وكان لذلك أثره المحتوم: استقلال كثير من أمراء الأطراف، وظهور عدد غير قليل من الدول في رقعة البلاد العربية الإسلامية؛ مثل الفاطمية بمصر، والحمدانية بالجزيرة، والسامانية فيما وراء النهر، والبويهية، والخوارزمية، والسلجوقية، وذلك كله فضلا عن الدول التي ظهرت بالمغرب.
هذا، وقد كان مما حدث في مصر والشام في هذا العصر حدثان لهما في هذين البلدين الشقيقين أكبر الخطر من الناحية السياسية والاجتماعية معا، ولهما في حياة ابن تيمية بصفة خاصة أثر أي أثر، هما: ظهور التتار بالمشرق واستيلاؤهم على بغداد وزحفهم إلى الشام ومصر، والثاني: خروج الفرنج الصليبيين إلى هذين الإقليمين أيضا.
وينبغي أن نتناول هنا - ولو بإيجاز - هذين الحدثين اللذين عاصرهما الشيخ ابن تيمية، وأخذ كل منهما جانبا كبيرا من جهاده الحربي والسياسي، راجعين إلى ابن الأثير، وهو مؤرخ ثقة معاصر، وإلى غيره من المؤرخين المعاصرين له أو الذين جاءوا بعده. يقول ابن الأثير في أحداث سنة 617ه: «لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم؛ منها ظهور هؤلاء التتر - قبحهم الله - أقبلوا على المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة مفصلة إن شاء الله تعالى.
ومنها، خروج الفرنج - لعنهم الله - من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها، لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.»
1 (2) أولا: ظهور التتار
عن هذا الحدث، نجد المؤرخ نفسه يتحدث عن مقدار ما في خروج التتار إلى البلاد الإسلامية بصفة عامة، فيقول: «لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاما لها كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين! ... ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي.
إن هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين. فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتل بمثلها، لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ...
ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة ...
فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان ... ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر؛ مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق ... في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله ...
ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد؛ هذا ما لم يطرق الأسماع مثله.
अज्ञात पृष्ठ