغم صغر سنك - وعلماك جميع ضروب الفروسية؛ ومن ثم فلا حاجة إلى تعليمك مزيدا؛ لأنك تعرف كيف تدور حول الوتد، ومع ذلك فإن جيادك هي أبطأ جياد في السباق؛ ولذا أرى أن الخجل سيكون نصيبك. فجياد الآخرين أسرع ولكن الفرسان لا يستطيعون أن يدوروا بمهارة تفوق مهارتك. هيا، يا ولدي العزيز، فكر في سائر صنوف الدهاء. واعلم أن الحطاب إنما يفضل غيره بالقوة، أما مدير الدفة، فبالدهاء يقود السفينة السريعة، آمنة على صفحة اليم القاتم كالخمر، بينما تعبث بها الرياح، وبالدهاء يبرهن سائق العربة على أنه أفضل من غيره، أفضل من شخص آخر يعتمد على جياده وعربته، يدور بغير حذر في هذا الجانب وذاك، وتهيم جياده في الطريق. ولا يحتفظ بها قريبة من الوتد، أما السائق الرشيد، فمهما كانت جياده أسوأ من غيرها، فإنه يركز عينيه دائما على محور السباق، ويدور بقربه، ولا ينسى أن واجبه الأول أن يسيطر على جياده بالأعنة المصنوعة من جلد الثور، محتفظا بها دائما في يده، ويراقب الرجل الذي يتقدمه في السباق. وسأنبهك إلى أمر قد يخفى عليك: هناك بقية جذع شجرة، بارتفاع قامة فوق الأرض ، لعلها كانت لشجرة بلوط أو لشجرة صنوبر لا تفسد بالأمطار، وعلى جانبها حجران أبيضان مثبتان في الأرض متقابلان، عند ملتقى الطريق، وحولها أرض ملساء لقيادة العربات. ربما كانت أثرا لشخص مات من غابر الأزمان، أو جعلت محورا للسباق منذ قدامى الشعوب، وقد جعلها أخيل العظيم السريع القدمين محورا لهذا السباق، مضيقا الطريق على المتسابقين. قد جيادك وعربتك بالقرب منها، ولاحظ أن تميل قليلا - في عربتك المجدولة جيدا - إلى يسار الجوادين، واهمز الجواد البعيد صائحا، وأرخ له العنان من يدك، وليتقرب الجواد القريب من المحور بحيث إن دولاب العجلة المتينة الصنع، يبدو وكأنه يحتك بها. وحذار أن تمس الصخرة، خشية أن تجرح جيادك وتحطم عربتك، فعندئذ يفرح الآخرون، ويقع عليك اللوم. كن عاقلا، حذرا، يا ولدي العزيز، فإن سبقت غيرك عند المحور، فلن يلحق بك أحد منهم - مهما تكن سرعته خاطفة - ولن يسبقك، ولو كان يقود أريون العظيم جواد أدراستوس السريع، الذي كان من نسل السماء، أو من جياد لاوميدون، نسل هذه البلاد العظيم.»
وما إن قال نسطور بن نيليوس هذا، حتى عاد إلى مجلسه، بعد أن أخبر ابنه بخفايا كل أمر!
أعد ميريونيس - خامس المتسابقين - جياده الجميلة الأعراف، ثم أعلى المتسابقون عرباتهم، وقذفوا بالأزلام، فهزها أخيل، وأخرج زلم أنتيلوخوس بن نسطور، وبعده الملك يوميلوس، فمينيلاوس بن أثريوس، المشهور برمحه، فميريونيس، وآخرهم جميعا ابن توديوس، رغم أنه يفضلهم جميعا. فأوجد مكانا لعربته، ثم اصطفوا بعرباتهم، وعين لهم أخيل غاية السباق بعيدا في السهل الأملس. وجلس فونيكس الشبيه بالإله - خادم أبيه - حكما يراقب المباراة ويحكم بالعدل. ثم رفعوا جميعا السياط في وقت واحد، كل فوق نير الجياد، وضربوها بالأعنة، وصاحوا عليها بلهفة، فانطلقت في الحال، تعدو مسرعة خلال السهل بعيدا عن السفن. وثار الغبار تحت صدورها، كما لو كانت سحابة أو زوبعة، وتطايرت أعرافها في مهب الرياح. كانت العربات تستبق تارة فوق الأرض الفسيحة، وطورا تثب عاليا، وكل فارس يقف في عربته، وقلبه يخفق بعنف، لفرط التلهف على الظفر. وكان كل رجل يصيح في جياده وهي تطير فوق الثرى خلال السهل.
وعندما أوشكت الجياد السريعة أن تفرغ من آخر مرحلة للسباق - بعيدا صوب البحر الرمادي - تجلى الانفعال على محيا كل سائق، وأجبرت الجياد على أن تعدو بأقصى خطوها. وفي الحال قفز جوادا ابن فيريس
1 - السريعا الأقدام - إلى الأمام، ووراءهما بمسافة قليلة جوادا ديوميديس، اللذان انحدرا من نسل طروس. وكان يبدو أن الجوادين سيعتليان عربة يوميلوس، وأنفاسهما تمس ظهره وكتفيه العريضتين، فتزيدها سخونة، إذ كانا يحنيان رأسيهما فوقه تماما وهما ينطلقان. وكاد ابن توديوس أن يسبقه أو يحاذيه فتبقى النتيجة معلقة، لولا أن «أبولو» غضب منه، فأسقط السوط اللامع من يده، وتساقطت الدموع من عيني ابن توديوس غيظا؛ إذ رأى بقية الأفراس تعدو بسرعة أكثر من ذي قبل، بينما حارت جياده، إذ صارت تجري بلا منخس. بيد أن أثينا لم تكن غافلة عما فعله أبولو بابن ثوديوس، فأسرعت وراء راعي الجيش، وقدمت إليه السوط ثانية، ونفثت القوة في جياده. ثم انطلقت الربة غاضبة خلف ابن أمينوس، وحطمت نير جياده، فراحت الأفراس تحيد في السباق إلى هذا الجانب وذاك، وتدلى محور العربة إلى الأرض، وقذف يوميلوس بنفسه خارج العربة - بجانب العجلة - فتعرى مرفقاه وفمه وأنفه من الجلد، ورض جبينه فوق حاجبيه، وامتلأت كلتا عينيه بالدموع، وانحبس صوته. عندئذ أثار ابن توديوس جياده القوية الحوافر جانبا، وقادها منطلقا بعيدا يتقدم الباقين، إذ أودعت أثينا القوة في جياده، ووهبته المجد. ومن بعده جاء مينيلاوس، الجميل الشعر، ابن أتريوس، ولكن أنتيلوخوس صاح في جوادي أبيه قائلا: «هيا أسرعا، واجتهدا بأقصى سرعتكما. لن أطالبكما بأن تباريا جوادي ابن ثوديوس الحكيم القلب - اللذين بثت فيهما أثينا السرعة ومنحت قائدهما المجد - بل ألحقا بجوادي ابن ثوديوس، ولا تسبقاهما خشية أن تنزل أيثي العار بكما. لماذا تدعان غيركما يسبقكما، أيها الجوادان الطيبان؟ إنني أقول لكما إن هذا ما سوف يحدث فعلا، ولن يعطف عليكما نسطور - راعي الجيش - بل إنه سيقتلكما في الحال بالبرونز الحاد، لو أنكما تقاعستما ولم تفوزا إلا بأقل جائزة، أسرعا وراءهما ما وسعتكما سرعتكما، وسأضع خطتي لكي نمرق من بينهما في الطريق الضيق، فلن يفوتني هذا!»
هكذا قال، فخاف الجوادان تقريع سيدهما، وانطلقا لفترة قصيرة يعدوان بسرعة أكثر من ذي قبل. وبسرعة لمح أنتيلوخوس الصنديد، مكانا ضيقا في الطريق الخالي. كان هناك شق في الأرض، إذ أزالت مياه الأمطار جزءا من الطريق وجعلت مكانه مجوفا، هناك، قاد مينيلاوس عربته أملا في ألا يستطيع أي فارس آخر أن يزاحمه بعربته ولكن أنتيلوخوس أدار جياده القوية الحوافر إلى خارج الطريق واقتفى أثره، جامحا إلى أحد الجانبين قليلا. فذعر ابن أتريوس وصاح في أنتيلوخوس بقوله: «أكبح جماح جواديك يا أنتيلوخوس، فإنك تنطلق برعونة، إن الطريق هنا ضيق، ولكنه سرعان ما سيتسع للمرور، وأخاف أن تصدم عربتي فيصيبنا الأذى معا!» بهذا تكلم، ولكن أنتيلوخوس مضى يقود بعنف أكثر، وأعمل المنخس، كأنه لم يسمع قوله. وانطلقا بعيدا، إلى مدى مرمى الجلة يطوح بها شاب من كتفه، وهو يختبر قوته، ولكن جوادي ابن أتريوس تراجعا، إذ رفض - من تلقاء نفسه - أن يحثهما، لئلا تصطدم الجياد - القوية الحوافر - معا في الطريق، فتنقلب العربتان المصنوعتان بإحكام، ويرتمي الفارسان فوق الثرى في تسرعهما الأهوج للنصر. عندئذ عير مينيلاوس الجميل الشعر أنتيلوخوس قائلا: «أي أنتيلوخوس، ليس أخبث منك بين البشر. انطلق في جنونك، فكم أخطأنا - نحن الآخيين - إذ كنا نعتبرك حكيما، ولكنك رغم ذلك، لن تحمل الجائزة بعيدا، بغير يمين!»
2
هكذا قال، وصاح في جواديه قائلا: «إني آمركما ألا تحجما، أو تقفا ساكنين وقلباكما يفيضان حزنا. إن أقدامهما وسيقانهما ستتعبان قبلكما إذ يفتقر كل منهما إلى الشباب.»
وإذ قال هذا، خشي الجوادان تعنيف سيدهما، فراحا يعدوان بمزيد من السرعة، فسرعان ما اقتربا من الآخرين. وكان الأرجوسيون يجلسون في مكان الاجتماع، يشاهدون الجياد الطائرة في السهل وسط الغبار. وكان أيدومينيوس، قائد الكريتيين هو أول من رآها، إذ كان يجلس خارج الجمع، في أعلى نقطة بمكان المراقبة. فلما سمع صوتا يصيح، عرفه رغم أنه كان نائيا جدا. وفطن إلى جواد ظهر في المقدمة، كل جسمه كستنائي اللون، وفوق جبينه غرة مستديرة كأنها القمر. فوقف وتكلم وسط الأرجوسيين قائلا: «أصدقائي، قادة وحكام الأرجوسيين، هل أنا وحدي الذي أرى الجياد، أو أنكم ترونها كذلك؟ إن ثمة زوجا من الخيل يلوحان في المقدمة، غير الزوج اللذين كانا من قبل، كما يظهر سائق جديد. أما الجوادان الأولان، فقد حادا عن الطريق فلا بد قد أصابهما أذى؛ فقد رأيتهما يمرقان أولا حول نقطة الدوران، أما الآن فإنني لا أستطيع رؤيتهما في أي مكان، رغم أن عيني تبصران كل مكان وأنا أحدق ببصري خلال السهل الطروادي. ترى هل أفلت الزمام من يد السائق فلم يستطع القيادة حول نهاية الطريق، وفشل في الدوران؟ لا بد أنه وقع على الأرض - كما أعتقد - وتحطمت عربته، ولا بد أن الفرسين قد انحرفا عن الطريق في هلع شديد. ومع كل، قفوا أنتم أيضا، وانظروا، فلا بد أنني لا أرى بجلاء، ويبدو أن الرجل أيثولي الجنس، وملك بين الأرجوسيين، إنه ديوميديس القوي، ابن توديوس مستأنس الخيول.»
عندئذ عيره أياس السريع - ابن أوليوس - متهكما بقوله: «يا أيدومينيوس، لماذا أنت مهذار منذ القدم؟ كلا، فما زالت الأفراس تعدو بعيدا فوق السهل الفسيح بخطى واسعة. وما أنت بأصغر الأرجوسيين، فليس بصرك أكثر حدة من غيرك، لذلك فأنت تهذي، وجدير بك ألا ترفع صوتك، فهنا من هو أفضل منك، ولا يزال الجوادان اللذان احتلا المقدمة من قبل، يتقدمان، وهما جوادا يوميلوس، كما أنه يقف بنفسه ثابتا في عربته، ممسكا بالأعنة.» وهنا استشاط قائد الكريتيين غيظا، وأجابه بقوله: «أياس، يا سيد اللائمين، يا ذا المشورة غير الصائبة، إنك متأخر في كل شيء عن بقية الأرجوسيين، لعناد عقلك. تعال الآن، هيا نتراهن على ركيزة أو قدر، ونختار أجاممون بن أتريوس حكما بيننا، على أي الجياد في المقدمة، كي تدفع فتتعلم!»
