1 - خليل الرحمن وخليل الإنسان
2 - المراجع الإسرائيلية
3 - تعقيب على مراجع العهد القديم
4 - المراجع المسيحية
5 - المراجع الإسلامية
6 - مراجع الصابئة
7 - مصادر التاريخ القديم
8 - تذييل
9 - الأحافير والتعليقات
10 - اللغة
11 - مدن القوافل
12 - النبوة
13 - أنبياء من غير بني إسرائيل
14 - العقائد والشعائر
15 - الخلاصة
16 - العصر
17 - النشأة
18 - الجنوب
19 - الرسالة
20 - المعجزة
21 - خاتمة المطاف
1 - خليل الرحمن وخليل الإنسان
2 - المراجع الإسرائيلية
3 - تعقيب على مراجع العهد القديم
4 - المراجع المسيحية
5 - المراجع الإسلامية
6 - مراجع الصابئة
7 - مصادر التاريخ القديم
8 - تذييل
9 - الأحافير والتعليقات
10 - اللغة
11 - مدن القوافل
12 - النبوة
13 - أنبياء من غير بني إسرائيل
14 - العقائد والشعائر
15 - الخلاصة
16 - العصر
17 - النشأة
18 - الجنوب
19 - الرسالة
20 - المعجزة
21 - خاتمة المطاف
إبراهيم أبو الأنبياء
إبراهيم أبو الأنبياء
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
خليل الرحمن وخليل الإنسان
في العالم اليوم أكثر من ألف مليون إنسان يدينون بالموسوية والمسيحية والإسلام، وهي الأديان التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وهم الأنبياء الثلاثة الكبار الذين ينتمون جميعا إلى الخليل إبراهيم ... لا جرم
1
يسمى خليل الرحمن.
ولا جرم تتجمع الجهود كلها للبحث عن تاريخه المجهول في أغوار الأرض، فإن علم الأحافير لم ينحصر في البحث عن تاريخ أحد قط كما انحصر في البحث عن تاريخ أبي الأنبياء، وما تجردت البعوث إلى العراق وفلسطين ومصر لسؤال الأرض عن مكنون من أسرارها، كذلك السر المكنون الذي ينطوي على أعمق أسرار الروح والضمير.
قال منقب من أولئك المنقبين الذين عرفوا باسم الحفريين: إن الناس قد بدءوا بالحفر في الآثار طلبا للذهب ولقايا الحلي والجوهر، ثم عرف الناس شيئا أنفس من تلك المعادن يبحثون عنه ويتهافتون على استخراجه وتحصيله؛ وهو التاريخ المقدس، أو تاريخ المعاني العليا التي ترتفع به إلى السماء، ولها مستودع في جوف الرغام.
2
وكل شيء يغليه الإنسان يحفزه إلى ذلك السر الذي تقسمته الأرض والسماء.
فإلى جانب البحث عن أصول العقائد يبحث المنقبون في تاريخ الخليل عن فتوح لا نظير لها في تاريخ الإنسان.
وقد أكثر المؤرخون من القول في أنباء الفتوح التي غيرت مجرى التاريخ، أو غيرت علاقة الإنسان كله بالعالم الذي يحيط به ويحتويه.
ولكن المؤرخين لا يستطيعون أن يذكروا فتحا من تلك الفتوح أعظم عملا، وأبقى أثرا في تاريخ الإنسان، من تلك الفتوح التي اقترنت بدعوة الخليل.
إن دعوة الخليل قد اقترنت بالتوحيد، واقترنت بميزان العدل الإلهي، واقترنت بإعلاء العبادة إلى ما فوق الطبيعة والجثمان.
وهذه هي الفتوح التي لا نظير لها فيما تحدث عنه المؤرخون من فتوح الحياة الإنسانية منذ أقدم عصورها إلى العصر الحديث.
لا نظير لها فيما فتحه الإنسان من هذا العالم حين سخر النار، أو سخر الحيوان، أو سخر الكهرباء، أو سخر الذرة على جلالة فعلها وضآلة قدرها، وهي أقوى المسخرات فيما عرفه إلى اليوم.
هذه فتوح فيما يملكه الإنسان.
أما تلك الفتوح ففيها ملاك الإنسان كله، فيما يعلمه وما لا يعلمه، وفيما يبديه وفيما يخفيه.
تلك فتوح غيرت عالم الإنسان الظاهر وعالمه الباطن، وليس قصارى الأمر فيها أنها عبادة جديدة أفضل من عبادات سبقتها، وإن كانت العبادة الفضلى غنما يغليه من يقتنيه، ويفديه بكل ما يعيه وما لا يعيه.
كلا ... بل هي عبادة فضلى، وفكر فاضل، ونظر جديد إلى الكون وإلى الإنسان وبني نوعه في وحدته وفي اجتماعه.
وهي فتوح تصحح مقاييس الفكر وتبدل علاقة الإنسان بنفسه وبدنياه، وتحسب من أجل ذلك في سجلات العالم، ورياضات الخلق، وقوانين الاجتماع.
إن حقائق الكون الكبرى لن تنكشف لعقل ينظر إلى الكون كأنه أشتات مفرقة بين الأرباب، يتسلط عليها هذا بإرادة، ويتسلط عليها غيره بإرادة تنقضها وتمضي بها إلى وجهة غير وجهتها، فلم يكن التوحيد عبادة أفضل من عبادات الشرك وكفى؛ بل هو علم أصح، ونظر أصوب، ومقياس لقوانين الطبيعة أدق وأوفى، ومن هنا صدرت كل فكرة عظيمة عن الكون من عقل فيلسوف مؤمن بالوحدانية، وإن لم تبلغه دعوة الأنبياء.
أما ميزان العدل الإلهي فهو الذي أقام المساواة بين الناس على دعامتها الراسخة، وكل ما عداها من دعامة فإنما هي دعائم القوة ممن يقدر عليها، سواء اقتدر عليها بسطوته الباطشة، أو بتأليب الطوائف والجماعات، وما كان للعدل بين الناس من سبيل وهم يقيسون بعضهم إلى بعض، ويطلبون المساواة بين أقوى الأقوياء منهم وأضعف الضعفاء.
فإذا ارتفع الميزان إلى اليد الإلهية، فهذا القوي مهما يبلغ من القوة، وذلك الضعيف مهما يبلغ من الضعف ندان
3
متساويان، ومخلوقان أمام خالق واحد، ما زاد من قوة أحدهما فهو من عطاء ذلك الخالق، وما نقص من قوة الآخر فهو من قضائه، ومن دواعي رحمته وبلائه، وإليه المرجع في حسابه أو جزائه، فلا يدخله أحد في حساب غير ذلك الحساب، ولا يعرضه أحد على ميزان غير ذلك الميزان.
وقد ارتفع الإنسان كله حين رفع عبادته من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة، وحين أصبحت حاجته إلى المعبود شيئا أرفع من مطالب الأديان، وضرورات الغرائز والطباع.
كان أقل من الطبيعة فأصبح أعظم منها.
كان مسلوب الحيلة أمامها، فأصبح له من فوقها مرجع لا يعنيه غضبها ورضاها.
ولم يكن له إلا أن يخضع لها أو يحتال عليها.
فأصبح له أن يواجهها ويقف أمامها، بل على أكتافها.
أصبح له كيانه الأدبي في وجهها.
وليس الفتح المبين في هذا أنه يرى فيها ما يحسن وما لا يحسن، وما يرضاه ضميره وما لا يرضاه.
وإن الواقع الذي لا مرية فيه أن الإنسان قد ملك الذرة الصغرى، فملك من الطبيعة قوتها الكبرى، وأنه خليق بهذه القوة أن يضل ويطغى، ولكن اليقين الحق أنه لن يكبح ذلك الطغيان من نفسه بقوة الطبيعة صغراها وكبراها، وإنما يكبحه - إذا قدر له أن يكبحه - بسلطان من ذلك الفتح المبين، ما بقي له وما زاد عليه بعد آلاف السنين.
هذه الفتوح قد عرفت جميعا قبل عصر الخليل، ولكنها لم تقترن بدعوة قط في عالم النبوة قبل دعوته عليه السلام.
وهذا هو الفارق المهم في العواقب وفي مراحل التاريخ.
أو هو الفارق بين دعوة النبي وبين غيرها من الدعوات.
فالتوحيد لم يكن مجهولا قبل عصر إبراهيم، وكذلك ميزان العدل الإلهي، وكذلك عبادة «الحق» فوق الطبيعة وفوق مطالب الأبدان.
كان المصريون الأقدمون يؤمنون بالإله الواحد، وكان من معتقداتهم أن الروح في العالم الآخر ميزانا يقدر لها الحسنات والسيئات، وكانت كلمة الله هي القوة التي تفعل ما تريد.
ولكنها لم تكن دعوة نبوة ورسالة، ولعلها جاءت في زمن لم تتهيأ فيه النفوس للعلم بالوحدانية، ونبذ الشرك، وتعدد الأرباب.
وكانت في جملتها دعوة كهان يسترون ما يعلمون، ولا يبوحون للناس بأسرار الديانة إلا بمقدار.
وكان ميزان السماء يزن لكل روح حسناتها وسيئاتها، ويحسب الملوك من الأرباب الذين يتصرفون في الأرواح خلال الحياة وبعد الممات.
ولما جهر «إخناتون» بدعوة التوحيد والمساواة بين عباد الله، صدرت دعوته من قصر الدولة كأنها مراسيم الملك وقوانين الحكومة، ولم تلبث أن بطلت في قصر الدولة نفسه بمراسيم من قبيل تلك المراسيم، وقوانين يطيعها الناس أشد من طاعتهم لتلك القوانين؛ لأنها تستعين بدهاء الكهان وسلطان العرف والعادة.
وكان أناس من الحكماء يعرفون الله كأنهم يعرفون حلا مقنعا لمسألة الوجود، أو كأنهم يعرفونه خالقا للكون، ولا يزيدون.
ومما لا ريب فيه أن عقيدة التوحيد قد سرت من مصر في صورة من الصور إلى بلاد المشرق، ومنها بلاد البحر الأبيض ووادي النهرين.
ومما لا ريب فيه أنها كانت سر الخاصة وذوي الرسالة في المحاريب والقصور، وأن تعدد الأرباب قد سرى منها كذلك إلى الشعوب سريان العرف والمحاكاة.
أما الإله الواحد الذي اقترن بدعوة إبراهيم، فلم يكن حل مسألة، ولم يكن سر أحبار وحكماء، ولم يكن خالق الكون والناس ولا مزيد.
بل كان خالق الكون والناس، وحاكم الكون والناس، وكان منه الأمر والنهي، وإليه المرجع والمآب.
كانت عبادته «مسألة حية» تمتزج بسرائر النفس، وتنبعث منها فضائل الخير، ولا تنزوي عنها زاوية في الكون ولا في ضمير الإنسان.
كانت دعوته صرخة تسمع وتتجاوب بها الآفاق، ولم تكن لغزا يخفي وتتحاجى
4
به العقول.
كانت صحبة البيت والطريق، وصحبة اليقظة والمنام، وصحبة العزلة والجماعة، وصحبة الحياة قبل الميلاد وبعد الموت، ولم تزل حتى أصبحت وهي صحبة الخلود الذي لا يعرف الفناء.
ولم تصبح كذلك قبل رسالة النبوة حين انبعث بها النبي أبو الأنبياء ... حين بشر بها إبراهيم.
وما كان لنبوة واحدة أن تؤدي رسالة التوحيد وتفرغ منها في عمر رجل أو عمر جيل ... وإنما هي نبوة بعدها نبوات.
ولو كانت دون ذلك خطرا لكفى أن تقوم بها دعوة واحدة، وأن تتكفل لها ببقائها، ولكان بها الغنى عن التعقيب والتذكير.
ولكنها على خطرها هذا لا تتم في رسالة واحدة، ولا تستغني عن مرتقى بعد مرتقى، ثم عن قرار بعد قرار.
وعاش الخليل ما عاش والتوحيد في قومه مشوب
5
بالشرك والضلال، وفارق الدنيا والخلفاء من بعده يتقدمون وينكسون، ويستقيمون وينحرفون، ولم ينقض من بعده عهد إلا وهو ينبئ الناس أنها نبوة تتلوها نبوات، وأنها أمانة موروثة في أعقابه لا تنقطع في جيل، ولا بد لها من ورثة أبرار ... ومن شك في ذلك فإنما هو شاك في بداهة العقل، وضرورة الزمن، وحكم التاريخ، فوق الشك في الكتب والأنبياء.
وإنما المستحيل في العقول أن تنفرد رسالة إبراهيم في أعقابه، فلا تأتي بعدها رسالة في أولئك الأعقاب.
ولا دليل في العقول على نسب الأعقاب أقرب من هذا الدليل، ولا دليل على المرسلين منهم أثبت منه عند النظر القويم.
فلو مضت رسالة إبراهيم بغير رسالة بعدها لكان هذا هو العجب المردود، ولو قام بتلك الرسالات التالية فرع من غير أصله، ونبت من غير معدنه؛ لكان هذا أعجب وأولى بالرد والارتياب.
ولا يعقل العقل إلا أنه نبي أبو الأنبياء، كما كان وكما ينبغي لا محالة أن يكون ... وكم بين توحيد الأعقاب وبيت التوحيد كما تلقاه عصر الخليل من بون بعيد! إنه لأبعد من مسافة الزمن بينهما، وليست مسافة الزمن بينهما بالشوط القريب ... ولكن الذي يبدأ لا بد أن يبدأ، ولا بد أن يبدأ من خطوته الأولى ولا يبدأ من منتهاه.
وإلى ذلك المبدأ يرجع اليوم ألف مليون من بني الإنسان أو يزيدون، لا أول لهم في قداسة الحياة غير ذلك الأول، ولا رائد لهم في موازين العدل والصلاح قبل ذلك الرائد ومن خلف على أعقابه من الرواد.
ومن ذلك المبدأ شخص ذلك الركب الحاشد في طريقه إلى الله، وتقدم من اسم الله ذي العرش إلى اسم الله الرحمن الرحيم.
إنه - لا جرم - خليل الرحمن ... وإنه - لا جرم - خليل الإنسان.
وسيرته في الصفحات التالية هي سيرة الخليلين، على هدي الأسلاف، وعلى هدي الأعقاب.
وعلى هدي الأسلاف والأعقاب ينبغي أن تكتب كل دعوة عامة، وأن توصف كل بعثة نبوية خوطب بها الناس على اختلاف المدارك والمعارف والطباع.
فنحن لا نتصور الدعوة في صورتها الحقيقية الشاملة إلا إذا عرفنا صورتها في نفوس المخاطبين بها، سواء منهم من فهم أو من لم يفهم، ومن أحسن الاعتقاد أو أساء.
وعلى قدر العلم بالضلالة نفهم عمل الهداية التي أزالتها، أو عالجت أن تزيلها بما كان لها من الجهد والوسيلة.
فلا غنى في دراسة تاريخ الخليل عن الإحاطة بما ورد عنه وقيل في شتى المصادر في مختلف البيئات والعصور.
وينفعنا الخطأ هنا كما ينفعنا الصواب.
بل الخطأ هنا من الصواب أنفع؛ لأن رسالة النبي قائمة على إزالة خطأ وتبيين الضلالة فيه، فعلى قدر ما نعلمه من جوانب الخطأ وخباياه، نعلم القوة التي تتصدى له، وتصلح لعلاجه والغلبة عليه.
ولهذا نود أن نلم في كتابة هذه السيرة بكل طرف، وأن نذهب فيها إلى كل وجهة، ولا نقتصر على المعتمد منها في مذهب واحد أو نحلة واحدة، سواء عرضنا لها من ناحية الأديان، أو من ناحية المباحث والآراء التي رددتها التواريخ، وكشفت عنها البعوث الحفرية من القرن الثامن عشر إلى الآن.
إن منهج البحث تمليه علينا طبيعة البحث نفسه، في الزمن الذي نكتبه فيه، ونحن ندرس سيرة الخليل كما وضحت لنا منذ فاتحة القرن العشرين. ولقد أثار القرن العشرون في هذه السيرة مشكلات لم يعرفها الأقدمون، وأتى فيها بمعلومات من بطون الحفائر وخفايا الآثار لم تكن في حساب أحد ممن عرضوا لهذه السيرة قبل مائة سنة.
من هذه المشكلات التي أثارها القرن العشرون: وجود إبراهيم في التاريخ؛ هل هو شخصية تاريخية، أو هو صورة من صور الخيال تجمعت حولها متفرقات العقائد من هنا وهناك؟
ومن المشكلات التي أثارها هذا القرن: علاقة إبراهيم بمكة وبيت الله الحرام؛ هل ذهب إبراهيم إلى مكة؟ وهل كانت له علاقة ببيت الله الحرام فيها، أو تلك علاقة لم تفهم على سند صحيح من الواقع، ولم تنجل الدراسات العصرية عما يؤيدها بالدليل المقبول؟
ونحن نكتب هذه السيرة وأمامنا هذه المشكلات من مصادرها القوية، وأمامنا كذلك أسبابها وأسباب الإعراض عنها والرد عليها.
ونجملها بداءة فنقول: إنها لا تقوم على سند من العلم، سواء كان الباحث الحديث ينفي وجود إبراهيم جزما ويقينا، أو يشك في وجوده ولا يقطع باليقين إلى جانب النفي أو جانب الإثبات.
فالذي ينفي وجود إبراهيم جزما ويقينا لا يستند إلى حجة واحدة من حجج العلم، ولا يزيد على مجرد الإنكار، والذي يشك يبني شكه على أسباب لا يعتبرها العلم ولا العقل من أسباب الشك في وجود شيء ... لأنه يستند في شكه على كثرة الأعاجيب والخوارق والأساطير التي تخللت سيرة إبراهيم كما رواها الأقدمون.
ومثل هذا السبب لم يبطل وجود شيء قط، وإن كانت أعاجيبه وخوارقه وأساطيره مما ترفضه جميع العقول في العصر الحديث.
فهذه الشمس يضرب بها المثل في الظهور والثبات، وليس أكثر من الخرافات التي رويت عن مشرقها ومغربها، وعن نشأتها وحركتها، وعن الديانات التي تقدسها وتفرض عبادتها، وليس أكثر في العصر الحاضر من الخلاف على عمرها، وحقيقة تكوينها، وأسباب حرارتها، وطبيعة مادتها؛ لأنها هي طبيعة المادة على العموم.
والهرم الأكبر لا يمتري في وجوده أحد، ولم يذكر عن إبراهيم بعض ما ذكر عنه من الأسرار.
ومن الزراية بالعلم أن يقوم الشك على غير أساس؛ فليست الحقيقة خصما لنا في محكمة نقول له: تقدم أنت بجميع أسانيدك وإلا أنكرنا عليك دعواك.
وإنما الحقيقة قضيتنا نحن، وليست بدعوى خصم يلزمه الدليل ولا يلزمنا؛ فما لم يكن للشك سبب فهو زراية بالعلم، وزراية بالعقل، وزراية بأمانة التفكير.
ومن السخف أن نلزم الأقدمين بالبرهان على سيرة إبراهيم ولا نلزم به أنفسنا، كأنهم أصحاب الشأن كله ونحن ثمة غرباء متفرجون.
فلا موجب للجزم بإنكار وجود إبراهيم ولا للشك في وجوده اعتمادا على كشف جديد من كشوف العلم في القرن العشرين.
أما علاقته بمكة والبيت الحرام، فالأمر فيها أعجب من أمر المختلفين على «شخصيته التاريخية»؛ لأن الذين ينكرون تلك العلاقة لم يدعوا لها سندا من العلم ولا من الكشوف العصرية، بل هم يعتمدون على بعض المصادر الدينية للجزم ببطلان المصادر الأخرى، أو هم يعتمدون على المصادر الإسرائيلية للجزم ببطلان المصادر الإسلامية، ولا شأن للعلم الحديث هنا، بل هو تمييز رواية دينية على رواية دينية تخالفها، ولا محل لإقحام العلم العصري بين الروايتين.
بل هناك محل للتحفظ الشديد في قبول الرواية الإسرائيلية؛ لأنها امتزجت بسياسة الملك والتنازع عليه، وكل دعوى المملكة الإسرائيلية في الزمن القديم قائمة على الأسلوب الذي كتبت به سيرة الخليل في أيامه الأخيرة على التخصيص.
هذه نظرتنا إلى المشكلات التي طرأت على سيرة إبراهيم في القرن العشرين، وهذه نظرتنا إلى المعلومات التي أتى بها من كشوفه وأحافيره وتعليقاته، ومبلغ حقها في تمحيص السيرة أنها تفسر بعض الغوامض، ولكنها لا تنفي «الشخصية التاريخية»، ولا توجب الشك فيها بحجة علمية. وسنرى أن المقابلة بين المعلومات الحديثة وروايات الكتب الدينية وروايات الأقدمين تؤدي لنا عملا غير النفي والإنكار والتردد بين الشك واليقين؛ تؤدي لنا عمل الغربال والمصفاة، ولا تنفي غير الحثالات
6
والقشور؛ ولهذا سنرجع في سيرة الخليل إلى جميع مراجعها.
سنرجع إلى كتب الأديان التي لها علاقة بسيرة الخليل، وإلى كتب التواريخ وروايات الأقدمين، وإلى كتب الباحثين في الحفائر والآثار، ولا سيما الكتب التي تعمد مؤلفوها أن يبحثوا في مواطن السيرة ومظانها من الألف الثالثة قبل الميلاد، بين آثار العراق وفلسطين ومصر والجزيرة العربية وغيرها من مظان السيرة التي تتاخم تلك الأقطار.
والأديان التي نرجع إلى كتبها ومصادرها هي: الإسرائيلية، والمسيحية، والإسلام، والصابئة. هذه الديانة الأخيرة أقل الديانات ذكرا للخليل في كتبها، ولكنها احتفظت ببقايا كثيرة من عقائد البابليين، وأخذت من الديانات الوثنية والكتابية في فارس والعراق وفلسطين وجزيرة العرب، فهي مرجع لا يهمل عند الكلام على دعوة تتصل بجميع هذه الديانات.
ومنهجنا في الأخذ من المراجع أن نقتبس ما جاء في كتب الدين، ثم نردفه بتفسيره من كلام أهله، وكلام الثقات عند أصحابها، حتى نستخلص منها جميعا لباب السيرة فيها، ونستوفي منها ما تعطيه من موضوعها.
وننتقل من كتب الأديان إلى التواريخ التي تعتمد عليها، وعلى المأثورات المروية، ثم نشفع ذلك بمحصول التاريخ الذي استنبطه الحفريون وعلماء الآثار من البحث في المراجع الأثرية.
ولا ننوي أن نقحم على هذه المراجع تعليقا لا يستلزمه سياقها، بل نمشي مع كل مرجع مقبول أو غير مقبول حتى يقيم لنا معلما هاديا من معالم الطريق. وقد يجيء المعلم الهادي من طريق الرفض كما يجيء من طريق القبول، فإن الذي يقول لنا: لا تسيروا من هنا كالذي يقول لنا: سيروا من هناك، وكلها صالح للهداية واجتناب الضلال.
فإذا أوضحت هذه المعالم آخر الأمر لم تبق إلا الخلاصة التي يصح التعويل عليها، وعلى قدر طول الطريق يكون القصد في ختامه؛ لأنه الختام الذي تعددت من أجله المعالم والأعلام.
ونحن على رجاء مع القارئ أن تأتي هذه الخلاصة مصفاة من الشوائب والدخائل، وأن نستخرج منها صفة الخليل كما صحت في النظر بعد المقابلة بين مصادرها وأجزائها، ونترك منها ما لا سبيل إلى القول فيه على بينة، وعلى ضوء هذه المعلومات مجتمعات.
ونحن مبتدئون بالباب الأول فيما يؤخذ من كتب العهد القديم، ثم تابعوه بما يؤخذ من كتب الأديان على الترتيب.
الفصل الثاني
المراجع الإسرائيلية
أفاض سفر التكوين في سيرة إبراهيم عليه السلام، وأثبت مولده في «أور» الكلدانيين، ورفع نسبه إلى سام بن نوح، فهو إبراهيم بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن سالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح.
وذكر أبناء تارح فقال: إنه ولد «إبرام وناحور وحاران، وإن حاران ولد لوطا ومات قبل أبيه في أرض ميلاده: أور الكلدانيين.»
وإن إبرام وناحور اتخذا لهما زوجتين، اسمهما ساراي وملكة بنت حاران ... أما ساراي فهي بنت تارح من زوجة أخرى كما جاء في الإصحاح العشرين على لسان إبراهيم: «وبالحقيقة أيضا هي أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي، فصارت لي زوجة.»
وجاء في الإصحاح الحادي عشر أن: «تارح أخذ إبرام ابنه ولوط بن حاران، وساراي، فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى أرض حاران
1
وأقاموا هناك، وكانت أيام تارح مائتين وخمس سنين، ومات في حاران.»
وجاء بعد هذا في الإصحاح الثاني عشر أن الرب قال لإبرام: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركة، وأبارك من يباركك، ومن يلعنك ألعنه، وفيك تتبارك جميع قبائل الأرض.
فذهب إبرام كما قال له الرب، وذهب معه لوط.
وكان إبرام ابن خمس وسبعين سنة حين خرج من حاران، فأتوا إلى أرض كنعان ومعهم ذخائر وعبيد وماشية، واختار إبرام سكنه من شكيم
2
إلى بلوطة مورة، وفيها الكنعانيون.
وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض. فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له، ثم انتقل من هناك إلى الجبل ونصب خيمته شرقا من بيت إيل من المغرب، ولماي من الشرق، ثم والى رحلته إلى الجنوب.
وحدثت مجاعة في الأرض، فانحدر إبرام إلى مصر، وقال لساراي امرأته وهو على مقربة من مصر: إني علمت أنك امرأة حسنة المظهر؛ فإذا رآك المصريون قالوا: هذه امرأته. فيقتلونني ويستبقونك، قولي: إنك أختي؛ ليكون لي خير بسببك، وتحيا نفسك من أجلك.
فلما دخل إبرام مصر رأى المصريون أن المرأة حسنة جدا، ومدحها رؤساء فرعون لديه، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبرام خيرا بسببها، وصار له بقر وغنم وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال.
فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة ... ودعا فرعون إبرام وقال له: ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت لي: هي أختي حتى أخذتها لتكون زوجتي؟ خذها واذهب. ووكل به أناسا شيعوه إلى خارج الديار.
وعاد إبرام إلى بيت إيل حيث كانت خيمته قبل انحداره إلى مصر، ولم تحتمل الأرض إبرام ولوطا ومن معهما من حاشية وماشية، واشتجر رعاتهما وحولهم الكنعانيون والفرزيون.
3
فقال إبرام لابن أخيه: لا تكن مخاصمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك؛ إننا أخوان، أليست الأرض أمامك؟ فاذهب حيث شئت. إن ذهبت شمالا ذهبت أنا إلى اليمين، وإن ذهبت يمينا ذهبت إلى الشمال. ونظر لوط فرأى أمامه أرضا مخصبة كأرض مصر، فاختار دائرة الأردن وارتحل مشرقا، ونقل خيامه إلى سدوم، وأهلها جد أشرار.
وبقي إبرام في كنعان فقال له الرب: ارفع عينيك وانظر في الموضع الذي أنت فيه من مشرقه إلى مغربه، ومن شماله إلى جنوبه؛ فإنني معطيك جميع الأرض التي تراها ولنسلك من بعدك، وأجعل لك نسلا كتراب الأرض لا يحصيه إلا من استطاع أن يحصي ترابها، فاضرب في الأرض طولا وعرضا كما تشاء.
فنقل إبرام خيامه وأقام عند بلوطات ممرا التي هي جبرون،
4
وبنى فيها مذبحا للرب ...
ونشب قتال بين أمراء البادية والحضر في تلك البقاع، «فخرج ملك سدوم وملك عمورة وملك أدمة وملك صبويم وملك بالع التي هي صوغر، ونظموا حربا معهم في عمق السديم
5
مع كدرلعومر ملك عيلام، وتدعال ملك جوييم، وإمرافل ملك شنعار، وأريوك ملك الإسار؛ أربعة ملوك من خمسة.
وعمق السديم كان في آبار حمر كثيرة ...
فهرب ملكا سدوم وعمورة وسقطا هناك، والباقون هربوا إلى الجبل فأخذوا جميع أملاك سدوم وعمورة وجميع أطعمتهم ومضوا.
وأخذوا لوطا ابن أخي إبرام ومضوا؛ إذ كان ساكنا في سدوم.
فأتى من نجا وأخبر إبرام العبراني، وكان ساكنا عند بلوطات ممرا الأموري، أخي أشكول وأخي عانر، وكانوا أصحاب عهد مع إبرام، فلما سمع أن أخاه سبي جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته، وعدتهم ثلاثمائة وثمانية عشر، وتبعهم دان، ودهمهم ليلا هو وعبده فكسرهم، وتبعهم إلى حوبة إلى الشمال من دمشق واسترجع ما أخذوه، واسترجع لوطا أخاه أيضا، وسبى النساء والرجال ...
فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه، وأخرج «ملكي صادق» ملك شاليم خبزا وخمرا، وكان كاهنا لله العلي، فبارك إبرام وقال:
مبارك إبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض، ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك إلى يديك، فأعطاه إبرام عشرا من كل شيء، وقال ملك سدوم: أعطني النفوس، أما الأملاك فخذها لنفسك.
فقال إبرام لملك سدوم: رفعت يدي إلى الرب الإله العلي، مالك السماء والأرض، ولا آخذن خيطا ولا شراك نعل ولا شيئا مما هو لك، فلا تقول: إنني أغنيت إبرام، ليس لي إلا ما أكله الغلمان، وأما نصيب الرجال الذين ذهبوا معي؛ عانر وأشكول وممرا، فلهم نصيبهم يأخذونه، ثم خاطب الرب إبرام في الرؤيا قائلا: لا تخف يا إبرام، أنا ترس لك، وأجرك عظيم.
قال إبرام: أيها السيد الرب، ماذا تعطيني وأنا ماض عقيما، ومالك بيتي هو اليعزر الدمشقي.
6
وقال إبرام أيضا: إنك لم تعطني نسلا، وها هو ذا ابن بيتي وارث لي ...
فكان كلام الرب له: لا يرثك هذا، بل الذي يخرج من أحشائك هو وارثك.
ثم قاده إلى الخارج وقال: انظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت ... هكذا يكون نسلك.
فآمن بالرب، فحسبه له حسنة، قال له: أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض ترثها.
فقال: أيها السيد الرب، بماذا أعلم أنني أرثها؟
قال: خذ عجلة ثلاثية، وعنزة ثلاثية، وكبشا ثلاثيا، ويمامة وحمامة.
فأخذ هذه كلها وشقها من الوسط، وجعل كل شق مقابل صاحبه، وأما الطير فلم يشقه، وجعل إبرام يزجر الجوارح التي تهبط عليها.
ولما صارت الشمس إلى المغيب وقع على إبرام سبات، ونزلت عليه رعبة عظيمة، فقال لإبرام: اعلم يقينا أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليست لهم، يستعبدون فيها ويستذلون أربعمائة سنة، ثم أدين الأمة التي تستعبدهم، فيخرجون بأملاك جزيلة، وتمضي أنت إلى آبائك بسلام، وتدفن بشيبة صالحة، ثم يرجع نسلك في الجيل الرابع إلى ها هنا؛ إذ لم يتم بعد ذنب الأموريين.
ثم غابت الشمس ورانت العتمة على الأفق، وإذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك الشطور.
وفي ذلك اليوم قطع الرب
7
مع إبرام ميثاقه قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات: القينيين والقنزيين والقدمونيين والحيثيين والفرزيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين.» •••
ورجع الإصحاح السادس عشر إلى ساراي، فجاء فيه أنها لما لم تلد دفعت جاريتها المصرية «هاجر» إلى إبرام وقالت له: هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة ... فادخل إلى جاريتي لعلي أرزق منها بنين ...
فلما رأت هاجر أنها حبلت صغرت مولاتها في عينيها، فقالت ساراي لإبراهيم: ظلمي عليك! دفعت جاريتي إلى حضنك فلما رأت أنها حبلت صغرت في عينيها، ويقضي الرب بيني وبينك.
فقال إبرام لساراي: هو ذا جاريتك في يدك؛ افعلي بها ما يحسن في عينيك، فأذلتها ساراي، فهربت من وجهها.
فوجدها ملاك الرب على عين الماء البرية، على العين التي في طريق شور،
8
وقال: يا هاجر جارية ساراي! من أين أتيت؟ وإلى أين تذهبين؟ فقالت: أنا هاربة من وجه مولاتي ساراي، فقال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها، وقال لها ملاك الرب: تكثيرا أكثر نسلك فلا يحصى، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى وتلدين ابنا وتدعينه إسماعيل؛ لأن الرب قد سمع لضراعتك، وأنه يكون إنسانا وحشيا،
9
يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن ...
وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل ...
ولما كان إبرام ابن تسع وتسعين سنة «الإصحاح السابع عشر» ظهر الرب لإبرام وقال له: أنا الله القدير، سر أمامي وكن كاملا؛ فاجعل عهدي بيني وبينك، وأكثرك كثيرا جدا، فخر إبرام ساجدا، وتكلم الله معه قائلا: أما أنا فهو ذا عهدي معك، وتكون أبا لجمهور من الأمم، فلا يدعى اسمك بعد اليوم إبرام، بل يكون اسمك إبراهيم: لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما، ومنك ملوك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا؛ لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا، وأكون إلههم.
وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك، يختن منك كل ذكر، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت، والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك، فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا، وأما الذكر الأغلف، فتقطع تلك النفس من شعبها؛ أنه نكث عهدي.
وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي، بل سمها سارة، وأباركها وأعطيك أيضا منها ابنا، فخر إبراهيم ساجدا وضحك، وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة؟! وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة؟!
وقال إبراهيم لله: ليس إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي له عهدا أبديا لنسله من بعد ...
وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا؛ اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة، ولكن عهدي أقيمه لإسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت من السنة الآتية. فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم.
فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع ولدان بيته، وجميع المبتاعين بفضة وختنهم ... وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن، وإسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة.
وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض، وقال: يا سيد، إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عهدك، ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون؛ لأنكم قد مررتم على عبدكم، فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت.
فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سمينا، اعجني واصنعي خبز ملة.
10
ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلا رخصا
11
جيدا، وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله، ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله، ووضعها قدامهم، وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا ...
وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة - أي الربيع - ويكون لسارة امرأتك ابن.
وكانت سارة سامعة في باب الخيمة، وهو وراءه - وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء - فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون له متعة وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟ إنها قائلة بالحقيقة: أتراني ألد وأنا قد شخت؟ فهل يستحيل على الرب بشيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن!
فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك! لأنها خافت، فقال: لا، بل ضحكت ...
ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم، فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية، ويتبارك به جميع أمم الأرض! إني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب، وليعملوا برا وعدلا، ويوفي الرب إبراهيم ما وعد.
وقال الرب: إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيئتهم قد عظمت جدا، إني نازل أرى هل فعلوا حقا حسب صراخها الآتي إلي، وإلا فأعلم.
وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم ...
وأما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب ...
فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين؟ حاشا لك أن تفعل هذا الأمر! أديان كل الأرض لا يصنع عدلا؟
فقال الرب: إن وجدت في المكان خمسين بارا فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم.
فأجاب إبراهيم وقال: إني قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد، ربما نقص الخمسون بارا خمسة، أتهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال: لا أهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين.
فعاد يكلمه أيضا وقال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال: لا أفعل من أجل الأربعين، فقال: لا يسخط المولى فأتكلم: عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا أهلك من أجل العشرين، فقال: لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط: عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال: لا أهلك من أجل العشرة.
وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم، ورجع إبراهيم إلى مكانه.
فجاء الملكان إلى سدوم مساء، وكان لوط جالسا في باب سدوم، فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما وخر ساجدا وقال: يا سيدي، ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما، ثم تبكران وتذهبان في طريقكما، فقالا: لا، بل بالساحة نبيت.
وتم الإصحاح التاسع عشر بقصة هلاك سدوم، ثم عاد الإصحاح العشرون إلى قصة إبراهيم فجاء فيه: أنه انتقل من هناك إلى أرض الجنوب، وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار. «وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي، فأرسل «إبيمالك» ملك جرار وأخذ سارة، فجاء الله إلى «إبيمالك» في الحلم وقال له: ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها؛ فإنها ذات بعل، ولم يكن «إبيمالك» قد اقترب منها، فقال: يا سيد، أتقتل أمة بارة؟ ألم يقل لي هو: إنها أختي؟ ألم تقل هي نفسها: إنه هو أخي؟ بسلامة قلبي ونقاوة يدي فعلت هذا، فقال له الله في الحلم: أنا أيضا علمت أنك بسلامة قلبك فعلت هذا، وأنا أيضا أمسكتك أن تخطئ إلي؛ لذلك لم أدعك تمسها، فالآن رد امرأة الرجل فإنه نبي، وسيصلي لأجلك فتحيا، وإن كنت لا تردها فإنك ومن لك ميتون. ... وأخذ إبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وإماء وأعطاها لإبراهيم، ورد إليه سارة امرأته، وقال إبيمالك: هو ذا أرضي قدامك، تسكن منها ما حسن في عينيك، وقال لسارة: إني قد أعطيت أخاك ألفا من الفضة. ها هو لك غطاء عيني. ... وصلى إبراهيم إلى الله، فشفى الله إبيمالك وامرأته وجواريه فولدن؛ لأن الرب كان قد أغلق كل رحم لبيت إبيمالك بسبب سارة امرأة إبراهيم.»
ثم جاء في الإصحاح الحادي والعشرين أن سارة ولدت إسحاق، وختنه إبراهيم وهو ابن ثمانية أيام، وكان إبراهيم قد أوفى على المائة، وقالت سارة: قد جعل الله لي ضحكا ، وجعل كل من يسمع بأمري يضحك. ... ورأت ابن هاجر المصرية يمزح، فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم.
قال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام، ومن أجل جاريتك، واسمع كل ما تقوله سارة؛ لأنه بإسحاق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضا سأجعله أمة؛ لأنه نسلك.
فبكر إبراهيم صباحا، وأخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفها وصرفها.
فمضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار، ومضت وجلست مقابلة بعيدا على مرمى القوس؛ لأنها قالت: لا أنظر موت الولد. فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: ما لك يا هاجر؟! لا تخافي؛ لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدي يدك به؛ لأني سأجعله أمة عظيمة. وفتح الله عينها فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمة زوجة من أرض مصر.
وحدث في ذلك الزمان أن أبيمالك وفيكول رئيس جيشه كلما إبراهيم قائلين: الله معك في كل ما أنت صانع، فالآن احلف لي بالله ها هنا أنك لا تغدر بي ولا بنسلي وذريتي، وكالمعروف الذي صنعت إليك تصنع إلي وإلى الأرض التي تغربت فيها.
فقال إبراهيم: أنا أحلف. وعاتب إبيمالك في بئر الماء التي اغتصبها عبيده، فقال إبيمالك: لم أعلم من فعل هذا الأمر، أنت لم تخبرني، وأنا ما سمعت سوى اليوم.
فأخذ إبراهيم غنما وبقرا وأعطى إبيمالك، فقطعا كلاهما ميثاقا.
وأقام إبراهيم سبع نعاج وحدها، فقال إبيمالك لإبراهيم: ما هي هذه النعاج التي أقمتها وحدها؟ فقال: إنك تأخذ من يدي سبع نعاج؛ لكي تكون لي شهادة بأني حفرت هذه البئر؛ لذلك دعا ذلك الموضع بئر سبع لأنهما هناك حلفا كلاهما.
فقطعا ميثاقا في بئر سبع، ثم قام إبيمالك وفيكول رئيس جيشه، ورجعا إلى أرض الفلسطينيين، وغرس إبراهيم أثلا
12
في بئر سبع، ودعا هناك باسم الرب الإله السرمدي، وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة.» •••
وتأتي بعد ذلك قصة الفداء بإسحاق: «وإن الله قد امتحن إبراهيم فقال له: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه - إسحاق - واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك ... فبكر إبراهيم صباحا، وشد على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه، وشقق حطبا لمحرقة، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله.
وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد، فقال لغلاميه: اجلسا أنتما ها هنا مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد، ثم نرجع إليكما.
فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه، وأخذ بيده النار والسكين، فذهبا كلاهما معا.
وكلم إسحاق إبراهيم أباه وقال: يا أبي، فقال: ها أنا ذا يا بني، فقال: هو ذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى له خروف المحرقة يا بني. فذهبا كلاهما معا.
فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى إبراهيم هناك المذبح ورتب الحطب، وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب، ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء، وقال: إبراهيم! إبراهيم! فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا؛ لأني الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني.
ورفع إبراهيم عينيه ونظر، وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه، فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «يهوه يراه»، حتى إنه يقال اليوم في جبل الرب يرى.
ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء، وقال: بذاتي أقسمت، إني - من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وحيدك - أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء، وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنك سمعت لقولي.
ثم رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا وذهبوا جميعا إلى بئر سبع.
وحدث بعد هذه الأمور أن إبراهيم أخبر وقيل له: هو ذا ملكة قد ولدت هي أيضا بنين لناحور أخيك: عوصا بكره، وتوزا أخاه، وفموئيل أبا آرام، وكاسدو، وحزوا، وفلداش، ويدلاف، وبتوئيل، وولد بتوئيل رفقة ... هؤلاء الثمانية ولدتهم ملكة لناحور أخي إبراهيم: وأما سريته - واسمها زومة - فولدت هي أيضا: طابح، وجاحم، وتاحش، ومعكة.»
وأنبأ الإصحاح الثالث والعشرون بموت سارة وهي في السابعة والعشرين بعد المائة؛ ماتت في قرية أربع التي هي حبرون في أرض كنعان، فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها، وقام إبراهيم من أمام ميته وكلم بني حث قائلا: أنا غريب ونزيل عندكم، أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي، فأجاب بنو حث إبراهيم قائلين له: اسمعنا يا سيدي، أنت رئيس من الله بيننا، في أفضل قبورنا ميتك، لا يمنع أحد منا قبره عنك ...
فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض، لبني حث، وكلمهم قائلا: إن كان في نفوسكم أن أدفن ميتي من أمامي، فاسمعوني والتمسوا لي من عفرون بن صوحر أن يعطيني مغارة المكفيلة التي له في طرف حقله، وبثمن كامل يعطيني إياها ... وكان عفرون جالسا بين بني حث، فأجابه على مسمع من قومه لدى جميع الداخلين باب مدينته قائلا: لا يا سيدي، اسمعني: الحقل وهبتك إياه، والمغارة التي فيه لك وهبتها ...
فسجد إبراهيم أمام شعب الأرض وكلم عفرون في مسامع شعب الأرض قائلا: بل إن كنت أنت إياه فليتك تسمعني، أعطيك ثمن الحقل فأدفن ميتي هناك، فأجاب عفرون إبراهيم قائلا له: يا سيدي، اسمعني: أرض بأربعمائة شاقل فضة ما هي بيني وبينك؛ فادفن ميتك. فسمع إبراهيم لعفرون، ووزن إبراهيم لعفرون الفضة التي ذكرها في مسامع بني حث؛ أربعمائة شاقل فضة جائزة عند التجار. ••• «وشاخ إبراهيم وتقدم في الأيام،
13
وباركه الرب في كل شيء، وقال إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على كل ما كان له: ضع يدك تحت فخذي، فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض، ألا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم، بل إلى أرضي وعشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحاق، فقال له العبد: ربما لا تشاء المرأة أن تتبعني إلى هذه الأرض، هل أرجع بابنك إلى الأرض التي خرجت منها؟ فقال إبراهيم: احترز من أن ترجع بابني إلى هناك: الرب إله السماء الذي أخذني من بيت أبي ومن أرض ميلادي، والذي كلمني، والذي أقسم لي قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض، هو يرسل ملائكة أمامك فتأخذ زوجة لابني من هناك، وإن لم تشأ المرأة أن تتبعك تبرأت من حلفي هذا. أما ابني فلا ترجع به إلى هناك، فوضع العبد يده تحت فخذ إبراهيم مولاه، وحلف له على هذا الأمر.
ثم أخذ العبد عشرة جمال من جمال مولاه، ومضى وجميع خيرات مولاه في يده، فقام وذهب إلى آرام النهرين، إلى مدينة ناحور، وأناخ الجمال خارج المدينة عند بئر الماء وقت المساء، وقت خروج المستقيات، وقال: أيها الرب، إله سيدي إبراهيم، يسر لي اليوم واصنع لطفا إلى سيدي إبراهيم، ها أنا واقف على عين الماء وبنات أهل المدينة خارجات ليستقين ماء، فليكن أن الفتاة التي أقول لها: أميلي جرتك لأشرب، فتقول: اشرب وأنا أسقي جمالك، هي التي عينتها لعبدك إسحاق، وبها أعلم أنك صنعت لطفا إلى سيدي.
وإذ كان لم يفرغ بعد من الكلام، إذا رفقة التي ولدت لبتوئيل بن ملكة، امرأة ناحور أخي إبراهيم، خارجة وجرتها على كتفها، وكانت الفتاة حسنة المنظر جدا، وعذراء لم يعرفها رجل، فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت، فركض العبد للقائها وقال: اسقيني قليل ماء من جرتك، فقالت: اشرب يا سيدي. وأسرعت وأنزلت جرتها على يدها وسقته، ولما فرغت من سقيه قالت: أستقي لجمالك أيضا حتى تفرغ من الشرب. فأسرعت وأفرغت جرتها في المسقاة، وركضت أيضا إلى البئر لتستقي.
فاستقت لكل جماله والرجل يتفرس فيها صامتا ليعلم أأنجح الرب طريقه أم لا. وحدث عندما فرغت الجمال من الشرب أن الرجل أخذ خزامة ذهب وزنها نصف شاقل وسوارين على يديها وزنهما عشرة شواقل ذهب، وقال: بنت من أنت؟ أخبريني هل في بيت أبيك مكان لنبيت؟ فقالت: أنا بنت بتوئيل بن ملكة الذي ولدته لناحور، وقالت له: عندنا تبن وعلف كثير، ومكان لتبيتوا أيضا، فخر الرجل وسجد للرب وقال: مبارك الرب إله سيدي إبراهيم، الذي لم يمنع لطفه وحقه عن سيدي؛ إذ كنت أنا في الطريق هداني الرب إلى إخوة سيدي. فركضت الفتاة وأخبرت بيت أمها بحسب هذه الأمور.
وكان لرفقة أخ اسمه لابان، فخرج لابان إلى الرجل خارجا إلى العين.» •••
ويلي هذا «في الإصحاح الرابع والعشرين» وصف العبد ما حدث له حتى التقى بالفتاة «فأجاب لابان وبتوئيل وقالا: من عند الرب خرج الأمر، لا نقدر أن نكلمك بشر أو خير، هو ذا رفقة قدامك، خذها واذهب، فلتكن زوجة لابن سيدك كما تكلم الرب. وكان عندما سمع عبد إبراهيم كلامهم أنه سجد للرب إلى الأرض، وأخرج آنية فضة وآنية ذهب وثيابا وأعطاها لرفقة، وأعطى تحفا لأخيها ولأمها، فأكل وشرب هو والرجال الذين معه وباتوا، ثم قاموا صباحا فقال: اصرفوني إلى سيدي، فقال أخوها وأمها: لتمكث الفتاة عندنا أياما أو عشرة، وبعد ذلك تمضي.»
واستشيرت الفتاة فقبلت أن تذهب مع العبد، فصرفوا رفقة أختهم ومرضعتها وعبد إبراهيم ورجاله، وباركوا رفقة وقالوا لها: أنت أختنا، صيري ألوف ربوات،
14
وليرث نسلك باب مبغضيه. «فقامت رفقة وفتياتها وركبن على الجمال وتبعن الرجل، فأخذ العبد رفقة ومضى.
وكان إسحاق قد أتى من ورود بئر لحي رئي؛ إذ كان ساكنا في أرض الجنوب، وخرج ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء، فرفع عينيه ونظر وإذا جمال مقبلة، ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو سيدي! فأخذت البرقع وتغطت، ثم حدث العبد إسحاق بكل ما جرى، فأدخلها إسحاق إلى خباء سارة أمه، وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبها، فتعزى إسحاق بعد موت أمه.» «وعاد إبراهيم - الإصحاح الخامس والعشرون - فأخذ زوجة اسمها قطورة، فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا، وولد يقشان شبا، وددان، وكان بنو ددان أشوريم ولطوشيم ولأميم، وبنو مديان عيفة وعفر وحنوك وأبيداع وألدعة؛ جميع هؤلاء بنو قطورة.
وأعطى إبراهيم إسحاق كل ما كان له، وأما بنو السراي اللواتي كانت لإبراهيم، فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقا إلى أرض المشرق، وهو بعد بقيد الحياة.
وهذه أيام سني حياة إبراهيم التي عاشها: مائة وخمس وسبعون سنة، وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة، شيخا شبعان أياما، وانضم إلى قومه، ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة في حقل عفرون بن صوحر الحثي الذي أمام ممرا.» «... وهذه مواليد إسماعيل بن إبراهيم الذين ولدت هاجر المصرية جارية سارة لإبراهيم: نبايوث بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة؛ هؤلاء هم بنو إسماعيل، وهذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم؛ اثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم، وهذه سنو حياة إسماعيل: مائة وسبع وثلاثون سنة.
وأسلم روحه ومات وانضم إلى قومه، وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر.
وهذه مواليد إسحاق بن إبراهيم ... ولد إبراهيم إسحاق، وكان إسحاق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجته رفقة بنت بتوئيل الآرامي، أخت لابان الآرامي، من فدان آرام.
وصلى إسحاق على الرب لأجل امرأته؛ لأنها كانت عاقرا، فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته، وتزاحم الولدان في بطنها، فقالت: إن كان هكذا ففيم أنا عائشة؟ ... ومضت لتسأل الرب، فقال لها الرب: في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستبعد لصغير.
فلما أكملت أيامها لتلد إذا في بطنها توءمان، فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر، فدعوا اسمه عيسو، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو، فدعي اسمه يعقوب، وكان إسحاق ابن ستين سنة لما ولدتهما.
فكبر الغلامان، وكان عيسو إنسانا يعرف الصيد: إنسان البرية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام.
فأحب إسحاق عيسو؛ لأن في فمه صيدا.
وأما رفقة فكانت تحب يعقوب.
وطبخ يعقوب طبيخا، فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا، فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر؛ لأني قد أعييت. لذلك دعي اسمه أدوم.
فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك، فقال عيسو: ها أنا ماض إلى الموت ... فما جدوى البكورية؟ فقال يعقوب: احلف لي اليوم. فحلف له، فباع بكوريته ليعقوب، فأعطى يعقوب عيسو خبزا وطبيخ عدس، فأكل وشرب ومضى.»
وتكرر في الإصحاح السادس والعشرين وصف الحادث الذي جرى لإبراهيم مع أبيمالك، فجاء فيه أنه حدث «جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم، فذهب إسحاق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين» ... «وسأله أهل المكان عن امرأته فقال: هي أختي؛ لأنه خاف أن يقول امرأتي لعل أهل المكان يقتلونني من أجل رفقة؛ لأنها كانت حسنة المنظر. وحدث إذ طالت الأيام هناك أن أبيمالك، ملك الفلسطينيين، أشرف من الكوة ونظر، وإذا إسحاق يلاعب رفقة امرأته، فدعا أبيمالك إسحاق وقال: إنما هي امرأتك، فكيف قلت: هي أختي؟ فقال له إسحاق: لأني قلت لعلي أموت بسببها، فقال أبيمالك: ما هذا الذي صنعت بنا؟ لولا قليل لاضطجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبا. فأوصى أبيمالك جميع الشعب قائلا: الذي يمس هذا الرجل وامرأته موتا يموت.»
وفي الإصحاح التاسع والعشرين أن يعقوب تزوج راحيل بنت خاله لابان، وكانت عاقرا كما جاء في الإصحاح الثلاثين، «فقالت: هو ذا جاريتي بلهة، ادخل عليها فتلد على ركبتي وأرزق أنا أيضا منها بنين. فأعطته بلهة جاريتها زوجة، فدخل عليها يعقوب.» «... وذكر الله راحيل، وسمع لها الله وفتح رحمها فحبلت وولدت ابنا، فقالت: نزع الله عاري، ودعت اسمه يوسف.» •••
وفي الإصحاح الثاني والثلاثين يسمى يعقوب إسرائيل، وذاك أنه بعد أن عاد من رحلته إلى العراق «بقي وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه،
15
فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب! فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك ؟ فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فينئيل قائلا: لأني نظرت الله وجها لوجه.» •••
وتذكر الإصحاحات التالية خبر المجاعة التي عمت الأرض، وتروي هجرة يعقوب وأبنائه إلى مصر، حيث بيع يوسف وتولى عملا من أعمال الدولة في الجيل التالي لجيل إبراهيم كما يؤخذ من هذا السياق، وقد انقسمت ذريته على أدوميين وإسرائيليين.
