इब्राहिम अबू अल-अनबिया
إبراهيم أبو الأنبياء
शैलियों
ولا ينسى القارئ أن الجريمة الكبرى التي أحصاها القرآن الكريم على أهل مدين - ومدائن الحجر عامة - أنهم يختلسون ويطففون الكيل:
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (هود: 84-85).
ولا يلبث الترف أن يجني جنايته على هؤلاء المحتكرين فيغريهم بكل مفسدة، ويجلب على بلادهم كل فاسد، وشر هذه المفاسد في أعين أبناء الفطرة من قبائل البادية رذائل الشذوذ، وتدنيس غريزة النسل التي تصونها تلك القبائل على فطرتها، ولم توجد مدينة من مدائن القوافل سلمت من هذه الرذائل، حتى قالت كتب المدراش: إن طوفان نوح إنما كان من جرائر هذا الشذوذ في قومه، وإنه كان فاشيا في بيت المقدس يوم أنذر النبي حزقيال قومه بالنفي، أو بالسبي والتشريد.
5
هذه الأسباب جميعا هي التي هيأت مدن القوافل للدعوات الدينية؛ لأنها دعوة تتهيأ أسبابها بين الحاضرة والبادية، ولا بد لها من التقاء هذه وتلك، ولا غنى لها عن صفات المدينة وصفات الصحراء، ولحكمة بالغة قال النبي صلوات الله عليه: «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم.» ولحكمة بالغة قامت مدينة القوافل بدورها في تاريخ بني الإنسان، فنشأ الحكماء والنساك في الصين والهند على مثال كنفشيوس وبوذا، ولم ينشأ فيهم الأنبياء المرسلون والرسل المجاهدون؛ إذ كانت أمانة النبوة المجاهدة شيئا غير أمانة الإصلاح والتعليم، وما عهدنا سورة العقيدة تملأ الوجدان كله، وتشغل الحياة كلها كما عهدناها في المرسلين إلى الأقوام الذين عاشوا على هذه الرقعة الوسطى من العالم، وتلقوا عقائدهم كأنهم يصلون الأرض بالسماء صلة اللحم والدم، ولا يحسبونها سمة من سمات الأدب والمعرفة وكفى، أو نصا من نصوص الشريعة والنظام وحسب، أو نهجا من مناهج السلوك ولا زيادة.
وأحسب لو أننا بدأنا دراسة التواريخ الدينية في الشرق العربي على ضوء هذه الحقيقة، منذ بداءة النظر في هذه التواريخ؛ لما تسرع المتسرعون بالنفي والإنكار تارة، والفهاهة وسوء الفهم تارة أخرى، بل كان من الميسور لهم أن يربطوا الدعوات الدينية كما ترتبط الحلقات في السلسلة الواحدة، وأن يملئوا فراغ التاريخ بما يسده، بدلا من خلق الفراغ حيث لا فراغ.
إن بعض الفلكيين قد عرفوا أماكن الكواكب المجهولة قبل اختراع المجاهر المكبرة؛ لأنهم قدروا موقعها من الفلك بحساب المدارات والأحجام.
وقد عرف بعض الكيميين أماكن عناصر لم يشهدوها في الطبيعة؛ لأنهم قدروا نسبة الكهارب والنواة فيها إلى العناصر المشهودة.
ولو أننا تتبعنا سلسلة الدعوات في مواقعها وتواريخها لما قال المشككون: إن إبراهيم لم يوجد، بل قالوا: هنا مكان لإبراهيم لا بد أن يشغل، واستطاعوا بالبحث والمقارنة وتعليق النتائج بمقدماتها أن يربطوا بين أور وآشور، وبيت المقدس وجاشان، والبتراء ومكة؛ لأنها نسق واحد يدل الأخير منه على الأول، كما يتقدم الأول منه في زمانه ووضعه على الأخير، فكلها دعوات لا بد فيها من شخص الرسول، ولا بد فيها من عنصري الحضارة والبداوة، ولا بد فيها من تمام المجزوء، ووصل المقطوع، واطراد مراحل التطور على نهجه الوحيد، وليس له نهج وحيد أصلح من نهجه الذي هيأته أسباب الدعوات موقعا بعد موقع، كما تعينت مواقع الكواكب في دراسة الفلك، ومواقع العناصر في دراسة الكيمياء.
أو لعلنا نصل إلى النتيجة من درب قريب إذا اعتمدنا على قياس التاريخ بمقياسه الذي لا يقبل الخطأ، وهو تصور الحوادث كما يرسمها الواقع والعقل.
अज्ञात पृष्ठ