وما إن قال هذا، حتى نهض أياس السريع - ابن أوليوس - حانقا، ليرد عليه بعبارات الغضب. وكاد النزاع بينهما يمتد إلى أكثر من ذلك، لولا أن أخيل نفسه، نهض وخاطبهما بقوله: «لا يردن أحدكما على الآخر بكلمات الغضب، أو عبارات الشر، بعد الآن يا أياس ويا أيدومينيوس، فهذا لا يليق قط. وليسخط كل منكما على من يتصرف مثل هذا التصرف. اجلسا في مكان الاجتماع، وراقبا الجياد، فسرعان ما ستأتي إلى هنا، في تسرعها الجائع إلى الظفر، وعندئذ يعرف كلاكما أي جياد الأرجوسيين في المؤخرة، وأيها في المقدمة!»
وإذ قال هذا، كان ابن توديوس قد اقترب وضرب بسوطه أكتاف الجوادين، فقفزا عاليا وهما يعدوان مسرعين في طريقهما. وباستمرار كانت سحب الغبار تصفع سائق العربة، وكانت عربته - المثقلة بالذهب والقصدير - تسرع خلف الجوادين السريعي الأقدام، ولم تترك إطارات العجلات إلا أثرا بسيطا في الثرى الخفيف، إذ كان الجوادان يكادان يطيران. وقفز ديوميديس إلى الأرض من عربته البراقة، وسط مكان الحشد، وأسند المنخس على النير، والعرق يتدفق مدرارا من عنقي وصدري الجوادين، متساقطا على الأرض. ولم يتلكأ سثينيليوس العتيد، بل أخذ الجائزة بسرعة، وسلم أصدقاءه الشجعان المرأة والركيزة ذات المقابض ليحملوهما بعيدا، ورفع بنفسه النير عن الجياد!
ومن بعده قاد أنتيلوخوس سليل نيليوس جواديه؛ لأنه بالخديعة - وليس بالسرعة قط - كان قد سبق مينيلاوس. ومع كل فإن مينيلاوس قاد جواديه السريعين خلفه مباشرة، وبقدر ما يبعد جواد عن العجلة، وهو يجر سيده عبر السهل، ويبذل الجهد عند العربة التي تلمس آخر شعرات ذيله إطارها؛ لأنها تجري وراءه مباشرة، وليس بينهما عدا فرجة بسيطة، وهو يعدو خلال السهل الفسيح، بمثل هذا القدر كان مينيلاوس وراء أنتيلوخوس - وحيد عصره - برغم أنه كان - في البداية - متأخرا عنه بمرمى الجلة. غير أن أنتيلوخوس لحق به بسرعة؛ إذ كان الحماس العظيم لفرس أجاممنون «أيثي» الجميلة العرف، دائما في اطراد. ولو طال الطريق بعد ذلك لسبقه، ولما ترك النتيجة معلقة، ولكن ميريونيس - خادم أيدومينيوس الشجاع - كان قاب رمح وراء مينيلاوس المجيد، إذ كانت جياده الجميلة الأعراف أبطأ الجياد كلها، وكان هو نفسه أقلهم مهارة في قيادة العربات في السباق. وأخيرا جاء أرميثوس، خلف الجميع، ساحبا عربته الجميلة، وقائدا جياده أمامه. وعند رؤيته أشفق عليه أخيل العظيم السريع القدمين، ونهض وسط الأرجوسيين وخاطبه بكلمات مجنحة قائلا: «يا للعار، إن خير الفوارس يقود جياده القوية الحافر في آخر الجميع. ولكن، هلم بنا، نمنحه جائزة تليق به، جائزة المرتبة الثانية، أما الأولى، فليأخذها ابن توديوس!»
هكذا قال، فوافق الجميع على رأيه. وكاد يعطيه الفرس - لأن الآخيين وافقوا على ذلك - لولا أن أنتيلوخوس بن نسطور الصنديد، قام يرد على أخيل بن بيليوس، ليطلب حقه قائلا: «يا أخيل، سوف يكون غضبي منك شديدا لو حققت هذا القول وسلبتني جائزتي، فكر مليا في هذا، وكيف أن عربته وجواديه السريعين قد لاقت الضرر وهو معها، رغم فروسيته. كلا، كان يجب أن يصلي للخالدين، عندما رأى أنه سيكون آخر الجميع في المباراة. أما إذا كنت تشفق عليه، ففي خيمتك كمية كبيرة من الذهب، وهناك البرونز والأغنام، والجواري كذلك، والجياد القوية الحوافر، وبوسعك أن تعطيه منها جائزة أعظم، وليكن الآن - إن شئت - ليصفق لك الآخيون. أما الفرس فلن أتنازل عنها، وأصارع أي رجل يقدم على مصارعتي من أجلها بقوة اليد!»
وإذ قال هذا، ابتسم أخيل العظيم السريع القدمين، مسرورا من أنتيلوخوس؛ إذ كان صديقه الحميم. فرد عليه بكلمات مجنحة قائلا: «أي أنتيلوخوس، إن كنت تريدني أن أعطي يوميلوس شيئا آخر من منزلي كجائزة إضافية، فسأفعل. سأعطيه الدرقة التي أخذتها من أستيروبايوس، وهي من البرونز، وعليها حلقات من القصدير اللامع، ولسوف تكون عظيمة القيمة له.» وما إن تم حديثه حتى أمر صديقه الحميم أوتوميدون بأن يحضرها من كوخه، فلبى هذا أمره، وجاء بها، وسلمها إلى يوميلوس، فتقبلها مسرورا.
بعد ذلك قام بينهم مينيلاوس، محنقا في قلبه، مغيظا في أنتيلوخوس، فوضع أحد الحجاب الصولجان في يده، ونادى على الأرجوسيين بالصمت، ثم تكلم الشبيه بالإله فقال: «أي أنتيلوخوس، لقد كنت فيما مضى حكيما، فماذا فعلت ؟ لقد ألحقت العار بمهارتي وعطلت جوادي، بأن دفعت جواديك إلى الأمام، وهما اللذان يقلان سرعة عن جوادي بمراحل. هيا الآن، يا قادة وحكام الأرجوسيين، فاحكموا بين كلينا بالعدل، ولا تتحيزوا لأي منا، لئلا يقول أحد الآخيين المتدثرين بالبرونز فيما بعد: «لقد تفوق مينيلاوس على أنتيلوخوس بالزيف، واستولى على الفرس، إذ كان جواداه متأخرين بعيدا، بينما كان هو الأكثر جدارة وقوة.» كلا، سأعلن بنفسي الحقيقة، وأعتقد أنه ما أحد من الدانيين سوف يلومني؛ لأن حكمي سيكون عادلا. هيا يا أنتيلوخوس، المنحدر من زوس، تعال إلى هنا، وقف أمام جواديك وعربتك كما هي الطريقة المتبعة، وأمسك بيدك السوط الرفيع الذي كنت تسوق به، وضع يديك على جواديك، وأقسم بذلك الذي يمسك الأرض ويزلزلها أنك لم تعرقل عربتي بالخداع متعمدا.»
فرد عليه أنتيلوخوس العاقل، قائلا: «أيها الملك مينيلاوس، كفى الآن، لأنني أصغر منك سنا، وأنت أكبر وأفضل، إنك تعرف كيف تصدر الهفوات من الشاب، إذ يتلهف إلى الهدف، مع ضآلة حصافته. فليكن قلبك حليما، إن الفرس التي ربحتها، سأعطيكها من تلقاء نفسي. نعم، وإذا طلبت ما هو أعظم منها - من بيتي - فسأعطيكه في الحال بيدي، فهذا خير من أن يصغر قدري في قلبك، يا سليل زوس، وأكون مذنبا في عيون الآلهة.»
هكذا تكلم ابن نسطور البالغ الشجاعة، وقاد الفرس فقدمها إلى مينيلاوس وابتهج قلب هذا كما يبتهج القمح عندما ينزل الندى على سنابله وينضجه، هكذا أيضا، كان قلبك الكائن في صدرك، سعيدا يا مينيلاوس، فخاطب أنتيلوخوس بكلمات مجنحة قائلا: «عجبا يا أنتيلوخوس، إنني لأكف الآن عن غضبي منك مختارا، إذ إنك لم تكن بحال ما طائشا أو غير متزن العقل، رغم أن شبابك قد بلغ الآن مبالغ الإدراك، فلا تحاول مرة أخرى أن تتفوق على من هم أفضل منك. الحقيقة أنه لم يكن في مكنة أي فرد آخر من الآخيين أن يثنيني عن عزمي بسهولة. إنك قد عانيت وكافحت كثيرا من أجلي - أنت ووالدك الصنديد وأخوك - لذلك سأجيب رجاءك، وأعطيك الفرس، رغم أنها حقي، ليعرف القوم أنني لست حقود القلب ولا صلب الرأي.»
قال هذا، وأعطى الفرس لنويمون - صديق أنتيلوخوس - ليذهب بها، ثم أخذ هو القدر البراقة، وأخذ ميريونيس وزنتي الذهب في المرتبة الرابعة، أما الجائزة الخامسة - القارورة ذات المقبضين - فلم يطالب بها أحد. فقدمها أخيل إلى نسطور، حاملا إياها وسط الجمع، مقتربا بها منه، وقال له: «خذ هذه الآن، أيها السيد الشيخ، ولتكن كنزا لك وذكرى لدفن باتروكلوس؛ لأنك لن تراه بعد الآن بين الأرجوسيين! إنني أعطيك هذه الجائزة، التي لم يربحها أحد؛ لأنك لن تناضل في ملاكمة ولا في مصارعة، ولن تشترك في مباريات قاذفي الرماح، ولا العدائين، لأن الشيخوخة المفجعة تلقي أحمالها ثقيلة عليك!»
ما إن قال هذا حتى وضع القارورة في يديه، فتلقاها نسطور مسرورا، وخاطبه بألفاظ مجنحة قائلا: «حقا، يا ولدي، صواب كل ما قلت! إن كل أطرافي - حتى قدماي - لم تعد قوية كما كانت ولا عاد ساعداي ينطلقان من كتفي بسهولة كما كانا، ليت شبابي يعود إلي، وتصبح قوتي مكينة كما كنت يوم دفن الأيبيون ملكهم أمارونكيوس في بويراسيوم، وخصص أبناؤه الجوائز تخليدا للملك. في ذلك اليوم تفوقت على الجميع، حتى الأيبيين والبيليين والأيتوليين الصناديد. فتغلبت في الملاكمة على كلاثوميديس بن أينويس وفي المصارعة على أنكايوس القادم من بليورون، وفي السباق على أفيكلوس - رغم مهارته في العدو - وفي قذف الرمح على فوليوس وبولودوروس. أما في سباق العربات فقد سبقني ولدا أكتور، فصارت جيادهما في المقدمة، إذ كانا متلهفين على الفوز؛ ولذلك فإن خير الجوائز كانت باقية في القوائم.
3
وكانا شقيقين توءمين؛ أحدهما تولى قيادة الخيل بيد ثابتة، بينما باشر الآخر المنخس. هكذا كنت أنا ذات حين، أما الآن فليضطلع من هم أصغر مني بأمثال هذه المهام، بينما يجدر بي أن أستسلم للشيخوخة المفجعة، فقد كنت مبرزا وقتذاك بين المحاربين. وها أنت ذا تقيم لزميلك الطقوس الجنائزية بالمباريات؛ ولذلك أتقبل منك هذه الهدية مسرورا، كما أن قلبي يغتبط لأن تذكرني دائما يا صديقي، ولا تنساني ومجدي بين الآخيين ، أسأل الآلهة أن تكافئك عن هذا بما يرضي قلبك!»
مباريات أخرى!