وفي العهد القديم عدا هذه السيرة المفصلة إشارات كثيرة إلى إبراهيم عليه السلام، منها ما يذكره ليذكر عهد الرب له، ومنها ما يصفه ويصف بعض أخباره.
فمن الإشارات التي لها شأن في سيرته ما جاء في كتاب يشوع أول الرسل بعد موسى عليه السلام، ففي الإصحاح الرابع والعشرين من هذا الكتاب يقول صاحبه عن ديانة الآباء:
وقال يشوع لجميع الشعب: هكذا قال الرب إله إسرائيل: آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور، وعبدوا آلهة أخرى، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر وسرت به في كل أرض كنعان.
ووصف إبراهيم بخليل الله في كتاب الأيام الثاني - وهو على الأرجح من جمع النبي عزرا - حيث يقول في الإصحاح العشرين: «ألست أنت إلهنا الذي طردت سكان هذه الأرض أمام شعبك إسرائيل وأعطيتها لنسل إبراهيم خليلك إلى الأبد؟»
ووصف بهذه الصفة في الإصحاح الحادي والأربعين من كتاب أشعيا حيث يقول: «وأما أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي.» •••
وتلك هي جملة العبارات التي تدخل في سيرة الخليل من كتب العهد القديم، وأكثرها تفصيلا ما ورد في سفر التكوين من الكتب الخمسة التي يطلق عليها في الغالب اسم التوراة. وقبل الانتقال إلى ما ورد عن الخليل في المراجع الإسرائيلية الأخرى؛ كالتلمود والمدراش وما إليها، نشفع ما تقدم بكلمة لازمة عن تعليقات الشراح على سفر التكوين والكتب الخمسة؛ فإن هذه التعليقات لا غنى عنها للباحث المستقصي عند مراجعة الأسانيد المتعددة، ولها علاقة وثيقة بفهم السيرة كلها فيما تستمده من تلك الأسانيد.
الفصل الثالث
تعقيب على مراجع العهد القديم
اتفق شراح العهد القديم على تعدد النسخ التي جمعت منها كتبه الخمسة بصفة خاصة.
وأهم هذه النسخ هي نسخة ألوهيم، ونسخة يهوا، ونسخة الكهنة أو المسجلين، ولا داعي في هذا الصدد لإضافة النسخة المسماة بنسخة التثنية؛ لأنها تتناول الأسلوب اللغوي الذي لا يسهل التبسط في خصائصه عند الكتابة عنه بلغتنا العربية.
سميت نسخة «ألوهيم» بهذا الاسم لأن «ألوهيم» هي الكلمة التي تطلق فيها على الإله.
وسميت النسخة الأخرى باسم «يهوا» لأنه اسم الإله فيها.
وتسمى النسخة الثالثة باسم الكهنة أو المسجلين؛ لأنهم جمعوا كتب الشريعة وعنوا فيها عناية خاصة بالشعائر والمراسم وأخبار الهيكل والعبادة. ومن هذه النسخ ما كتب على أيام المملكة الإسرائيلية، ومنها ما كتب في المنفى بين النهرين، ومنها ما كتب قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون، وأقدمها عهدا بينها وبين عصر الخليل ما يبلغ ألف سنة.
وقد اجتهد الكهنة في تكملة الأجزاء التي بين أيديهم، فقابلوا بين الأخبار المتعددة، وتمموا بعضها ببعض، وبقيت آثار المراجع المتعددة في مواضع نشير إلى بعضها بما فيه الكفاية للمقابلة بين أخبار السيرة في جملتها.
ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين يفسر اسم بئر سبع بما دار من الحديث بين الخليل وأبيمالك:
سأل أبيمالك: ما هي هذه السبع النعاج التي أقمتها وحدها؟
قال الخليل: إنك تأخذ من يدي سبع نعاج لكي تكون شهادة لي بحفر البئر. لذلك دعي ذلك الموضع بئر سبع.
وفي الإصحاح السادس والعشرين من سفر التكوين يفسر اسم المكان بما يلي:
وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحاق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا، وقالوا له: قد وجدنا ماء. فدعاها شبعة؛ لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى اليوم.
وفي الإصحاح الأول عن خلق الحيوان والإنسان: «فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها، والبهائم كأجناسها، وجميع دبابات الأرض كأجناسها، ورأى الله ذلك أنه حسن، وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب عليها.»
وفي الإصحاح الثاني: «وجبل الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية، وغرس الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله، وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر، جيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة.»
ونص الإصحاح الثامن عشر من سفر اللاويين على: تحريم الزواج بالأخت من الأب، أو من الأم «المولودة في البيت، أو المولودة خارجا».
وفي الإصحاح الثالث عشر من سفر صمويل الثاني تقول تامار لأخيها أمنون: «والآن كلم الملك لأنه لا يمنعني منك.» •••
وقد أطال الشراح مقابلة المراجع، ولا سيما المراجع التي تذكر الأماكن والأعلام والأعمار، وما يعنينا في هذا السياق هو ملاحظتهم التي خرجوا بها من المقابلة والموازنة فيما يتعلق بسيرة الخليل.
فمنها أن اسم البلد الذي ولد فيه الخليل قد ورد في بعض النسخ، ولم يكن موجودا في نسخ أخرى، فأضيف إليها للمضاهاة بينها.
ومن النسخ ما ورد فيه عهد الميراث لإبراهيم، ومنها ما لم يرد فيه هذا العهد قبل مولد إسماعيل.
ويرى كثيرون من الشراح أن الأعلام قد تطلق على القبائل كما تطلق على رءوسها وآبائها، ومن هنا ينعت إبراهيم بالعبراني، وينعت ابن أخيه بالآرامي، أو يختلف الفرعان من أصل واحد، فتعمل إحدى القبائل في الصيد بالبادية، وتعمل أختها في الزرع والمدن حول الحاضرة.
وقد بين الشراح على العموم أن الأعمار تناقصت في الكتب الأخيرة، وأن الوحي بالرؤيا في هذه الكتب أعم من الوحي بالمشاهدة والمخاطبة.
وسنعود إلى استخلاص الفائدة من هذه المقابلات والتعليقات عند الكلام على تفصيلات السيرة، بعد استيفاء مراجعها من الكتب الدينية والمصادر التاريخية وغيرها.
المشنا
أهم المراجع الإسرائيلية بعد التوراة هو كتب المشنا القديمة. «فالمقرأ» هو ما يحفظ بالقراءة في الكتب، وهو نصوص التوراة المعتمدة.
و«المشنا» هو ما يحفظ بالذكر والاستظهار، ومنه التلمود على نشأته الأولى.
وأصل مادة الكلمة من شنا أي كرر، وهي تقابل في العربية مادة ثنى، بمعنى أعاد ثانية، واستعيرت للإعادة التي يراد بها حفظ الكلام المعاد. وترجع مأثورات «المشنا» إلى أيام النفي في بابل، حيث أقامت عشائر من اليهود منفية عن فلسطين.
وكان الغرض من «المشنا» تفسير التوراة والتعليق عليها، وتشتمل هذه التفسيرات على عظات المعابد، وتأويلات الفقهاء، وشروح المفسرين ممن بلغوا مرتبة الرئاسة في التعليم.
وقد حصرت المشنا في القرن الثاني للميلاد، ودونت بعد الاعتماد على الرواية أو التعليقات المتفرقة، ومعظمها محفوظ بالعبرية العامية التي يفهمها المستمعون إلى مواعظ البيع وأحاديث الفقهاء.
واشتملت عند جمعها على ستة أقسام، واشتملت هذه الأقسام على ثلاثة وستين فصلا، واشتملت الفصول على نبذ تبلغ خمسمائة وثلاثا وعشرين، أضيفت إليها نبذة بعد ذلك فبلغت خمسمائة وأربعا وعشرين. أما الأقسام الستة فهي: قسم الزرع، وهو خاص بالمزروعات والمحصولات ومعاملاتها، وقسم الموعد، وهو خاص بأوقات المواسم والأعياد، وقسم النساء، وهو خاص بالزواج والطلاق وما يتصل بهما من الأحوال الشخصية، وقسم العروض والتعويضات، وهو خاص بسائر المعاملات والمحاكمات، وقسم المقدسات، وهو خاص بشعائر العبادة، وقسم الطهارة، وهو خاص بالغسل والتطهير من النجاسات التي حرم معها القيام بالفرائض الدينية.
وزيدت على المشنا في العصور الحديثة كتب من قبيلها تسمى ب «التصافوت»، من مادة يصاف أي يضاف، ومعناها الإضافات. وأكثر هذه الإضافات من وضع الكهان الأوروبيين إلى القرن الثاني عشر للميلاد. ولم تشتمل المشنا على جميع المأثورات، بل بقيت خارجا منها أحكام تنقل بالرواية، وتعرف ب «البرايتا» أي البرانية.
وانتهى تمحيص المشنا القديمة إلى اختيار طائفة من الأحكام المتفق عليها تسمى الجمارة، أي التكملة.
ومن مرويات المشنا والجمارة تجتمع كتب التلمود، وهي قسمان: تلمود بابل، وتلمود فلسطين، ولكن التلمود لا يحتوي كل ما في المشنا والجمارة.
ويعرف بعض المأثورات الإسرائيلية باسم «المدراش» أو الدراسات، وتلك تتضمن أقوال الفقهاء وحواشيهم على النصوص والمحفوظات، وأشهرها مدراش رباه التي تدور كل دراسة منها على كتاب من كتب التوراة الخمسة، وقد تمت عند القرن السادس للميلاد، وترجع في أسانيدها كما جاء فيها إلى أيام إبراهيم، ولكنها عند اليهود على درجات؛ فمنها ما يعول عليه، ومنها ما هو من قبيل القصص التعليمية، والأمثال الوعظية، تساق للاعتبار ولا يقصد بها التاريخ أو الاعتقاد.
ويظن بعض شراح الألمان، مثل جرنبوم
Grunbaum ، آيا من المدراش نبذا منقولة عن اللغة العربية، ولكن المقابلة بين رواياتها والروايات الإسرائيلية الأخرى تدل على مشابهة قريبة، وأنها على كل حال من مصادر غير إسلامية.
بل يظن جرنبوم أن بعض العبارات ترجمة حرفية من القرآن الكريم، كما جاء في كتاب من المدراش أن الله قال: ليوهب البرد والعزاء لخادمي إبراهيم. والكلمة فيها معنى العزاء والراحة والسلام.
وسنشير إلى هذه الملاحظات في مواضعها، ونكتفي فيما يلي بالمراجع الضرورية - على سبيل التمثيل - لكل أسلوب من أساليب الرواية والتدوين في المصادر الإسرائيلية، ونبدأ بما له علاقة بسيرة الخليل من عهد الطوفان. •••
يطلق اسم خليل الله وحبيب الله في الكتب الإسرائيلية على أنبياء غير إبراهيم، أشهرهم موسى ويعقوب وسليمان، ويغلب على الكتب المتأخرة وصفه بالحبيب، ويعتقدون أنه هو المقصود بقول أرميا في الإصحاح الحادي عشر: «حبيبي في بيتي.»
وفي كثير من كتب المدراش والتعليم يقال: إن الدنيا خلقت من أجله، وإن أبناء نوح ضلوا عن سواء السبيل وعبدوا الأصنام، وكان جد إبراهيم يدعى «رو»، فسمى ابنه «سيروج»، أي ذهبوا بعيدا. وصدق في هذه التسمية؛ لأن سيروج حين كبر وولد له ابن سماه ناحور، وعلمه السحر والتنجيم وعبادة الأصنام. وكان الشيطان «مسطما» يرسل أعوانه لكيد البشر، ويطلقهم على البذور وهي على وجه الأرض كأنهم الغربان لتلتقطها وتفسدها؛ ولهذا سمى ناحور ابنه تيرح أو تارح. ويقول شراح كتاب «اليوبيل» - أحد هذه الكتب التعليمية: إن الاسم بهذا المعنى غامض، ولكنه قد يرجع إلى كلمة آرامية بمعنى المحو والشحوب.
وتزوج تارح من إيمتالي بنت كرناب، فرزقا إبراهيم، وكان مولده مرصودا في الكواكب فاطلع عليه النمروذ، واستشار الملأ من قومه فأشاروا عليه بقتل كل طفل ذكر، واستحياء البنات، وإغداق العطايا والجوائز على أهليهن ليفرحوا بمولد البنات.
وأحس تارح أن امرأته حامل، فلما أراد أن يتحقق من ذلك صعد الجنين إلى صدر أمه، فخوي بطنها ولم يظهر فيه الحمل، وهربت أمه حين جاءها المخاض فأوت إلى كهف ولدته فيه، وتركته ثمة وهي تدعو له، فبقي ثلاث عشرة سنة لا يرى الشمس على رواية بعض الكتب، ومكث في الكهف أقل من ذلك على روايات أخرى، وأرسل الله جبريل يرعاه، فجعل الطفل يمتص أصابعه فيرضع منها ويكبر قبل الأوان.
وخرج من الكهف ليلا وهو في الثالثة فرأى النجوم فقال: هذه هي الأرباب. فلما أشرقت الشمس قال: كلا، بل هذه هي الرب. فلما أفلت وظهر القمر قال: بل هو هذا. فلما أفل قال: ما هذه بأرباب، إنما الرب المعبود هو الذي يديرها ويسيرها، ويبديها ويخفيها.
وفي بعض الكتب أن أمه خرجت تتفقده بعد عشرين يوما حيث تركته، فوجدت في طريقها صبيا ناميا فسألها: ماذا جاء بك إلى الصحراء؟
فأنبأته بقصتها، وعرفها بنفسه، فدهشت وعجبت لطفل يكبر ويتكلم ولما يمض على مولده شهر واحد.
قال لها: إنها قدرة الله الذي يرى ولا يرى.
ويظن جامعو الأساطير اليهودية أن وصف الله بهذه الصفة منقول من أصل عربي اطلع عليه يهود الأندلس، ثم اختلفت تفصيلاته عند نقلها إلى العبرية.
قالت أمه وقد ازداد عجبها: أإله غير النمروذ؟
قال: نعم يا أماه، رب السموات والأرض، ورب النمروذ بن كنعان؛ فاذهبي وبلغي النمروذ ما سمعت.
وأنبأت زوجها تارح - وكان أميرا من أمراء الملك - فذهب إليه يطلب لقاءه، فأذن له باللقاء، فسجد بين يديه، ولم يكن من عادتهم إذا سجد أحدهم بين يدي الملك أن يرفع رأسه بغير أمره، فلما أمره الملك أن ينهض ويتكلم روى له القصة، ففزع وفزع أعوانه ووزراؤه، ثم ملكوا جأشهم وقالوا له: علام هذا الفزع من صبي لا حول له ولا قوة ومن أمثاله في المملكة ألوف وألوف؟!
قال لهم النمروذ: وهل رأيتم صبيا في العشرين يتكلم وينطق بمثل هذا البيان؟
وخشي الشيطان أن يسبق الإيمان إلى قلب الملك، فبرز لهم وأزال ما بهم من الروع، وحرض الملك على قتل الصبي، فحشد له جندا من القادة والفرسان، وخرجوا إلى الكهف الذي قيل لهم إن الصبي مختبئ فيه، فإذا بينه وبينهم سحب لا ينفذ النظر إلى ما وراءها، وإذا بهم مجفلون لا يقدرون على الثبات.
فلما عادوا إلى النمروذ وشرحوا له ما عاينوه قال لهم: لا مقام لنا بهذه الديار! وخرج من بلده إلى أرض بابل، فلحق به إبراهيم على جناح جبريل، ولقي هناك أبويه، ثم بدأ بالدعوة إلى الله؛ الإله الأحد الذي لا إله غيره، رب السماوات ورب الأرباب، ورب النمروذ، وأنذرهم أن يتركوا عبادة الصنم الذي صنعوه على مثال النمروذ؛ فإن له فما ولكنه لا ينطق، وعينا ولكنه لا يبصر، وأذنا ولكنه لا يسمع، وقدما ولكنه لا يسعى ولا ينفع نفسه ولا يغني عن غيره شيئا.
وأسرع أبوه إلى الملك يبلغه أن ابنه إبراهيم طوى مسيرة أربعين يوما في أقل من يوم، ثم لحق به إبراهيم إلى قصر الملك فهز عرشه بيديه وصاح به: «أيها الشقي، إنك تنكر الحق، وتنكر الله الحي الصمد، وتنكر عبده إبراهيم خادم بيته الأمين.»
ويخاف النمروذ فيأمر تارح أن يعود بابنه إلى موطنه، ثم تتكاثر الروايات في عشرات من المصادر من كتب المدراش والتفسيرات حول ما حدث بعد ذلك بين إبراهيم وقومه، وبينه وبين الملأ والملك وكهنة الأرباب، مما تغني هذه الأمثلة عن تفصيله واستقصائه، وبعضه كما تقدم معول عليه عند اليهود، وبعضه من قبيل ضرب الأمثال بالنوادر والأعاجيب.
وليس من المطلوب أن نتتبع هذه القصص والنوادر؛ لأنها تستوعب ألوف الصفحات، ولكننا نأخذ منها ما ينتظم في أغراض هذا الكتاب، ومنها ما يدل على تفكير واضعيه، أو يفيد عند المقابلة بين المصادر المتعارضة، أو يلاحظ فيه الوضع لطرافته الأدبية والفنية، أو يتمم صورة أخرى ناقصة في خبر من الأخبار.
فمما ورد في «مدراش رباه» أن أباه حنق عليه حين كسر الأصنام فخاصمه إلى النمروذ، فسأله النمروذ: إن كنت لا تعبد الصور والمشبهات؛ فلماذا لا تعبد النار؟
قال إبراهيم: أولى من عبادة النار أن أعبد الماء الذي يطفئها.
قال النمروذ: فاعبد الماء إذن؟
قال إبراهيم: بل أولى من عبادة الماء أن أعبد السحاب الذي يحمله.
قال النمروذ: إذن تعبد السحاب.
قال إبراهيم: وأولى من السحاب بالعبادة ريح تبدده وتسير به من فضاء إلى فضاء.
قال النمروذ: فما لك لا تعبد الريح؟!
قال إبراهيم: إن الإنسان يحتويها بأنفاسه؛ فهو إذن أحق منها بالعبادة!
ومغزى الحوار أن عقل الإنسان قادر بالنظر في خلق الله أن يصل إلى معرفة الخالق، وينكر عبادة الأوثان.
فلما أعيا النمروذ أن يخضعه سجنه ومنع عنه الطعام والماء، ومضى عليه عام في غيابته،
1
فأيقن الحارس أنه قد مات، ولكنه ناداه: يا إبراهيم، أأنت بقيد الحياة؟ فسمع جوابه: نعم، أنا بقيد الحياة.
فأمر الملك بضرب عنقه، فلم يعمل فيه السيف ... فأوقد له نارا ودفع به إلى أحد أعوانه ليقذف به فيها، فلما قاربها خرج من الأتون لسان من النار والتهم الجلاد ولم يقترب من إبراهيم.
فتشاور الملأ عند الملك في أمره، فاتفقوا على إحراقه وإلقائه في النار من منجنيق بعيد؛ مخافة من ألسنة النار، وضرع الملائكة إلى الله أن ينجيه، فأذن لهم أن يعملوا لنجاته ما يستطيعون، ولكنه أبى أن يعتمد في نجاته على أحد غير الله، وإذا بالجمر من حوله كأنه فراش من الورد والريحان.
ولم يصدق النمروذ أنها معجزة من الله، بل قال لإبراهيم: إنها من سحرك وحيلتك ... أما الأمراء والوزراء فخذلوا الملك وآمنوا برب إبراهيم.
ولم تذكر التوراة أن إبراهيم ألقي في النار، وإنما ورد في سفر دانيال من أخبار بابل أن نبوخذنصر غضب على ثلاثة من الفتية الصالحين؛ لأنهم لم يسجدوا لصنم من الذهب ... «حينئذ امتلأ نبوخذنصر غيظا، وتغير منظر وجهه على شدرخ وميشخ وعبدنغو ... وأمر بأن يحمى الأتون سبعة أضعاف ... وأمر جبابرة القوة في جيشه بأن يوثقوا شدرخ وميشخ وعبدنغو، ويلقوهم في أتون النار المتقدة، ثم أوثق هؤلاء الرجال في سراويلهم وأقمصتهم وأرديتهم ولباسهم وألقوا في وسط أتون النار المتقدة، والأتون قد حمي جدا، فقتل لهيب النار الرجال الذين رفعوا شدرخ وميشخ وعبدنغو ... وهؤلاء الثلاثة سقطوا موثقين في وسط الأتون ...
حينئذ تحير «نبوخذنصر» الملك، وقام مسرعا وسأل مشيريه : ألم نلق ثلاثة رجال موثقين في النار؟ فأجابوا وقالوا: نعم أيها الملك، قال: ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون في وسط النار وما بهم ضرر، ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة! ثم اقترب نبوخذنصر إلى باب أتون النار المتقدة ونادى فقال: يا شدرخ وميشخ وعبدنغو، يا عبيد الله العلي، اخرجوا وتعالوا! فخرجوا. واجتمعت المرازبة
2
والشحن والولاة ومشيرو الملك ورأوا هؤلاء الرجال الذين لم تكن للنار قوة على أجسامهم، ولم تحترق شعرة من رءوسهم، ولم تتغير سراويلهم، ورائحة النار لم تأت عليهم، فأجاب نبوخذنصر وقال: تبارك إله شدرخ وميشخ وعبدنغو الذي أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلوا عليه.»
والشبه بين هذه القصة وقصة إبراهيم ظاهر، وسماع دانيال بها في بابل له دلالته في هذا الصدد، ولكن بعض الشراح يزعم أن القصة لم تكن معروفة قبل يوناثان بن عزييل، الذي كان يجهل البابلية فالتبس عليه معنى «أور»؛ لأنها بالكلدانية تعني النار، وبالعبرية تعني النور، وظن أن نجاة إبراهيم من «أور الكلدانيين» يعني نجاته من نار الكلدانيين.
ولكن هؤلاء الشراح ينسون أن القصة قديمة وردت في باب الفصحيات من القسم الثاني من المشنا، وهو قسم المواعيد المواقيت،
3
وأنها أطول أصولا وفروعا من أن تبنى على خطأ في ترجمة كلمة، ولا سيما الكلمة التي يعرفها كل يهودي يذكر «أورشليم»، ويفهم معنى أور، ومعنى شليم، وهما معروفان لأجهل القوم بالعبرية، ومن معانيها الشعبية الشائعة: دار السلام، على صواب أو على خطأ.
وزعم شابيرا
Shapira
أن القصة من وضع كعب الأحبار، ولا تعويل على أقوال شابيرا هذا؛ لأنه زور بعض الوثائق على المتحف البريطاني، وانكشف تزويره فبخع نفسه في روتردام (1884).
ومن المعلوم أن ترجوم يوناثان - أي ترجمته - كان المعتمد الأكبر فيها على شروح الربانيين، ولم تكن نقلا مباشرا من نصوص التوراة.
ولا بد أن يلاحظ هنا أن الكنيسة السريانية التي يعيش أتباعها في بلاد الكلدان القديمة بين سورية والعراق، والتي اشتهر آباؤها بدراسة السريانية - وهي الآرامية بعينها - لا تعتبر أن القصة ناشئة من غلطة في الترجمة، وتقيم لنجاة الخليل من النار حفلا سنويا في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني.
على أنه من الراجح جدا أن اليهود رجعوا إلى المصادر العربية في رواية قصص المدراش وما إليها؛ لأنهم كادوا أن ينحصروا في بلاد الدولة العربية من صدر الإسلام إلى القرن الثالث للهجرة، وكادت بحوثهم الفقهية في ديانتهم أن تكون اقتباسا من بحوث علماء الكلام المسلمين، وكادت اللغة العربية أن تكون معتمدهم الوحيد في الثقافة العليا والثقافة العامة، حتى كانوا يكتبون العربية أحيانا بحروف عبرية، ولكن الاحتراس واجب على أية حال من تلك العلل التي يستند إليها بعض المستشرقين في نسبة الأخبار إلى المصادر العربية الإسلامية.
ومن أمثلة هذه العلل أن بعضهم يرد إلى المصادر الإسلامية قصص المدراش التي تقول: إن جبريل هدى إبراهيم إلى عين ماء يغتسل فيها قبل العبادة؛ فإن التطهر بالاغتسال قبل العبادة شعيرة قديمة في الأديان، وليست مقصورة على الوضوء في الإسلام، وقد قيل: إن الصابئة محرفة من السابحة؛ لأنها تفرض الاغتسال في شعائرها قبل كثير من العبادات، ولا بد من التفرقة بين المصادر العربية والمصادر الإسلامية في كثير من الروايات، فقد يكون المصدر عربيا إسرائيليا لا علاقة له بتاريخ الإسلام. •••
ومن أشهر الروايات في النمروذ والخليل تلك القصة التي يعللون بها اختلاف الألسن بين الأمم، وخلاصتها أن النمروذ هذا أراد أن يتحدى إله إبراهيم، فبنى له برجا عاليا، وصعد عليه ليناجز
4
الله في سمائه، ثم طفق يرمي السماء بالسهام حتى عاد إليه سهم منها وقد اصطبغ بالنجيع
5
الأحمر، فخيل إليه أنه أصاب مرماه، ولكنه لم يلبث أن سقط على الأرض وسقط معه قومه، ونهضوا من سقطتهم وهم يتصايحون بكلام لا يفهمونه؛ لأن السماء أرسلت عليهم سهاما من الصواعق زلزلت البرج وقوضت أركانه، وتركتهم في بلبال حائرين لا يدرون ما يفعلون وما يقولون، ولا يفقه السامع منهم ما يقال له أو يفعله في حيرته. قال الرواة: ولهذا سميت المدينة في موضع البرج «بابل» من تبلبل الألسنة والأفكار. •••
ويندر الاتفاق على أصل قصة واحدة من القصص التي تفيض بها كتب المدراش وحواشيها، بل تروى الأسماء والأعلام أحيانا على روايات متعددة، ومن ذلك أنهم يذكرون سارة باسم إسكاح
Iscah
ويقولون: «إنها مأخوذة من النظر.» ويوحدون بين اسم إبراهيم واسم إيثان الإزراحي في المزمور التاسع والثمانين، ويقولون: إن داود كتبه بمشاركة الخليل.
وللتوحيد بين الاسمين هنا دلالة خاصة؛ فإن إيثان الإزراحي منسوب إلى زارح، وينطق في أوله على العادة في النطق بالساكن، وقد تكون الحاء والياء للنسبة كما يقولون في «مزراحي» بمعنى مصري، ويكون إيثان منسوبا إلى آزر، وهو الاسم الذي ذكر في القرآن كما سيأتي بيانه في المصادر الإسلامية.
ومن الواجب أن يلتفت هنا إلى المقاربة بين زارح وزارع وتارح، وقد تقدم أن لاسم تارح علاقة بحبوب الزرع التي تلتقط قبل تمكنها من التربة.
فلا محل إذن لنقد الاسم كما جاء في القرآن الكريم اعتمادا على ذلك الاختلاف اليسير في اللفظ القديم، وقد ذكر يوسبيوس
Eusobius ، المؤرخ المسيحي اليوناني، أن أبا إبراهيم الخليل يدعى آثر، وزعم بعضهم - ومنهم سنكلر تسديل، صاحب كتاب مصادر الإسلام، وهو من أشد المتعصبين قدحا في الإسلام - أن للاسم أصلا في الفارسية القديمة بمعنى النار. •••
ومن الاختلاف في الأخبار المدراشية التي اتصلت بالتاريخ: أن بعضها أنكر أن يقال عن الخليل: إنه عالم بالنجوم، ردا على الربيين الأقدمين الذين زعموا أنه كان يحمل في قلبه زيجا فلكيا يكشف به الغيب لمن يسألونه من ملوك الشرق والغرب، فقال صاحب «مدراش رباه»: إنه نبي وليس بمنجم. واتصلت هذه الروايات المدراشية بالتاريخ فقال يوسيفوس، المؤرخ الإسرائيلي المشهور: إن الخليل درس علم النجوم، ولكن في مصر لا في بابل. واستند في ذلك على رواية أرتبانوس
Artapanus ، الذي زعم أنه أقام بمصر عشرين سنة، واطلع على أسرار الكهانة وعلم الفلك وطوالع النجوم. وفي قصة أخرى لم يذكرها يوسيفوس يقال: إن إبراهيم هو الذي علم المصريين الفلك والتنجيم.
ولكن كتب المدراش تتفق على وصف الخليل بالسماحة والكرم والعطف على خلق الله من الإنسان والحيوان، ومن أحاديثها في ذلك أن إبراهيم سأل ملكي صادق: كيف خرجت سالما من سفينة نوح؟ فقال له: بالخير الذي فعلناه.
قال إبراهيم: وما الخير الذي تفعله في سفينته؟ هل كان في السفينة من فقير تسدي إليه المعروف؟ إن نوحا قد حمل معه بنيه؛ فهل كان فيهم فقير؟ قال ملكي صادق: بل كان معنا الحيوان والطير، وكنا لا ننام حتى نطعمها ونسقيها.
وقد عاش إبراهيم حياته يطعم الفقير، ويحسن إلى الإنسان والحيوان، ويفتح بابه للضيفان، ولا يجلس إلى الطعام إلا إذا نادى على الرائح والغادي في الطريق ليجلس معه إلى طعامه.
وما من علامة أدل على صدق النسب إلى إبراهيم من نظرة سليمة «لا تحسد»، ونفس مطمئنة، وقلب وديع.
وتذكر «مدراش رباه» فيما تذكر أن إبراهيم شفيع أمته يوم القيامة، وأنه يقف على باب جهنم فلا يدع إسرائيليا مختونا يدخلها. ومن عظمت سيئاته منهم وحرم التوبة في آخرته فلن يدخل النار مختونا، بل توضع له جلدة من جلود الأطفال الذين ماتوا قبل الختان، وصحت لهم نعمة الغفران. •••
أما «سارة» فقد خصتها «المشنا» بقسط كبير من الأخبار والنوادر، ولم يخل منها خبر أو نادرة من خلاف كثير.
فهي تارة أخت غير شقيقة لإبراهيم، وهي تارة بنت أخيه الذي مات قبل الهجرة إلى كنعان.
وهي المرأة الوحيدة التي خاطبها الله، وهي نبية تنظر إلى الغيب وتدعو الله أن ينقذ ذرية إبراهيم مما سيلقون من المحن والشدائد، ولكنها في مواطن كثيرة تعاقب لمخالفة السنن وضعف اليقين.
ولم تخلق امرأة قط بجمال سارة، فأجمل النساء بالقياس إليها كالقرد الممسوخ، وقد بلغ من فتنة جمالها أن إبراهيم لم يملأ منها عينيه، وإنما لمح خيالها في الماء وهم يعبرون بعض الجداول إلى مصر، فخاف على فرعون وقومه فتنتها، وحملها في تابوت وهم يعبرون تخوم الديار، وسأله عمال المكوس عما في التابوت فأنبأهم أنه شعير، قالوا: بل نأخذ المكوس على قمح، قال: خذوا ما تشاءون، فعادوا يطلبون الضريبة على بهار، فأجابهم إلى ما طلبوه.
فارتابوا فيما يخفيه، وأمروه أن يؤدي الضريبة على وسق التابوت ذهبا، فقبل وأعطاهم سؤلهم، فحيرهم قبوله كل ما يسومونه أن يبذله، وخامرهم شك عظيم، ففتحوا التابوت عنوة؛ فإذا بالنور يفيض من وجه سارة حتى يعم الديار، ويعشي عين فرعون. ولما حاول فرعون أن يقترب منها رصد له حارسها من الملائكة فجعل يضربه على يده كلما بسطها، وعلى قدمه كلما سعى إليها، وأصبح فإذا هو مصاب بالجذام وبالعنة، وإذا بنذير من الله ليرسلن الوباء على فرعون وقومه إن لم يرجع سارة إلى إبراهيم.
ويفسر بعض المدراش عقمها بأن الله أحب أن يسمع صلواتها، ويفسر عقمها في مدراش آخر بأنها قد نزهت عن خلقة الرحم، ويروى في كثير من الحواشي أنها أرضعت مائة طفل يوم ختان إسحاق.
وبعض الحواشي يتكلم عن فرعون إبراهيم وفرعون يوسف كأنهما ملك واحد.
فلما شكا فوطيفار إلى فرعون لأنه أقام عبده الذي اشتراه بعشرين دينارا حاكما على مصر - يعني يوسف الصديق - قال يوسف: بل أنت اقترفت خطيئة عظمى يوم اشتريت أميرا من نسل سام بالثمن كما يشترى العبيد، وإنما يشترى بالثمن أبناء كنعان، وإن أردت برهانا على نسبي فدونك التمثال الذي صنعه فرعون لجدتي سارة، فهو ينبئك بالشبه الذي بيني وبينها. ثم جاءوا بالتمثال فإذا بالشبه بينه وبين يوسف جد قريب.
والكلام على أبي سارة يدور تارة على حاران وتارة على تارح، فمن أقوال الحواشي عن حاران أنه احترق بالنار حين اقترب منها؛ لأنه قاربها ممتحنا لقدرة الله، ومن أقوالها عن تارح أنه عاش حتى رأى إسحاق في الخامسة والثلاثين من عمره.
وأشهر الروايات عن تارح أنه كان مثالا يصنع الأصنام، وأن إبراهيم اهتدى إلى ضلال هذه العبادة لأنه رأى أباه يصنعها ويصلحها، وكان يبيعها لأبيه، فعجب للذين يشترونها كيف يعبدون صنما مصنوعا بالأمس ومنهم من جاوز الخمسين؟!
وكان لناحور - أخي إبراهيم - صنم يسمى زيوكس
Zucheus ، وإلى جانبه صنم يسمى جوآف، وأولهما مصنوع من الذهب، والثاني مصنوع من الفضة، وأما الأصنام الأخرى فمن الخشب أو الطين.
وحاور إبراهيم أباه وقد رأى الأصنام تحترق ذات يوم فقال له: يا أبت، إن النار أحق بعبادتك من أصنامك؛ لأنها تحرقها، ثم قال: «بيد أني لا أحسب النار إلها؛ لأن الماء يخمدها، ولا أحسب الماء إلها؛ لأن الأرض تبتلعه، ولا أحسب الأرض إلها؛ لأن الشمس تجففها وتنشر على الكون كله أشعتها، ولا أحسب الشمس إلها؛ لأن الظلام يحجبها، ولا أحسب القمر والنجوم التي تظهر في الظلام آلهة؛ لأنها تحتجب عند طلوع النهار، وإنما الإله القدير على كل شيء هو خالق الشمس والقمر والكواكب والأرض وما عليها، وخالقي وهادي إلى الحق المبين.
ولم يستمع إليه أبوه، فذهب إلى أمه وسألها أن تعد طعاما للأصنام، ثم أهوى على الأصنام يحطمها ووضع القدوم في يد كبيرها، وأسرع أبوه على صوت الحطام فسأله: ماذا دهاها؟ قال: هذا أنحى عليها فكسرها ولا يزال القدوم في يديه، فصاح به أبوه: إنك لتكذب؛ فما في وسع هذا الصنم أن يفعل ما زعمت، قال إبراهيم: عجبا لك يا أبتاه! تعبد هذه العجزة التي لا تقدر على ضرر ولا نفع. ثم وثب على الصنم الكبير فأخذ القدوم من يده، وضربه فألقاه، وهرب من وجه أبيه.»
ونختم الاقتباس من المرويات الإسرائيلية برواية الكتاب الذي يسمونه سفر التكوين الصغير، وينسبون إليه الدقة في إيراد التواريخ بأرقام السنين، والاعتدال في أسلوب الكلام على المبالغات والتشبيهات الوثنية، ونعني به كتاب اليوبيل.
فهذا الكتاب يقول: إن نوحا عليه السلام توفي بأرض الكلدانيين سنة 1650 قبل الميلاد، وأن تيرح أو تارح أبا إبراهيم ولد سنة 1806، وولدت زوجته «أدنا» ابنه إبراهيم سنة 1876، وسماه «إبرام» على اسم أبي جدته لأمه - واسمها ملكة - وهذا بحساب السنين من تاريخ الخليقة. •••
وهذه الأخبار والنوادر تزدحم بها مئات الحواشي والتفاسير، ومعظمها مسطور في المجلدات السبعة التي جمعت أساطير اليهود وسبقت الإشارة إليها، وكل ما عداها فهو من قبيلها.
وحقيقتها التي نخرج بها منها جميعا أنها مرويات متواترة بالسماع، يتناقلها الخلف عن السلف جيلا بعد جيل، ولا يظهر فيها الاعتماد على النصوص المكتوبة، ولا سيما نصوص التوراة؛ لأنها تخالف هذه النصوص وتناقضها أحيانا، وبينها ولا شك روايات متأخرة في تصورها وروايتها، ولكنها تبنى على قديم ثابت ولا تخلق شيئا من لا شيء، فلا بد وراءها من أصل منقول غير الأصل المكتوب، وليست نصوص العهد القديم هي الأصل الوحيد الذي تدور عليه هذه الحواشي والتعليقات.
الفصل الرابع
المراجع المسيحية
المصادر المسيحية المتفق عليها بين الكنائس هي الأناجيل الأربعة وما يلحق بها من أقوال الرسل والحواريين، وهي المعروفة بالعهد الجديد.
وهذه الكتب لم تزد شيئا على سيرة الخليل كما جاءت في سفر التكوين وبعض كتب العهد القديم، ولكنها جاءت بتطور هام في دعوته كما تلقاها اليهود في عصر الميلاد. ويبدو هذا التطور الهام في مسائل ثلاث من كبريات المسائل الدينية؛ وهي: مسألة الحياة بعد الموت، ومسألة الوعد الإلهي للشعب المختار وعلاقته بالقومية أو الإنسانية، ومسألة الشعائر وعلاقتها بالروحانيات والجسديات.
ففي عصر الميلاد كانت طائفة كبيرة من اليهود، وهي طائفة الصدوقيين، تنكر القيامة بعد الموت، ولا ترى في الكتب الخمسة دليلا واضحا عليها، وكانت الطوائف الأخرى تؤمن بالثواب والعقاب على الجملة، ولكنها لا تتوسع في وصفهما، ولا ترجع في هذا الوصف إلى سند متفق عليه.
وكانوا إذا وصفوا سوء المصير عبروا عنه بالذهاب إلى الهاوية «شيول»، وإذا وصفوا الرضوان قالوا عن الميت: إنه انضم إلى قومه أو اجتمع بقومه، وفي أذهانهم صورة غامضة عن وجود هؤلاء القوم في عالم غير عالم الحياة الدنيا.
وانتشرت بين أهل فلسطين من اليهود وغيرهم عقائد المصريين في اليوم الآخر؛ لأنهم كانوا يترددون على الإسكندرية، كما كان أهل الإسكندرية يترددون عليهم، ولم تكن في العالم معاهد للثقافة والبحث أكبر من معاهدها، غير مستثنى من ذلك رومة ولا أثينا ولا المدن الشرقية التي كان لها قبل ذلك شأن مذكور في العلم والفن والحكمة، وانتشرت بينهم كذلك عقائد الفلاسفة اليونانيين في خلود الروح، والتمييز بينها وبين الأجساد التي يعرض لها الفناء.
فلما ظهرت الدعوة المسيحية جاءت بوصف للعالم الآخر لم يكن معهودا في كتب اليهود، ولكنه وصف لا سبيل لهم إلى الاعتراض عليه؛ لأنه قائم على قاعدة من دعوة إبراهيم؛ ففي مسألة الحياة بعد الموت ضرب لهم السيد المسيح مثل إبراهيم ولعازر والرجل الغني في العالم الآخر فقال: «كان إنسان غني يلبس الأرجوان والبز، وينعم كل يوم في رفاهة، وكان عند بابه رجل مسكين مطروح مضروب بالقروح، يشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدته، بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه، فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الغني ودفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو يتعذب، ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: يا إبراهيم، ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف أصبعه بماء ويبرد لساني؛ لأني معذب في هذا اللهب.
فقال إبراهيم: يا ابني، اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك واستوفى لعازر بلاياه، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب، وفوق هذا بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت، حتى إن الذين يريدون العبور من ها هنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا، فقال: أسألك إذن يا أبت أن ترسله إلى بيت أبي؛ لأن لي خمسة إخوة يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضا إلى موضع العذاب هذا.
قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم، فقال: لا يا أبي إبراهيم، بل إذا مضى إليهم أحد من الأموات يتوبون، فقال له: إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء؛ فمن قام لهم من الأموات فما هم بمصدقيه.»
1
والشراح يقولون: إن هذه العظة يجوز أن تكون خبرا، ويجوز أن تكون مثلا ضربه لهم السيد المسيح من قصة معروفة لديهم، ويقول لوثر كلارك
Lowther Clarke
شارح التوراة والإنجيل: إن اسم لعازر «اليعازر» معناه «إيل آزر» أو الله أعان، وإنه من الأسماء التي قد تطلق على المجهولين عند ضرب الأمثال «كما نقول في اللغة العربية: زيد وعمرو وبكر وخالد». وقد سبق مثله في كلام إبراهيم عن خدام داره ... قال: وإن في مأثورات مصر قصة شبيهة عن مصير المحسن والمسيء يجوز أن تكون معروفة بين يهود فلسطين، ولم يذكر اسم علم قط في مثل من أمثلة السيد المسيح غير هذا المثل.
وأيا كان المعتمد من أقوال الشراح فلا خلاف بينهم على أمر واحد، وهو وصف الحياة الأخرى وما فيها من الثواب والعقاب بهذه الصفة، فإنه معنى جديد لم يسبق له مثيل في كتب العهد القديم، وإذا استثنينا كتاب المكابيين - وهو من الكتب المختلف عليها - فلم تأت عبارة حضن إبراهيم أو غيره من الأنبياء بهذا المعنى في كتاب من كتب التوراة، قال «جورج ستمبسون»
Stimpson
في مصنفه الذي سماه «كتاب عن الكتاب»:
كان رجاء الحياة بعد الموت مقصورا في أيام العهد القديم على البعث الذي سيعقب ظهور المسيح، ولكن الكلام عن السماء والجحيم وحضن إبراهيم كان شائعا على عهد عيسى «عليه السلام» بين طوائف من اليهود، ومن ثم مثل الغني ولعازر في إنجيل لوقا، وفيه يقول عيسى: فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومن هذه العبارة أصبح إبراهيم مرادفا لمعنى النعيم أو السماء.
وقد ورد في سفر أيوب أن نفسه سترى الله بغير الجسد، حيث يقول في الإصحاح التاسع عشر: «وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي، أرى الله» ... وورد في المزمور السادس عشر: «إنك لن تترك نفسي في الهاوية» ... وورد في الإصحاح الثاني عشر من سفر دانيال: «وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون؛ هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار ...»
ولكن ورد في سفر التكوين أن الهاوية مصير جميع الموتى، وجاء على لسان يعقوب، في الإصحاح السابع والثلاثين، وهو يبكي على يوسف: «وقال: إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية.»
وهكذا جاء على لسانه في الإصحاح الثاني والأربعين: «تنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية.»
وجاء على لسان أيوب في الإصحاح الرابع عشر: «ليتك تواريني في الهاوية وتخفيني إلى أن ينصرف غضبك، وتعين لي أجلا فتذكرني.»
وإنما يأتي البعث من القبور بعد ظهور المسيح كما جاء في الإصحاح السابع من سفر دانيال: «والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تعطي لشعب قديسي العلي.»
وكل ما ورد في العهد القديم باسم جهنم، فهو في الأصل العبري باسم شيول أو الهاوية.
أما عقيدة الحياة بعد الموت للأبرار والأشرار، فقد وضحت في عصر المسيح على نحو لم يكن معروفا قبله، ولم يكن المفهوم في ذلك العصر أن الأبرار يذهبون فعلا إلى صدر إبراهيم، وإنما كان المقصود أن إبراهيم يرحب بذريته في عالم الرضوان. •••
ومن العقائد التي ظهرت مع المسيحية أن رسالة إبراهيم روحية وليست جسدية، وأن المقصود بذريته من يسيرون على نهجه، ويعملون بوصيته؛ فهي رسالة إنسانية وليست عصبية مقصورة على قوم من الأقوام؛ ففي الإصحاح الثامن من إنجيل متى يقول السيد المسيح:
الحق أقول لكم: لم أجد في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا، وأقول لكم: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية.
ومثل هذا في كلام يحيى المغتسل - أو يوحنا المعمدان: «... اصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم: لنا إبراهيم أبا؛ لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم.»
وتكرر هذا المعنى من كلام السيد المسيح في إنجيل لوقا؛ حيث جاء في الإصحاح الثالث عشر:
إني أقول لكم: إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون من بعد أن يكون رب البيت قد قام وأغلق الباب، وابتدأتم تقفون خارجا وتقرعون الباب قائلين: يا رب، يا رب، افتح لنا ... يجيب ويقول لكم: لا أعرفكم ... من أين أنتم؟ ... تباعدوا عنا يا جميع فاعلي الظلم. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، متى رأيتم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطرحون خارجا، ويأتون من المشارق ومن المغارب، ومن الشمال والجنوب، ويتكئون في ملكوت الله، وهو ذا آخرون يكونون أولين، وأولون يكونون آخرين.
وفي الإصحاح الثاني من إنجيل يوحنا أن المسيح قال لليهود الذين آمنوا به: «إنكم إن ثبتم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم.» فأجابوه: إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط، فكيف تقول: إنكم تصيرون أحرارا؟ قال: الحق الحق أقول لكم: إن من يعمل الخطيئة فهو عبد للخطيئة، والعبد لا يبقى في البيت أبدا، أما الابن فيبقى إلى الأبد.
ثم قال: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم!
وقال بولس غير مرة: إن الختان لا يجعل الإنسان ابنا لإبراهيم، وإنما أبناؤه من يسلكون في خطوات الإيمان، وإن إبراهيم «أب لنا جميعا، والله جعله أبا لأمم كثيرة.»
كما جاء في رسائل بولس إلى أهل رومية: «لأن الكتاب يقول: إن كل مؤمن به لا يخزى، ولا فرق بين اليهودي واليوناني؛ لأن ربا واحدا للجميع» ... «وإن حكم الناموس يتم بالروح لا بالجسد» ... «وإن اهتمام الجسم موت، وأما اهتمام الروح فهو الحياة والسلام.» •••
وتوسع الشراح المحدثون في التعليق على أقوال بولس الرسول وأمثالها، فقال الدكتور جورج دنكان
Duncan
في أحدث تفسيراته لرسالة بولس إلى أهل غلاطية: «مما له بعض المغزى أنه في حين أن قصة ختان إبراهيم تقوم على المصدر المتأخر لكتب التوراة الخمسة، الذي نسميه بنسخة الكهان، فإن معظم قصص إبراهيم ترجع إلى مصادر نسخة يهوا وألوهيم التي تقترن بتعاليم الأنبياء الأولى، وهي تشف عن نزعة دينية لا تخالف الشرعيات التي برزت خلال فترة النفي وحسب، بل تناقضها، ولا جرم تنزل هذه القصص منزلة الرضى والإعجاب عند اليهود الذين كانوا في الأزمنة المتأخرة لا يعطفون على منهج الشرعيين، ومن ثم كان الفيلسوف فيلون الإسكندري المشهور بالتوفيق الكبير. ويبدو في الإصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين: أنه كان ذلك الحين اتجاه مستعد في بعض البيئات لاعتبار حياة إبراهيم كلها دائرة حول الثقة بالغيب.»
يريد الشارح الحديث بالتوفيق الذي اشتهر به الفيلسوف فيلون، توفيقه على الخصوص بين مذهب الروحيين المتعلقين بالإيمان ووجدان النفس، وبين الشرعيين أو الكهان الذين كانوا يتشددون في المراسم والشعائر، وكل ما يعتمد في القيام به على الكهانة والوظائف الهيكلية، ومنها الختان وأعمال الطهارة والكفارة. وهذه هي الشعائر التي كان كهان إسرائيل يحرصون عليها في منفاهم ببابل إبقاء على معالم العبادة الاجتماعية، وخوفا من نسيانها واندثارها إذا وكل الأمر كله إلى عقائد الوجدان في نفوس الآحاد متفرقين. وقد كان فيلون مطلعا على نسخ التوراة الأولى، ومنها نسخة يشير فيها سفر التكوين إلى إبراهيم باسم الخليل قبل أن تعرف هذه التسمية في كتب الأنبياء.
وقد نقل بولس بعض الشعائر من المدلولات الحسية إلى المدلولات النفسية الرمزية، وانفتح الباب واسعا لهذا التحول منذ قال السيد المسيح: إن أعمال الإنسان هي التي تطهره أو تنجسه. ثم مضى بولس في هذا الطريق على الرغم من معارضة بطرس وزملائه؛ لأنه أدرك أن اشتراط الختان ومراسم البيع والهياكل لقبول الوثنيين في الدين الجديد عائق شديد يوشك أن يصدهم جميعا عن الإصغاء إليه. وقد انتهى الأمر في القرون الحديثة إلى إسقاط هذه المراسم في مذهب اليهود الذين سموا أنفسهم بالأحرار أو يهود الإصلاح، وشاع مذهبهم منذ القرن التاسع عشر بين اليهود والغربيين.
وتتابعت تفسيرات الآباء للشعائر الجسدية بالرموز النفسية من القرن الأول للميلاد، فأخذ بها معظم الكنائس الشرقية والغربية، وفيما يلي مثال من تفسيرات هذه الرموز منقول من كتاب الدر الثمين في شرح سفر التكوين:
2
إن الخطيئة هي غلفة
3
النفس، فإذا نحن تعمدنا ختن روح القدس تلك الغلفة التي جعل الله غلفة اللحم إشارة إليها، وإنما غلفة اللحم إذا اختتنت لا يمكن عودتها، وأما هذه الغلفة التي هي الخطيئة، فإذا ختنها روح القدس يوم المعمودية وطهر الإنسان منها، فالشيطان يعود فيقاتله بها، فينبغي له أن يقاتله دائما ولا يفعلها.
إلى أن يقول: أما قول الله لإبراهيم: إن ملوكا تخرج منك. فليس بملوك أرضية يمتدح الله ويفخر، ولو كان الذي أمره الله بالختان قال له: إن ملوكا تخرج منك، وحقق ذلك أن الذي يختتن الختانة الروحانية المتقدم ذكرها، فعقله يكون ملكا وحاكما على أفكاره، وعلى شهواته ولذاته ...
وظلت أخبار التلمود والمدراش عن إبراهيم شائعة بين المسيحيين كما كانت شائعة قبل الميلاد؛ لأنهم يرجعون إلى العهد القديم وشروحه وتفسيراته، ولكنهم اعتبروا أن بشائر إبراهيم كلها مرهونة بظهور المسيح الذي يكون الخلاص على يديه، ومن أجل المسيح تلقى إبراهيم تلك البشائر من الله، فانتشرت الكرامات والمعجزات التي نسبت إلى الأنبياء والآباء قبل الميلاد انتشارا كبيرا في صدر المسيحية وزمنا طويلا بعد نشأتها الأولى إلى ما بعد القرون الوسطى، وجعل الرواة المسيحيون يلحقونها بمعجزات المسيح، ويحسبونها مقدمة لا تتم إلا بنتيجتها الموعودة، وهي دعوة المسيح إلى النجاة.
وعمد بعضهم إلى تفسير كتب العهد الجديد بهذه العقيدة في أقوال غير معتمدة، ولكنها سرت بين السواد والعلية كما سرت من قبل تفسيرات العهد القديم.
فمن أمثلة ذلك عبارة وردت في رسالة بطرس الأولى؛ حيث يقول في الإصحاح الثالث:
إن المسيح أيضا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا ... مماتا في الجسد محيا في الروح،
4
وبالروح أيضا ذهب فوعظ الأرواح التي في السجن، إذ عصت قديما حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح.
فبنى بعضهم على هذه العبارة قصة لا يعتمدها المفسرون الكتابيون، وقالوا في تفسيرها: إن السيد المسيح هبط إلى الهاوية سنة ثلاث وثلاثين للميلاد، وأطلق منها أرواحا صالحة ذهبت إليها قبل بعثته، ولم تكن لها جناية تعاقب عليها، ولكنها كانت في حاجة إلى التطهير بماء العماد لتدرك نعمة النجاة.
