وكان من ذلك جمودهم على المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة يوجبون تقليد واحد منها، وكانوا في هذا متأثرين بالفقهاء السابقين الذين حكموا بسد باب الاجتهاد في القرن الرابع، وقد استمر ذلك فيما بعد، وربما ما يزال ذلك حتى اليوم!
وفي هذا يقول ابن خلدون: «ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم، وسد الناس باب الخلاف وطرقه ... وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء ... ولم يبق إلا نقل مذاهبهم، وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال مسندها بالرواية. لا محصول اليوم للفقه غير هذا، ومدعي الاجتهاد في هذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده، وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأربعة.»
1 •••
وكما جمد الفقهاء على هذه المذاهب الأربعة يتناولون المؤلفات فيها بالشرح حينا والاختصار حينا آخر، جمدت جمهرتهم وجمهرة رجال علم الكلام على مذهب الأشاعرة أتباع الإمام أبي الحسن الأشعري، وهذا الإمام يعتبر في آرائه وسطا بين السلف وبين المعتزلة على ما هو معروف. وقد استمر هذا التقليد في العقائد الدينية إلى ما بعد ذلك العصر، بل إلى هذه الأيام في أكثر الأمصار الإسلامية، أو فيها كلها تقريبا ما عدا بلاد المملكة العربية السعودية.
وبالرجوع إلى المقريزي المؤرخ الثقة، نجده يتكلم عن الحال في عقائد أهل الإسلام إلى أن انتشر مذهب الأشاعرة، ثم يشرح حقيقة مذهب الأشعري، ويذكر كيف نصره بشدة السلطان صلاح الدين الأيوبي وأولاده الملوك من بعده في مصر والشام ، ثم في أيام مواليهم الملوك الأتراك الذين عاش في عهدهم ابن تيمية.
وفي آخر البحث يقول: «فهذه جملة من أصول عقيدته (أي عقيدة أبي الحسن الأشعري) التي عليها الآن (توفي المقريزي سنة 845) جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أريق دمه!»
2 •••
وكان من سمات هذا العصر أيضا قوة أمر التصوف واشتداد نفوذ رجاله على العامة من الناس ومن إليهم، بل على بعض الفقهاء والسلاطين كذلك. ولعل هذا كان من عوامل ضعف الحركة العلمية؛ فإن العلم يعتمد على العقل والفكر، على حين يعود التصوف - إن كان تصوفا حقا - إلى الذوق والوجدان.
وزاد التصوف قوة على قوته، ما أثر عن الإمام الغزالي من إشادته به حتى جعله الطريق الصحيح الموصل إلى الله تعالى، وذلك في كتابيه المشهورين: «إحياء علوم الدين»، و«المنقذ من الضلال»؛ هذان الكتابان اللذان كان لهما أثر كبير في ذلك العصر وفيما جاء بعده من عصور حتى اليوم.
كما زاد من قوته أيضا ظهور كثير من رجاله في ذلك العصر حتى صاروا من أقطابه المشاهير، ويكفي أن نشير في مصر وحدها إلى الشيخ أبي العباس أحمد البدوي المتوفى سنة 675، والشيخ إبراهيم الدسوقي المتوفى سنة 676. وهذا فضلا عن المتصوفة ومدعي التصوف الذين كانوا منبثين في جوانب العالم الإسلامي، وكان لكل منهم نفوذه على المحيط الخاص به. •••
अज्ञात पृष्ठ