وبعد أن قال نسطور هذا ارتد ابن بيليوس وسط جمع الآخيين العظيم، بعد أن سمع ثناء ابن نيليوس. ثم خصص جوائز للملاكمة العنيفة. فأتى ببغل قوي وعقله في مكان الاجتماع. وكان بغلا في السادسة من عمره، صحيح الجسم، يصعب التغلب عليه. وجعل للخاسر كأسا ذات يدين، ثم تكلم وسط الأرجوسيين قائلا: «يا ابن أثريوس، وأنتم أيها الآخيون المدرعون جيدا، إنني أدعو اثنين من المحاربين - من خيرة الموجودين - لهاتين الجائزتين فليرفعا أيديهما ويتلاكما. ومن يمنحه أبولو القوة على الصمود في الملاكمة - أمام جميع الآخيين - فليأخذ البغل إلى كوخه. أما الخاسر فستكون جائزته هذه الكأس ذات اليدين.» وما إن أتم قوله حتى نهض رجل مديد القامة شجاع بارع في الملاكمة، هو أيبيوس بن بانونبيوس، وقال: «فليقترب من يريد الكأس ذات اليدين كجائزة. أما البغل فلا أظن بين الآخيين من يمكنه الحصول عليه - بقوة قبضته - سواي. فها أنا ذا أعلن أنني أحسن رجل هنا، ألا يكفي أنني غير مبرز في القتال؟ فليس في مقدور المرء - كما يبدو لي - أن يكون ماهرا في كل شيء. أقول هذا، وسوف أحققه. سأحدث رضوضا بجسم غريمي، وسأحطم عظامه. ولينتظر هنا أقرباؤه كي يحملوه عندما تنكل به يداي!»
قال هذا، وخيم الصمت على الجميع. غير أن يوروالوس، الشبيه بالإله - ابن الملك ميكيستيوس بن تالاوس - كان الوحيد الذي نهض لمواجهته. وكان قد جاء إلى طيبة ذات يوم، لحضور دفن أوديبوس - عندما سقط - وهناك هزم جميع أبناء كادموس. فقام ابن توديوس - المشهور برمحه - وشجع يوروالوس بالكلام، وتمنى له النصر. فشد وسطه بحزام، ثم أعطاه حمالات مصنوعة بإتقان من جلد الثور. وبعد أن شد كل منهما وسطه بحزامه، تقدما إلى مكان النزال، ورفعا أيديهما القوية عاليا. ثم هجم كل منهما على الآخر، يكيل له الضربات الثقيلة. وكان صرير أسنانهما قويا. وسال العرق غزيرا من جوانب أطرافهما. وما لبث أيبيوس العظيم أن هجم وهو يتطلع إلى ثغرة، وضرب منافسه على خده ، فترنح هذا، وخارت أطرافه المجيدة تحته. وكما يحدث عندما تقفز السمكة تحت هبة الريح الشمالية، فوق الرمال المغطاة بالأعشاب فتتدفق الموجة السوداء فوقها من جديد، كذلك قفز يوروالوس عاليا عندما تلقى الضربة، ولكن أيبيوس - الجم الشجاعة - أمسك به في يديه، وقذف به على قدميه، فأسرع أصدقاؤه المقربون، والتفوا حوله، وسحبوه خلال مكان الاجتماع، وأقدامه تتدلى فوق الأرض، وهو يبصق كتلا دموية، ورأسه يتدلى إلى أحد جنبيه. فأحضروه شارد الفكر، وأرقدوه وسطهم، وذهبوا مختارين وجاءوا بالكأس ذات اليدين.
بعد ذلك، أعد ابن بيليوس جوائز أخرى لمباراة ثالثة للدانيين، في المصارعة الخشنة. فجعل للفائز ركيزة بديعة توضع فوق النار، ركيزة قدرها الآخيون باثني عشر ثورا. أما الخاسر، فجعل له امرأة ماهرة في الأعمال اليدوية قوموها بأربعة ثيران ونهض يتكلم وسط الأرجوسيين قائلا: «قفا الآن، يا من ستشتركان في هذه المباراة!»
وما إن قال هذا، حتى نهض أياس التيلاموني العظيم، كما نهض أدويسيوس، الكثير الحيل، ذو البديهة الخداعة. وبعد أن تمنطق كلاهما، تقدما إلى وسط مكان النزال، وأمسك كل منهما زميله بقبضة من حديد، كما يوصل الصانع الماهر أخشاب السقف الهرمي، ليقاوم قوة الرياح. وطقطق ظهراهما من الشد العنيف بأيديهما القوية، وتدفقت سيول العرق في عدة مجار مخضبة بالدماء، من جروح كثيرة، راحت تظهر هنا وهناك بين ضلوعهما وأكتافهما. وهكذا أخذا يتصارعان بعنف من أجل النصر، ليفوزا بالركيزة الرائعة. ولم يتمكن أوديسيوس من الإخلال بتوازن أياس، وإلقائه على الأرض كما لم يستطع أياس ذلك؛ لأن قوة أوديسيوس الفذة كانت راسخة. وفي النهاية، كاد الملل يتملك من الآخيين المدرعين جيدا، فتحدث أياس التيلاموني العظيم إلى أوديسيوس، قائلا: «يا نسل زوس، يا ابن لايرتيس، يا أوديسيوس الكثير الحيل، ارفعني من الأرض، أو دعني أرفعك، والنتيجة بعد ذلك في يد زوس.»
قال هذا، ورفعه، ولكن أوديسيوس لم ينس خداعه. فضربه في تجويف ركبته من الخلف ضربة قاضية، وأرخى أطرافه، حتى إنه ارتمى إلى الوراء، وسقط أوديسيوس فوق صدره. وحملق فيهما وتملكهم العجب. ثم حاول أوديسيوس العظيم الاحتمال، بدوره، أن يرفعه، وحركه قليلا من الأرض، ولكنه لم يتمكن من رفعه، بل أدخل ركبته في ركبة أياس، فسقط الاثنان فوق الأرض، واحدا بجانب الآخر ، وتغبرا في التراب، وكادا ينهضان للمرة الثالثة ويتصارعان، لولا أن قام أخيل وأمسك بهما، قائلا: «لا تتصارعا بعد الآن، ولا تنهكا نفسيكما بالألم. فالنصر لكليكما، ولتأخذا إذن جائزتين متساويتين، واذهبا إلى حال سبيلكما، كي يتصارع غيركما من الآخيين!» وإذ قال هذا، أطاعاه راضيين، فأزالا عن جسديهما التراب، وارتديا عباءتيهما.
وقدم ابن بيليوس - في الحال - جوائز أخرى لسرعة القدمين؛ طاسا من الفضة، فاخر الصنع، يسع ستة مكاييل، يفوق في جماله سائر الطاسات على ظهر الأرض؛ إذ صنعه السيدونيون - البارعون في الأعمال اليدوية الدقيقة - وأحضره الفينيقيون عبر البحر المظلم، وأنزلوه في الميناء، وقدموه هدية لثواس، ثم أهداه يونيوس بن جاسون،
4
للمحارب باتروكلوس، فدية عن لوكاون بن بريام. هذا الطاس قدمه أخيل جائزة في ذكرى صديقه، لمن يتفوق في سرعة العدو. قدم للفائز الثاني ثورا ضخما سمينا كله دهن، وخص للأخير نصف تالنت من الذهب. ثم نهض يتحدث إلى الأرجوسيين، قائلا: «هيا، يا من ستتبارون في هذه المسابقة».
هكذا تكلم، فهب في الحال أياس السريع، ابن أويليوس، وأوديسيوس الكثير الحيل، ثم أنتيلوخوس بن نسطور، إذ كان يفوق جميع الشبان في سرعة القدمين. واحتلوا أماكنهم في صف واحد، وعين لهم أخيل الهدف، وحدد لهم خط السير من نقطة الدوران. فانطلق أياس بسرعة في المقدمة، يتبعه أوديسيوس العظيم من كثب، بمسافة قدر بعد قصبة المنسج عن صدر المرأة الجميلة الزنار، عندما تجذبها في يديها بمهارة، وهي تمر بالمسلفة عبر السداة، ممسكة القصبة قريبا من صدرها، هكذا كان قرب أوديسيوس وهو يعدو خلفه، ويخطو فوق آثار أقدام أياس، أو وسط الغبار الثائر. وكانت أنفاس أوديسيوس العظيم ترتطم برأس أياس وهو يعدو بسرعة مستمرة. وصاح جميع الآخيين يحثونه على الإسراع ليتقدم، وهو يناضل من أجل النصر. ونادوه وهو يبذل قصارى جهده. فلما صارا يجريان في الجزء الأخير من السباق، صلى أوديسيوس في قلبه إلى أثينا ذات العينين البراقتين، بقوله: «اسمعي لي أيتها الربة، وكوني معينة عظيمة لأقدامي!» هكذا توسل إليها، فأنصتت إليه بالاس أثينا، وجعلت أطرافه خفيفة - قدميه ويديه من فوق - فما كاد المتسابقان يبلغان الهدف ليربحا الجائزة، حتى زلت قدم أياس وهو يجري فانزلق، لأن أثينا عرقلته - حيث كانت الأرض ملوثة بروث الثيران العالية الخوار، التي ذبحها أخيل السريع القدمين تخليدا لذكرى باتروكلوس - فامتلأ فمه ومنخراه بروث الثيران. وهكذا نال أوديسيوس العظيم - الكثير الاحتمال - الطاس، إذ وصل أولا. وفاز أياس المجيد بالثور. فوقف ممسكا قرن ثور الحقل في يده، وهو يتقيأ الروث. وخاطب الأرجوسيين بقوله: «سحقا، لقد عرقلتني الربة في عدوي، تلك التي تقف دائما إلى جانب أوديسيوس، كأنها الأم، وتساعده!»
هكذا قال، فضحك الجميع مرحين. وجاء أنتيلوخوس، فتسلم الجائزة الأخيرة باسما، وخاطب الأرجوسيين قائلا: «ألا اشهدوا يا أصدقائي، على أن الخالدين يمنحون المجد لكبار السن، حتى هنا؛ فإن أياس يكبرني سنا بقليل، بينما أوديسيوس من جيل سابق ومن قوم سابقين، فله الشيخوخة الخضراء كما يقول الناس. ومع ذلك فمن العسير على أي فرد آخر من الآخيين أن يتبارى معه في العدو اللهم إلا أخيل!» قال هذا، وقدم المجد لابن بيليوس، السريع القدمين. فرد عليه أخيل بقوله: «يا أنتيلوخوس، لن تمضي كلمة المديح التي قلتها عبثا، فسأضيف إلى جائزتك نصف تالنت من الذهب!» وما إن قال ذلك، حتى وضعها في يديه، فتلقاها أنتيلوخوس بسرور.
ثم أحضر ابن بيليوس رمحا بعيد الظل إلى مكان الاجتماع، ومعه ترس وخوذة - هي عدة ساربيدون الحربية التي جرده منها باتروكلوس - ونهض يقول للأرجوسيين: «للفوز بهذه الجوائز، ندعو اثنين من خيرة المحاربين الموجودين هنا، ليتدثرا بحلتيهما الحربيتين، ويتناولا البرونز الممزق للحم، ويعجم كل منهما عود الآخر أمام الجيش. ومن منهما يصل أولا إلى لحم خصمه الجميل، ويلمس جسمه داخل الحلة الحربية والدم القاني، سينال هذا السيف المرصع بالفضة، وإنه لسيف تراقي عظيم أخذته من أستيروبايوس. أما هذه الأسلحة فليقتسماها معا، وسنولم لهما وليمة عظيمة في أكواخنا .»
وإذ قال هذا، نهض أياس التيلاموني العظيم، وديوميديس الصنديد ابن توديوس، وبعد أن تسلحا على جانبي الحشد، تقدما إلى الوسط متلهفين للعراك، وهما يحملقان بفظاعة. فتملكت الرهبة سائر الآخيين. حتى إذا اقترب كل منهما من الآخر، هجم عليه، ثلاث مرات انقض كل منهما على الآخر، وثلاث مرات التحما سويا. ثم قذف أياس رمحه صوب الترس المتزن جيدا من كل جانب، ولكن الرمح لم يصل إلى اللحم؛ إذ منعته الدرقة الداخلية. وظل ابن توديوس يحاول الوصول إلى عنقه - بطرف الرمح البراق - عبر الدرع العظيمة، فتملك الخوف الآخيين إشفاقا على أياس، وأمروهما بالكف عن الصراع، على أن ينال كل منهما جائزة تعادل جائزة زميله، ولكن البطل أعطى الحسام الضخم لابن توديوس، بغمده وحمائله الدقيقة الصنع.
بعد ذلك وضع ابن بيليوس كتلة من الحديد الخام، اعتاد أيثيون فيما مضى أن يقذفها كجلة بقوته الجمة، ولكن أخيل - السريع القدمين - قتله، واستولى على هذه الكتلة ونقلها إلى سفنه مع أمتعته الأخرى. فقام وتكلم وسط الأرجوسيين قائلا: «فلتنهضا الآن، يا من ستقومان بالمحاولة في هذه المباراة، وإن الفائز بهذه الكتلة الحديدية سيكون عنده ما يكفيه من الحديد لخمس سنوات متتابعة، ولن يضطر إلى الذهاب إلى المدينة؛ ليحضر حديدا لراعيه أو حارث أرضه، إذ ستزوده به هذه الكتلة.»