وسرت هذه القصة من السواد إلى العلية من أمثال الشاعر الإيطالي الكبير دانتي أليجيري، صاحب الكوميديا الإلهية، فقال في القصيدة الرابعة من الحوار بينه وبين الشاعر الروماني القديم «فرجيل» قائده في طبقات الهاوية:
لم تكن ثمة شكاة تسمع إلا الأنين الذي يهز الأجواء الأبدية، وكان ينبعث من تلك الأحزان التي لا عذاب فيها أحزان الجموع المتكونة من الأطفال والنساء والرجال، فقال لي أستاذي: إنك لم تسأل عن هذه الأرواح التي تراها هنا، وأود أن أعرفك بها قبل أن نتقدم في طريقنا: إنها لم تخطئ، وكان لها فضل، ولكنه لا يغنيها لحاجتها إلى العماد، وهو الإيمان الذي أنت به تدين ...
فإنها تقدمت عصر المسيح فلم تعبد الله على سواء، ومن هذه الأرواح كنت المتحدث إليك ...
فغشي قلبي حزن عظيم عند سماعه؛ لأنني أعرف أناسا ذوي فضل كبير معلقين في تلك الطبقة ...
وقلت له: أخبرني يا أستاذي، أخبرني. وأردت اليقين من هذا الإيمان الذي يغلب كل خطأ: ألم يخرج من هذا المكان أحد؛ خرج منه بفضله أو بفضل غيره وأدركته النجاة بعد خروجه؟
وفهم طوية كلامي فأجابني قائلا: لقد كنت هنا حين لمحت قادما جليلا عليه إكليل النصر، فإذا هو قد بدأ فأخذ في الظل أبانا الأقدم - آدم - وابنه قابيل ونوحا وموسى المشترع المطيع، ثم إبراهيم الأب وداود الملك، وإسرائيل وأباه وبنيه، ومنهم راحيل التي صنع من أجلها الكثير، وأخرج غيرهم، وباركهم ونجاهم، وأعلم أن أحدا قبل هؤلاء لم يكن نبيا.
وبهذه الصيغة وما شابهها سرت أخبار العهد القديم وتفسيراته بين المسيحيين، ثم تفرق رأي الكنائس المسيحية في النظر إلى العهد القديم، فمنها ما يعتبره وحيا منزلا بجميع تفصيلاته، ومنها ما يقصر الوحي على كتب الشريعة، وهي الكتب الخمسة التي تعرف بكتب موسى، ومنها ما يعتبره كله أخبارا تاريخية أو وقائع مروية في صيغة شعرية.
وعلى حسب النظر إلى هذه الكتب يختلف النظر إلى إبراهيم من حيث اعتقاد العصمة أو الخطيئة.
فمن أتباع الكنيسة الإنجيلية من ينقد مسلك إبراهيم حين قال: إن سارة أخته، ولا يبالي أن يصرح بالنقد في كتب التدريس كما فعل الأستاذ وليام نكلسون؛ حيث قال في موسوعته الموجزة عن التوراة تحت مادة إبرام:
إن مسلك إبرام هنا هو أحد المواقف التي نميل إلى إسدال الستار عليها في سيرة هذا الرجل الجليل، لقد كان عملا لا يوائم مقام تلك الشخصية العظيمة، ولا جرم ففي وجه الشمس سفعات، ومثل هذا دليل على صدق تاريخ الكتاب، وأن مؤرخيه لم يستروا نقصا قط في أحسن الناس.
5
ومن شراح الكنائس الأخرى من لا يلوم إبراهيم على هذا المسلك ويشيد به؛ لأنه أسلم نفسه إلى مشيئة الله، وأيقن أنه لن يخذله، ولن يصنع ما يعاب، فهو آية على إيمانه وغلبة الثقة بتدبير الله على وساوس الخوف والريبة في نفسه.
ويتوسط بعضهم بين النقد والإعجاب كما فعل الدكتور جويلبود
Guillebaud
فيقول:
إن هذه الخطايا سجلت بأيدي فاعليها وبرضاهم وموافقتهم، وحفظها أبناؤهم وذراريهم من بعدهم؛ فلم كان ذلك؟ إن شيئا من هذا لم يسجل على ملوك بابل ومصر، وتكاد سيرتهم أن تبدو كاملة نقية من العيوب، وقد محيت من تلك الصور كل وصمة، وجليت فيها كل زينة، ولكن من يا ترى من ذوي العقل السليم بعد هذا يود أن يتبع مثال رمسيس أو نبوخذنصر، كما يود المسيحيون أن يدرسوا حياة إبراهيم ويعقوب وداود؟ إن العلة غير بعيدة المنال، فإن أبطال العهد القديم أناس حقيقيون لهم حس كحسنا، وشعور كشعورنا، وسيرتهم صادقة الخبر، وعيوبهم سافرة للنظر. فمن هدف السيرة الأمينة يستطيع القارئ أن يبصر النذير، ويتقي مثل هذه السقطة، ويغنم مع هذا شجاعة وإلهاما من قدوة الإيمان المنتصر في تلك السير ... •••
وكذلك تبدو لنا صورة الخليل كما تمثلت في المراجع المسيحية من كتب العهد الجديد، ومن المرويات الشعبية التي تناقلتها الألسنة وسرت إلى كتب الأدب ذات الصبغة الشعرية إلى ما بعد القرون الوسطى.
وقد عنيت المراجع المسيحية في العصر الحديث بناحية من تاريخ الخليل أهم من تلك المرويات الشعبية في نظر القارئ العصري، وهي الناحية التاريخية.
فالمراجع المسيحية تشغلها هذه الناحية التاريخية في القرن الأخير، بعد أن شاعت بدعة الشك في وجود أقطاب الأديان، وفي مقدمتهم إبراهيم وسلالته الأولون.
وليست الناحية التاريخية عامة هي التي تعنينا في هذا الباب؛ لأننا سنفرد لها بابا خاصا يدور على الكشوف الحفرية والبحوث المتقابلة في أقوال المؤرخين المحدثين.
ولكن الناحية التاريخية التي نعني بها في هذا الباب - باب المراجع المسيحية - هي الناحية التي تفرغ لها الدارسون ليلحقوها بالكتب الدينية وشروح العهدين القديم والجديد، فهي مقصورة على هذه الناحية، ومحورها الغالب عليها هو المضاهاة بين تواريخ الكتب الدينية والمواقيت التي اتصلت بها من تواريخ الأمم الغابرة. •••
فمن أحدث هذه المراجع كتاب «موجز التعليقات الحديثة على الكتاب»، من تأليف نحو ثلاثين عالما من علماء اللاهوت في إنجلترا، وكلهم من المطلعين على كشوف الآثار التي لها علاقة بتواريخ التوراة والأناجيل.
يذكر المؤلفون في الفصل الذي عنوانه «العالم في أيام إبراهيم»: أن لوحا من الألواح التي كشفت بمدينة أور قد وجد عليه نقش باسم «إيراما»، يرجع على ما يظهر إلى زمن سابق لزمان إبراهيم، ومن هذه الكشوف لوح آخر منقوش عليه شريعة حمورابي، وفيها أحكام مماثلة لأحكام الشريعة الموسوية، ومع هذه الكشوف ألواح كتبت عليها جداول للضرب، ومعجمات للمفردات اللغوية، وسجلات لأنظمة الحكومة، وأسانيد بما وصل إلى الهياكل من حساب القرابين؛ فقد نشأ إبراهيم إذن في مدينة ليست بالهينة والعالم يومئذ قديم.
ويشيرون في هذا الفصل إلى نقوش كشفت على جدار قبر من القبور الأثرية بقرية بني حسن بمصر، يرجع تاريخها إلى سنة 2100 قبل الميلاد أو نحوها، وبين تلك النقوش صورة قافلة مؤلفة من سبعة وثلاثين من الساميين بقيادة أبيشو
Abichua ، يحملون بضائع بلادهم ليستبدلوا بها غلة مصرية.
وأشاروا إلى كلمة «عبري» ومعناها فقالوا: إنها وجدت من آثار «رم سن» سلف حمورابي، كما وجدت في نص من النصوص البابلية التي كشفت في بلاد الحيثيين الأقدمين من آسيا الصغرى - وتسمى اليوم بوغاز كوي - ووجدت كذلك في نصوص حورانية عند بلدة توزي بالعراق، وكان لها معنى أعم من معناها الخاص بعد ذلك بأبناء إسرائيل، ويفهم منه أن الكلمة كانت مرادفة لكلمة الجنود الرحل الذين يستأجرهم قادة الجيوش.
قالوا: وإن عاصمة الحيثيين التي رفعت عنها الأنقاض سنة 1906 قد كشفت فيها ألواح بالخط المسماري دلت على مفتاح اللغة الحيثية، وأن الحيثيين كانوا يتكلمون لغة هندية جرمانية على مشابهة باللاتينية، وقد نزحوا من الشرق إلى آسيا الصغرى، وامتدت دولتهم شرقا إلى الفرات، وجنوبا إلى قادش، وهم بنو «حث» الذين أشار إليهم إبراهيم في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين إذ يقول: «وكلم بني حث قائلا: أنا غريب ونزيل عندكم؛ أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي.»
وقالوا: إن أسماء الملوك التي وردت في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين قريبة من بعض الأسماء التاريخية، فاسم إمرافل قريب من اسم حمورابي البابلي، وتدعال قريب من تدخاليا الحثي، والأسماء الأخرى وجدت لها مشابهات من هذا القبيل، ولكن لا يوجد الدليل القاطع على وحدة المسمى.
وكان الرعاة أو الهكسوس «هاك شاسو» يحكمون مصر من الأسرة الثالثة عشرة إلى الأسرة السابعة عشرة، وفي هذه الفترة حدثت هجرة الآباء العبريين إلى الديار المصرية. •••
ومن كتب التعليقات كتاب كالذي تقدم في موضوعه، إلا أنه أوسع شرحا وأحدث عهدا - لأنه طبع طبعته المنقحة سنة 1952 - وعنوانه «تعليقات موجزة على الكتاب»، ومؤلفه جوزيف أنجوس
Angus
من أكبر فقهاء اللاهوت.
يقول مؤلف هذا الكتاب: «إن الآثار تحتمل أن إمرافل - الذي حارب إبراهيم - هو حمورابي الذي كان ملكا على بابل سنة 2000 قبل الميلاد، والحفريات المسمارية تربط بين اسمه واسم معاصره «أري آكو» ... في حين أن كدلعومر يشابه قدار لعمار، بمعنى خادم لعمار، أحد الأرباب الكبار في شرق الدجلة السفلى، واسمه منقوش على حجر من ألواح حمورابي، وكان هذا قبل ارتباط أرض إسرائيل ببلاد شنعار بعدة قرون.»
قال المؤلف: وكانت مصر عند هجرة إبراهيم ثم هجرة يعقوب وآله خاضعة لحكم الرعاة المكروهين الذين تسلطوا على مصر أكثر من خمسمائة سنة، ومن ثم كان الترحيب بإبراهيم ثم الترحيب بيعقوب وإقطاع قومهم أرضا في البلاد.
قال: وفي عصر إبراهيم كانت في أرض فلسطين الجنوبية جالية من الحيثيين، ولكن عاصمتهم كانت إلى الشمال تمتد، كما جاء في كتب العهد القديم، من لبنان إلى الفرات.
وقال عن «أور الكلدانيين» مدينة إبراهيم: إنها كانت في الموضع الذي يسمى الآن المقير على الفرات الأدنى، ولم تكن في أورفة كما خطر لبعضهم من قبل لتشابه اللفظ بين أورفة وأور.
وتقول تعليقات أبنجدون
Abingdon
التي اشترك في تأليفها نحو سبعين عالما من علماء التاريخ الديني والتوراتي:
على حاشية الهلال الخصيب انتشرت خلال الفترة التاريخية جماعات من القبائل الرحل تشتغل بالصيد تارة، وبالغارات تارة أخرى، وبالمرعى بين هذا وذاك، وهم الذين نسميهم في الزمن القديم بالآراميين، ومع استحالة الحياة المستقرة على الزراعة، أو التجارة، أو تقسيم الحقول وسكنى المدن، في ظل ذلك النظام الاجتماعي، يميل القوم إلى تجميع أنفسهم في جوار مركز من مراكز الحضارة يعاملونه ويتجرون معه، وقد يتصلون معه ببعض الصلات السياسية ...
وفي وسع أمثال هؤلاء القوم أن يعيشوا على إنتاج قطعانهم وصيدهم، ولكنهم غالبا ما يعتمدون على صلتهم بالمدينة - كما يحدث اليوم في الجزيرة العربية - لتحصيل غلات الحقل ومصنوعات المعمل بالمقايضة على مقتنياتهم ...
إن تاريخ العبريين الرسمي يبتدئ بقبيلة من هذه القبائل سكنت إلى جوار مدينة أور في جنوب العراق، وعند نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد هاجر فريق منهم إلى الشمال بقيادة رئيس يسمى تارح، كما جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين.
وربما كان من أسباب هذه الهجرة اضطراب سياسي في جنوب العراق أصابت جرائره معيشة أهل أور، ولعل هذا الاضطراب قد نشأ من تحول السيطرة السياسية من المدن العراقية إلى قبائل عيلام، فلم تستقر عليه أحوال المعيشة والتجارة في مدينة أور. وهذا الفرض يرجع بالحركة إلى ما بين سنة 2300 وسنة 200 قبل الميلاد. وكيفما كانت الحقيقة، فالهجرة قد حصلت، ونزل القوم فترة بجوار حاران إلى شمال الهلال الخصيب.
ومما يستحق الملاحظة أن كلا من أور وحاران كانت في القدم مركزا لعبادة الإله - سن - إله القمر من معبودات الساميين، وسيلفانا اسمه مرة أخرى في شبه جزيرة سيناء.
وظلت طوائف من القبائل تترحل غربا وجنوبا، حيث صادف بعضها أرض المرعى والزرع وادي الفرات والأقاليم الجبلية المخصبة، فاستقروا في مدن أشهرها دمشق، ومضت طائفة أخرى بقيادة إبرام بن تارح «وابن قد تكون هنا بمعنى سليل»، إلى أن استقر بها السير البطيء عند فلسطين، وهي يومئذ في ظل حكومات المدن المتفرقة، ولم تزل الهجرة في مجراها تارة إلى غرب الأردن، وتارة إلى شرقه، وحينا من دمشق، وحينا من شرقها إلى الحدود المصرية، وخلال ذلك تمر بنا قصة عن علاقة مباشرة بين مصر وهؤلاء البدو، وأخبار عن العلاقات بين الآباء العبريين وسكان كنعان المستقرين.
ثم يسترسل كاتب التعليقات فيقول: إن بعض العبريين وصل في هجرته إلى أرض جاثان بمصر، ويرجح أن دخولهم لأول مرة كان على عهد دولة الرعاة أو الهكسوس بين القرن الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد على وجه التقريب. •••
وترجح تعليقات هالي
Halley
الجيبية أن إمرافل هو حمورابي أشهر ملوك البابليين، وأن كارثة سدوم وعمورة التي حدثت في عصر إبراهيم تقترن بالخراب الذي قضى على سكان المدن هناك حوالي سنة 2000 قبل الميلاد، كما ظهر من كشوف بعثة ألبرايت وكيلي
Albright and kyle
سنة 1924.
ويضع هالي للحوادث المصرية مقابلا من حوادث التوراة، فيضع عصر إبراهيم مقابلا للأسرة الثانية عشرة حوالي سنة 3000 قبل الميلاد، وعصر يوسف مقابلا للأسرة السادسة عشرة سنة 1800 قبل الميلاد، على سبيل الاحتمال، وعصر موسى مقابلا للأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة بين سنتي 1500 و1200 قبل الميلاد.
وتظهر الغرابة في تقديرات هالي ومدرسته عند الرجوع إلى عصر إبراهيم وعصر يوسف، وبينهما في تقديره نحو ألف ومائتي سنة، والمعلوم أن يوسف ابن يعقوب، وأن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم. وهذا مع اعتماده أحيانا على نقوش الآثار، وحسبانه أن وفد الساميين المرسوم على مقابر بني حسن قد يكون وفد إبراهيم على الفرعون سنوسرت، الذي يظن أنه كان على عرش مصر في ذلك الحين.
ومن أصحاب التعليقات التوراتية المعروفين بالتحرج في التقدير لوثر كلارك
Clarke ، صاحب التعليقات التي تقع في ألف صفحة كبيرة، وتجمع من أطراف المعلومات ما لم يجتمع في مرجع آخر بمثل حجمها.
6
فهذه التعليقات تضع عصر حمورابي حوالي سنة 1900ق.م، وعصر الآباء العبريين في كنعان بين سنتي 1900 و1700ق.م، ونهاية عصر الهكسوس حوالي سنة 1550ق.م.
ويرجح كلارك - اعتمادا على الآراء الحديثة - أن عصر حمورابي متخلف عن عصر الوقائع التي تنسب إلى إمرافل بمائة سنة أو أكثر، وأن إمرافل وحمورابي لا يدلان على شخص واحد، وأن الغور العميق الذي تملؤه أمواج البحر الميت أقدم جدا من الوقت الذي قدر لخراب المدن المذكورة في قصة إبراهيم، ويتساءل: ما هو الباعث الذي أتى بالملوك الخمسة إلى الأردن جنوبا قبل مواجهة أعدائهم الذين يحاربونهم؟ وهو لا يستبعد أن يكون جيش من البابليين والعيلاميين معا قد زحف على جهات في ذلك الموقع؛ لإرغام القبائل على أداء الجزية أو الضريبة التي تفرض على رءوس القبائل.
ويعتمد كلارك على الظواهر الأرضية «الجيولوجية» كثيرا، فيرى أن العيون الحمر التي أشار إليها الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين هي في الغالب من النفط، الذي يتكاثف بالتبخر ويطفو على الماء كما كان يحدث على سطح البحر الميت، ولا مانع أن يشاهد على وجه الأرض قبل امتلاء الغور بالماء، ويرتبط خراب المدن التي وردت قصتها في سيرة إبراهيم بهذه الظواهر الأرضية التي يمكن أن تستقصى في يوم قريب، فيبنى على استقصائها تحقيق محكم لتاريخ تلك الأحداث.
ويضارع هذا الكتاب في الصبغة العلمية الكتاب الذي ألفه جماعة «دراسة العهد القديم»، واشترك في تأليفه أكثر من عشرة من علماء هذه الدراسات، وهو كتاب العهد القديم والدراسة الحديثة.
يقول الأستاذ ألبرايت
Albright ، وهو أحد أصحاب البعوث للكشف عن الآثار:
إن مسألة الهكسوس لا تزال على عسرها، ولكنها آخذة في التكشف والإبانة عن الحوادث التالية، بعد البحوث التي تناولها ونلوك وستوك كاتب هذه السطور، فنحن نعلم اليوم أنها لا بد أن ترجع إلى الفترة بين سنتي 1720 و1550 قبل الميلاد، وأن قيادة الهكسوس في يد الساميين، ولم تكن حورية أو هندية آرية كما كان بعض العلماء يقدرون إلى زمن قريب ...
إلى أن يقول بعد استطراد وجيز عن مقبرة توت عنخ آمون:
ولكن أهم من هذا كله - ثقافيا - تلك الأوراق البردية التي كشفها شستر بيتي
Beatty
من آثار عصر رمسيس، بما احتوته من الدلالة على مدى النهضة الأدبية في ذلك العصر الذهبي، ونخص منها بالذكر من حيث فائدتها لدارس التوراة: تلك القصائد الدرامية التي تنبئ عن نظم أناشيد سليمان وإن خالفتها كثيرا في التفصيلات، وتلك الترنيمة المقاربة لعقائد التوحيد التي تدل على استمرار التوحيد الشمسي من العمارنة، بعد وقوف كهنة آمون له بالمرصاد.
ويقول هذا الكاتب، ومعه زميل من المشتغلين بالكشوف في فلسطين:
إن فلسطين لم تدخل في قصص التوراة قبل هجرة إبراهيم من حاران، ولا يمكن بأي تقدير من التقديرات أن توضع تلك الهجرة في تاريخ سابق لنهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد تأتي بعد ذلك بقرون، ويبدو واضحا من مأثورات سفر التكوين أن هناك دورا متوسطا من العصر البرونزي بين القرن الحادي والعشرين والقرن السادس عشر قبل الميلاد.
ويتحدث عن كشوف رأس شمرا في الشمال المقابل لجزيرة قبرص من شاطئ بحر الروم، أنها غيرت الصورة التي كانت مرتسمة للحضارة الكنعانية في أذهاننا كل التغيير، وأنها أثبتت أن حضارة كنعان كانت تمتد في العصر البرونزي المتأخر من غزة جنوبا إلى رأس شمرا شمالا «أغاريت القديمة»، وأن اللغة والديانة والحضارة كانت واحدة في هذه البقاع، ولم يكن اختلاف اللغة إلا من قبيل اختلاف اللهجات ... وأننا نرى اختلاف الصناعة الفخارية وغيرها من البقايا المادية بارزا بينا عند الجانب الأسفل من نهر العاص؛ حيث تتضح الملامح الحورية والأمورية في معالم الثقافة العليا، ولا يلحظ على الساحل مثل هذا الاختلاف.
ثم يتحدث عن كشوف تل الحريري عند وادي الفرات الأوسط فيقول: «إن الأستاذ أندري باروت وزملاءه أخرجوا من الأنقاض قصرا كبيرا من العصر البرونزي الأوسط، كان مزدهرا في أواخر القرن الثاني عشر وفاقا للتقديرات التي تتقدم بعصر حمورابي إلى ما بين سنتي 1728 و1686 قبل الميلاد.
وقد أخرجوا في هذا الموضع نقوشا فذة على الجدران وبقايا فنية أخرى، وفوق ذلك نحو عشرين ألف لوحة، وأعشارا من اللوحات من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، كلها باللغة الأكادية التي تأثرت أحيانا باللغة الأمورية التي يتكلمها أبناء القبائل في ذلك الإقليم ... وفائدة هذه الكشوفات التي كسرت الآن حواجز البحث في دراسات التوراة ستأتي في أكثر الأحوال من طريق غير مباشر، ولكنها لا تنقص بذلك في قيمتها؛ إذ كانت الثقافة العالمية في عصر الآباء العبريين وراء كل تطور في آسيا الغربية.
وسيصبح ميسورا لنا عما قريب أن نركب أجرومية اللغة الأمورية ومعجماتها من تلك الأمورية الأكادية، التي كان يكتب بها كتاب ماري في الوادي الوسط من نهر الفرات. ويظهر أن هذه اللغة التي تتخلل أسماء الأعلام هي لغة الآباء العبريين في لبابها، وأنها على التحقيق لغة الكلام الذي نتمثله في أعلام الفلسطينيين الرحل والمقيمين، التي وردت في الحفريات المصرية التي ترجع إلى القرنين العشرين والتاسع عشر قبل الميلاد.»
7
ثم يعرض الكاتب لكشوف تل العطشانة على نهر العاص الأسفل، وكشوف حماة على أواسط النهر، فينوه منها على الخصوص بسيرة حياة الملك أدريمي المنقوشة على تمثاله، الذي يمكن لتاريخه أن يكون قريبا من سنة 1450 قبل الميلاد. وفي هذه السيرة حوادث وقعت في سورية الشمالية مشابهة للحوادث في قصة يوسف، ولعلها كانت تتجمع حول نواة من عصر الهكسوس، وقد أشارت سيرة أدريمي إلى غيرة إخوته الكبار، وقحط السنوات السبع، وضروب من الحدس لاستطلاع الغيب، ثم يعرض للكشوف التي أبرزت المنافسة بين حضارة الحيثيين والآراميين وحضارة إسرائيل ودمشق.
وينتقل إلى كشوف الريحانية في الناحية الجنوبية من سهل أنطاكية، وما لها من القيمة في الاستدلال على العصر الحديدي، وأهم ما فيها بقايا هيكل من القرن التاسع قبل الميلاد على رسم قريب من رسم هيكل سليمان الذي بني في القرن العاشر.
ويستطرد إلى كشوف قليقية على مقربة من حدود سورية الشمالية، وأسانيدها ترجع إلى ما بين سنتي 850 و650 قبل الميلاد، ولها شأنها في دراسة تطور اللغة العبرية.
ويتناول الأستاذ هينمان
Heinneman
من جامعة سانت أندروز بحثا لغويا عن العبرية، فيقرر فيه أن الآرامية - وهي العربية الشمالية - كانت سابقة في سورية وفلسطين لكل من اللغتين الكنعانية والعبرية، معتمدا على كشوف رأس شمرا، وعلى المحسنات الكنعانية التي اشتملت عليها رسائل تل العمارنة، ويردها إلى نحو 1375 قبل الميلاد.
ونختم هذه الشواهد بمرجعين تقليديين من مراجع هذا الموضوع؛ وهما: أطلس وستمنستر التاريخي، وموسوعة وستمنستر المنقحة طبعة سنة 1944، وهما خاصان بجغرافية التوراة والعهد الجديد وتاريخهما. وقد توفر على تأليفهما من وجهات النظر المتعددة نخبة من علماء هذه المباحث المشتغلين في الكتب الأثرية والكتب العصرية، بدرسها في الآثار والحفريات، وبالاطلاع على سجلاتها ومدوناتها.
وهذان المرجعان متفقان مع أحدث المراجع المتقدمة على تقريب عصر الآباء العبريين، واستضعاف الأقوال التي توغل به في القدم، وقد وضع الأطلس التاريخي عصر إبراهيم بين سنة 2000 وسنة 1700 قبل الميلاد، ووضع عصر حمورابي في ختام هذه الفترة، وعرض لقصة سنوحي الموظف المصري الذي غادر بلاده «حوالي سنة 1900ق.م »، وعاش بين الأموريين في سورية الشرقية، ولاحظ المشابهة بين الأمكنة التي أقام فيها سنوحي على نحو من البداوة، وبين الأمكنة التي عاش فيها على هذا النحو آباء العبريين.
ورجح أن وفد الساميين المرسوم على مدافن بني حسن قدم إلى مصر في عصر القصة السنوحية، وأن الدولة المصرية التي كانت قائمة بمصر هي الأسرة الثانية عشرة، وقد بسطت حكمها على سورية وفلسطين، وأدارت حركة واسعة من التجارة البحرية بين مصر وقبرص وكريت وشواطئ البحر الأحمر، وبلغت بحدودها الجنوبية إلى الشلال الثاني حيث أقامت حصن الحدود عند سمنة، وكانت لها بعثات إلى سيناء للكشف عن معادن النحاس والفيروز، وأخرى إلى أرض النوبة للكشف عن معادن الذهب.
وجاء في هذا الأطلس أن التاريخ حقق وجود بلاد في أرض حاران تطلق عليها أسماء كأسماء آباء إبراهيم: فالج وسروج وناحور وتارح، وأن اسم حاران نفسه قريب من اسم أخ لإبراهيم، وأن وحدة الاسم قد تأتي مصادفة في حالة شخص واحد، ولكنها هنا متفقة في أربعة أسماء على الأقل في حيز محدود. والمهم في هذه الملاحظة أن كتاب الأطلس يحسبون أن هذه البلاد حملت أسماء القبائل التي أنشأتها، أو أن القبائل أطلقت عليها أسماءها بعد الاستيلاء عليها في القلاقل التي حدثت حوالي سنة 2000 قبل الميلاد.
واستطرد كتاب الأطلس من تشابه أسماء الآباء والمدن إلى الأسماء التي كانت شائعة بين الأموريين، ومنها إبرام في صيغة «أبا مرام»، ويعقوب في صيغة يعقوب إيل، وذكروا أن اسم قبيلة بنيامين وجد في ألواح الحفائر بوادي الفرات الأوسط، وأن حفائر توزي في وادي الفرات الشمالي اشتملت على وصف عادات اجتماعية، تفسر عادات الإرث والزواج وأصنام الأسرة «الطرافين» التي أشارت إليها كتب العهد القديم، وأن عصر تلك الحفائر يوافق العصر الذي دون فيه الإسرائيليون كتب التوراة وما بعدها من الكتب القديمة، وهذا عدا الآثار التي روت أخبار الطوفان وأخبار الخليقة مما لا نظير له في مأثورات مصر أو كنعان.
ومن الطبيعي أن يعنى الأطلس بالمواقع الجغرافية في سياق التاريخ، وكذلك عني الأطلس في سيرة إبراهيم بمواقع رحلاته إلى مصر في ذهابه وعودته، ومنها أرض الجنوب بين قادش وشور، وتعرف الآن باسم وادي غزة، وهو واد كان له شأن في تاريخ بني إسرائيل إلى ما بعد خروجهم من الديار المصرية.
أما الموسوعة التي تحمل اسم وستمنستر أيضا - مع اختلاف المؤلفين - فهي توافق المراجع الحديثة كذلك في تقريب زمان الآباء، وتقرر أن وحدة اسم حمورابي واسم أمارفيل محل مناقشة واعتراض في المباحث الأخيرة، وأن إلحاق إيل باسم أمارفيل مشكلة تستوقف أنظار المتأخرين.
وبعد أن ذكرت أن تاريخ حمورابي وضع في عصور مختلفة بين سنة 2123 وسنة 1830 قبل الميلاد، عادت فقالت: إن الكشوف الحديثة ترجح وضعه بين سنتي 1792 و1750 أو 1749، وأن شريعته المشهورة مقاربة للشريعة الموسوية في سفر الخروج من التوراة، وأن أسلوب المواد يتشابه في ابتداء الجمل كما تتشابه العقوبات، ولا سيما عقوبات القصاص، قالت: وبعيد أن تكون شريعة حمورابي أمام المشرع العبري عند تدوين أحكامه، ولكن المحتمل أن الشريعتين ترجعان إلى أصل سامي قديم.
وترى الموسوعة - اعتمادا على تقدير الأسقف يوشر - أن مولد إبراهيم يوافق سنة 1996ق.م، وأن طريق الجيوش التي حاربها إبراهيم، كما جاء في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين، كانت إلى الجنوب على حافة جلعاد وموآب. وتدل كشوف العالمين الأثريين ألبريت وجلويك على أن هذا الطريق تخللته فيما مضى مدن هامة قبل سنة 2000ق.م، وظلت عامرة نحو قرن أو قرنين لا أكثر.
وفي رواية سفر التكوين أن سدوم وعمورة دمرتا في حياة إبراهيم، ومن كشوف جلويك يظهر أن المدن التي على هذا الطريق ظلت مقفرة إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولكنها في القرن العشرين ق.م كانت محجة دينية حافلة بجوار المكان الذي يعرف الآن باسم باب الدرعة. فمن المعقول إذن أن يكون مولد إبراهيم حوالي الزمن الذي قدره الأسقف يوشر، وأن سدوم وعمورة خربتا حوالي سنة 1898 قبل الميلاد.
وتقول الموسوعة: إن اسم إمرافل - أحد الملوك الذين حاربهم إبراهيم - يصعب تعيين صاحبه، كما يصعب تعيين زملائه الآخرين، ولكن هذه الأسماء جميعا لا يبدو عليها أنها اختراع من مخترعات الخيال ؛ إذ ليست غارة الأمراء البابليين على فلسطين وما جاورها أمرا نادرا في تلك الأيام. •••
ونكتفي بما تقدم من هذه المراجع التاريخية التي ألحقناها بالمصادر المسيحية، وقد ألحقناها بها لأن كتابها في جملتهم يدونون التاريخ من الجانب الذي به علاقة بكتب العهد القديم والعهد الجديد، وتغلب عليهم رغبة في تدوينه على النحو الذي يصحح أخبارها، وينقض مآخذ الناقدين عليها، فهو باب في التاريخ غير الباب الذي سنفرده لأقوال المؤرخين للحوادث من الوجهة العامة.
وليس أهم من تمحيص هذه الأقوال لمن يريد أن يحقق سيرة الخليل عليه السلام؛ إذ هي ألزم ما يلزم لمعرفة العقائد والشعوب في عصره، ومن هنا تنجلي حقيقة الرسالة وبواعثها، ومبلغ الخلاف والوفاق بينها وبين ما حولها، وكل شيء يتوقف على تقدير أحوال الزمن بعد تعيينه، وتقدير أحوال الشعوب في ذلك الزمن بعد التثبت من مواقعها وعلاقاتها.
وفيما أسلفناه بصيص من النور نرجو أن نضيف إليه بصيصا آخر يفيض على جوانب السيرة جميعا، بعد الفراغ من تلخيص هذه الشواهد والمصادر.
الفصل الخامس
المراجع الإسلامية
وتأتي مصادر الإسلام في ختام مصادر الأديان الكتابية، وسنرى أنه ما من شيء كالمصادر الإسلامية يثبت قيام دعوة إبراهيم، بل يثبت وجود إبراهيم الذي شك فيه أصحاب بدعة الشك في كل خبر قديم من غير سند يستندون إليه، ولا نعني هنا أدلة تاريخية تستمد من روايات الأخبار، وإنما نعني دليل التسلسل المنطقي الذي يصدق حين تكذب التواريخ، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه. ونكتفي هنا بإيراد أخبار الخليل في المصادر الإسلامية؛ وهي: القرآن الكريم، والحديث النبوي، والتفسير وما يلحق به على سبيل التفصيل أو الاستطراد.
وردت أخبار الخليل في سور كثيرة بعضها أقرب إلى الإسهاب، وبعضها يميل إلى الإيجاز، وهذه هي الآيات التي جمعت سيرته في بيان مفصل.
فمن سورة مريم: (41-48):
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا
1 * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا .
ومن سورة الأنبياء: (51-72):
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا
2
إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم * قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين * ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة
3
وكلا جعلنا صالحين .
ومن سورة الصافات: (83-113):
وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم * إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون * أئفكا
4
آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم * فتولوا عنه مدبرين * فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين * فأقبلوا إليه يزفون * قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون * قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين * وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين .
ومن سورة البقرة: (125-132):
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود * وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير * وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم * ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
ومن سورة آل عمران: (93-97):
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين * فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون * قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا .
ومن سورة البقرة: (258):
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين .
ومن سورة الأنعام: (74-83):
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين * وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل
5
رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم .
ومن سورة إبراهيم: (35-41):
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم * ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء * الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء * ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .
ومن سورة الحج: (26-27):
وإذ بوأنا
6
لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا
7
وعلى كل ضامر
8
يأتين من كل فج عميق .
ومن سورة البقرة: (260):
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم .
ومن سورة الذاريات: (24-34):
هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون * فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون * فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم * فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم * قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم * قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين .
ومن سورة هود: (69-76):
ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد * فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود .
ومن سورة النحل عن دين إبراهيم : (120-121):
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم .
ومن سورة الأنعام عن دين إبراهيم والإسلام: (161):
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .
ومن سورة آل عمران عن دين إبراهيم والإسلام وسائر الأديان: (65-68):
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .
هذه جملة الآيات التي جاء بها القرآن الكريم مطولة في سيرة إبراهيم، أو مشيرة إلى دعوته وما فيها من سابقة للدعوة الإسلامية، ولا حاجة بمن يكتب عن الدعوة الإسلامية إلى إبراز جانب منها لإثبات الانتقال من العقيدة المحصورة في عصبية خاصة إلى العقيدة التي تعم كل أمة، وتخاطب كل ملة، فهذه المساواة بين الأمم هي صبغة الإسلام في كل جانب من جوانب دعوته من مبدئها إلى ختامها.
أما أخبار إبراهيم في القرآن، فمنها ما تقدم في التوراة والمشنا، ومنها ما انفرد به القرآن، ومداره على أمرين:
أحدهما:
خاص بالوقائع، وهو قيام إبراهيم وإسماعيل إلى جوار البيت الحرام.
والآخر:
خاص بالنظرة الدينية، وهو على جانب عظيم من الدلالة في هذا المقصد؛ لأنه يبين الفارق بين التجسيم والتنزيه في العبادة على مدى الزمن الذي انقضى بين كتابة أسفار العهد القديم وقيام الدعوة المحمدية.
فالضيوف الثلاثة الذين ورد ذكرهم في سفر التكوين كانوا يأكلون ويشبعون من الطعام، وكان مفهوما من أسلوب بعض النسخ القديمة أن واحدا منهم هو الإله، ثم أصبح مفهوما أنه ملك يتكلم باسم الإله ومعه صاحباه من السماء.
إلا أن القرآن الكريم يروي قصة هؤلاء الضيوف ولا يروي أنهم أكلوا وشبعوا، بل جلسوا إلى الطعام ولم تصل أيديهم إليه، وسألهم إبراهيم أن يأكلوا فلم يفعلوا، فأوجس منهم خيفة وعلم من ثم أنهم من غير البشر، وأن لهم شأنا غير شأن ضيوف الزاد والمقام.
إن هذه النقلة ليست بالأمر الهين في تاريخ بني الإنسان؛ فإن النوع الإنساني قد انتقل من استخدام مادة الحجر إلى استخدام مادة الحديد في عشرات الألوف من السنين، فهذا الانتقال بين العقل الذي يقصر عن إدراك مخلوق سماوي يخالف الأجساد الحية في مطالبها المادية، وبين العقل الذي تهيأ للتمييز بين الحياة الروحية والحياة المادية، هو الانتقال الذي يؤرخ به عصران في حياة بني الإنسان، بينهما من الفارق أبعد جدا مما بين عصر الحجر وعصر النحاس وعصر الحديد. •••
وأهم المصادر الإسلامية بعد القرآن الكريم أحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومنها طائفة عن الخليل تصفه وتصف أعماله، وتلم بسيرته، وللفقهاء فيها خلاف؛ إذ كان بعضها ينسب أمورا إلى الخليل لم يعهد في الأحاديث النبوية أن تنسبها إلى الأنبياء.
والحكم في هذا الخلاف أن الأحاديث التي يرويها الآحاد لا يجوز أن تخالف أصول الاعتقاد؛ لأن الآحاد يجوز عليهم الخطأ والكذب، ومثل ذلك لا يجوز في العقيدة، ولا سيما العقيدة التي يقررها الكتاب.
وقد أخذ الإمام الفخر الرازي بهذا الحكم في تفسيره، ودارت حوله مساجلة بين الشيخ عبد الوهاب النجار ولجنة العلماء التي راجعت كتابه عن قصص الأنبياء، فقال رحمه الله:
نص العلماء على أن الحديث إذا كانت روايته آحادا وفيه نسبة المعاصي أو الكذب إلى الأنبياء يرد.
ففي شرح العصام على العقائد النسفية بعد أن ذكر وجوب اتصاف الأنبياء بالصدق ما نصه: إذا تقرر هذا؛ فما نقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية، فما كان منقولا بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره إن أمكن، أو محمول على ترك الأولى، أو كونه قبل البعث.
وجاء في الحاشية عليه قوله: فما كان منقولا بطريق الآحاد سواء بلغ حد الشهرة أو لا فمردود؛ لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء.
ونحن نمهد بهذه الملاحظة للأحاديث التي ننقلها، ونختار من الأحاديث ما له علاقة بصميم السيرة، وندع للقارئ أن ينظر فيها وبين يديه ما تقدم من أقوال الفقهاء.
ففي بعض الأحاديث أن إبراهيم كان أشبه الناس بالنبي عليهما السلام.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي
صلى الله عليه وسلم
ليلة أسري به: «لقيت موسى، قال: فنعته، فإذا رجل - حسبته - مضطرب رجل
9
الرأس، كأنه من رجال شنوءة،
10
قال: ولقيت عيسى: فنعته النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به.»
وعن مجاهد قال: كنا عند ابن عباس رضي الله عنهما، فذكروا الدجال فقال: إنه مكتوب بين عينيه كافر، وقال ابن عباس: لم أسمعه قال ذلك، ولكنه قال: «أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فرجل آدم
11
جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة
12
كأني أنظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبي.»
وعن جابر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «عرض علي الأنبياء فإذا موسى عليه السلام رجل ضرب من الرجال،
13
كأنه من رجال شنوءة، فرأيت عيسى ابن مريم عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم.»
وعن ابن عباس: دخل النبي
صلى الله عليه وسلم
البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال: «أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم؟»
وعن ابن عباس، أنه عليه السلام لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام
14
فقال: «قاتلهم الله! والله إن استقسما بالأزلام قط.»
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم.»
وقال ابن عباس في قصة هاجر: «ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم ... أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون. وجعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات ...
قال ابن عباس: قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «فلذلك سعى الناس بينهما.» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه! تريد نفسها، ثم تسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم!» وقال: «لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا!»
15
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن هذا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله.
فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين على طريق كداء،
16
فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا
17
فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين، فإذا هم بالماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم.
قال ابن عباس: قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس.» فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأعجبهم حتى شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا رزقا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسأل عنك فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، وهو يقرأ عليك السلام ويقول: غير عتبة بابك، قال إسماعيل: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك؛ فالحقي بأهلك. فطلقها وتزوج من امرأة أخرى، وغاب عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم فلم يجد إسماعيل، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا الرزق، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة. وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، وهو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: أعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هنا بيتا. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.»
هذه القصة التي رواها ابن عباس، وتخللها بكلمات للنبي عليه السلام، وهي أطول خبر عن إبراهيم نقله رواة الحديث.
أما الأحاديث التي أشرنا إلى الخلاف عليها بين الفقهاء وعلماء الأصول، فمنها الحديث التالي وفيه غنية:
حدث أبو هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: اثنتين في ذات الله؛ قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وواحدة في شأن سارة، فإذا قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي؛ فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك. ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي؛ فلك عهد الله ألا أضرك. ففعلت وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر ... قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف فقال لها: مهيم؟
18
قالت: خيرا؛ كف الله يد الفاجر، وأخدم خادما.»
قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء!
وليس بعد القرآن والأحاديث النبوية من مصدر يصح أن يسمى إسلاميا غير أقوال المفسرين.
وإنما تسمى أقوال المفسرين مصدرا إسلاميا حين تكون مقصورة على تفسير معاني القرآن وألفاظه، أو الاستشهاد بالأحاديث النبوية، فأما ما عدا ذلك فلا ينسب إلى الإسلام، وإنما المرجع فيه إلى الأخبار المروية عن النسابين وأصحاب الأخبار عامة، ومنهم اليهود الذين أسلموا، والنسابون الذين توارثوا تواريخ أسلافهم بالسماع.
فمن اليهود الذين أسلموا كعب بن ماتع الحميري الذي اشتهر باسم كعب الأحبار، كان من علماء اليهود في اليمن وأسلم في زمن أبي بكر، وعاش في المدينة زمنا ثم خرج إلى الشام بعد مقتل عمر، فأقام بحمص ومات فيها، ومنهم وهب بن منبه، وهو من يهود اليمن أيضا، وكان من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن، ثم أسلم وتوفي في عهد الدولة الأموية، وكلاهما كثير الرواية والنقل عن الكتب الإسرائيلية، ويظن بهما أنهما وضعا كثيرا مما روياه.
والمعلوم أن المسلمين في صدر الإسلام لم يتحرجوا من النقل عن أهل الكتاب إلا فيما يناقض القرآن الكريم؛ لأن المسلم يؤمن بالكتب التي تنزلت قبل القرآن، ويؤمن بأن العقائد التي تخالف عقيدته منها تحريف من الكهان والأحبار، وأنهم يجهلون بعض ما عندهم من الآيات، ويخفون بعضها أو يتمحلون
19
له التأويل.
فإذا دخل عالم من علماء اليهود في الإسلام، ونفى من روايات دينه ما يخالف القرآن ثم يتحرج المسلم أن يستمع إليه فيما ينقله عن كتبه، وأمن له، واعتبره من العلم الذي سبقه إليه أهل الكتاب، وكذلك فعل كثير من المفسرين، وبالغوا في الطمأنينة إلى أولئك الرواة، وفاتهم أنهم إن سلموا من سوء النية لم يسلموا من الجهل، وضعف السند ، وقلة التثبت والتمحيص.
وكان الفاروق عمر والإمام علي رضي الله عنهما ينهيان كعب الأحبار عن الإفاضة في رواياته وأساطيره، وسخر الفاروق منه حين زعم له أن مقتله مكتوب في التوراة، ولم يثبت أحد من جلة الصحابة شيئا من تلك الأساطير، ولكن كعب الأحبار وأمثاله قد طاب لهم أن يتحدثوا بتلك الأساطير التي ينفردون بدعواها، فأفرطوا فيها وجعلوا يطرقون السامعين بجديد كلما نفد قديمهم المعروض، وآنسوا من السامعين إقبالا على هذه البضاعة التي لا يزحمهم فيها أحد من المسلمين.
إلا أن المصادر الإسرائيلية لا تستوعب كل ما وعاه العرب قبل الإسلام من تواريخ عقائدهم، ولا سيما العقائد التي تلصق بالكعبة ونشأتها، وإقامة الشعائر فيها، وأسباب تلك الشعائر منذ أقدم عصورها. ومن الخطأ أن يقال: إن الروايات عن بناء الكعبة تلفيق من اليهود لإرضاء العرب والتقرب إليهم، بتوحيد النسب بينهم والارتفاع بنسبهم جميعا إلى جدهم إبراهيم؛ فإن نسبة العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم مكتوبة في سفر التكوين، ومن العرب الذين كانوا يجهلون التوراة من كانوا ينسبون أنفسهم إلى «نبات» بن إسماعيل، كما جاء في تاريخ ديودورس الصقلي المتوفى بعد منتصف القرن الأول للميلاد.
وقد كانت الروايات ترتفع ببناء الكعبة إلى آدم وإلى الملائكة، ولا تقف بها عند إبراهيم، وجاء فيما رواه التقي الفاسي، صاحب كتاب شفاء الغرام، أن الكعبة بنيت عشر مرات: بناء الملائكة، وبناء آدم، وبناء أولاده، وبناء إبراهيم، وبناء العمالقة، وبناء جرهم، وبناء قصي بن كلاب، وبناء قريش، وبناء عبد الله بن الزبير، وبناء الحجاج، ثم قال: إن بناءها قبل إبراهيم لم يأت به خبر ثابت، وقال المسعودي: إن بناء الملائكة وآدم وشيث لم يصح.
وأما بناء جرهم والعمالقة وقصي فهو ترميم، وتوسع الأزرقي، صاحب كتاب أخبار مكة، غاية التوسع في هذه الروايات التي لم تستوعبها الإسرائيليات، ولا يمكن أن تستوعبها؛ لأن تبجيل العرب للكعبة أقدم من هذه الإسرائيليات، وقد جاوز حدود جزيرة العرب إلى الهند ومصر كما ذكر برتون في رحلته إلى الحجاز، ولا يزال الصابئة اليوم، كما كانوا قبل الإسلام، يحسبونها من البيوت السبعة التي تناظر الكواكب السبعة، ويقولون: إنها بيت أشرفها دارا وهو زحل، وستبقى في الأرض ما بقي زحل في السماء.
وسيأتي الكلام بشيء من التفصيل عن سلالة إبراهيم في البلاد العربية، ولا محل هنا لنقل الروايات المختلفة التي اقتبسها المفسرون أو المؤرخون التفسيريون، سواء منها ما أخذوه من الإسرائيليات وما أخذوه من حفظة الأنساب وبناء الأسلاف، فإنها جميعا على نحو ما تقدم، ولكننا ننقل هنا ما فيه اجتهاد للمفسرين، أو ما فيه خبر يضاف إلى أخبار السيرة ويعولون على روايته.
فالمفسرون الأوائل يقولون: إن النار لم تحرق إبراهيم؛ لأن الله سلبها خاصة الاحتراق، والألوسي، صاحب روح المعاني، من المفسرين المتأخرين يقول: «وأيا ما كان فهو آية عظيمة، وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم؛ لمتابعتهم النبي الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم، وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي - قدس سره - من الفسقة الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارا؛ فقيل: إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله؛ فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح، ولا يبعد أن تكون كفرا وإن كان معها ما لا كفر فيه ...
ولم يكن ذلك في زمن الشيخ الرفاعي - قدس سره العزيز - فقد كان أكثر الناس اتباعا للسنة، وأشدهم تجنبا عن مظان البدعة، وكان أصحابه سالكين مسلكه، متشبثين بذيل اتباعه قدس سره، ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ ... قال في العبر: قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس سره، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق، من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات. وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم.
والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطا لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه، فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف: يا شيخ أحمد يا رفاعي، أو يا شيخ فلان؛ لشيخ أخذ منه الطريق، ويدخل النار ولا يتأثر منها دون تلاوة شيء أصلا، والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار، ولم تضرب له الدفوف، ولم يحصل له تغير حال لم يقدر على مس جمرة.
وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر، والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة، بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف، واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا؛ يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون. وقد رأيت منهم من يأخذ زق الخمر، ويستغيث بمن يستغيث، ويدخل تنورا كبيرا، ويضطرم فيه النار فيقعد في النار ويشرب الخمر، ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء.
وأقرب ما يقال في مثل ذلك أنه استدراج وابتلاء، وأما أن يقال: إن الله عز وجل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي - قدس سره - بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره، إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال، فبعيد، بل كأني بك تقول بعدم جوازه. وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له، وقد يأخذ بعض الناس بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلي بها، فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة ...»
والشيخ محيي الدين بن العربي يفسر الآية على أسلوب المتصوفة الذين يرمزون بالكلمات إلى الأسرار فيقول: حرقوه أي اتركوه يحترق بنار العشق التي أنتم أوقدتموها أولا، بإلقاء الحقائق والمعارف إليه، التي هي حطب تلك النار عند رؤيته ملكوت السماوات والأرض بإرادة الله إياه كما قال:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض
وإشراق الأنوار الصفاتية والأسمائية عند تجليات الجمال والجلال عليه من وراء أستار أعيانكم التي هي منشأ اتقاء النار، وانصروا آلهتكم، أي معشوقاتكم ومعبوداتكم في الإمداد بتلك الأنوار، وإيقاد تلك النار، إن كنتم فاعلين.
بأمر الحق «يا نار كوني بردا وسلاما بالوصول حال الفناء؛ فإن لذة الوصول تفيد الروح الكامل، والسلامة عن نقص الحدثان، وآفة النقصان والإمكان، وأرادوا به كيدا؛ بإفنائه وإحراقه ...»
ومن المفسرين المحدثين محمد علي الهندي الذي ترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية، واجتهد في تفسير آياته فقال: إن الحادث - حادث الأصنام المحطمة - قد هاج ثائرة القوم، وأوقد نيران ضغنهم، وإن الآية التالية تدل على أن النار نار كيد: وأرادوا به كيدا، فجعلناهم الأخسرين.
ولعلهم أرادوا إحراقه فنجاه الله من تدبيرهم، ثم فسر الآية في سورة العنكبوت:
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار .
فقال في تفسيرها: إن أعداءه عجزوا عن إحراقه، وكانوا يدبرون له القتل والإحراق فلم يستطيعوا.
والإمام البيضاوي يفسر: فنظر نظرة في النجوم فقال: إني سقيم، فيفهم من الآية أنه ربما رأى مواقع النجوم واتصالاتها، أو نظر في عملها أو في كتابها، ثم يقول: ولا مانع منه مع أن قصده إيهامهم وقد سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم الذي يعيدونه لأربابهم، فأراهم أنه استدل بالنجوم - لأنهم كانوا منجمين - على أنه مشارف للسقم. وكان أغلب أسقامهم الطاعون، ويخافون عدواه ... قال: وربما أراد أنه سقيم القلب لكفرهم، أو خارج المزاج عن الاعتدال.
ومن الجديد في المصادر الإسلامية أن إبراهيم ولد على مقربة من دمشق، وأن آزر عم إبراهيم ولم يكن أباه، قال صاحب بدائع الزهور في وقائع الدهور: «روى وهب بن منبه أن إبراهيم الخليل
صلى الله عليه وسلم
بن تارح بن ناحور، وقال الحافظ السهيلي: إنه كان مولودا ببلاد حوران، وقيل بقرية تسمى برزة من قرى دمشق في مغارة هناك معروفة، وفيها الدعاء مستجاب ... قال الرواة: إن ساما وحاما ويافث أولاد نوح عليه السلام كانوا ثلاثة أقسام؛ فكانت النبوة في أولاد سام، ومساكنهم الحجاز وما يليها، والقوة في أولاد حام، ومساكنهم المغرب، والتجبر في أولاد يافث، ومساكنهم المشرق ...»
ومن المختلف عليه بين المفسرين والمؤرخين التفسيريين قرابة سارة وإبراهيم؛ فالحافظ ابن كثير يروي أن المشهور أنها ابنة عم لإبراهيم يسمى هاران، ويقول ابن إسحاق الثعلبي، صاحب قصص الأنبياء، نقلا عن أهل العلم بسير الماضين: إنها ابنة عمه ولا يذكر اسمه ...
