تبين في العلم الطبيعي أن كل متحرك له محرك، وأن المحرك إذا كان جسما فإنه إنما يحرك بأن يتحرك؛ فلذلك ما يحتاج المحرك إذا كان جسما إلى محرك آخر، فإن كان هذا أيضا جسما مر الأمر إلى غير نهاية، أو يكون هاهنا محرك يحرك لا بأن يتحرك، وذلك بألا يكون جسما، فهذا أحد ما يظهر منه أن المحرك الأقصى للحيوان في هذه الحركات ليس بجسم أصلا، وأنه قوة نفسانية، ولننزلها - كما قلنا - القوة المخيلة إذا اقترنت إليها النزوعية ووقع هنالك إجماع.
وإن هذا المحرك الذي ليس بجسم ملزم ضرورة أن يكون المتحرك الأول عنه جسما، وذلك بأن يكون المتحرك عنه كالهيولى له وهو له كالصورة؛ إذ ليس يمكن في المحرك الأقصى للحيوان ألا يكون في غير هيولى، كما يقال إن هاهنا مبادئ لهذه الصفة. وإذا كان ذلك كذلك فلننظر أي جسم هو ذلك الجسم، وهو ظاهر أنه الحرارة الغريزية التي في أبدان الحيوان؛ ولذلك متى بردت الأعضاء بطلت حركتها.
وبالجملة فهو من البين بنفسه، ومما قيل في العلم الطبيعي، أن أحد ما يؤخذ في حد هذه الحركات هي الحرارة الغريزية، وبخاصة أفعال الغذاء، وهذا مما لا خلاف فيه.
لكن جالينوس يرى أن ينبوع هذه الحرارة هو الدماغ، وأنها تنبث منه في الأعصاب إلى جميع البدن، وأما أرسطو فيرى أن الدماغ خادم في هذا الفعل للقلب على جهة خدمة الحواس - أعني أنه يعدلها - وأن هذه الحرارة ينبوعها القلب. وقد يمكن أن نبين ذلك بمثل البيانات التي تقدمت، وذلك أنه يظهر أن الماشي في حين مشيه تنتشر في بدنه حرارة لم تكون قبل، والعضو الذي شأنه أن تنتشر منه الحرارة في جميع البدن هو القلب لا شك فيه؛ ولذلك متى طرأ على الإنسان شيء يفزعه وانقبضت الحرارة الغريزية إلى القلب، ارتعشت ساقاه حتى إنه ربما سقط ولم يقدر أن يتحرك، وإذا كان ذلك كذلك فالقوة المدبرة الأولى في هذه الحركة - وهي التي تقدر هذه الحرارة في الكمية والكيفية - هي في القلب ضرورة. وأيضا فقد يقر جالينوس وجميع الأطباء أن القوة النزوعية في القلب، والدماغ خادم لها على أنه معدل لها، وسواء توهمت التعديل بجرم العصب أو بروح نفساني يسري فيه لا فرق بينهم، إلا أنه ليس من العصب شيء يظهر فيه روح على ما يقوله جالينوس إلا العصبتان المجوفتان اللتان تأتيا في العينين، وأما المتحرك الأول عن الحار الغريزي فإن جالينوس يرى أنه للعضل، أما في الأعضاء التي ليس فيها عظام ولا هي مفاصل فبنفسه، وأما في المفاصل فبالأوتار النابتة من العضلة إلى طرف العظم، وذلك أن العضل إذا انقبض إلى نفسه انجذب ذلك الوتر؛ ولأنه مربوط بطرف العظم يتحرك ذلك العظم بحركته، وإذا كان للعضو حركتان متضادتان كانت له عضلات متضادة الموضع تجذبه كل واحدة منها إلى ناحيتها وتمسك المضادة لها عن فعلها، فإن عملت كلاهما في وقت واحد استوى العضو وتمدد وقام.
مثال ذلك الكف إذا مدها العضل الموضوع في ظهرها انثنت إلى خلف، وإن مدته جميعا استوت وقامت.
والعضل الموجود في البدن كما قلنا عن رأي جالينوس خمسمائة عضلة وتسع وعشرون عضلة ... إلخ.
هذا مثال من تفكير الفيلسوف في الطب، أو مثال من موازنته بين رأي أستاذه الفلسفي وأستاذه الطبي، فإنه مع إنصافه في عرض الآراء يبدو مرجحا لحجة الفلاسفة على حجة الأطباء.
ولم يكن ابن رشد في طبه ناقلا مكتفيا بالنقل، بل كان يضيف إلى الآراء والصفات المنقولة شيئا من تجاربه، سواء فيما يرجع إلى فهم العلة أو إلى وصف العلاج، ومن ذلك أنه يقابل تمثيل بقراط وجالينوس للإقليم المعتدل بوطنهما اليونان، فيجعل الأندلس مثلا لاعتدال الإقليم، ويتصرف في الحكم بما يرجحه حيث تتعارض الآراء. •••
ونحن ناقلون من كلامه في الطب نموذجا لتأليفه ونموذجا لشرحه، فمن نماذج تأليفه ما ننقله من كتاب «الكليات»، ومن نماذج شرحه ما ننقله من تفسيره لأرجوزة ابن سينا في الطب، وهي مخطوطة بدار الكتب المصرية. (3-2) صناعة الطب
قال في مقدمة «الكليات» يعرف صناعة الطب: ... إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة يلتمس بها حفظ بدن الإنسان وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد واحد من الأبدان، فإن هذه الصناعة ليس غايتها أن تبرئ ولا بد، بل أن تفعل ما يجب بالمقدار الذي يجب وفي الوقت الذي يجب، ثم تنتظر في حصول غايتها كالحال في صناعة الملاحة وقود الجيوش.
अज्ञात पृष्ठ