ما إن أتم قوله هذا حتى نهض بولوبويتيس - الباسل في القتال - وليونثيوس القوي - الشبيه بالإله - وأياس بن ثيلامون، وأيبيوس العظيم، واحتلوا أماكنهم بنظام. فحمل أيبيوس الكتلة، وحركها في يده، ثم قذفها فضحك من ذلك جميع الآخيين. وأخذها ليونثيوس - نسل أريس - بدوره، ورماها. ثم قذف بها تيلامون العظيم بيده القوية - وكان ثالثهم - فطارت إلى ما بعد علامات سابقيه. وإذ ذاك التقطها بولوبويتيس المقدام، وطوح بها، كما يطوح الراعي عصاه، فتدور في الهواء فوق قطعان البقر، هكذا بعيدا طارت الكتلة خلف جميع المحتشدين، فصاحوا مهللين عاليا. ونهض أصدقاء بولوبويتيس وحملوا جائزة الملك إلى السفن الجوفاء.
ومن أجل القواسين وضع جائزة من الحديد القاتم - عشر فئوس مزدوجة الرءوس، وعشرا أخرى فردية الرأس . وغرس شراع سفينته السوداء الحيزوم، بعيدا في الرمال، وثبت أسفله يمامة خائفة، بحبل رفيع، وأمرهم برمايتها، قائلا: «من أصاب اليمامة المرتجفة، حمل إلى وطنه جميع الفئوس المزدوجة الرءوس. أما من أصاب الحبل، وإن أخطأ الطائر، فسيحمل جائزة الخاسر. وهي الفئوس الفردية الرءوس.» وبعد أن قال هذا، نهض الأمير ثيوكير القوي، وميريونيس الجريء - خادم أيدومينيوس - فتناولا الأزلام، وهزاها في خوذة من البرونز، فخرج زلم ثيوكير أولا. فأطلق في الحال سهما، دون أن ينذر للملك ذبيحة مئوية من الحملان البكر؛ لذلك أخطأ الطائر، إذ حقد عليه أبولو بسبب ذلك. ولكنه أصاب الحبل عند قاعدة الشراع، حيث كان الطائر مربوطا. وفي الحال مزق السهم الحبل. فطارت اليمامة إلى السماء، وتدلى الحبل على الأرض، وعندئذ ارتفع صياح الآخيين عاليا، ولكن ميريونيس خطف القوس بسرعة من يد ثيوكر - وبه سهم يحمله، كان ثيوكر قد أعده - ونذر في الحال أن يقدم إلى أبولو - الذي يضرب من بعيد - ذبيحة مئوية مجيدة من الحملان البكر. وعاليا تحت السحب، رأى ميريونيس اليمامة المذعورة، فسدد إليها السهم، بينما كانت تحوم هناك، فأصابها في وسطها، أسفل الجناح، وفي الحال مرق السهم خلال جسمها، ثم ارتد هاويا إلى الأرض من جديد، وانغرس أمام قدم ميريونيس، ولكن اليمامة استقرت فوق سارية السفينة الدكناء الحيزوم، معلقة من رأسها، بينما تدلى ريشها الغزير. وبسرعة فارقت روحها أطرافها، فسقطت بعيدا عن الصاري. وأخذ القوم يحدقون فيها ببصرهم، وقد تملكهم العجب. وعندئذ أخذ ميريونيس جميع الفئوس العشر - المزدوجة الرءوس - بينما حمل ثيوكير الفئوس الفردية الرءوس إلى السفن الجوفاء.
بعد ذلك أحضر ابن بيليوس - إلى مكان الاجتماع - رمحا بعيد الظل، وقدرا لم توضع على النار قط، تعادل قيمتها ثورا، ومزينة بصور الأزهار. فنهض من قاذفي الرماح، أجاممنون الواسع السلطان - ابن أتريوس - وميريونيس الشجاع، خادم أيدومينيوس. فقام أخيل يخاطبهما بقوله: «أيا ابن أتريوس، إننا نعلم يقينا أنك تبذ الجميع، وأنك خيرهم في القوة وقذف الرمح، خذ هذه الجائزة واذهب إلى السفن الجوفاء. أما الرمح فسيأخذه المحارب ميريونيس، إن وافق قلبك على ذلك، فهذا رأيي، على الأقل!» وإذ قال هذا، لم يتردد أجاممنون - ملك البشر - في الإصغاء إليه. فأعطى الرمح البرونزي إلى ميريونيس، فأعطاه هذا بدوره إلى الحاجب ثالثوبيوس.
الأنشودة الرابعة والعشرون
«... وأرقدوا هكتور على فراش موشى، وإلى جانبه وقفت خير النائحات اللائي ينشدن المراثي ... وكانت زوجته وأمه هما البادئتان بالعويل ...»
كيف افتديت جثة هكتور، وكيف شيعت جنازته؟
الآلهة تتشاور بشأن هكتور!
انفض الجمع - بعد ذلك - فتفرق القوم، ليذهب كل رجل إلى سفينته. وفكر الباقون في تناول طعام العشاء والنوم اللذيذ، وأن يحصلوا على كفايتهم منهما، ولكن أخيل انخرط في البكاء، متذكرا صديقه الحميم، فلم يتمكن النوم - الذي يسيطر على الجميع - من التغلب عليه، بل بقي يتقلب على هذا الجانب وذاك، متحسرا على رجولة باتروكلوس وقوته وجرأته، وكل كرب احتمله معه، بما في ذلك حروب الرجال، والأمواج المفجعة، وكان كلما فكر في ذلك ذرف الدموع الغزيرة، راقدا تارة على جنبه، وطورا على ظهره، وحينا على وجهه، وكثيرا ما كان ينتصب واقفا على قدميه، ويهيم - شارد الفكر - على طول ساحل البحر. ولم يكن يغفل الفجر، حين كان يشرق فوق ماء البحر وشواطئه، كل يوم. فكان يشد جواديه السريعين - تحت النير - إلى العربة، ويربط هكتور وراء هذه، ثم يمضي يجره. حتى إذا دار به ثلاث دورات، حول أكمة ابن مينويتيوس الميت، لجأ إلى كوخه يستريح، تاركا هكتور منكفئا على وجهه في الثرى. غير أن أبولو أبعد كل تشويه عن لحمه - مشفقا على البطل حتى في موته - وغطاه كله بالترس الذهبي، حتى لا يمزق أخيل جسده وهو يجره.
هكذا، كان أخيل في غضبه يصب جام غيظه المستحكم على هكتور العظيم، ولكن الآلهة المباركة أشفقت عليه إذ أبصرت به على تلك الحال، فأوعزت إلى أرجايفونتيس
1
الحاد البصر، أن يسرق الجثة. فسر الباقون لذلك، ما عدا «هيرا» وبوسايدون والعذراء المتألقة العينين. فاستمرت الربتان على ما كانتا عليه مذ بدأتا تمقتان طروادة المقدسة، وبريام وقومه، بسبب جزيرة ألكساندر، الذي وجه اللوم إلى هاتين الربتين حين حضرتا إلى كوخه، فأعطى الأولوية لتلك التي شجعت شهوته القاتلة.
فلما كان اليوم الثاني عشر - بعد ذلك - تكلم أبولو وسط الخالدين، قائلا: «ما أقساكم أيها الآلهة، مدبرو الخراب. ألم يحرق هكتور لكم أفخاذ الثيران والماعز بغير تردد؟ ألا يعطف عليه قلب أحدكم فينقذه - رغم كونه جثة هامدة - من أجل زوجته لتراه، وكذا أمه وولده وأبوه بريام وشعبه الذين سيدفنونه في النار ويؤدون له الطقوس الجنائزية؟ أم أنكم تؤثرون أخيل القاسي - أيها الآلهة - فتبادرون إلى مساعدته؟ مع أن عقله ليس سليما بحال ما، ولا هو ينثني عما في صدره، وإنما هو يعقد قلبه على القسوة، كالأسد الذي يغتر بقوته البالغة وروحه الملكية، فيهجم على قطعان البشر ليفوز لنفسه بوليمة، هكذا أيضا، فقد أخيل كل رحمة، فلا حياء لمن يؤذي الناس ويجني النفع من ورائهم. وكم من رجل فقد من هو أعز من هذا الذي فقده أخيل - أخا أنجبته أمه، أو ولدا - ومع ذلك فإنه لا يلبث أن يكف عن أن يبكيه؛ إذ إن ربات القدر منحت الإنسان روحا صابرة، ولكن هذا الرجل دأب - منذ أن سلب هكتور العظيم روحه - على ربطه وراء عربته، وجره حول أكمة صديقه العزيز. والحق أنه لن يجني من وراء ذلك شرفا ولا نفعا. فليحذر أن ننقم عليه، رغم أنه رجل عظيم، لأنه في ثورته يصب جام غيظه القذر على طين لا يحس!»
فاستشاطت «هيرا» - البيضاء الساعدين - غيظا، وخاطبته بقولها: «قد يكون الأمر كما تقول، يا سيد القوى الفضية، إذا كنتم - أيها الآلهة - تعتزمون أن تمنحوا مجدا لكل من أخيل وهكتور على السواء. على أن هكتور بشر رضع ثدي امرأة، أما أخيل فابن ربة، غذيتها أنا نفسي وربيتها وزوجتها للمحارب بيليوس، الذي كان عزيزا جدا على الخالدين. قد حضرتم كلكم حفل زواجهما، وجلست أنت شخصيا بينهما إلى مائدة الوليمة، والقيثارة في يدك، يا صديق الأشرار، الدائم الغدر!» وإذ ذاك، أجابها زوس - جامع السحب - قائلا: «لا يكن غضبك على الآلهة كاملا يا هيرا، فلن يكون مجد هذين متماثلا. لقد كان هكتور - هو الآخر - أعز البشر الموجودين في طروادة، لدى الآلهة. وهكذا كان هو عندي على الأقل، فإنه لم يؤخر عني الهدايا المقبولة، بأية حال من الأحوال. ولم يحدث قط أن افتقر مذبحي إلى وليمة لائقة، من تقدمات الشراب، ورائحة القرابين المحترقة، والعبادة التي هي من حقنا. أما سرقة هكتور الجسور، فيجب أن نتخلى عنها؛ إذ لا يليق أن يتم ذلك دون علم أخيل، لأن أمه دائما ما تقف إلى جانبه كالليل والنهار. وإني لأود أن يذهب أحد الآلهة فيستدعي ثيتيس، كي أقول لها كلمة حكيمة، عسى أن يتقبل أخيل الهدايا من بريام ويعيد هكتور إليه.»
هكذا تكلم، فأسرعت أيريس - العاصفة القدمين - تحمل رسالته. وفي منتصف الطريق بين ساموس وأمبروس الوعرة، قفزت إلى البحر القاتم، فأحاطت بها المياه صاخبة فوقها. وغاصت مسرعة إلى الأعماق، كخيط المطمار - المثبت إلى قرن ثور من ثيران الحقل - يهبط إلى أسفل حاملا الموت للأسماك الجارحة.
2
فوجدت ثيتيس في الكهف الأجوف، ومن حولها ربات البحر الأخريات، جالسات في حشد، وكانت تبكي - وسطهن - مصير ابنها المنقطع النظير، الذي سيموت في طروادة العميقة التربة، بعيدا عن وطنه. فاقتربت منها أيريس السريعة القدمين، وتحدثت إليها بقولها: «انهضي، يا ثيتيس، فإن زوس - ذا المشورات الخالدة - يستدعيك إليه!» فردت عليها الربة ثيتيس - الفضية القدمين - قائلة: «ولماذا يستدعيني ذلك الرب العتيد؟ إنني أحجم عن مخالطة حشد الخالدين؛ إذ إن قلبي مثقل بهموم لا حصر لها. ومع ذلك فسأذهب، ولن تكون كلمته بغير طائل، مهما يكن حديثه!»