ويختلفون كذلك في ولد إبراهيم الذي أمر بذبحه، فمنهم من يرى أنه إسحاق، ومنهم من يرى أنه إسماعيل، وجاء في قصص الأنبياء: أن محمد بن إسحاق روى عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول: إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل ... ولم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله تعالى من الوعود ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل، قال محمد بن كعب القرظي: فذكرت ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة؛ إذ كنت معه بالشام، فقال لي عمر: إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده من الشام - وكان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء يهود - فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده، فقال له: أي ابني إبراهيم الذي كان أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل، ثم قال: والله يا أمير المؤمنين، إن اليهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أبوكم الذي أمر الله بذبحه؛ لما فيه من الفضل الذي ذكر أنه كان منه بصبره على ما أمر به، فهم يزعمون أنه إسحاق؛ لأن إسحاق أبوهم.
وسنرى فيما يلي أن هذا الاختلاف له جانب هام يفوق في أهميته جانب البحث التاريخي الذي يراد به مجرد العلم باسم الذبيح من ابني إبراهيم، فإنه اختلاف يتعلق به اختيار الشعب الموعود، ويتعلق به الحذف والإثبات في سيرة إبراهيم، ليتصل بذرية إسحاق، وينقطع عن ذرية إسماعيل، أو ليثبت من سيرته كل ما يتعلق بإسرائيل، وينقطع منها كل ما يتعلق بالعرب، وأن هذا النزاع قد بدأ قديما قبل تدوين نسخ التوراة التي كتبت في بابل، أي قبل الميلاد بعدة قرون.
وواضح أن النزاع في أوله لم يكن نزاعا على العقيدة؛ فإن العهد القديم يروي عن إبراهيم أنه قدم العشر لملكي صادق كاهن الله «العلي» أو عليون، الذي كان معبودا لسكان فلسطين وما جاورها إلى الجنوب، وقد زار هيرودوت بلاد العرب الشمالية عند مدخل مصر، وروى عنهم أنهم كانوا يعبدون الله تعالى
Arotal ، واللات أو أيليلات
Alilat
منذ قرون سابقة للقرن الخامس قبل الميلاد - وهو القرن الذي عاش فيه هيرودوت - فلم يكن النزاع على العقيدة في نشأته إلا فرعا من فروع التنازع على الميراث، ولم يكن شأن الذرية الموعودة أو المختارة إلا أنها تعزز دعواها في ذلك النزاع، وتنفي عنه من ينازعها عليه.
وهذه المشكلة التي عرضت لمحمد بن إسحاق القرظي قد صادفت فقهاء المسيحية من قبل كما صادفت فقهاء الإسلام؛ إذ كيف يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق وهو ابنه الموعود الذي يخرج منه شعب الله المختار؟ إن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يقول في الإصحاح الحادي عشر حلا لهذه المشكلة: «إن إبراهيم بالإيمان قدم إسحاق وحيده الذي قيل له: إنه بإسحاق يدعى لك نسل؛ إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات.»
وحل المشكلة على هذا الوجه جديد في المسيحية، لم ينظر إليه أحبار اليهود الذين اعتبروا أن التضحية قائمة على تسليم إبراهيم بموت إسحاق، وأنه أطاع الله ولم يطع قلبه، ولم يحفل بحنانه على ابنه الموعود. ويبقى من المشكلة جانب آخر، وهو وصف الابن بالوحيد، فلم يكن إسحاق وحيدا مع وجود إسماعيل. أما إسماعيل فكان وحيدا قبل مولد إسحاق.
إن فهم السيرة كما جاءت في الكتب الدينية، أو في كتب الشروح والتعليقات لا يتهيأ للباحث ما لم يضع أمامه سر الاختلاف على إسحاق وإسماعيل. وما نقلناه هنا من المصادر الإسلامية يوضح هذا السر بعض الإيضاح، وربما تم إيضاحه بما يلي من مصادر التاريخ.
الفصل السادس
مراجع الصابئة
تدين بعقائد الصابئة ملة يبلغ عدد أبنائها ستة آلاف بين رجل وامرأة وطفل، ولا يجاوز بها المبالغ في عددها عشرة آلاف.
وهي على قلة عددها تستقل بلغة «مقدسة» خاصة، ولها كتابة أبجدية خاصة، وأحكام دينية في معيشتها لا تشبه في جملتها دينا واحدا، ولكنها تشبه في بعض أجزائها كل دين.
ومن ثم كان لها شأنها في الدراسات الدينية.
ففيها ولا شك عقائد سابقة لجميع الأديان الكتابية، وعقائد سابقة لدين الخليل.
بل فيها - على رأي بعض الباحثين - بقية من الديانتين المختلفتين في عصر الخليل؛ لأن الصائبة يدينون بمذاهب مختلفة يرد بعضها على بعض، ولا سيما مذاهب الكواكب والأصنام، مما تواترت الأخبار بالاختلاف عليه بين قوم إبراهيم ومن حاربوهم واضطروهم إلى الهجرة من بلادهم.
ويقول رايت
Wright ، صاحب كتاب المطالعة العربية: إن حروفهم الأبجدية تشبه الحروف النبطية، وإن لغتهم تشبه لغة التلمود الذي كتب في بابل، ويقولون هم: إن لغتهم الأولى سريانية، وإنهم كانوا بمصر على عهد الفراعنة الأول، وتلقوا ديانتهم الأولى عن أحبارها، ثم هجروها حين تحول أهلها عن الدين القويم.
والمحقق من أمرهم أنهم يرجعون إلى أصل قديم؛ لأن استقلالهم باللغة الدينية والكتابة الأبجدية لم ينشأ في عصر حديث، ولهذا يفهم الدارسون للأديان أن تحقيق لغتهم وكتابتهم يؤدي إلى جلاء الغوامض عن كثير من تاريخ الكلدان، في الزمن الذي قام فيه الخليل بدعوته. ويؤكد هذا الفهم أن هؤلاء الصابئة يقيمون في الأقاليم الجنوبية من العراق حيث أقام الخليل في رواية العهد القديم، ومنهم فئة تحج إلى حاران التي هاجر إليها، وينسب إليها الصابئة الحرانيون.
ومع استقلال الصابئة باللغة الدينية والكتابة الأبجدية يشتركون مع أصحاب الأديان في شعائر كثيرة، ولا يعرف دين من الأديان تخلو عقيدة الصابئة من مشابهة له في إحدى الشعائر؛ فهم يشبهون البراهمة والمجوس والأورفيين أصحاب النحل السرية، كما يشبهون اليهود والنصارى والمسلمين، أو كما يشبهون الفلاسفة وأصحاب المذاهب العقلية في تفسير الوجود والموجودات.
وهم كما يشبهون الجميع يخالفون الجميع.
وتعليل هذه المخالفة أنهم تشبثوا بأصل قديم لا يفارقونه. أما تعليل المشابهة فليس بالعسير؛ فإن مقام الصابئة عند خليج فارس يجعلهم في طريق كل ملة يتردد أبناؤها على ذلك الإقليم أو يقيمون فيه، وقد تردد عليه من قديم الزمن هنود وفرس وطورانيون وعرب وسريان وفينيقيون، واتصل به أبناء البحار كما اتصل به أبناء الصحراء، فليس بالعجيب أن تعلق بعقيدة الصابئة الأقدمين مسحة من كل ملة على طول الزمن وتتابع العهود .
فمن مشابهتهم للبراهمة أنهم يتحرجون من ملامسة غيرهم، ويتطهرون إذا لمسوا غريبا في حالة من حالات العبادة.
ومن مشابهتهم لأصحاب العقائد الأورفية - أو السرية - أنهم يكتمون كتبهم أشد الكتمان، ولا يباشرون شعائرهم مع الغرباء، ويتقاسمون الخبز المقدس علامة على الأخوة الروحية، ويعتقدون أن الكون كونان، وأن الخلق خلقان؛ فالكون الظاهر غير الكون الباطن، ولكل مخلوق في العلانية صورة محجوبة في عالم الغيب، حتى آدم وبنوه منهم أهل ظاهر وأهل باطن لا يراهم من يعيشون في العلانية.
ومن مشابهتهم للمجوس أنهم يتوجهون إلى قطب الشمال وإلى الكواكب عامة، ولكنهم لا يعبدونها، بل يحسبونها من مظاهر الروحانيات التي لا تبرز للعيان.
ومن مشابهتهم للمسيحيين أنهم يدينون بالعماد، ويبجلون يوحنا المعمدان أو يحيى المغتسل، ولكن التعميد أعم عندهم من التعميد في المسيحية، ويندر منهم من يسكن بعيدا من الأنهار؛ لحاجتهم كل يوم إلى العماد وإلى التطهير بالماء.
ومن مشابهتهم للمسلمين أنهم يقيمون الصلاة مرات في اليوم، ويقولون: إنها فرضت عليهم سبعا، ثم أسقطها يوحنا عنهم، وأدخل بعضها في بعض، واكتفى منها بثلاث، ولكنهم لا يسجدون في صلاتهم، بل يكتفون بالقيام والركوع، وهم يتوضئون قبل الصلاة، ويغتسلون من الجنابة، ويعرفون نواقض الوضوء، ولكنهم يغالون فيها.
وعندهم ذبائح كذبائح اليهود، ويوم في ختام السنة كيوم اليهود، ولكنهم يحرمون الختان، ولا يبنون لهم هيكلا قائما، بل يبنون الهيكل من القصب كما تبنى الخيام، موقوتا عند الحاجة إليه في الأعياد، فكأنها بقية أو أصل لعيد الظلال وللهيكل المنقول.
ومنهم من ينتمي إلى كاظم بن تارح، وقد ذكرهم المقريزي بين الفرق المختلفة، وكأنهم يقابلون دين إبراهيم بدين أخ له ينتمي إلى تارح، أبي إبراهيم في رواية العهد القديم.
وهم ينكرون الأنبياء ويقولون: إن الله لا يخاطب أحدا من البشر، وإنما خلق الله الروحانيات، أي الملائكة، ثم تلبست هذه الروحانيات بالكواكب النورانية، ولما احتاج الأمر إلى أمثلة لهذه الكواكب يراها العباد حين يشاءون، صنعوا لها صورا من الأوثان، وجعلوا اتجاههم إلى نجم القطب؛ لأنه ثابت في مكانه لا يختلف له فلك باختلاف الأزمان.
ولهم أقوال في تنزيه العقل الإلهي تشبه أقوال الفلاسفة، ومنهم من يحرم الطعام الذي حرمه أتباع فيثاغورس كالبصل، ويضيفون إليه أنواعا من الخضر كالكرنب ولحوم الحيوان ذي الذنب؛ لأنهم يستوحون الغيب في الرؤيا، وهذه الأطعمة تمنع الرؤيا الصادقة.
والغالب أنهم عرفوا شيئا من أقوال حكماء اليونان من طريق القساوسة النسطوريين، الذين هاجروا إلى جنوب العراق في صدر المسيحية هربا من الاضطهاد، وكان أكثرهم يعرفون اليونانية ويقرءون الفلسفة، ولا سيما الرواقية والفيثاغورية، ولكن اتصال اليونان ببلاد الكلدان أقدم من المسيحية ومن اليهودية. ومن الكلدانيين أخذ اليونانيون خصائص الكواكب المعبودة، وحرمات المعابد التي تقام لها، وشعائر الطواف بها وحماية الضحايا التي ترسل في حرم المعبد، وما إلى ذلك من العادات والعبادات، التي اندثرت بين الصابئة المحدثين ضرورة لا حيلة لهم فيها؛ لأن إقامة الحرم في مكان مطروق إنما يقوم بقوة الحاكم، وبناء المعابد إنما يقوم بوفرة المال وكثرة العدد، وهم قلائل متفرقون لا يملكون الثروة ولا السلطان. •••
والمشهور عن الصابئة أنهم يوقرون الكعبة في مكة، ويعتقدون أنها بناء هرمس أو إدريس عليه السلام، وأنها بيت زحل أعلى الكواكب السيارة، وينقل عنهم عارفوهم أنهم قرءوا صفة محمد عليه السلام في كتبهم، ويسمونه عندهم ملك العرب؛ لأن الشائع فيهم أنهم لا يؤمنون بالأنبياء، إلا فرقة واحدة تذكر شيثا وإدريس وإبراهيم ويحيى المغتسل، ويحسبونهم تارة من الأنبياء، وتارة من عباد الله الخلص الذين وصلوا بالرياضة والعبادة إلى مقام الزلفى والإلهام.
وقد كان الباحثون يعجبون لتنويه القرآن الكريم بهذه الملة مع قلة عددها، وخفاء أمرها، ولكن الدراسات الحديثة بينت للباحثين العصريين شأن هذه الملة في دراسات الأديان كافة، فعادوا يبحثون عن عقائدها الآن وعقائدها في عصر الدعوة الإسلامية، وثبت لهم أنها تؤمن بالله واليوم الآخر، وتؤمن بالحساب والعقاب، وأن الأبرار يذهبون بعد الموت إلى عالم النور «آلمي دنهورو»، وأن المذنبين يذهبون إلى عالم الظلام «آلمي دهشوخا»، ويلبثون فيه زمنا على حسب ذنوبهم، ثم ينقلون منه إلى عالم النور.
ولهم كتاب يسمونه «كنزة »، ولعله من مادة الكنز التي تفيد معنى النفاسة والكتمان؛ لأنهم يقدسونه ويخفونه فلا يطلعون أحدا على أسراره.
إلا أن المتفق عليه أن اللغة التي كتب بها كتاب الكنزة وغيره من الكتب المقدسة عندهم هي لغة سامية الأصل قريبة من السريانية، وتكفي نظرة في مصطلحاتهم للجزم بهذه الصلة الوثيقة بين لغتهم واللغة العربية الحديثة، فضلا عن القديمة المهجورة. •••
فمن كلماتهم ومصطلحاتهم «آلمي» بمعنى عالم، و«شماس» بمعنى شمس، و«هي» بمعنى حي، و«روحايا» بمعنى روح، و«موشيهه» بمعنى المسيح، و«يهيه» بمعنى يحيى، و«قدموي» بمعنى القديم، وحران «سفلايي» بمعنى السفلي، و«ترميد» بمعنى تلميذ، و«أسفر» بمعنى سفر، «تنيائي» بمعنى الثاني، و«تليثائي» بمعنى الثالث، واسم الصابئة نفسه على ما يقول بعضهم مأخوذ من السابحة؛ سموا به لكثرة الاغتسال في شعائرهم، وملازمتهم شواطئ الأنهار من أجل ذلك، ولكنهم يطلقون على ملتهم اسم «مندالي» ولا يعرف من أين مأخذه القديم، واشتقاق اسمهم من السبح أرجح من نسبة الاسم إلى السبأوث العبرية بمعنى الجنود - جنود السماء - أي الكواكب، التي اشتهروا بعبادتها.
والأبجدية عندهم قريبة من أبجدية حساب الجمل على حسب ترتيبها في أبجد هوز حطي كلمن إلخ؛ وهي: «آ، با، كا، دا، ها، وا، زا، ها، طا، ها، يا، كا، لا، ما، نا، سا، أي، يا، صا، قا، را، شا، تا.»
ومن هذه الحروف ما يقارب مخارج الحروف التي تقابله في اللغة الفارسية؛ لأنهم تعودوا نطقها منذ زمن قديم.
ولم يتيسر حتى اليوم كشف الستار عن بواطن معتقداتهم وشعائرهم؛ لأنهم يصطنعون التقية ويوجبونها، ومن ذاك أنهم يحرمون الصيام باطنا كما اشتهر عنهم، ولكنهم يصومون جهرا، ويروي ابن النديم في الفهرست أنهم يصومون ثلاثين يوما مفرقة على أشهر السنة، وقد ينتفلون بصيام أيام النسيء الخمسة، ويروى عنهم أيضا أنهم يصومون خمسة أسابيع يأكلون فيها الطعام نهارا وليلا، ويجتنبون أكل اللحوم المباحة لهم، وهي غير ذات الذنب، ويقال: إن الصيام بنوعيه قديم عندهم يرجع إلى أيام البابليين.
وقد ذكرهم القرآن الكريم غير مرة ، وجاء في سورة البقرة: (62):
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
ولا نعلم اليوم على التحقيق تفصيل عبادتهم في أيام الدعوة الإسلامية، ولكنهم كانوا ولا يزالون ينزهون الله غاية التنزيه ويقولون: إن الكواكب ملائكة نورانية. ولم تكن لهم هياكل ولا أصنام عند ظهور الإسلام، ولا بد عندهم من مخلوق متوسط بين الروحانية والمادية يهدي الناس إلى الحق؛ لأن الروحانيات مخلوقة من كلام الله جل وعلا، دعاها بأسمائها فوجدت، ولا يصل كلام الله إلى الناس إلا بوساطة مخلوق بين النور والتراب، ترفعه الرياضة والهداية، وتؤثره نعمة الله.
وأقرب ما نشبه به هذه العقيدة أنها كالحوض الذي تصب فيه مسارب الماء من كل مورد، فإذا أخذت ماءه فحللته وجدت فيه أثرا من كل مسرب، ولكنها توجد فيه على امتزاج، ولا بد من الجهد لتصفيتها والرجوع بكل جزء من أجزائها إلى ينبوعه الذي صدر منه في أصله البعيد.
وهكذا العقيدة الصابئية في امتزاج عناصرها وعلاقة كل عنصر منها بالعناصر الأخرى، ولكنها على هذا الامتزاج مهمة جدا في البحث عن تلك العقائد، وبخاصة عقيدة الخليل.
فهي مهمة من وجهة المكان؛ لأنها قديمة العلاقة بكل مكان تعلقت به سيرته عليه السلام، من جنوب الفرات إلى شماله، إلى بلاد السريان، إلى بلاد النبطية من شمال الحجاز.
وهي مهمة من وجهة زمانها؛ لأن لغتها المقدسة تشير إلى زمان متوسط بين اللغات القديمة المهجورة واللغة السريانية الحديثة، ولم تكن لغة إبراهيم سريانية حديثة كالتي بقيت إلى الزمن الأخير، ولم تكن إحدى اللغات المهجورة التي يجمع المؤرخون موادها مبعثرة متفرقة، ولا يفهمون مفرداتها وتراكيبها وقواعدها؛ فإن تلك اللغات المهجورة قد انقطعت صلتها بمن بعدها على خلاف لغة الخليل.
فإذا أشارت لغة الصابئة إلى زمن متوسط بين اللغات المهجورة واللغات السامية المتأخرة، فهي إحدى القرائن التي يستعان بها على تعيين زمان الخليل. •••
وهي مهمة من جهة موضوعها؛ لأنها ترينا ملتقى التوحيد القديم والوثنية القديمة، وفيها بقايا الاصطدام بين العقيدتين، وقد يكون مدار الاختلاف بين عقيدة الخليل ومخالفيه حول هذا المصطدم، فإن بقايا التنازع بين المعتقدات ظاهرة في العقائد الصابئية يكاد بعضها أن يكون ردا على البعض الآخر، فلا وثنية ولا إيمان بالكواكب من جهة، ولا خلاص في الوقت نفسه من الوثنية والإيمان بالكواكب على صورة من الصور، ولعل العقيدة الصابئية - كما بقيت - خليط مجتمع من الجانبين بعد هجرة إبراهيم وشيعته من وطنهم القديم.
ومن هنا كانت نحلة الصابئة مهمة في دراسة الأديان على العموم، ودراسة دين إبراهيم على الخصوص، وكان لها في ذلك شأن لا يناسب عددها القليل وعزلتها التي فرضتها على نفسها وفرضتها عليها أحداث الأيام.
الفصل السابع
مصادر التاريخ القديم
لم يبق من المراجع القديمة ما يضاف إلى الأبواب السابقة غير أقوال المؤرخين الأقدمين.
وهؤلاء المؤرخون الأقدمون ينتمون إلى الأديان الكتابية الثلاثة، ويعول كل منهم على كتب دينه، فلا يناقضها، وقد يزيد عليها ما ينطوي فيها ولا ينفيها، وقد يأتي في أخبارهم ما يخالف كتب الأديان الأخرى، ويزيد عليها شيئا لا يسلمه من يعتقدونها، ولكن التواريخ القديمة على العموم لم تعتمد على مصدر غير كتب الدين وتفسيراتها في كل ملة.
وليس المقام هنا متسعا للإفاضة في النقل من كتب المؤرخين الأقدمين، فنحن نختار مؤرخا من كل ملة يقتدي به المقتدون في بابه، ونكتفي بيوسيفوس من مؤرخي اليهود، وأبي الفرج ابن العبري من مؤرخي المسيحيين، وأبي الفداء من مؤرخي المسلمين. (1) تاريخ يوسيفوس «سأتكلم الآن عن العبرانيين ...
فالج بن عابر ولد له رعوس، وولد لرعوس سيروج، وولد لسيروج ناخور، وولد لناخور ثيروس
Therrus ،
1
وهو أبو إبراهيم العاشر من سلالة نوح، ومولده في سنة 992 بعد الطوفان. ... وكان لإبرهيم أخوان: ناخور وآران.
وولد لآران «حاران» لوط وبنتان؛ هما: سارة وملكة، ومات في بلاد الكلدان في بلدة تسمى أور الكلدانيين، وقبره هناك يرى إلى اليوم ... وتزوج ناخور بنت أخيه ملكة، وتزوج إبراهيم بنت أخيه سارة، وكره ثيروس المقام بأور حيث فقد ابنه المحزون عليه حاران، فهاجر منها إلى شاران «حران» بالعراق، حيث مات ثيروس، وله من العمر مائتا سنة وخمس سنوات؛ إذ كان عمر الإنسان قد قصر، ولم يزل يقصر إلى عهد موسى، فأصبحت غايته مائة وعشرين سنة، وهو عمر موسى.
ولد لناخور ثمانية من زوجته ملكة؛ وهم: عز، وبوغر، وبثوئيل، وخزام، وعنرو، وآدلفاس، وآدفاس، وثبوئيل، وهؤلاء هم أبناؤه الشرعيون من زوجته ملكة، أما أبناؤه الآخرون فهم: طباي، وجدام، وطاو، وماخاس من جاريته روما.
وولد لبثوئيل بنت اسمها رفقة، وولد اسمه لابان ...
ولما لم يكن لإبراهيم ولد شرعي تبنى لوطا، ابن أخيه حاران وأخا زوجته سارة، وترك بلاد الكلدانيين وهو في الخامسة والسبعين؛ ليذهب إلى كنعان حيث أمره الله، وحيث ترك ذريته من بعده.
وكان إبراهيم رجلا متيقظ الذهن في جميع الأمور، مقنعا لمن يسمعه، غير مخطئ في فهمه واستدلاله، فأدرك من حقائق الفضائل ما لم يدركه سائر البشر، واعتزم أن يصحح الأفكار التي شاعت بينهم عن الله ويغيرها، فكان من ثم أول من اجترأ على المناداة بأن الله خالق الكون واحد، وأنه إذا وجد كائن آخر ينفع الناس فإنما يفعل ذلك بإذنه، لا يفعله بقدرة من عنده.
وقد انتهى إلى ذلك من مراقبته لما يطرأ على الأرض والماء، والشمس والقمر، وسائر الأجرام السماوية من عوارض التغير والتقلب، أو لاح له أن هذه الأجرام لو كانت لها مشيئة لحكمت على نفسها، فأما وهي لا تملك نفسها، فكل ما تصنعه وكل ما ينفعنا من صنيعها؛ فليس من عندها، بل من عند من يحكمها، وهو الجدير دون سواه بالشكر والطاعة منا ...
والواقع أن هذه الأفكار هي التي أثارت عليه الكلدانيين والعراقيين، فرأى من الخير بمشيئة الله ومعونته أن يرحل إلى أرض كنعان، وهناك استقر وبنى لله مذبحا، وقدم عليه القربان.
ويذكر المؤرخ برسوس أبانا إبراهيم ولا يسميه حيث يقول: إنه في الجيل العاشر بعد الطوفان عاش بين الكلدانيين رجل صدق متبحر في العلوم السماوية ... وزاد المؤرخ هكتاتوس
2
على ذلك أنه ألف كتابا عنه، وقال نقولا الدمشقي في الكتاب الرابع من تاريخه: إن إبراميس
3
حكم في دمشق، وكان مغيرا قدم من أرض بابل من البلاد التي تسمى بلاد الكلدانيين، ولم يمض عليه زمن طويل حتى هجرها وقومه إلى أرض كنعان - وتسمى اليوم يهودا - وفيها ذريته الذين سأكتب عنهم في كتاب آخر، ولا يزال اسم إبرام مشهورا في إقليم دمشق حيث تسمى إحدى القرى بمسكن إبرام.
ثم مضى زمن وأصاب كنعان القحط، وسمع إبراهيم برخاء المصريين، فاعتزم الهجرة إلى مصر ليصيب من خيراتها، ويسمع ما يقوله أحبارها في أمر الله، وفي نفسه إذا علم من كلامهم ما هو خير مما عنده أن يتقبله، أو يرى أن عقيدته خير مما عندهم فيدعوهم إليها.
وأخذ سارة معه، وخاف ولع المصريين بالنساء، وأن يغصبه عليها الملك، ويقتله من أجلها لجمالها، فأوصاها أن تقول: إنها أخته، وحدث بعد وصوله إلى مصر كل ما توقعه، فتسامع الناس بجمال زوجته، ولم يقنع فرواثيس
4
ملك المصريين بالسماع، فهم بأخذها لولا أن الله أحبط جريمته بما فشا في مصر من الوباء والقلاقل، ثم قرب الملك قرابينه ليعلم حقيقة البلاء، فقال له الأحبار: إن البلاء من غضب الله؛ لأنه نوى في نفسه أن يغتصب امرأة رجل غريب ...
ولما بلغ منه الرعب سأل سارة: من هي؟ ومن هو الرجل الذي جاءت به معها؟ فاعتذر لإبراهيم حين علم جلية الخبر وقال له: إنه لم يتعلق بها إلا لظنه أنها أخته لا زوجته، وإنما أراد أن يبني بها ولم يرد أن يغتصبها في نزوة من نزوات هواه، ثم أغدق على إبراهيم ثروة جزيلة،
5
وطفق إبراهيم يباحث علماء مصر، وتزداد شهرته بالعلم والفضيلة.
ولما رأى إبراهيم أن المصريين متشبثون بعادات شتى يخالف بعضهم بعضا من جرائها، ويعادي بعضهم بعضا لأجلها؛ جعل يناقشهم فيها كل فريق على حدة، ويبدي لهم جميعا أنها ليست على شيء من الحق، ويحل بذلك منهم محل الإعجاب، فيعلمون أنه لم يكن على نصيب وافر من الفطنة وحسب، بل كان كذلك عظيم القدرة على إقناع سامعيه في كل موضوع تناوله ببحثه ، وقد أطلعهم على علم الحساب وقوانين الفلك، ولم يكن أحد من المصريين على علم بها قبل مقدم إبراهيم، وإنما جاءت من الكلدان إلى مصر، ثم من مصر إلى الإغريق.
ثم قسم الأرض بينه وبين لوط بعد عودته إلى أرض كنعان، وكان رعاتهم يتنازعون المرعى في مكان واحد، فجعل لوطا يختار ما يشاء، ورضي هو بما تركه له من منخفض الأرض في تابرو - حبرون - وهي أقدم من مدينة تانيس بسبع سنوات.
6
أما لوط فاختار السهل إلى ناحية نهر الأردن غير بعيد من مدينة سدوم، وكانت مدينة عامرة قضى الله عليها بالخراب لما سنبينه في موضعه.
وكانت سدوم مزدهرة في العصر الذي سيطر فيه الآشوريون على آسيا، وغزرت ثروتها، وتكاثر عدد شبابها، وحكم أرضها خمسة ملوك؛ هم: بالاس، وبالياس، وسينابان، وسنفبر، وملك البالان، كل منهم في إقليمه. وزحف الآشوريون على هؤلاء الملوك الخمسة بعد أن قسموا جيوشهم إلى أربعة أقسام، يقود كل جيش منها قائد غير قواد الجيوش الأخرى، ثم ضربوا عليهم الحصار، ودارت المعركة بينهم، وفرض الآشوريون جزية على الملوك السدوميين.
وخضع هؤلاء الملوك اثنتي عشرة سنة يؤدون الجزية التي فرضت عليهم، ولكنهم ثاروا في السنة الثالثة عشرة، فجرد عليهم الآشوريون جيشا بقيادة أمرا بسيدس وأريوخ وقدر لعومر وثدال، وعاث هؤلاء في سورية جميعا، وأخضعوا سلالة الجبارين، ثم بلغوا سدوم وعسكروا في الوادي المعروف بحفرة القار؛ إذ كان الوادي كثير الحفر حين كانت سدوم عامرة، ثم امتلأت الحفر بالماء بعد تدميرها، وأصبحت بحيرة تسمى بالأسفلتية. وسأعود إلى خبر هذه البحيرة قريبا.
واشتبك السدوميون والآشوريون في قتال عنيف هلك فيه كثيرون، ووقع الباقون من السدوميين في الأسر، وكان بين الأسرى لوط وقومه؛ لأنهم حالفوا السدوميين.
وسمع إبراهيم بالنكبة فداخله الخوف على قريبه لوط، والإشفاق على أصحابه وجيرانه السدوميين، واعتزم التعجيل بإنقاذهم، وخرج في الليلة الخامسة فانقض على الآشوريين بالقرب من مدينة دان على إحدى شعبتي نهر الأردن، وفاجأهم قبل أن يستعدوا بالسلاح، وذبح بعضهم وهم على فراشهم جاهلين بمصيرهم، وهرب الآخرون الذين استلقوا على الفراش سكارى ولما يستغرقوا في الرقاد، فجد إبراهيم في اقتفاء أثرهم حتى بلغ «أوبه» بأرض الدمشقيين، ودل بذلك على أن النصر لا يتوقف على كثرة الأيدي، وأن الغيرة والصلابة تغلبان العدد الكثير؛ لأنه انتصر بثلاثمائة وثمانية عشر من عبيده وثلاثة من أصحابه على ذلك الجمع الكبير، وأرسل بقيتهم ناجين بالخزي إلى ديارهم.
ولما خلص إبراهيم السدوميين ومعهم قريبه لوط عاد في سلام، ولقيه ملك سدوم في المكان المسمى بالوادي الملكي، واستقبله هناك ملك سليمي ملكي صادق، ومعنى هذا الاسم: الملك الصديق، وهو اسم اشتهر به بين الجميع، فاختاروه كاهنا لله، وأصبحت سليمي هذه المكان الذي عرف بعد ذلك باسم «أورشليم».
ورحب ملكي صادق بإبراهيم، ووسعه ومن معه في ضيافته، وجعل في أثناء الضيافة يثني على إبراهيم، ويحمد الله الذي أسلم أعداءه إلى يديه، فقدم له إبراهيم عندئذ عشر الغنائم، فقبل الهدية. أما ملك سدوم فقد رجا إبراهيم أن يستبقي له كل الغنائم، ولم يطلب غير رعيته التي أسرها الآشوريون، فأبى إبراهيم أن يأخذ شيئا غير طعام عبيده، ووهب بعض الغنائم لشركائه في القتال، وأولهم أسخون، والآخران عنر ومامبر.
ورضي الله عن هذه المأثرة منه وقال له: إنه لن يضيع جزاءه على هذا العمل الطيب، فأجاب إبراهيم: وأي شيء يسرني من هذا الجزاء إن لم يكن لي وريث بعدي؟ فأنبأه الله أنه سيعقب ولدا تبلغ ذريته عدد النجوم في كثرتها، فقرب إبراهيم إلى الله قربانا حسب أمره عند سماعه بهذه البشرى، وكان القربان على هذا النحو؛ إذ أخذ عجلا ابن ثلاث سنوات، وحملا ابن ثلاث سنوات كذلك، ويمامة وحمامة، وذبحها وشطر كلا منها شطرين ما عدا الطير، وقبل أن يقام المذبح، ولما تزل جوارح الطير تحوم على الذبائح، متعطشة الدم، سمع صوتا إلهيا يقول له: إن ذريته ستلقى الشر من جيرة مصر أربعمائة سنة، ولكنهم بعد العذاب يغلبون عدوهم، ويقهرون الكنعانيين في القتال، ويملكون أرضهم ومدائنهم ...
وكان إبراهيم يعيش على مقربة من بلوطة عجيج، غير بعيد في أرض كنعان من مدينة الحبرونيين، حيث أخزنه عقم زوجته فصلى لله كي يرزقه ولدا ذكرا، وأمره الله أن يوقن من ذلك كما أيقن بالخير من طاعته لأمر الله الذي أمره بالهجرة من العراق.
وأحضرت سارة بأمر الله إلى فراشه إحدى جواريها المصريات المسماة هاجر عسى أن يرزق منها ذرية، فلما حملت اجترأت على إهانة سارة، واتخذت سمة الملكات كأنما تصير حوزة إبراهيم كلها إلى ابنها الذي لم يولد، فأسلمها إبراهيم إلى سارة تؤدبها، ولم تصبر هاجر على مذلتها فهربت، ودعت إلى الله، وأمرها أن تعود إلى سيدها وسيدتها، ووعدها أن ترضى عن عيشها إذا هي غضت من كبريائها؛ لأنها لقيت ما لقيته من جراء الاستطالة على مولاتها، وأنها إذا عصت أمر ربها هلكت، ولكنها إذا عادت إلى البيت صارت أما لولد يملك تلك الأرض، فأطاعت وعادت إلى سيدها وسيدتها فسامحاها، ووضعت بعد قليل ولدا سمته إسماعيل؛ أي المسموع من الله؛ لأن الله استمع لصلاتها.
وكان إبراهيم قد بلغ السادسة والثمانين حين ولد له هذا الولد، وبلغ التاسعة والتسعين حين تراءى له الرب وبشره بولد يرزقه من سارة، آمرا له أن يسميه إسحاق، وموحيا إليه أن أمما عظيمة وملوكا سيخرجون من نسله، وأنهم يستولون بالحرب على أرض كنعان كلها من صيدا إلى مصر، وعليهم أن يختتنوا لكيلا يختلطوا بالأمم الأخرى، وأن يكون الختان في اليوم الثاني بعد الولادة. وسأبين فيما بعد أسباب عادة الختان عندنا ...
وسأل إبراهيم عن إسماعيل: هل يعيش؟ فأنبأه الله أنه سيعيش ويعمر ويصبح أبا لأمم عظيمة، فشكر إبراهيم لربه هذه النعم، واختتن هو وآل بيته جميعا وإسماعيل الذي كان يومئذ في الثالثة عشرة، وكان أبوه في التاسعة والتسعين ...»
ثم مضى يوسيفوس يروي قصة سدوم، ونجاة لوط إلى صغير التي سميت بذلك لصغرها، وأن بنتي لوط أشفقتا من هلاك الجنس البشري فولدتا لأبيهما موآب، ومعناها من الأب، وعمان، ومعناه ابن السلالة، ومن ذريتهما أبناء سورية الشرقية والجنوبية.
ثم روى يوسيفوس مولد إسحاق وختانه في اليوم الثامن، وأن العرب يؤجلون الختان إلى السنة الثالثة عشرة كما اختتن أبوهم إسماعيل، وأن سارة عادت فأصرت على إقصاء هاجر وابنها، فخرجا إلى البرية، وكاد الغلام أن يموت عطشا تحت شجرة من أشجار التنوب، لولا أن هدى الملك من الرب هاجر أمه إلى ينبوع ماء قريب.
قال يوسيفوس: ولما بلغ الصبي مبلغ الرجال زوجته أمه مصرية من قومها، فولدت له اثني عشر ولدا؛ هم: نبايوث، وقدار، وعبدئيل، ومبسام، ومشمع، وأدوم، وماسم، وقدوم، وتيمان، وجثور، ونافش، وقدماس، واستولى هؤلاء على الأرض كلها من العراق إلى البحر الأحمر، وسموا بالنباتيين «النبطيين»، وهم الذين سمي باسمهم جميع أمة العرب وقبائلها؛ إكراما لشأنهم ولشهرة إبراهيم.
ثم بنى إبراهيم بعد ذلك بقطورة، وولد له منها ستة أبناء أقوياء على العمل، سرعاء في الفهم؛ وهم: زمبران، وجزار، ومدان، ومديان، ولوشباق، وسوس، فأرسلهم إبراهيم وأبناءهم يلتمسون لهم منازل على التروجلوديتس
Troglodytis ، وفي بلاد العربية السعيدة التي تمتد إلى البحر الأحمر، ويقال: إن أفرون بن مدان جرد حملة على لوبيا واحتلها، وإن أبناء أبنائه أقاموا هناك وسموا الأرض باسم أفريقا.
ثم ختم يوسيفوس قصة إبراهيم بنبأ وفاته، وقال: إن إسحاق وإسماعيل دفناه إلى جوار سارة في مقبرة حبرون، وكان قد روى في ختام قصة سارة أن الكنعانيين تبرعوا بدفنها على النفقة العامة، ولكن إبراهيم اشترى المدفن من إخرايم بأربعمائة مثقال. (2) ابن العبري
وإذا كان يوسيفوس مثلا للمؤرخ القديم من الوجهة الإسرائيلية؛ فابن العبري أبو الفرج بن هارون، صاحب مختصر الدول، المتوفى سنة 1286، قد يكون المثل الوحيد للمؤرخ القديم من الوجهة المسيحية في هذا الموضوع؛ لأنه إمام من أئمة الكنيسة السريانية التي ينتشر أتباعها في مواطن إبراهيم، ويحفظون أخباره التقليدية منذ القرن الأول للميلاد.
قال في كلامه عن دولة الأولياء - أي الآباء - في بني إسرائيل:
ومن أئمتنا باسليوس وأفريم يزعمان أن من آدم إلى عابر هذا كانت لغة الناس واحدة، وهي السريانية، وبها كلم الله آدم.
وتنقسم إلى ثلاث لغات: أفصحها الآرامية، وهي لغة أهل الرها وحران والشام الخارجة، وبعدها الفلسطينية، وهي لغة أهل دمشق وجبل لبنان وباقي الشام الداخلة، واسمها الكلدانية النبطية، وهي لغة أهل جبال أثور «آشور» وسواد العراق. ويعقوب الرهاوي يقول: إن اللغة لم تزل عبرية إلى أن تبلبلت الألسن ببابل.
وفالغ بن عامر ولد له أرعو وعمره على الرأي السبعيني
7
مائة وثلاثون سنة، وعلى رأي اليهود ثلاثون سنة، وجميع أيامه ثلاثمائة وثلاث وأربعون سنة ...
وفي سنة مائة وأربعين لفالغ فلغت الأرض، أي قسمت قسمة ثانية بين ولد نوح، فصار لبني سام وسط المعمورة: فلسطين والشام آشور وسامرة وبابل وفارس والحجاز، ولبني حام التيمن كله، أي الجنوب: أفريقية والزنج ومصر والنوبة والحبشة والسند والهند، ولبني يافث الجربيا، أي الشمال: الأندلس والإفرنجة وبلاد اليونانيين والصقالبة والبلغار والترك والأرمن. وبعد وفاة فالغ ثارت الفتن بين بنيه وبين يقطان أخيه، وشرع الناس في تشييد الحصون.
وأرعو بن فالغ ولد له ساروغ وعمره على الرأي السبعيني مائة واثنان وثلاثون، وعلى رأي اليهود اثنتان وثلاثون سنة، وجميع أيامه ثلاثمائة وتسع وثلاثون سنة.
وفي سبعين سنة لأرعو قال الناس بعضهم لبعض: هلموا نضرب لبنا، ونحرق آجرا، ونبني صرحا شامخا في علو السماء، ويكون لنا ذكر كي لا نتبدد على وجه الأرض، فلما جدوا في ذلك بأرض شنعار، وهي السامرة، ونمروذ بن كوش قات رافعي الصرح بصيده - أي جلب لهم القوت - وهو أول ملك قام بأرض بابل، وهو الذي رأى شبه إكليل في السماء واتخذ مثله ووضعه على رأسه، فقيل: إن إكليله نزل من السماء ... قال الله تعالى: هذا ابتداء عملهم، ولا يعجزون عن شيء يهتمون به، سوف أفرق لغاتهم لئلا يعرف أحدهم ما يقول الآخر. فبدد الله شملهم على وجه الأرض، وأرسل رياحا عاصفة فهدمت الصرح، ومات فيه نمروذ الجبار، وتبلبلت لغات الآدميين، ولذلك دعي اسم ذلك الموضع بابل ... وبنى نمروذ ثلاث مدن: أرخ وخليليا - أي الرها ونصيبين - والمدائن.
وساروغ بن أرغو ولد له ناحور وعمره على الرأي السبعيني تسع وسبعون سنة، وعلى رأي اليهود تسع وعشرون سنة، وجميع أيامه مائتان وسنة واحدة، وفي خمس وعشرين سنة من عمره كان جهاد أيوب الصديق على رأي أروذ الكنعاني، وبنى أرمونيس ملك كنعان سدوم وغامورا على اسم ولديه، ومدينة صاعر على اسم أمهما.
وترح بن ناحور ولد له إبراهيم، وعمره - على الرأيين جميعا - سبعون سنة، وجميع أيامه مائتان وخمس وسبعون سنة، ومات بمدينة حران، وبنى مورفوس ملك فلسطين مدينة دمشق قبل ميلاد إبراهيم بعشرين سنة، ويوسيفوس يقول: إن عوض بن آرام بناها، ومن ها هنا يتفق التاريخان السبعيني والعبراني.
وإبراهيم بن ترح ولد له إسحاق وعمره مائة سنة، وجميع أيامه مائة وخمس وسبعون سنة، ولما أتت عليه خمس عشرة سنة استجابة الله في العقاعق - أي الطيور - التي كانت تفسد في أرض الكلدانيين وتسحق زروعهم ... وأحرق إبراهيم هيكل الأصنام بقرية الكلدانيين، ودخل هاران أخوه ليطفئ النار فاحترق، ولذلك فر إبراهيم وعمره ستون سنة مع أبيه ترح، وناحور أخيه، ولوط بن هاران أخيه المحترق، إلى مدينة حران، وسكنها أربع عشرة سنة.
ثم خاطبه الله قائلا: انتقل عن هذه الديار التي هي ديار آبائك إلى حيث آمرك، فأخذ سارة امرأته ولوط ابن أخيه وصعد إلى أرض كنعان، وحارب ملوك كدرلعمر وقهرهم، وفي عودة من المحاربة اجتمع بملكيزدق الكاهن الأعظم، وخر لوجهه بين يديه، وأعطاه عشرا من السلب، وباركه ملكيزدق ...
وفي سنة خمس وثمانين من عمره، وعده الله أن يجعل نسله كعدد الكواكب في السماء، وذريته كرمل البحار، فوثق إبراهيم بالله حق الثقة.
وفي هذه السنة دخل إلى مصر، ووشي بحسن سارة امرأته إلى فرعون، فسأل إبراهيم عنها فقال: هي أختي من أبي لا من أمي، ولم يكذب بقوله هذا لأنها كانت ابنة عمه، فأقام جدهما مقام أبيهما.
فاحتازها فرعون إلى نفسه مختليا حتى تحقق أنها زوجته، فردها إليه مع هدايا جزيلة، من جملتها هاجر المصرية أمة سارة، وتقدم إليه بالانتزاح من بلده خوفا من أن يهجس في صدره هاجس سوء ثانيا.
ولأنه لم يكن لإبراهيم ولد من امرأته سارة سمحت بجاريتها هاجر، فوطئها إبراهيم وولدت له إسماعيل، واستهانت هاجر بسارة مولاتها شامخة عليها بسبب ولدها، فأزاحتها سارة من عندها إلى القفر بغيظة منها، فتراءى ملك الرب لهاجر قائلا: لا تيأسي من رحمة ربك؛ فإن الله قد بارك على الصبي حين يخاطب أباه إبراهيم، وكان خاتمة البركة باللغة السريانية هكذا: وأكبرته طب طب، وأعظمته جدا جدا.
أقول قد اتفق في هذه الألفاظ سر عجيب لاح في عصرنا، وهو أنا إذا جمعنا حروفها بحساب الجمل كان الحاصل ستمائة وستا وخمسين سنة، وهي المدة من الهجرة إلى السنة التي قتل فيها آخر الخلفاء العباسيين، وزوال الملك المعظم جدا عن آل إسماعيل.
وبعد مائة سنة مضت من عمر إبراهيم ولد له إسحاق من سارة، ولما حصل لإسحاق تسع عشرة سنة أصعده إبراهيم لجبل نابو؛ ليضحي به ضحية لله تعالى، ففداه الله بحمل مأخوذ من الشجرة وأنقذه ...
والحمل مثال لسيدنا يسوع المسيح له المجد الذي فدى العالم بنفسه، ولذلك قال في إنجيله المقدس: إن إبراهيم كان يرجو أن يشاهد يومي، فشاهد وسر، وقيل في تلك السنة: أتم ملكيزدق بناء أورشليم.
وفي ثماني وثلاثين سنة من عمر إسحاق، درجت سارة أمه وعمرها مائة وسبع وعشرون سنة، وتزوج إبراهيم قنطورا ابنة ملك الترك.
ولما بلغ إسحاق أربعين سنة نزل اليعازر - وليد بيت إبراهيم - إلى حران، وجاء برفقة زوجة إسحاق، ولما توفي إبراهيم دفن إلى جانب قبر سارة زوجته في المغارة المضاعفة التي ابتاعها من عفرون الحيثاني خوفا من عود الطوفان ... (3) أبو الفداء
ونختار أبا الفداء من المؤرخين الإسلاميين؛ لأنه كتب في القرن الثامن، واعتمد على كبار المؤرخين الموسوعيين من قبله، وقضى أيامه على صلة بأقطار العراق العليا و«آشور» القديمة، وعلى علم بمراجع أصحاب السير فيها، فليس أقدر منه على تلخيص تاريخ إبراهيم والتعقيب عليه من مصادره في زمنه ...
قال عن إبراهيم عليه السلام: «هو إبراهيم بن تارح، وهو آزر بن ناحور بن ساروغ بن رعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقد أسقط ذكر قينان بن أرفخشذ من عمود النسب، قيل بسبب أنه كان ساحرا فأسقطوه من الذكر، وقالوا شالح بن أرفخشذ، وهو بالحقيقة شالح بن قينان بن أرفخشذ، فاعلم ذلك ...
وولد إبراهيم بالأهواز، وقيل: ببابل، وهي العراق، وكان آزر أبو إبراهيم يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم لبيعها، فكان إبراهيم يقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه! ثم لما أمر الله إبراهيم أن يدعو قومه إلى التوحيد دعا أباه فلم يجبه، ودعا قومه، فلما فشا أمره واتصل بنمروذ بن كوش - وهو ملك تلك البلاد، وكان نمروذ عاملا على سواد العراق وما اتصل به للضحاك، وقيل: بل كان نمروذ ملكا مستقلا برأسه - فأخذ نمروذ إبراهيم الخليل ورماه في نار عظيمة، فكانت النار عليه بردا وسلاما، وخرج إبراهيم من النار بعد أيام، ثم آمن به رجال من قومه على خوف من نمروذ، وآمنت به سارة وهي ابنة عمه هاران.
ثم إن إبراهيم ومن آمن معه وأباه على كفره فارقوا قومهم وهاجروا إلى حران، وأقاموا بها مدة، ثم سار إبراهيم إلى مصر وصاحبها فرعون، وقيل: كان اسمه سنان بن علوان، وقيل: طوليس، فذكر جمال سارة لفرعون - وهو طوليس المذكور - فأحضر سارة إليه وسأل إبراهيم عنها فقال: هذه أختي. يعني في الإسلام، فهم فرعون المذكور بها، فأيبس الله يديه ورجليه، فلما تخلى عنها أطلقه الله تعالى، ثم هم بها فجرى له كذلك، فأطلق سارة وقال: لا ينبغي لهذه أن تخدم نفسها! ووهبها هاجر جارية لها، فأخذتها وجاءت إلى إبراهيم، ثم سار إبراهيم من مصر إلى الشام، فأقام بين الرملة وإيليا، وكانت سارة لا تلد، فوهبت إبراهيم هاجر، وواقعها إبراهيم فولدت إسماعيل، ومعنى إبراهيم بالعبراني مطيع الله.
وكانت ولادة إسماعيل لمضي ست وثمانين سنة من عمر إبراهيم، فحزنت سارة لذلك، فوهبها الله إسحاق، وولدته سارة ولها تسعون سنة.
ثم غارت سارة من هاجر وابنها إسماعيل، وقالت: ابن الأمة لا يرث مع ابني، وطلبت من إبراهيم أن يخرجهما عنها، فأخذ إبراهيم هاجر وابنها وسار بهما إلى الحجاز وتركهما بمكة... وبقي إسماعيل بها وتزوج من جرهم امرأة ...
وماتت هاجر بمكة، وقدم إليه أبوه إبراهيم وبنيا الكعبة، وهي بيت الله الحرام، ثم أمر إبراهيم أن يذبح ولده. وقد اختلف في الذبيح: هل هو إسحاق أم إسماعيل؟ وفداه الله بكبش.
وكان إبراهيم في أواخر أيام بيوراسب المسمى بالضحاك، وفي أوائل ملك أفريدون، وكان النمروذ عاملا له حسب ما ذكرناه.
وكان لإبراهيم أخوان؛ وهما: هاران وناحور، ولدا آزر.
فهاران أولد لوطا، وأما ناحور فأولد بتويل، وبتويل أولد لابان، ولابان أولد ليا وراحيل زوجتي يعقوب. ومن يزعم أن الذبيح إسحاق يقول: كان موضع الذبح بالشام على ميلين من إيليا، وهي بيت المقدس.
ومن يقول إنه إسماعيل يقول: إن ذلك كان بمكة.
وقد اختلف في الأمور التي ابتلى الله إبراهيم بها، فقيل هي هجرته عن وطنه، والختان، وذبح ابنه، وقيل غير ذلك.
وفي أيام إبراهيم توفيت زوجته سارة بعد وفاة هاجر - وفي ذلك خلاف - وتزوج إبراهيم بعد موت سارة امرأة من الكنعانيين، وولدت من إبراهيم ستة نفر، وكان جملة أولاد إبراهيم ثمانية: إسماعيل، وإسحاق، وستة من الكنعانية على خلاف في ذلك ...» •••
ثم انتقل المؤرخ إلى سيرة إسماعيل وإسحاق، فقال عن إسماعيل: «إنه ولد لإبراهيم لما كان لإبراهيم من العمر ست وثلاثون سنة، ولما صار لإسماعيل ثلاث عشرة سنة تطهر هو وإبراهيم، ولما صار لإبراهيم مائة سنة وولد له إسحاق؛ أخرج إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة بسبب غيرة سارة منها، وقولها: أخرج إسماعيل وأمه؛ لأن ابن الأمة لا يرث مع ابني. وسكن مكة مع إسماعيل من العرب قبائل جرهم، وكانوا قبله بالقرب من مكة، فلما سكنها إسماعيل اختلطوا به، وتزوج إسماعيل امرأة من جرهم ورزق منها اثني عشر ولدا.
ولما أمر الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببناء الكعبة - وهو البيت الحرام - سار من الشام وقدم على ابنه إسماعيل بمكة، وقال: يا إسماعيل، إن الله تعالى أمرني أن أبني له بيتا، فقال إسماعيل: أطع ربك، فقال إبراهيم: وقد أمرك أن تعينني عليه، قال: إذن أفعل. فقام إسماعيل معه، وجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة، وكانا كلما بنيا دعوا فقالا: ربنا تقبل منا؛ إنك أنت السميع العليم.
وكان وقوف إبراهيم على حجر وهو يبني، وذلك الموضع هو مقام إبراهيم، واستمر البيت على ما بناه إبراهيم إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان بناء الكعبة بعد مضي مائة سنة من عمر إبراهيم بمدة، فيكون بالتقريب بين ذلك وبين الهجرة ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة.
وأرسل الله إسماعيل إلى قبائل اليمن وإلى العماليق، وزوج إسماعيل ابنته من ابن أخيه العيص
8
بن إسحاق، وعاش إسماعيل مائة وسبعا وثلاثين سنة، ومات بمكة ودفن عند قبر أمه هاجر بالحجر، وكانت وفاة إسماعيل بعد وفاة أبيه إبراهيم بثمان وأربعين سنة ...»
ثم قال المؤرخ بعد أن استطرد إلى سيرة موسى الكليم: «وكان مولد موسى لمضي أربعمائة وخمس وعشرين سنة ... إلى أن قال عن خراب بيت المقدس سنة عشرين من ولاية بختنصر تقريبا، وهي السنة التاسعة والتسعون بعد التسعمائة لوفاة موسى ...»
الفصل الثامن
تذييل
إلى هنا انتهت المصادر الدينية ومراجع التاريخ القديم التي رويت فيها سيرة الخليل إبراهيم.
وهذه المراجع هي الأساس الذي يقوم عليه كل ما تجده في العصر الحديث من أخبار الحفريات الأثرية وتعليقات المؤرخين عليها.
ومن الواجب أن نعرف مبلغ قوة هذا الأساس قبل أن ننتقل منه إلى البناء الذي يرتفع عليه.
ففي تقديرنا أن هذا الأساس اليوم أقوى مما كان عليه عند المؤرخين العلميين قبل القرن العشرين.
