وكذلك جاء التفسير في الترجمة الأمريكية لافتا للنظر، وهو أن الأسد في تصور المترجم الأمريكي، لم يأكل الفأر؛ لأنه لم يكن في تلك اللحظة جائعا يريد الطعام؛ فالأمر هنا أمر «منفعة» مباشرة، لا أمر «قيمة» عليا.
هكذا صبت كل ثقافة روحها فيما تترجمه من الثقافات الأخرى، ألم يترجم العرب لفظتي «تراجيديا» و«كوميديا» (عندما ترجموا أرسطو) بلفظتي شعر «المديح» وشعر «الهجاء»؟ لم يكن لديهم مسرح، فلم يكن في أذهانهم تصور صحيح للغة الأدب المسرحي؛ ولذلك وضعوا معانيها في القوالب التي يألفونها؛ فكل إناء ثقافي ينضح بما فيه، ولا حيلة لنا في ذلك، لكننا قلما نتنبه إلى هذه الحقيقة، فننسى أن جانبا من المعاني التي ننقلها من الثقافات الأخرى، هو من تصوراتنا نحن لما نقلناه، ثم يزعم الزاعمون أنها «ثقافة مستوردة» على نحو ما يقول بعضنا الآن.
بل الأمر أبعد من ذلك مدى؛ فهو لا يقتصر على النقل من لغة إلى لغة، وإنما يجاوز ذلك إلى النقل من عصر إلى عصر، في تاريخ اللغة الواحدة؛ فنحن العرب المحدثين، إذ ننقل ألفاظنا وعبارات استخدمها العرب السابقون، نتوهم أننا إنما نستخدم ما نقلناه بالمعاني نفسها التي أرادها السابقون مع أن تغير خبراتنا عن خبراتهم، يجعله ضربا من المحال أن تظل أوعية اللغة حاملة للمعاني نفسها برغم ذلك الاختلاف البعيد في الخبرات؛ فلقد كنت أقرأ منذ أيام قليلة مقالة يبين فيها كاتبها المعاني الأصلية لهذه الأسماء: حصان، فرس، جواد، خيل، فكان مما نبه إليه أن «الفرس» فيها معنى الافتراس؛ ولذلك فهي أصلح لحالة الهجوم في القتال، على خلاف اسم «الحصان» لأنه يحمل في طيه معنى الحصن والتحصن والحصانة؛ ولذلك فهو الأصلح لحالة الدفاع ... إلى آخر ما أورد كاتب المقال في تحليله، فإذا كان مصيبا في تحليله ذاك، أفلا ينشأ لدينا سؤال، هو: هل منا من يلتفت إلى المحتوى الأصيل لهذه الأسماء وهو يستخدمها؟ لقد ذهب ذلك المحتوى مع ذهاب الخبرات التي كانت أنشأته وأصبح لنا خبرات أخرى مع هذا الصنف من الحيوان، فلم نعد نستخدمه في القتال، وبالتالي لم تعد هناك ضرورة لإيجاد الفوارق بين فرس يهجم وحصان يدافع وما إلى ذلك من فواصل، إننا نعلم أن «المترادفات» الكثيرة في اللغة العربية للمعنى الواحدة لم تكن في الأصل مترادفات متطابقة المعنى، بل كانت أسماء مختلفة لحالات مختلفة، ثم ذهبت منا خبرة الحياة الماضية التي كانت تتطلب إيجاد تلك الفوارق، فسقطت بالتالي من حسابنا، وأصبحت عندنا «مترادفات»؛ أي متطابقات في معناها، بعد أن لم تكن كذلك.
إنه ليكفينا هذا التحول في خبرة الإنسان عصرا بعد عصر، وجيلا بعد جيل، ليدرك كم هو كلام بغير معنى يقال لنا: أعيدوا الثقافة العربية القديمة لتحيا بنا ونحيا بها مرة أخرى، اللهم إلا إذا وضعنا لمثل هذا القول قيودا وحدودا تجعله ممكن التطبيق.
قواقع من ثمود
كانت السور القصار هي أول ما التقى بسمعي من القرآن الكريم، وأقول «سمعي» ولا أقول «عقلي»؛ إذ كيف كان لصبي في الخامسة أن يدرك ما احتوى عليه اللفظ القرآني المعجز من معان، اقتضته بعد ذلك عمرا طويلا ملأه بالدرس والتأمل، ليفهمها الفهم الصحيح، أو ما ظنه الفهم الصحيح؟ لكن صبي الخامسة - مع ذلك - قد أرهف أذنيه للنغم، فما زلت أذكر - بعد هذه الأعوام الطوال - كيف كان ذلك الصبي المفتون بما سمع وما حفظ، يترنم لنفسه بآيات خاصة أكثر من سواها، ولست أدري الآن ماذا كان سر اختياره لما يترنم به، وكان منه قوله تعالى في سورة الشمس:
فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها .
إن الصبي لم يسأل يومئذ، ولا قيل له بغير سؤال، ما ناقة الله؟ وما سقياها؟ ومن هم ثمود الذين قيل لهم هذا القول؟ ومن رسول الله الذي قاله؟ ولماذا كذبوه؟ وما الذي فعلته ناقة الله بالقوم حتى ضاقت بها صدورهم فعقروها؟ لا، لم يسأل الصبي عن شيء من هذا، ولا طاف بباله أن يسأل، وربما لو سأل لما جاءه الجواب.
ومضت السنون وأصبح الصبي شابا طلعة، يكثر الأسئلة عما يصادفه من صنوف المعرفة التي أخذت تتكاثر عليه، وقد كان ذلك الشاب محبا لقراءة القرآن ولبث أعواما يقسم الكتاب الكريم بين أيام الشهر ليقرأ في كل يوم جزءا من أجزائه الثلاثين، ووقف عند سورة الشمس مرة أخرى، فلم يزل مفتونا بنغمها كما كان سلفه الصبي مفتونا. لكنه في تلك المرحلة الجديدة كان قد فهم من معانيها ما لم يحاول الصبي أن يفهمه، لولا أنه هذه المرة قد وقف وقفة متسائلة، ولم يعثر على شيء يرضي فيه تساؤله ذاك طوال الشباب، بل وما بعد الشباب بكثير، وكان مصدر حيرته هو الرابطة التي عساها أن تربط قول رسول الله لقبائل ثمود، ما قاله عن ناقة الله وسقياها، بالآيات الأولى من السورة؛ فالآيات الأولى ضروب من القسم، بمشاهد من الطبيعة أولا، وبجوانب من طبيعة الإنسان ثانيا:
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها - تلك هي مشاهد الطبيعة التي أقسم بها سبحانه وتعالى، ثم تأتي جوانب من فطرة الإنسان:
अज्ञात पृष्ठ