قالت الربة الفاتنة هذا، وأخذت خمارا أسود اللون، لم يكن هناك أشد منه سوادا، وانطلقت في طريقها، تتقدمها أيريس السريعة، بقدمين كالريح. وأخذت أمواج البحر تنشق حولهما، حتى إذا خرجتا إلى الشاطئ، ودخلتا إلى السماء، وجدتا ابن كرونوس - الذي يدوي صوته بعيدا - جالسا وحوله حشد جميع الآلهة المباركين الخالدين. فجلست إلى جانب الأب زوس، وأفسحت لها أثينا مكانها، وقدمت إليها هيرا كأسا ذهبية بديعة، وحيتها بعبارات الترحيب. فشربت ثيتيس، وأعادت الكأس ثانية. ثم تكلم - أولا - أبو الآلهة والبشر أولا، فقال: «أيتها الربة ثيتيس، لقد جئت إلى أوليمبوس رغم كل همومك، ورغم أن قلبك مثقل بأحزان لا عزاء لها، فإنني أعلم ذلك من تلقاء نفسي. على أنني سأخبرك بالسبب الذي استدعيتك من أجله إلى هنا. لقد نشب صراع بين الآلهة الخالدين، لتسعة أيام، من جراء جثة هكتور، وأفعال أخيل سلاب المدن. إنهم يريدون الإيعاز إلى أرجايفونتيس الحاد البصر، بأن يسرق الجثة، ولكن اسمعي أي مجد أهب أخيل؛ لأنني أود - في الوقت ذاته - أن أصون كرامتك وودك، انطلقي بأقصى سرعتك إلى الجيش، وأعلني أمري لابنك. أنبئيه بأن الآلهة غاضبة عليه؛ لأنه في ثورة غضبه يستبقي هكتور عند السفن المدببة ولا يرده إلى قومه، عله يخافني ويعيد هكتور. وسأرسل في الحال أيريس إلى بريام العظيم القلب، لتأمره بالذهاب إلى سفن الآخيين، ليفدي ابنه العزيز، ويحمل إلى أخيل هدايا تدخل السرور إلى نفسه!»
هكذا قال، ولم تتردد الربة، ثيتيس اللجينية القدمين، في إطاعة أمره، فانطلقت هابطة من ذؤابات أوليمبوس، وبلغت كوخ ابنها. فوجدته هناك يبكي ويئن، ومن حوله أصدقاؤه الأعزاء، يعدون في عجلة طعام الصباح وفي الكوخ كبش، ضخم أشعث، قد ذبح لهم. فجلست أمه الجليلة بقربه، وربتت كتفه بيدها، ونادته باسمه قائلة: «أي بني، إلى متى تمزق قلبك بالبكاء والحزن، دون أن تفكر في الطعام أو الفراش؟ كان خليقا بك أن تضطجع في حضن امرأة؛ لأنني أخبرك أنك لن تبقى طويلا على قيد الحياة، وإنما يقف الموت قريبا منك، وكذا القدر العتيد، والآن أصغ إلي، فإنني موفدة إليك من لدن زوس. إنه يخبرك بأن الآلهة غاضبون عليه، وأنه نفسه - فوق جميع الخالدين - مليء بالسخط؛ لأنك في ثورة غضبك، تحتفظ بهكتور عند السفن المدببة، ولا ترده ثانية، هيا، سلمه وخذ فدية في مقابله!» فرد عليها أخيل - السريع القدمين - بقوله: «ليكن كذلك، إن كان الأوليمبي نفسه يأمر به، ويصمم قلبه على تحقيقه. فمن يحضر الفدية، يحمل الميت!»
هكذا تكلمت الأم وابنها وسط حشد السفن بكلمات كثيرة مجنحة. وأرسل ابن كرونوس أيريس - في الحال - إلى طروادة المقدسة، قائلا لها: «هيا يا أيريس، اتركي موطن أوليمبوس، واحملي النبأ إلى داخل طروادة، إلى بريام العظيم الشجاعة، أن يذهب إلى سفن الآخيين ويفدي ابنه العزيز، حاملا إلى أخيل الهدايا التي تدخل السرور إلى قلبه. وليذهب وحده، دون أن يرافقه أي رجل آخر من الطرواديين. ويجوز أن يكون برفقته شيخ مسن، ليقود البغال والعربة السريعة الجري، ويعود ثانية إلى المدينة بجثة الميت الذي قتله أخيل. لا تجعليه يفكر في الموت أو في أي خوف، فسنعطيه مرشدا كهلا - هو أرجايفونتيس - ليصحبه إلى مقربة من أخيل. فإذا ما دخل الكوخ، فلن يقتله أخيل، ولن يكلف أحدا آخر بقتله، لأنه ليس مجردا من الحكمة، وليس قصير النظر أو شريرا. بل إنه سيعامل الرجل المتضرع بكل ضروب الرأفة.»
هكذا قال، وأسرعت أيريس العاصفة القدمين تحمل رسالته.
بريام يستعد لافتداء الجثة!
وإذ بلغت منزل بريام، وجدت فيه صراخا وعويلا. وكان أولاده يجلسون حوله - داخل القاعة - يبللون ثيابهم بالدموع، والملك المسن وسطهم ملتفا بعباءته، وقد جللت رأسه وعنقه أوساخ كثيرة مما جمعه في يديه وهو يتمرغ في الثرى. وكانت بناته وزوجات أبنائه يبكين في جميع أنحاء البيت، من أجل المحاربين العديدين الشجعان الذين قتلهم الأرجوسيون. فاقتربت رسولة زوس من بريام، وتحدثت إليه بصوت رقيق، ولكن الرعشة تملكت من أطرافه، فقالت: «تشجع، يا بريام، يا ابن داردانوس، ولا تخف قط. إنني لم آت إلى هنا لأصيبك بأذى، ولكني موفدة إليك من لدن زوس. الذي يوليك عناية وشفقة بالغتين رغم بعده عنك. إن الأوليمبي يأمرك بأن تفتدي هكتور العظيم، فتحمل إلى أخيل الهدايا التي تدخل السرور إلى قلبه، ولتذهبن وحدك ولا يصحبنك أي رجل آخر من الطرواديين، اللهم إلا تابع مسن، ليقود البغال والعربة الخفيفة الجري، ثم يعود إلى المدينة بالميت، الذي قتله أخيل. ولا تفكر في الموت ولا تهابن شيئا، فسيصحبك مرشد - هو أرجايفونتيس - الذي سيقودك، حتى يصل بك قريبا من أخيل. وعندما تبلغ داخل الكوخ، فلن يقتلك أخيل نفسه، ولن يكلف أحدا آخر بقتلك، فما هو بعديم الحكمة، ولا قصير النظر، ولا شرير، بل إنه بكل شهامة يبقي على من يلوذ به!»
وما إن أتمت أيريس السريعة القدمين كلامها، حتى انصرفت. فأمر الملك أولاده بإعداد العربة والبغال السريعة الجري، وأن يثبتوا عليها الصندوق المصنوع من خشب الصفصاف. ثم هبط إلى خزانة كنوزه ذات السقف المقبب، والمعطرة بخشب الصندل، وكان بها ما لا يحصى من النفائس. واستدعى إليه زوجته هيكابي، وقال لها: «يا سيدتي، لقد بعث إلي زوس برسول أوليمبي، يأمرني بالذهاب إلى سفن الآخيين لأفتدي ابني العزيز، وأحمل إلى أخيل الهدايا التي تسر قلبه. هلمي، وخبريني بما ترينه في هذا. أما أنا، فإن رغبة قلبي تلح في الذهاب إلى هناك، إلى السفن، وإلى داخل معسكر الآخيين الفسيح.» هكذا قال، ولكن زوجته أطلقت صيحة حادة، وأجابته قائلة: «وا حسرتاه! أين ذهبت حكمتك التي اشتهرت بها منذ القدم، بين الأغراب وبين من هم تحت حكمك؟ كيف تود الذهاب بمفردك إلى سفن الآخيين لتقابل الرجل الذي قتل أبناءك العديدين الشجعان؟ إن قلبك لمن حديد حقا، فلو أنك وقعت في منطقة نفوذه، وأبصرتك عيناه - وهو المفترس العديم الوفاء - لما رحمك، ولما احترمك بحال ما. كلا، لنبك الآن بعيدا عمن نبكيه، ماكثين هنا في قصرنا. فهذا ما نسجته ربة القدر العتيدة بخيطها عند مولده، عندما أنجبته أنا نفسي! لقد كتب عليه أن يشبع نهم الكلاب السريعة الأقدام بعيدا عن والديه، في موطن رجل طاغية، أتمنى أن أنشب أسناني في أعماق قلبه وأنهشه، عندما آخذ بثأر ابني، فإن ابني لم يمت جبانا قط، وإنما قتل وهو يواجهه مدافعا عن رجال ونساء طروادة العريضات الصدور، دون أن يفكر في الاختفاء أو الفرار.»
فرد عليها العجوز بريام الشبيه بالإله قائلا: «لا تحاولي إبقائي هنا طالما أنا تواق إلى الذهاب، ولا تحاولي التأثير علي. فلو أن من يأمرني بهذا من البشر القاطنين على وجه الأرض - سواء أكان من العرافين الذين يتنبئون عن طريق الذبيحة أو من الكهنة - لجاز لنا أن نرى الأمر باطلا، ولرغبنا عنه، ولكنني سمعت الربة بأذني رأسي، ونظرت إلى وجهها، سأنطلق فورا، ولن يضيع كلامها سدى، ولو كان مقدرا لي أن أموت بجوار سفن الآخيين المدرعين بالبرونز، فليكن هذا! فليقتلني أخيل في الحال، بعد أن أمسك ولدي بساعدي، وأشبع رغبتي في البكاء!» وإذ قال هذا، رفع أغطية الصناديق الضخمة، وأخرج منها اثني عشر ثوبا جميلا، واثنتي عشرة عباءة ذات ثنية واحدة، وعددا لا يحصى من الأغطية، وأكبر عدد ممكن من العباءات البيضاء ومثلها من المعاطف. ووزن عشرة تالنتات من الذهب، وركيزتين لامعتين، وأربع قدور، وكأسا في غاية الإبداع، قدمها إليه رجال تراقيا عندما كان مبعوثا إلى هناك، فكانت تحفة بالغة القيمة، ومع ذلك فلم يتركها الشيخ في قصره؛ لأنه كان شديد الرغبة في افتداء ابنه العزيز. ثم طرد جميع الطرواديين من الرواق، وعيرهم بعبارات السباب قائلا: «اخرجوا من هنا، أيها التعساء، يا من جلبتم العار علي! أما لديكم أحزان في بيوتكم، حتى تجيئوا لي هنا فتغيظوني؟ ألا يكفي أن زوس بن كرونوس جلب علي هذا الحزن، ففقدت ابني خير الرجال؟ أنتم أنفسكم ستعانون بسبب موته، فلسوف يسهل على الآخيين أن يقتلوكم. أما أنا فليتني أذهب إلى بيت هاديس قبل أن ترى عيناي المدينة منهوبة ومخربة!»
قال هذا، وأعمل صولجانه في الرجال، فانصرفوا من أمامه مسرعين. ثم نادى أبناءه هيلينوس، وباريس، وأجاثون العظيم، وبامون، وأنتيفونوس، وبوليتيس الرائع في صيحة الحرب، ودايفوبوس، وهيبوثوس، وديوس المجيد. نادى هؤلاء التسعة بصوت مرتفع، وأصدر إليهم أمره قائلا: «أسرعوا أيها الأولاد الأخساء، يا من جلبتم علي الخزي والعار، ليتكم قتلتم جميعا بدلا من هكتور، بالقرب من السفن السريعة! ويحي، لقد اكتمل نحسي، إذ أنجبت - في طروادة الفسيحة - أبناء شجعانا، ولكن أحدا من هؤلاء لم يبق لي! لا ميستور الشبيه بالإله، ولا ترويلوس المحارب سائق العربات، ولا هكتور الذي كان إلها وسط البشر، ولم يكن يبدو ابن إنسان فان، وإنما إله، كل هؤلاء قتلهم أريس، ولم يترك لي سوى أبناء يتصفون بكل شائنة. فمنهم كاذب اللسان، وأعرج القدم، ومن لا مثيل له في ضرب الأرض عند الرقص، وسارق الحملان والجداء من قطعانكم. أعدوا لي عربة بسرعة، وضعوا بداخلها كل هذه الأشياء ، حتى ننطلق في طريقنا!»
هكذا تكلم، فجزعوا لصياح أبيهم، وأحضروا - لفورهم - العربة السريعة الجري التي تجرها البغال. وكانت جميلة وحديثة الصنع. وثبتوا فيها الصندوق الصفصافي، وأنزلوا عن مشجبها نير البغال، نيرا من خشب البقس به مقبض أحكم تثبيته بحلقات للتوجيه والقيادة. ثم ثبتوا رباط النير - البالغ طوله تسع أذرع - في النير، وثبتوا النير فوق المحور المصقول الطرف، والمقوس إلى أعلى، وأدخلوا الحلقة في الوتد، وربطوها جيدا بالمقبض بثلاث ثنيات - يمينا ويسارا - ثم ثبتوها في القضيب الرأسي، وأنزلوا الخطاف من تحتها. ولما انتهوا من ذلك، حملوا الكنوز من المخزن وكوموها داخل العربة المصقولة، فدية تفوق الحصر في مقابل رأس هكتور ثم ربطوا - إلى النير - البغال القوية الأظلاف، التي أعطاها الموسيون لبريام يوما، كهدية قيمة. ثم أسرجوا للملك الشيخ جيادا كان يحتفظ بها لنفسه، ورباها في حظيرته اللامعة.