فقد كانت البدعة الشائعة في القرن الماضي أن التواريخ الدينية لا تصلح أن تكون أساسا للتواريخ العلمية.
وكان يكفي أن تروى الحادثة وتنسب إلى سبب خارق للطبيعة ليقول المؤرخون العلميون: إنها لم تحدث، ولا يعقل أن تحدث. ولا يقنعوا بالشك في السبب ومحاولة البحث عن سبب آخر داخل التعليلات الطبيعية ...
وكان يكفي أن يقال: إن نبيا من الأنبياء عاش ثلاثمائة سنة أو نحوها ليقال: إنه لم يوجد قط، فضلا عن أن يكون قد وجد وقد عاش أقل من عمره المذكور ...
كل هذا قد تغير في معيار البحث الحديث، أو وجب أن يتغير؛ لأنه مناقض للعلم نفسه ، عدا ما هو ظاهر من مناقضته للدين.
فقد ثبت اليوم أن الأخبار الدينية سبقت المباحث الحفرية والمقارنات العلمية إلى تقرير أحكام التاريخ التي صحت في رأي المتأخرين بالبراهين الحديثة ...
ومن أمثلة ذلك وحدة الأجناس السامية في نشأتها، فإن العلماء العصريين قد عرفوا هذه الوحدة من المقارنة بين اللغات، ومن الدراسات الأخيرة في علم السلالات البشرية، ومن تفسير الكتابة على الآثار المطمورة والهياكل المهجورة.
وهذه الدراسات جميعا من مستحدثات الزمن الأخير لم يستخرج منها العلماء دليلا موثوقا به قبل مائة سنة.
فإذا احترم العالم حكمه وتقديره، وجب أن يفهم أن كلام الأمم السامية عن وحدة أصولها يستند ولا شك إلى أصل عريق، وسند وثيق؛ لأنها تكلمت عن هذه الوحدة وهي لا تعرف شيئا من مقارنات اللغات والأحافير، ولم يكن في وسعها أن تعرف شيئا عنها قبل ألوف السنين.
فمن أين جاء لتلك الأمم أنها سلالة أصل واحد إن لم يكن لها مرجع تعول عليه، ولا يجوز للعلم رفضه وإسقاطه من الحساب؟
كذلك شاعت في القرن الماضي بدعة العلم - أو أدعياء العلم - الذين رفضوا كل خبر له علاقة بالمعجزات وخوارق الطبيعة.
فإذا قال قائل: إن هذه المدينة دمرها الله لفسادها وعدوانها على أنبيائه؛ أسرع أولئك الأدعياء فأبطلوا القصة كلها وقالوا: إنه لا مدينة ولا فساد ولا أنباء، وإن الأمر كله حديث خرافة أو تلفيق خيال ...
فاليوم قد ثبتت وقائع لا شك فيها من تواريخ تلك المدن التي تواترت الأنباء الدينية بتدميرها في الزمن القديم.
وقد تتابع التنقيب في وادي الأردن وشواطئ البحر الأحمر ورمال الأحقاف من جنوب بلاد العرب، فظهر من الأحافير أنها كانت بلاد زلازل وأغوار وعوارض جوية تطابق ما وصفته الكتب الدينية من أحوال عمارها وأحوال خرابها، وأن الزمن الذي وقعت فيه نكباتها قريب من الزمن المقدور لقيام الأنبياء فيها، ولم ينحصر الأمر في دلالات الكوارث الطبيعية والأعاصير، بل جاءت الدلالات الاجتماعية مصححة موضحة تعلم الباحثين الأناة والرصانة قبل التعجل بالرفض والإنكار.
فلم يكن أبناء الشواطئ على البحر الأحمر يعلمون شيئا عن التواريخ التي كتبت بالإغريقية واللاتينية ثم اندثرت في القرون الوسطى، وظلت مندثرة إلى أن تجددت وانتشرت بين الأوروبيين والمطلعين على اللغات الأوروبية في العصر الحديث.
ولكن القدماء على شواطئ البحر الحمر تحدثوا عن المدن التي كانت تحتكر التجارة، وتماكس
1
وتبالغ في إضافة الأرباح والإتاوات، ولم تأتها هذه الأخبار من المراجع الإغريقية أو اللاتينية بطبيعة الحال، فلا بد من الاعتراف لها بمرجع معول عليه، وليس من الجائز أن يتعجل العالم الأمين بالشك فيه ...
ومن أمثلة هذه الأخبار مثل الهزيمة التي حلت بأبرهة الأشرم صاحب الفيل، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وأن جيشه هلك بالطير الأبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، وقال أبو عبد الله عكرمة مولى عبد الله بن عباس: إنهم أصيبوا بالجدري «وأن من أصابته الحجرة جدرته.»
فهذا الخبر عن الجدري قد أيده من لم يرد تأييده من مؤرخي اليونان والرومان، فقد ذكر الوزير بركوب
، من أبناء القسطنطينية، أن مرض الجدري ظهر في مصر عند منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وروى بروس
Bruce ، الذي زار بلاد الحبشة في القرن الثامن عشر، أن الأحباش يذكرون في تواريخهم كيف ارتد أبرهة، وأنه رجع عن مكة لما أصاب جيشه من المرض الذي يصفونه بصفة الجدري، وكتب غير واحد من مؤرخي اليونان أن أبرهة زحف على مكة في مركبة يجرها أربعة من الفيلة، وأن جيشه لم يعد منه إلا القليل لكثرة من مات منه بالوباء، فأيسر ما يفهمه العالم الأمين من هذا وأشباهه أن المصادر القديمة قائمة على أساس لا يجوز إهماله، وأن المستقبل خليق أن يفسر منه أكثر مما فسرناه حتى اليوم.
وقد تمحصت مسألة الأعمار الطوال ووضعت في مواضعها من الدراسة التاريخية، فليس فيها ما يعترض الباحث في تاريخ قديم أو تاريخ حديث، وهذه المسألة - أي مسألة الأعمار - قد نوقشت كثيرا قبل القرن العشرين، وتساءل المتناقشون فيها: هل حساب السنين واحد بين الأوائل والأواخر، أو هما حسابان مختلفان؟
وضربوا لذلك مثلا بأيام الخليقة، فإن خلق العالم في ستة أيام يعني أياما غير الأيام التي تحسب بطلوع الشمس وغروبها؛ لأن الشمس خلقت في اليوم الرابع، فلا بد أن يكون معنى الأيام أنها أدوار لا تحسب بالشروق والغروب.
وتقرر أن الأوائل كانوا يحسبون للسنة رأسين: رأس السنة الزراعية، ورأس السنة الديوانية، فربما اجتمع في العام الواحد رأسان للسنة على هذا الحساب ...
وظن بعضهم أن حساب السنين كحساب الأهلة عند الأوائل، ومن هؤلاء أبو العلاء المعري حيث يقول:
ورأيت الحمام يأتي على العا
لم من قاهر ومن مقهور
وادعوا للمعمرين أمورا
لست أدري ما هن في المشهور
أتراهم فيما تقضي من الأيا
م عدوا سنيهم بالشهور
كلما لاح للعيون هلال
كان حولا لديهم في الدهور
وليس هذا الظن بالصواب؛ لأن الأوائل كانوا يعرفون حساب الأهلة وحساب الشمس منذ عهد بعيد يرجع إلى ما قبل التاريخ.
واجتهد بعضهم فقال: إن الأعمار المقدرة هنا هي أعمار العشائر والدعوات النبوية، وكثيرا ما يجري الحديث حتى اليوم باسم رأس العشيرة ويكون المقصود هو العشيرة كلها، أو يقال ابن الشرق وابن الغرب وابن أوروبة وابن أمريكا، والمقصود هنا هو العشائر بأجمعها.
وتوافق على هذه المذاهب من التأويل أناس من كل ديانة كتابية، فليست هي مقصورة على المسلمين ولا على المسيحيين ولا على اليهود، بل يشترك فيها أصحاب الفقه من جميع الأديان.
ونحن هنا لا حاجة بنا إلى الفصل في هذه التأويلات، وإنما أردنا بتمحيصها ووضعها في مواضعها أن الاتفاق تام بين أصحابها جميعا على أمرين:
أولا:
أن تقدير الأعمار في كتب العهد القديم يزداد كلما تباعد الزمن بين رواة الخبر وبين عصور المعمرين الذين تحسب أعمارهم، فكلما صغرت المسافة بين الزمنين كان التقدير أقرب إلى العمر المألوف.
فعند كتابة العهد القديم كان قد انقضى على عهد موسى عليه السلام نحو سبعة قرون، وانقضى على عهد إبراهيم عليه السلام نحو أحد عشر قرنا، فحسب عمر موسى مائة وعشرين سنة، وعمر إبراهيم مائة وخمس وسبعين سنة، ويزداد التقدير إلى أكثر من ذلك كلما أوغل الزمن في القدم إلى ما قبل التاريخ .
فبهذه القاعدة أصبح تقدير الأعمار مساعدا على تقرير وقت الكتابة وتقرير الفترات بين العهود، فلم يبطل حساب المراجع القديمة بهذا الاختلاف بين الأوائل والأواخر في حساب الأعمار الطوال، بل جاء فيه ما يساعد على الموازنة والقياس.
وثانيا:
يلاحظ أن حساب العهود بيننا وبين الأوائل لا يختلف كما يختلف حساب الأعمار، فابن الأثير مثلا يقول اعتمادا على مصادره جميعا: إن عهد إبراهيم مضى عليه ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة قبل الهجرة المحمدية. وهذه التقديرات لا تطيل العهود والفترات بينها بنسبة الطول في أعمار الأفراد المعمرين، فإن هذا الحساب قريب من حساب علماء الأحافير وطبقات الأرض الذين يقيسون الفترات بمقياس تكوين الطبقات وتتابع الظواهر الجيولوجية. وسيأتي فيما بعد أن التفاوت بين تقديرات علماء الأحافير أنفسهم، لا يقل عن التفاوت بين تقدير ابن الأثير على حسب مصادره، وبين تقديرات هؤلاء العلماء مجتمعين.
وأيا كان مقطع الرأي في هذه المسائل جميعا، فليس من أمانة التاريخ أن يستند إليها أحد في نفي الأخبار المتواترة، ولا سيما أخبار العهود والدعوات، ولا تزال الأسانيد الأولى أساسا قويا لتواريخ الأمم ترجح فيه دلائل الثبوت على دلائل البطلان.
وبهذا الوزن ننتقل من المصادر الأثرية إلى ما بعدها، ونعتمد على هذا الأساس، ثم لا يمنعنا هذا الاعتماد أن نفرق بين الأسانيد في درجة القبول وميزان الترجيح ...
ولا ننتقل من الكلام عن المصادر الأثرية في جملتها حتى نضيف إليها مصدرا يستمد قوته من السكوت، ولا يستمدها من البيان والإيضاح؛ فلا يخفى أن السكوت المتعمد يدل على كثير، وربما كان في ميزان الصدق أدل من الكلام الذي يتعرض للتورية والمحال.
فإذا علمنا من بعض التواريخ أنها تسكت عمدا عن بعض الأمور؛ فقد علمنا شيئا صحيحا يبين لنا تلك الأمور المسكوت عنها، وبخاصة حين نعلم سبب السكوت.
لقد سكتت مصادر اليهود عن حالة العرب الدينية كل السكوت، وترجع هذه المصادر إلى القرن السابع قبل الميلاد.
وقد تعمدت هذه المصادر أن تخرج أبناء إسماعيل من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من الله، وقالت : إن هذا الوعد إنما هو حق لأبناء إبراهيم من سلالة إسحاق.
إن انتساب العرب إذن إلى إسماعيل قد كان تاريخا مقررا لا سبيل إلى إنكاره عند كتابة المصادر اليهودية التي حصرت النعمة الموعودة في أبناء إسحاق ...
ولو لم يكن انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم تاريخا مقررا في ذلك العصر - عصر كتابة المصادر اليهودية الأولى - لما كانت بهم حاجة إلى التمييز بين أبناء إسحاق وأبناء إسماعيل؛ إذ كان يكفي أن يقال: إن النعمة الموعودة من نصيب أبناء إبراهيم عامة؛ ليخرج من هذا الوعد من لم يكن من اليهود لا ينازعهم أحد في الانتساب إلى إبراهيم.
لكن انتساب العرب إلى إبراهيم كان تاريخا مقررا كما هو واضح مما تقدم، فلم يكن في الوسع إنكاره، ولم يكن ثمة مناص من التفرقة بين أبناء إبراهيم من سلالة إسماعيل وأبناء إبراهيم من سلالة إسحاق.
وأكثر من ذلك أن كهان اليهود كانوا يحسون من العرب منافسة دينية، فضلا عن المنافسة الدنيوية، فلو لم يكن للعرب حياة دينية يخشى الكهان منافستها؛ لكان يكفيهم أن يحصروا وعد إبراهيم في أبنائه المؤمنين دون أبنائه الوثنيين الذين لا يعرفون الله الواحد الأحد، فيخرج العرب بهذا الاستثناء من وراثة إبراهيم الروحية، ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من ذلك الاستثناء.
ولا شيء غير خطر المنافسة في النسب، وخطر المنافسة في العقيدة الدينية يلجئ الكهان إلى حصر النعمة الموعودة في أبناء إسحاق دون أبناء إبراهيم. وقد لوحظ أن الكهان يحصرون النسب شيئا فشيئا كلما أحسوا بخطر المنافسة على سلطانهم وسلطان هيكلهم على الخصوص.
فخصصوا أبناء يعقوب بعد أن كان الوعد عاما شاملا لأبناء إسحاق أجمعين، وقالوا: إن الإسرائيليين هم أبناء يعقوب دون غيره، وإسرائيل هو لقب يعقوب.
ثم انقسمت دولة اليهود إلى دولة في الشمال تسمى مملكة إسرائيل، ودولة في الجنوب تسمى مملكة يهودا، فقال كهان الهيكل: إن النعمة الموعودة محصورة في أبناء داود.
وقبل ذلك بزمن طويل كان اللاويون يحصرون الرياسة الدينية فيهم دون غيرهم؛ لأنهم يقولون: إن اللاويين قبيلة موسى الكليم.
فاستثناء أبناء إسماعيل لم يحصل عبثا منذ القرن السابع قبل الميلاد على الأقل، ولا بد من منافسة دينية ودنيوية دعت إلى هذا الاستثناء، وإلى السكوت عن الحالة الدينية التي تخشى منها المنافسة، ويشعر بها الكهان.
ولعل المنافسة في الحقيقة كانت بين الإيمان ب «يهوا» والإيمان بالإيل أو الإله، فإن العرب الأقدمين لم يذكروا «يهوا» قط بين أربابهم، وإنما ذكروا الإيل والإله والله تعالى، وكان اليهود يعبدون الإيل كما يعبده العرب، ومن ذلك تسمية إسماعيل وإسرائيل وبتوثيل، فلما تشابه النسب بالانتماء إلى إبراهيم، وتشابهت العبادة بالاتفاق على اسم الإله، جدت الرغبة بالكهان في الاستئثار من جهة، والاستثناء من جهة أخرى، فحصروا النعمة الموعودة في أبناء إسحاق، ثم في أبناء يعقوب، ثم في أبناء داود، جريا على عاداتهم المطردة في أمثال هذه الأحوال.
ومهما يكن من أمر هذا التاريخ المسكوت عنه، فوجود النسبة إلى إسماعيل قديم لم تكن فيه حيلة لليهود ولا للعرب.
فلو أراد العرب أن يخترعوا لما اخترعوا نسبة ينتمون بها إلى جارية، وتخص غيرهم بالانتماء إلى السيدة المختارة.
ولو كان في وسع اليهود أن يحتكروا النسب إلى إبراهيم لما ذكروا شيئا عن نسبة غيرهم إليه ...
فالانتساب إلى إبراهيم لم يكن مسألة اختراع واختبار، ولكنه كان مسألة تاريخ مقرر لا بد من البحث فيه على هذا الأساس، ومن هنا قيمته التاريخية التي نضيفها إلى الأسانيد القوية في سيرة الخليل.
ويقضي استيفاء البحث في الأخبار المسكوت عنها أن نشير هنا إلى المراجع التي ذكرتها كتب العهد القديم، ولم يبق لها أثر بين هذه الكتب ولا بين غيرها من المراجع الإسرائيلية.
فليست الكتب التي ضمت إلى العهد القديم هي كل كتب التوراة المعترف بها؛ لأن الكتب التي جرى الاستشهاد بها على ألسنة الأنبياء من بني إسرائيل لم توجد كلها بين أسفار التوراة، كما هو واضح من الشواهد الكثيرة التي نلم ببعضها في هذا السياق.
ففي ختام كتاب الأيام الأول يقول الكاتب: «وأمور داود الملك الأولى والأخيرة هي مكتوبة في سفر أخبار صموئيل الرائي، وأخبار ناثان النبي، وأخبار إسرائيل، وأخبار جاد الرائي، مع كل ملكه وجبروته، والأوقات التي عبرت عليه وعلى إسرائيل وعلى كل ممالك الأرض.»
فهناك على هذا كتب تاريخية لم توضع بين كتب العهد القديم؛ لأن كتاب صموئيل موجود بينها، ولا يوجد بينها كتاب للنبي ناثان ولا للرائي جاد.
وفي الإصحاح التاسع من كتاب أخبار الأيام الثاني أن «بقية أمور سليمان الأولى والأخيرة إما هي مكتوبة في أخبار ناثان النبي، وفي نبوة إخيا الشيلوني، وفي رؤى يعدوا الرائي على يربعام بن نباط.»
وقد تقدم أن كتاب ناثان غير موجود، وكذلك نبوءة إخيا الشيلوني ورؤى يعدوا الرائي، فإنهما غير موجودين على انفراد أو على اتصال بغيرهما من الكتب المعروفة.
وفي الإصحاح الرابع عشر من كتاب الملوك الأول: «وأما بقية أمور يربعام: كيف حارب: وكيف ملك؟ فإنها مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل.»
وجاء في الإصحاح السادس عشر من كتاب الملوك الأول: «إن بقية أمور يعشا وما عمل وجبروته مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل!»
وليس في كتاب الملوك شيء عن هذه الأمور، ولا عن أمور تاريخية أخرى وردت الإشارة إليها مردودة إلى نحو ثلاثين كتابا لم يبق منها أثر محفوظ.
ومن هذه الأمور ما هو منسوب إلى الإله كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من كتاب العدد؛ حيث يقول الكاتب: «لذلك يقال في كتاب حروب الرب واهب في سوفة وأودية أرنون ومصب الأودية.» أو كما جاء في الإصحاح العاشر من كتاب يشوع: «حينئذ كلم يشوع الرب يوم أسلم الرب الأموريين أمام بني إسرائيل وقال أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي إيلون. فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه، أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر؟»
وليس بين المراجع المحفوظة كتاب ياشر الذي أشير إليه في هذين الموضعين، وقد أشير إليه في موضع آخر في كتاب صموئيل الثاني حيث يقول: «ورثى داود بهذه المرثاة شاءول ويغر باثان ابنه، وقال: إن يتعلم بنو يهوذا نشيد القدس، هو ذا مكتوب في سفر ياشر.»
ويؤخذ من مراجع كثيرة كالكتاب الرابع لعزرا، وكتب الحكيم فيلون، وكتب آباء الكنيسة الأولين، أن أسفارا غير الأسفار الخمسة كانت تنسب إلى موسى عليه السلام.
وصفوة القول في هذا الصدد أن المراجع الإسرائيلية قد سكتت عن بعض الأمور، ولم تستوعب أمورا أخرى في سجلاتها المحفوظة؛ فليس من الجائز أن يعترض المعترضون على أمر من الأمور التاريخية لأنه غير مذكور في تلك المراجع، وإذا جاز أن يذهب بعض السجلات من تاريخ سليمان وأبنائه، فمن الجائز أن تذهب سجلات أقدم منها في التاريخ؛ كالسجلات التي حفظت عن عهد إبراهيم، وهي أقدم منها بعدة قرون.
وإذا صرفنا النظر عن هذا كله، ولم نقدر أن هناك أخبارا مسكوتا عنها، وأخبارا ضائعة، فالمسألة التي لا يصح الخلاف عليها عند المقابلة بين المصادر القديمة، هي نقص المصادر اليهودية حتى في أخبار البلاد المجاورة لمملكة إسرائيل؛ فإن المصادر الإسلامية أوفى بأخبار هذه البلاد من مصادر اليهود، ويكفي لتقرير ذلك أن كتب اليهود لم تذكر قط أخبار عاد وثمود، وانفرد القرآن الكريم بذكرها مع ما جاء عنها في المأثورات العربية.
ولولا أن اسم عاد واسم ثمود قد وردا في جغرافية بطليموس، لكان من اليسير على الذين يحملون اسم الخرافة على أطراف ألسنتهم أن يزعموا أنها إحدى الخرافات، ولكن اسم عاد
Oadita
واسم ثمود
Thamudita
قد وردا في جغرافية بطليموس، وليس موقعهما كما وصفه الجغرافي الكبير بعيدا عن مملكة إسرائيل، فإذا كان بطليموس قد سمع بهما؛ فلا يعقل أن يكون أمرهما مجهولا عند كتاب العهد القديم، وإنما المعقول أن السكوت عن كل رسالة في أبناء إسماعيل هو المقصود.
ومن الواجب تقرير هذه الملاحظات قبل الانتقال إلى مصادر الأحافير وتعليقات المؤرخين المحدثين.
الفصل التاسع
الأحافير والتعليقات
البلاد والسكان
بلاد الشعوب التي تعرف بالسامية - أو على الأصح بالعربية - هي شبه جزيرة العرب، ومن شبه جزيرة العرب هاجرت بعض القبائل إلى بلاد الهلال الخصيب بين وادي الفرات والبحر الأبيض المتوسط، وهاجرت قبائل أخرى من جنوب شبه الجزيرة إلى الحبشة في أفريقية.
والرأي الغالب أن الهجرة تتبع طريقها من جنوب الجزيرة إلى شرقها في محاذاة البحر الهندي، فالخليج الفارسي، فنهر الفرات إلى أقصاه شمالا، ويرتفع بعض المؤرخين بأول فوج من أفواج الهجرة العربية إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد، ثم تتابعت الأفواج من هذا الطريق إلى ما بعد التاريخ.
فالآشوريون والأكاديون والبابليون والكلدانيون هم أفواج متلاحقة على فترات متباعدة تتراوح الفترة منها بين ستمائة سنة وألف سنة، وأقدمها ما أقام في الشمال؛ لأن الأقاليم الشمالية في وادي النهرين كانت أخصب الأقاليم وأصلحها للزراعة والمرعى، خلافا لأقاليم الجنوب التي كانت مغمورة بماء البحر الملح، وظلت كذلك زمنا طويلا قبل أن ينحسر عنها الماء، وتصلح فيها الأرض للسكن والزراعة، فلما انحسر عنها الماء أصبحت أعمر الجهات في وادي النهرين؛ لقيام المدن على شواطئها، ووفرة الموارد فيها من التجارة والزراعة.
ومن شمال العراق، كانت قبائل المهاجرين الأوائل تنحدر إلى بادية الشام وإلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط على مقربة من صحراء سيناء.
فالقبائل العربية التي أقامت في فلسطين من شمالها إلى جنوبها إنما قدمت إليها على الأكثر من الشرق لا من الجنوب، ولم يظهر لنا من الآثار ما يدل على هجرة كبيرة من طريق الحجاز وشواطئ البحر الأحمر قبل الدعوة الإسلامية.
وسبب ذلك أن الحجاز - كما هو معلوم - واد غير ذي زرع، فلم يكن فيه من السكان من يزحفون في حشد كبير لغزو البلاد الشمالية، وكان معظم الرحلة فيه للتجارة مع القوافل التي تذهب وتعود، ولا يبقى منها في الشمال إلا العدد القليل، ولكنه مع هذا كان طريقا غير منقطع من طرق التجارة القديمة؛ لأن سلوك القوافل بين اليمن والعقبة على طريق البر أيسر من سلوكها بحرا مع قلة السفن، واعتماد العرب في أسفارهم على الجمل الذي سموه بحق سفينة الصحراء.
وربما حدث مرات أن يوغل العرب الشماليون جنوبا كلما ضاقت بهم مساكنهم أمام المغيرين عليهم، أو حاقت بهم نكبة من الزلازل والصواعق. وهي كثيرة في تلك البقاع كما ظهر من آثارها الباقية إلى هذه الأيام.
ولهذا يعتقد المؤرخون أن اليمن هي مصدر العربية الأول، ويتلاقى هنا رأي المؤرخين المحدثين ورأي المؤرخين الأقدمين من أهل الحجاز؛ إذ كانوا يقولون: إن العرب العاربة هم أهل اليمن، ثم يليهم العرب المستعربون.
ولكن هذا الترتيب إذا صح من حيث النسب لا يصح من حيث الارتقاء باللغة العربية؛ فإن اللغة العربية الأولى في اليمن لم تبلغ من الصقل والفصاحة وانتظام القواعد ما بلغته لغة الحجاز، فهي نهاية الدورة بعد مطاف اللغة العربية من أقصى الجنوب في شبه الجزيرة إلى أقصى الشمال في العراق، إلى الرقعة الوسطى بين العراق والبحر الأبيض المتوسط، وهي لا تزال تنتفع وتتهذب في كل مرحلة من مراحل المطاف.
على أن البقايا التي تخلفت منذ عشرات القرون قبل الميلاد لا تدع مجالا للشك في وحدة اللغة بين الأقوام العربية في شبه الجزيرة العربية، وفي أرض الهلال الخصيب، ويقول ألبرايت
Albright
في كتابه عن أحافير فلسطين:
1
إن اللغات السامية المشهورة في القدم هي: الأكادية، الآشورية، البابلية، والسامية الشرقية، والسامية الغربية، وتنقسم هذه إلى العربية الشمالية والعربية الجنوبية؛ أي المعينية والسبئية والإثيوبية، ومعها لهجات شتى بعضها قديم وبعضها حديث. وكل تقسيم من هذه التقسيمات فإنما هو مسألة اصطلاح، والتفرقة فيه أقل جدا من التفرقة بين اللغات الهندية الجرمانية التي درسها الباحثون خلال القرن أو القرن والنصف الأخير؛ إذ إن اللغات السامية القديمة - عدا الأكادية - تتقارب في الأجرومية والنطق بحيث تشترك كل لهجة وما جاورها، ولا يلحظ الانتقال من لهجة إلا كما يلحظ مثل هذا الانتقال اليوم بين اللهجات الفرنسية والجرمانية ...
ولما بدأ عصر الآباء العبريين عند مطلع الألف الثانية قبل الميلاد، لم يكد الفرق بين اللغات يزيد على الفرق بين اللهجات العربية الأصيلة في هذه الأيام، ولم تكن الأكادية نفسها منفصلة عن سائر اللغات السامية الغربية أكثر من الانفصال بين المالطية والعراقية الحديثتين.
ويقرر علماء المقارنة الدينية مثل هذا عن التقارب بين عبادات العرب الأولين ، فيقول الأستاذ أندرسون في مجموعة العهد القديم والدراسات العصرية:
2 «إن إله الكنعانيين الأعلى - إيل - يعبد بأسماء متعددة بين الساميين الغربيين، ويعرف باسم شداي، وإيل عليون، وسالم، وصادق، وحداد. ويرى إنجنل
Engenell
أن اسم يهوا واحد من هذه الأسماء كان مهملا على عهد موسى، فأحياه موسى بدعوته، ثم امتزج اسم يهوا بالصيغ الأخرى، ولا سيما صيغة إيل عليون في أورشليم، وتم هذا الامتزاج بسهولة لأنها عنوان على إله واحد.»
ثم قال: «إن الوحدانية التي كانوا يدركونها في ذلك الزمن لم تكن وحدانية تفكير، ولكنها كانت وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب.»
ويقول وولي
Woolley
صاحب أهم المباحث في تاريخ إبراهيم: «إنه من المحتمل جدا، وإن لم يكن ثابتا ثبوت اليقين، أن اسم يهوا كان معروفا عند بعض قبائل سورية الشمالية قبل زمان موسى بعهد طويل.»
3
والظاهر أنهم كانوا إلى الزمن الذي كتب فيه المزمور الخامس والثلاثون بعد المائة من المزامير المنسوبة إلى داود، يصفون يهوا بأنه «مفرق جميع الآلهة.»
والظاهر كذلك أنهم كانوا إلى ما بعد خروجهم من مصر لا يزعمون أنهم مميزون على القبائل الأخرى، بل يخطر لهم - كما جاء في الإصحاح الأول من سفر التثنية - أن الرب «لبغضه لهم قد أخرجهم من أرض مصر؛ ليدفعهم إلى أيدي العموريين ويهلكهم على أيديهم.»
وظاهر كذلك أن وحدة الأصل واللغة كانت توقع اللبس في تسمية القبيلة الواحدة أو الشعب الواحد، فنسخة يهوا من العهد القديم تسمي سكان غرب الأردن بالكنعانيين، ونسخة ألوهيم كانت تسميهم بالعموريين كما يرى من مراجعة الإصحاح الأول من سفر القضاة.
ويعنينا في هذا الفصل أن نبرز هذا التشابه في السلالة العربية منذ أقدم العصور التاريخية، فلم نعثر في مصدر واحد على خبر يفهم منه أن إبراهيم التقى بمن يعارض عقيدته الإلهية بعد خروجه من موطنه الأول، وقد كانت في طريقه عبادات محلية مختلفة، وأرباب محليون مختلفون، وشأن هؤلاء كشأن الأولياء والقديسين الذين يتشفع بهم أبناء كل جهة في الأمم التي تؤمن بالوحدانية، فأبناء الجهة يفضلون أولياءهم وقديسيهم، وقد يتحولون من جهتهم إلى جهة أخرى فلا ينكرون التشفع بالأولياء والقديسين في الجهة التي تحولوا إليها؛ لأنهم أصحاب الحق فيها. أما العقيدة الإلهية فهي واحدة أو متقاربة، ولولا ذلك لما كان الخليل عليه السلام يوقر ملكي صادق، ويقدم قربانه لإله عليون كما روى سفر التكوين.
إنما اشتد الخلاف الديني وخلاف العصبية بين أبناء هذه الشعوب عندما وقر في أذهان طائفة من العبريين أنهم هم وحدهم ذرية إبراهيم المختارة، وكانت دعواهم هذه طارئة لم يسمع بها إلا بعد أيام موسى بمئات السنين، وفي هذا يقول سفر التثنية: «أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير، فيخافون منكم فاحترزوا جدا، لا تهجموا عليهم؛ لأني أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم، ولعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثا ... طعاما تشترون منهم بالفضة لتأكلوا، وماء تبتاعون منهم بالفضة لتشربوا ...
ومتى قربت إلى تجاه بني عمون لا تعادهم، ولا تهجموا عليهم؛ لأني أعطيك من أرض بني عمون ميراثا، ولبني لوط قد أعطيتها، وهي أيضا تحسب أرض رفائيين، سكنوها قبلا ... لكن العمونيين يدعونهم زمزميين: شعب كبير وكثير وطويل كالعناقيين، أبادهم الرب من قدامهم، فطردوهم وسكنوا مكانهم إلى هذا اليوم ...»
هكذا كانت حال الشعوب المتفرعة على الأصول العربية، ولكنها لم تكن وحدها في بقاع الهلال الخصيب أو بين النهرين؛ إذ كانت هذه البقاع مفتوحة للواردين من الشرق والغرب والشمال، وما حدث في عهود التاريخ المعلومة قد حدث مثله في العهود التي لم يدركها التاريخ؛ فقد نزح قوم من الشرق يدعون بالسومريين، وأناس من الغرب يدعون بالحيثيين، وأناس من الشمال مجهولون يحسبهم المؤرخون تارة من السومريين، وتارة من الحيثيين.
فالسومريون في الغالب من أصل مغولي، وسواء ثبت أنهم من المغول أو ثبت غير ذلك، فالأمر الذي لا شك فيه أنهم من غير الساميين أو السلالة العربية؛ لأنهم كانوا يتكلمون لغة غروية
Agglutinatine
بعيدة جدا في أصولها وقواعدها من اللغات السامية الاشتقاقية، ومنها العربية
Inflectiona .
ومن المقابلة بين صورهم وتماثيلهم، وبين الصور والتماثيل العربية في أرض بابل وغيرها يبدو الفرق واضحا بين الملامح والقسمات، فضلا عن الفروق البعيدة في الطبائع والعادات، ولكنهم لم يعرفوا باسم غير الاسم الذي أطلقه عليهم العرب الأقدمون، وهو اسم السومريين؛ أي سمر الرءوس كما جاء في وصفهم على الآثار.
والحيثيون على الأغلب آريون قدموا من الشرق إلى آسيا الصغرى قبل فجر التاريخ، ولا بد أن يكون مقدمهم إلى آسيا الصغرى بعد احتلال الساميين للهلال الخصيب بقوة لم يستطع الحيثيون أن يتغلبوا عليها، وإلا لما تجاوزوا هذه البقاع المخصبة إلى ما وراءها.
ويذهب أناس من المؤرخين المحدثين إلى أن العموريين أيضا من الأقوام التي لا تنتمي إلى سلالة سامية عربية، ومن هؤلاء المؤرخين العلامة سايس
Sayce
المشهور، وحجته في ذلك أن صورهم على معبد رمسيس تخالف في اللون والقامة صور الأقوام الأخرى من أبناء آسيا الغربية، وهي حجة لا تنهض وحدها أمام اللغة، وانقطاع الصلة بينهم وبين كل قطر من الأقطار التي يفرض الفارضون أنهم قدموا منها، ولا يعقل أنهم قدموا من أوروبة عن طريق أفريقية وهي خالية، ثم اختاروا بقاع فلسطين وسورية دون غيرها.
ولا يعقل كذلك أنهم حاربوا أبناء البلاد التي وقعت في طريقهم، وتغلبوا عليهم واجتازوهم دون أن يسلبوهم أرضهم ويستقروا فيها. وليس أقرب إلى التقدير الصحيح من مجيئهم في زمن قديم من الشرق عند وادي الفرات. ولعلهم ينتمون إلى الأرض المعروفة باسم «إمرو» هناك، ولا اعتداد بلون البشرة أو طول القامة، فلم يثبت قط أن الجو العربي منذ الأزمنة الخالية كان يستلزم السمرة والقصر، ولم يزل بين أجناس الجنوب عمالقة غير العموريين.
ذلك مجمل الحال من حيث السكان في بلاد النهرين والهلال الخصيب، فمن شرق الدجلة إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط عشائر عربية تقيم وتترحل، وينافس بعضها بعضا على المرعى والمورد كلما ضاقت بها البقاع، أو جاءها من الجنوب وارد جديد.
وكان السلطان الأكبر على هذه العشائر للدولة التي تقوم في العراق، سواء كانت دولة الآشوريين أو الأكاديين أو البابليين، أو كانت دولة السومريين قبل هؤلاء أجمعين؛ لأن هذه العشائر تقيم وتترحل في بقاع لا تنفصل عن بقاع النهرين، وربما دخل بعض البقاع في حوزة مصر وتولاها حكام من قبل فرعون، وربما اقتدى بعض العشائر بالمصريين في العادات والعبادات، وربما انتقل بعضهم إلى مصر مرتادين أو متجرين فاقتبسوا كذلك من عاداتها وعباداتها، ولكن وحدة اللغة ووحدة المكان ووحدة العادات كانت هي الغالبة على طول الزمن؛ ولهذا كان الولاة المصريون على آسيا الغربية يكتبون إلى فرعون بالخط المسماري وعلى ألواح الطين المطبوخ، كما كان يكتب البابليون والآشوريون ...
وحدث غير مرة أيام ضعف الدول أن تجترئ العشائر القوية عليها فتهزمها، وتنشئ فيها دولتها، حدث هذا من العموريين والعيلاميين في وادي الفرات، وحدث من الرعاة الذين اشتهروا باسم الهكسوس
4
في وادي النيل. ويرتبط تاريخ الخليل كما يلي بقيام هذه الدول، وانتقال هذه العشائر من أماكنها كلما قامت لإحداها دولة مستقرة في الحواضر والعواصم، وهجرة إبراهيم على اتصال وثيق بالزعازع التي تنشأ حتما من تبدل النظم، وتبدل العبادات والكهانات، وحلول الجديد منها محل القديم، مع المساومة والمصالحة بين النظام المقبل المعمول به والنظام المدبر المهجور.
ولكننا على كثرة الأحافير لا نجد بينها خبرا يعين لنا التاريخ في حادث من الحوادث تعيين الجزم واليقين، ولم يهتد المنقبون إلى تاريخ منها إلا على وجه التقريب، وبعد الموازنة والترجيح.
وعلة ذلك أن الدول الكبرى في تلك العهود لم تكن موحدة الحكومات، بل كانت منقسمة موزعة يتولاها في الوقت الواحد ثلاثة أمراء أو أربعة أو أكثر من ذلك؛ فإذا حاول المنقب أن يضع لهم ترتيبا متعاقبا لم يلبث أن ينكشف له من محفورات جديدة أنهم كانوا في عصر واحد، ومن الأمثلة الكثيرة على هذا: أن المنقبين كانوا يعينون سنة 1940 قبل الميلاد لحكم حمورابي، ثم انكشفت أحافير «ماري» للأستاذ أندريه باروت
André Parrot ، فقدموها قرنا كاملا إلى نحو سنة 1840؛ لأنهم وجدوا ملوكا معاصرين له وكانوا يحسبونهم سابقين له في موطنه.
وفي مصر كان المظنون أن ترتيب الأسر متعاقب، ثم ظهر من النقوش المتوافقة في الزمن أن الأسر الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة حكمت في عصر واحد بين أقاليم الوجه البحري والصعيد، وأن الإصلاحات التي تمت في إقليم الشلال لم تكن من عمل الهكسوس المعاصرين، وأن من هؤلاء الهكسوس من كان يرسل الهدايا والإتاوات إلى ملوك الصعيد، ويقول المؤرخ بتري
: إن الصورة التي على معبد بني حسن هي صورة رئيس من الهكسوس، وإن الكلمة مركبة من هيك بمعنى أمير، ومن شو اسم القبيلة.
وإنه يضاهي اسم «خيان أو شر» المنقوش بين أسماء الملوك الشماليين على معبد تحتمس الثالث بالكرنك، واسم خيان هذا خليق أن يقف عنده القارئ؛ لأنه قريب من اسم ريان، الذي حسبه مؤرخو العرب الأقدمين بين أسماء ملوك الرعاة، ونتيجة هذا التداخل في أزمنة الأسر الحاكمة أن يلتبس الأمر على المؤرخ عند تعيين أوقات الحوادث، وتعيين اسم الأمير الذي تنسب إليه.
وقد مضى زمن على الهكسوس في الوجه البحري وهم رواد يطلبون المرعى والضيافة، ولا يجسرون على المنازعة في الملك، فإذا وجدت لهم آثار سابقة لعصر دولتهم، فلا يلزم من ذلك تعديل تاريخ الدولة؛ لأن دخول الهكسوس إلى مصر للمرعى والرحلة من مكان إلى مكان، غير دخولهم بجموعهم وجنودهم للسيطرة وإقامة الملك بأسمائهم، وكل ما يدل عليه السماح لهم بالدخول، وإهمال الحيطة في أمرهم أن فراعنة الصعيد كانوا يومئذ في شاغل بالنزاع عن الحيطة والتحصين.
ولا داعي كذلك لتخطئة المؤرخين الذين نقبوا في فلسطين فعينوا للهكسوس تاريخا غير تاريخ دولتهم بالديار المصرية، فإن زحف الهكسوس على جنوب فلسطين سابق بالبداهة لقيام دولتهم بالوجه البحري من أرض مصر، فالمنقبون في مدينة أريحا علموا من بقاياها أنها خربت بالزلازل وقذائف البراكين ثلاث مرات، وعلموا من أساليب البناء، ونقش الفخار، وأثر التحلل على المنسوجات في طبقات الأرض متى كان الموعد المقارب لكل كارثة من هذه الكوارث.
وفي الدور الثالث وجدوا مقابر للهكسوس، واستطاعوا أن يعينوا وقتا لوجودهم بأرض كنعان حوالي سنة 1750 قبل الميلاد، وعلموا أن أمير «أريحا» تواطأ مع الهكسوس على غزو مصر، وأن هؤلاء أقاموا معه موظفا يسمونه كاتب الوزير للرقابة على البيادر وخزائن الغلال ، وأن الفترة كانت فترة اضمحلال وهزال أصاب الدول في مصر والعراق ، وشجع الرعاة والقبائل الرحل على غزوها وتوطيد أقدامهم فيها، فكان هجوم الهكسوس على مصر معاصرا لهجوم قبائل البدو من عيلام وعمور على بابل، وكانت الأرض التي في طريق مصر موزعة بين العمالقة الحيثيين واليبوسيين والعموريين، وليس بينهم ذكر للعبرانيين.
إلا أن المنقبين الذين عينوا زمنا للهكسوس حوالي سنة 1750 لم يعرفوا من هم هؤلاء الهكسوس على وجه التحقيق، ولكنهم استخلصوا من «خط السير» الذي اتبعوه بعد خروجهم من مصر منهزمين، أنهم عادوا إلى مواطنهم في شمال سوريا، وأنهم على الأرجح مزيج قديم من الآراميين والحيثيين، ولم يطل مقامهم بمصر أكثر من قرن ونصف قرن، ثم تعقبهم المصريون ودمروا المدن التي تواطأت معهم على غزو الديار المصرية، ومنها أريحا. وقد وجد المنقبون فيها بين الفصوص الكثيرة فص خاتم باسم خاميس أو أحمس قاهر الهكسوس.
إلى هذا التاريخ لم يكن للعبريين الذين يسمون أنفسهم بأبناء إسرائيل أي أثر بين القبائل التي في طريق مصر، ولم يذكر لهم اسم في أثر من الآثار التاريخية قبل سنة 1220 قبل الميلاد.
في هذا الأثر يروي الفرعون مرنفتاح خبر حملته التأديبية على عسقلان وجزير ويوانام وإسرائيل، ويقول: إنه محا إسرائيل فلم تبق منها باقية، ويؤيد خبره هذا أن النصب الذي أقيم بعد ذلك مسجلا لانتصار رمسيس الثالث على العموريين والفلسطينيين والحيثيين سنة 190 قبل الميلاد، لم يرد فيه ذكر لإسرائيل.
وعصر إبراهيم قبل هذه الفترة على التحقيق، فمن القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد لم يكن لإبراهيم وذريته مقام في غير الجنوب عند جيرار أو وراءها جنوبا، ولم يكن لإبراهيم مقام في حبرون، ولهذا يرجح الدكتور «كامبيل» أن إبراهيم لم يدفن في مغارة مكفيل بحبرون على مقربة من أورشليم، ولكن الذين انتسبوا إليه تعلقوا بذكرى هذا المدفن لتسويغ دعواهم في مملكتهم، ولا بد هنا من إبراهيمين أحدهما جاء بعد الآخر بزمن طويل. •••
ويذهب الدكتور كامبيل بعيدا جدا في هذا الفرض، فيشير إلى ورود اسم إبراما في الآثار البابلية، وقد ورد في خلال قصة زراعية حيث قيل : إن إبراما استأجر ثورا للزرع من أحد الفلاحين، ولا شأن لإبراما هذا بسيرة الخليل، ولكن الدكتور كامبيل يسرد أسماء أخرى في الأحافير قريبة من هذا الاشتقاق، ومنها «أبرمراما»، وهو على رأي الدكتور قد يكون أمرمرابي الذين هو أمورابي بعينه، وهو لا شك جد من جدود العموريين الذين ملكوا بابل، وكانت منهم شعبة تملك بيت المقدس وحبرون بجوارها، فلما امتزج العموريون والعبريون، واشتركوا في العبادة وفي السيادة، صعد العبريون بنسبهم إلى جد مدفون في حبرون يسمى إبرام، وذكروا أن قبره مشترى بالمال من ملوك الأرض
5
الأصلاء، فليس في دفنه ثمة عدوان ولا ادعاء.
وقصة الإبراهيمين قد لجأ إليها كاتب منقب لا يغلو في فروضه على هذا المثال، وهو السير ليونار صاحب كتاب إبراهام والكشوف الأخيرة، فقد رجح أن إبراهام غير إبرام، وقال: إن تسمية الحفيد باسم الجد كانت مألوفة جدا في البلاد البابلية، كما يظهر من مقابلة أسماء الملوك من أسرة واحدة، فإذا كان لإبراهيم جد باسم إبرام، كما جاء في كثير من الروايات، فالأقرب إلى المألوف أن المتأخرين بعد عصره جمعوا بين أخبار الاثنين، ووصلوا عمر أحدهما بعمر الآخر فبلغوا بهما مائة وخمسا وسبعين سنة.
وغير بعيد أن يكون العبريون المتأخرون قد تكلموا عن إبراهيمين لا عن إبراهيم واحد، فهذا التاريخ الغامض قد زاده اختلاطا على اختلاط دعوى الطائفة العبرية، التي تنتسب إلى إبراهيم، أنها ذريته التي ترثه في الأرض والسماء، وأنها ورثت أرض فلسطين من أيام إبراهيم، مع أنهم كانوا إلى أيام موسى يشترون المرعى والمورد فيها بالفضة، ولم يستطيعوا أن يدخلوا فلسطين إلا بعد ضعف العموريين والحيثيين والهكسوس.
ومن حقائق التاريخ المطردة أن الملك هو بلاء القبائل الرحل، فلما ملك الحيثيون والهكسوس ضاعوا واندحروا، ولما هجم العموريون على بابل فملكوها ضاعوا واندحروا في بابل وفي بيت المقدس، ولما دخل العبريون أنفسهم بيت المقدس وملكوا فيها ضاعوا واندحروا، وحاق
6
بهم ما حاق بالقبائل الأولى.
فالملك هو نهاية كل قبيلة من تلك القبائل، وقد ظلت كلها قبائل نامية إلى أن ملكت، فانتهت بذلك إلى دورها الأخير.
وعلى هذه السنة عاش العموريون والكنعانيون والحيثيون، وعاش معهم العبريون قلة ضعيفة إلى أقصى الجنوب من تلك البقاع، فكان وطن إبراهيم عند سيناء وشمال الحجاز، وكان الجنوب مفتوحا له وأيسر له من الشمال، حيث تجول القبائل التي بلغ من قوتها أن تغير إحداها على بابل، وتغير الأخرى على مصر، فأيسر من إجلائها عن أرضها أن يبقى حيث هو، أو يمعن في الجنوب ويستقبل الحجاز.
وعبرة التاريخ هنا: أن المتحذلقين الذين خطر لهم أن ذهاب إبراهيم إلى الحجاز أعجوبة ملفقة يرون بالنظر الصادق أنها هي التقدير الصحيح، وأن الأعجوبة هي اتجاهه من الجنوب إلى الشمال.
الفصل العاشر
اللغة
ربما كان من المفاجآت عند بعض الناس أن يقال لهم: إن إبراهيم عليه السلام كان عربيا، وإنه كان يتكلم اللغة العربية.
ولكنها الحقيقة التاريخية التي لا تحتاج إلى فرض غريب، أو تفسير نادر غير ترجمة الواقع بما يعنيه، وإنما الفرض الغريب أن يحيد المؤرخ عن هذه الحقيقة لينسب إبراهيم إلى قوم غير قومه الذين هو منهم في الصميم.
وليس معنى هذا بالبداهة أنه كان يتكلم العربية التي نكتبها اليوم، أو نقرؤها في كلام الشعراء الجاهليين ومن عاصرهم من العرب الأقدمين؛ فلم يكن في العالم أحد يتكلم هذه اللغة في عصر إبراهيم، ولا في العصور اللاحقة به إلى القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد.
وإنما اللغة العربية المقصودة هي لغة الأقوام التي كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية، وتهاجر منها وإليها في تلك الحقبة، وقد كانت لغة واحدة من اليمن إلى مشارف العراق والشام وتخوم فلسطين وسيناء.
ولقد عرفت تلك اللغة حينا باسم اللغة السريانية غلطا من اليونان في التسمية؛ لأنهم أطلقوا اسم آشورية أو آسورية على الشام الشمالية، فشاعت تسمية العربية باسم السوريانية والسريانية من المكان الذي أقامت فيه بعض قبائل العرب الوافدة من شبه الجزيرة منذ أقدم العصور، قبل عصر إبراهيم بزمن طويل.
واشتملت هذه اللغة السريانية في بعض الأزمنة على عدة لغات، لا تختلف فيما بينها إلا كما اختلفت لهجات القبائل العربية قبل الدعوة الإسلامية، ومن هذه اللغات لغة آرام وكنعان وأدوم وموآب ومديان وما جاورها في الأقاليم الممتدة بين العراق وسيناء. وربما كانت المفاجأة أشد على من يسمع أن الخليل لم يكن عبريا من العبريين.
فقد مضى زمن طويل والناس يفهمون أن العبرية واليهودية كلمتان بمعنى واحد، ولم تكن اليهودية قط مرادفة للعبرية في معنى صحيح.
فالعبرية في نحو القرن العشرين قبل الميلاد كانت كلمة عامة تطلق على طائفة كبيرة من القبائل الرحل في صحراء الشام، وكان من أبناء هذه القبائل من يعمل كالجنود المرتزقة هنا وهناك حسب المواقع والمناسبات، وبهذا المعنى وردت كلمة العبري والإبري والهبيري وما قاربها لفظا في أحافير «تل العمارنة وفلسطين وآسيا الصغرى والعراق، وجاءت بهذا المعنى في الكتابات المسمارية والفرعونية»، ولم يكن لليهود وجود في ذلك الحين.
ولما وجد اليهود وانتسبوا إلى إسرائيل كانوا هم أنفسهم يقولون عن العبرية: إنها لغة كنعان، ثم انطوت العبرية في الآرامية التي غلبت على القبائل جميعا بين فلسطين والعراق، مع اختلاف يسير بين الآرامية الشرقية والآرامية الغربية.
وأصبحت العبرية لهجة تختلف بنطق بعض الحروف كما تختلف القبائل بنطق الشين والكاف، أو نطق الميم واللام إلى هذه الأيام.
ففي الإصحاح الثاني عشر من سفر القضاة يقول: «كان رجال جلعاد يقولون له: أأنت من إفرايم؟ فإن قال: لا، كانوا يقولون له: قل شبولث، فيقول: سبولث، فكانوا يأخذونه ويذبحونه.»
ولما كشف حجر موآب المشهور
1
وجدت الكتابة عليه قريبة جدا من العبرية، وهو يرجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد.
وقد أقام هذا الحجر ملك موآب ميسا بن شموس، وقال فيه: إن الإله شموس «أي الشمس» نصره على إله إسرائيل، وإنه بنى هيكل بعل معون، وذكر «اشتار شموس» في موضع آخر، كما قال: إنه جر محاريب «يهوا» أمام ربه المعبود، وكان هذا الرب راضيا عنه بعد جفاء وعقاب، وظهر من أحافير اليمن والعراق والشام وفلسطين أن أسماء الإله واحدة في جميع هذه البلاد، ففي كلامها اسم بعل والرب وإيل وصادق بمعنى المعطي الوهاب، ومن هذا التشابه اسم ملكي صادق في فلسطين، واسم إيل صادق في معين وحضرموت.
ومن أقوى الأشياء دلالة على العلاقة بين إبراهيم والحجاز: أن اسم بعل يطلق كثيرا على الإله في ديانات جميع القبائل، ما عدا القبائل التي دانت بدعوة إبراهيم وخلفائه، فإن إطلاق اسم البعل على الإله مكروه فيها، لا يذكرونه إلا عرضا في تركيب الأسماء التي يتوارثها الناس بغير نظر إلى معناها. وقد ورد اسم البعل في ديانات الجزيرة العربية ما عدا ديانة الكعبة أو ديانة الحجاز، ومن قال: إن اسم «هبل» تصحيف لاسم «يهوا بعل» لم يستند إلى دليل ولا قرينة معقولة؛ إذ لا معنى لتصحيف الكلمة في اسم الصنم مع وجودها في اللغة بمعنى السيد أو الزوج إلى اليوم.
ولو كانت الكلمة منسية لما كان بالتصحيف من غرابة، وأما وهي مفهومة معروفة فتصحيفها في اسم صنم معبود غير معقول، وأبعد من هذا القول أن يقال: إن «هبل» منحوت من كلمة «يهوا» وكلمة «بعل»؛ فإن الدعوة إلى يهوا تناقض الدعوة إلى بعل، ومن آمن بهذا لم يؤمن بذاك، إلا أن يقال: إن اسم «يهوا» مأخوذ من لغة العربية الحجازية أو الجنوبية، وينبغي لمن يقول هذا أن يستشهد بأمثلة لوجود الكلمة مفردة ومقترنة ببعل في أثر ثابت، وليس لهذا الأثر وجود.
