فنقول: لو كان كفر الكفار من لله تعالى خلقا وإيجادا لوجب حمده عليه إجماعا، لكنه لا يجب ذلك بل لا يجوز قطعا وإجماعا، ينتج أنه ليس من الله تعالى بل بفعل أهل الكفر وتأثيرهم فيه، ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى : {إن الله لا يأمر بالفحشاء}، إذ لا سوغ التمدح بعدم الأمر القبيح مع التمدح بفعله وإيجاده على ما يزعمه المعترض وأصحابه من أن أمثال قوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} تمدح بخلق المعاصي والقبائح والفحشاء لاندراجها في عموم ما تمدح بخلقه وإيجاده، ولو ساغ التمدح بقدم الأمر بالقبيح مع التمدح بإبجاده وفعله للزم أنه يجب حمده تعالى، ولا يجوز حمده بالنظر إلى معنى واحد، فيقال: الحمد لله تعالى على زجره ونهيه لنا عن الفحشاء بالنهي وهي الفحشاء التي قربنا إليها وأوقعنا فيها فخالفنا زجره لنا، ولا نحمده على ذلك بل يجوز أن نحمده تعالى عليه لأنه زجرنا عنها بالقول الذي يستلزم انزجارنا عنها، وإنما يقيم علينا الحجة ويستلزم الوبال والضرر بالمخالفة المراد له تعالى، ثم أنه تعالى قربنا منها وأوقعنا فيها بالفعل الذي لا محيص عنه، ولو حمدناه على الزجر القولي الذي لا فائدة لنا فيه على فرض إرادته تعالى لخلاف مقتضاه لوجب أن نحمده على الأمور بمعنى الجذب إليها والإيقاع فيها؛ لأنه لا فائدة لنا فيه.
فإن قيل: من أين جاءت تسمية الإيقاع في الفحشاء أمرا وهذا غير معهود بل غير موجود في كلامهم؟
قلت: بل قد دل عليه ما حكاه الله عنهم بقوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا به...} الآية، فإنهم لا يثبتون نزول الأوامر القولية من عند الله تعالى بل ينكرون ذلك وينكرون الوحي إلى الرسل من البشر كما دل عليه القرآن في أمثال قوله تعالى: {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شيء...} الآية، فقولهم: والله أمرنا بها ما أراد بها إلا إيقاعهم فيها، وسيأتي تمام لهذ المقام.
فإن قيل: فرق يبنهما؛ لأن الفائدة وإن أنتفت في الأول بالنظر إلى الزجر القولي فلا ضرر فيه بخلاف الثاني وهو الأمر بالمعنى الفعلي والإيقاعي في الفحشاء فإنه لا فائدة فيه بلا ضرر محض.
पृष्ठ 51