هكذا كان كلاهما يعدان عربتهما في القصر الشاهق - التابع وبريام - وكلاهما يحسن الظن في قلبه. وعندئذ أقبلت هيكابي مهمومة القلب، تحمل في يمناها خمرا عسلية داخل كأس من العسجد، ليستطيعا تقديم سكيبة قبل رحيلهما. ثم وقفت أمام الجياد وقالت لبريام: «خذ هذه، وقدم الآن سكيبة للأب زوس، وصل له كي تعود ثانية إلى بيتك من عند العدو، ما دام قلبك يبعث بك نائيا إلى السفن، رغم عدم رغبتي في رحيلك. ثم صل لابن كرونوس - سيد السحب القاتمة - رب أيدا، المطل على أرض طروادة، واطلب منه طائر البشرى، ذلك الرسول السريع الذي يعتبره أعز الطيور وأشدها قوة. فليظهر فوق يمناك، حتى إذا شاهدت العلامة بنفسك، اطمأننت إليها، ومضيت في طريقك إلى سفن الدانيين ذوي الجياد السريعة، أما إذا لم يمنحك هذا زوس الذي يحمل صوته نائيا، فلن أشجعك إطلاقا على الذهاب إلى سفن الأرجوسيين، مهما يكن شوقك إلى الرحيل.»
فأجابها بريام - الشبيه بالإله - قائلا: «زوجتي، لن أهمل نصيحتك هذه . فمن الخير التضرع إلى زوس، عله يرحم!»
هكذا قال الرجل العجوز، وأمر مدبرة البيت - القائمة بالخدمة - أن تصب على يديه ماء نظيفا. فاقتربت الأمة تحمل في يديها حوضا وأبريقا. وبعد أن غسل يديه، تناول الكأس من زوجته، وصلى واقفا وسط الساحة، وسكب الخمر متطلعا إلى السماء، قائلا بصوت مرتفع: «أبتاه زوس، يا من تحكم من أيدا، أيها الأمجد، أيها الأعظم، اكتب لي أن أجد ترحيبا وإشفاقا في كوخ أخيل، وأرسل طائر البشرى - أسرع رسول وأعز الطيور لديك، وأشدها قوة - ليظهر فوق يمناي، حتى إذا ما رأيت العلامة بعيني رأسي، وثقت بأمرك، وانطلقت في طريقي إلى سفن الدانيين ذوي الجياد السريعة.» وإذ صلى هكذا، سمعه زوس المستشار، فأرسل في الحال نسرا - هو أعظم العلامات تأكيدا بين الطيور المجنحة، النسر الأشعث الصياد، الذي يسميه البشر النسر الأسود - وبقدر امتداد باب الخزانة العالية السقف، خزانة الرجل الغني ذات الأبواب المحكمة الإغلاق بالمزاليج، كذلك كان جناحا الطائر يمتدان إلى هذا الجانب وذاك، فظهر - إلى اليمين - فوق المدينة. فلما رأوه طفحت قلوبهم غبطة وسرورا.
رحيل بريام!
وفي الحال أسرع الشيخ يعتلي عربته، وقادها بعيدا عن الأبواب والرواق الفسيح. ومن الأمام جرت البغال العربة ذات العجلات الأربع، يسوقها أيدايوس الحكيم القلب، ومن الخلف أقبلت الجياد، يسوقها الرجل الهرم بسرعة خلال المدينة، وقد تبعه جميع أقربائه يبكون عاليا، وكأنهم يبكون شخصا يسعى إلى حتفه. فلما ابتعد بريام وتابعه عن المدينة وبلغا السهل، قفل أبناء بريام وأزواج بناته راجعين إلى طروادة. ولم يكن زوس قد فطن إلى بريام وزميله وهما يتقدمان فوق السهل. بيد أنه لم يكد يبصره، حتى أشفق عليه، وخاطب ابنه العزيز هيرميس قائلا: «أي هيرميس، بما أنك تفوق غيرك رغبة في مرافقة البشر، وتعير من تحب أذنا صاغية، فاصحب بريام إلى سفن الآخيين الجوفاء، ولا تجعل أحدا يراه من الدانيين أو يفطن إليه، حتى يصل إلى ابن بيليوس!»
هكذا قال، فلم يتردد الرسول «أرجايفونتيس» في الإصغاء إليه، وانتعل لفوره نعليه الذهبيين الجميلين الخالدين، اللذين كانا يحملانه فوق مياه البحر، وعلى أديم الأرض الفسيحة، بسرعة الريح. وتناول الصولجان الذي ينيم به عيون من يشاء، ويوقظ به عيون آخرين. وطار «أرجايفونتيس» القوي - والصولجان في يده - فبلغ أرض طروادة بسرعة، وكذلك الهيليسبونت. وانطلق في صورة أمير شاب، يتدلى شاربه الرقيق فوق شفته، ويتجلى في محياه سحر الشباب. فلما شاهده الآخران خلف ربوة طروادة العظيمة، أوقفا البغال والجياد عند النهر لتستقي؛ إذ كان الظلام يخيم على الأرض. عندئذ أطل التابع، ففطن إلى وجود هيرميس قريبا جدا، فقال لبريام: «تنبه يا ابن داردانوس، فها هو ذا أمر يتطلب منك التفكير السديد. إني أرى رجلا مقبلا، وأعتقد أننا سرعان ما سنمزق إربا. هلم لنهرب بالعربة، أو على الأقل نمسك ركبتيه ونتوسل إليه أن يرحمنا!»
وإذ قال هذا، اضطرب عقل الرجل العجوز، وتفاقم أساه، وتصلب الشعر فوق أطرافه الغضة، ووقف حائرا مبهوتا، ولكن المعين أقبل من تلقاء نفسه، وأمسك بيد الشيخ الهرم، وسأله بقوله: «أبتاه، إلى أين تسرع بجيادك وبغالك هكذا في دجى الليل الخالد، بينما ينام غيرك من البشر؟ ألا ترهب الآخيين الذين يلقون الرعب في النفوس، أولئك الأعداء العديمي الرحمة القريبين جدا منك؟ لو أن أحدهم رآك تحمل مثل هذه النفائس في بهيم الليل الداجي، فماذا تراك فاعلا؟ وأنت لست فتيا، وزميلك رجل وهن عظمه، فلن يستطيع الدفاع عنك، أو حمايتك من رجل يبادرك بالعدوان. أما أنا، فلن أمسك بسوء، بل سأذود عنك ضر الآخرين؛ إذ أراك شبيها بأبي العزيز.»
فرد عليه بريام الشيخ - الشبيه بالإله - قائلا: «إن الأمور لتجري كما قلت يا ولداه. ولا بد أن يكون هناك إله ما يشرف علي، إذ أرسل لي مرشدا مثلك يصحبني، ذا بركة، جميل المحيا، لطيف الحديث، وفضلا عن كونك حكيم القلب، فلا بد أنك تنحدر من أبوين مباركين.»
فعاد الرسول «أرجايفونتيس» يتحدث إليه قائلا: «صواب جميع ما قلت، ولكن أخبرني - وصارحني القول - أتحمل هذه الكنوز العديدة والنفائس الفريدة إلى شعب غريب، لتحفظها وديعة هناك، أم آن لكما الأوان أن تهجرا طروادة المقدسة في هلع، بعد أن هلك بطل بالغ العظمة، هو أشرف الجميع، ابنك الذي لم ينثن عن محاربة الآخيين؟» فأجابه بريام الشيخ - الشبيه بالإله - قائلا: «من أنت أيها الشاب النبيل، ومن أي أبوين تنحدر؟ فإني أراك تتحدث هكذا بمنتهى الكياسة عن مصير ابني التعيس.» وإذ ذاك، قال له الرسول أرجايفونتيس: «إنك لا تختبرني - أيها السيد الشيخ - بسؤالك إياي عن هكتور العظيم، فكثيرا ما رأته عيناي في القتال، حيث يفوز الرجال بالمجد. وكان يسوق الأرجوسيين إلى السفن، حيث يقتلهم بالبرونز الحاد، فكنا نقف هناك ونعجب من أخيل إذ لا يأمرنا بالقتال، قد امتلأ سخطا على ابن أتريوس. إنني تابعه، وقد حملتنا إلى هنا نفس السفينة المتينة الصنع. إنني أحد المورميدون، ابن بولوكتور الغني بالمادة، والمسن مثلك، وله ستة أبناء أنا سابعهم. فلما تقاسمنا بالأزلام، وقع علي الاختيار أن أدلج إلى هنا. فها أنا ذا أجيء الآن إلى السهل من السفن؛ لأن الآخيين سيدبرون - في الفجر - معركة حول المدينة، وقد سئموا الجلوس هناك خاملين. ولا يستطيع ملوك الآخيين أن يكبحوا جماح تلهفهم إلى الحرب!»
وهنا قال الشيخ بريام، الشبيه بالإله: «إذا كنت تابع أخيل بن بيليوس حقا، فتعال وخبرني بالحق. هل ما زال ولدي حتى الآن بجانب السفن، أم أنه مزقه إربا، ورمى به إلى الكلاب؟» فأجابه الرسول أرجايفونتيس، قائلا: «كلا يا سيدي الشيخ، لم تنهشه الكلاب أو الطيور بعد، فهو ما زال موجودا هناك بجانب سفن الآخيين - وسط الأكواخ - كما كان أولا. وهذا هو اليوم الثاني عشر لوجوده هناك، ولكن لحمه - مع ذلك - لم يفسد قط، ولم تأكله الديدان، كما تأكل من يتردون في ميدان القتال. حقا أن أخيل يجره بلا رحمة حول رابية صديقه الحميم. كلما بزغ الفجر المقدس، ولكن جسمه لم يشوه رغم ذلك. وإنك لتعجب إذا ذهبت ورأيت كيف يرقد ناضرا مبللا بالندى، ونظيفا من الدم، لم يتسخ جسمه في أي موضع، وجميع جراحه - التي أصيب بها - ملتئمة، رغم كثرة من غيبوا البرونز في جسده، فلا بد أن الآلهة المباركين يهتمون بابنك، رغم كونه جثة هامدة، إذ كان عزيزا على قلوبهم!»
وإذ علم الشيخ بهذا، اغتبط وقال: «أي بني، ما أجمل أن تقدم للخالدين ما يستحقون من قرابين وهدايا! فما حدث قط أن نسي ابني في ساحاتنا - طوال حياته - الآلهة المقيمين في أوليمبوس؛ ولذلك حفظوا له هذا الصنيع بالرغم من موته! هلم، يا بني، خذ مني هذه الكأس البديعة، واحرسني حتى تصل بي - بسرعة الآلهة - إلى كوخ ابن بيليوس.» فخاطبه الرسول أرجايفونتيس قائلا: «إنك تمتحنني أيها السيد الشيخ، لأنني أصغر منك سنا، ولكنك لن تغلبني. كأني بك تحرضني على أن آخذ منك هدايا لا يعلم أخيل عنها شيئا! إنني أخاف وأستحي في قلبي أن أغشه، حتى لا يصيبني شر فيما بعد. ومع كل، فسأصحبك كمرشد حتى تبلغ أرجوس المجيدة، وأخدمك بإخلاص، سواء في سفينة سريعة أو سيرا على الأقدام، ولن يستخف أحد بقيادتي ويهجم عليك.»
قال المساعد هذا، ثم وثب يعتلي العربة خلف الجياد، وأمسك السوط والأعنة، ونفث في الجياد والبغال قوة عظيمة. فلما وصلت إلى الأسوار والخندق الذي يحرس السفن، كان المراقبون منهمكين في إعداد عشائهم، فسكب الرسول أرجايفونتيس النوم فوق كل هؤلاء، وفتح الأبواب في الحال، ودفع المزاليج إلى الخلف، وأدخل بريام والهدايا الرائعة الموجودة بالعربة. وسارا حتى بلغا كوخ ابن بيليوس، ذلك الكوخ الشاهق الذي بناه المورميدون لمليكهم، وقطعوا له أخشابا من شجر الصفصاف، وجمعوا الأعشاب من المروج فصنعوا له منها سقفا، وجعلوا لمليكهم حوله ساحة كبرى ذات أعمدة عظيمة، يغلق بابها بمزلاج واحد من خشب الصفصاف. وكان الباب يتطلب عادة ثلاثة من الآخيين، حتى يدفعوه إلى الوراء، وثلاثة آخرين لجذب المزلاج الضخم. أما أخيل فكان يدفعه إلى الداخل وحده. كذلك فتح هيرميس المعين الباب للشيخ، وأدخل الهدايا المجيدة لابن بيليوس السريع القدمين، وهبط إلى الأرض، وقال: «سيدي العجوز، إنني - أنا الذي جئت إليك - إله خالد، إنني هيرميس، وقد أوفدني إليك الأب لأرشدك في طريقك. والآن. سأعود أدراجي، حتى لا يراني أخيل. فمن دواعي النقمة أن يبدي إله خالد إكراما للبشر الفانين. ادخل وأمسك ركبتي ابن بيليوس وتوسل إليه بأبيه وأمه الجميلة الشعور وولده، كي تحرك في نفسه عاطفة الشفقة.»