ويرجح بعضهم أن اسم إبرام يتألف من أب ورام، وأن رام هنا بمعنى أحب، فاسم إبرام إذن يعني محبوب الله، وهو وصف يوافق تلقيبه بخليل الله، ويستبعد مرجليوث
2
أن تكون «رام» من مادة الرفعة كالرامة التي تطلق على القرية في البناء العالي، وتجمع على رام كما تجمع ساعة على ساع، وحالة على حال، وحانة على حان.
وينقل مرجليوث عن جليزر
Glaser
أن الملك الحميري شرحبيل يعفور ذكر اسم الله في الحجر المنقوش على سد مأرب، فسماه «بعل السمائين والأرضين»، وأنهم عرفوا التوحيد في منتصف القرن الخامس للميلاد، وينقل عن دسو
Dussaud
أن الأحافير النبطية التي ترجع إلى القرن الثالث قبل الهجرة تدل على تقارب شديد بين الآرامية والعربية الفصحى.
وقد لوحظ التقارب بين اللغات أو اللهجات العربية فيما هو أقدم من ذلك كثيرا، بحيث لا يحسب تاريخه بأقل من ألفي سنة قبل الميلاد؛ فإن أداة التعريف، وضمير المتكلم والغائب، وكلمات النفي والنهي، وتصريف الأفعال مشتركة في اللغة العربية واللغة الآشورية التي تنسب إليها السريانية كما تقدم ...
وهذا التقارب هو الذي أوحى إلى الأستاذ دويرتي أن يترجم اسم «دمقي اليشو» بحبيب الله، من المقة بمعنى الحب، والإيل بمعنى الله، وضمير الإضافة، وجاء فلبي فظن أن هذا الاسم يطابق في الزمن والصفة اسم الخليل إبراهيم، وأن الخليل كان ملكا من الملوك الذين حكموا جنوب العراق عند الخليج الفارسي؛ لأن الأقوال متواترة بمقام الخليل هناك في أور الكلدانيين، ولأن اسم «دمقي اليشو» ورد في الآثار البابلية بين عدة ملوك يسمون بملوك الشاطئ، أو ملوك الأرض البحرية.
3
وهو اصطلاح لهم يطلقونه على العرب من سكان تلك الجهات.
وهذا التقارب في اللغة والكتابة يفض لنا - فيما نعتقد - خلافا شديدا دخل فيه المهاجمون للإسلام والمدافعون عنه حول نسب الخليل إبراهيم واسم أبيه.
فقد جاء في القرآن الكريم:
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ، فاتخذ المهاجمون للإسلام من ذلك دليلا على الخطأ في تسمية أبي الخليل، وقالوا: إن اسمه تارح كما ورد في العهد القديم.
وجاء بعض المفسرين من المسلمين فحاولوا طويلا أن يجعلوا لكلمة «آزر» موضعا من الإعراب، أو مدلولا يبطل ذلك الانتقاد، ويردون به تخطئة المهاجمين ...
والواقع أن هذه التخطئة لا محل لها عند النظر في أصول الأسماء، فإن إبراهيم قد انحدر إلى أرض كنعان من أرض آشور، واعتقد شراح الكتب الإسرائيلية، في غير موضع، أن الآباء الأولين كانوا ينسبون إلى بلادهم أو أممهم كما يقال عن ابن مصر، وابن أوروبة، وأبناء الشرق، وأبناء الغرب، وأبناء النيل.
فإذا نسب إبراهيم إلى آشور، فمن الجائز جدا أن يكون تارح وآزر لفظين مختلفين لاسم واحد، سواء كان هذا الاسم علما على رجل أو على الجد القديم الذي تنسب إليه أمة آشور، وكثيرا ما انتسب القوم إلى اسم جد قديم كما يقال في النسبة إلى عدنان وقحطان.
ونظرة واحدة في كتابة اسم آشور ونطقها إلى اليوم في العراق وسورية تقرب لنا هذا الاحتمال الذي يبدو بعيدا لأول وهلة.
فقد كتبت آشور تارة آزور، وتارة آثور، وتارة آتور بالتاء، وتارة آسور بالسين ...
ولا يخفى أن اللغات السامية لم تكن تكتب لها حروف علة إلى زمن قريب، وأن الإغريق الذين أطلقوا اسم «آسورية» على وطن إبراهيم من نهر الفرات إلى فلسطين ينطقون الياء الإغريقية بين الواو والياء؛ ولهذا تكتب لوبيا بالواو كما تكتب بالياء، وتنطق سيرية بالياء في اللغات الأوروبية، وتنطق سورية بالواو في اللغات الشرقية.
ولا يخفى كذلك أن كلمة تارح تنطق تيرح على لسان الكثيرين من الناطقين باللغات السامية، وتنطق تيرا وتيره عند الذين لا يستطيعون النطق بالحاء.
فإذا لاحظنا ذلك كله، فليس أقرب من تحويل آتور وآتير إلى تيره وتيرح، وقد وردت في تاريخ يوسيفوس بغير الحاء، ووردت في تاريخ يوسبيوس آثور، وهو مكتوب باليونانية، وقد ورد في التوراة اسمان بمعنى الأميرة، أحدهما بالحاء، وهو سارح «46 تكوين»، والآخر بغير الحاء، وهو سار أو سارة.
ومؤدى هذا أن «آزر» هي النطق الصحيح الذي عرف به اسم آسور القديم، وأن تيره وتيرح هي نطق الذين يكتبونها آتيره وآتيرح، وينطقون بكلمة آتور بين الواو والياء.
روى صاحب «المزهر» عن الأصمعي أن رجلين «اختلفا في الصقر، فقال أحدهما بالصاد، وقال الآخر بالسين، فتراضيا بأول وارد عليهما، فحكيا له ما هما فيه فقال: لا أقول كما قلتما؛ إنما هو الزقر. وعلى هذا يتخرج جميع ما ورد من التداخل نحو قلى يقلى وسلى يسلى.»
وإذا اختلفت الحروف في اللهجة العربية الواحدة هذا الاختلاف، فلا محل للجزم بالتخطئة حين تختلف السين والزاي، أو التاء والثاء في لغات تباعدت بينها الآماد.
وأيا كان القول في نسبة إبراهيم إلى آزر بمعنى آسور، فهو أقرب من القول بأن أباه سمي تارح من الحزن أو من الكسل، وليس عليه دليل من وقائع التاريخ والجغرافية ولا من الاشتقاق.
وتفيد هذه الملاحظة فائدة جلى في معرض آخر من معارض سيرة الخليل، فلم يكن تاريخ إبراهيم في الإسلام مستمدا من المصادر اليهودية، كما زعم بعض المتسرعين من رواة الأخبار الدينية غير الإسلامية، وإلا لما كان أيسر من تسمية أبيه تارح أو تيرح أو تيره وما شابه هذه التصحيفات، ولما كان هناك سبب قط لتسميته بآزر على أي توجيه.
وإنما هذا بينة من بينات شتى على أن دعوة إبراهيم لم تصل إلى الحجاز من مصادر اليهود.
والبينة الكبرى التي تأتي من مباحث اللغة هي التقارب الشديد بين لغة الحجاز ولغة النبط أو النباتيين الذين ينتمون إلى نبات من أبناء إسماعيل.
فقد عقد اللغويون مقارنات كثيرة بين لهجات العربية القديمة التي بقيت إلى ما قبل الإسلام، فظهر من هذه المقارنات أن التقارب بينها يقاس بالزمان ولا يقاس بالمكان، فقد يكون الجاران مختلفين غاية الاختلاف، وقد يكون التشابه قريبا جدا بين طائفتين تسكن إحداهما إلى أقصى الجنوب، وتسكن الأخرى إلى أقصى الشمال.
فالحميريون كانوا يقيمون بأقصى الجنوب من الجزيرة العربية، والآشوريون كانوا يقيمون بأقصى الشمال من العراق، ولكن التشابه بين لهجة حمير ولهجة آشور أقرب جدا مما بين اللهجة الحميرية واللهجة القرشية بمكة، والمسافة بين اليمن والحجاز أقرب المسافات.
فاللغة الحجازية لم تتطور من اللغة اليمانية مباشرة، وإنما جاء التطور من العربية القديمة إلى الآشورية إلى الآرامية إلى النبطية إلى القرشية، فتقاربت لغة النبط ولغة قريش من هذا السبيل، وكان التقارب بينهما في الزمان، أو في درجات التطور، ولم يكن تقاربا يقاس بالفراسخ والأميال.
هذه هي البينة الكبرى من مباحث اللغة على قرابة أهل الحجاز من النبطيين أو النباتيين أبناء إسماعيل، ولم تكن هذه القرابة من اختراع النسابين أو فقهاء الإسلام، ولكنها كانت قرابة الواقع التي حفظتها أسانيد اللغة والثقافة، واستخرجتها من حجارة الأحافير والكشوف الحديثة.
ومما يدعو إلى احترام روايات النسابين في هذا الباب أنهم عرفوا الحقيقة التي كشفها علماء الأحافير في الزمن الأخير، فقال ابن عباس: «نحن معاشر قريش من النبط.»
هذا من جهة الأصل واللغة، ومن جهة الكتابة يقول الشاعر المنتصر بن المنذر المديني:
ملوك بين حطي وسعفص في الندى
وهوز أرباب الثنية والحجر
وربما اختلفوا في مسألة الكتابة؛ لأنها طارئة لم يتعلمها منهم غير القليلين. أما النسب ومرجعه إلى نبات والنباتيين، فالتوافق فيه واضح بين رواية النسابين وتحقيق الأحافير.
الفصل الحادي عشر
مدن القوافل
أكثر غوامض التاريخ يخلقها المؤرخون؛ لأنهم ينظرون إلى التاريخ كأنه حسبة أرقام لإحصاء السنين والأيام، أو كأنه أطلس مواقع ومعالم، أو كأنه سجل حوادث وأنباء، ولو أنهم واجهوه على قاعدة واحدة، وهي أنه وصف نفوس إنسانية، وأن حوادثه وأنباءه ومعالمه ومواقعه، وكل ما يحسب فيه من السنين والأيام إنما هو تبع لوصف النفوس الإنسانية، لما بقي فيه غموض، أو بقي فيه الغموض الذي يغمض علينا لسبب مجهول.
وقد غمض على المؤرخين شيء كثير من أحوال الرسالات النبوية؛ لأنهم لم يرقبوا حالة مشتركة في جميع هذه الرسالات، وهي الحالة النفسية التي تكون عليها الأمم في طور واحد، وذلك هو طورها حيث تتصل البداوة والحضارة، فلم تتهيأ النفوس للرسالة النبوية في حالة قط كما تهيأت لها وهي قائمة بين البداوة والحضارة، ولم يعرف التاريخ رسالة نبوية في الحضارة دون غيرها، أو في الصحراء المنعزلة دون غيرها، وإنما عرفت هذه الرسالات على الدوام في مدينة حولها صحراء، أو في صحراء على مقربة من مدينة؛ ولهذا كانت مدن القوافل وما في حكمها أحق الأماكن بالدراسة من جانبها هذا الذي يرشحها لقيام الدعوات الدينية.
لم اختص الله الأمم السامية بالرسالات النبوية؟ لم لم تظهر هذه الرسالات في الهند أو في الصين أو في القارة الأوروبية؟ لم كانت هذه الرسالات هي الدور الذي تهيأت له أمة واحدة في وسط العالم؛ أمة وسطا كما نعتها القرآن الكريم؟
تلك أسئلة غامضة تظل في غموضها حتى ننظر في الأحوال النفسية التي يكون عليها الإنسان بين الحضارة والبداوة، ولا تهيئه لها الحضارة على انفراد، ولا البداوة على انفراد، بل لا بد فيها من التقاء الشعورين، وامتزاج المجتمعين، ولم يحدث قط أنهما التقيا وامتزجا على هذا النحو في غير البلاد التي قامت عليها الحضارات الأولى، وظلت زمنا طويلا جامعة بين الصحراء والمدينة والأقطار المتحضرة، كأنها خلقت للنهوض بهذه الأمانة، ثم نهضت بها ونشرتها في جميع أنحاء العالم، فهي دورها الأكبر بين سائر الأدوار التي توزعتها الأمم والعصور.
لماذا كانت مدن القوافل أو المدن القريبة من الصحراء أصلح البلاد للرسالة النبوية؟
إنها صلحت لذلك لأن الأحوال النفسية التي تتوافر فيها لا تتوافر في حضارة العمران المتصل، ولا تتوافر في الصحراء المنعزلة، ولا تتم أسبابها الحسنة ولا أسبابها السيئة في بيئة أخرى كما تتم في المدينة حولها الصحراء، فأما القطر الذي يتصل عليه العمران فهو مختلف من هذه الناحية، وأما الصحراء التي تنعزل عن العمران فهي من هذه الناحية مختلفة كذلك. وسنرى أوجه هذا الاختلاف في عرض موجز لهذين الطرفين المتقابلين، ثم نعود إلى الوسط الذي يلتقيان لديه.
إن القطر الذي تتصل فيه الحضارة، وتتلاحق فيه مظاهر العمران يعطينا المشترعين والكهان، ولا يعطينا الأنبياء المرسلين أو الرسل.
ففي هذا القطر يسري العرف، وترتقي العادات الاجتماعية، ويستقر نظام القانون والمعاملة، وقد يتقدم أهله في إدراك العقائد الدينية من طريق تقدم المجتمع، وتقدم الثقافة ومعاهد التعليم.
بل هو قد يتقدم قبل البداوة إلى إدراك عقيدة الوحدانية؛ لأن الدول الكبار تنشأ في مبدأ أمرها من قبيلة تتسلط على قبائل أصغر منها، ثم يجتمع من القبائل شعب كبير يتسلط على شعوب أصغر منه، فتقوم دولة الحضارة من امتزاج هذه القبائل والشعوب، وتتقدم إلى الإيمان بالوحدانية كلما اشتركت في عبادة واحدة يفرضها الشعب الذي سادت عبادته على مختلف العبادات.
فالقبيلة القوية تفرض على القبائل الصغيرة أن تطيع ربها، كما تفرض عليها أن تطيع أميرها، ثم يجتمع من هذه القبائل شعب كبير يفرض على الشعوب التي دخلت في حوزته أن تطيع ربه، وأن تدين بديانته، ولا تزال كذلك حتى يتوحد لها رب معبود تدين له جميعا، وتؤمن بوحدانيته، وتؤمن بسيادته على جميع الأرباب زمنا حتى يبطل التعدد، ويستقر التوحيد.
إن دولة الحضارة التي تقوم على هذه الأسس قد تسبق البداوة إلى الإيمان بالوحدانية، ولكن مسألة الدين فيها تئول إلى سلطان الكهان، وهم أعداء الأنبياء، وعداوتهم لهم تتكشف للعيان حتى في الأمم التي تعودت أن تتلقى الرسالات النبوية منذ عهد بعيد.
فلما توطد سلطان الكهنوت في بني إسرائيل، خرج من الكهان أنفسهم من يتنبأ وينكر دعوة النبوة على غير أصحاب الكهانة، وقال زكريا صاحب آخر كتاب - قبل الأخير - من كتب العهد القديم: ... يقول رب الجنود: إني أقطع أسماء الأصنام من الأرض فلا تذكر بعد، وأزيل الأنبياء أيضا والروح النجس من الأرض، ويكون إذا تنبأ أحد بعد أن أباه وأمه - والديه - يقولان له: لا تعيش لأنك تكلمت بالكذب باسم الرب، فيطعنه أبوه وأمه - والداه - عندما يتنبأ، ولا يلبسون ثوب شعر لأجل الغش، بل يقول: لست أنا نبيا، أنا إنسان فالح الأرض؛ لأن إنسانا اقتناني من صباي، فيقول له: ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول: هي التي جرحت بها في بيت أحبائي.
ويحدث أحيانا أن يتصدى الكاهن للنبي حماية لعرش الملك، كما فعل الكاهن أمصيا حين وبخ النبي عاموس وأنذره بالرحيل من بيت إيل: «فأرسل أمصيا كاهن بيت إيل إلى يربعام ملك إسرائيل قائلا: قد فتن عليك عاموس في وسط بيت إسرائيل، لا تقدر الأرض أن تطيق كل أقواله؛ لأنه هكذا قال عاموس: يموت يربعام بالسيف ويسبى إسرائيل عن أرضه، فقال أمصيا لعاموس: أيها الرائي، اذهب، اهرب إلى أرض يهوذا، وكل هناك خبزا، وهناك تنبأ، وأما بيت إيل فلا تعد تتنبأ فيها بعد؛ لأنها مقدس الملك، وبيت الملك.
فأجاب عاموس وقال لأمصيا: لست أنا نبيا ولا أنا ابن نبي، بل أنا راع وجاني جميزة، فأخذني الرب من وراء الضأن، وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل.»
وقد ينقسم الكهان والأنبياء إلى معسكرين عند الاختلاف على ولاية العهد، كما حدث عندما وثب «أدونيا » بن داود لاغتصاب العرش ... «وأعد لنفسه عجلات وفرسانا وخمسين رجلا يجرون أمامه، ولم يغضبه أبوه قط قائلا: لم فعلت هذا؟ وهو أيضا جميل الصورة جدا، وكان كلامه مع أبياثار الكاهن، وأما ناثان النبي فلم يدعه.»
وحدث في أوقات شتى أن مساومة السياسة وصلت إلى الإيمان بالإله المختار، فترك الملوك عبادته وعبدوا «البعل» وصنعوا له التماثيل، فتزوج آخاب، ملك إسرائيل، بنت ملك صيدا «وسار وعبد البعل وسجد له، وأقام مذبحا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة.»
وحدث هذا من أحد أبناء داود، فلم يستقم آحاز في عيني الرب كداود أبيه، «بل سار في طريق ملوك إسرائيل، وعمل أيضا تماثيل مسبوكة للبعليم.»
1
وكان النبي أرميا ينعى على الأنبياء أنهم يتواطئون على نسيان اسم الإله «كما نسي آباؤهم اسمي لأجل البعل». واستمرت هذه المساومات إلى عهد النبي هوشع الذي تخيل أمة إسرائيل مزفوفة إلى «يهوا»، لا تدعوه باسم البعل، وتنزع أسماء البعليم من فمها.
حدث هذا بين بني إسرائيل، ولم يطل بهم عهد الملك والاستقرار، ولم يزل أكثرهم رعاة يتنقلون في البادية، ولم يزل من هؤلاء الرعاة أناس يجهرون بالنبوة بين حين وحين، فليست دعوة النبوة بالدعوة التي تشيع وتجتذب إليها الأسماع في مواطن الحضارة القديمة، بعد استقرار العمران فيها بعاداته وآفاته مئات السنين أو ألوف السنين، وليس بالنادر في هذه المواطن أن يعلم الكهان حقيقة الوحدانية ويتركوا الشعب وشأنه يعبد الأصنام والأرباب المتعددة، ويتخذ له في كل إقليم ربا مقصورا عليه، ويستبقون إله الدولة الأكبر لمراسم الدولة الكبرى في الأعياد والمواكب التي يشهدها أصحاب التيجان ورؤساء الكهان.
وإذا شاع الفساد في مواطن الحضارة، فالمسألة في هذه الحالة مسألة تشريع وقانون، أو مسألة تنظيم وتدبير، وربما حالت ألفة العادات الفاسدة دون التنبه لإصلاحها بالتشريع أو بالتنظيم.
وأوضح الأمثلة على موقف الحضارة بالنسبة للدعوات الدينية هو مثل الملك إخناتون بالديار المصرية، فإن دعوة إخناتون بلغت بالتوحيد أعلى مرتقاه في تلك العصور، وبلغت بتنزيه الإله غاية لم تدركها حتى اليوم بعض الأمم في البلاد الشرقية أو الغربية، ولكنها دعوة جاءت من طريق الأوامر والقوانين ، ولم تلبث أن ذهبت بذهاب الملك الذي أصدر تلك الأوامر والقوانين، ثم عادت الحضارة إلى مجراها كأنها لم تنحرف عنه في عهد الملك الراحل طرفة عين.
فليست بلاد العمران المتصل مهدا صالحا للرسالة والنبوة، فما حال الصحراء التي انقطع ما بينها وبين العمران كل الانقطاع؟
إن لم يكن شأنها في أمر الرسالة النبوية شأن العمران المتصل فما هو بأصلح منه ولا أيسر.
فليس في الصحراء التي انقطع ما بينها وبين العمران من شريعة غير شريعة العدوان، ولا عمل للقبائل فيها غير الإغارة والاستعداد لدفع الغارات من الآخرين، وربما تفاهموا على آداب الجوار والمهادنة كأنها من التدبيرات العملية التي لا ترتقي إلى طبقة الفضيلة والعقيدة، وربما تحلى بعض الناس فيها بمناقب الشجاعة والسخاء وما إليها من مناقب الميادين، وشمائل السيادة والرئاسة. أما أن يتعارف المقاتلون المنقطعون عن العمران على الحقوق والفضائل، وخلائق الصلاح والاستقامة التي ينشرونها باسم الإله، ويستمعون وحيها من نذر السماء، فذلك من وراء التخيل فضلا عن التفكير.
وقد عرفت في البداوة حالات قريبة من عقيدة التوحيد، ولكنها لم تعرف حتى كان أصحابها معروفين لأهل العمران في المدن المجاورة، ولولا ذلك لما اتصل خبرها بالتاريخ.
فحالة البداوة التي ترشح أصحابها لعقيدة التوحيد هي حالة البدوي المترقي من عبادة الجن والعفاريت، الذين ينتشرون في كل موطن، إلى عبادة رب كريم يرعاه حيث سار وحيث أقام، فهذه الحالة من البداوة ترشح صاحبها للإيمان بالإله الموجود في كل مكان؛ لأن الإيمان بإله «محلي» محصور في مكان واحد عبث ينفر منه طبعه، ولا يلائم مطالب عيشه، ولا يتكفل له بالأمان الذي يتطلع إليه في حله وترحاله.
وكثير من أهل البادية الأقدمين من يجمعون بين عقيدة التوحيد وبين الوثنية على نحو يوافقهم في حالتي المقام والمسير، فيتخذون لهم تماثيل يحملونها معهم، ويرمزون بها إلى الإله، وقد بقيت هذه التماثيل عند قبائل بني إسرائيل إلى ما بعد أيام داود عليه السلام، وهي التماثيل التي كانوا يسمونها بالطرافين، ويقتنيها أصحاب كل بيت كما يقتنون اللوازم المنزلية
ولكن هذا التوحيد كتوحيد أهل الحضارة الذي تقدم ذكره، كلاهما لا يخلق الجو الذي يلائم الرسالة النبوية، ولا بد لهذا الجو من شيء يأخذه من البداوة، وشيء يأخذه من الحضارة، ولم يتحقق ذلك في غير مدينة القافلة وما إليها.
لا بد من النخوة الحية التي تتوقد بما تعتقد، وتحس في أعماقها أن العقيدة حياة تحياها، وليس قصاراها أنها تدبير من المجتمع، أو قانون من الدولة.
لا بد من بساطة التصديق الذي لا يعرف التردد، ولا يحسن اللف والدوران، وتخريج الكلمات، وتزييف الشعائر والأحكام.
لا بد من الاستغراق في الإيمان على وجهة واحدة لا تتحمل، ولا تتأول، ولا تجعل العقيدة أجزاء مفرقة تتوزعها النصوص والفتاوى، وتتعاورها
2
المتون والشروح.
لا بد من الجمع بين سهولة التغيير وصعوبة التغيير في وقت واحد، وهذه خصلة تتيسر للبداوة ولا تتيسر في الحضارة، فليس أكثر من التغيير في حياة البدوي؛ لأنه أبدا على عزم السفر والانتقال، وليس أكثر من الثبات في حياة البدوي؛ لأنه محافظ على عهد الآباء والأجداد ينوط
3
الفخر كله بما بقي له من التراث القديم.
وهذه هي حصة البداوة في تهيئة الجو للرسالة النبوية.
أما حصة الحضارة، فهي أصول الاستقرار، وقواعد الشريعة، وحماية المعاملة، وأسباب السخط والثورة والدعوة إلى التغيير.
وهذه الأسباب موفورة في مدينة القافلة من جوانبها الحسنة ومن جوانبها السيئة على سواء، وعندها حصتها وافية لقيام الدعوة النبوية في زمان بعد زمان.
فمن الأسباب الحسنة التي تهيأت بها مدينة القوافل للرسالة النبوية: «شقة الحرام» أو الحرم المقدس، أي المكان الذي تبطل فيه العداوات، ويتلاقى فيه الناس من كل ملة ونحلة على سلام.
فهذا الحرم المأمون من مأثورات المدائن المطروقة بحكم موقعها، وتشعب الموارد منها وإليها.
وقديما نشأت مدائن كهذه بين دولتين متناظرتين على عداء دائم لا يهدأ إلا في تلك المدائن المطروقة، كمدينة تدمر أو بعلبك في موقعها بين دولة القياصرة من الغرب، ودولة الأكاسرة من الشرق، ويتبع هؤلاء وهؤلاء أخلاط من كل قوم، وكل لغة، وكل عقيدة، وبينهم ما لا بد أن يكون بين هذه الأخلاط من التنافر، أو من الخصومة، أو من التراث والدخول، أو من التزاحم في المصالح والتجارات، فإن لم يكن هنالك ملاذ يأمنه الجميع، وحرم يتسع لعبادة كل عابد، وولاء كل حاكم، تقطعت العلاقات، وأحجم الوارد، وبارت التجارة، وكسدت الأسواق.
ومن المدائن ما يقوم في أمة واحدة متفرقة القبائل والبطون يتربص بعضها لبعض في كل موقع وكل موسم، ولا غنى لها عن موقع واحد في موسم معلوم تنسى فيه هذه الفوارق، ويتلاقى الناس فيه للمعاملة والمعاونة لا للقتال والانتقام.
فهذه الشقة الحرام أحد الأسباب الحسنة التي تتهيأ بها المدائن على حافة الصحراء لرعاية الحرمات، وفهم القداسة في البيع والمناسك، وكفى بكلمة «البيعة» نفسها دليلا على فضل المدائن المطروقة في رعاية حرم العبادة من أقدم العصور، وكفى بكلمة «الاحترام» دليلا على الصلة بين هذه المحرمات وبين شعور التوقير والرعاية.
ومن الأسباب الحسنة تقرير الحقوق، وإقامة القواعد في المعاملات، وتواضع المختلفين والمؤتلفين على مبادئ الأخذ والعطاء، والذمة والوفاء، وعمل الحاضر للغائب والقريب للبعيد على ثقة واطمئنان.
وليس في وسع أحد أن يزعم أن الحقوق والقواعد التي يتعارف عليها الناس في مدن القوافل تصان في كل صفقة، وتحفظ في كل علاقة، فقد يكون الغش فيها أكثر من الصدق، والخداع فيها أكثر من الأمانة، ولكنها على أسوأ الأحوال ملزمة للمشتركين فيها، لا يجترئ القوي على الجهر بنكرانها والعدوان عليها، سواء كان العدوان على قوي مثله، أو على ضعيف غير مرهوب الذمار.
ومن الأمثلة التاريخية على ذلك حرب الفجار وحلف الفضول في مكة المكرمة، وهي من أكبر مدن القوافل، ومن أعظم النماذج لها في جميع ما ذكرناه.
ففي حرب الفجار أجاز زعيم من هوازن قافلة للنعمان بن المنذر على غير العرف المتفق عليه، اعتزازا بعزته ومنعته، ومكانة النعمان بن المنذر في الأمم العربية، فهاجت لها حرب استمات فيها الفريقان حتى شد بعضهم نفسه بالحبال لكيلا يفر من القتال.
وفي حلف الفضول كان سبب الحلف أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة ، فاشتراها منه العاصي بن وائل، وحبس عنه حقه، فاستعان عليه الزبيدي جماعة من الرؤساء فلم يعينوه، فوقف الرجل على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس، وصاح يطلب الغوث، فمن جراء ذلك اجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جدعان، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه، ثم مشوا إلى العاصي بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه، وقال أحدهم:
سيعلم من حوالي البيت أنا
أباة الضيم نمنع كل عار
وقال ابن قتيبة: إن قريشا قد سبقها إلى مثل هذا الحلف قبيلة جرهم، فتحالف منهم ثلاثة؛ هم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، وفضل بن الحارث، فسمي لهذا حلف الفضول، وجاءت قريش فسمت حلفها بهذا الاسم؛ لأنه مقصود لما قصده الأحلاف الأولون.
وليس بالقليل ما تعلمته الأمم من إقامة «الحوزة» التي يدين لها الجميع بالرعاية، ويتعودون عندها أن يجعلوا الذمم والعهود في حماية الإله المعبود، ومن الجائز أن تعدد الأرباب، وتناقض الدعاوى في موطن واحد يجاور فيه كل دير نقيضه، قد فتح الأعين على ما وراء ذلك من السخرية والتهافت، ولا سيما أعين الطارئين العابرين من أهل البادية الدارجين على البساطة واجتناب المتناقضات.
أما الأسباب السيئة التي أوجبت قيام الدعوات النبوية في تلك المدن، فهي أسباب قوية كثيرة لم تكن توجد يومئذ في غيرها بهذه القوة وبهذه الكثرة.
وأقوى تلك الأسباب مساوئ الاحتكار والاستغلال؛ فإن تجارة العالم إذا توقفت على مدينة هنا ومدينة هناك؛ صارت في كل مدينة إلى فئة قليلة من السادة وأصحاب اليسار يحتكرون المقايضة والنقل، ويبرعون في أساليب المماسكة، ورفع الأسعار، وزيادة الضرائب والأجور على الرجال والمطايا وجند الحراسة، ويغتنم هؤلاء المحتكرون فرصتهم، فيخدعون البسطاء، ويحتالون على الأصول والشرائع، ويأخذون باليمين والشمال من الوارد والصادر، والغادي والرائح، ولا حيلة للتجار فيهم ولا لناقلي التجارة؛ لأنهم قابضون على الزمام، وليس في قدرة دولة أن تحاربهم إلا بالاشتباك في الحرب مع دولة أخرى، أو بإنفاق أموال في الغزو والحصار تزيد على الأموال التي يغتصبها المحتكرون أو يختلسونها، وقد يغلو هؤلاء المحتكرون في الجشع والتحكم حتى يدفعوا الدول إلى المجازفة بالغارة مرة تريحها من مرات.
كذلك صنع أنتيجون خليفة الإسكندر مع أهم هذه المدن في زمانه، وهي سلع «أو البتراء»، فجرد عليها حملتين ولم يفلح في غزوها، وهاجمها تراجان بقوة كبيرة فدمرها، وحول الطريق منها إلى بصرى، ولم يبق من حولها غير مدن صغار.
واشتهرت سدوم بين هذه المدن بالظلم وسوء المعاملة، وسلب الغرباء، وتدليس
4
القضاء، وفي قضائها يقول المعري:
وأي امرئ في الناس ألفى قاضيا
ولم يمض أحكاما كحكم سدوم
ومن أمثلة هذا القضاء في احتياله على الشريعة: أن رجلا اسمه حضور رأى طارئا غريبا أعجبه، في رحله بساط ملون، فدعاه إلى منزله ليبيت فيه، وسرق منه البساط، فلما طلبه الرجل قال له: إنك حالم، وإن تفسير البساط الملون في الرؤيا أنك تزرع أرضا ينمو فيها النبت من كل لون، ثم ساقه إلى القاضي ليعطيه أجره على تفسير رؤياه، فقضى له بالأجر المطلوب.
ومن أمثلتها أنهم سرقوا اليعازر خادم إبراهيم عليه السلام، فلما أخذ بتلابيبهم ضربوه، ورماه أحدهم بحجر وساقه إلى القاضي يطلب منه أجره على فصده، ولم يخلصه من حكم القاضي إلا أنه ضربه بحجر وأسال دمه، ثم قال له: إنني نزلت عن أجري كي تعطيه لغريمي!
وفي المشنا أسماء يزعمون أن اليعازر هذا أطلقها على قضاة سدوم، وهي شقارة أي الكاذب، وشقرورة أي المحتال، وكذبان أي المزور، ومضل دين أي المتجانف في دينونته وقضائه، وليس أكثر من حكايات التدليس التي تروى عنهم في كتب المشنا والمدراش.
ولا ينسى القارئ أن الجريمة الكبرى التي أحصاها القرآن الكريم على أهل مدين - ومدائن الحجر عامة - أنهم يختلسون ويطففون الكيل:
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (هود: 84-85).
ولا يلبث الترف أن يجني جنايته على هؤلاء المحتكرين فيغريهم بكل مفسدة، ويجلب على بلادهم كل فاسد، وشر هذه المفاسد في أعين أبناء الفطرة من قبائل البادية رذائل الشذوذ، وتدنيس غريزة النسل التي تصونها تلك القبائل على فطرتها، ولم توجد مدينة من مدائن القوافل سلمت من هذه الرذائل، حتى قالت كتب المدراش: إن طوفان نوح إنما كان من جرائر هذا الشذوذ في قومه، وإنه كان فاشيا في بيت المقدس يوم أنذر النبي حزقيال قومه بالنفي، أو بالسبي والتشريد.
5
هذه الأسباب جميعا هي التي هيأت مدن القوافل للدعوات الدينية؛ لأنها دعوة تتهيأ أسبابها بين الحاضرة والبادية، ولا بد لها من التقاء هذه وتلك، ولا غنى لها عن صفات المدينة وصفات الصحراء، ولحكمة بالغة قال النبي صلوات الله عليه: «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم.» ولحكمة بالغة قامت مدينة القوافل بدورها في تاريخ بني الإنسان، فنشأ الحكماء والنساك في الصين والهند على مثال كنفشيوس وبوذا، ولم ينشأ فيهم الأنبياء المرسلون والرسل المجاهدون؛ إذ كانت أمانة النبوة المجاهدة شيئا غير أمانة الإصلاح والتعليم، وما عهدنا سورة العقيدة تملأ الوجدان كله، وتشغل الحياة كلها كما عهدناها في المرسلين إلى الأقوام الذين عاشوا على هذه الرقعة الوسطى من العالم، وتلقوا عقائدهم كأنهم يصلون الأرض بالسماء صلة اللحم والدم، ولا يحسبونها سمة من سمات الأدب والمعرفة وكفى، أو نصا من نصوص الشريعة والنظام وحسب، أو نهجا من مناهج السلوك ولا زيادة.
وأحسب لو أننا بدأنا دراسة التواريخ الدينية في الشرق العربي على ضوء هذه الحقيقة، منذ بداءة النظر في هذه التواريخ؛ لما تسرع المتسرعون بالنفي والإنكار تارة، والفهاهة وسوء الفهم تارة أخرى، بل كان من الميسور لهم أن يربطوا الدعوات الدينية كما ترتبط الحلقات في السلسلة الواحدة، وأن يملئوا فراغ التاريخ بما يسده، بدلا من خلق الفراغ حيث لا فراغ.
إن بعض الفلكيين قد عرفوا أماكن الكواكب المجهولة قبل اختراع المجاهر المكبرة؛ لأنهم قدروا موقعها من الفلك بحساب المدارات والأحجام.
وقد عرف بعض الكيميين أماكن عناصر لم يشهدوها في الطبيعة؛ لأنهم قدروا نسبة الكهارب والنواة فيها إلى العناصر المشهودة.
ولو أننا تتبعنا سلسلة الدعوات في مواقعها وتواريخها لما قال المشككون: إن إبراهيم لم يوجد، بل قالوا: هنا مكان لإبراهيم لا بد أن يشغل، واستطاعوا بالبحث والمقارنة وتعليق النتائج بمقدماتها أن يربطوا بين أور وآشور، وبيت المقدس وجاشان، والبتراء ومكة؛ لأنها نسق واحد يدل الأخير منه على الأول، كما يتقدم الأول منه في زمانه ووضعه على الأخير، فكلها دعوات لا بد فيها من شخص الرسول، ولا بد فيها من عنصري الحضارة والبداوة، ولا بد فيها من تمام المجزوء، ووصل المقطوع، واطراد مراحل التطور على نهجه الوحيد، وليس له نهج وحيد أصلح من نهجه الذي هيأته أسباب الدعوات موقعا بعد موقع، كما تعينت مواقع الكواكب في دراسة الفلك، ومواقع العناصر في دراسة الكيمياء.
أو لعلنا نصل إلى النتيجة من درب قريب إذا اعتمدنا على قياس التاريخ بمقياسه الذي لا يقبل الخطأ، وهو تصور الحوادث كما يرسمها الواقع والعقل.
فإن هذا المقياس شبيه بمقياس العمليات الحسابية في التمييز بين الخطأ والصواب، وما علينا إذا أردنا أن نمتحن حادثة تاريخية أو سلسلة من الحوادث التاريخية، إلا أن نسأل أنفسنا: كيف ينبغي أن تحدث؟ فإذا ارتسمت لنا على الترتيب الذي يقبله العقل ويطابق الواقع؛ فذلك هو الامتحان الصادق، وما نستخلصه منه هو الصواب كأصدق ما يمكن أن يصوره تاريخ الحوادث لمن لم يشهدها شهادة العيان.
إذا كانت دعوات النبوة متصلة بمدائن القوافل، فليس أولى من بلاد النهرين في العصر القديم أن تبدأ منها الدعوة الأولى، ثم تتلوها المدن الأخرى على حسب مكانتها ومكانها من حيث النظر إلى الطرق العالمية، ومظاهر الحضارات المختلفة.
فالدول القديمة بين النهرين لم يكن لها نظام غير النظام الذي اشتهر في علم السياسة باسم نظام «حكومات المدائن»؛ لأنه يقوم على مدن أربع أو خمس من العواصم العظمى تحيط بها البادية، التي تزرع مرعاها، أو ترعى ماشيتها في المزارع الطبيعية، وتسافر بالقوافل على حسب مراحلها، ويجوز أن تتغلب دولة واحدة على جميع هذه المدن إلى فترة قصيرة، كما يجوز أن تتفرق وأن تنفرد كل منها بحكومتها، ولكنها على الحالتين مدائن تحيط بها البادية، وتعتمد على نقل التجارة من أقصى العالم المعمور إلى أقصاه في الأزمنة القديمة.
وترتيبها على حسب مكانتها ومكانها في وادي النهرين، وفي العالم كله، يبدأ من مدينة «أور» في الجنوب، وينتهي إلى مدينة «آشور» شمالا، ثم يتجه غربا وجنوبا إلى فلسطين ومدن خليج العقبة فالحجاز، حيث تلتقي قوافل الشمال وقوافل الجنوب.
فمدينة «أور» أهم هذه المدائن؛ لأنها تتلقى التجارة من البحر ومن البر، وتنقلها من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، كما تنقلها بين الجنوب والشمال.
ويليها في مكانها ومكانتها مدينة آشور؛ لأنها تأخذ من الجنوب وتوزع على ما حولها، وقد تصل قوافلها إلى أقصى الشمال من القارة الأوروبية كما تصل إلى آسيا الصغرى وأوروبة الشرقية.
وفي مدينة «أور» بدأت دعوة إبراهيم، وإلى مدينة «آشور» انتقلت، ولم يطل بها القرار في هذه النقلة العاجلة.
وهنا كان مبدأ الدعوة النبوية التي لم يكن لها نظير في غير هذه البقاع من أوطان الأمم العربية الأولى.
ويطرد الترتيب بزمانه كما يطرد بمكانه، فمن آشور إلى حبرون أو بيت المقدس، إلى مدن خليج العقبة، إلى مدينة الحجاز المقدسة، وعندها نهاية المطاف.
جاء في تاريخ مكة قبل أيام إسماعيل أن مضاض بن عمرو كان يعشر «أي يفرض ضريبة العشر» على من دخل مكة من شمالها، وأن السميدع كان يعشر على من دخل مكة من أسفلها.
وجاء في العهد القديم أن الخليل قدم العشر لصاحب بيت المقدس «ملكي صادق»؛ لأنه سادن الإله العلي في محرابها الأعلى.
نظام واحد في مدن القوافل يدل عليه هذان التاريخان المنفصلان.
وتتوالى الدعوات النبوية بعد ذلك على حسب المكانة بين مدن القوافل، وعلى حسب المكان من بقاع الهلال الخصيب والجزيرة العربية.
فلما بدأ تاريخ الدعوة النبوية من أور إلى آشور، إلى بيت المقدس، إلى مدن الجنوب، كانت هذه المدن الجنوبية على غايتها من الازدهار، وعلى غايتها من الفساد، وكان لها دورها الذي انتهى بكوارث الزلازل أو الهزيمة.
وبقيت شواهدها في خرائبها تنطق بما كان بينها من صلات ومعاملات.
ففي البتراء محاريب الحجارة السود التي تساقطت من السماء، وفيها هيكل البنت أو الربة المصرية «إيزيس»، وما إيزيس؟ أتكون هي العزى التي عبدت زمنا في الجنوب؟
تكون أو لا تكون؛ فالرواة الذين أرخوا ظهور الأصنام في الكعبة المقدسة بمكة لم يدرسوا الآثار المصرية، ولم يدرسوا الأحافير التي درسها العصريون في القرن العشرين، ولكنهم أرخوا الأصنام فقالوا: إن سيد مكة في زمانه «عمرو بن لحي» سافر إلى الشام وعاد منها بطائفة من الأصنام، وإن أبناء إسماعيل بالحجاز تعودوا عبادة الأنصاب؛ لأنهم كانوا يحملون معهم الحجارة المقدسة للتبرك بها كلما ابتعدوا من الحرم، ثم انتقلوا من التبرك بها إلى عبادتها مع طول الزمن، وكانت روايتهم هذه مصدقة لما فعله أتباع إبراهيم وموسى وسائر الأنبياء في الأماكن الأخرى، فهكذا تحولوا من عبادة الإله الواحد إلى عبادة الأنصاب والتعاويذ والتماثيل والطرافين. •••
وسواء صح هذا كله أو لم يصح، فالصحيح الذي لا شك فيه أن الصلة الدينية والثقافية واللغوية والتجارية لم تنقطع قط بين النبطيين والمكيين، وأننا لو سلكنا التاريخ الديني طردا وعكسا، ثم سلكناه عكسا وطردا، لما كان له من مسلك أقوم وأثبت من بدايته ونهايته بين «أور» في جنوب العراق ومكة في وسط الحجاز!
وإذا كان التاريخ يرتسم على هذه الصورة معقولا موافقا للواقع، أو ما ينبغي أن يقع، فلا وجه للشك فيه، بل الوجه كل الوجه أن نلتمس من طريقه هذا أسباب اليقين.
الفصل الثاني عشر
النبوة
عثر الباحثون في آثار بابل وآشور على كلمات كثيرة في الألواح المسمارية من مصطلحات علم الفلك القديم، ومنها أسماء المنازل والبروج ومجاميع الكواكب والنجوم.
وأكثر الباحثين في الآثار البابلية والآشورية معنيون بمباحث التوراة وتواريخ الأنبياء، لعلاقتها بأرض بابل أيام الخليل، ثم أيام السبي بعد عصر الخليل بأكثر من ألف سنة، فهي علاقة تمتد من أقدم العصور الأثرية إلى أحدثها؛ أي من قبل عصر الخليل إلى ما بعد عصر الميلاد.
فعاد الباحثون إلى كتب العهد القديم يعارضون عباراتها على الكلمات المسمارية، ولا سيما الكلمات التي تطلق على الشئون السماوية، فتوقفوا عند كلمات مختلفة كانوا يمرون بها ولا يلتفتون لمعنى فيها غير ظاهر معناها، وعن لبعضهم أن بعض الأنبياء من العبرانيين كانوا على علم بالفلك، وأن النصوص التي كتبت بها نبوءاتهم تثبت علمهم به على نحو قاطع، أو على ترجيح يقرب من اليقين.
وليس لإبراهيم كما هو معلوم نصوص محفوظة منسوبة إليه، ووجدت نبوءات يعقوب فعارضوها على معلوماتهم من اللغة المسمارية، واختاروا منها ما كان من قبيل الطوالع الفلكية، وهي الطوالع التي احتواها الإصحاح التاسع والأربعون من سفر التكوين، وفيها ينبئ يعقوب أبناءه بما يصيبهم في آخر الأيام، فتراءى لهم أن التوافق بين ألفاظها ومنازل السماء أوضح من أن يعزى إلى المصادفة، وهذا هو الإصحاح الذي وجهوا إليه معظم البحث في كلام يعقوب:
ودعا يعقوب بنيه وقال: اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام، اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب واصغوا إلى إسرائيل أبيكم.
رءوبين أنت بكري، قوتي وأول قدرتي، فضل الرفعة وفضل العز، فائرا كالماء لا تتفضل.
شمعون ولاوي أخوان، آلات ظلم سيوفهما، في مجلسهما لا تدخل نفسي، بمجتمعها لا تتحد كرامتي؛ لأنهما في غضبهما قتلا إنسانا، وفي رضاهما عرقبا ثورا.
يهوذا إياك يحمد إخوتك، يهوذا جرو أسد، جثا وربض كأسد وكلبوة، من ينهضه، لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب، رابطا بالكرمة جحشه، وبالجفنة ابن أتانه، غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه.
زبولون عند ساحل البحر يسكن.
يساكر حمار جسيم رابض بين الحظائر.
دان يدين شعبه كأحد أسباط إسرائيل، يكون دان حية على الطريق، يلسع عقبي الفرس فيسقط راكبه إلى الوراء.
جاد يزحمه جيش، ولكنه يزحم مؤخره.
أشير خبزه سمين، وهو يعطي لذات ملوك.
نفتالي ايله مسبية يعطي أقوالا حسنة.
يوسف غصن شجرة مثمرة على عين، فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام، ولكن ثبتت بمتانة قوسه، وتشددت سواعد يديه.
بنيامين ذئب يفترس، في الصباح يأكل غنيمة، وعند المساء يقسم نهبا.
هذه الطوالع درست باستفاضة وتدقيق، وكتب خلاصة درسها الأستاذ إيرك بروز في كتابه «طوالع يعقوب وبلعام»،
1
فانتهى منها إلى وحدة بين كل اسم من أسماء الأسباط وبين برج من أبراج السماء.
فرءوبين الفائر كالماء يقابل برج الدلو، وقد جاء في مدراش التكوين أن أباه قال له: جعلت نفسك دلوا، وبرج الدلو في منطقة البروج على صورة إنسان قائم باسط يديه، وآخذ بإحداهما كوزا مقلوبا ليسكب منه الماء، وفي الكلمة جناس بين كلمة رأب، بمعنى نام، واسم رءوبين.
و«شمعون ولاوي أخوان» طالع يشير إلى برج التوءمين، وهو برج إله الحرب زجال عند البابليين، ويصورون أحدهما وفي يديه خنجر، والآخر في يديه سلاح شبيه بالمنجل، وإلى هذا تشير كلمة «آلات الظلم التي في سيوفهما»، وتشير عرقبة الثور إلى برج الثور الذي يتعقبه التوءمان في السماء كأنهما يطاردانه ويعرقبان رجليه.
و«يهوذا ربض كأسد وكلبوة» إشارة إلى برج الأسد، وقد كان عند البابليين برجان؛ أحدهما: برج الأسد أرجولا، والثاني: أرماح، وهو أحد نجوم الدب الأكبر، وأمام الأسد في البروج علامة الملك
Seonis Rogulus ، وإلى هذا يشار بالقضيب الذي تخضع له ملوك، و«زبولون عند ساحل البحر يسكن» إشارة إلى برج الحوت، وكان عند البابليين على صورة أصبعين منفصلتين؛ إحداهما ترمز إلى الدجلة
Diglat ، والأخرى إلى الفرات
.
ويساكر إشارة إلى برج اليحمور «حمار جسيم رابض بين الحظائر». ويلفت الباحثون النظر إلى التشابه بين اللون الأشقر وبين يشاكر أو يساكر، وإلى ورود اليحمور بمعنى حمار الوحش ومعنى الظبي في اللغة العربية.
و«دان حية على الطريق يلسع عقبي الفرس» والمراد صورة الحية الشمالية أو عنق الحية، وموقعه إلى شمال برج العقرب.
أما قوله: «يلسع عقبي الفرس» فالإشارة فيه إلى النعائم الصادرة
Saguittaru ، وصورتهما كالسنتاؤر الذي له جسم فرس ورأس إنسان، ويضعون السلاح على مقدمه وعلى مؤخره، وقد يكون في هذا تفسير طالع «جاد» الذي يأتي بعد «دان» ويزحمه جيش، ولكنه يزحم مؤخره، وأشير طعامه سمين، والكلمة العبرية «لحم»، وتنصرف إلى برج السرطان، وإلى جانبه علامة الملك، ومن ثم يعطي لذات ملوك.
وعلى هذا النمط يمضي علماء الأحافير في تفسير هذه الطوالع، ومن تفسيراتهم ما هو قريب، ومنها ما هو بعيد معتسف؛ لارتباط الجناس اللفظي تارة بمدلول الفلك، وتارة بمدلول النسب والتاريخ.
وقد صنعوا مثل ذلك في دراسة طوالع بلعام كما جاءت في الإصحاح الثالث والعشرين وما بعده من سفر العدد، وقد اشتملت على تكرير عدد السبعة، وعلى اسم الثور والحمل والظبي والأسد، وعلى طوالع الأمم التي ليست من إسرائيل، وعارضوا المصطلحات الفلكية على أقوال الأنبياء الآخرين، وثبت على الأقل من هذه المعارضات أن معرفة الفلك كانت شائعة عند كتاب هذه الطوالع، سواء كتبت على أيام الأنبياء الذين نسبت إليهم، أو كتبت بعد أيامهم عندما تحقق بعض الطوالع، أو بدا أنه متحقق عما قريب.
فإذا صحت هذه التخريجات - كلها أو بعضها - فهذا موضوع من الموضوعات التي تطابقت فيها الأحافير وأخبار التواريخ الأثرية والتواريخ القديمة؛ إذ كانت هذه التواريخ مجمعة على معرفة الأنبياء الأوائل بالنجوم، وإن اختلفوا في المقصود بعلم النجوم.
وندع المبالغات من قبيل مفاخر يوسيفوس ودعواه أن إبراهيم هو الذي علم أحبار المصريين أسرار الكواكب وحساب الفلك، فليس الخبر كله في هذه المسألة خبر تواريخ وروايات؛ لأن العقل يفرض بغير حاجة إلى التواريخ والروايات أن يكون رؤساء القبائل المترحلة على علم بمواقع النجم، ومطالع الأفق، ومهاب الأنواء، وقد كان الأنبياء الأوائل رؤساء لقبائلهم لا تبرم هذه القبائل أمرا من الرحلة والإقامة إلا بمشورتهم وتوجيههم، ومقام الأنبياء في بابل حيث يرقب الناس الكواكب؛ لأنهم يعبدونها، ولأنهم يربطون بها مواسم الزرع والري خليق أن يشغلهم بها للمحاجة في شئون العبادة، وللنظر في شئون المعاش.
وقد جاء في القرآن الكريم أن إبراهيم كان ينظر في النجوم، وأن يوسف كان يعبر الرؤيا، وأن موسى كان يطلع على سحر الكهان، فمن موافقات الأحافير أنها تأتي بالسند المكتوب الذي يشرح لنا تفصيلات هذه الأخبار، ويكاد أن يعين لنا الوقت الذي كتبت فيه طوالع الأنبياء؛ لأن تقسيم بروج الفلك قد مر في أدوار متلاحقة من تاريخ بابل، بعضها محدود على وجه التقريب.
والحد الفاصل بين النبوة والكهانة في السلالة العبرية مرسوم أو كأنه مرسوم، فكان الأنبياء هم أول من تولى أمر الدين في أمم السلالة العربية، وكانوا يسوسون أمر الدنيا فيما تتطلبه الرئاسة، ومنه علم النجوم.
ثم افترق عمل النبي وعمل الكاهن، ووقع بينهما العداء أحيانا كما رأينا في غير هذا الفصل، فأصبحت الكهانة وظيفة تعارض النبوة في كثير من الأوقات، وهنا الفارق الأعظم بين النبوة والكهانة.
فالكهانة وظيفة، ولكن النبوة ليست بوظيفة، ولم يحدث قط أن أحدا عين نبيا لعمل النبوة كما حدث كثيرا تعيين الكهان لعمل الكهانة.
إن النبوة التي تنفصل من الكهانة خاصة لم تتكرر في غير السلالة العربية، فما من ديانة كبرى أو صغرى في أنحاء العالم إلا يستطيع المؤرخ أن يحيلها كلها من مبدأ التاريخ إلى عمل الكهان، وما من كهانة إلا وهي وظيفة قابلة للتعيين.
أما ديانات الأنبياء فلا وجود لها في غير السلالة العربية، والاختلاف بينها وبين الديانات الأخرى أن النبي لا يعنيه أحد، ولا ينبعث بأمر أحد، ولكنه ينبعث بباعث واحد من وحي ضميره ووحي خالقه، وقد يأتي ليصدم العبادات التي يقوم الكهان على شعائرها ومراسمها، وهم أنفسهم مرسومون معينون.