بين بريام وأخيل!
وإذ قال هيرميس هذا، رحل إلى أوليمبوس الشامخ. وقفز بريام من عربته إلى الأرض، فترك أيدايوس ممسكا بالجياد والبغال، وانطلق فورا صوب المنزل الذي اعتاد أخيل - حبيب زوس - أن يجلس فيه. ووجده جالسا هناك، ولم يكن معه سوى المحاربين أوتوميدون والكيموس - نسل أريس - منهمكين في خدمته. وكان قد انتهى منذ فترة وجيزة من الطعام والشراب، ولكن المائدة كانت لا تزال قائمة إلى جانبه. فدخل بريام دون أن يراه هؤلاء. وما إن اقترب من أخيل، حتى أمسك ركبتيه بيديه، وقبل يديه البشعتين - قاتلتي البشر - اللتين قتلتا أبناءه العديدين. وكما يحدث عندما يحل عمى القلب على من يقتل إنسانا في وطنه، ثم يهرب إلى أرض الغرباء، ويلجأ إلى بيت أحد الأثرياء، فيتملك العجب من يبصرونه، هكذا تملك العجب أخيل عند رؤيته بريام - الشبيه بالإله - كما تملك الآخرين أيضا، فراح كل منهم ينظر إلى الآخر! ولكن بريام استمر في توسله قائلا: «تذكر أباك يا أخيل الشبيه بالآلهة، أباك الذي في عمري، على عتبة الشيخوخة المفجعة. إنه مثلي تماما، يقصر من حوله من الناس في معاملته، وليس هناك من يدفع عنه الخراب والهلاك، ولكنه مع ذلك يسر عندما يبلغه أنك لا تزال حيا، ويأمل - يوما بعد يوم - أن يرى ابنه العزيز عائدا من أرض طروادة. أما أنا، فإنني غير مبارك قط؛ إذ إنني أنجبت أبناء كانوا خير من في أرض طروادة الفسيحة، ولكن أحدا منهم لم يبق لي، كان لي خمسون ابنا عندما قدم أبناء الآخيين: تسعة عشر ولدوا لي من رحم واحد، والآخرون أنجبتهم نساء القصر الأخريات. فأرخى أريس سيقان كثير من هؤلاء. والذي بقي لي ليحرس وحده المدينة والبشر بنفسه، قتلته أنت أخيرا وهو يدافع عن وطنه، وأعني هكتور! لهذا جئت إلى سفن الآخيين لأسترده منك، وقد حملت لك معي فدية تفوق الحصر. اتق الآلهة يا أخيل وارحمني، وتذكر أباك. إنني منكوب أكثر مما هو بمراحل، كما أني تحملت ما لم يتحمله إنسان آخر على وجه الأرض. فإنني أمد يدي إلى قاتل أبنائي!»
هكذا قال، فأثار في أخيل الرغبة في البكاء من أجل أبيه، وأمسك بيد الشيخ فأبعده عنه برفق. ثم أخذا يتذكران في موتاهما، وبكيا، بكى هذا بكاء حارا - من أجل هكتور قاتل البشر - وهو يحبو عند قدمي أخيل، بينما بكى أخيل أباه مرة، بكى باتروكلوس مرة أخرى. وارتفع نحيبهما في جميع أرجاء المنزل. وبعد أن بكى أخيل كفايته، وسرى الحنين عن قلبه وأطرافه، انتصب واقفا من مقعده، وأقام الرجل المسن من يده، مشفقا على رأسه الأشيب ولحيته البيضاء، وتحدث إليه بكلمات مجنحة قائلا: «آه، أيها الرجل التعيس، الحق أنك تحملت نكبات كثيرة. كيف واتتك الشجاعة لتحضر بمفردك إلى سفن الآخيين، وتلتقي بي، أنا الذي قتلت أبناءك العديدين؟ حقا، إن قلبك لمن حديد! هيا، استرح واجلس على مقعد، ولنهدئ من أحزان قلبينا، رغم ما بنا من آلام، فلا فائدة من البكاء الحاد. فهكذا نسج الآلهة الخيط للبشر المنكودين، الذين يتحتم عليهم أن يقاسوا الآلام، بينما لا يعرف الآلهة الحزن! ذلك أن على أرض زوس قارورتين مملوءتين بالهدايا التي يمنحها، إحداهما للسيئات والأخرى للحسنات. فمن أعطاه زوس - الذي يقذف الصاعقة - حظا مختلطا، لقي الشر حينا، والخير حينا آخر. أما الذي لا يمنحه إلا من قارورة السيئات، فإنه يغدو محتقرا من البشر، ويتولاه الجنون الفظيع فوق سطح الأرض المقدسة، فيهيم على وجهه غير مبجل من الآلهة أو البشر! هكذا منحت الآلهة بيليوس الهدايا المجيدة منذ ميلاده؛ إذ كان يفوق جميع الناس ملكا وثروة، وكان ملكا على المورميدون. وبالرغم من كونه بشرا، فقد زوجته الآلهة ربة، ومع ذلك فإن الآلهة جلبت عليه الشر؛ إذ لم تدع أحدا من نسله الأمراء ينشأ في قصره. وإنما أنجب ابنا واحدا، كتب له الموت في غير أوان؛ إذ إنني لا أرعاه في شيخوخته، بل أقيم بعيدا عن وطني - في أرض طروادة - جالبا الكدر عليك وعلى أولادك وقد سمعنا عنك، أيها السيد الشيخ. إنك مبارك منذ القدم. وكنت سيدا - بسبب ثروتك وأبنائك - على جميع البلاد الممتدة إلى البحر، وتضم لسبوس - حيث عرش ماكار - وفروجيا، في المرتفعات، والهيليسبونت الفسيح، ولكن آلهة السماء جلبت عليك هذا البلاء، وجعلت المعارك وسفك دماء البشر حول مدينتك بغير انقطاع. تحمل يا سيدي، ولا تستسلم للبكاء، فلن يجديك الحزن على ولدك شيئا، ولن يعيده إلى الحياة، وإلا مسك - قبل ذلك - شر آخر!»
فأجابه العجوز، بريام الشبيه بالإله، بقوله: «لا تجلسني على كرسي يا سليل زوس، طالما أن هكتور ملقى وسط الأكواخ. كلا، رده إلي بسرعة، كي تراه عيناي. وتفضل بقبول الفدية الكبيرة - التي أحضرتها - عسى أن تسر بها، وتعود إلى وطنك، ما دمت قد أبقيت علي من البداية.» فقطب أخيل حاجبيه غاضبا وقال: «لا تستفزني بعد ذلك، أيها السيد الشيخ، فإني عازم - من تلقاء نفسي - على أن أرد إليك هكتور، إذ جاءني رسول من عند زوس والأم التي أنجبتني، ابنة عجوز البحر. أما أنت يا بريام، فإنني أحس في قلبي - ولا يخف علي قط - أن إلها ما قد رافقك إلى سفن الآخيين السريعة. فما من إنسان يجرؤ على المجيء وسط الجيش، ما لم يكن فتيا وقويا، وإلا لما نجا من الرقابة، ولما سهل عليه أن يجذب إلى الخلف مزلاج أبوابنا؛ ومن ثم فلا تثر شجون قلبي بعد ذلك - أيها الشيخ - خشية ألا أفلتك أنت أيضا داخل أكواخي، رغم قدومك إلي متضرعا، وبذلك أقترف إثما في حق زوس.»
هكذا تكلم، فاستولى الخوف على الشيخ، ورضخ لقوله. وقفز ابن بيليوس كالأسد بعيدا عن المنزل، ولم يكن وحده، بل ذهب معه تابعان، هما المحاربان أوثوميدون والكيموس، اللذان كان أخيل يبجلهما أكثر من جميع أصدقائه، بعد موت باتروكلوس. فخلى هؤلاء الجياد والبغال من تحت النير، وقادا تابع الملك الشيخ إلى الداخل، وأجلساه على مقعد، وحملاه الفدية التي لا حصر لها من العربة ذات العجلات العظيمة، مقابل رأس هكتور، تاركين فيها رداءين وعباءة بديعة النسج، كي يلف فيها أخيل الميت لينقل إلى وطنه. ثم استدعى أخيل الإماء وأمرهن بغسل جسد الميت وتعطيره. فحملنه إلى مكان منعزل كي لا يراه بريام، خشية ألا يستطيع السيطرة على حقده إبان حزن قلبه - عندما يرى ابنه - فيهيج غضب أخيل ويقتله، وبذلك يأثم في حق زوس. فلما فرغت الإماء من غسل الجثة ودهنها بالزيت، ألبستها معطفا جميلا وعباءة. ثم رفعها أخيل ووضعها فوق المنصة، وساعده أصدقاؤه في وضعها على العربة المصقولة. ثم أطلق أخيل أنينا، ونطق باسم صديقه العزيز قائلا: «لا تغضب مني يا باتروكلوس، فقد سمعتك في بيت هاديس تلومني على تسليمي هكتور العظيم إلى أبيه العزيز، إن الفدية التي أعطانيها جديرة بك، وسأجعل لك منها ما يليق بك!»
وإذ قال أخيل العظيم ذلك، عاد ثانية إلى داخل الكوخ، وجلس على المقعد الفاخر الصنع، الذي كان قد نهض عنه، وتحدث إلى بريام قائلا: «ها قد رددت إليك ابنك، أيها السيد الشيخ، حسب رغبتك. إنه فوق محفة، وعند الفجر ستراه بنفسك، وتحمله من هنا. أما الآن فلننصرف إلى العشاء. فإن نيوبي الجميلة الشعر لم تنصرف عن الطعام، رغم موت اثني عشر طفلا في قصرها؛ ست بنات وستة بنين أشداء. أما البنون، فإن أبولو كان قد قتلهم بسهام من قوسه الفضية، إذ كان غاضبا من نيوبي، وأما البنات، فقد قتلتهن القواسة أرتيميس؛ لأن نيوبي كانت تحدث ليتو الجميلة الخدين بقولها إن الربة لم تنجب سوى اثنين، بينما هي أم منجبة، وهكذا فتك الربان بأبناء نيوبي جميعا، فظلوا راقدين في دمائهم تسعة أيام، ولم يكن هناك من يدفنهم، لأن ابن كرونوس أحال القوم أحجارا. حتى إذا كان اليوم العاشر، تولت الآلهة دفنهم، وفكرت نيوبي في الطعام؛ لأنها كانت متعبة من كثرة البكاء والدموع التي ذرفتها بغزارة. ورغم أنها الآن في مكان ما وسط الصخور، فوق الجبال المنعزلة، في سيبولوس - التي يقول الناس إن فيها مخادع الربات، الحوريات اللائي يرقصن بسرعة حول أخيلوس - ورغم أنها حجر، إلا أنها لا تزال تفكر في المحن التي جاءتها من لدن الآلهة. فلننصرف نحن أيضا إلى الطعام، أيها الشيخ النبيل، وفيما بعد تنتحب على ولدك العزيز عندما تحمله إلى طروادة . فلسوف تبكيه بدموع سخينة!»
وما إن قال أخيل السريع ذلك، حتى هب واقفا، وذبح خروفا أبيض الجزة، وقام أصدقاؤه بسلخه وإعداده جيدا كما يجب، وقطعوه شرائح بمهارة، وسفدوا الشرائح، وشووها بعناية، ثم أخرجوها كلها من السفود. وجاء أوتوميدون بالخبز، فوضعه على المائدة في أسقاط بديعة، بينما تولى أخيل أمر اللحم؛ ومن ثم مدوا أيديهم إلى الطعام الفاخر المعد أمامهم. وبعد أن أشبعوا رغبتهم في الطعام والشراب، أعجب بريام بن داردانوس بأخيل؛ فما كان أجمله، وما كان أعظمه! كان المرء يخال أنه يرى إلها في شخصه! كذلك أعجب أخيل ببريام بن داردانوس؛ إذ كان مهيب الطلعة وهو يتطلع إليه ويصغي إلى حديثه. وبعد أن فرغا من النظر - كل منهما إلى الآخر - كان بريام الهرم، الشبيه بالإله، أول من تكلم، قائلا: «أرني فراشي بسرعة، يا سليل زوس، حتى يمكننا - وقد داعب النوم أجفاننا - أن نستريح ونحظى بمتعة النعاس، فإن عيني لم تذوقا النوم منذ أن فقد ابني حياته على يديك، بل كنت دائم البكاء والتفكير العميق في أحزاني العديدة، وأنا أحبو وسط الأقدار في الأماكن القريبة من القصر. أما الآن فقد ذقت طعم اللحم، وشربت الخمر، بعد أن كنت على الطوى!»