والفرق بين النبي وبين الكاهن في جوهر العمل أوسع جدا من الفرق بينهما في التعيين والاختيار، فالكاهن موكل بالشعائر والمراسم والأشكال، يحرص عليها ويأبى أن يشاركه أحد فيها.
ولكن النبي تعنيه روح الدين وحقيقته في الضمير قبل هذه الشعائر والمراسم والأشكال.
سريرة الإنسان هي وجهة النبي وغايته من التبشير والإنذار، وأما الكاهن فوجهته نظام المجتمع وتقاليد الدولة وما إليها من الظواهر أو الواجبات العامة.
ولم تخل الديانات الكبرى من أحبار معينين يوجبون على الناس الاستقامة، ويحذرونهم غضب الإله على الذين ينحرفون عن سبيلها.
ولكن الإله هنا أشبه برئيس الديوان الذي يجري الأحكام وفقا للمأثور من نظام الدولة، والكاهن أشبه بمندوبه وأمين سره في المحاسبة على الشريعة: كلها مسألة نظام ومجتمع، وكلها مراسم وتقاليد.
أما النبي فالعالم الذي يصوره لنا أسرة حية، والإله قائم على ذلك العالم لأنه على صلة قريبة بكل من فيه من خلقه، وكل كائن من تلك الخلائق رهين
2
برضاه وغضبه، وذو شأن في دعوة الدين مقدم على شأن المجتمع والدولة، وأهمه وأصدقه ما كان في الضمائر والنيات.
والنبي ذو شأن حي في دعوته يلعج نفسه ولا يريحه دون أن يبرئ منه ذمته، وليس كذلك جماعة الكهان الذين لهم محل مستقر، وعمل راتب، وعلاقة بالناس كعلاقة المصالح والأشغال.
وهنا أيضا نرجع إلى «القبيلة»، ولا سيما القبيلة في حالة الشعور بالخطر كائنا ما كان، فضلا عن الخطر الأبدي الذي يحيق بالحياة وما بعد الحياة.
فلا ينتظر من المصلح أو المعلم أو الكاهن في بلاد الحضارة والعمران أن تخامره نخوة اللحم والدم كما تخامر النفس التي تعودتها في كل شعور، وفي كل علاقة، ولم تعرف حالة غيرها فيما بينها وبين الناس.
إذا كان هذا الطابع ملازما لبعثات الرسالة حول مدن القوافل جميعا، فقد عرفنا ما نفتقده إذا افتقدنا سرا من أسرارها، وعرفنا كيف نتتبع آثارها إذا انقطعت الصلة بين سوابقها ولواحقها، فلا نخبط على ضلال، ولا نضيع البحث في شكوك محيرة للسالك، لا موجب لها على هذا المهيع المسلوك.
الفصل الثالث عشر
أنبياء من غير بني إسرائيل
كلمة النبي عربية لفظا ومعنى:
عربية لفظا؛ لأن مادة النبأ والنبوءة أصيلة في اللغة.
وعربية معنى؛ لأن المعنى الذي تؤديه لا تجمعه كلمة واحدة في اللغات الأخرى؛ فهي تجمع معاني الكشف والوحي والإنباء بالغيب والإنذار والتبشير، وهي معان متفرقة تؤديها اللغات الحديثة بكلمات متعددة، فالكشف مثلا تؤديه في اللغة الإنجليزية كلمة
Revelation ، والوحي تؤديه كلمة
Inspiration ، واستطلاع الغيب تؤديه كلمة
Divination
أو
Oracle ، ولا تجتمع كلها في معنى النبوة كما تجتمع في هذه الكلمة باللغة العربية.
وقد وجدت كلمة النبوة في اللغة العربية غير مستعارة من معنى آخر؛ لأن اللغة العربية غنية جدا بكلمات العرافة والعيافة والكهانة وما إليها من الكلمات، التي لا تلتبس في لسان العربي بمعنى النبوة كما تلتبس في الألسنة الأخرى عند أصل التسمية، واشتقاق المعاني الجديدة من الألفاظ القديمة.
فكلمة النبي تدل على معنى واحد لا تدل على غيره، خلافا لأمثالها من الكلمات في كثير من اللغات.
والعبريون قد استعاروها من العرب في شمال الجزيرة بعد اتصالهم بها؛ لأنهم كانوا يسمون الأنبياء الأقدمين بالآباء، وكانوا يسمون المطلع على الغيب بعد ذلك باسم الرائي والناظر، ولم يفهموا من كلمة النبوة في مبدأ الأمر إلا معنى الإنذار.
وقد أشارت التوراة إلى ثلاثة أنبياء من العرب غير ملكي صادق الذي لقيه الخليل عند بيت المقدس، وهؤلاء الأنبياء الثلاثة هم: يثرون، وبلعام، وأيوب، ومنهم من يقال: إنه ظهر قبل اثنين وأربعين قرنا، وهو أيوب. وقصة بلعام تروي لنا ما حدث بين شيوخ مديان «مدين» بعد خروج بني إسرائيل من مصر، فإن بالاق ملك موآب قد استعان عليهم بالنبي بلعام من تخوم العراق ليبطل دعواهم باسم النبوة، ويدحض أقوالهم بأقوال من قبيلها، فجاء بلعام وحكم بتفضيل عبادة الله على عبادة بعل الذي كان يومئذ معبودا للموآبيين.
وأما يثرون فهو نبي مدين قبل خروج بني إسرائيل من مصر، ويظن بعض الشراح أنه هو شعيب المشار إليه في القرآن، ولعل شعيبا هو قريبه «هوباب» أو شوباب بمعنى محبوب الله، وبين النطق العربي والنطق العبري تقارب محسوس، ومن شراح التوراة من يقول: إن «يثرون» لقب وليس باسم يدعى به نبي مدين، فلا يبعد إذن أن يكون شعيب اسمه الذي لم يذكروه.
ومجمل القصة مع قصة بلعام يفيد أن النبوة كانت معهودة متكررة في تلك الأرض قبل خروج بني إسرائيل من مصر، وأيام أن كان موسى سائحا في الأرض لم يتلق الوحي ولم يرجع إلى مصر ليخرج بقومه منها ... أما أيوب فالرحالة برترام توماس، صاحب كتاب «مفزعات وكشوف في بلاد العرب»
Alarms and Exploration in Arabia ، يحسبه من أهل عمان، وغيره يحسبه من أهل نجد، وزمنه متباعد بين المؤرخين وشراح التوراة.
ومنهم من استعان بعلم الفلك على تحديد زمنه؛ لأنه ذكر النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب في القبة السماوية، وفي إشارته إلى عين الثور وقلب العقرب من منازل الفلك ما يفهم منه زمان تلك المقارنات على تقدير الفلكيين المحدثين، وقد ذكر المفسر هالس
Hales
أن هذه المقارنات تجعل تاريخ أيوب قريبا من سنة 2300 قبل الميلاد.
ومما يقرب هذا التقدير ويدل على اتصال أيوب بالبلاد المصرية: أنه ذكر الأهرام والمدافن التي يبنيها الملوك لأنفسهم، ولكنه إذا لم يبلغ هذا الحد من القدم فلا شك عند جمهرة الشراح في سبقه لعهد الخروج من مصر، وحجتهم على ذلك أنه لم يشر بكلمة واحدة إلى الخروج، ولا إلى خراب المدن التي دمرتها الزلازل بجواره، ولم يرد ذكر «يهواه» في صلب كتابه، وإنما ورد في المقدمة والذيل، وهما مضافان بعد عصره كما هو راجح عند الشراح.
ولم تكن حجته قط في الخلاص وطلب الرحمة أنه يعتمد على موعد الله للآباء والأسلاف، وقد جاء في مزامير داود وأمثال سليمان كلام يشبه كلامه كأنه مقتبس منه، فهو من أقدم الأنبياء في الجزيرة العربية، وكلهم متفقون على أنه من أبنائها وإن اختلفوا في مكانه بين شمال نجد وشرق العقبة.
ومن جامعي التوراة من يضع سفره بين كتب موسى وكتاب يوشع وسائر الأنبياء من بني إسرائيل، وهكذا وضعه جامع النسخة السريانية من كتاب العهد القديم. •••
وقد كان أيوب يعرف الكتابة، ولكنه أشار إلى أقدم أدوات الكتابة كما هي معهودة بمصر: نقش بالحديد على الحجر، وليست طبعا على الطين المحروق، أو خطوطا على الأوراق والجلود، ما عدا طين الخاتم الذي كان يطبع في البلاد الشرقية جميعا على نحو واحد.
أما عقيدة أيوب كما تفهم من سفره المجموع في العهد القديم فغاية في السمو والكرم والتنزيه.
إنه ينكر عبادة الشمس والقمر، ويصف الله القدير بأنه أعلى من السماوات، وأعمق من الهاوية، وأعرض من البحر، وسوى بين الحر والعبد قائلا: «أوليس صانعي في البطن صانعه وقد صورنا واحد في الرحم؟» ويحمد من الغني أن يكون أبا للفقراء، وأن تكتئب نفسه على المساكين، وأن يبكي لمن عسر يومه، ويستعيذ بالله أن ينظر إنسان إلى امرأة غير امرأته، وأن يطمع في مال غير ماله.
وأجل من ذلك شأنا في تاريخ العقيدة الدينية، أنه كان أول من نص على البعث في كتب العهد القديم، وكانت تربيته الإلهية التي انتهى منها إلى هذه العقيدة تربية طويلة صبر فيها على نكبات المرض والبوار وخيانة الأقربين والأبناء، وتدرج من القول بالزوال والعدم إلى القول برؤية الله بعد فناء الجسد، فكان في أول السفر يقول: «الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد.» ويقول: «الإنسان يضطجع ولا يقوم.» و«إذا مضت سنوات قليلة أسلك في طريق لا أعود منها.» ويتساءل: «إن مات رجل أفيحيا؟» ثم انتهى من هذه التجارب إلى الأمل في خلود النفس ولقاء الله «فبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي، أرى الله.» •••
وعلى الجملة يبدو سفر أيوب غريبا في وضعه وموضوعه بين أسفار العهد القديم، ولم يكن من عادة بني إسرائيل أن يجمعوا في التوراة كتبا لغير أنبيائهم المتحدثين عن ميثاقهم وميعادهم، ولكنهم جمعوا هذا السفر مع الأسفار المشهورة لأنهم وجدوه في بقاع فلسطين الجنوبية محفوظا يتذاكره الرواة، وحسبه بعضهم من كلام موسى، وبعضهم من كلام سليمان، ولا عجب أن يشيع هذا الكتاب العجيب حيث تسامع به الناس؛ فإنه عزاء صالح للمتعزين، وعبرة صالحة للمعتبرين، ولا تزال قصة أيوب منظومة شائعة يتغنى بها شعراء اللغة العربية الدارجة في مصر والشام، ولا نعرف كتابا من كتب التوراة ظفر في رأي النقاد الغربيين بالإعجاب الأدبي الذي ظفر به سفر أيوب، فقال توماس كارلايل عنه: «إنه واحد من أجل الأشياء التي وعتها الكتابة، وإنه أقدم المأثورات عن تلك القضية التي لا تنتهي، قضية الإنسان والقدر والأساليب الإلهية معه على هذه الأرض، ولا أحسب أن شيئا كتب مما يضارعه في قيمته الأدبية.»
وقال فيكتور هيجو: «إنه ربما كان أعظم آية أخرجتها بصيرة الإنسان.»
وقال شاف
Schaff : «إنه يرتفع كالهرم في تاريخ الأدب بلا سابقة وبغير نظير.»
أما بلعام ويثرون فقد ذكر الأول في كتب العهد القديم لأنه نصر بني إسرائيل في الخصومة بينهم وبين الموآبيين، وذكر الثاني لما بينه وبين موسى من المصاهرة، وما كان له من الفضل في تعليمه نظام الحكم وسياسة القبائل، وغيرهم ولا شك كثيرون لم يذكروا في المراجع اليهودية؛ إذ كانت هذه المناسبات لا تستوعب تاريخ البقاع بين تخوم العراق وتخوم العقبة وما وراءها من أرض الجنوب.
وهذا بعض القرائن على مكانة النبوة في أرض الجنوب مما يلي سيناء والحجاز، ومن القرائن الأخرى في كتب العهدين القديم والجديد يفهم بغير تردد أن تلك البقاع كانت وجهة الأنبياء في كل عصر تحدثت عنه تلك الكتب؛ فإبراهيم توجه إلى جيرار، وموسى توجه إلى مدين «مديان»، وبولس الرسول قال في كتاب غلاطية: إنه ذهب إلى بلاد العرب قبل أن يأتي إلى دمشق، ولم يفتأ بنو إسرائيل إلى عهد المسيح ينعون على الشمال أنه لا يخرج منه شيء حسن، وينتظرون النبوءات من برية الجنوب. •••
ويجب أن يتأنى المؤرخ طويلا عند ملاحظة هذه القرائن المتعددة؛ فهي في تاريخ الخليل دليل على الوجهة التي يجب أن يبحث عنها المؤرخ إذا أراد البحث الصحيح عن مسلك الخليل في أيامه الأخيرة، فإنما يكون مسلكه المعقول إلى طريق الجنوب، ولا يعقل له مسلك إلى بيت المقدس يستقر عليه قراره؛ فإن المصادر الإسرائيلية نفسها تقول: إنه كان غريب الدعوة والموطن في حبرون، وإنه اشترى مدفنه من الحيثيين. وما لم تكن له دعوة ولا موطن في الأرض فالجنوب الذي اتجه إليه، واتجه إليه أصحاب الدعوات النبوية، أحرى أن يكون قبلته ومرجعه. وليس من الغريب أن تتعمد المصادر اليهودية إغفال هذه القبلة والتعلق ببيت المقدس بعد أن قام فيها عرش داود؛ فإنها الدعوة التي يقومون بها، ويسقطون بنفيها. وفي ذلك وحده تفسير يغني عن كل تفسير.
الفصل الرابع عشر
العقائد والشعائر
من الألف الثالثة إلى الألف الثانية قبل الميلاد، أقام في البلاد العربية أناس من أتباع كل عقيدة دينية عرفت في تلك العصور.
وكان مركزها الأكبر في بلاد النهرين ، حيث تتابعت الدول فتتابعت معها الديانات والشعائر ومراسم العبادة.
عبدت فيها الكواكب، وعبدت فيها الملوك، وعبدت فيها قوى الطبيعة، وعبدت فيها الأرباب العليا التي تعم عبادتها رجال الدولة، وعبدت فيها الأرباب المحلية التي يدين بها أبناء كل إقليم على حدة، ولا تشترك الأقاليم جميعا في عبادتها.
وقامت الشعائر على اختلافها مع كل دين من هذه الأديان، فعرفوا الضحايا البشرية كما عرفوا القرابين من غلات الزراعة في مواسمها، وعرفوا الصلوات في الهياكل بقيادة الكهان، كما عرفوا الصلوات في البيوت أو في المدافن الملحقة بها، وعرفوا الديانات التي تؤمن بالروح والجسد، كما عرفوا الديانات التي تؤمن بالجسد ولا تذكر شيئا عن الروح، أو التي تؤمن بأن الروح يلصق بالأعضاء فلا ينتقل إلى العالم الآخر ما دام للجسد بقية باقية.
ومنهم من كان يفهم أن العالم الآخر ناحية من هذا العالم الأرضي، أو هاوية في أعماقه، ومن كان يفهم أنه آت بعد حين في آخر الزمان.
وشوهد من الآثار والأحافير أن هذه الديانات تتغير كلما تغيرت الدولة القائمة في مكانها، فيقضي الدين الجديد على بعضها، ويستبقي بعضا منها أو يحوله إلى صورة أخرى.
ومعظم هذه الشعائر والعبادات له علاقة بدعوة الخليل إبراهيم؛ إما بالإقرار أو بالإنكار والتحويل.
وسبيل الباحثين إلى تصفية هذه الشعائر والعبادات عسير، بل جد عسير؛ لاختلاط الأزمنة واختلاط الشعوب واختلاط البقايا في العصر الواحد، فلا ندري على التحقيق ما كان من عقيدة هذا الفريق وما كان من عقيدة غيره، ولا وسيلة إلى الجزم بالقديم منها والحديث.
ويصدق هذا على العقائد والشعائر التي يقبلها أناس ويستنكرها أناس آخرون، ولكنه لا يصدق على العقائد والشعائر التي يمكن أن يقبلها أتباع العبادات المتناقضة في وقت واحد، كالحج، وقد كان مفروضا في الجاهلية وظل مفروضا في الإسلام مع اختلاف العقيدة والحكمة فيه، وكالقول عن أصل الخليقة، وقد اتفقت فيه الأديان الكتابية على الجملة، وظهر من الآثار والأحافير أنه كان من عقائد الأمم الغابرة قبل الأديان الكتابية، وما لم يأت نص بالمخالفة فليس ما يمنع تعاقب الأديان على قول واحد في هذه الأمور.
والمتواتر في سيرة الخليل إبراهيم أنه شهد عبادات الأقوام في عصره من أرض النهرين إلى وادي النيل، وأنه تنقل بين أقطار تتناقض في بعض العبادات، وتتلاقى في بعضها على اتفاق قريب أو بعيد، فإذا نظرنا فيما أبقى وفيما ترك، وعارضناه على المشهور من عبادات أولئك الأقوام، فليس من العسير أن نستخلص رسالته عليه السلام، وما فيها من الجديد والقديم، ومن الوفاق أو الخلاف.
وحاصل ما يقال هنا قبل تلخيص العقائد والعبادات في زمانه: أن ظهوره عليه السلام قد كان ولا ريب على مفترق من الطرق يختلف فيه الجيلان في البيت الواحد، فضلا عن الملتين أو القطرين.
وهذه طائفة من العقائد والشعائر التي كانت لها علاقة بدعوته، وينبغي النظر فيها قبل التصفية التي نخلص منها إلى بيان رسالته ورسالة الخالفين من بعده. (1) قصة الخليقة
وجدت قصة الخليقة منقوشة بالخط المسماري على الألواح التي عثر عليها المنقبون عند مدينة الموصل، ونقلوها إلى المتحف البريطاني بلندن حيث تعاون المفسرون على تفسيرها، وهذه خلاصتها:
ويلي هذا بعد كلام مفقود أو مطموس في الألواح المكسورة، كلام عن الخلق في اليوم الرابع حيث صنع منازل لأعظم الأرباب، وصنع بروج الفلك على صور الحيوان، وقسم السنة إلى أربعة فصول، وإلى اثني عشر شهرا في كل فصل منها ثلاثة شهور، وجعل فيها أيام المواسم والأعياد. «وصنع للسيارات منازل تشرق فيها وتغرب، ولا يصدم بعضها بعضا في الطريق، ووضعها في منازل بعل وحي.
وأقام لها مواصد على جوانبها، وأغلاقا على اليمين واليسار.
وأقام في الوسط نيرين، أقام القمر يسيطر على الليل ويسير فيه إلى مطلع الفجر، وقدس في كل شهر أياما، ليبرز في غرة الشهر قرنيه وينير أجواز السماء.»
ثم يلي هذا كلام ناقص عن اليوم السادس يتلى بعد إتمامه على الوجه الآتي: «واجتمعت الأرباب وخلقت الوحوش والأنعام والدواب، ومنها جماعة بيتي «أنا آشور السماء» ... وكانت فيه بهجة.
والإله المشرف جعل فيها اثنين ...» •••
وفي المتحف البريطاني لوح عليه صورة شجرة جلس إلى جانبها رجل وامرأة، ووراء المرأة حية، وقد بسطا يديهما إلى ثمرتين بأسفل الأغصان.
وفحوى قصة خلق الإنسان أن الإله مردوخ فاتح الإله «آيا» رب الماء العذب، فأفضى إليه بأنه سيخلق الإنسان من دمه وعظمه، وأمر حاشيته أن تضرب عنقه ليسيل دمه، فنجم منه الإنسان، ولم يمت الإله مردوخ؛ لأن الإله لا يموت، ولكن الإنسان قضي عليه بالموت بعد ذلك لأنه طمح بآماله إلى خلود كخلود الأرباب. (2) قصة الطوفان
وتؤلف قصة الطوفان البابلية من اثني عشر فصلا على حسب البروج، وراوي القصة يسمى «أسدبار»، وقد عبر بحر الموت ليصعد إلى السماء، ويلقى زستور الذي ارتفع إليها بعد نجاته من الطوفان، والباقي من ألواح هذه القصة في المتحف البريطاني يحكيها على هذا المثال. «ابن بيتا واصنع سفينة تحفظ النبات والحيوان، واخزن البذور واخزن معها بذور الحياة من كل نوع تحمله السفينة، وليكن طولها ستمائة قدم في ستين عرضا، وتدخل السفينة وتحكم إغلاقها، وتضع في وسطها الحبوب والمتاع والأزواد والخدم والجند، وتضع فيها كذلك أجناس الوحش لتحفظ ذريتها ... ... وقال الله ليلا: إني سأرسل السماء مدرارا، فادخل إلى جوف السفينة وأغلق عليك بابها، وتغطى وجه الأرض وهلك كل ما عليه من الأحياء، وفار الماء حتى بلغ السماء، ولم ينتظر أخ أخاه، ولم يعرف جار جاره، ستة أيام وستة ليال والريح تعصف، والأنواء تطغى، ثم كان اليوم السابع فانقطع المطر، وسكنت العاصفة التي ماجت كموج الزلزال. سكنت العاصفة، وانحسر البحر، وانتهى الطوفان، وعج البحر بعد ذلك عجيجه، واستحال الناس طينا، وطفت أجسادهم على وجه الماء.
ثم استوت السفينة على جبل نيزار، وأرسلت أنا الحمامة فذهبت وعادت ولم تجد من مقر تهبط عليه، فأرسلت عصفور السمانة فعاد وما هبط على مكان، وأرسلت الغراب فراح ينهش الجثث الطافية ولم يرجع، ثم أطلقت الحيوانات في الجهات الأربع، وبنيت على رأس الجبل مذبحا، فقربت لديه قربانا وفرقته في آنية سبعة، وفرشت حوله الريحان، وشمت الأرباب رائحة جيدة فاجتمعت على القربان، ونظرت أعاظم الأرباب من بعيد، وارتفعت أقواس السحاب تحييها عند اقترابها.»
وقد علم المنقبون أن هذه القصة منسوخة من مصدر قديم أقدم منها، فهذه الألواح لا يقل تاريخها عن ألفين وخمسمائة سنة، والمصدر الذي نقلت منه يرجع إلى أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد.
وعلم المنقبون في جميع آثار الأرض، التي كشفت في العالم القديم أو العالم الجديد، أن قصة الطوفان عامة لا تنفرد بها الآثار البابلية، ولا يقل تاريخها في القدم عن تاريخها. (3) عبادة الكواكب
ومن كلامهم عن الخليقة والطوفان نعلم أنهم كانوا يؤمنون بإله عظيم خلق الآلهة الصغار، وقدر لها منازلها في السماء.
وهذه الآلهة الصغار هي الأجرام العلوية، وأشهرها القمر، وقد عمت عبادته بلاد الساميين «أو العرب الأوائل» من وادي النهرين إلى سيناء، ويسمونه سين، ومنها أخذ اسم سيناء، ولعله في الأصل من مادة السنى والسناء.
وكان له اسم علم في وادي النهرين هو «نانار»، وهو الذي يتوجهون إليه بالعبادة، وكان له مركز في مدينة «أور» بلد الخليل إبراهيم، ومركز في شمال العراق، ومعه هناك إله آخر يسمونه مردوخ أو المريخ.
وفي صلواتهم للقمر يقولون: «يا رب، يا من قدرته الوهابة تمتد ما بين السماء والأرض، ومن يجلب الغيوم والمواسم، ويسهر على الأحياء، ومن يعظم في السماء عالية وصيته، ومن يعظم في الأرض عالية وصيته، ومن تسبح له الأرواح السماوية والأرواح الأرضية، مشيئتك أنت في السماء مشرقة، ونسألك أن تكشف لنا مشيئتك على الأرض؛ فإن مشيئتك تطيل الحياة، وتبسط لها الرجاء، وتشمل كل كائن شمولا عجيبا، وأنت تجري العدل على قضاء الإنسان، وما من أحد ينفذ إلى سرها أو يقيس عليها ... أنت رب الأرباب ما لك من شبيه ولا نظير ...»
وكانوا منذ أقدم العصور على عهد السومريين «أو الشمريين» يرفعون الصروح لرصد الكواكب واستطلاع الطريق، وهي الصروح التي يسمونها «زجراث» أو أماكن عالية. ويعلل المؤرخون المنقبون ذلك بنشأة السومريين في بلاد جبلية، وأن الجبل والشرق والبلد يطلق عليها في لغتهم اسم واحد هو «كور»، ومعناه في العربية قريب من هذا المعنى؛ لأنه يطلق على مجتمع القرى ،
1
وعلى العمامة، وعلى الكارة التي تحمل على الرأس أو الكتف.
وكانت هياكلهم المبنية ترصد للأرباب السماوية، وتنصب فيها التماثيل بأسمائها، ومن هنا عبادة الأصنام.
وأشهر الكواكب المعبودة بعد القمر كوكب الزهرة «عشتار»، وكوكب المريخ «مردوخ»، وينسبون إلى الزهرة أنها ربة الحب لتألقها وزهوها وتقلب أحوالها، وينسبون إلى المريخ أنه رب الحرب لاحمرار لونه كلون الدماء.
على أنهم عبدوا الشمس قديما باسم «شماس»، وإن لم تكن عبادتها عامة بينهم كعموم عبادة القمر.
ويقول وولي
Woolley
في كتابه عن إبراهيم، وهو من أشهر علماء الأحافير:
إن الآلهة كانوا عند السومريين على ما يظهر ثلاث طبقات: الآلهة العظيمة التي تخصص لها هياكل الدولة، والآلهة التي دونها، وهي التي تقام لها المعابد في مسالك الطرق، ودون ذلك آلهة الأسرة، والأغلب على الآلهة العظيمة أنها كانت تشخص قوى الطبيعة؛ كالشمس والقمر والماء والأرض والنار والبرق والنضال والخصب والموت، وعندها تكمن جميع القوى، ويكون التفوق بينها على حسب أحوال الربانية المتعددة. وقد كانت لها أقاليم تغلب العبادة لكل منها على إقليم، ومن ثم لا يفرض الولاء الكامل له في غير ذلك الإقليم؛ ففي أور عبادة نانار، وفي أريكة عبادة أشتار، وقد يتنازعان فتصبح كل قوة مشلولة من جراء ذلك النزاع.
والآن وقد غلبت مدينة لارسا على إقليم الجنوب فقد أصبح شماس إله الشمس خليقا أن يبسط سلطانه على المدن الأخرى التي دخلت في طاعته، وأصبحت سطوة بابل مرادفة لسطوة مردوخ، ولم يكن في السماء قرار ولا برهان إلا بمقدار ما في الأرض من البشر، كلا ولا كانت ثمة شريعة للأخلاق أرفع من شريعتهم.
وقد كانت لهم حجة إلى الشمال لاعتقادهم أنه مركز القطب الثابت، ولكن التنازع بين دول الشمال ودول الجنوب حال دون الاتفاق على عبادته، ويظهر أن الصابئين أو السابحين الذين ظلوا يعبدونه في الجنوب بقيت نحلتهم في مكانها على خلاف مع من حولها. (4) عبادة الملوك
وفي متحف أشمول
2
بإنجلترا أسماء الأسر التي حكمت بابل من بعد الطوفان إلى أيام سراجون، وقد جاء في الألواح التي حفظت أسماءها أن الأسرة الأولى تولى منها الملك ثلاثة وعشرون ملكا، وكانت مدة حكمهم جميعا أربعة وعشرين ألف سنة وخمسمائة وعشر سنوات.
وكتاب الألواح مجمعون على أن الملوك الأوائل الذين حكموا بعد الطوفان قد هبطوا من السماء إلى الأرض لحكمها، بعد أن طهرها الله وعاقبها على فسادها.
فهم أرباب سماويون تجب عبادتهم على الرعايا.
وأشهر من حكم منهم في مدينة «أور» أورنامو
Ur Nammu
صاحب الصرح الشاهق الذي أقيم لعبادة القمر، وله تمثال نقل إلى متحف بنسلفانيا بأمريكا.
وقد خلفه ابنه دنقي أو شلقي - على حسب اختلاف المنقبين في أساليب ترتيب الحروف والنطق بها - وهو أحد العواهل السومريين الذين فرضوا عبادتهم على جميع البلاد توحيدا للدولة، وزوج بنته لأمير عيلام «غير بعيد من السليمانية في بلاد الكرد في العهد الحاضر» ليضم إليه الإمارات المجاورة، واتخذ أصحاب الأقواس الطوال من جند أور، وخرج بهم وبالفرق القوية من البلاد الأخرى إلى الشمال لغزوه وإلحاقه بدولته، فامتدت مملكته من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال بوادي النهرين. ويقدر المؤرخ المتخصص لهذه الحقبة «باتريك كارلتون» في كتابه عن الدول المدفونة أنه تولى الملك سنة 2276 قبل الميلاد.
ولم يكن دنقي بالوحيد الذي فرض عبادته على البلاد كلها، بل كان هذا شأن جميع الملوك الذين أخضعوها لسلطان واحد، ومن لم يفلح في إخضاعها قنع بالعبادة من رعاياه حيث ينفرد بالسطوة في بعض الأقاليم، أو قنع بالكهانة الأولى بين رؤساء الدين.
ولم يتعاقب على «أور» من هؤلاء العواهل كثيرون؛ لأن العواهل الذين ضموا البلاد جميعا إلى دولتهم قلائل متناثرون بين الأزمنة المتباعدة، ومنهم السومريون والأكاديون والبابليون.
إلا أن مدينة «أور» عرفت عبادات شتى غير عبادة القمر وعبادة العواهل، ومن هذه العبادات عبادة الأسرة بدلا من الدولة، شاعت مع ضعف الدولة وسقوط هيبتها، وقلة الرغبة في الإنفاق على الضحايا والقرابين التي تقدم على محاريبها، فاكتفى الناس ببيوتهم يدفنون موتاهم فيها، ويتقربون كلهم بمثل طعامهم وهم أحياء بين ظهرانيهم. وقد كانت أعمال الحفر تبرز للمنقبين طبقة بعد طبقة من أعماق الأرض ومن أعماق التاريخ في وقت واحد، ومن قيمة القربان تبدو قيمة الثقة بالأرباب، أو تطور العبادة بين الماديات والمعاني الروحية. (5) الضحايا البشرية
وتدل الأحافير على قدم الضحايا البشرية في العبادات التي سبقت عهد الساميين بوادي النهرين وبقاع الهلال الخصيب، وأنها بقيت إلى ما بعد وفود الشعوب السامية إلى تلك البقاع.
وتدل الأحافير بمدينة «أور» على قدم تلك العادة في عبادة الملوك خاصة؛ إذ كان الملوك يدفنون ومعهم حاشيتهم ووزراؤهم، ولا يبدو من هيئة جثمانهم أنهم ماتوا على الرغم منهم، فليس منهم من وجدت جثته وفيها أثر الذبح أو الخنق أو القتل بالضرب العنيف، ولهذا يعتقد «وولي» في كتابه «أور الكلدانيين»
Ur of the Chaldess
أنهم كانوا يتجرعون باختيارهم عقارا ساما يخدرهم ويميتهم؛ لإيمانهم بالانتقال مع الملوك الأرباب إلى حالة في السماء كحالتهم في الحياة الأرضية.
ووجدت على بعض أختام الطين صور آدميين يلبسون قناعا يشبه رأس الحيوان، والمظنون أن هذا الزي كان مقدمة للذبح الرمزي، وإجراء الشعائر مجرى التمثيل المقدس في الاحتفالات العامة، ولا سيما الاحتفال بعيد رأس السنة.
3
ووجد في حفائر «أور» تمثال جدي مربوط مقيد في شجرة، لعله رمز لاستبدال الضحية الحيوانية بالضحية البشرية، وتاريخه في تقدير «وولي» سابق لعصر الخليل بألف وخمسمائة سنة.
ولكن الضحية البشرية بقيت إلى ما بعد أيام موسى عليه السلام، ويتضح هذا من الإصحاح الثاني والعشرين في سفر الخروج؛ حيث حرم على بني إسرائيل أن يعطوا أبكار أبنائهم قربانا إلى الله، ويتضح أيضا من الإصحاح العشرين من سفر اللاويين؛ حيث ينص على عقوبة الرجم لمن يعطي ابنه قربانا للرب.
ومع هذا كان بعض أمرائهم ينذر أبناءه ليحرقهم على المذبح قربانا إلى الله، كما فعل يفتاح ونذر «نذرا للرب قائلا: إن دفعت بني عمون ليدي؛ فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة يكون للرب، وأصعده محرقة.»
4
ونعى عليهم النبي أرميا أنهم «بنوا مرتفعات ليحرقوا بنيهم وبناتهم بالنار.» (6) الختان
وروى هيرودوت أبو التاريخ أنه سأل الفينيقيين والسوريين عن عادة الختان فقالوا: إنهم أخذوه من المصريين، وإن المصريين كانوا يتحرون به النظافة والطهارة.
وحقيقته التي تدل عليها المقارنة بين العادات أنه اختصار لعادة الضحية البشرية نشأ مع تقدم الإنسان في الحضارة والمدنية.
ففي أقدم العصور كان الفاتح المنتصر يقتل الأسرى قربانا على محراب إلهه، ثم تدرجوا من قتلهم إلى قطع أعضائهم، وتدرجوا من قطع أعضائهم إلى قطع غلفتهم، وجعلوا ذلك علامة على تسليم الأعداء بالهزيمة.
ولهذا بدأ الختان بالرجال، ولم تنشأ عادة الختان بالنساء إلا بعد ذلك بزمن طويل.
وانتقل الختان من اعتباره علامة تسليم لإله الأعداء، إلى اعتباره علامة تسليم للإله الذي يعبده أبناء القبيلة، وعندئذ وجب على النساء كما وجب على الرجال.
ومن بقايا عاداته الأولى أن شاءول اشترط على داود أن يقدم له مائة غلفة من الفلسطينيين مهرا لبنته ميكال، فقدم له مائتين، كما جاء في الإصحاح الثامن عشر من سفر صمويل الأول.
وليس بالصحيح أن الإسرائيليين اعتبروه علامة لقبيلتهم تميز الإسرائيلي من غيره، وإنما الصحيح أنهم اعتبروه علامة تسليم لربهم، وفرضه المكابيون على الأدميين والآتوريين حين هزموهم، وجاء في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التكوين: أن أبناء يعقوب أوجبوا على الرجل الذي اغتصب أختهم دينا أن يختتن هو وقومه الكنعانيون. (7) المعابد والمحاريب
لم يعرف عن قوم إبراهيم - أو المنتسبين إليه على الأصح - أنهم أقاموا لهم هيكلا قبل الهيكل الذي بناه سليمان عليه السلام.
وكان الخليل يبني المحاريب على الأماكن العالية، ويختار للمحراب موضعا إلى جوار الشجر والماء، ثم تعددت المحاريب فتعددت المعبودات، وحسب العامة أن كل محراب منها قد أقيم لمعبود غير المعبودات في المحاريب الأخرى، وخلطوا بين أرباب كل إقليم، فعبدوا الأوثان التي كان يعبدها أبناء البلاد الأصلاء من قبلهم، وخيف عليهم الاختلاط والفناء فيمن حولهم من الشعوب، فاجتمعت كلمة الحكماء على تحريم بناء المحاريب في الأماكن العالية، وقصر العبادة والقربان وجميع المراسم الكبرى على هيكل واحد، وكان هذا الهيكل في مبدأ الأمر خيمة تحمل، ثم بني بالحجارة على رسم الخيمة وتقسيمها .
ولم يكن هذا هو الأثر الوحيد من آثار نظام المعابد في وادي النهرين، فقد بقيت عبادة الأسرة زمنا طويلا ممثلة في عبادة الأوثان التي تسمى بالطرافين، وكانوا يعتقدون أن حيازة الطرافين تحفظ لمن يحوزها حقوق الأسرة من الرئاسة إلى البركة والميراث، ولهذا أخذت راحيل الطرافين معها قبل الهجرة من حرانة، وظلوا يحتفظون بالطرافين بين ذخائر الأسرة المقدسة إلى ما بعد السبي كما يؤخذ من الإصحاح العاشر في سفر زكريا. (8) العالم الآخر
ولا يخلو دين أمة قديمة من الإيمان بعالم آخر غير عالم الأحياء؛ لأن الإيمان بالأرواح والأطياف شائع بين القبائل البدائية الأولى، وكلهم كانوا يعتقدون أن الإنسان يبقى بعد موته لأنهم يرونه في أحلامهم، ومن هنا جاءت عبادة الأسلاف.
ولكن الإيمان بالعالم الآخر نوعان: نوع ينظر إلى العالم الآخر كأنه جزء من هذا العالم المشهود، ينتقل إليه الميت للإقامة فيه، وأكثر الأمم القديمة يسميه الهاوية، ويجعله تحت الأرض بعيدا من النور.
ونوع ينظر إلى العالم الآخر ويؤمن بأنه عالم الحساب والجزاء والتفرقة بين الأبرار والأخيار، وأنه هو عالم الخلود والحياة الباقية بعد الحياة الفانية في هذه الدنيا.
وبين هاتين العقيدتين في العالم الآخر عقيدة متوسطة تجمع بين اعتقاد الهاوية واعتقاد الخلود، فالموتى جميعا يذهبون إلى الهاوية، ثم ينجو منهم في آخر الزمان من يدينون بالإله الحق، فيعودون إلى حياة كحياة الدنيا، ويتم قضاء الموت الأبدي على الآخرين.
وكانت الديانة البابلية من النوع الأول.
وكانت الديانة المصرية من النوع الثاني.
وكان العبريون يأخذون بجزء من هذه وجزء من تلك، ويدينون بالعودة إلى الدنيا في آخر الزمان، وأن غيرهم من الأمم لا يعودون.
وتراجع الصلوات البابلية اليوم فلا يرى فيها شيء يشير إلى النعيم في العالم الآخر، وإنما ينحصر الدعاء في طلب الخيرات الدنيوية، وطول العمر، والسلامة من الأمراض والأحزان.
وكانت طائفة من البابليين الأقدمين تعتقد أن الروح تلازم الجسد بعد الموت، فلا تزال عالقة به محيرة بين هذا العالم والعالم الآخر حتى يبلى رفاته ولا تبقى منه بقية تعلق بها؛ ولهذا كانوا يتركون الموتى للجوارح والوحوش تنهشهم وتبيدهم؛ لتستريح الأرواح من عذاب الحيرة بين الدنيا والآخرة. (9) التوحيد
والتوحيد كذلك توحيدان:
توحيد الإيمان بإله واحد خلق الأحياء وخلق معهم أربابا آخرين.
وتوحيد الإيمان بإله واحد لا إله غيره.
ولم تعرف أمة قديمة ترقت إلى الإيمان بالوحدانية على هذا المعنى غير الأمة المصرية، فعبادة «أتون» التي دعا إليها إخناتون قبل ثلاثة وثلاثين قرنا كانت غاية التنزيه في عقيدة التوحيد كما عرفها الأقدمون. ومن علماء المصريات - وفي طليعتهم برستيد وويجال - من يرى بعد المقابلة بين صلوات إخناتون والمزامير المنسوبة إلى داود: أن حكماء الإسرائيليين كانوا يطلعون على أسرار المحاريب في مصر، ولا سيما الأسرار التي كانت محجوبة عن الدهماء؛ إذ كانت أسرار الديانة العليا مقصورة على كبار الأحبار وتلاميذهم المختارين.
ومن أسماء الملوك في بلاد العرب الجنوبية يبدو أنهم عرفوا الوحدانية التي يغلب فيها إله واحد على سائر الآلهة، واسم إيلومي إيلوم الذي تولى الملك في بابل الجنوبية معناه أن الله هو الإله الحق، ويقول عبد الله فلبي في كتابه سوابق الإسلام: «إن هذه الكلمة هي شهادة الوحدانية في طورها الأول، ومن مرادفاتها في أسماء الشعب إيل رب، وإيل ملك، وإيل راب، وكلها من قبيل القول بأن الله هو الرب، وأنه هو الملك، وأنه هو الرئيس المطاع، ولا يقال هذا إلا لتغليب إله واحد على سائر الآلهة، أو لنفي صفة الإلهية عن سواه.» (10) الشرائع
ويلحق ببحث الشعائر والعبادات بحث الشرائع والآداب الاجتماعية، وقد وجد العمود الذي نقشت عليه شريعة حمورابي كاملا ما عدا سطورا مطموسة أمكن إتمامها من مصادر أخرى.
وتتضمن هذه الشريعة عقوبة الإغراق للسحر والخيانة الزوجية، والإحراق لمن يختلس مالا من بيت محترق - وكان للنهر في هذه الشريعة قداسة يمتحنون بها من يلقونهم فيه من السحرة والمسحورين - وفيها عقوبات القتل على السرقة والاغتصاب، ومن غرائبها أنها تعاقب البنت البريئة بذنب والدها؛ «فإذا ضرب رجل بنت إنسان حر ضربا أسقط حملها؛ فعليه عشرة مثاقيل من الفضة غرامة لإسقاط حملها، فإن ماتت فبنته تقتل
5 ...»
ولا يشبه هذه الأحكام فيما رواه العهد القديم غير عقوبة عاخان ؛ لأنه سرق من غنائم القتال في وقعة عاي التي انهزم فيها الإسرائيليون، «فأجاب عاخان يشوع وقال: حقا إني قد أخطأت إلى الرب إله إسرائيل ... رأيت في الغنيمة رداء شنعاريا نفيسا، ومائتي مثقال من الفضة، ولسان ذهب وزنه خمسون مثقالا، فاشتهيتها وأخذتها، وها هي مطمورة في الأرض وسط خيمتي والفضة تحتها ... فأخذ يشوع عاخان بن زارح الفضة والرداء ولسان الذهب، وبنيه وبناته، وبقره وحميره، وغنمه وخيمته، وكل ماله وجميع إسرائيل معه وصعدوا بهم إلى وادي عخور، فقال يشوع: كيف كدرتنا يكدرك الرب في هذا اليوم؟ فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة، وأحرقوهم بالنار ورموهم بالحجارة - وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم، فرجع الرب عن حمو غضبه
6 ...»
ومن أحكام حمورابي في مسائل الزواج تحريم تعدد الزوجات من طبقة واحدة، وتحريم الزواج من الجواري إذا رزق الرجل أولادا من زوجته المكافئة له في طبقته، أو من إحدى جواريها.
المادة 144:
فإذا تزوج رجل من كاهنة وأعطته جارية، فولدت له الجارية أولادا، فلا يجوز له أن يتزوج من سرية.
المادة 145:
وإذا تزوج رجل من كاهنة ولم تلد له، وأراد أن يتزوج من سرية وأن يئويها في بيته؛ فهذه السرية لا تكون مع زوجته في منزلة واحدة.
المادة 146:
وإذا تزوج رجل من كاهنة وأعطته جارية، فولدت له الجارية أولادا وجعلت نفسها في منزلة السيدة لأنها حملت أولادا؛ فلا يجوز للسيدة أن تبيعها، بل تقيدها وتبقيها مع الخدم.
ولا يجوز حرمان ابن السرية من ميراث أبيه بعد الاعتراف بنسبه.
المادة 170:
فإذا كان لرجل أولاد من زوجته وكان له أولاد من سريته، وكان قد ناداهم بأبنائي في حياته، وعدهم مع أبنائه من زوجته، ثم ذهب لقضائه، فالأبناء من الزوجة والأبناء من السرية يتقاسمون الميراث على السواء، ويختار أبناء الزوجة القسمة والاقتراع.
وتجري المقارنة كثيرا بين شريعة حمورابي والشريعة العبرية، ويزعم بعض الفقهاء من علماء اليهود المعاصرين أن الشريعة العبرية تخالف شريعة حمورابي في تمييز الأصغر بالميراث، فالأستاذ جوزيف جاكوب يعلل تفضيل إسحاق على إسماعيل، وتفضيل يعقوب على عيسو ، وتفضيل يوسف على إخوته، بأن الشريعة العبرية كانت لذلك العهد تأخذ بالحكم الذي كان شائعا في بعض الشرائع الأولى: وهو اختصاص الابن الأصغر بالحصة الوافية من الميراث
Ultimageniture .
قال هذا الفقيه: إن مؤرخي العهد القديم لم يدركوا معنى هذه السنة القديمة، فحاولوا أن يصححوها بالتعليلات التي خطر لهم أنها كفيلة بتصحيحها،
7
ولكن القاعدة تطرد اطرادا لا يمكن تعليله بالمصادفة، فلما قدم يوسف ولديه منسي وإفرايم إلى أبيه يعقوب ليتلقيا بركته؛ حول الجد يمينه إلى إفرايم، ويساره إلى منسي. وهكذا تولى داود الملك وهو أصغر أبناء أبيه، وكان جده فارز أصغر التوءمين اللذين ولدتهما تامار بنت يهودا. وقد اتبع داود هذه السنة فولى سليمان عرش الملك من بعده وهو أصغر من أخيه أدوناي.
ويخطر لبعضهم أن هذه السنة قديمة في عشيرة الخليل، وأنه هو صلوات الله عليه كان أصغر من أخيه. •••
وإلى هنا نقف بالمقتبسات من تواريخ الأحافير والتعليقات عليها؛ لأن كشوف الأحافير الأخرى لا تعنينا في موضوع هذه الرسالة، وليس فيها ما يبنى عليه رأي في سيرة الخليل على فرض من شتى الفروض.
الفصل الخامس عشر
الخلاصة
الآن وقد انتهينا من معالم الطريق، كما رسمتها لنا المصادر والتعليقات، يصح أن نبدأ بتلخيص السيرة على هدي تلك المعالم، ويحق لنا أن نقرر «أولا» أن قرائن الثبوت في سيرة الخليل أقوى جدا من كل قرينة للشك ينتحلها من يتحدث باسم العلم، والعلم من حديثه براء.
فالذي يقول: إن وجود الخليل مشكوك فيه من الوجهة العلمية يظلم العلم، ويحمله جريرة لا يحملها؛ لأن سيرة الخليل ليست من السير التي يشك فيها العالم، بل هي سيرة يبحث عنها العالم إن لم يجدها؛ إذ كانت الدعوات النبوية سلالة واحدة يرتبط اللاحق منها بالسابق، ولا يمكن الرجوع ببداءة لها أصدق من بداءتها بدعوة إبراهيم. •••
إن الدعوات النبوية التي بدأتها دعوة إبراهيم سلالة لم يظهر لها نظير في غير الأمم العربية والأمم السامية، وقد ختمت بدعوة محمد
صلى الله عليه وسلم ، وجاءت دعوة محمد متممة لها، فلا تفهم واحدة منها منفصلة عن سائرها، بترتيب كل منها في زمانها، وعلاقة كل منها بمكانها، فلا لبس فيها من جانب العصر ولا من جانب البيئة.
دعوات لم تظهر في العالم كله على غير هذا النسق؛ لأنها ارتبطت بظاهرة غير متكررة حول مدن القوافل التي اختصت بها بلاد الأمم العربية، وكانت بداءتها في زمانها وعلى ترتيب مكانتها الجغرافية حيث نشأ الخليل إبراهيم، فهي نشأة لازمة في موقعها وفي عصرها. والنشأة التي من هذا القبيل تواجه العلم بحقيقة ضرورية، فلا شك فيها، بل يكون موقفه منها على نقيض الشك من طرف إلى طرف؛ لأنه يبحث عنها إن لم يجدها، وعليه أن يجدها وأن يهتدي إليها.
ومن قرائن الثبوت - كما أسلفنا - أن هذه الدعوات النبوية نسبت إلى أصل واحد، وهو السلالة السامية، قبل أن يعرف الناس علم المقارنة بين اللغات، وقبل أن يعرفوا علامات الوحدة في التصريف والاشتقاق، وقواعد النحو، وحركات النطق، وأجهزة الكلام، فلم يكن في وسع الذين قالوا بوحدة أصلها قبل مئات السنين أن يخترعوا هذه النسبة لو لم تكن نسبة صحيحة في مراجع لا تخترع، ولا يسهل اختراعها. •••
وعلم المقابلة بين الأديان حديث كعلم المقابلة بين اللغات، فإذا جاء هذا العلم الحديث مطابقا للأخبار الأولى عن ديانة القوم في عصر إبراهيم؛ فتلك قرينة ثبوت وليست بقرينة شك، ومن خالف ذلك فهو لا يفرق بين الشك والثبوت.
لم يكن من السهل أن توجد في وطن واحد عبادة الكواكب وعبادة الأصنام وعبادة الملوك، وأن تتعدد الأرباب مع تمييز رب منها على سائرها.
ليس من السهل أن يوجد هذا الخليط من العبادات في وطن واحد، فقد يجهل الناس التوحيد ويعبدون الشمس والقمر، أو يعبدون القمر دون الشمس، أو يعبدون القمر ولا يعبدون المريخ والزهرة.
وقد يجهل الناس التوحيد ويعبدون الأصنام، ولا يعبدون معها الملوك، وقد يعبدون أربابا كثيرة ولا يميزون ربا منها على سائرها.
أما عبادتها جميعا في وطن واحد فهي حالة لا يمكن اختراعها ما لم تكن حقيقة واقعة.
ونحن قد علمنا اليوم أنها حقيقة واقعة لأننا فككنا ألغاز الكتابة، واستخرجنا أسرار الأحافير، وعلمنا منها تسلسل العبادات، واختلاط السكان والحدود، وتطور العقائد على حسب أحوال المعتقدين.
وقد علمنا اليوم أن عبادة القمر سابقة لعبادة الشمس، خلافا لبادرة الظن الأولى؛ إذ يسبق إلى الخاطر أن الشمس أكبر وأحق أن يبدأ بها في العبادة.
بل علمنا اليوم أن رب الأرباب عند اليونان هو كوكب المشتري، وليس الشمس أو القمر، ولهذا يطلقون عليه اسم جوبيتر، ويستمدون هذا الاسم من كلمتين بمعنى أبي الآلهة
Dawes Pater .
وفي القرآن الكريم (الأنعام 76-78):
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون .
ومما علمناه اليوم أنهم أقاموا للكواكب تماثيل لا تغيب عن أبصارهم إذا غابت الكواكب، فعبدوها مع عبادة الكواكب علي سبيل التقريب والتمثيل.
وفي القرآن الكريم: (الأنبياء: 52):
إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون .
وفيه: (الصافات: 95-96):
قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون . •••
وما علمناه اليوم من مقابلات الأديان أن التوحيد جاء بعد تعديد الأرباب وتمييز واحد منها، وأن أهل بابل خاصة كانوا يرون في قصة الخليقة أن الإله الأكبر خلق الأرباب كما خلق سائر الموجودات الأحياء وغير الأحياء، وتوحيد الإله على هذا النحو هو الذي يسمونه في العصر الحديث بالهينوثيزم
Henotheism ، ويطلقونه على طور خاص من أطوار التوحيد البدائي لم يكن لزاما أن يوجد في كل أمة.
وفي القرآن الكريم (الأنبياء: 58):
فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون .
وفيه: (الأنبياء: 62-63):
قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون .
أما عبادة الملوك في بابل القديمة، فنحن نعلم اليوم أنهم كانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم هبطوا من السماء بعد الطوفان؛ لأننا قرأنا الآثار وكشفنا عن الأحافير، وادعاء الملوك أنهم آلهة يملكون زمام الحياة والموت وارد في القرآن الكريم: (البقرة: 258):
إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت . •••
هذه المطابقات نعلمها اليوم من الكشوف والأحافير، وسواء آمن العالم العصري بالقرآن أو لم يؤمن به، فالمسألة هنا هي مسألة التفرقة بين قرائن الثبوت وقرائن الشك في سيرة إبراهيم، فليس من قرائن الشك على كل حال أن تروى أخبار العبادة عن عصر إبراهيم على الوجه الذي حققته الكشوف الحديثة، وعلى خلاف القصص التي تخترع اختراعا بغير سند من الواقع؛ لأن الاختراع لا يجمع بين الحقائق المتفرقة من عبادات القوم، وهي عبادة الكواكب، وعبادة الأصنام، وعبادة الملوك وتعديد الأرباب مع تمييز واحد منها على الآخرين، وهي المرحلة البدائية في طبيعة التطور بين التعديد والتوحيد.
قلنا في مقدمة هذا الكتاب: إن الشك في وجود إبراهيم لا يستند إلى سبب؛ لأن الغرائب والخوارق لم تبطل وجود شيء قط، ومنها أثبت ما في السماء؛ وهو الشمس، وأثبت ما في الأرض من صنع الإنسان؛ وهو الهرم الأكبر.
ويحق لنا بعد ما قدمناه أن نقول على الأقل: إن أسباب الثبوت أقوى من أسباب الشك جميعا إن كانت له أسباب.