وأمر أخيل أصدقاءه وإماءه بإعداد الأسرة تحت الدهليز، وفرشها بالملاءات الأرجوانية الجميلة، وتزويدها بالأغطية، وإعداد العباءات الصوفية فوقها ليلبسوها في نومهم. وفي الحال خرجت الإماء من القاعة يحملن المشاعل في أيديهن، وبسطن فراشين بهمة سريعة. وإذ ذاك، قال أخيل - السريع القدمين - لبريام، في تهكم: «ارقد في الخارج، أيها الشيخ العزيز - لئلا يأتي إلى هنا أحد مستشاري الآخيين - الذين اعتادوا المجيء إلى جانبي لتبادل المشورة - فلو أن أحدهم لمحك في دجى الليل، فقد يبلغ الأمر إلى أجاممنون - راعي الجيش - فيعرقل تسليم الجثة. والآن خبرني، اصدقني القول: كم يوما تعتزم إقامة الواجبات الجنائزية نحو هكتور العظيم، حتى أكبح جماح الجيش طيلة هذه المدة؟» فأجاب بريام العجوز - الشبيه بالإله - قائلا: «إذا كنت تريدني حقا على أن أقيم فروض الدفن لهكتور العظيم، إذن فاعمل حسب رغبتي يا أخيل، حتى أستطيع أداءها. إنك تعرف أننا محبوسون داخل المدينة، بعيدا عن الجبل الذي نقتطع منه الأخشاب. وإن الطرواديين لفي ذعر بالغ، سنبكيه في بيوتنا تسعة أيام، وسندفنه في اليوم العاشر، ونولم الولائم للقوم، ونقيم فوق فقيدنا رابية، في اليوم الحادي عشر، ثم سنقاتل في الثاني عشر، إذا اقتضى الأمر.»
فرد عليه أخيل العظيم، السريع القدمين، بقوله: «فليكن ما تريد، يا بريام الشيخ، وسأرجئ القتال إلى الأجل الذي تطلبه!» قال هذا، وأمسك يمنى الرجل العجوز من رسغها، حتى لا يتطرق الخوف إلى قلبه. ثم استلقيا ليناما في الساحة الخارجية للقصر - بريام وتابعه - بقلبين زاخرين بالطمأنينة بينما رقد أخيل بداخل الكوخ المتين البناء ونامت إلى جواره بريسايس الجميلة الخدين.
ونام جميع الآلهة والبشر - سادة العربات - طوال الليل، وقد غلبهم النعاس الرقيق، ما عدا هيرميس المعين، فإن الكرى لم يقترب منه، بل راح يفكر في كيفية العودة بالملك بريام بعيدا عن السفن، دون أن يراه حراس الأبواب الأقوياء. فوقف عند رأسه وتحدث إليه قائلا: «سيدي الشيخ، إنك لا تفكر الآن في أي شر، وأنت تنام هكذا وسط العدو؛ لأن أخيل أبقى عليك، وصحيح أنك افتديت ابنك بثمن باهظ، ولكن حياتك أنت قد تكبد أولادك - الذين خلفتهم وراءك - ثلاثة أضعاف هذه الفدية، إذا علم بأمرك أجاممنون بن أتريوس، أو جيش الآخيين!»
فما إن سمع الشيخ هذا حتى ذعر، فأيقظ التابع، ووضع هيرميس لهما الجياد والبغال تحت النير، وساقها بنفسه بخفة عبر المعسكر دون أن يفطن إليهم أي رجل. حتى إذا بلغوا مخاضة النهر الصافي الجريان - كسانثوس الدوام، الذي أنجبه زوس الخالد - رحل هيرميس إلى أوليمبوس القريب، بينما انتشر الفجر الزعفراني الثوب، على سطح الأرض كله. فقادا الجياد باكيين إلى المدينة، وقد حملت البغال الميت. ولم ينتبه إليهما أي فرد - سواء أكان رجلا أو امرأة جميلة الزنار - ولكن كاساندرا، نظيرة أفروديت الذهبية، صعدت فوق بيرجاموس، فرأت أباها العزيز واقفا داخل العربة مع التابع - منادي المدينة - كما رأت ذلك الراقد فوق المحفة داخل العربة التي تجرها البغال. فأطلقت صرخة حادة، وراحت تصيح في جميع أرجاء المدينة قائلة: «هلموا يا رجال طروادة ونساءها، هيا إلى مشاهدة هكتور، الذي كان يسركم أن تروه عائدا - من المعركة - حيا، فقد كان مصدر فرح عظيم للمدينة وسائر الشعب!»
ما إن قالت هذا، حتى لم يبق داخل المدينة رجل واحد ولا امرأة، فقد ألم بالجميع حزن لا سبيل إلى احتماله، فهرعوا إلى الأبواب يستقبلون بريام، وهو يحمل الميت إلى وطنه. فجاءت أولا زوجة هكتور العزيزة وأمه الجليلة، وارتمتا على العربة السريعة الجري، وأمسكتا رأسه في وقت واحد، وهما تبكيان وتمزقان شعورهما. وانقض القوم حولهما ينتحبون. وظلوا اليوم بطوله يبكون هكتور حتى مغيب الشمس، ذارفين الدموع السواجم خارج الأبواب. وأخيرا تكلم الشيخ من العربة، قائلا: «أفسحوا طريقا لمرور البغال، ثم ابكوا - بعد ذلك - ما شاء لكم أن تبكوا - بعد أن نقله إلى المنزل.» فلما قال هذا، انتحى القوم جانبا وأفسحوا طريقا للعربة، أما الآخرون، فبعد أن حملوه إلى المنزل المجيد، وأرقدوه فوق فراش موشى، وإلى جانبه وقف خير النائحات اللواتي ينشدن المراثي أثناء النحيب، ورحن ينشدن، فاستغرقت النساء حولهن في العويل. وفي وسط أولئك، بدأت «أندروماخي» - البيضاء الساعدين - النحيب، حاملة طوال الوقت رأس هكتور قاتل البشر بين ذراعيها، وهي تقول: «وا زوجاه، يا من تركت الحياة وأنت في ريعان شبابك، وتركتني في قصرك أرملة، وما زال ابنك طفلا! ذلك الابن، الذي ولد لأبوين منكودين - أنا وأنت - وما أظنه سيبلغ سن الرجولة؛ إذ ستكون هذه المدينة قد خربت عن بكرة أبيها، قبل ذلك؛ لأنك مت يا من كنت تحرسها، وتصون زوجاتها النبيلات وأطفالها الصغار. هؤلاء - كما أعتقد - سرعان ما سيؤخذون في السفن الجوفاء، وأنا بينهم، وأنت يا ولدي، ستتبعني إلى مكان تقوم فيه بأعمال لا تليق بك، كادحا تحت رحمة سيد خلا من الشفقة، أو قد يلقي القبض عليك أحد الآخيين، ويقذف بك من أعلى السور - فيا لها من ميتة بشعة! - في نقمته على هكتور الذي ربما كان قد قتل أخاه أو أباه أو ابنه؛ إذ إن كثيرا من الآخيين قد عضوا الأرض الفسيحة بأسنانهم على يد هكتور؛ لأن أباك لم يكن قط رحيما في الحرب البغيضة؛ ولذا يبكيه القوم في كل مكان بالمدينة! أي هكتور، لقد جلبت على والديك هما وحزنا لا يوصفان، وتركت لي محنا مفجعة أكثر مما أصاب جميع الأخريات. فما عدت تمد لي يديك من فراشك بعد موتك. ولا تحدثني بأية كلمة حكيمة أفكر فيها ليلا ونهارا، وأنا أسكب الدموع!»
هكذا قالت وهي تبكي، فبكت معها السيدات. وقامت «هيكابي» بدورها وسطهن، تقود النحيب الشديد قائلة: «هكتور، يا أعز جميع أولادي إلى قلبي، لقد كنت عزيزا على الآلهة في حياتك؛ لذا كانوا يهتمون بك رغم تعرضك للموت! فكل من استولى عليهم أخيل - السريع القدمين - من أبنائي، كان يبيعهم عبر البحر الصاخب، في ساموس وأمبروس، وليمنوس المغطاة بالدخان.
3
أما أنت، فعندما سلبك الحياة - بالبرونز الطويل النصل - راح يجرك كثيرا حول رابية صديقه باتروكلوس الذي قتلته، ولكنه لم يستطع أن يرد إليه الحياة بذلك، والآن، ها أنت ترقد في قصري ناضر الجسم رطبه، كما لو كنت حديث القتل، أو كواحد ممن يهاجمهم أبولو - ذو القوس الفضية بسهامه الرقيقة - فيرديهم!» هكذا تكلمت وهي تبكي، وأثارت بكاء لا يفتر. ثم جاءت هيلينا - وكانت ثالثة من تزعمن العويل - فقالت: «أي هكتور، يا أعز سائر إخوة زوجي إلى قلبي! لقد أحضرني زوجي ألكساندر الشبيه بالإله إلى أرض طروادة، فليتني مت قبل هذا! هذه هي السنة العشرون منذ أن رحلت من وطني، ومع ذلك فإنني لم أسمع منك - طيلة هذه المدة - كلمة شريرة ولا خبيثة قط. كلا، إذا كان هناك من لامني في القصر، فإنه أخ لي أو أخت، أو شقيقة زوج - جميلة الثياب - أو أمك. ولقد كان أبوك لطيفا معي دائما، كما لو كان أبي! وكنت تدافع عني بالكلام وتردعهم برقة روحك وألفاظك الوديعة؛ لذا أبكيك كما أبكي نفسي التعيسة - والغم يملأ قلبي - فلم يعد لي بعد الآن في «طروادة» الفسيحة، من يكون رقيقا معي أو رحيما بي، بل سيجفوني الرجال جميعا ويعرضون عني!» هكذا قالت وهي تبكي، وعندئذ انخرط الجمع في العويل.
ثم نهض الشيخ بريام يتحدث وسطهم، قائلا: «هيا، يا رجال طروادة، أحضروا الحطب الآن، وانطلقوا إلى المدينة دون خوف ولا وجل، فلن ينصب لكم الأرجوسيون كمينا؛ إذ وعدني أخيل - عندما شيعني من السفن السوداء - أنه لن يقوم حيالنا بأي عمل عدائي، إلا عندما يحل فجر اليوم الثاني عشر!» فما إن قال هذا، حتى وضعوا النير فوق أعناق الثيران والبغال، وشدوها إلى العربات، واحتشدوا معا بسرعة أمام المدينة. واستمروا يجلبون كميات هائلة من الحطب لمدة تسعة أيام. حتى بزغ فجر اليوم العاشر، ينشر الضوء على البشر، فحملوا هكتور الجريء، وهم يذرفون الدموع، ووضعوه فوق كومة الحطب، وأشعلوا النار!
وما إن عاد الفجر المبكر - ذو الأنامل الوردية - ثانية، حتى احتشد القوم حول كومة حطب هكتور المجيد، ثم أخذوا يخمدون لهيب كومة الحطب بالخمر، بقدر ما كانت النيران قد بلغت قمتها. وبعد ذلك شرع إخوته وأصدقاؤه يجمعون العظام البيضاء، وهم ينتحبون، والدموع تجري غزيرة على خدودهم. ثم وضعوا العظام في قارورة ذهبية، ولفوها بأثواب أرجوانية ناعمة، وأسرعوا بوضع القارورة في كهف عميق، غطوه بأحجار ضخمة، رصوها حجرا بجانب آخر. وهكذا ارتفعوا بالرابية في سرعة ووضعوا حولها المراقبين من كل جانب، خشية أن ينقض عليهم الآخيون المدرعون جيدا، قبل الميعاد. ولما انتهوا من إقامة الرابية، اجتمعوا سويا، وأولموا وليمة مجيدة في قصر بريام، الملك المنحدر من زوس.
وهكذا أقاموا الطقوس الجنائزية لهكتور مستأنس الجياد.
अज्ञात पृष्ठ