الفصل السادس عشر
العصر
معظم المنقبين يعينون تاريخ إبراهيم في زمن متوسط بين أوائل القرن الثامن عشر وأواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ويجعلونه معاصرا لدولة الرعاة في مصر ودولة العموريين في العراق.
وولادة الخليل في هذه الفترة ترجحها الكشوف والأحافير، كما ترجحها النتائج التي تمثلت في سيرته عليه السلام، وكلها دلائل على تنازع السيطرة، وتنازع العقائد، واضطراب الأمور، والاضطرار إلى الرحلة الدائمة من أور إلى آشور إلى فلسطين إلى مصر إلى بيت المقدس ثم إلى صحراء الجنوب.
وتقترن زلازل الطبيعة وزلازل السياسة، فلا يستقر لأحد من المقيمين في ديارهم قرار، فضلا عن القبائل الرحل في طلب المرعى وطلب الأمان.
سقطت دولة بابل وغلبتها عليها قبائل عيلام من الشرق وقبائل عمور من الغرب، وعاش العموريون والعيلاميون تارة في قتال، وتارة في حلف مزعزع؛ خوفا من دولة الآشوريين في الشمال.
وسقطت دولة مصر وغلبتها قبائل الرعاة، ثم بقيت على خوف وحذر من الشرق ومن فراعنة الجنوب الذين احتفظوا بعروشهم في الصعيد.
وليس أشقى من حياة العشائر الصغيرة بين هذه القلاقل وهذه المنازعات، التي يشترك فيها المغامرون من أبناء العشائر الكبرى وهم يزحفون للسيطرة على الدول كلما سنحت لهم الفرصة العاجلة، ولا يقنعون بالتحول من بقعة إلى بقعة طلبا للمراعي والأمان.
وكانت عشيرة الخليل صغيرة ولا شك بالقياس إلى العموريين والرعاة وسائر القبائل التي تحتل بقاع الهلال الخصيب.
ولو لم تكن صغيرة لما أمكن أن تهاجر من جنوب العراق إلى شماله، إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إلى مصر إلى فلسطين كرة أخرى في حياة زعيم واحد.
وقد ألجأتها المجاعة إلى مصر، ولم تلجأ قبيلة أخرى إلى مثل هذه الهجرة من القبائل التي أصيبت بالمجاعة في صحراء فلسطين.
وحدث غير حادث يدل على قلة هذه العشيرة في عددها وقوتها، وأنها ظلت على هذه القلة بعد أيام إبراهيم وفي أيام يعقوب ... ومن أبرز الشواهد على ذلك في حياة البداوة خاصة: أن جيرانها كانوا يجترئون على نساء زعمائها، فطمع أبيمالك في سارة، واعتدى شكيم على ابنة يعقوب، وكانت العشيرة نزيلة إلى جوار الأقوياء الذين يضيفونهم، أو يأبون ضيافتهم كما يشاءون.
وليس أشق من حياة عشيرة صغيرة بين العشائر الكبرى في أيام الزعازع وتقلب السلطان، ولا سيما الحياة إلى جوار البابلية، وكل سلطان جديد هناك فهو رب جديد يدين الناس بالعبادة، ويسومهم أن يسجدوا له، ولا يقنع منهم بطاعة الرعية للرعاة.
وقد حفظ لنا سفر دانيال مثلا من شتى الأمثلة على قيام هذه العبادات مع قيام السلاطين؛ فإن السلطان الجديد يعلن ولايته بالطبول والزمور، ويفرض على كل مستمع أن يسجد لتمثاله على قارعة الطريق، ومن أبى السجود أحرقوه بالنار. «فنبوخذنصر الملك صنع تمثالا من ذهب طوله ستون ذراعا، وعرضه ستة أذرع، ونصبه في بقعة دورا في ولاية بابل، ثم أرسل ليجمع المرازبة والشحن والولاة والقضاة والخزنة والفقهاء والمفتين وكل حكام الولايات ؛ ليأتوا لتدشين التمثال، ونادى المنادي قد أمرتم أيها الشعوب والأمم والألسنة، عندما تسمعون صوت القرن والناي والعود والرباب والشيطر والمزمار، أن تخروا وتسجدوا لتمثال الذهب، ومن لا يخر ويسجد ففي تلك الساعة يلقى في أتون النار ...»
وحفظت لنا الألواح الآشورية صورة جيجو ملك إسرائيل «سنة 842 قبل الميلاد» وهو ساجد يقبل الأرض بين يدي شلمنصر، ومن ورائه أمراء دولته يحملون الجزية صاغرين ... ومن كان يتقاضى الملوك أن يسجدوا له عند تقديم الطاعة ولا جرم يتقاضى الملوك أن يسجدوا له ويعبدوه، وبخاصة حين يؤسس دولة جديدة قامت على أنقاض دولة ذاهبة، ولا بد له من توطيد هيبته، وقمع المخالفين له، وأولهم الذين ينكرون دينه كما ينكرون دنياه.
والحوادث التي أحصاها لنا الرواة من سيرة إبراهيم خليقة أن تحدث في مثل تلك الفترة، سواء منها ما حدث في العراق أو ما حدث في الطريق إلى وادي النيل.
وربما صح أنه عاصر حمورابي أو كان في عصر قريب من عصره، ولكن الأحوال لم تتغير قبل عصر حمورابي وبعد ولايته بسنوات، فهي أحوال الدولة المتبدلة والسيطرة المتقلبة، ومن علاماتها الكبرى أنها تدعو حمورابي إلى نقش أحكام شريعته، وإقامة الأنصاب التي تذكر الناس بتلك الأحكام، ولا يكون ذلك إلا آية من الآيات على أن الشريعة قد نسيت وهانت واحتاجت إلى تذكير.
إن كانت شريعة جديدة فموعدها القمين بها زمان كذلك الزمان.
وقد كان إبراهيم زعيم قبيلة بادية، وكان تهافت العروش، وتبدل العبادات والكهانات من حوله خليقا أن يريبه في أمرها، وأن يحبب إليه النجاة من طوارقها وطوارئها، وكانت القبائل القوية حول العواصم تتنازع السلطان، فهي في شاغل بالسيطرة عن العبادة. أما العشيرة الصغيرة فهي مغلوبة على مرافقها وعلى ضمائرها، ولا عصمة لها إلا أن تعتصم بإله أقوى من الغالبين ومن المغلوبين: إله لا تحصره هياكل العاصمة وتماثيلها، ولا يتغير من بادية إلى بادية فوق بطاح الصحراء وتحت قبة السماء ...
إن وجود إبراهيم في عصر كذلك العصر حقيقة لا غرابة فيها، ولا محل فيها لاختراع المخترعين.
الفصل السابع عشر
النشأة
من الحقائق ما ينبذه السامع لأنه على قربه لم يلتفت إليه.
كان جندي أوروبي يقدح في الشرق وأبنائه وكل ما فيه أثناء الحرب العالمية الأولى، ويقول: إنه مباءة السوء فلا يخرج منه شيء حسن، ولا يأتي منه خير ...
وقال له محدثه: إنك تدين بدين جاء من الشرق!
فوجم الرجل وأخذته الدهشة؛ لأنه لم يتنبه إلى هذه الحقيقة لحظة واحدة طول حياته، وهو يدين بدين السيد المسيح، ويستمع إلى الإنجيل كلما ذهب إلى الكنيسة ...
ومثل هذه الحقيقة ما ذكرناه آنفا عن نسبة إبراهيم العربية؛ فإنها أصح نسبة ينسب إليها، ولكنها تبدو لمن يسمعها كأنها غريبة يقال لمن يزعمها: من أين جئت بهذه الأحدوثة التي لم نسمعها قبل الآن؟!
فلا يقال عن إبراهيم: إنه إسرائيلي؛ لأن يعقوب هو أول من تسمى بإسرائيل، ويعقوب حفيد إبراهيم.
ولا يقال عن إبراهيم: إنه يهودي؛ لأن اليهودي ينسب إلى يهودا رابع أبناء يعقوب، ولم يكن ينسب إليه إلا بعد أن أصبح اسمه علما على الإقليم الذي قسم له عند تقسيم الأرض بين أبناء يعقوب.
ولا يقال عنه: إنه عبري إذا كان المقصود بالعبرية لغة مميزة بين اللغات السامية تتفاهم بها طائفة من الساميين دون سائر الطوائف، فإن إبراهيم كان يتكلم بلغة يفهمها جميع السكان في بقاع النهرين وكنعان، ولم تكن العبرية قد انفصلت عن سائر اللغات السامية في تلك الأيام.
وقد يقال عنه: إنه سامي ينتمي إلى سام بن نوح، ولكنها نسبة إلى جد وليست نسبة إلى قوم، وقد تكلم باللغة السامية أناس كالأحباش ليسوا من السريان، ولا من الآراميين ولا الحميريين.
فإذا فتشنا عن نسبة لإبراهيم لم نجد أصدق من النسبة العربية، كما كانت العربية يومئذ بين جزيرة العرب وبقاع الهلال الخصيب.
وأصح التقديرات أنه نشأ في أسرة حديثة عهد بالهجرة من شمال اليمن إلى جنوب العراق، وكانت هذه الأسرة مع الذين جاءوا من «أرض البحر»، كما كان البابليون يسمون العرب المقيمين على مقربة من خليج فارس. وقد وردت أسماء العرب التي لا شك فيها بين الأسر المالكة في جنوب بابل خلال عهد طويل يحيط بعصر إبراهيم على أقدم تقديراته، فلم يمض على أسرته بمدينة «أور» زمن يفصله من عشيرته البادية، وينسيها معيشة البداوة التي تستجيب للهجرة من أقصى الجنوب في العراق إلى أقصى الشمال، ومن جملة أخباره يتبين أنه عليه السلام قد نشأ على مفترق طريق بين جميع العهود.
مفترق طريق بين عهد الكنانة وعهد النبوة، ومفترق طريق بين إباحة القرابين البشرية وتحريمها، ومفترق طريق بين التعديد والتوحيد، ومفترق طريق بين الإيمان بالهاوية والإيمان بالحياة الأخرى.
ومفترق طريق في عبادة الأسرة الواحدة، فلا تلبث الأسرة الواحدة أن تختلف بين طريقين: أب وابنه، وأخ وأخوه.
وتاريخ بابل يومئ إلى عصر قريب من القرن التاسع عشر قبل الميلاد يصح أن تفترق فيه جميع هذه الطرق.
ففي حوالي هذه الفترة ضاعت هيبة الهياكل، وسقطت مكانة كهانها، وندرت القرابين في محاريب الدولة، وتحولت إلى مدافن الأسرة حيث تسكن الأسرة مع موتاها في دار واحدة.
وحوالي هذه الفترة تعاقبت الدول، وتناقضت أوامر العبادة، وتصارع الأرباب فاستحقوا سخرية العباد أجمعين.
وانتهى قبل ذلك عهد الملوك الذين كانوا يسومون وزراءهم وحواشيهم أن يدفنوا أنفسهم معهم وهم بقيد الحياة، وبطل إيمان العلية بالحياة بعد الموت في جوار هؤلاء الملوك، فتفتحت الأذهان لسماع شيء جديد عن اليوم الآخر ومعنى الخلود بعد الفناء.
ولعل الصابئة كانوا في ذلك العصر يدينون بالبقايا المصفاة من هذه العبادات، ولعلهم خلطوا من أجل ذلك بين إنكار الكهانة وإنكار النبوة، فإذا جاءهم إبراهيم بأول دعوة نبوية لم يميزوا بينها وبين الكهانة التي أنكروها على كهان الهياكل المتداعية والمحاريب الدائرة. ولعل إبراهيم قد يئس منهم فاتجه إلى قبلتهم العليا شمالا حيث كانوا يتجهون إلى نجم القطب أثبت النجوم، عسى أن يستمع إليه أصحاب القبلة، وأن يكونوا على استعداد للتفرقة بين الكهانة والنبوة، فلا يشق عليهم أن يفهموا وحي الله إلى النبي كما شق عليهم أن يفهموا أن الكهان يتلقون الوحي من الله، وليس بالعسير علينا في العصر الحاضر أن نصور لأنفسنا معيشة أبناء العشائر بين الحاضرة والبادية.
فرؤساء العشيرة يقيمون بالمدن، وتستبقيهم الدولة فيها، ولا تضن عليهم بالرئاسة التي تعينهم على حكم العشيرة في بداوتها، وأبناء العشيرة يروحون ويغدون بين الصحراء والحاضرة ليعرضوا على أولئك الرؤساء مطالبهم عند ذوي السلطان، ويعقدوا صفقات القوافل أو يبتاعوا حاجتهم في حلهم وترحالهم، فلا تنقطع الصلة بينهم وبين رؤسائهم، ولا تنقطع خصوماتهم التي تلجئهم إليهم، وما انقطعت خصومات أهل البادية قط بين أنفسهم أو بينهم وبين العشائر من حولهم، فهم أبدا على مطلب من الحكام وشفاعة عند الرؤساء.
وأقلق ما تكون حياة العشيرة البادية حيث تطغى عليها عشيرة أقوى منها، ويبلغ من قوتها أن تسيطر على الدولة في عواصمها، وهكذا كانت حياة العشيرة التي تولاها إبراهيم وأبوه أيام طغت على مدينة «أور» أفواج من العيلاميين وأفواج من العموريين، ولم ينفتح أمامها سبيل الهجرة غير سبيل الشمال.
ومن اليسير أن نتخيل هنا حنكة الأب وثورة الفتى بين تداول الدول وتساقط الحكومات، فالأب يتابع سادات الوقت، ويجري معهم فيما يجرون فيه، والابن يأبى إلا ما اعتقد، وينفر من المراء والرياء، ويحفزه إلى الشمال أمل في صلاح العقيدة، وأمل في صلاح الحكومة، ثم ينقاد الأب بعد طول اللجاج؛ لأن الحنكة لا تغني عنه شيئا مع فساد الأحوال، وتفاقم الخطر من الأقوياء عن اليمين وعن اليسار.
وإذا صح أن أبا إبراهيم كان أمينا لبيت الأصنام، وكان يصنع الأصنام على يديه؛ فليست الحنكة وحدها هي التي تدعوه إلى المحافظة على تقاليد العبادة القائمة، بل له مع الحنكة داع آخر من المصلحة والمنزلة الاجتماعية، ويغلب إذن أن يكون إبراهيم قد تربى للإمامة الدينية، وتعلم العلوم التي كانت شائعة بين طبقة الرؤساء الدينيين، ومنها علم الفلك والطب والتعاويذ ورقي الأسماء.
واسم إبراهيم من الأسماء التي تنبئ عن نشأة دينية؛ لأنه - على أرجح معانيه - يفيد معنى حبيب الله. وقد كان قدماء السريان يطلقون اسم رأس الأسرة مجازا على الإله المعبود، فيسمونه الأب تارة، والعم تارة أخرى، وربما كان العم أغلب على هذا المعنى؛ لأن الرجل ينادي كل شيخ مبجل ب «يا عم ويا عماه» ... ومن هنا اسم عمرام وإبرام، ركب كلاهما من العم والأب، ومن كلمة رام التي تعني المحبة. ولعل التغيير الذي طرأ على اسم إبرام إنما استحدث لكي يفيد معنى حبيب الله بدلا من حبيب الإله الذي كان يعبده أبوه في معابد الوثنية.
وعلى أن التعليم لم يكن مقصورا على أبناء الكهان؛ فإن المثقفين الأثريين كشفوا عن أبنية ضخام كانت معدة للمكتبات والمدارس العليا، ولم يكن من النادر أن يتعلم أبناء العلية دروس الفلك والرياضة والتشريع التي ترشحهم لمناصب الدولة. واهتداء إبراهيم إلى حقائق الأجرام العلوية من طريق الفلك أمر معقول في زمانه على الخصوص؛ فإنه زمان تبددت فيه هالات الربوبية من حول الملوك، وهبطت فيه منزلة الكهانات العليا، وتصارعت فيه العقائد بين غالبة ومغلوبة، وبين متأصلة في العواصم ومقتحمة عليها، ونظر فيه المثقفون إلى الكواكب نظرة جديدة فجعلوها صورا للأرواح النورانية، ونزلوا بها من علياء الربوبية إلى مرتبة الخلائق المسخرة في الملأ الأعلى؛ فإن لم يكن مذهب الصابئة قد تم واستقر في ذلك العهد، فقد كانت له بداءة تحوم على هذه المعاني وتستشرف لما وراءها، لولا ذلك لما بقيت السريانية القديمة لغة مقدسة في كتب هذه النحلة؛ إذ كانت السريانية القديمة أعرق من السريانية المتشعبة منها، ولا يمكن أن تنعزل الطائفة الصابئية بتلك اللغة الأولى ما لم تكن بداءتها ممعنة في القدم إلى ما قبل تدوين اللهجة السريانية الحديثة.
ومن البديهي أن العقائد التي تدعمها الدولة لا تنهدم بضربة واحدة، ولا تولي أدبارها لكل منكر يجترئ عليها، فقد لقي إبراهيم عنتا شديدا من تلك العقائد المتداعية، وأشد ما تكون العقيدة دفاعا عن نفسها حين يشتد الخطر عليها، وتحس في قرارة حصنها أن الضربة تصيبها وتزلزل أركانها.
وينبغي للناقد العصري أن يلمح شيئا يستوقفه في قصة إبراهيم ووعيد الدولة له بالإحراق إن لم ينته عن تسفيه أربابها.
فمن المسلم أن الإحراق عقوبة مقررة في شريعة بابل، وأن النار لم تكن مجهولة في بلد من بلاد الأنبياء الآخرين، ولكنهم لم يتعرضوا للإحراق في غير أرض بابل، ولم يرد خبر قط عن نبي غير إبراهيم توعده قومه بإحراقه، ومنهم من نشأ في بلاد تحرق القرابين الحية في المحاريب، فليست أخبار الأنبياء إذن مما يرسل جزافا، أو مما تنقطع فيه المناسبة بين النبي والبلد الذي يبعث إليه.
وسيأتي الكلام عن معجزات إبراهيم في موضعه، ولكن موضع الالتفات هنا لمن يصطنع الدراسة العلمية أن يلاحظ شواهد هذا الانفراد بعقوبة الإحراق في قصة إبراهيم دون قصص الأنبياء.
والعبرة من هذه الملاحظة وأمثالها أن الناقد العلمي مسئول أن يتقصى من الأخبار الأولى مقدار ما فيها من الثبوت، وليست مهمته كلها أن يأباها جميعا لأنه وجد فيها شيئا يأباه.
الفصل الثامن عشر
الجنوب
انفردت المصادر الإسلامية بأخبار إبراهيم في الحجاز، وعلق بعض المؤرخين الغربيين على هذه الأخبار بشيء كثير من الدهشة والاستنكار، كأن المصادر الإسلامية قد نسبت إلى إبراهيم خارقة من خوارق الفلك، وأسندت إليه واقعة بينة البطلان بذاتها وغير قابلة للوقوع ... ووضح من أسلوب نقدهم أنهم يكتبون لإثبات دين وإنكار دين، ولا يفتحون عقولهم للحقيقة حيث تكون، فضلا عن الاجتهاد في طلب الحقيقة قبل أن يوجههم إليه المخالفون والمختلفون.
أما الواقع الغريب حقا فهو طواف إبراهيم بين أنحاء العالم المعمور ووقوفه دون الجنوب لغير سبب، بل مع تجدد الأسباب التي تدعوه إلى الجنوب ولو من قبيل التجربة والاستطلاع.
ولم يكن لإبراهيم وطن عند بيت المقدس، سواء نظرنا إلى وطن السكن، أو وطن الدعوة، أو وطن المرعى، فالمتواتر من روايات التوراة أنه لم يجد عند بيت المقدس مدفنا لزوجه، فاشتراه من بعض الحيثيين.
أما الدعوة الدينية فقد كانت الرئاسة فيها لأحبار إيل عليون، وكان إبراهيم يقدم العشر أحيانا إلى أولئك الأحبار.
ومن كان معه أتباع يخرجون في طلب المرعى، فلا بد لهم من مكان يسيمون
1
فيه إبلهم وماشيتهم بعيدا عن المزاحمة والمنازعة، وهكذا كان إبراهيم يعمل في أكثر أيامه كما تواترت أنباؤه في سفر التكوين، فلا يزال متجها إلى الجنوب.
هناك أسباب دينية غير هذه الأسباب الدنيوية توحي إليه أن يجرب المسير إلى الجنوب، حيث يستطيع أن يبتني لعبادة الله هيكلا غير الهياكل التي يتولاها الكهان والأحبار من سادة بيت المقدس في ذلك الحين، فقد بدا له أن إقامة المذابح المتعددة فتنت أتباعه، وجعلتهم يتقربون في كل مذبح إلى الرب المعبود بجواره. ومثل هذه الفتنة بعد عصر إبراهيم قد أقنعت حكماء الشعب بحصر القربان في مكان واحد، فاتخذوا له خيمة وانتظروا الفرصة السانحة لبناء الهيكل حيث يقدرون على البناء.
فإن كان هذا الخاطر لم يخطر قط في نفس إبراهيم، فذلك هو العجيب الذي يستوقف النظر من سيرة رسول وزعيم، ولكن الرسالة والزعامة معا توحيانه إليه ولو مرة من المرات وهو على أهبة الرحلة والاستطلاع.
ومثل ذلك الخاطر خليق أن يتجه به إلى الجنوب ثم إلى الجنوب؛ إذ لم يبق له مكان لهذه التجربة غير الجنوب، بعد أن هجر العراق وعاد من مصر ولم يجد عند بيت المقدس حوزة يقام فيها هيكل مقصود.
وواضح من تواتر روايات التوراة والمشنا والتلمود أن اللهج ببيت المقدس إنما جاء متأخرا بعد عصر إبراهيم وعصر موسى بزمن طويل، وأنه جاء مع عصر المملكة الإسرائيلية، وعملت فيه السياسة عملها المعهود.
فبعد موسى بعدة قرون بقيت أورشليم في أيدي اليبوسيين، واستولى بنو بنيامين على جيرتها، ولكنهم لم يطردوا منها اليبوسيين ... «فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم» أي إلى الأيام التي كتب فيها سفر القضاة من العهد القديم.
ثم تغلب بنو يهوذا على المدينة فدمروها وأحرقوها ولم يقيموا فيها، وعاد اليبوسيون فجددوا بناءها وسكنوها إلى أيام الملك شاءول، ثم استولى عليها داود فاتخذوها عاصمة، وبنى فيها سليمان هيكلها المشهور.
وبعد هذا جاء ملك من ذرية إبراهيم، وهو «يهواش» ملك إسرائيل، فهدم سور أورشليم وأخذ كل الذهب والفضة وجميع الآنية الموجودة في بيت الرب، وفي خزائن بيت الملك والرهناء ورجع إلى السامرة
2 ... ثم اضطجع يهواش مع آبائه، أي مات مرضيا عنه ...
فلم يكن لأورشليم هذا الشأن في حياة إبراهيم ولا في حياة موسى، ولم يكن لها هذا الشأن من القداسة بين جميع بني إسرائيل حتى في عهد داود ... أما «الجنوب» المسكوت عنه، فقد كان له شأنه من القداسة إلى أيام أرميا وما بعدها، وكانت كلمة «تيمان» مرادفة لكلمة الحكمة والمشورة الصادقة، وهي تقابل كلمة «يمن» في اللغة العربية بجميع معانيها، ومنها الإشارة إلى الجنوب؛ ففي سفر التثنية يقال على لسان موسى: «جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من جبل السعير.»
وفي سفر حبقوق: «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران.»
وأوضح من ذلك قول أرميا متسائلا في مراثيه: «ألا حكمة بعد في تيمان؟ هل بادت المشورة من الفهماء!»
وأيسر ما يستوحيه طالب الحقيقة أن يتساءل: كيف يكون هذا الجنوب موصدا في وجه إبراهيم؟ وكيف يطوف الأقطار جميعا ولا ينفتح له الباب الذي لا موصد عليه؟! إن كان أحد الطريقين مفتوحا أمامه فليس هو طريق بيت المقدس، بل طريق الحجاز.
وفي هذا الطريق سلك الأنبياء، وذكرت المصادر الإسرائيلية منهم من بلغ مدين، وذكرت منهم من لعله أقام في نجد، أو لعله أقام وراءها من البلاد العربية ... ولم تذكر المصادر الإسرائيلية صالحا ولا هودا ولا ذا الكفل ولا غيرهم من الأنبياء.
فموضع التساؤل هو السكوت عن الناحية، وليس هو الذكر الذي توحيه البداهة، ويوحيه المعلوم من أطوار البعثات الدينية والرسالات النبوية.
ونقول: إن السكوت موضع تساؤل، وهو في الحقيقة غني عن التساؤل: لأنه معلوم السبب والغاية، وحسبنا من التساؤل أن ينتهي بنا إلى سبب معلوم، وغاية مرسومة.
إنما العجب من ذوي الدعوى باسم البحث العلمي أن ينتظروا الخبر ممن يقضي على دعواهم كلها إذا رووه، ويثبت دعواهم كلها إذا نفوه.
ومن الذي يكتم مسير إبراهيم إلى مكة إن لم يكتمه الذين ينقضون دعواهم كلها بإثبات ذلك المسير؟
على أن الباحث الذي يتحرى المعرفة لا يصح أن يقف عند النفي ثم يسكت على ذلك ولا يحاول الإثبات ما استطاع.
ها هنا رواية عن نشأة الكعبة في الحجاز على عهد إبراهيم، فمن ينكرها فعليه أن يثق أولا من أسباب إنكارها، وعليه بعد ذلك أن يعرفنا بما هو أصح في التاريخ وأولى بالقبول.
ونفرض أن إبراهيم لم يصل إلى الحجاز لأن المصادر الإسرائيلية لم تذكر رحلته إلى الحجاز، ووقفت بها عند جيرار وقادش وبلاد أدوم.
ونفرض أن هذا سبب كاف لنفي الرحلة من الوجهة العلمية، فهذه الكعبة قائمة تحتاج إلى بان يبنيها، فمن الذي بناها؟
إن روايات هؤلاء القوم الأميين - قوم مكة في الجاهلية - تذكر لنا أن مكة عمرت قديما بأناس من اليمن ثم أناس من النبط، وكل معلوم عن أحوال الحجاز يعزز هذه الروايات، فإن أقام مقيم في مكة فسبيله أن يأتي إلى وسط الحجاز من الطرفين، وهما: طرف اليمن في الجنوب، وطرف النبط في الشمال.
لكن أهل اليمن - في اليمن - لا يخلقون لغير بلادهم قداسة تعفي
3
على شأنها بين الشعوب العربية، وقد حدث منهم غير مرة أنهم نظروا إلى الكعبة نظرتهم إلى منافس خطر؛ فهموا بهدمها وتحويل الحجاج إلى معبد يقوم عند العرب مقامها.
أما النبط في الشمال فمكة هي طريقهم، ولا مزاحمة عليها منهم، وآثارهم الباقية في البتراء تنطق بالمشابهة بينهم وبين الحجازيين في العبادة واللغة والسلالة، والنسابون من الحجاز يقولون: إنهم نبط، وإنهم أخذوا الأصنام من النبط، وجميع المصادر بعد ذلك تقول: إن النبط هم ذرية نبات بن إسماعيل.
ومن النظر العلمي أن يجتهد الباحث هذا الاجتهاد، وأن يلتفت إلى كل باب من هذه الأبواب؛ لأن الالتفات إليها واجب عليه، ومن التقصير أن يكون أمامه باب واحد يبحث فيه عن الحقيقة التاريخية، ثم يهمله ليستخرج منه غاية ما يخرجه من الثبوت أو من الفرض والاحتمال.
أما الأمر الذي لا يتفق مع العلم ولا مع الواقع، فهو القول بأن إبراهيم لم يذهب إلى الحجاز؛ لأن المصادر الإسرائيلية خلو من هذا الخبر، ثم يكتفي القائل بقوله فلا يضع أمامنا بديلا منه أولى بالأخذ به.
إن إبراهيم صاحب دعوة دينية، وليس في المصادر الإسرائيلية ما يدل على أنه قد صنع شيئا لنشر دعوته، وكل ما ورد عنه في هذا الكتاب أنه أقام مذبحا في كل منزل من منازل الطريق، ثم ترك البلاد جميعا في رعاية الأحبار الذين كانوا مؤمنين ب «إيل عليون» قبل وفوده إلى كنعان، وليس في ذلك مقنع لصاحب دعوة دينية يغادر دياره في سبيل هذه الدعوة.
فأقرب ما يرد على الخاطر أن إبراهيم قد ذهب إلى حيث يصنع شيئا باقيا في سبيل دعوته، ولا مذهب له إذن إلى غير الحجاز. وهذه هي تتمة السيرة التي لا بد منها في حياة نبي ينتمي إليه سائر الأنبياء، وإلا كانت نسبة الدعوة إليه من أعجب الأمور.
وقد جاء في المأثورات جميعا أن إبراهيم شهد عصر الكوارث والرجوم في مدن فلسطين الجنوبية، وبقيت آثار البتراء «سلع» إلى اليوم، وفيها أنصاب من هذه الرجوم في أماكن العبادة، حفظوها تذكيرا لأنفسهم بقضاء الله؛ لأنها هبطت من السماء عقابا للمذنبين.
ولم يذكر مصدر من المصادر أن إبراهيم كان يحمل معه حجرا من هذه الأحجار، ولكنه إذا تعمد أن يقيم مذبحا باقيا على طريقته، فالحجر من النيازك أحق أن يحتفظ به من سائر الحجارة، وليس من اعتساف
4
التفسيرات أن يقال: إن الحجر الأسود نقل من البتراء عند بناء الكعبة، وقد تبين بعد ذلك أنهم نقلوا كثيرا من طريق البتراء بعد اتخاذ الكعبة بيتا للأصنام قبل الإسلام ببضعة أجيال، وليس من المسائل العرضية أن تتشابه الحجارة في قوام تركيبها، وهي تختلف في بنيتها المعدنية والصخرية كما هو معلوم.
وربما سميت مكة وبكة باسم البيت الذي بني فيها؛ لأن البك والبكة كانا يطلقان على البيت في اللغة السامية الأولى، ومنها بعلبك بمعنى بيت البعل، وربما كانت من مادة القربان في السبئية والحبشية؛ لأنهم كانوا يطلقون المقربة على المحراب المقدس، وبطليموس الجغرافي قد ذكرها باسم مكربة
Macaraba
نقلا عن أهل اليمن، ولكن التصحيف هنا بعيد، ولا تسمى البلدة باسم القربان فيها إلا إذا أصبحت محجة لقصادها من المؤمنين بكعبتها، وقد مضى على السبئيين زمن وهم يعيشون في شمال الجزيرة، فلم يذكروها بهذا الاسم في آثر من الآثار.
وفي مقاييس الكعبة شاهد لا يجوز إهماله عند البحث في أصل بنائها، فإنها قد بنيت مرات كما هو معلوم، وكان البناة في كل مرة يحافظون على معالمها القديمة حيث أمكنت المحافظة عليها، وقد تعذر عليهم أن يحافظوا على أبعاد جوانبها لدخول الحجر «بكسر الحاء» فيها تارة، وخروجه منها تارة أخرى، ولكنهم حافظوا على ارتفاعها كما جاء في أكثر الروايات، وارتفاعها الآن سبع وعشرون ذراعا، أو خمسة عشر مترا،
5
ولن تكون الخمسة عشر مترا سبعا وعشرين ذراعا إلا إذا كان الذراع بالمقياس المقدس عند قوم إبراهيم؛ لأنه كما حققه الأستاذ جريفس
Greaves ، الخبير المتخصص في المقاييس الأثرية، يزيد على واحد وعشرين قيراطا «بوصة» وثلاثة أرباع القيراط، ويقاس بالتقريب عند مضاهاة الأبنية القديمة التي قدرت بالذراع.
هذه القرائن المتجمعة يجب أن تستوقف نظر الباحث المنزه عن الغرض، وأيسر ما فيها أنها تدفع الغرابة عن رحلة إبراهيم إلى الحجاز، وأنها هي وحدها تحقق له صفة العمل على الدعوة الدينية.
وقد جاء الإسلام مثبتا رحلة إبراهيم إلى الحجاز، وأثبتها ولا شك بعد أن ثبتت مع الزمن المتطاول؛ لأن انتساب أناس من العرب إلى إبراهيم قد سبق فيه التاريخ كل اختراع مفروض، ولو تمهل به التاريخ المتواتر حتى يجوز الاختراع فيه لأنكرت إسرائيل انتساب العرب إلى إبراهيم، وأنكر العرب أنهم أبناء إبراهيم من جارية مطرودة، وليس هذا غاية ما يدعيه المنتسب عند الاختراع.
الفصل التاسع عشر
الرسالة
إن تاريخ الأديان لا يرسم لنا خطا واحدا يفصل بين عهدين كلاهما مخالف للآخر كل المخالفة.
فما من عقيدة دينية ظهرت للناس طفرة بغير سابقة، وما من عهدين من عهود الأديان إلا وبينهما تمهيد وتعقيب، ولكن الأمانة التي اضطلع بها الخليل إبراهيم حادث جديد لم تعرف له سابقة فيما وعيناه من تاريخ الدين.
وذلك الحادث الجديد هو أمانة الرسالة النبوية؛ أمانة نفس حية تخاطب نفوسا حية باسم الإله الذي يتوجه إليه عباده في كل مكان.
أمانة نفس تخاطب النفوس، ولا تخاطبهم من وراء المحاريب والهياكل، ولا بسلطان من نظام الدولة أو نظام الكهانة، ولكنها نداء ضمير إلى ضمير.
وهذه هي الدعوة التي قلنا إنها تستلزم وجود «هداية شخصية»، أو تستلزم وجود إبراهيم متصلا بمن بعده؛ لأنها سلالة من دعوات لا يتصورها العقل على غير مثالها الفريد في تواريخ الأديان.
ولولا أن الشكوكيين باسم البحث والنقد يعملون عمل الآلات في شكهم، وفي بحثهم ونقدهم، لفهموا أن الشخصية الخرافية جائزة في نظام الكهانات، أو نظام هياكل الدولة؛ لأنها نظم قائمة على «موظفين» دينيين، يحل أحدهم محل الآخر بلا اختلاف، ولكن الدعوة النبوية على المثال الذي بدأ به الخليل إبراهيم هي عمل لا غنى فيه عن الشخصية الحقيقية، ولا عن التتابع الذي ينعقد بين الشخصيات من سلالة واحدة، وما من حلقة في هذه السلسلة الحية إلا وهي تتطلب الحلقة التي قبلها والتي بعدها على السواء.
كانت دعوة إبراهيم هي الفتح الجديد في تاريخ العقيدة.
فلم يبدأ إبراهيم عقيدة التوحيد، ولم يبدأ عقيدة الفداء، ولم يبدأ عقيدة البقاء، ولكنه بدأ بالدعوة النبوية فاصطبغت العقائد بصبغتها حتى كأنها لم تسمع قط قبل ذلك في عهود الكهانات والهياكل.
وقد أصابت النكسة كل عقيدة نادى بها الخليل قومه في عصره، فانقلبوا إلى عبادة الأصنام وجهلوا سر الفداء وسر البقاء، ولكن البداءة قد بدئت وسارت في طريقها، لولا أنها بدئت لما تبين أحد موضع النكسة فيما بعد ذاك. •••
كان توحيد إبراهيم إيمانا بإله يعلو على ملوك الأرض ونجوم السماء، ويتساوى عنده الخلق جميعا؛ لأنه أعلى من كل عال في الأرضين أو في السماوات، ولكنه قريب من كل إنسان.
ولم يكن «يهوا» إله إبراهيم؛ لأن قوم إبراهيم لم يذكروا يهوا من بعده قبل خروجهم إلى سيناء، كما صرحت بذلك كتب التوراة الأولى.
ولكنه كان هو الإله «الإيل»، وإليه ينسب ابنه إسماعيل.
وكان هو العلي «عليون»، وعلى محرابه قدم قربانه إلى ملكي صادق بعد نزوله بكنعان.
فهو إله لا فرق عنده بين وطن قديم أو وطن جديد، ولا فضل لديه لعشيرة إبراهيم على عشيرة ملكي صادق، ولا على غيرها من عشائر بني آدم بغير التقوى والإيمان.
إن هذا التوحيد قد رفع مكانة الإنسان في ميزان الخليقة، فليس في الكون إلا خالق ومخلوق، وهو أشرف مخلوق عند الله بفضيلة واحدة؛ وهي فضيلة الضمير الذي يميز بين الخير والشر، وعمل الخير هو وسيلته إلى الله.
جاء إبراهيم في مفترق الطريق بين استباحة القرابين البشرية وبين تحريمها، ولكنها لم تحرم لأنها أغلى من أن تقدم.
وإنما حرمت لأن الله أرحم وأكرم.
ورأى إبراهيم في رؤياه أنه يؤمر بذبح ابنه وأعز ما في الحياة عنده.
رأى ذلك وهو يعلم أن الأرباب تتقاضى عبادها مثل هذه الضحية، وأن تقريب الأوائل من الأولاد والأوائل من كل نتاج حق مفروض على كل أسرة لرب الأوثان والأصنام، أيكون إبراهيم أبخل على ربه من عابد الوثن؟ أيكون الوثن أحق بالضحية من خالق الأرض والسماء؟
أيرتاب إبراهيم في أمر الله وهو ينظر إلى شريعة العبادة من حوله، وإن كانت شريعة شر وضلال؟!
إن العصيان هنا نزول بالإله الأعلى عن مرتبة الأوثان والأصنام.
فلتكن الطاعة تنزيها للإله الأعلى عن ذلك الإسفاف، ويفعل الإله بالآباء والبنين ما يريد.
قال حكيم من حكماء الغرب:
1
إن الدين هو الآمر الوحيد الذي يحق له أن يأمر الإنسان بما يناقض الأخلاق؛ لأنه يرفعه أوجا بعد أوج في معراج الخلق الشريف ... إن ذبح الأب وليده نقيض الرحمة، ولكن إيمان الإنسان بعقيدة أعز عليه من ولده ومن نفسه غنيمة أقوم وأعظم من رحمة الآباء للأبناء.
فلا ينبغي أن يضن الإنسان بشيء في سبيل هذه العقيدة.
ولا ينبغي أن يبطل القربان بالإنسان لأن الله لا يستحقه كما استحقته أوثان الجهالة، بل يبطل لأن الله أرحم وأعظم من أن يتقبله، فهو أعظم وأكرم من الأوثان.
وارتفاع الإنسان بهذه العبادة هو ارتفاع آخر يضاف إلى ارتفاعه بالتوحيد والتنزيه.
ارتفاع من جانب القوة لا من جانب الضعف، وسمو بالرحمة وبالعبادة إلى أعلى عليين.
قلنا عن أيوب عليه السلام: إن حياته كانت تربية دينية من تجاربها الأولى إلى ختامها، فعلم في ختامها ما لم يكن يعلمه في أولها، ولم يذكر البعث حين كان يتمنى الهبوط إلى الهاوية التي لا يصعد منها من هبط إليها، ولكنه ذكره بعد اختبار طويل، وبلاء شديد، فقال: «بعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي، أرى الله.»
ويصدق هذا القول على حياة إبراهيم في عقائده جميعا؛ لأنه اختبر حياة الشرك، واختبر شعائره وفرائضه، وخلصت له الهداية بالخبرة والهداية الإلهية.
وأصدق ما يكون ذلك على البعث خاصة، فإنه لمن مواضع التأمل أن يكون إبراهيم هو النبي الوحيد الذي ذكر القرآن الكريم أنه سأل ربه كيف يحيي الموتى:
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي (البقرة: 260).
ولم يرو القرآن الكريم خبرا كهذا عن نبي غير إبراهيم، فإنه إذن لمن مواضع التأمل التي ينبغي أن يلتفت إليها من يصطنعون الاستقصاء باسم العلم والتاريخ.
فالحق أن عقيدة البعث خفية في كتب التوراة، وأن خفاءها هذا دليل على أنها بقيت زمنا بعد إبراهيم مجهولة غير مفهومة.
وإذا اعتمدنا البحث التاريخي وحده، لم يجز في العقل أن يكون إبراهيم قد ذهب إلى مصر وعاد منها ولم يسمع بعقيدة الحياة بعد الموت.
فمن ذرية إبراهيم يوسف، وقد كان له صهر في كهان المحاريب المصرية، ومنهم موسى، وله علم بمدارس مصر وأسرارها، وغير معقول أن يكون إبراهيم قد خرج من أرض الكلدان إلى مصر ولم يخطر له أن يسائل حكماءها في أمر العقيدة، وقد كانت في الوجه البحري - حيث تنزل القبائل الوافدة - محاريب كثيرة يتقرب منها ملوك الرعاة، ويشتركون في شعائرها مع رؤساء الدين.
فلا يجوز في العقل أن يكون إبراهيم قد ذهب إلى مصر وعاد منها ولم يسمع بعقيدة الحياة بعد الموت، وأصوب من هذا أن نفهم أن كتب العهد القديم دونت بعد السبي أو نفي اليهود إلى بابل ، فطال العهد بينها وبين دعوة إبراهيم، وطالت عصور النكسة بعد اختلاط العبادات الإلهية والوثنية، ومنها عبادات بعل وعشتروت.
وساعد على خفاء العقيدة بالحياة بعد الموت أنها لم تورث عن إبراهيم مفصلة منتظرة عن سابقة متتابعة، فجاز أن يكتب المدونون في سفر الجامعة: «إن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة ... كلاهما من التراب وإلى التراب يعود. من يعلم روح بني البشر؛ هل هي تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل، إلى الأرض؟! ولا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله؛ لأن ذلك نصيبه ...»
وانقضت قرون قبل أن يسمع من دانيال «أن الراقدين في تراب الأرض يستيقظون؛ هؤلاء للحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار ...»
وجاء عصر السيد المسيح ولما ينحسم الخلاف بين طوائف بني إسرائيل التي تقول بالحياة الأخرى، وطوائفهم التي تنكرها وتتحدى المؤمنين بها أن يؤيدوها بسند من كتب التوراة، وضرب السيد المسيح المثل بالعازر والرجل الغني، وفيه إشارة إلى النعيم والعذاب بعد الموت، فكان عقيدة من عقائد الأناجيل لم تتقرر على هذا الوجه في كتب التوراة.
وقد مضى زهاء عشرين قرنا بين عصر إبراهيم وعصر المسيح، ومضى زهاء أربعين قرنا بينه وبين هذا الزمن الذي غلب فيه أتباعه على أقطار الدنيا، ولكن أمرا ابتدئ قبل تلك القرون لم يكن لينتهي إلى هذه النهاية لو لم يبدأ ذلك الابتداء.
ولم يكن ذلك الأمر عقيدة التوحيد، أو عقيدة الفداء، أو عقيدة الثواب والعقاب، فقبل ذلك ما سمع الناس بتلك العقائد على نحو من الأنحاء.
وإنما سمي أبا الأنبياء؛ لأنه كان رائد الدعوة النبوية في العالم الإنساني بأسره، وكأنها الرسالة الخاصة من خالق الكون إلى كل مخلوق من بني آدم وحواء.
الفصل العشرون
المعجزة
قلنا في صدر هذه الرسالة: إن الاهتداء إلى عقيدة التوحيد كان فتحا علميا صحح نظر الإنسان إلى الكون والحياة، ولم يكن قصاراه
1
أنه فتح ديني يصحح إيمانه واعتقاده؛ «لأن حقائق الكون الكبرى لن تنكشف لعقل ينظر إلى الكون كأنه أشتات مفرقة بين الأرباب، يتسلط عليها هذا بإرادة ، ويتسلط عليها غيره بإرادة تنقضها وتمضي بها إلى وجهة غير وجهتها ، فلم يكن التوحيد عبادة أفضل من عبادة الشرك وكفى، بل هو علم أصح، ونظر أصوب، ومقياس لقوانين الطبيعة أدق وأوفى ...»
ونقول في ختام الرسالة: إن الإيمان بإمكان المعجزة فتح كفتح عقيدة التوحيد؛ لأنه يخلص العقل من حجر الحالة الواحدة التي تغلق عليه أبواب الاحتمال غير باب واحد، هو الواقع المحدود كما يراه.
إن عقل الفيلسوف «ديكارت» قد نظر في الممكنات والمستحيلات، فتقرر عنده أن تغيير الحقائق الرياضية نفسها ممكن غير مستحيل، وأن تغيير العقل الذي ندرك به تلك الحقائق ممكن كذلك غير مستحيل.
وعلماء العصر قد تخلصوا من ربقة
2
القوانين التي سميت زمنا بقوانين الطبيعة، ووقر في أذهان أجيالها أنها تقيد الظواهر الطبيعية، فلا يستطيع العقل أن يفسرها بغيرها ...
فالقانون الطبيعي اليوم فرض من فروض، وقد تصلح الجاذبية زمنا لتفسير حركات الأفلاك، ثم تأتي النسبية فيثبت لبعض العلماء أنها أصلح لتفسيرها من الجاذبية، ومهما يبلغ من دقة القانون الطبيعي فهو لا يحصر كل حقيقة، ولا بد من جزء غير محصور موكول إلى التقدير والترجيح.
والإيمان بإمكان المعجزة نظر متصرف يصل إليه المؤمن بعقيدته ولم يبلغ مبلغ ديكارت في عمق الفلسفة أو مبلغ العلماء في تمحيص القوانين الطبيعية ... فإذا سأل سائل: هل يمكن أن تجري المادة على غير هذه الصورة؟ فالذي يقول بالإمكان أصدق نظرا ممن يجيب بالاستحالة والامتناع، وأصوب في وزن الكون جملة واحدة ممن يفرضون عليه صورة محدودة من أقدم آباده إلى غاية آزاله - إن كانت للآزال غاية - فالمعجزة ممكنة وليست مستحيلة.
لأن مواد الكون كله ترجع إلى أصل واحد، وليست خصائص هذه المواد مجعولة فيها بإرادتها، وليست كل خاصة منها مستقلة عن سائرها، فإذا جاز أن يتشكل الأصل الواحد بجميع هذه الأشكال، فاختلافها جائز في أحوال غير هذه الأحوال، ولا وجه على الإطلاق للجزم باستحالة هذا الاختلاف. إن الذي أودع في الأصل الواحد كل هذه الصور قادر على أن يودعه صورا أخرى، وعلى الذي يجزم بالاستحالة أن يقيم الدليل. أما القائل بالإمكان فالواقع هو دليله الذي يقيس عليه .
فليس المقياس الحق للمعجزة أن تسأل: هل هي ممكنة أو غير ممكنة؟ كلا، بل المقياس الحق أن تسأل عن حكمتها ولزومها، فإن الذي يدبر الكون كله يتنزه عن العبث، فلا يصنع شيئا لغير حكمة، ولا تفوت هذه الحكمة إدراك الناس ما داموا هم المقصودين بإدراكها.
ذلك هو مقياسنا للمعجزات، وذلك هو المقياس الذي اعتمدناه في كتابتنا عن الرسل والدعوات الدينية، وخلاصته التي نعيدها في هذه السيرة أن دعوة إبراهيم تفسرها حوادث عصره، وتاريخ قومه من قبله ومن بعده، وإرادة الله في هذه الحوادث هي إرادة الله في كل معجزة، فليس في القول بهذه أو بتلك إخلال بقدرة الله على جميع الحالات.
ونحن لا نستحسن أسلوب المفسرين الذين يفترضون الفروض لتيسير قبول المعجزة؛ فإن المعجزة متى وقعت لا بد أن تكون معجزة، ولا بد أن يكون الناس في النظر إليها بصراء بحقيقتها غير مخدوعين فيها.
فالإيمان الصحيح أن المعجزة ممكنة، والإيمان الصحيح أنها ممكنة لحكمة.
ومن الحق أن نبرز حكمة الله في الحوادث كما نبرزها في المعجزات، وهذا الذي نصنعه في دراسة الدعوات الدينية، ومنها دعوة الخليل.
الفصل الحادي والعشرون
خاتمة المطاف
وينتهي المطاف بقصة الخليل إلى العصر الحاضر.
وينتهي إلى العالم الحديث وفيه ألف مليون إنسان، يقرءون قصتهم وقصة آبائهم وأجدادهم في العقيدة الإلهية حين يقرءون قصة الخليل.
ومن مبدئها كان مبدؤهم في الإيمان بالوحدانية.
ومن مبدئها وهي تمتزج بكل ما استطاع آباؤهم وأجدادهم أن يمزجوها به من صوابهم وخطئهم، ومن علمهم وجهلهم، وصدقهم ووهمهم، ومن أفكارهم وأساطيرهم، ومن كل ما يفقهون وما لا يفقهون تراث ضخم غاية في الضخامة.
فكيف انتهى به المطاف بعد أربعة آلاف سنة، أو دون ذلك، أو فوق ذلك بقليل؟ •••
كيف توزن كفتاه: كفة الصواب والعلم والصدق والإنكار، وكفة الخطأ والجهل والوهم والأساطير؟
إنها النفس البشرية بما لها من قوام صالح وغير صالح.
وإنها لن تنفصل شطرين يوضع أحدهما في كفة، ويوضع الآخر في كفة تقابلها.
بل خذها جملة أو انبذها جملة، ووازن بين الغنم والخسارة في الحالتين.
ومن يفطن لما حوله يفطن لهذا الشأن في كل عقيدة عظيمة، وكل فكرة عظيمة، وكل فاتحة عظيمة تتلوها الخواتيم على قدرها من العظمة.
فالنوع البشري لم يشرب قط فكرة عظيمة مع جرعة ماء، ولم يستكمل عقيدة عظيمة بين ليلة وصباح.
وندع الغيب وعلوم الأبد وننظر إلى الدنيا المشهودة ومادتها التي تتناولها الأيدي كل يوم.
فمن أقدم القدم نظر الإنسان في بنية المادة، ثم انقضى عشرون ألف سنة يصيب فيها ويخطئ ولما يدرك خصائص الذرة جميعا، ولما يفقه من خصائصها التي عرفها سرا لها وراء القشور.
وندع الزمن وتياراته الخفية وننظر إلى المكان وتياراته التي تقاس وتكال.
يهبط ماء النيل ماء طهورا من السماء، ويخترق الثرى فيأخذ من كل ما فيه من تراب وأذى، ومن صفاء وكدر، ويستفاد من الخليط كما يستفاد من الصفاء.
وهكذا كل ما يعبر طبيعة الإنسان وطبيعة الأرض، وطبيعة الدنيا وما فيها من أتربة الزمان وأتربة المكان. •••
تقبلها جملة أو ترفضها جملة، وتوازن بين الغنم والخسارة في الحالتين.
وازعم - إن شئت - أنه غنم أنت مخدوع فيه، ولكن تزعم أيضا أنك مخدوع في حب حياتك، فليست هي أفضل حياة، مخدوع في حب نسلك، فليس هو أولى بالبقاء في جميع الأحياء ... مخدوع في هذه الألوان والأصوات، فليست هي ألوانا ولا أصواتا، ولكنها هزات في الفضاء أو هزات في الهواء، وأنت مع هذا لا تعرف شيئا ما لم تعرفها بهذه الأسماء.
ولقد مرت بنا في أبواب هذه الرسالة أخلاط من طبائع الملايين يمزجون بها عقائد الروح، وأقداس الضمير، ولا ينفصل المزيج من المزيج في روح ولا ضمير.
من يقبلها جملة يبقى له تاريخ الإنسان كما كان، وكما هو الآن، ومن يرفضها جملة ماذا يبقى لديه؟
إن عليه أن يذكر ماذا يرفض ليذكر ماذا يبقى.
إنه لا يرفض الدنيا بتواريخ الدول والحضارات وكفى.
إنه ليرفض هذه ويرفض معها كل بارقة أمل، وكل نفحة عزاء، وكل هاجسة سر ، وكل ركن من أركان الثقة والعزيمة أخذه الإنسان من الدين، وأخذ منه أعمالا وأحلاما، وخلائق وأطوارا، وبواعث وأفكارا لا تحصيها الأوراق كما تحصي تواريخ الدول والحضارات.
ولا يزال في جوانب الأرض من يعبد الحجر.
ولا يزال في جوانب الأرض من يقدح النار من الحجر.
ولا غضاضة من هذا وذاك على ودائع الكهرباء في الكون، ولا على عقيدة التوحيد في أعلى مراتب التنزيه.
وإن في العالم اليوم لمن يعيش فيه وكأنه لم يولد فيه إنسان يسمى إبراهيم. •••
وربما بقي في العالم شبيه هذا الرجل بعد ألف سنة.
بل ربما كان هذا الرجل خيرا من ألوف يضلون بالنبوءات والأنبياء حيث يهتدي المهتدون.
ولكنهم يسقطون من الحساب.
ويذكر في الحساب ألوف الملايين في مائة جيل يقرءون قصة ضمائرهم حين يقرءون قصة إنسان واحد مضى ولم يمض لسبيله، بل مضى على سبيله دعاة وهداة، ولا يزالون ماضين وحاضرين.
أليس هذا الإنسان حبيب الإنسان؟
أليس هذا الإنسان حبيب الرحمن؟
अज्ञात पृष्ठ